JustPaste.it

 بداية الخلق

 

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم, والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين, سيدنا محمّد وعلى آله وأصحابه أجمعين, وعلى من أتبع هداه إلى يوم الدين ... أما بعد

فإن في معرفة بداية الخلق, وكيف أنشأ الله عز وجل هذا الكون, وتفصيل ذلك, ما يبعث في القلب تعظيم الخالق سبحانه وتعالى, الذي أوجد هذا الكون من عدم, وبثّ فيه الحياة, وجعل منه ساكناً ومتحركاً, وجماداً وسائلاً وليّناً ورياحاً تتطاير في الهواء,([1]) فالحمد لله رب العالمين.

هذا وقد أمرنا الله تبارك وتعالى  بالتفكر في عظمة هذا الكون, فالصنعة تدل على الصانع, والعظمة تدل على العظيم, والجمال والإبداع تدل على الجميل البديع, فسبحان ربنا ربّ العزّة عمّا يصفون.

قال عز ّ وجل: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾([2]) 

وقال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾([3]) 

وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾([4]) 

وقال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾([5]) 

وقال تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ*وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وإلى الأرضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾([6]) 

ثم إني وجدت بعض من لم يؤتى حظّاً من العلم والفهم, استعسر عليه الجمع بين الآيات والأحاديث الواردة في خلق المخلوقات, وظنّ أن فيها تعارضاً وتناقضاً, فأحببت أن أوفّق بين الآيات لينكشف لمن استعسر فهمه لها ما استشكل عليه منها, ويتبين له الحق فيها بإذن الله تعالى, والله هو مولانا فننعم المولى ونعم النصير.

 ******

بسم الله الرحمن الرحيم

عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كان الله ولم يكن شيء غيره, وكان عرشه على الماء, وكتب في الذكر كل شيء, وخلق السموات والأرض"([7]) 

وعن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: "كان في عماء, ما تحته هواء, وما فوقه هواء, وخلق عرشه على الماء"([8]) 

قال يزيد بن هارون: "العماء, أي ليس معه شيء"([9])  

وقال الأصمعي: "العماء في كلام العرب, السحاب الأبيض الممدود، فأما العمى المقصور في البصر، فليس هو في معنى هذا في شيء، والله أعلم بذلك في مبلغه"([10]) 

وقال الأصمعي: "ويجوز أن يكون معنى الحديث في عمى، أنه عمى على العلماء كيف كان"([11]) 

وقال إسحاق بن راهويه: "قوله: في عماء قبل أن يخلق السماوات والأرض، تفسيره عند أهل العلم أنه كان في عماء يعني سحابة"([12]) 

قلت: والقول قول الإمام يزيد؛ لأن السحاب شيء, وكل شيء ماعدا الله مخلوق, فأين كان ربنا قبل أن يخلق السحاب الأبيض؟ لابدّ أنا صائرون إلى قول الإمام يزيد وهو أنه كان وليس معه شيء.

فأول ما خلق الله عزّ وجل العرش والماء, والماء بحر يعوم في الفضاء لا يعلم حدّه إلّا الله عزّ وجلّ, ووضع العرش على الماء, ثم خلق القلم واللوح المحفوظ, فكتب مقادير الخلائق إلى أن تقوم الساعة, فالقلم أول المخلوقات المرتبطة بهذا الكون الذي نعيش فيه, وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أول ما خلق الله القلم"([13])   

