{ تلخيص الفتوى الحموية }
لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
تغريدات ا.د لطف الله خوجة
أول ما نقول في هذا الكتاب: أنه أقض مضاجع الأشعرية المتعصبة، دون الباحثة عن الحقيقة، ولايزال، فلم يؤلف مثله في كشف انحراف منهجهم في الصفات.
فقد حوى مع وجازته، قضايا ناقضة لفكرة تأويل الصفات وتفويض معناها، بالاستناد ل:دلالة النص، وموقف السلف، ومتقدمي الأشعرية، ومنهم الأشعري نفسه.
كما بين تناقضهم، وفساد العقل منهم، الذي يتبجحون ويتطاولون به على السنة، وعدم إيمانهم بالنص على الوجه الذي نزل.
وقد بين أن موردهم في النفي والتأويل هو الميراث: الفلسفي، والصابئي، واليهودي، والنصراني. فعنها أخذوا عقيدتهم في الصفات، لا عن الوحي والسلف.
فقد ركبوا أخطاء أربعة:
- تحريف دلالة النص الظاهرة.
- الإعراض عن اتباع السلف.
- مخالفة أئمتهم الأوائل كالأشعري.
- استقاء مذهبهم من الفلاسفة.
عرض كل ذلك في الكتاب مفصلا بالبرهان، بما لا يمكن دفعه، أو تكذيبه، فلم يجدوا وسيلة لرده إلا السعي بالوشاية والتضليل لابن تيمية في عقيدته.
وأوغروا صدور الفقهاء عليه، فتجاوب معهم قاضي الحنفية، وكادت الفتنة أن تقع لولا نصرة الأمير سيف الدين جاغان للشيخ.
ثم وقعت المدارسة للكتاب مع قاضي الشافعية، الذي وافقه على ما فيه، وقال: "من آذى الشيخ يعزر". وكان من المعترضين الشيخ السروجي بمصر.
فكتب الشيخ "جواب الاعتراضات المصرية"، في نحو أربع مجلدات، لم يوجد منها إلا قطعة، حققها: محمد عزير شمس. وقبل ذلك ألف ابن جهبل كتابا يرد به.
والحموية منها الصغرى، وهي التي كتبها أولا، وقد نشرها د. عبدالقادر الغامدي، وأضاف الكبرى التي رجح كتابتها مرتين، وفيها زيادة نقولات، وأشياء.
والصغرى كتبها جوابا على سؤال ورده من حماه، عن الصفات، سنة ٦٩٨، وعمره ٣٧ سنة. وفي ألفاظها من يدل على إحاطته بمذهب السلف في هذه السن المبكرة.
بعد هذا، نلج في موضوعات الكتاب، وهي أربعة أقسام:
١- مقارنة بين منهج السلف والمتكلمة.
٢- أقوال السلف.
٣- شبهات.
٤- أقسام الناس في الصفات.
في المقارنة:
عقدها ممتزجة متداخلة؛ يبين مزايا فقه السلف مع الاستدلال، ثم يتبعها بمذهب المتكلمة بأدلتهم، في مقابلة بينة؛ ليظهر فضل علم السلف.
ففي جوابه على السؤال، بدأ ببيان طريقة السلف في معرفة الحق في أمور الدين، وهو:
- الرجوع إلى قول الله، ورسوله، والصحابة، ومن اتبعهم بإحسان.
والعلة:
- أنه محال أن يترك باب الإيمان والعلم بالله ملتبسا، وغرضه إخراجهم من الظلمات.
- أن معرفة الله أساس الدين والهداية، فكيف لايحكم فيه.
- وإذا كان قد علمهم ما دقّ من الدين، فكيف لا يعلمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه بقلوبهم في أسماء الله وصفاته، وهو أشرف المقاصد؟
أما علة الرجوع للسلف، فلأمور:
١- فضلهم في الدين.
٢- امتناع الجهل عليهم مع هذا الفضل.
٣- امتناع ردهم للحق.
٤- امتناع تقدم الخلف عليهم بالعلم.
وبه يبطل قول المتكلمة: "طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أحكم" وإنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف: مجرد الإيمان بألفاظ النصوص من غير فقه.
