JustPaste.it

كتاب: الزكاة

فكرة عامة عن الكتاب
ظهر هذا الكتاب في سلسلة من المقالات فى موقعنا ( أهل القرآن )، وأعيد تجميعه ليصدر فى كتاب متكامل يتناول فلسفة الزكاة فى الاسلام وتشريع الزكاة المالية أو الصدقة.

فهرس كتاب الزكاة

 

تمهيد  :  تصحيح المفاهيم

  1. الزكاة ، الصدقة ، الإنفاق
  2. أولا : مقاربة لمفهوم الزكاة..
  3. معنى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة

الفصل الأول : دورالزكاة المالية ( الصدقة ) فى تزكية النفس عقيديا

مقدمة:  
(1 )الايمان بأن توزيع الرزق بيد الله جل وعلا ، فهو الذى يبسط الرزق لمن يشاء ، ويقدره على من يشاء
(2 ) المؤمن مريد الآخرة لا ينسى نصيبه من الدنيا:

(3 ) : العمل للفوز برزق الآخرة:

(4 ) : بين رزق الجنة وعذاب النار

 (5 )إختبار التفاضل فى الرزق إطارا لتشريع الزكاة المالية : تزكية النفس باعطاء المال

(6 )   الاطار الأخلاقى لتشريعات الزكاة المالية فى الاسلام : تزكية النفس باعطاء المال

 

الفصل الثانى من الزكاة : تشريعات الزكاة المالية (الصدقة ) فى الاسلام

مقدمة

(1 ) :  مقدار الزكاة

(2 ) : مستحقو الزكاة في السجلات الرسمية وفى الصدقة الفردية

(3 ) :   للفقير غير المسلم أن يأخذ من زكاة المسلمين

( 4 ) :  ذلك الذي يبخل ولايخرج الزكاة  والصدقة .. ماذا تكون عقوبته ؟( حدود الالزام فى الزكاة )

( 5 ) : فى تفعيل تشريعات الصدقة لا بد من التأكيد على الاطار الأخلاقى للصدقة وزكاة المال

( 6 ) : بين الزكاة والجهاد فى سبيل الله جل وعلا بالمال  

( 7 ) ـ  أثر حق أولى القربى فى التكافل الاجتماعى وأمن المجتمع  

 ( 8 ) مجتمع بلا زكاة مصيره الهلاك  

  (9 ) : الحكم الشرعى فى دفع الزكاة داخل الدولة المستبدة

( 10 ): لا يجوز دفع الضرائب فى دولة مستبدة  

الخاتمة  

 

 

 

تمهيد  :  تصحيح المفاهيم

 

  (1)  الزكاة ، الصدقة ، الإنفاق

مقدمة
1 ـ حيث يوجد الفقر في مجتمع ما تكون فيه الزكاة فريضة غائبة ، فالزكاة من أهم وسائل الإسلام في رخاء المجتمع والسمو به وتخليصه من أسوأ ما يبتلي به أي مجتمع وهي فئة المترفين ، فحيث يوجد المترفون في مجتمع يكون ذلك المجتمع مرشحا للانفجار من الداخل أو يأتيه الانفجار من الخارج ليقع منهارا أمام أى غزو خارجى.لذا فالزكاة هى الوجه الاجتماعي للإسلام، وهى إحدى الوسائل الإسلامية في إقامة المجتمع الفاضل وفي إقامة النفس "الزكية" وفي داخل كل إنسان ، فللزكاة دور اقتصادي إجتماعي كما أن لها دوراً أخلاقياً نفسياً.

2ـ والمسلم الذي يحرص على تأدية الزكاة وعلى تزكية النفس وتطهيرها دائماً يتسائل عن مقدار الزكاة الواجب عليه إخراجه ومتى يخرج زكاته وما الفرق بين الزكاة والصدقة والإنفاق. والفقهاء في تاريخ المسلمين إجتهدوا في الإجابة على هذه الأسئلة وإمتلأ بها باب الزكاة في الفقه السنى و الشيعى وغيرهما.
3
ـ ولأن الزكاة أكثر أبواب الفقه ارتباطاً بحركة المجتمع ودرجة تطوره فإن الكتابات عن الزكاة وتطبيقاتها قد تعبر عن العصر الذي تكتب فيه، ومن يحاول في عصرنا أن يقرأ عن الزكاة ومقدارها في كتب التراث سيفاجأ بمكاييل وموازين وعملات وعبارات وإصطلاحات لم تعد معروفة في عصرنا ، كما أن مفردات حياتنا العصرية الاقتصادية والمالية لن نجد حكماً فقهيا في كتب التراث، هذا بالإضافة إلى ما إمتلأت به كتب الفقه من اختلافات وتفريعات واستطرادات وتعقيدات لا يصبر عليها القاريء المتعجل الذي يبحث عن الإجابة العملية العصرية لأسئلته..
4 ـ ونبدأ بتصحيح المفاهيم وفقا للقرآن الكريم.
أولا : مقاربة لمفهوم الزكاة..
1
ـ أصل معني الزكاة : التطهر والسمو والتقوى ، يقول تعالي فيمن يمدح نفسه ( فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)(النجم 32)،ويقول تعالي في وصف النبي يحيى ( وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا )(مريم 13)، أي أن الله زكّاه أو ربّاه علي التقوى، ويقول عن عيسى ( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا ) ( مريم 19) ،أي تقيا طاهرا ساميا.
2
ـ والتزكية بمعني التقوى تبدأ بالنفس فمن أخذ نفسه بالتقوى فقد سما بها وطهرها . لأن الله تعالي خلق النفس البشرية قابلة للفجور والتقوى ، ثم يقوم المؤمن إذا أفلح بتزكية نفسه أي بتربيتها علي التقوى( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا )(الشمس 7 : 10)
3 ـ وهذا الذي أفلح في تزكية نفسه فى الدنيا يكون مصيره فى الآخرة إلى الجنة ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)(النازعات 40 ـ ) . وهكذا تكون المثوبة من الله لمن تزكى :(وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) ( فاطر 18).
الزكاة عموما تدل على التقوى وأداء كل العبادات:
المتقون فقط هم أصحاب الجنة. ومحروم من دخول الجنة من لم يزك نفسه بطاعة ربه كقوله تعالى : ( وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) ( فصلت 6 ). فكلمة الزكاة هنا تشمل كل العبادات وكل الطاعات وكل الأخلاق السامية وليس مجرد الزكاة المالية . وفى النهاية فإن الجنة هي مصير الذي يتزكى أى يكون مؤمنا قد عمل الصالحات فتزكى وتطهر ليليق بالجنة (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى )(طه 76)
وهناك وسائل للتقوى أو التزكية أشار إليها القرآن منها:

1
ـ ذكر الله وإقامة الصلاة: "( قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) ( الاعلى14 : 15)

 