ثم خلق الأرض, وخلق السماء الدنيا سقفاً واحداً من دخان, ولا أعلم أيهما كانت قبل الأخرى خلق الأرض أم خلق السماء الدنيا ويبدو أنهما خلقتا معاً, ولم يرد في الأحاديث والآثار شيء بهذا الخصوص يعتمد عليه, ثم سوّى الله الأرض سبعة أراضين بعضها تحت بعض, فكان خلق الأرض وتسويتها إلى سبع في يومين, قال تعالى: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا﴾([14]) وخلق الشمس, ثم دحا الأرض, قال تعالى: ﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾([15]) فدحي الأرض بعد إخراج الضحى, وإخراج الضحى كناية عن خلق الشمس, ودحي الأرض له عدّة معاني, منها البسط والمد والترقيق, والثاني التوسعة ومنها الملء والتعبئة, يقال: دحّ الجراب, إذا ملأه, فهو سبحانه وتعالى بسط الأرض ومدّها ورقّقها ووسّعها ثم ملئها بالماء والنباتات, وخلق الله الجبال, وألقاها على الأرض؛ فذلك قوله تعالى: ﴿وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا﴾ والواو هنا للمعيّة, فكأن الله تبارك وتعالى خلق الجبال وألقاها على الأرض في أخر مراحل خلق الأرض وبداية خلق الماء والنباتات, وليست الواو للعطف, لأن الله تبارك وتعالى ذكر في سورة النازعات أن إرساءه للجبال كان بعد إخراج الماء والنبات, وفي حديث أبي هريرة الصحيح ([16]) أن إرساء الجبال كان قبل ذلك, فتبيّن أن الواو في الآية الكريمة هي واو المعية, وأن الله تبارك وتعالى ألقى الجبال في أخر مرحلة من بسط الأرض وبداية خلقه للماء والنبات وقبل أن ينتهي الله من خلقهما انتهى من خلق الجبال, فكأن الجبال خلقت قبل خلق الماء والنبات, ولهذا جاء إرساء الجبال في حديث أبي هريرة متقدماً على خلق الماء والنباتات. وقد خلق الله عز وجل الجبال؛ لتكون أوتاداً للأرض, فإنه سبحانه لما بسط الأرض مادت الأرض, أي: تحركت واضطربت, فخلق الجبال وألقاها على الأرض؛ لتكون أوتاداً للأرض فلا تميد بأهلها, فاستقرت الأرض, قال تعالى: ﴿وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾([17]) وقال تعالى: ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾([18]) ثم خلق فيها الرياح والماء والنباتات, ثم خلق الآفة والخراب, ثم خلق النمو والعمران, ثم خلق الدواب وبثّها في الأرض, فلما خلق ما في الأرض جميعاً؛ استوى إلى السماء وهي دخان, فجعلها سميكة صلبة, وسوّاها سبع سماوات, بعضها فوق بعض, قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾([19])  وقال تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾([20])  فاليومين خصّصا لتسوية السماء إلى سبع سماوات فقط, وأما خلق السماء فقد تقدم قبل ذلك, وزيّن السماء الدنيا بالنجوم والكواكب, وجعلها علامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر, وجعل منها رجوماً لشياطين الجن, قال تعالى: ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾([21]) وقد ذكر الله تزيين السماء الدنيا بالمصابيح مع ذكره لتسوية السماء إلى سبع, فإما أن تكون الواو في قوله تعالى: ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا﴾ هي واو المعيّة فيكون خلق النجوم تم مع تسوية السماء إلى سبع أو واو العطف فتكون النجوم خلقت بعد الانتهاء من توية السماء, أما القمر فلا أعلم أخلق مع الشمس أم خلق مع النجوم والكواكب؟

وخلق الله عز وجل الملائكة من نور, فجعل منهم حملة العرش, وطائفة يعمرون السماوات, وجعل منهم في الأرض, كل له عملٌ يقوم به, فمن أشراف الملائكة: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت.

فلما فرغ من ذلك استوى على العرش, فانتهى من خلق السماوات والأرض وما فيها وما بينها في ستّة أيام, بدأ ذلك يوم السبت, وانتهى منه يوم الخميس, والأيام الستّ مخصّصة لخلق السماوات والأرض وما بينها وما فيها, وأما بقيّة المخلوقات فغير داخلة في ذلك.

قال الإمام الأزهري في تهذيب اللغة: "وإنما سمي السابع من أيام الأسبوع سبتا؛ لأن الله تعالى ابتدأ الخلق فيه، وقطع فيه بعض خلق الأرض" اهـ

والسماوات والأرض تحت الماء والماء فوقها والعرش فوق الماء والله سبحانه وتعالى فوق العرش ( https://justpaste.it/u1q1 )

وكل سماء هي أرض من يعمرها من الملائكة الكرام.