وأن طريقة الخلف: استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات، وغرائب اللغات. فهذا ظن أوجب الضلال عن حقيقة الإسلام وطريقة السلف.
وقد قسا الشيخ -ههنا- على المتكلمة بجمل أسهمت قطعا في التغيظ منه، والسعي في إيذائه، مثل قوله: فهذا الظن الفاسد[طريقة السلف مجرد إيمان بألفاظ]
أوجب تلك المقالة [طريقة الخلف أحكم] التي مضمونها:نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف".
وقوله:"بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين".
وقوله:"فصار هذا الباطل [نفي الصفات] مركبا من فساد العقل والكفر بالسمع..
فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية سموها بينات، وهي شبهات. والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه".
وفساد العقل والكفر بالسمع - تعبيره - انبنى عليه: استجهال السلف، واستبلاههم، واعتقاد أنهم أمييون صالحون، لم يتبحروا في الحقائق.
وهذا حال من جهل حقيقة السلف وتراثهم، فهم إما لم يقفوا عليه، وهذا حال كثير منهم ممن صدق، أو عرفوه فكرهوه وأعرضوا عنه؛ لتعصبهم وفساد ملتهم.
أما السلف فقد جمعوا بين الإيمان والعلم، وكملوا فيهما، فهم ورثة الأنبياء، والمتكلمة ورثة الفلاسفة، وعندهم من المعقولات كما المنقولات.
قال الشيخ:"واعلم أنه ليس في العقل الصريح، ولا النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية أصلا".
فإذا تقرر: وجوب الرجوع لكلام الله ورسوله، وقول السلف. فان النصوص دلت على: "أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، وبما وصفه به..
..السابقون الأولون، لا يتجاوز القرآن والحديث". كما نص أحمد، "ومذهب السلف: أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير..
.. تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. وأن ما وصف الله به نفسه من ذلك، ليس فيه لغز ولا أحاجيّ، بل يعرف معناه من حيث يعرف مقصود..
المتكلم بكلامه، لا سيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق بما يقول، وأفصح الخلق في بيان العلم، وأنصح الخلق.. وهو سبحانه مع ذلك: ليس كمثله شيء..
.. لافي نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في أفعاله". ويضع ههنا قاعدة مهمة في الصفات، جرى عليها السلف قديما وذكروها وأثبتوها، هي:
"كما نتيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة، وله أفعال حقيقة، فكذلك له صفات حقيقة، وهو ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله".
"وكل ما أوجب نقصا أو حدوثا، فإن الله منزه عنه حقيقة، فإن الله مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه". تلك هي قاعدة الصفات في النصوص.
"وإذا كان كذلك، فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسول الله من أولها إلى آخرها، ثم عامة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ثم كلام سائر..
..الإئمة مملوء بما هو إما نص[محكم] وإما ظاهر[راجح متبادر للذهن]، في أن الله فوق كل شيء، وعليّ على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء".
وهو هنا يضرب مثلا على صفة من الصفات، هو: العلو. كيف شاعت نصوصها في المصدرين على نمط واحد: نص محكم، أو ظاهر متبادر للذهن راجح. وكذا سائرها.
وليس في الكتاب والسنة، ولا أحد من الصحابة، ولاالتابعين، ولاالأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف: حرف واحد يخالف ذلك، لا نصا ولا ظاهرا.
وأنه لم يقل أحد ممن سلف: أن الله ليس في السماء، والعرش، ولا أنه في كل مكان، ولا أن جميع الأمكنة إليه سواء، وغيرها من جمل المتكلمة. كذا قال.
فلو كان حقا ما يقوله نفاة الصفات؛ من وجوب صرف معاني الصفات عن ظواهرها، وأن الأخذ بالظواهر كفر:"كيف يجوز على الله ثم على رسوله، ثم خير الأمة.
أنهم يتكلمون دائما بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق، ثم الحق الذي يجب اعتقاده [النفي والتأويل وفق قول المتكلمة] لا يبوحون به قط، ولا يدلون ..
عليه قط، لا نصا، ولا ظاهرا، حتى يجيء أسباط الفرس والروم، وفروخ اليهود والفلاسفة يبينون للأمة العقيدة الصحيحة التي على كل مكلف؟!".