 2 ـ قراءة القرآن والعمل به "( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) ( الجمعة 2).
3 ـ الابتعاد عن الفحشاء "( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ )(النور30)
4 ـ ثم يكون إنفاق المال في سبيل الله زكاة وصدقة هي أشهر الطرق لتزكية النفس "( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ) ( التوبة 103) ، والذي يتصدق بماله في سبيل الله وحده يجني ثمرة ذلك زكاة في نفسه وسموا في خلقه: (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ) ( الليل 17 : 18)، وبذلك تتحقق زكاة المال مع زكاة النفس.
5
ـ والصلاة ـ بما فيها من ذكر لله ـ مع زكاة المال من أهم وسائل تزكية النفس ، لذلك لابد أن يكون هناك ارتباط بين الصلاة والزكاة.
بين الصلاة والزكاة
1ـ الارتباط قائم بين الصلاة والزكاة في الرسالات السماوية.
قال تعالي عن إسماعيل"( وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا )( مريم  55  )
وعن اسحق ويعقوب والأسباط قال تعالي: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ ) ( الأنبياء 73).
وطاعة الله تتحقق بطاعة الرسل أى طاعة الرسالة، أى طاعة الوحى الالهى الذى نزل على الرسل ، لذلك أمر الله تعالى موسى : (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى ) ( : النازعات 18) . أى كانت وظيفة موسى عليه السلام ـ وكل الرسل ـ هى الدعوة للتزكية و التطهر.
2
ـ وقد تشابه الميثاق الذي أخذه الله علي بني إسرائيل بالأوامر التي جاءت في القرآن فيما يخص إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وغيرها من أوامر:
*
يقول تعالي عن بني إسرائيل وبنود الميثاق الذي أخذه عليهم "( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ )( البقرة 83  ".
*
وقال تعالي للمسلمين(وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)(النساء 36 ).وقال لهم ( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)(الحج 8  ).
3 ـ وهذا الارتباط بين الصلاة والزكاة في الرسالات السماوية يدل على عموم فرضيتهما على كل البشر ، خصوصا وآيات القرآن تخاطب كل أبناء آدم كقوله تعالى ( إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) .( المعارج 19 ـ).
ونفهم من الارتباط بين الصلاة والزكاة عدة أمور:
1
ـ إن الزكاة التي يقدمها المؤمن ابتغاء وجه ربه الأعلى هي صلاة أو صلة خاصة بالله يغذيها شعور المؤمن بأن المال مال الله خوّله الله فيه ليعطي منه حق المحتاج ، وحين يعطي المحتاج حقه يسيطر علي ذهنه حب الله وحرصه علي دوام صلته بمولاه ، فهذه صلاة مالية يقدمها من ماله.
2
ـ والصلاة هي زكاة الوقت أو العمر الذي حدده الله لإنسان في هذه الدنيا ، ولو افترضنا أن المؤمن يصلي يوميا ما يعادل نصف الساعة في خمسة فروض ، فإنه يزكي عن الأربع والعشرين ساعة بما يساوي 84/1 من اليوم . وهو قريب من أقل حدود الزكاة التي قال بها الفقهاء ، فالصلاة زكاة الوقت أو العمر والزكاة في المال طهارة وصلة بالمولي العظيم.
3
ـ والصلاة كانت علي المؤمنين كتابا موقوتا لابد من تأديتها في أوقاتها اليومية، وكذلك الزكاة والصدقة ، على المؤمن القادر أن ينفق كل يوم ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)(البقرة 274 ).
4ـ وكما في الصلاة نوافل وقيام للّيل فإن في الزكاة صدقات تطوعية . والصدقة قد تكون تطوعا بالمال للمحتاج ، وقد تتنوع لتشمل حسن التعامل بين المؤمن والمحيطين به.
ثانيا : الصدقة:
بين الصدقة والزكاة:
1
ـ الزكاة ـ قرآنيا ـ إلزام أخلاقى وسلوكى عام يلتزم به المؤمن القادر الحريص على رضا ربه جل وعلا ، والتعبير عن هذا الالتزام ماليا هو ( الزكاة المالية ) طبقا لما نعرفه فى مصطلحات التراث والشائع عندنا.
(الصدقة ) و(الانفاق )هى المعنى المقصود بالزكاة المالية ،أى إنك عندما تعطى زكاة مالك فأنت تعطى ( الصدقة ) أو (تنفق ) طبقا لأوامر الله جل وعلا.
2
ـ (الصدقة ) من ( الصدق ) فى التعامل مع الناس ومع رب الناس جل وعلا ، وبهذه الصفة العامة فإن ( الصدقة ) أعم من مجرد إعطاء المال ، أو مجرد ( الزكاة المالية ) ،لأن هناك ظروفا أخري لإيتاء الصدقة أشار إليها القرآن تثبت أن ( الصدقة) ـ من الصدق فى التعامل ـ هي أكثر تنوعا من الزكاة المالية ، كما يتضح من أنواعها الآتية:
2/ 1
ـ في البيع والشراء : تكون الصدقة فيهما سماحا ووفاء بالكيل أو ما في معناه ، فقد قال أخوة يوسف له :( فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِين) ( يوسف 88 ).
2/ 2ـ في مهر الزوجة : يسميه القرآن " الصداق " وهو نفس الأصل اللغوي للصدقة .. وفيه إشارة إلى مراعاة جانب الله في تقدير المهر ، والقرآن يشير إلى إمكانية تنازل الزوجة عن جزء من مهرها لزوجها نوعا من الصدقة والوئام بين الزوجين "( وَآتُواْ النِّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا).( النساء 4 ).
2/3 ـ في القصاص والدية : بالتنازل عن القصاص أو بالتنازل عن الدية أو بعضها ، يقول جل وعلا : ("وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ)( المائدة 45 )، أى من تصدق بالعفو فجائزته عند الله جل وعلا التكفير عن سيئاته . ويقول جل وعلا فى دية المؤمن المقتول خطأ :( "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ)( النساء 92 ) وقال الله جل وعلا (إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ )وتركها مفتوحة أي يتصدقون بكل الدية أو ببعضها.
2/ 4
ـ في الدين : إذا كان المدين معسرا فللدائن أن يتصدق عليه بالتنازل عن الدين أو بعضه (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة 280) وتركها القرآن مفتوحة فقال "( وَأَن تَصَدَّقُواْ ) أي التصدق بكل الدين أو ببعضه.
2/ 5
ـ في فدية الصوم : لمن يتعبه الصوم أن يفطر ويقدم فدية : طعام مسكين: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )( البقرة 184 ) ، وقوله تعالى: ( فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ) جاء عاما لمن تطوع بالصيام مع العذر وتطوع بالفدية أو زاد علي قدر الفدية بإطعام أكثر من مسكين ومن تطوع خيرا فهو في النهاية خير له. والتطوع هنا يعنى (الصدقة ) لأنه تطوع قائم على الصدق مع الله جل وعلا.
2/ 6
ـ في الفدية في الحج إذا حلق رأسه وهو محرم بالحج فعليه فدية "( وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)(البقرة 196)، ولم يحددها القرآن بل تركها مفتوحة ووصفها بالصدقة للحث علي زيادة التطوع بالفضل.
2/ 7
ـ في التوبة من الذنب : يقو تعالى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( التوبة 102 ـ ).
وبعد موت خاتم النبيين فالله جل وعلا هو الذي يقبل التوبة عن عباده وهو الذي يأخذ الصدقات . وكلنا خلط عملا صالحا وآخر سيئا ولديه أمل في عفو التواب الرحيم . والله جل وعلا يجعل من تقديم الصدقة المالية مع التوبة طريقا للتطهير والتزكية ليربطها بالزكاة ، ودليلا على صدق التوبة،أما إذا استمر أحدنا علي المعصية وقدم صدقات فإنه قد استخدم مال الله في تبرير عصيانه لله ، والآية تقدم التوبة في البداية ثم تجعل الصدقة عاملا مساعدا في قبولها.
ثالثا : الإنفاق:
بين الإنفاق والزكاة:
كما أن الصدقة تأتى عامة ، ثم تتخصص فى إعطاء المال ، وكما أن الزكاة تأتى عامة ثم تتخصص فى تزكية المال وصاحبه بإنفاقه فى سبيل الله وفق شرع الله، فكذلك الانفاق يتنوع عموما ، ثم يتخصص ليكون مرادفا للزكاة المالية والصدقة المالية.ونعطى بعض التوضيح:
1 ـ هناك إنفاق جائز للمال في الاستثمار كالزراعة ذكره القرآن في قصة صاحب الجنتين يقول تعالى عنه (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا)(الكهف 42) .
2 ـ وهناك إنفاق واجب وفرض ، مثل المهر أو الصداق ، يقول القرآن عن صداق الزوجة (وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا)(الممتحنة10 ). وقوامة الرجل على زوجته تنبع من قدرته على الإنفاق عليها: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (النساء 34 ).ومثل الانفاق على الزوجة المطلقة وهى فى عدتها فى بيت الزوجية (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) ( الطلاق 6:  7 ).
3 ـ وكما أن هناك الجائز من الإنفاق هناك إنفاق يحارب الله تعالى ، يقول المولى جل وعلا: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً )(الأنفال 36 ).
وهناك إنفاق على الفقراء ولكن يقصد به الرياء ولا يقصد به وجه الله تعالى يقول عنه القرآن: (وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قَرِينًا )( النساء 38).
4 ـ وندخل على الإنفاق بمعنى الصدقة في سبيل الله تعالى ، وهو نوعان : الإنفاق في الجهاد والإنفاق على المحتاجين..
4 / 1 :
يقول تعالى عن الإنفاق في الجهاد: ("وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) (الأنفال 60).
وأحكام الزكاة المالية أو الصدقة المالية جاءت تستعمل مصطلح ( الإنفاق )، فالإنفاق على المحتاجين أنواع:
4 / 2   يكون أحيانا صدقة فردية لها مستحقوها يقول تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )(البقرة 215).
5
ـ ولهذا الإنفاق نسبة محددة يحددها المؤمن بنفسه حسب داخله واحتياجاته ومسئولياته وتدور فى إطار الاعتدال والتوسط : (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) (الفرقان 67).
5
ـ وله شروط وآداب:
5 / 1 :
أن يكون من مال حلال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ )(البقرة 267").
5 / 2 :
وأن يبتغى به وجه الله تعالى دون منّ ولا أذى للمحتاج: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (البقرة 262).
5 / 3 :
وليس لذلك الأنفاق موعد محدد،بل هو فى كل وقت: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)(البقرة 274) .
5 / 4 : والذي ينفق أمواله وفق أوامر الله تعالى فقد فاز بكونه من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون كما يتضح من الآيات الكريمة.
6
ـ ونلاحظ أيضا:
6 /1 :
قد يستخدم القرآن كلمة الإنفاق لتدل علي الصدقة والزكاة كما في قوله تعالي : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)( البقرة 3 )فطالما أتي الإنفاق مرادفا للصلاة والإيمان فهو إنفاق في سبيل الله.
6/ 2 : وقد يأتي التحديد بأنه إنفاق في سبيل الله كقوله تعالى : (هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ )( محمد 38 )، ومثل قوله تعالي: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ )( البقرة 261 ـ ) .
7 ـ إن الإنفاق المثمر هو ماكان في سبيل الله دفاعا عن دينه أو سدادا لحق المحتاج، والله تعالي يثيب المنفق في سبيل الله في الدنيا قبل الآخرة: (وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ)( البقرة 272 ) (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ )(سبأ 39) 
8 ـ لقد كان المنافقون في عصر النبي عليه السلام يمسكون أيديهم عن الزكاة والصدقة:(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ،ولذلك تكاثرت أموالهم واستغرقوا في التكاثر بالأموال والأولاد . ولكن الله تعالي جعل من عذابهم الدنيوي الشقاء في حياتهم بهذه الأموال وبأولئك الأولاد ، وقال للنبي عنهم : (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) (وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)(التوبة67 ،55 ،85).
  وتتكرر القصة في عصرنا.
1 ـ فبعضنا يستغرق في جمع المال من حلال أو من حرام ولا يعطي حق المحتاج ، ويهتم فقط بتأمين مستقبل أولاده كما لو كان مسئولا عن مستقبلهم من دون الله .. وتكون النتيجة أنه انشغل عن أولاده بالمال دون أن يدري فضاع الأولاد بالمال والمخدرات والموبقات فخسرهم وخسر نفسه في الدنيا والآخرة.. خسرهم فى الدنيا بالضياع ، وخسر نفسه فى الاخرة بالعذاب الأبدى فى الجحيم ، حيث لا خروج ولا تخفيف ولا موت ،بل عذاب أبدى مستمر لا ينقطع.!
2
ـ وماذا يكسب الإنسان إذا خسر نفسه وأهله فى الدنيا والآخرة ؟: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)(الزمر 15) (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ ) (الشورى 45).
3
ـ ولكى لا يخسر المؤمن نفسه يوم القيامة عليه أن يقيم الزكاة ـ بمفهومها الشامل ـ واقعا حيا فى حياته وفى سلوكه وعقيدته ، وأن يقيمها واقعا حيا فى هذه الأرض ، طالما ظل حيا . لو فعل ذلك كسب نفسه و كسب مستقبله يوم القيامة.
إن لم يفعل فسيصرخ عند الاحتضار ـ حيث لا يسمعه أحد من البشر ـ يطلب من ملائكة الموت مهلة يحاول فيه إصلاح ما فات ، ولكن دون جدوى (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(المؤمنون 99 :  101 ). ولهذا حذّر الله جل وعلا المؤمنين من ساعة الاحتضار حين يتمنى أحدهم لو جاءته فرصة ليتصدق ويتزكى:(وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) ( المنافقون 10 : 11).
4
ـ وقد يسخر بعضهم من هذه الآيات القرآنية ، ولكن سيعرف الحق عند الاحتضار حين يرى اليقين برؤية ملائكة الموت ،ويرى نفسه ـ أسيرا ـ يفارق جسده الى البرزخ فيندم حيث لا ينفع الندم ، وعندها سيعرف بالرؤية اليقينية معنى أهمله وتناساه فى حياته الدنيا ، إنه معنى (إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة).
هذا مع إن معنى (إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة ) واضح مقدما فى القرآن الكريم.
 