والأرض يسكنها الجن والإنس ومن شاء الله من ملائكته.

وقد وردت عدّة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ترتيب خلق السماوات والأرض وما فيها وما بينها من مخلوقات, وجميع هذه الروايات لا تخلو من النقد, ولكن نستأنس بها, ونحاول من خلالها فهم كيف تم خلق السماوات والأرض, فإن من منهج أهل الحديث تقديم الحديث الضعيف على الرأي.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: "خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد صلاة العصر من يوم الجمعة, آخر الخلق, في آخر ساعات من ساعات الجمعة, فيما بين العصر إلى الليل"

وقال الأزهري في تهذيب اللغة: (حدثنا) أبو إسحاق البزاز, عن عثمان بن سعيد, عن عبد الله بن صالح، عن خالد بن حميد، عن معاوية بن يحيى، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر قال: "خلق الله التراب يوم السبت، وخلق الحجارة يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الدوابَّ يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة, فيما بين العصر وغروب الشمس".

وعن ابن عباس رضي الله عنه: أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السموات والأرض، فقال: "خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، قال تعالى: (أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) إلى قوله: (وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام) وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة, إلى ثلاث ساعات بقين، فخلق في أول ساعة الآجال، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به الناس، وفي الثالثة خلق آدم وأسكنه الجنة وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة". ثم قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال: "ثم استوى على العرش". قالوا: قد أصبت لو أتممت. قالوا: ثم استراح. فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا، فنزلت: (وما مسنا من لغوب فاصبر على ما يقولون).

قلت: أصح هذه الأحاديث هو حديث أبي هريرة فحديث أبي هريرة رواه أئمة أهل الحديث ونقاده بينما لم يرو حديث ابن عباس إلا من عرف بالتساهل في النقل فقد روى حديث أبي هريرة كل من: مسلم وابن حنبل وابن خزيمة والنسائي والموصلي والطبراني وأبو الشيخ وابن منده, والطبري وابن أبي حاتم في تفسيريهما, وقد أعله البخاري وعلي المديني فلما يصنعا شيئاً, فالبخاري قال: "وقال بعضهم عن أبي هريرة عن كعب , وهو أصح" قلت: كعب كان يهودياً واليهود مجمعون على أن السبت لم يصنع الله فيه شيئا, وأن الله بدأ الخلق يوم الأحد وانتهى منه يوم الجمعة؛ لذلك إسناد هذا القول عن كعب غير مقبول, وأما علي فقد أعله بقوله: "وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا إلا من إبراهيم بن أبي يحيى" وهو كما ترى ظن, ولهذا لم يلتفت باقي أئمة الحديث إلى هذه العلل واحتجوا به, والله أعلم.

ويشهد لحديث أبي هريرة حديث ابن عمر الذي رواه الأزهري, ولم أجد حديث الأزهري في شيء من كتب الحديث المعتمدة, لكن الأزهري صدوق صاحب سنة إن شاء الله تعالى ولا نزكي على الله أحدا؛ لكن هذا ما يظهر من حاله من خلال كتبه. كما أنه يفسر بعض ما ورد في حديث أبي هريرة حيث جاء فيه الحجارة بدل الجبال والملائكة بدل النور.

أما حديث ابن عباس فلم يروه سوى: الحاكم وأبو الشيخ والبيهقي والنحاس والطبري. وهنا نجد أن أئمة الحديث الكبار المشهورين بنقد الأحاديث تجاهلوا هذا الحديث. ولكن يستفاد منه في شرح حديث أبي هريرة, فقد ورد عند أبي هريرة أن الأرض خلقت يوم السبت, والمعنى ابتدأ خلقها يوم السبت؛ لأن الله تعالى خلق الأرض في يومين, وعلى هذا فمعنى الحديث أن الله ابتدأ خلق الأرض يوم السبت وانتهى منها يوم الأحد, حيث اضطرب فخلق الجبال وألقاها على الأرض. وابتداء خلق الأرض وخلق السماء من دخان وقع مرة واحدة, فالله تعالى لا يشغله شيء عن شيء؛ لكمال قدرته وقوته. ثم استمر خلق الأرض إلى يوم الأحد, وفي يوم الأحد خلق الجبال أيضاً. وقوله: "خلق المكروه" فسره لنا حديث ابن عباس فمعناه: الآفة والخراب. وقوله: "النور" أي: النمو والعمران.