قال:"لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة، أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير، بل كان وجود الكتاب والسنة ضررا محضا في أصل الدين"؛أي بحسب المتكلمة.
تلك جمل قاسية على الأشعرية، لم يدارهم أو يتلطف بهم، بل صارحهم بأشد الكلام، وقد أحدثت صدمة كبيرة، أورثته عداوة المتعصبة منهم إلى يوم الدين.
ثم يختم مبينا حقيقة قولهم:
لاتطلبوا معرفة الله وصفاته لا من كتاب وسنة ولا من سلف، ولكن ما وجدتموه مستحقا له في عقولكم فصفوه به، وإلا فلا.
وفي آخر الاحتجاج لمذهب السلف، يبين أن النبي اجتمع في حقه: كمال العلم، والقدرة، والإرادة. وذلك دال على: كمال البيان والفعل. فبلاغه مبين.
وعليه: فإن ما بينه من أمر الإيمان بالله وصفاته، فقد أتمه، وهو مطابق لعلمه، وهو ما فهمه السلف لكمالهم، وليس فيه أي شيء من كلام وفهم المتكلمة.
ولازلنا في المقارنة؛ فبعد أن بين الشيخ منهج السلف في الصفات، جاء دور المتكلمة من الأشعرية، وأساتذتهم من: فلاسفة، ومعتزلة. حيث إنهم اتبعوا..
طرائق ثلاث في الصفات:
- التخييل، وهذا للفلاسفة.
- والتأويل، وهذا للمعتزلة وللأشعرية أيضا.
- والتفويض، سماه ب: التجهيل. وهذا للأشعرية خاصة.
وليس في طريقة السلف شيء من هذه الطرق ألبتة؛ فأما تخييل الفلاسفة، فإنهم زعموا: أن الأمر بالإيمان بالله واليوم الآخر، تخييل ومثال ليؤمن به الجمهور..
لا أنه حق في نفسه. قال بعضهم: إن الرسول لم يعلم الحقائق، وعلمها الفيلسوف. هم باطنية الشيعة والصوفية. وقال آخر: علمها وكتمها لمصلحة الجمهور.
يقولون: يجب على النبي دعوة العامة للأخذ بالظواهر، مما فيه تجسيم، وإثبات للمعاد الجسماني، فهم لا يؤمنون إلا بهذا، أما الخاصة فلهم الحقائق.
وهذه طريقة الباطنية والإسماعيلية. والفلاسفة أيضا.
وأما أهل التأويل فيقولون: إن نصوص الصفات لا يراد بها الباطل، لكن لم تبين معانيها، وأريد منا النظر والاجتهاد في صرفها عن ظواهرها ومدلولاتها.
وهذا قول المتكلمة الجهمية، والمعتزلة، كذا الأشعرية قطعا، وهؤلاء هم الذين قصدهم الشيخ بالرد في هذه الفتيا؛ لأنهم تظاهروا بنصر السنة، وهم:
"وهم في حقيقة الأمر: لا للإسلام نصروا، لا للفلاسفة كسروا".
وفلاسفة الملاحدة ألزموهم في نصوص المعاد من التأويل، نظير ما ادعوه في نصوص الصفات.
ومن الحجة: أن المشركين ناظروا في المعاد بخلاف الصفات، فلم ينكروا شيئا منها، فهذه حجة على أن إثباتها بظواهرها ليس فيه تشبيه، فليس فيهم مشبهة.
كذلك التوراة مملوءة بإثبات الصفات لله، فلو كان باطلا مما حرف وبدل، لكان إنكاره عليهم أولى، لا أن يضحك من حكايتهم لصفة الأصابع تعجبا وتصديقا.
"ولم يعبهم قط بما يعيب به النفاة لأهل الإثبات، مثل لفظ: التجسيم، والتشبيه ونحو ذلك. بل عابهم بقولهم:(يد الله مغلولة)". أثبتوا اليد بلا تأويل
وللسلف نحوا من هذه الحجة، قوله عن عباد العجل:(ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا). فلم يحتجوا بأن الله لا يتكلم. وهذا رد على المعتزلة.
أما أهل التجهيل، فزعموا: "أن الرسول لم يكن يعرف معاني ما أنزل الله عليه من آيات الصفات، ولاجبريل، ولا السابقون الأولون". وهم: منتسبون للسنة.