  (2) معنى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة

مقدمة
في أغلب ورودها جاءت كلمة الزكاة مرتبطة بإقامة الصلاة كقوله تعالى ("فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ) ( التوبة 5 ،11.والزكاة فى العرف السائد هي تقديم جزء من المال لله تعالى ، وأيضا فالصلاة هى تقديم جزء من الوقت لله تعالى نعبده فيه ، والهدف من الصلاة والزكاة هو التطهير ، تطهير الوقت وتطهير المال ، أو بمعنى آخر هو تطهير النفس..ومعروف أن إقامة الصلاة لا تعنى مجرد أداء الصلاة وإنما هي تعميق الصلة بالمولى جلا وعلا كى يخشاه المؤمن فى أثناء الصلاة وفيما بين الصلوات الخمس ، أي يكون المؤمن في حالة تقوى دائما .. وبذلك يطهر وقته ويطهر حياته وتنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ) ( العنكبوت 45 ). جعلنا الله تعالى ممن تزكى .
أولا : معنى اقامة الصلاة
1 ـ التطبيق العملى لاقامة الصلاة هو الجمع بين الخشوع فى الصلاة والمحافظة عليها.
فالصلاة تستلزم اثناء تأديتها خشوعا كما تستلزم تقوى ومحافظة على السلوك القويم فيما بين الصلوات الخمسة. أى أن يوم المؤمن المصلى ينقسم الى قسمين : قسم أصغر هو الدقائق التى يؤدى فيها الخمس صلوات الموزعة على أوقات اليقظة فى اليوم . والقسم الأكبر هو بقية الوقت الواقع بين تـأدية الصلوات الخمس ، وفى تلك الأوقات يجب المحافظة على الصلوات بالتقوى والالتزام الخلقى القويم.
2
ـ وهناك علاقة وثيقة بين الخشوع أثناء تأدية الصلاة والمحافظة على الصلاة بعد تأديتها بعدم الوقوع فى المعاصى بين الصلوات الخمس. فالخشوع أن يِؤكد المؤمن على اخلاصه فى كل كلمة يناجى بها ربه جل وعلا فى صلاته خصوصا وهو يقول فى كل ركعة فى الفاتحة " اهدنا الصراط المستقيم "، الخشوع هو الصدق فى مخاطبة رب العزة والاخلاص التام فى دعائه وعبادته. ولا يمكن أن تخشع فى صلاتك بهذا الشكل وانت تفعل الفحشاء وترتكب المعاصى بعد الصلاة وتصمم عليها اثناء الصلاة وبعدها و تصلى لربك وتقول له جل وعلا : اهدنا الصراط المستقيم. اّذا فعلت هذه فانما ترائى الناس ولا تخدع سوى نفسك.
اقامة الصلاة هو المصطلح القرآنى الذى يعنى الخشوع فى الصلاة والمحافظة عليها معا.
3
ـ وهذا يؤكد ان الصلاة مجرد وسيلة لغاية أسمى هى التقوى،أو الابتعاد عن الفحشاء والمنكر. على هذا الأساس نستطيع أن نقرأ معا الآيات الأولى من سورة المؤمنون فى ضوء ما سبق قوله عن الصلاة؛ الخشوع فيها والمحافظة عليها.( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون َالَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)وتكرر ذلك المعنى فى سورة المعارج (22-34).
4
ـ ونقيض المحافظة على الصلاة وإقامتها هو تضييعها ،أو تضييع الثمرة المرجوة منها ،أو تضييع ثوابها بأن تؤدى الصلاة وترتكب الفواحش وتعصى ، هنا لا عبرة بصلاتك ، فقد أضعتها مع أنك تصلى شكليا ومظهريا وحركيا ، ولكنها صلاة لا عبرة بها طالما لم تثمر فيك طاعة لله تعالى وتقوى وخشية منه. ومن اجل ذلك تقول الآية الكريمة توضح معنى اضاعة الصلاة عند الخلف الذى جاء بعد الانبياء (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا) (مريم59: 60(
ينطبق هذا على العرب قبل وأثناء نزول القرآن الكريم . كما ينطبق علينا بعد نزول القرآن الكريم . هم أضاعوا الصلاة حين اتبعوا الشهوات والمعاصى ومن تاب منهم وآمن ايمانا حقيقيا وعمل صالحا اصبح محافظا على صلاتة غير مضيع لها واستحق بذلك دخول الجنة. ينطبق هذا على الخلف الماضين كما ينطبق علينا الذين خلفنا اللاحقين ، ولذلك ذكر الله تعالى لنا هذه الحقائق فى آخر رسالة سماوية كى نعتبر ونهتدى. فهل إهتدينا ؟
5 ـ فى اللغة العربية والمصطلح القرآني تجد مفهوم " قام على الشىء" بمعنى حافظ عليه ورعاه.
5 / 1 :
الله تعالى وصف ذاته باسم من اسمائه الحسنى هو " القيوم" الذى لا تدركه سنة ولا نوم :( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) (البقرة 255)الآية الكريمة تشرح معنى القيوم، أى القائم على كل شىء والذى لا يغفل عن شىء.
5 / 2 :
ويصف تعالى ذاته كقيوم يحفظ أعمال كل انسان وأقواله ليحاسبه عليها يوم القيامة فيقول : (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) الرعد 33) القيوم هنا بمعنى الذى يحفظ أعمال كل انسان ، يتم ذلك عن طريق ملائكة الحفظ (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) الرعد 11 ) (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) الانفطار 10 -) ( أيضا سورة ق :16- )
5 / 3 :
لذلك يأمرنا ربنا جل وعلا أن نكون ( قوامين بالقسط ) اى قائمين على رعاية العدل والقسط :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ) النساء 135).
6
ـ ولأن العرب فى الجاهلية وقريش توارثت ملة ابراهيم بما فيها العبادات كالصلاة والزكاة و الصيام والحج فإن ( قريش) قبل وفى عهد النبوة كانت تصلى وتعرف الصلاة ولكن مع الوقوع فى الشرك وعبادة الأولياء و الانهماك فى العصيان و الفواحش ،أى كانوا يؤدون الصلاة ولكن لا يقيمون الصلاة ، ولأنهم من ذرية اسماعيل الذى وصفه رب العزة بأنه كان يأمر أهله بالصلاة و الزكاة وكان عند ربه مرضيا ( مريم 55) فقد قال جل وعلا عن ذرية اسماعيل ( العرب ومنهم قريش ) وذرية بقية الأنبياء من فرع اسحاق ويعقوب وغيرهم بأنهم أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات ، وتوعدهم بالعقاب إن لم يتوبوا ( مريم 59 ـ ) لذا نزلت الأوامر لهم فى مكة ليس بتأدية الصلاة أو بتعريفهم طريقة الصلاة ، لأنهم كانوا يعرفونها فعلا . الذى نزل لهم هو ما غفلوا عنه وهو اقامة الصلاة ، أى بالمحافظة عليها بعدم الوقوع فى الشرك والمعاصى والخشوع أثناء تأديتها.
7
ـ فى مكة جاء الأمر باقامة الصلاة ، يقول جل وعلا لخاتم النبيين :(إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ )(فاطر 18) أى من أقام الصلاة فقد تزكى وسما بنفسه لأن إقامة الصلاة تعنى تزكية النفس ، وثمرة تزكية النفس هى لصاحبها ، فمن تزكى فإنما يتزكى لنفسه ،أى هى مسئولية شخصية.
ويقول جل وعلا (نَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) ( فاطر : 29 ) هنا يجعلها رب العزة قضية عامة لكل البشر و ليس لقريش وحدها ، فكل من قضى حياته يتلو كتاب الله ويقيم الصلاة وينفق المال سرا وعلانية مصيره الجنة ، فقد قام بتجارة رابحة مع الله جل وعلا.
ويقول رب العزة فى حديثه عن صفات المجتمع المؤمن (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ )(الشورى 38) هنا تاتى فريضة الشورى بين فريضتى إقامة الصلاة وتقديم الزكاة المالية ، ويقول جل وعلا فى توضيح آخر للمجتمع المؤمن المتمسك بالفطرة السليمة :( مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )(الروم 31 ـ)، فالانابة الى الله جل وعلا طاعة وخشوعا وخشية وتقوى تستلزم إقامة الصلاة وليس مجرد تأدية حركية ظاهرية مرائية للصلاة ، ولو غابت إقامة الصلاة غاب معها توحد المؤمنين وأصبحوا طوائف ومللا ونحلا و مذاهب واحزاب ، كل حزب يكتفى بما معه ويعتقد أنه الذى على الحق و أن غيره على الباطل. وهذا بالضبط وصف لحال المسلمين الأمس واليوم..
هذه الآيات التى نزلت فى مكة ـ وغيرها ـ لم تعلم أهل مكة والعرب كيفية الصلاة لأنهم كانوا فعلا يعرفونها ويؤدونها . أمرتهم فقط بفعل ما لم يكونوا يفعلون ـ فى جاهليتهم ـ وهو اقامةالصلاة بالخشوع فيها والمحافظة عليها لكى تقوم الصلاة بدورها فى سمو السلوك الخلقى وتهذيبه. وسرعان ما عاد المسلمون الى ما كانت عليه قريش من تقديس البشر والحجر والتفرق فى الدين و تضييع الصلاة والزكاة ، مع المحافظة الشكلية المظهرية السطحية فى تأدية الصلاة . اى عادوا الى الجاهلية الخلقية و الدينية ، ولا يزالون...وانظر حولك .. وانظر للعالم المتحضر .. وقارن..
ثانيا : ايتاء الزكاة هى نفسها اقامة الصلاة
1 ـ للقرآن الكريم مصطلحاته الخاصة المخالفة لمفاهيم التراث الذى صنعه المسلمون بعد نزول القرآن بعدة قرون.اقامة الصلاة فى مصطلحات القرآن تعنى الخشوع فى أثناء الصلاة والتزام التقوى والسمو الخلقى بين الصلوات.لكن اقامة الصلاة فى حياتنا الدينية التراثية تعنى رفع الأذان للمصلين فى المسجد بأداء الصلاة بعد الأذان العام للصلاة. ويفهم معظم المسلمين – تبعا للفقه التراثى – ان ايتاء الزكاة هو اعطاء الصدقة فقط ، وبذلك يفهمون الأمر باقامة الصلاة وايتاء الزكاة على انه أمر بشيئين مختلفين هما الصلاة واعطاء الزكاء وهى عندهم لا تعنى سوى شىء واحد فقط هو اعطاء الصدقة للفقراء والمستحقين.
2
ـ طبقا لمفاهيم القرآن الكريم ومصطلحاته فان اقامة الصلاة هى نفسها ايتاء الزكاة ، أى أنه أمر واحد بشىء واحد هو التطهر والسمو الخلقى والتقوى. الخلاف الوحيد هو أن وسيلة اقامة الصلاة تتركز فى الخشوع فى الصلاة اثناء تأديتها - ثم بعد تأديتها تكون المحافظة عليها بالتزام السلوك القويم . أما الزكاة فهى تزكية النفس وتطهيرها والسمو بها بوسائل كثيرة من الصلاة والذكر لله تعالى واعطاء الصدقات وكل فعل صالح مقصود به وجه الله تعالى.
نبدأ توضيح ذلك باختصار :
2 / 1- ان الاسلام باختصار هو تزكية النفس بالعقيدة الصحيحة والسلوك القويم ، لذلك فان موسى حين دعا فرعون للاسلام قال له كلمة واحدة : (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ) النازعات 18 ) بل ان رب العزة قد أوجز مفهوم المشرك بأنه الذى لم يقم بتزكية نفسه : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) فصلت 6-7 ) فالمشرك يضع كل همه فى الدنيا ويبيع من أجلها الآخرة. يرتكب كل المعاصى فى دنياه غافلا عن تزكية نفسه بالتقوى لذا ينتهى الى الجحيم.