وقد وهم من فسر النور بالشمس والقمر والنجوم, فهذا بعيد؛ لأنه كما قدمنا الشمس خلقت بنص القرآن قبل دحي الأرض, وهذا يعني أنها خلقت يوم السبت أو بداية يوم الأحد, بينما النجوم خلقت مع أو بعد تسوية السماء إلى سبع سماوات؛ لذلك فقطعا النور المقصود هنا ليس الشمس والقمر, وقد فسره لنا حديث ابن عباس بأنه النمو والعمران, والله تعالى سمى الحق نوراً فهو فيما يبدوا اسم شامل لكل الخير.

ونفهم من حديث ابن عمر أن الله تعالى ابتدأ فتق السماوات إلى سبع وخلق الملائكة وخلق النور في يوم واحد, فهو سبحانه لا يشغله شيء عن شيء, فاستمر في خلق السماوات إلى اليوم السادس, وهو أخر الأيام الستّ, فهو يفتق السماء ويحدث في الأرض ما يشاء من مخلوقات, ولا يعني أنه خلق الملائكة يوم الأربعاء أن أنهى ذلك في نفس اليوم, بل قد يخلق السماء وعمارها من الملائكة والتي تليها وعمارها من الملائكة فيكون خلق الملائكة استمر يومين إلى نهاية السماء السادسة, والله أعلم.

أما الجن والإنس والجنة والنار فخلقها تم بعد الأيام الست كما أن خلق العرش والماء والقلم واللوح تم قبلها فالأيام الست مخصصة لخلق السماوات والأرض وما فيها وما بينها باستثناء الجن والإنس لأن الله خلق الكون وهيئه ليكون موطناً لهذين النوعين, والله أعلم.

لطيفة: في التوراة ما يؤكد على صحة حديث أبي هريرة رضي الله عنه, فقد جاء في التوراة ما نصه: "وبارك الله اليوم السابع وقدسه" ومعلوم أن اليوم الذي باركه الله وقدسه هو يوم الجمعة وليس يوم السبت, لكن اليهود لما حرم الله عليهم صيد الحيتان يوم السبت ظنوا أنه اليوم الذي قدسه الله وانتهى فيه من الخلق, ثم زعموا أن يوم الأحد هو أول الأيام الست؛ لأنه بما أن السبت- حسب زعمهم - هو اليوم الذي أنهى الله فيه الخلق فلم يعمل شيئاً وجب أن يكون يوم الأحد هو أولها لتكتمل الأيام الست.

وإن صح حديث ابن عباس فيمكن تأويله بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبرهم بما يعتقده اليهود, وقد يكون ذلك قبل نزول الوحي عليه بأن أول الأيام هو يوم السبت, والله أعلم وأحكم.

وحديث أبي هريرة الصحيح يفيد بأن الأيام التي خلق الله عز وجل فيها السماوات والأرض هي نفس أيام الأسبوع التي نعرفها, وأن من قال غير ذلك فقد أخطأ, والله أعلم.

ثم خلق الله عز وجل الجنّة, وخلق خزنتها من الملائكة, رئيسهم ملك اسمه: رضوان.([22]) وخلق النار, وخلق خزنتها من الملائكة, رئيسهم ملك اسمه: مالك.

والدليل على أن خلق جبرائيل ومن معه من الملائكة قبل خلق الجنة والنار ما جاء في الحديث, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة، فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فجاءها ونظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، قال: فرجع إليه قال: فوعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحفت بالمكاره، فقال: ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره، فرجع إليه فقال: وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد، قال: اذهب إلى النار، فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فإذا هي يركب بعضها بعضا، فرجع إليه، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات، فقال: ارجع إليها، فرجع إليها فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها"([23]) 

قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. 