وينبه هنا، إلى أن هذا لازم قولهم، وإلا فلا يجرء مسلم أن يدعي دعوى كهذه، فبطلانها ظاهر، فإن الرسول أعلم الناس بما نزل عليه من الله تعالى.
لكن من يقول بتفويض المعنى؛ أهل التجهيل، فمقتضى كلامه: أن السامع لنصوص الصفات لايفهم لها معنى، فتستوي عنده صفة اليد والوجه..إلخ. لافرق بينها.
فيحتج عليه بالقول: هل الرسول علم؟
فإما يقول: علم. فيلزمه أنه بلغ، وإلا كان كأهل التخييل، أو يقول: ما علم. فيطرد في حجته، لكن يقع في المحظور.
وأهل التأويل اعتقدوا نفي الصفات ابتداء، ثم ترددوا بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى، أو صرف اللفظ إلى معان أخر"فصار هذا الباطل مركبا من:..
..فساد العقل، والكفر بالسمع؛ فإن النفي اعتمدوا فيه على أمور عقلية، سموها بينات، وهي شبهات. والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه".
وهكذا أغلقوا عن أنفسهم باب الأخذ بالنصوص والتسليم لها؛ فحقيقة قولهم: طلب المعرفة الدينية من العقل، أما النصوص فلها التأويل أو التفويض.
وإذ فعلوا ذلك، فقد بقيت طريق هداية أخرى، هي: الاقتداء بمن سلف. لكنهم أغلقوا بابهم إليهم؛ بظنهم فيهم ظن سوء: أنهم صلحاء لكن جهلة بالمعقول!
ومن عجبٍ استجهالهم للسلف مع بالغ حيرة حذاقهم، وإقرارهم بعدم جدوى علم الكلام، فهذا الشهرستاني يقول في "نهاية الإقدام في علم الكلام"..
لعمري لقد طوّفت المعاهد كلها
وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر
على ذقن أو قارعا سن نادم
يعني المعاهد الكلامية!
والرازي يقول:
نهاية إقدام العقول عقال
وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولاتروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن
الجويني: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته، فالويل لابن الجويني.
الغزالي:"أكثر الناس شكا عند الموت أصحاب الكلام". وتحذير من الاعتماد على العقل في المنقذ من الضلال، ونهي مشفق عن علم الكلام في قواعد العقائد.
فهؤلاء حذاق الأشعرية المنصفون يشهدون على علم الكلام: أنه مضل، ولا يهدي إلى حق وصلاح. فلا يعمى عنهم إلا صاحب هوى متعصب، أو ضعيف العقل متردد!
واتهام السلف بالجهل بالمعقولات لايكون إلا من ذي غرض أو عمى، فأين هم من:
- الرد على الجهمية لأحمد.
- خلق أفعال العباد للبخاري.
- الحيدة لعبدالعزيز الكناني.
- رد الدارمي على بشر المريسي.
- تأويل مختلف الحديث للدينوري.
وقد ملأت بالمعقولات، وقد سبقوا بها المبتدعة كافة.
هذا، وإنهم في الظاهر يتبعون العقل الفاسد، وفي الحقيقة هم مقلدون للفلاسفة، فكل ما عندهم مستقى من هؤلاء المشركين الضلال الذين لم يهتدوا بنبوة.
قال الشيخ:"عامة هذه الشبهات؛ التي يسمونها دلائل، إنما تقلدوا أكثرها عن طاغوت من طواغيت المشركين، أو الصابئين". وقد كرره لمرات في كتابه هذا.
فهم وإن انتسبوا للعقل، وادعوا أنهم أهله، إلا أن الحقيقة أنهم تبع، لم يأتوا بجديد، لا في القول، ولا في علته، استنسخوا ما كان الأوائل يرددونه!
فأول من حفظ عنه التأويل:الجعد بن درهم، قال:إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، وأخذ عنه الجهم بن صفوان، ونسبت الجهمية إليه.
والجعد أخذ عن بيان سمعان التميمي الشيعي الغالي الحلولي المشبه، وهو عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وهو عن لبيد اليهودي الذي سحر النبي.