لقد خلق الله تعالى النفس الانسانية على أساس الفجور والتقوى ، تقبل أن تكون تقية أو فاجرة، ثم يختار الانسان بارادته طريقه ، ان اراد الهداية قام بتزكية نفسه ، وان أراد الفجور سقط بنفسه الى مستنقع الغواية. اذن فالانسان يختار بين اثنين : تزكية نفسه أى تطهيرها والسمو بها ، أو الهبوط بنفسه الى حضيض الرذيلة. وليس هناك من طريق وسط . المهم هنا أن الزكاة للنفس تعنى السمو بها. اقرأ هذا المعنى فى قوله تعالى :" وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا " الشمس 7- )
2 / 2 -
ولذلك فان الهداية للحق من معانى الزكاة . والهداية هى اختيار شخصى يبدأ باختيار الانسان لنفسه طريق الهداية ثم تأتيه هداية الله له تؤكد ما اختاره لنفسه. والهداية كالزكاة هى عملية تطهير للنفس من الأحقاد والشرور وتقديس غير الله تعالى. ومن اهتدى فقد اهتدى لنفسه حسبما قال رب العزة :" مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ) الاسراء 15 ) وبالمثل فان من يتزكى أى يتطهر فانما يتزكى لنفسه (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ) فاطر 18)وفى النهاية فان الجنة هى مكافأة من تزكى وتطهر فى الدنيا أو اهتدى ، يقول تعالى (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ) طه 76).
ان وظيفة النبى هى أن يزكى قومه بالكتاب السماوى الذى يدعوهم اليه، أو يهديهم اليه ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ . ) البقرة 151 ) وتكررت التزكية كوظيفة للنبوة القائمة على الكتاب فى مواضع أخرى فى القرآن الكريم : (البقرة 129 – آل عمران 164 – الجمعة 2).
ولارتباط الهداية بالزكاة فقد وصف الله تعالى عيسى ويحيى عليهما السلام بالطهر والعفاف والسمو الخلقى، أى كان "غلاما زكيا " أو كان "زكيا" ( مريم: 19 ، 13) ..
2 / 3- هناك وسائل للزكاة ، بمعنى ان ايتاء الزكاة يعنى اختيار "أزكى " أو أطهر أو أسمى الخيارات وهى التشريعات القرآنية ،ومنها الاحسان فى التعامل مع الزوجة المطلقة( البقرة 232 ) وفى الاستئذان وفى غض البصر والعفاف الخلقى ( النور 28 ، 30 ) وتلك وسائل للوصول الى " ايتاء الزكاة " أو تزكية النفس التى هى الهدف الأعلى للمؤمن.
وهناك وسائل أخرى أشار اليها القرآن مثل الصلاة وذكر الله تعالى ، ومعروف ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر- أو يجب أن تكون كذلك – وكذلك ذكر الله تعالى بمعنى تعظيمه وتقواه . (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) المجادلة 45) وكذلك من وسائل التزكية – أو ايتاء الزكاة - الصلاة وذكر الله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) الأعلى 14-15 ) ومنها خشية الله تعالى واقامة الصلاة (إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) فاطر 18.
وأخيرا منها اعطاء الصدقة المالية فالمؤمن المفلح فى الآخرة هو (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ) الليل 18 ) ولذلك أمر الله تعالى خاتم النبيين بأن يأخذ صدقة من المؤمنين ليتطهروا ويتزكوا :(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ) التوبة 103. .
اذن فايتاء الصدقة هى مجرد وسيلة من وسائل ايتاء الزكاة ، لأن الزكاة هى التطهر القلبى والسلوكى الذى يجعل المؤمن طاهرا مستحقا للجنة<s"ltr">.
كان انتهاء المهلة هو انقضاء الأشهر الحرم .واعتبر رب العزة كفهم وتوبتهم عن الاعتداء اقامة للصلاة وايتاء للزكاة : ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) التوبة 4-5 ).. (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) التوبة 10 -11).
ان اقلاعهم عن الاعتداء والظلم هو ـ بحسب الظاهر ـ اقامة الصلاة وايتاء الزكاة . وهذا هو المقياس البشرى الذى نستطيع الحكم عليه. فلا نستطيع مثلا أن نعرف ان كان الله تعالى سيقبل صلاتهم وصدقاتهم أم لا ، ولا نستطيع أن نعرف اذا كانوا يخشعون فى صلاتهم أم يراءون الناس. ليس ذلك لنا ولا نملكه. الذى نملك الحكم عليه فقط هو سلوكهم الخارجى ، هل هم مسالمون أم معتدون، هل هم ابرياء ام مجرمون ، فالمسالم الذى لا يظلم احدا – فى رؤيتنا البشرية الظاهرية - هو المقيم للصلاة وهو الذى يؤتى الزكاة حتى لو لم يكن يصلى ولا يدخل المسجد أصلا. والفاجر الظالم عندنا هو الذى يضيع الصلاة مهما كان مصليا ، ومهما اتسعت علامات السجود على جبهته.
ونلفت النظر هنا الى أن المؤمنين من أصحاب النبى محمد فى حياته كانت جباههم تعلوها علامات السجود من كثرة صلاتهم ،أى كانوا من حيث المظهر مسالمين ومقيمين للصلاة ومؤتين للزكاة ، ولكن الله جل وعلا حكم بأنهم ليسوا جميعا من أصحاب الجنة ، فقال عن صفاتهم الظاهرة (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ) وقال عن مصيرهم فى الآخرة (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا )(الفتح 29 ) فالذين آمنوا فعلا و عملوا الصالحات فعلا لم يكونوا كل أولئك الذين حول خاتم المرسلين ، لذا جاء الوعد للمؤمنين الصالحين فقط منهم ، ولم يقل رب العزة حسب السياق اللغوى ( وعدهم الله مغفرة و أجرا عظيما)..
ونعود لآيتى سورة التوبة:(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) التوبة 4-5 ).. (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )(التوبة 10 -11 )، ونقرر أنه لا شأن لاعطاء الصدقة هنا بايتاء الزكاة المذكور فى الآيتين الكريمتين من سورة التوبة ، فايتاء الزكاة هو التطهر والسمو الخلقى . الدليل ان الدولة الاسلامية ليس لها ان تفرض على الناس تأدية الصلوات الخمس ، وليس لها أن تجمع الصدقات من الناس بالقوة والارغام ، اذ لا اكراه فى الدين – أى لا إكراه فى دخول الدين أو فى الخروج منه ، كما لا إكراه فى تأدية شعائره من صلاة وصيام وحج وصدقات وقراءة للقرآن وقيام لليل وتسبيح للمولى عز وجل. كل ذلك هى حقوق الله تعالى علينا ، وعلينا بدافع من التقوى أن نفعلها ابتغاء مرضاة الله تعالى وليس خوفا من السلطان أو مراءاة للناس.
وقد كان المنافقون فى عهد النبى عليه السلام يؤدون الصلاة ولا يقيمونها ، أى يتظاهرون بالصلاة رياء ونفاقا، لذا لم يقبلها الله تعالى منهم واعتبرها خداعا ليس لله تعالى وانما لأنفسهم (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ) النساء 142 ). أولئك المنافقون أيضا كانوا يعطون الصدقات متطوعيم لستر حالهم ، ولكن مع حقد شديد ، ولأن الله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور فقد أخبر عن مكنون قلوبهم ومنع النبى أن يأخذ منهم صدقاتهم : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ) التوبة 53 – 54)..
فى ضوء هذا التوضيح القرآنى فان النبى محمدا عليه السلام لم يرغم الناس على اعطاء الصدقات ولم يرغمهم على تأدية الصلوات وسائر حقوق الرحمن. أما حقوق العباد – أو حقوق الانسان – فلا بد من حفظها والزام الناس باحترامها، لذا هناك عقوبات للقتل والزنا والقذف وقطع الطريق.
ولذلك فان المشركين المعتدين حين نقضوا العهود وأغاروا على المسلمين المسالمين أوجب الله تعالى قتالهم حفظا للحقوق البشرية، وجعل مقياس الطاعة هو الكف عن الاعتداء والتزام السلام.
ووفقا لمصطلحات القرآن التى غفل عنها أئمة التراث فان الاسلام له معنيان:
1- "
السلام " أو المسالمة ، وهو هنا معنى سلوكى يستطيع أن يحكم عليه البشر حسب الظاهر فى التعامل مع الناس ، فكل انسان مسالم فهو مسلم بغض النظر عن عقيدته ودينه ، وليس لأحد أن يحكم على عقيدة أحد أو درجة ما فى قلبه من اخلاص أو رياء او نفاق أو اشراك. مرجع ذلك لله تعالى وحده يوم القيامة.