والجنة كما جاء في الحديث تحت العرش, أما النار فهي في أسفل الكون ويؤتى بها يوم القيامة لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها (رواه مسلم)

وخلق الجن من مارج النار, وإبليس أبو الجن أو واحدٌ منهم, والراجح أنه أبوهم, قال تعالى: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا﴾([24]) 

قال الإمام الزهري: "إبليس أبو الجن كما أن آدم أبو الإنس وآدم من الإنس وهو أبوهم وإبليس من الجن وهو أبوهم"([25])  

وقد روي عن ابن عباس أنه قال بأن الجن من الملائكة, فإن صحّ عنه ذلك فهو لاشك مما أخذه عن من أسلم من أهل الكتاب؛ لأنه كان يترخص في ذلك, ولا يرخّص في الأخذ عن من أقام على كفره من أهل الكتاب.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور, وخلقت الجان من مارج النار, وخلق آدم مما وصف لكم"([26])  أي من طين فميّز النبي صلى الله عليه وسلم بين الملائكة والجن, فدلّ على أن الجن خلق مستقل عن الملائكة, فلعل الإمام ابن عباس رضي الله عنه لم يبلغه حديث عائشة رضي الله عنها فروى عن أهل الكتاب من باب الرخصة في ذلك.

ويزعم بعض المفسرين أن القول بأن الجن من الملائكة هو قول جمهور الصحابة! وهذه الدعوى عارية من الصحة؛ لأن مدعي هذا القول نقل ذلك من رواية السدي الكبير, وغالب أهل الحديث حكموا بضعفه, بل اتهمه بالكذب كل من: السعدي وابن أبي سليم وابن سليمان, ولا يحتج برواية مسلم عنه لأن مسلم لم يبلغه طعن من جرحه, والجرح مقدم على التعديل, خصوصا إذا كان جرحا مفسرا كما هو حال السدي, ثم أن السدي رواه عن ثلاثة من الصحابة هم: ابن عباس وابن مسعود ومرة الهمداني ثم قال: "وغيرهم" فأين قول الجمهور هنا! وحديث النبي صلى الله عليه وسلم قطع الطريق على من يقول بأن الجن من الملائكة, ولا يقدم على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة شيء من الأخبار وإن صحت, فكيف وهي لم تصح أصلا.

وكان اسم إبليس: عزازيل, وقيل: الحارث ([27]), وكان في غاية الحُسن والجمال, وضمه الله إلى ملائكة الجنّة, حتى عصى ربه فمسخه الله شيطاناً رجيماً قبيحاً, وطرده من الجنة, وسمّاه إبليس, فلما لعنه الله ومسخه رنّ عدو الله, والرنّ هو: الصراخ الشديد من شدّة الحزن؛ لأنه لم يكن يظن أن يقع له ذلك.

ثم خلق آدم عليه السلام من طينة الأرض, في أخر ساعة من يوم الجمعة, بين العصر والمغرب, والذي يظهر أنها ليست الجمعة التي تلت يوم الخميس الذي هو أخر الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض, بل بعد الأيام الستة بمدة الله أعلم بها, كما أن خروجه منها عليه السلام لم يتم في نفس الجمعة التي أدخل فيها الجنة, بل بعد مدة الله أعلم بها, والله أعلم.

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض؛ فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب، والسهل والحزن وبين ذلك"([28]) 