فسلسلة المقالة متصلة بيهود، وقيل إن الجعد من أهل حران، وفيهم الصابئة والفلاسفة، ومذهبهم في الرب:أنه ليس له إلا صفات سلبية. بعث فيهم إبراهيم.
والجهم ناظر السمنية بعض فلاسفة الهند، وعنهم أخذ، ثم لما عربت كتب فلاسفة اليونان في نهاية المائة الثانية، انتشرت مقالة النفي على يد المريسي.
وعن غيره أيضا، فتأويلات هي بعينها التي صارت إلى: ابن فورك في "كتاب التأويلات"، والرازي في "أساس التقديس"، وهو الذي عند الجبائي والقاضي..
عبد الجبار الهمداني، وأبي الحسين البصري، وابن عقيل، والغزالي. كلهم ينقلون عنه وإن لم يذكروه، وهو نقله من كتب الفلاسفة.
قال الشيخ:" إنما يثبت عين تأويلاتهم هي عين تأويلات المريسي..ثم إذا رأى أئمة الهدى أجمعوا على ذم المرسية، وأكثرهم كفروهم أو ضللوهم..
.. وعلم أن هذا القول الساري من هؤلاء المتأخرين هو مذهب المرسية، تبين الهدى لمن يريد".
فكيف يكون أفراخ المتفلسفة، وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين، وضلال اليهود والنصارى والصابئين، أعلم بالله من ورثة الأنبياء؟!
ثم إن الأشعرية متلاعبون بالنفي، فتارة يصرحون به، وتارة يستترون بالتفويض، الذي حقيقته: نفي. فلا فرق بين النافي والمفوض؛ إذ المفوض يثبت عدما.
وهم مضطربون أيضا، فـ"ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل، بل منهم من يزعم أن العقل جوز أو أوجب ما يدعي الآخر: أن العقل أحاله!"
ويرد عليهم في التأويل بوجوه:
1- العقل لا يحيل إثبات الصفة على حقيقتها.
2-النصوص لا تحتمل التأويل.
3- تأويلاتهم بمنزلة تأويلات الباطنية.
قال الشيخ: "الأساطين من هؤلاء معترفون بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية"؛ يعني به أفلاطون وأرسطو كما في الدرء
والتأويل ثلاث:
1- صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لدليل يقترن به، عند المتأخرين.
وفي التدمرية، قسمان: ما كان بدليل فصحيح، ومن دونه فباطل.
2- بمعنى التفسير، وهو اصطلاح جمهور المفسرين وغيرهم.
3- هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، وهذا هو الذي لا يعلمه إلا الله، هو الكيف المجهول.
بعد هذه المقارنة المطولة بين طريقة السلف في الإثبات وطريقة المتكلمة، انتقل إلى المنقولات عن السلف في هذا الباب، فبدأت بالتابعين ..
كعمر بن عبد العزيز.
ثم تابعي التابعين كالأوزاعي، والليث،
والثوري.
ثم أئمة الحديث كأبي عبيد وابن خزيمة وعبد الرحمن بن مهدي.
ثم الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد.
والفقهاء كابن الماجشون، ومحمد بن الحسن
أهل اللغة كالأصمعي.
والنقلة عن السلف كالخطابي.
حتى وصل إلى أئمة التصوف، فنقل عن: يحي معاذ الرازي، والحارث المحاسبي، وعمرو بن عثمان المكي، ومحمد بن خفيف، وعبد القادر الجيلاني.
ثم نقل عن الأشعري، والباقلاني، والجويني، ومن تولاهم كالبيهقي،وقال: "وليعلم السائل أن الغرض من هذا الجواب: ذكر بعض ألفاظ الأمة الذين نقلوا ..
مذهب السلف في هذا الباب،وليس كل من ذكرنا شيئا من قوله من المتكلمين وغيرهم يقول بجميع ما نقلوه في هذا وغيره،ولكن الحق يقبل من كل من تكلم به".
فقد نقل عن طوائف عدة من أهل السنة، من أهل الفنون: التفسير، والحديث، والفقه، واللغة، والعباد. كذلك عن الفرق الأخرى: الصوفية، والأشعرية. في..