2-
الاستسلام لله تعالى والانقياد له وحده : هذا هو الاسلام فى معناه القلبى العقيدى فى التعامل مع الله تعالى . انه استسلام لله جل وعلا فى العقيدة فلا اله الا الله ، وفى السلوك بالطاعة المطلقة له تعالى وبتقواه وحده لا شريك له . وهذا ما سيظهر فيه الحكم على كل منا يوم القيامة حيث سيحكم علينا الواحد القهار الذى لا يخفى عليه شىء فى الأرض والسماء.
وطبقا لمعنى الاسلام الظاهرى فان الذى يقيم الصلاة ويؤتى الزكاة هو كل انسان مسالم لا يعتدى على أحد ولا يظلم أحدا بغض النظر عن عقيدته أو صلاته . المهم ألا يعتدى على أحد أو لا يظلم أحدا.
الشرك أو الكفر معناهما واحد فى المصطلح القرآنى ( التوبة 1-2 -17 )( غافر 42 ) ولهما ايضا معنيان:
1--
سلوكى ظاهرى فى التعامل مع البشر ويستطيع ان يحكم عليه البشر، والكفر والشرك هنا يعنيان الاعتداء والظلم للبشر, ولذا تأتى من مرادفاتهما فى القرآن مصطلحات مماثلة مثل الظلم – الفسق – الاجرام – الاعتداء. كل من يرتكب جرائم القتل ويظلم الناس ويستحل دماءهم فهو مشرك كافر حسب سلوكه ، ولا شأن هنا بعقيدته. وعلى هذا الأساس تأتى تشريعات القرآن الكريم فى التعامل الظاهرى مع المشركين فى الزواج وفى الموالاة مثلا، فلا تتحدث عن شركهم العقيدى وانما السلوكى الذى يمكن لنا أن نحكم عليه حسب تصرفاتهم العدوانية .( البقرة221 ) ( الممتحنة 1- 13 ) من المكن ان تصف بالكفر والشرك اسامة بن لادن ومن هم على شاكلته ممن يقتلون الابرياء ويعتدون على من لم يعتدى عليهم– طالما لم يتوبوا.
2-
الشرك بالمعنى العقيدى اى اتخاذ أولياء وآلهة مع الله تعالى وتقديس البشر والشجر والحجر. وهذه عادة سيئة يقع فيها المسلمون وغيرهم ، مع ادعاء معظمهم بالايمان القويم ، لذلك فان الذى سيحكم على الناس جميعا هو الله تعالى يوم القيامة, اذ أنه ليس لهذا الشرك العقيدى عقوبة فى الدنيا اكتفاء بالخلود فى النار يوم القيامة . الله تعالى – وهو الأعلم بالقلوب – أكد فى القرآن أن اغلبية البشر يقعون فى الشرك العقيدى وانهم لا يؤمنون بالله تعالى الا وهم مشركون . ( يوسف 103- 106 ) لذا فان الفصل فى هذا الموضوع هو لله تعالى يوم القيامة ، وذلك ما تردد فى عشرات الآيات القرآنية. عندها – يوم القيامة – سيدخل الجنة الذين أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فى سلوكهم السامى الظاهرى وفى عقيدتهم الصحيحة معا.

 

 

الفصل الأول

دورالزكاة المالية ( الصدقة ) فى تزكية النفس عقيديا ( 3)

مقدمة:
1
ـ تعرضنا فيما سبق لمفهوم الزكاة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأنها تعنى التزكية للنفس والسمو بها ،وأن تأدية الصلاة وإعطاء الصدقة هى مجرد وسائل للتزكية، لأن التزكية هى المقصد الأصيل فى تشريع الصلاة والصدقة.وهنا نستشهد بقول يقول رب العزة عن الزكاة المالية ودورها:(وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى)(الليل 15 :21 ) أى سينجو من عذاب النار ذلك المتقى الذى كان فى الدنيا يؤتى المال وينفقه تزكية لنفسه يبتغى به وجه ربه جل وعلا ، ولذا لا يلتفت الى رد الفعل من الناس ، ولا يعتقد أن باعطائه المال له فضل أو منّة على أحد ، و أنه ليس صاحب فضل أو نعمة على من يأخذ منه المال ، فكل ما يريده هو رضى الله جل وعلا عليه ، ولذلك سينعم هذا المتقى فى الآخرة برضى ربه عنه ، وسيرضى بمقام النعيم فى الجنة.
2
ـ واقع الأمر أن للزكاة المالية ( الصدقة ) دورا فى السمو بعقيدة المؤمن ، كما أنها الأساس فى السمو بأخلاقه ، كما أنها هى الأساس فى تشريعات الصدقة أو ( الزكاة المالية ) . وكلها تتداخل مع بعضها بحيث يصعب ـ أحيانا ـ الفصل بينها.
ومن خلال التزكية نفهم التشريعات القرآنية عن الزكاة المالية أو الصدقة ، واختلافها عن تشريعات (الزكاة ) فى الدين الأرضى السّنى.ونتوقف هنا مع بعض ملامح التزكية العقيدية كأساس فى الزكاة المالية ،أو الصدقة.  
أولا : الايمان بأن المال مال الله جل وعلا:
1
ـ وتفسير ذلك هو أن الله جل وعلا هو الرزاق ، وهو صاحب المال فى الأصل ، فأنت حين تنفق فأنت لا تنفق من مالك ولكن من مال الله الذى أعطاه لك (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) ( النور 33 ) والمؤمن يجعل ذلك فى حسبانه ، ويعرف أنه ليس المالك الحقيقى للمال ، بل هو مستخلف فى ذلك المال الذى أعطاه الله تعالى لك.
2
ـ والاستخلاف هنا يعنى المسئولية ، والمسئولية تعنى وجود أوامر مفروض تنفيذها ، فالذى استخلفك على هذا المال هو الذى أمرك بالانفاق منه (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (الحديد 7).
3
ـ والاستخلاف يعنى أيضا قدرة صاحب المال على عقابك بحرمانك من هذا المال طالما تسىء استخدامه ولا تدفع الحقوق التى عليك ، أى فالذى رزقك بهذا المال يستطيع ليس فقط حرمانك منه ، بل يستطيع أن يتحول ذلك المال الى محنة لك ، يظل معك ليؤرقك و يسلبك راحة البال ، ويعطيك كثرة الأمراض من ضغط الدم الى أمراض القلب و المعدة ، عدا الأمراض النفسية من القلق والتوتر والأمراض العصبية.
وفى النهاية فهذا المال إما أن تتركه بالموت ،أو أن يتركك بالخسارة ، وفيما بين هذا وذاك فأنت مسئول ومحاسب أمام الله جل وعلا عما أعطاك من رزق مالى أو عينى.
4
ـ وهكذا فهنا جانب عقيدى هو الايمان بأن المال مال الله جل وعلا ، وأنه استخلفنا فيه لنقوم بحقه ، ولنعطى حقه ، وفق التشريع الالهى فى إعطاء الصدقة أو الزكاة المالية.
ثانيا :إيمان البشر بالدنيا أم بالآخرة : أو : البشر وإرادة الدنيا أو إرادة الآخرة:
1
ـ كل إنسان يتمنى أن يكون ثريا مليونيرا ولا يرجو أبدا أن يكون فقيرا مملقا محتاجا ، ولكن توزيع الرزق بيد الله جل وعلا وحده ، ولا يستطيع إنسان أن يحقق كل ما يريده إلا بمشيئة الرحمن جل وعلا ، ولهذا يغتنى أناس ثم يفتقرون ، ويتحول فقراء الى أغنياء ، ولا يضمن أكبر بليونير فى العالم أن يظل هكذا الى نهاية العمر.واقع الأمر أننا نحن ـ البشر ـ يتخللنا المال ذاهبا وآتيا و العكس ، يتنقل بيننا سواء كان مال سائلا وارقاما فى أرصدة البنوك ،أو مجرد عملات ورقية ،أو كان ملكية عينية من أرض وعقارات نتوالى على تملكها ، ونموت ليرثها آخرون بعد أن كانت لمن كان قبلنا ، ثم فى النهاية نحن محاسبون ومؤاخذون ومساءلون عما فعلناه بهذا المال وبتلك (الأعراض ) العينية فترة حياتنا فى هذا العالم.
2
ـ ويتصارع البشر ـ أو معظمهم ـ فى سبيل الثروة ، ومن أجلها يتعاركون للوصول الى السلطة و النفوذ. والثروة و السلطة وجهان لعملة واحدة ، تؤدى إحداهما للأخرى ، فالضابط فى جهاز الشرطة يستغل نفوذه وسلطته ليجمع المال والعقارات ، والثرى يصل الى مجلس الشعب ليحصل على نفوذ ، به يحمى ثروته ويحصنها بال ويضاعفها.
وفى سبيل السلطة والثروة ترتفع شعارات للضحك على الذقون ، منها شعارات دينية أو قومية أو وطنية أو اجتماعية للتلاعب بعقول البسطاء و العوام و اللأغلبية الصامتة ، ولركوب ظهورهم لبلوغ الهدف الحقيقى وهو الثروة و السلطة.أسوأ وأحقر أولئك المخادعين هم من يخلط السياسة بالدين. !. وكما يقال فى أمريكا بكل بصراحة نحتاجها فى بلاد العرب و المسلمين:( كل شىء هو فى سبيل المال: It is all for money ) فالمال هو المقصود الأعظم لكل البشر إلا من هداهم الله جل وهلا و أرادوا الآخرة وعملوا لها وهم أحياء فى هذا العالم.
3
ـ وبالتالى فنحن هنا أمام تقسيم قرآنى للبشر فى هذه الناحية ، وهو تقسيم رائع وهام لم يأخذ حقه من التدبر برغم أهميته الاخلاقية والنفسية و برغم ما سيترتب عليه من خلود فى الجنة أو النار بغض النظر عن المسميات والألقاب و الشعارات.