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله آدم؛ تركه ما شاء أن يدعه، فجعل إبليس يطيف به؛ فلما رآه أجوف عرف أنه خلق لا يتمالك"([29]) 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم من تراب، ثم جعله طيناً، ثم تركه حتى إذا كان حمأً مسنوناً خلقه الله وصوّره، ثم تركه حتى إذا كان صلصالاً كالفخار. قال: فكان إبليس يمر به فيقول: لقد خلقت لأمر عظيم! ثم نفخ الله فيه من روحه؛ فكان أول ما جرى فيه الروح بصره وخياشيمه؛ فعطس؛ فلقّاه الله حمد ربه، فقال الله: يرحمك ربك. ثم قال الله: يا آدم اذهب إلى هؤلاء النفر؛ فقل لهم: السلام عليكم؛ فانظر ماذا يقولون؟ فجاء؛ فسلم عليهم؛ فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. فقال:يا آدم هذه تحيتك وتحية ذريتك. قال: يا رب وما ذريتي؟ قال: اختر يدي يا آدم، قال: أختار يمين ربّي وكلتا يدي ربي يمين، فبسط كفه؛ فإذا من هو كائن من ذريته في كف الرحمن، فإذا رجال منهم على أفواههم النور، وإذا رجل يعجب آدم نوره، قال: يا رب من هذا؟ قال: ابنك داود، قال: يا رب فكم جعلت له من العمر؟ قال: جعلت له ستين، قال: يا رب فأتم له من عمري حتى يكون عمره مائة سنة. ففعل الله ذلك؛ وأشهد على ذلك. فلما تقدم عمر آدم بعث الله إليه ملك الموت؛ فقال آدم: أولم يبق من عمري أربعون سنة ؟ قال له الملك: أو لم تعطها ابنك داود؟! فجحد ذلك، فجحدت ذريته، ونسي؛ فنسيت ذريته"([30]) 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خلق الله آدم؛ وطوله ستون ذراعاً، ثم قال: اذهب، فسلم على أولئك النفر من الملائكة؛ فاستمع ما يجيبونك؛ فإنها تحيتك وتحية ذريتك. فقال: السلام عليكم. فقالوا: السلام عليك ورحمة الله؛ فزادوه : ورحمة الله. فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن"([31]) 

 

هذا والله أعلم وأحكم وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين

كتبه أبو عبدالرحمن صقر بن نزهان بن عبيد العتيبى

وفرغ منه في الثلاثين من شهر رجب الفرد سنة سبع وثلاثين وأربعمائة بعد الألف من هجرة المصطفى الهادي صلى الله عليه وسلم.

 

([1]) الهواء هو العدم المحض الذي تهوي فيه الأشياء ولا تستقر إلا بقدرة الله عزّ وجل, واطلق الهواء على الرياح, لشبهها به, فهي وإن كانت شيئا نحسّه ونشعر به, إلا أنها كالهواء؛ لعدم استقرار الأشياء عليها.

([2]) الروم آية: 8

([3]) ق آية: 6

([4]) البقرة آية: 164

([5]) فصلت آية: 53

([6]) الغاشية الآيات: 17 - 20

([7]) صحيح رواه الإمام البخاري وغيره

([8]) رواه الترمذي في الجامع وغيره, وقال الترمذي: حديث حسن.

([9]) رواه الترمذي

([10]) رواه ابن بطّة في الإبانة الكبرى.

([11]) المصدر السابق

([12]) المصدر السابق

([13]) رواه مجموعة من أهل الحديث والأثر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وموقوفاً على ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما

([14]) النازعات الآيات 27 - 28

([15]) النازعات الآيات 29 - 33

([16]) سوف يأتي معنا إن شاء الله تعالى

([17]) النحل الآيات: 15 - 16

([18]) النبأ آية: 7

([19]) البقرة آية: 29

([20]) فصلت الآيات: 11 - 12

([21]) فصلت آية: 12

([22]) وردت روايات عديدة في أن اسم خازن الجنة رضوان, ولكن لم يثبت منها شيء.

([23]) رواه الترمذي في الجامع

([24]) الكهف آية: 50

([25]) رواه ابن أبي حاتم الرازي في التفسير.

([26]) رواه مسلم في صحيح وغيره.

([27]) هناك آثار عن ابن عباس في ذلك رواها الطبري وابن أبي حاتم في تفسيريهما, والله أعلم بالصحيح منها.

([28]) رواه الترمذي وغيره بسند صحيح.

([29]) رواه مسلم في صحيحه وغيره.

([30]) رواه الترمذي وغيره بسند حسن.

([31]) رواه البخاري ومسلم.