صفة العلو، والاستواء على العرش على حقيقتها خلافا للمتكلمة، مبينا للأشعرية مخالفتهم التامة لمن سلف من أئمة الاحتجاح، بل ومخالفتهم لأئمتهم!
وربما كان هذا سببا من أسباب تحامل الأشعرية ضده؛ إذ عز عليهم إظهار مخالفتهم لإمامهم الأشعري نفسه في مسائل الأصلية، وحذاقهم الباقلاني والجويني
على أنهم بدل أن يرجعوا إلى طريقة هؤلاء الأئمة، والإفادة من تجاربهم ووصاياهم، نحو منحى أشد تعصبا وانحرافا، وافتعلوا تأويلات لتلك الوصايا..
كالتأويلات التي افتعلوها للنصوص ا لمقدسة، فمن سهل عليه تحريف الكلام المقدس، فليس عسيرا عليه تحريف كلام البشر!
وقد أطال النقل عن المحاسبي من كتابه "فهم القرآن" وفيه كلام متين متفق للسلف، ومن ابن خفيف نقل كتابه "اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات".
وهكذا استغرق نقله هذا ثلثي الكتاب، بعد المقارنة، فلم يبق منه بعد ذلك إلا في شيء من شبهاتهم في العلو والمعية والاستواء على العرش..
وكان جملة من نقل عنهم: اثنين وأربعين إماما في مختلف الفنون والاتجاهات. كل واحد منهم يعرف فضله وعلمه ورسوخه، وأكثرهم من قرون الاحتجاج.
وقد نقل مما نقل عن الخطابي في كتابه "الغنية" القاعدة التي اعتمد عليها في التدمرية لنقض كلام النفاة: "الأصل أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام
في الذات، ويحتذى حذوه ومثاله، فإذا كان معلوما أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية..
.. فكذلك إثبات صفاته، إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف".
ومن ردوده المتينة على أهل التجهيل، في نقله عن مالك وربيعة: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول.." قال:" ولو كان القوم آمنوا باللفظ المجرد من ..
..غير فهم لمعناه، على ما يليق بالله، لما قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول. ولما قالوا:: أمروها كما جاءت بلا كيف. فإن الاستواء حينئذ ..
لا يكون معلوما، بل مجهولا بمنزلة حروف المعجم. وأيضا، فإنه لا يحتاج إلى علم نفي الكيفية؛ إذا لم يفهم من اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي ..
..علم الكيفية إذا ثبتت الصفات.. فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر، لما قالوا: بلا كيف. فقولهم: أمروها كما جاءت. تقتضي إبقاء دلالتها
على ما هو عليه، فإنها جاءت ألفاظه دالة على معان، فلو كانت دلالتها منتفية، لكان الواجب أن يقال: أمروها لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد"
ومما نقله عن ابن عبد البر قوله: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا ..
..على المجاز، إلا أنهم لا يكيفيون شيئا منها". فلفظ "الحقيقة" مستعمل عند السلف في إثبات الصفات، ردا على أهل التجهيل، ولم يبتدعه ابن تيمية.
وعن الخطابي: "مذهب السلف: إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها". وهذا يعارض المتكلمة في قولهم: الأخذ بالظواهر كفر!
والجويني يقول كذلك في "النظامية": "ذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب".
قال: "وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل، كان ذلك الوجه هو المتبع". شهادة إمام تبرأ من الكلام،لكن انظر تعليق الكوثري هنا!
بعد ذلك: تناول مسألة المعية والعلو، وما جرى حولها من شبهات، ببيان مفصل ونقض مكمل، ثم قال: "والله يعلم أني بعد البحث التام، ومطالعة ما أمكن..
..من كلام السلف: ما رأيت كلام أحد منهم يدل لانصا ولا ظاهرا، ولا بالقرائن على نفي الصفات الخبرية في نفس الأمر..الذي رأيته أنهم يثبتون جنسها".
في آخر كتابه: قسم الناس في الصفات على ستة أقسام:
- قسمان يقولان: تجرى على ظاهرها.
فمن جعل ظاهرها ما يليق به فسني، أو نفس صفات المخلوق فمشبه.
- قسمان يقولان: هي على خلاف ظاهرها.