3 / 1 : هناك من يريد الدنيا فقط ، يعمل لها ، وحتى لو صام وصلى وتبرع وتصدق فهو لأجل متاع هذه الدنيا وزخارفها من مال ومتعة وصحة وأولاد و جاه ، ولا وجود مطلقا للآخرة فى حساباته أو فى حسبانه ، يبذل فى سبيل الدنيا كل دقيقة فى صحوه ونهاره ،وعليها يغمض عينيه قبل النوم ويفتحهما عند اليقظة ، وفى سبيلها تتكون صداقاته وعداواته ومنافساته ورؤيته للدين والدنيا . عبد الدنيا هذا لن يحصل فيها إلا على الرزق المقدر له سلفا مهما ركض وقفز وجرى ، ومهما بكى وصرخ واشتكى ، فمثله بقية البشر من أغنياء وفقراء ، لا ينال أحدهم سوى الرزق المقرر له كثيرا أو قليلا.وعبد الدنيا لن يرضى بالمقدر له وسيظل يطمع فيما فى يد الآخرين ، غنيا كان أم فقيرا.ولكنه بهذا ( النصيب ) المقدر له فى الرزق من لدن الله جل وعلا لن يكون له فى الجنة نصيب مهما عمل من الصالحات لأنه لم يؤمن باليوم الآخر ولم يعمل له حسابا.
يقول جل وعلا : (مَّن كانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا ) أى من كان يريد الدنيا العاجلة ،فإن الله جل وعلا يعجل له فيها رزقه حسب قوانيه هو جل وعلا (مَّن كانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيد. ). أى طبقا لارادة الله جل وعلا وطبقا لمشيئته هو يأتى الرزق وفيرا أو قليلا لهذا أو ذاك ، إختبارا لهذا أو ذاك . لا دخل هنا لايمان أو كفر ،أو للطاعة أو المعصية.
3 / 2 :
يتعلق الأمر بشيئين : أولهما سبق قوله وهو مشيئة الرحمن وحده فى توزيع الرزق و التفاضل بين البشر فيه يبسطه لمن يشاء ، ويقلله لمن يشاء ، والآخر هو إرادة العبد ، هل هو عبد للدنيا لا يرى سواها أم هو عبد لله جل وعلا يؤمن أن الله جل وعلا خلقه وأعطاه حرية العبادة أختبارا له ، وأمره باخلاص العبادة له ، وقال له فى صراحة (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) ( الذاريات 56 ـ ) وترك له حرية الطاعة أو المعصية.
إرادة الانسان هنا هى عقيدته ومدى إيمانه أو كفره ، وهو يتمتع بكامل حريته هنا ، ولادخل لايمانه أو كفره بحظه ونصيبه فى الرزق لأن الرزق أحد الحتميات الأربعة ( الميلاد و الموت والرزق و المصائب ) التى لا مجال للافلات منها ، ولا حساب عليها . الحساب فى حرية الانسان فى العقيدة وفى الطاعة و المعصية فى تعامله مع الناس ورب الناس جل وعلا. والذى أراد الدنيا ووجه وجهه نحوها سيأخذ رزقه المقدر و الحتمى فى الدنيا وفق مشيئة الله تعالى وارادته وقسمته ، ولكنه فى الآخرة ليس له إلا النار..
3 / 3 : قد يقال : ولكن هذا الشخص الذى أراد الدنيا قد عمل الصالحات من حج وصيام وتشييد للمساجد و دور للايتام و المستشفيات ، فكيف ينتهى به الحال الى الخلود فى النار؟..ونقول إنه طالما وجّه وجهه للدنيا وسعى سعيه للدنيا فقط فكل أعماله الصالحة لم تكن لوجه الله تعالى و لكن للرياء و الشهرة و الاستحواذ على رضا الناس ، والله جل وعلا لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا لوجهه دون أدنى ذرة من نفاق او رياء.
3 / 4 :
وقد يقال ايضا : ولكن لا بد لأعماله الصالحة التى أراد بها الدنيا أن يكون لها مقابل . ونقول هذا صحيح فله أجر فى الدنيا مقابل عمله الصالح للدنيا ، والله تعالى وعده بأن يعطيه أجره فى الدنيا ، ويوفيه هذا الأجر فى الدنيا ، ولكن ينتظره أيضا الخلود فى النار ، يقول جل وعلا (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )( هود 15 : 16 )( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ) ( الشورى 20)...
4 هذا عمّن أراد الدنيا .. فماذا عمّن أراد الآخرة ؟ .
إرادة الآخرة ليس مجرد شعار يرفع ، ولكنه إيمان يؤكده سلوك ملتزم ،أى سعى فى الدنيا بالعمل الصالح والاخلاق الحميدة ينبغ من رغبة حقيقية تبتغى وجه الله جل وعلا فى كل تصرف ، دون اهتمام برضى الناس او سخطهم.
4 / 1 :
هذا الذى يريد الآخرة ويسعى فى الدنيا من أجلها مؤمنا بالله تعالى و باليوم الآخر ، هو لا يتكاسل عن السعى للمعاش بل يسعى فى الدنيا فى جد واجتهاد مثل من أراد الدنيا ووجه وجهه نحوها . ولكن الفارق فى الايمان ؛ وفى المصير.وهذا الذى إختار الآخرة تسرى عليه أيضا نفس القوانين الحتمية فى الرزق ، فقد يكون فقيرا أو غنيا ، أو تقلب بين الفقر و الغنى شأن من أراد الدنيا ، ولكن الفارق فى الايمان وفى المصير.
4 / 2 :
يقول جل وعلا عن هذا الصنف الآخر من البشر : (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ) هذا أراد الآخرة وسعى لها سعيها الصالح أى عمل الصالحات وهو مؤمن صحيح الايمان ، ولذلك سيكون سعيه مشكورا فى الآخرة بينما أحبط الله عمل عبد الدنيا فلن يغنى عنه شيئا.
ومع أن الله جل وعلا لم يجعل للايمان أو الكفر دخلا فى قوانين الرزق إلا إن الفارق هائل بين هذين النوعين من البشر ،وهذا الفارق مترتب على إرادة هذا الدنيا ، وإرادة ذاك الآخرة.
4 / 3 :
ومن الطبيعى ان الفائز فى الآخرة هو الذى اختار الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن ، موقنا ان هذه الدنيا التى تنتهى بالموت لا تستحق أن يقصر الانسان عليها إرادته وعمله ونيته و ايمانه.أما الآخر فقد غفل عن هذه الحقيقة البسيطة ولم يقتنع بما يراه حوله من موت ينتهى اليه الجميع ، ومال يتنقل بين أيدى هذا وذاك لا يدوم لأحد . وبذلك يكون مريد الآخرة قد فعل الأفضل لنفسه فاستحق بايمانه وعمله ان يفضله الله تعالى على مريد الدنيا ، يقول جل وعلا:(كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ) ( الاسراء 18 : 21).
4 / 4 :
أى لمريد الآخرة تفضيل فى الدنيا بما يتمتع به من رضا وصبر وحلم وتوكل على الله جل وعلا و راحة بال ، عكس صريع الدنيا ومريدها ، ثم تأتى الآخرة بالجنة لمريد الآخرة وبالنار لمريد الدنيا.
5 :
ما يخص موضوعنا هنا عن دور التزكية أن من يريد الآخرة يسعى فى الدنيا بما معه من مال يبغى به وجه الله جل وعلا ، يشترى به الآخرة لينجو من عذابها ، يقول رب العزة :(وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى)(الليل 15 :21)  .
صدق الله العظيم.!!

الفصل الثانى من الزكاة تشريعات الزكاة المالية (الصدقة ) فى الاسلام

 

الفصل الثانى من الزكاة

تشريعات الزكاة المالية (الصدقة ) فى الاسلام

مقدمة
الزكاة هى الوجه الاجتماعي للإسلام، وهى إحدى الوسائل الإسلامية في إقامة المجتمع الفاضل وفي إقامة النفس "الزكية" في داخل كل إنسان ، فللزكاة دور اقتصادي إجتماعي كما أن لها دوراً أخلاقياً نفسياً ، والمسلم الذي يحرص على تأدية الزكاة وعلى تزكية النفس وتطهيرها دائماً يتسائل عن مقدار الزكاة الواجب عليه إخراجه ومتى يخرج زكاته وما الفرق بين الزكاة والصدقة والإنفاق. والفقهاء في تاريخ المسلمين إجتهدوا في الإجابة على هذه الأسئلة باختراع أحاديث واصدار أحكام إمتلأ بها باب الزكاة في الفقه. ولأن الزكاة أكثر أبواب الفقه ارتباطاً بحركة المجتمع ودرجة تطوره فإن الكتابات عن الزكاة وتطبيقاتها تعبر دائماً عن العصر الذي تكتب فيه، ومن يحاول في عصرنا أن يقرأ عن الزكاة ومقدارها في كتب التراث سيفاجأ بمكاييل وموازين وعملات وعبارات وإصطلاحات لم تعد معروفة في عصرنا ، كما أن مفردات حياتنا العصرية الاقتصادية والمالية  لن نجد حكماً فقهيا في كتب التراث، هذا بالإضافة إلى ما إمتلأت به كتب الفقه من اختلافات وتفريعات واستطرادات وتعقيدات لا يصبر عليها القاريء المتعجل الذي يبحث عن الإجابة العملية العصرية لأسئلته. وقد سبقت حلقات فى سلسلة مقالات الزكاة ، وكان التركيز فيها اكثر على الجانب الخلقى و التربوى و الايمانى فى موضوع الزكاة باعتبارها تزكية وسمو بالنفس المؤمنة ، ثم تأتى تزكية المال أو الصدقة احدى عناصر هذه التزكية . ونختم كتاب الزكاة بهذا الفصل الذى يتجول مع قضايا متفرقة عن الزكاة المالية او الصدقة ، ونبدأ فى هذا الجزء بالتأكيد على بعض ما سبق من أحكام الزكاة المالية لمجرد التذكير . 


(1 ) :  مقدار الزكاة
1 ـ يلفت النظر أن القرآن حدد النصاب في الميراث بالنصف والثلثين والثلث والربع والسدس والثمن، وجعل ذلك من حدود وحذر من يتعداها بالخلود في النار "4/12 :14 " ويلفت النظر أيضا أن القرآن حدد نسبة النصف من الصداق للمطلقة قبل الدخول بها "2/ 237 " ، وفي نفس الوقت فإن التحديد الصارم لمقدار الزكاة أو الصدقة لم يأت في القرآن الكريم، والسبب أن الميراث وحقوق المطلقة من حقوق البشر التي لابد من تحديدها بالدقة منعاً للخلاف بين الناس، أما الإنفاق في سبيل الله فهو تعامل خاص بين الله تعالى والعبد ويعود نفعه على المجتمع، لذا اكتفى القرآن فيه بالضوابط دون تحديد نسبة ليتيح الفرصة للتسابق في الخير ولينمي في نفس المؤمن عوامل التقوى ومحاسبة النفس والضمير، أو أن يتمكن المؤمن من "تزكية نفسه" وذلك هو هدف الزكاة ومعناها.  ثم إن المؤمن في نهاية الأمر هو الأدرى بحقيقة الدخل الذي يأتيه وهو أعلم من غيره من البشر بحدود إمكاناته ومدى الضروري في استهلاكه ومدى ما يستطيع الإنفاق به في سبيل الله ، ومتى ينفق ومتى يؤثر على نفسه والوقت الأنسب والمقدار الأمثل ، إلى آخر تلك التفصيلات الدقيقة شديدة الخصوصية في أحواله المادية والعائلية والإجتماعية والتي لا يطلع عليها إلا المولى الأعظم سبحانه وتعالى . وإذا كان الانسان يستطيع أن يخدع مصلحة الضرائب ـ وأحياناً ـ ما يفعل برغم تحديد النسب الثابتة فيها ـ فإنه لايستطيع أن يخدع الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والمؤمن يعلم أن ربه تعالى يراه ويعلم خباياه ويكافئه إذا تصدق ويعاقبه إذا بخل وأمسك. من هنا كان الأنسب هو الضوابط التقريبية لا الحدود الثابتة.

2 ـ  وجدير بالذكر أن القرآن بينما يحدد النسب الصارمة في الميراث فإنه يترك المجال مفتوحاً أمام إجتهاد المؤمن في الخير في موضوع الوصية عند الموت، فالقرآن يجعل الوصية عند الموت حقاً مكتوباً على المتقين إلا أن مقدارها يخضع للمتعارف عليه وبتقدير الموصي نفسه مع مراقبة المحيطين به حتى لايحدث إجحاف في الوصية، والهدف هنا أن الوصية تعامل قبيل الموت بين الموصي وربه، ولذلك فيه مجال مفتوح للخير بينما تظل باقي التركة خاضعة للنسب المقررة في الميراث من النصف والربع والثمن. وبذلك دخلت الوصية في مجال التقدير دون التحديد ، شأنها شأن الصدقة، ودليلنا أن الوصية لها مستحقوها الذين أوصى القرآن إعطاءهم الصدقة، فالله تعالى يقول عن الصدقة الفردية "( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )( البقرة 215 )، فالصدقة الفردية للوالدين والأقارب واليتامى والمساكين، ويقول تعالى عن الوصية: ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) ( البقرة 180 ) ، فالوصية هنا أيضاً للوالدين والأقربين ، والصدقة والوصية بالمعروف الذي يخضع للضوابط وليس بالنسب الثابتة المحددة.

3ـ   وكيف يحدد القرآن نسبة محددة للصدقة والزكاة وهو يدعو المؤمنين للتسابق في الإنفاق في سبيل الله؟..يقول تعالى "( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ   ) ( البقرة 245 ) (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ  ) ( الحديد 11 ) ،  ويقول تعالى في المسارعة إلى الخير "( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) ( آل عمران 133 : 134 ) فهنا دعوة للتسابق والمسارعة للزكاة والصدقة في كل حال من اليسر والعسر. والله تعالى وهو الغني عن العالمين يجعل الصدقة قرضاً ويقول لنا :(مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا )!! .  وحيث يوجد هذا الأسلوب فلا يمكن أن تتخيل وجود نسبة محددة. فالتسابق في الخير ينفي وجود النسبة الثابتة.
4 ـ  القرآن لم يحدد نسبة في الزكاة ومع ذلك يقول:( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج 24 : 25 )   فكيف يكون هناك حق معلوم دون تحديد نسبة ؟ ـ نقول : العبادات كلها وسائل للتقوى، ينطبق ذلك على الصلاة والصيام والحج كما ينطبق على الزكاة التي تهدف إلى السمو بالنفس وتزكيتها ، وذلك يكون بالتعاون المباشر مع الله تعالى ومحاسبة النفس على ما تنفق وعلى ما يأتيها من رزق وعلى ما ينبغي إخراجه من ذلك الرزق لوجه الله،  و المؤمن يعلم أن الله مطلع عليه وإنه لاملجأ من الله إلا إليه.. وبذلك يتربى المؤمن على تقوى الله ويتحقق الهدف من فريضية الزكاة ، وأساسها التسابق في رضى الله . والمؤمن يعتيبر الزكاة حقاً عليه للمستحقين وهذا ما حرص القرآن على تأكيده فيقول تعالى ": (وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) ( الانعام 141 )، ويقول تعالى عن حقوق الأقارب والمسكين وابن السبيل " (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) ( الاسراء 26 ) ( فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ( الروم 38 ) ، إذا هو حق له في مالك وأنت مدين لهم بذلك الحق . وللسائل والمحروم أيضاً حقوق في مالك ": (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) ( الذاريات 19 ) . والمؤمن طالما عرف أن عليه حقاً للمحتاجين والسائلين وأولي القربى كان عليه أن يضع بنفسه النسبة الملائمة لظروفه الثابتة والمتغيرة وحسب احتياجه ودخله ، وأيضا حسب حاجة المحتاجين حوله ، ثم لابد أن يلتزم بأداء ذلك الحق الذي عليه لهم حتى يكون  ذلك الحق شيئا معلوما له كلما جاءه رزق ،  وحينئذ ينطبق عليه قوله تعالى :( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج 24 : 25  ) . وحين يحدد المؤمن بينه وبين ربه تعالى حقاً يكون معلوماً لديه فإنه بذلك يتعامل مع الله مباشرة ويحتل مرتبة المتقين المحسنين ، وهنا يتحقق المراد من الزكاة ، زكاة النفس وتطهيرها وسموها.
5 ـ وهنا تتجلى حكمة القرآن في وضع الضوابط القائمة على الاعتدال والتوسط ، سواء كانت الزكاة التي تأخذها الدولة أو كانت الصدقة الفردية التي يحددها المؤمن بينه وبين ربه ويكون ذلك التحديد معلوماً له وحقاً عليه واجب التأدية. وقد كانوا يسألون النبي عليه السلام عن تحديد  نسبة الزكاة والصدقة فنزل قوله تعالى" (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ )(البقرة 219). والعفو هو الزائد عن الحاجة ، أى ما يفيض ويزيد عن حاجاتك الضرورية تنفقه صدقة . والمرجعية هنا فى تحديد العفو هو التقوى ورغبة المؤمن فى تزكية نفسه عن طريق الانفاق فى سبيل الله فى صدقة فردية او رسمية أو تعضيد جهاد سلمى فى سبيل الرحمن جل وعلا. فهو الذى يحدد نفقته بالتوسط وعدم الاسراف ، وهو الذى يحدد الضرورى وما هو كماليات يمكن الاستغناء عنه ، بل هو الذى يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة او فقر ، مراعيا لظروف استثنائية يمر بها وطنه او أحد مستحق الصدقة ، وهو فى كل ما يعمل من إحسان يبغى به وجه الله جل وعلا دون أدنى قدر من الرياء و المنّ والأذى .
ولا يحسبن أن ماله سينقص من هذه الصدقة بل سيزيد، لأن الله تعالى سيبارك له في ماله وسيعوض عليه خيراً فيما أنفق، (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ )( سبأ 39 ). وهناك من الرزق الخفي ما هو أعظم من الرزق الظاهر ، مثل نجاح الأولاد وتوفيقهم في الحياة، وتمتع الوالدين والأسرة بصحة جيدة ونجاتهم من الكوارث التي قد يتعرض لها الآخرون ممن يبخلون، وهو حين يقدم الصدقة من ذلك الربح الصافي الفائض عن حاجته فإنه يصنع بهذا الفائض أعلى استثمار عند رب العزة القائل"( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً  ) ( البقرة 245)" أي تصل نسبة الربح هنا إلى 700% ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )(البقرة 261) .