فمنهم المتأول للصفة بغيرها معناها، ومنهم المفوض الذي يقول: الله أعلم بما أراد بها.
- قسمان يسكتون.
فأحدهما يقول: يجوز أن يكون ظاهرها ما يليق به، ويجوز ألا يكون المراد صفة لله، وهم طائفة من الفقهاء.
والآخر: يمسك على هذا كله.
وفي الآخر يقول: "ومن اشتبه عليه ذلك أو غيره، فليدع بما رواه مسلم عن عائشة: كان رسول الله إذا قام الليل يصلي يقول: "اللهم رب جبريل وميكائيل..
..وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، علم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون: اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك..
..إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم". فإذا افتقر العبد إلى الله ودعاه، وأدمن النظر في كلام الله عز وجل وكلام رسوله، وكلام الصحابة والتابعين..
وأئمة السلف: انفتح له باب طريق الهدى. ثم إن كان قد خبر نهايات إقدام المتفلسفة والمتكلمين في هذا الباب، وعرف غالب ما يزعمون برهانا، وهو شبهة.
..ورأى أن غالب ما يعتمدونه يؤول إلى عدوى لا حقيقة لها، أو شبهة مركبة من قياس فاسد، أو قضية كلية لا تصلح إلا جزئية، أو دعوى إجماع لا حقيقة له
.. والتمسك في المذهب والدليل بالألفاظ المشتركة، ثم إن ذلك إذا ركب بألفاظ كثيرة طويلة غريبة، فمتى لم يعرف اصطلاحهم، أوهمت الغر ما يوهمه..
السراب للعطشان:ازداد إيمانا وعلما بما جاء به الكتاب والسنة؛فإن الضد يظهر حسنه بضده،وكل من كان بالباطل أعلم،كان للحق أشد عظيما، وبقدره أعرف"
وهكذا يكشف حقيقة وطريقة المتكلمة في تناولهم للصفات وغيرها، والمنهج الذي سلكوه في: التخييل، والتأويل، والتجهيل.
ثم يبين مراتب الناس من علم الكلام: "فإن المتوسط من المتكلمين، فيخاف عليه ما لايخاف على من لم يدخل فيه، وعلى من قد أنهاه نهايته..
- فإن من لم يدخل فيه، هو في عافية.
- ومن أنهاه، فقد عرف الغاية، فما بقي يخاف من شيء آخر، فإذا ظهر له الحق، وهو عطشان إليه قبله.
- ...
- وأما المتوسط، فمتوهم بما يلقاه من المقالات المأخوذة تقليدا لمعظم تهويلا.
وقد قال الناس: أكثر ما يفسد الدنيا: نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف..
متطبب، ونصف نحوي. هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان.
ومن علم أن المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم هم..
في الغالب في: {قول مختلف*يؤفك عنه من أفك}، يعلم الذكي منهم العاقل: أنه ليس هو فيما يقول على بصيرة، وأن حجته ليست ببينة.. ويعلم العليم..
..البصير أنهم وجه مستحقون ما قاله الشافعي: "حكمي في أهل الكلام: أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشاير، ويقال: هذا جزاء..
من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على علم الكلام.
ومن وجه آخر إذا نظرت إليهم بعين القدر والحيرة مستولية عليهم، والشياطين مستحوذة علهيم: رحمتهم..
..ورفقت بهم، أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء، وأعطوا فهوما وما أعطوا علوما، وأعطوا سمعا وأبصارا وأفئدة:{فما أغنى عنهم سمع ولا أبصارهم ولا أفئدتهم}
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
تم الملخص بخط المعتمد على الله
لطف الله بن عبد العظيم خوجه
مكة التاسع جمادى الأولى سنة 1438هـ
كتاب الفتوى الحموية
http://waqfeya.com/book.php?bid=11250
مقالات الشيخ السابقة
الرد على الددو حول تقريره لمذهب السلف في العقيدة
نشاة التاويل
نشاة التصوف
قصة السنيما
الحجاب
صفحة الشيخ في موقع صيد الفوائد ( اوصيك بها )
https://saaid.net/Doat/khojah/
حساب الشيخ في تويتر
(@LMKHOJAH)
https://twitter.com/LMKHOJAH?s=0
قناة د. لطف الله خوجه تلغرام