(2 ) : مستحقو الزكاة في السجلات الرسمية وفى الصدقة الفردية


يقول تعالى عن صنف من المنافقين كان يطمع في أخذ الصدقة الرسمية ـ الزكاة ـ من النبي دون ان يكون مستحقاً :(وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُواْ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ) ثم بينت الآية التالية (التوبة  58 : 60)مستحقي الصدقة الرسمية (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) وهم :
الفقير : وهو المحتاج الذي لا يكفيه دخله في إشباع حاجاته المختلفة من الضوريات تبعاً للعرف السائد ، وتقوم السلطات المختصة بتحديد الحد الأدنى للمعيشة والدخل، والذي يعني الفقر والاحتياج . وعلى أساسه تعطي الفقراء الدعم من الزكاة الرسمية.
المسكين : هو المحتاج للطعام وهو أول حاجات الانسان الطبيعية، لذا يرتبط المسكين في حديث القرآن بالذلة وبحاجته للطعام، وقد حث القرآن على إطعام المسكين. وللمسكين حق في الزكاة الرسمية ويمكن للدولة أن تنظم حصوله على هذا الحق بالمطاعم المجانية  أو كوبونات الطعام وغير ذلك .

العاملون على الصدقة وهم الموظفون القائمون على جمعها من الناس ويأخذون مرتباتهم من الإيراد.وتحدده الدولة حسب الظروف.

المؤلفة قلوبهم : هم من ترى الدولة الاسلامية اجتذابهم لصفها من الداخل أو الخارج ، وهو دليل على أن الدعوة للإسلام لا إكراه فيها ولكن بالترغيب والاستمالة .
في الرقاب : أي عتق العبيد إذا كان هناك رقيق .
وفي سبيل الله أي في تدعيم الدعوة في سبيل الله وفي الجهاد والإعداد له .
ابن السبيل : أى المسافر الغريب الذي لايجد المأوى ، فمن حقه على المجتمع المسلم أن يأويه في غربته، ومن أموال الزكاة تقيم لهم الدولة فنادق وتنظم الإقامة فيها لأبناء السبيل.
والغارمون : الذين يتحملون عن المدين المعسر دينه.
أما فى الصدقة الفردية فقد جاءت فى قوله جل وعلا : "( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )( البقرة 215 )، أى للوالدين والأقارب واليتامى والمساكين وابن السبيل، فى المحيط الذى يتعامل معه المؤمن ، فى العمل و الأسرة و السكن و الجيرة .

(3 ) :   للفقير غير المسلم أن يأخذ من زكاة المسلمين


الآية اكتفت بوصف الفقير بأنه فقير وكذلك المسكين بغض النظر عن الدين و الملة. واقع الأمر أن الدولة الاسلامية يكون أفرادها مسالمون أى مسلمون بمعنى الاسلام الظاهرى الذى يعنى المسالمة ، ويكون أفرادها مؤمنين بمعنى الايمان الظاهرى وهو إيثار الأمن والأمان وان يكون المؤمن مأمون الجانب لا يؤذى أحدا. وبعد هذا ، فالايمان الحقيقى والاسلام الحقيقى الذى يعنى اخلاص الدين لله ، وما يناقضه وهو الشرك العقيدى واتخاذ اولياء وارباب ـ كل هذا مرجعه الى الله جل وعلا ليحكم بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون فى الدنيا . الخارج عن الدولة الاسلامية هو الكافر المشرك سلوكيا أى المعتدى الظالم الذى يستخدم دين الله بالتحريف لقتل الناس وارهابهم كما يفعل الارهابيون المنتمون ـ كذبا ـ  للاسلام. الأصناف الثمانية لايشترط فيهم أن يكونوا مسلمين بالبطاقة الشخصية ليستحقوا الصدقة الرسمية من الدولة المسلمة، لا يهم إن كان مسلما بالهوية أو مسيحيا أو يهوديا أو ملحدا ، يكفى أن يكون مسالما ليستحق الانتماء الى الدولة الاسلامية التى من واجبها أن تضمن له حرية الفكر و المعتقد والدين والشعائر بدون حد أعلى . وإن كان فقيرا او مسكينا أو من أى صنف من مستحقى الصدقة الرسمية فلا بد من حصوله على حقه فيها .وذلك أصل من أصول دين الله تعالى ، فالله تعالى يقول في مستحقي الصدقة: (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ )( البقرة 272). أى أن الذى يتصدق ليس له أن يفتش عن تقوى الفقير أو عن دين المسكين أو ملة عابر السبيل ، فليس عليه هدايتهم ولكن الذى عليه أن يعطيهم حقوقهم فى زكاة ماله.وينطبق هذا على الصدقة الفردية ، فالمؤمن يؤدي الصدقة للفقير والمسكين مهما كان دينه ومهما كانت جنسيته فيكفيه أنه فقير ومسكين ليأخذ حقه الذي فرضه الله تعالى في مال الغني .
والله تعالى يرزق المؤمن والكافر، بل يرزق كل دابة ، وحين دعا إبراهيم ربه أن يرزق المؤمنين قائلا: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) "   ردّ عليه رب العزة :( قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ )( البقرة 126). ونتعلم من هذا أن ندعو الله أن يرزق كل محتاج بغض النظر عن دينه ومعتقده وأن نعطي الصدقة لكل محتاج بغض النظر عن لونه ومذهبه ومنهجه ، فالفقر جنسية في حد ذاته وللفقير حق في مال الغني سواء كان على دين الغني أم لا .

 

 

 

  ( 4 ) :  ذلك الذي يبخل ولايخرج الزكاة  والصدقة .. ماذا تكون عقوبته ؟( حدود الالزام فى الزكاة )ـ


1 ـ الذي يمتنع عن تقديم الصدقة فالله تعالى هو الذي يتولى عقابه في الدنيا قبل الآخرة ، وقد جاء ذلكفي القرآن الكريم ونحن نلمسه في حياتنا العملية واقعاً حياً ، فالمنافقون في عهد النبي عليه السلام كانوا يبخلون عن الإنفاق في سبيل الله فقال عنهم القرآن (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ)(التوبة 67 ). إذن كانوا يقبضون أيديهم عن الصدقة ، هذا مع أنهم كانت لهم أموال ، وقد حذر الله تعالى من الإعجاب بأموالهم وأولادهم وأنذر بأن عقوبتهم ستكون من خلال أموالهم وأولادهم وذلك في الدنيا ، فقال تعالى "( فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) ، وتكرر نفس الإنذار والتحذير في قوله تعالى (وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ )( التوبة 55 ، 85 ) . أي أنهم لن يجنوا من بخلهم إلا أن تصير أموالهم وأولادهم عليهم وبالاً وعذاباً ، يسهم المال في إفساد الأولاد وينتهي المال إلى زوال وينتهي الأولاد إلى خبال.
2 ـ الزكاة المالية  ـ كما قلنا وفصّلنا فى حلقات سبقت ـ هى لتزكية النفس للفوز بالجنة ، لذا لا بد أن تكون بدافع ذاتى من ذلك الذى يؤمن بالله جل وعلا و اليوم الآخر ، ويؤمن بيوم الحساب ويستعد له بتزكية نفسه بالأخلاق الحميدة وبتزكية ماله بالصدقة التى  يقدمها عن طيب خاطر ليفوز بالجنة .   نحن هنا نتكلم عن حق الله جل وعلا الذى سيسائلنا عليه يوم القيامة . أما حقوق البشر وحق المجتمع فإن للمجتمع أن يفرض فريضة وأن يأخذ الزكاة الرسمية ـ وتكون قرارته شرعية اسلامية إذا كانت الدولة اسلامية ،اى تقوم من البداية على عقد اتفاق بين الأفراد وعلى أساسه يقوم نظام حقوقى يحصر وظيفة الدولة فى حفظ حقوق الفرد فى الحياة وحقه المطلق فى الدين والفكر والمعتقد وحقه فى حرية السعى فى الرزق وفى الأمن وفى العدل ، دون ضرر أو إضرار بالآخرين أو إفتئات على حقوق المجتمع الذى يعنى بقية الأفراد. هذه الدولة الاسلامية من حقها أن تفرض ضرائب عبر ممثلى الشعب ، لكى تقوم بالأعباء المطلوبة منها . ولكن فرض ضرائب لا يكون إلا بموافقة ممثلى الشعب ، وهم الذين يكونون امناء على موارد الدولة أو بيت المال ، ومنه يعطون التمويل للسلطة التنفيذية ويراقبون أداءها ويحاسيبون أفرادها وقد يعزلونهم او يحاكمونهم لو إقتضى الأمر. وبالموافقة على هذا القرار بفرض ضريبة أو غيره يكون ملزما وقانوا واجب الاتباع ، ويعطى للدولة حق انتزاع حقوق المجتمع ممن يرفض دفعها ، ويعطيها حق عقوبة من يسرق حق الدولة .
لم يحدث هذا فى الدولة الاسلامية فى عهد خاتم النبيين عليهم السلام ـ إذ كان السائد هو التطوع بلا إلزام ، وكان بعض المنافقين يمسك يده عن اعطاء الصدقة وبعضهم يعطيها رياء ، وبعضهم يعطى مرة و يبخل مرة ومرات ، وكانت عقوبتهم سلبية ، هى حرمانهم من حق التبرع،أو عدم قبول تبرعاتهم وصدقاتهم ، يقول جل وعلا : ( قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ) ( التوبة53 : 54  ).
3 ـ وفى كل ما نزل فى القرآن من عتاب للنبى محمد عليه السلام ، لم يحدث على الاطلاق أى عتاب له يخص المعاملات المالية ، ولقد كان القائد الذى يأخذ الصدقات التطوعية ممن أذنب ويريد التوبة : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ( التوبة 102 ـ 104 ). وقد حذّره ربه جل وعلا مقدما فقال:( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ )( آل عمران  161)، وكان عليه السلام مع المؤمنين الصادقين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله ، عكس المنافقين ، وشهد رب العزة له عليه السلام ولأصحابه المؤمنين الحقيقيين فقال:(لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ( التوبة 88 ).

 

 

 

( 5 ) : فى تفعيل تشريعات الصدقة لا بد من التأكيد على الاطار الأخلاقى للصدقة وزكاة المال

مقدمة:

1ـ  سبق نشر مقال بهذا الخصوص ، ونعيد التأكيد هنا لأهمية الموضوع فى صلة زكاة المال بتزكية النفس .
2 ـ فى التنزيل المكى فى القرآن الكريم كان التركيز على الدعوة لإخلاص العقيدة والعبادة لله جل وعلا ، حيث كان العرب الجاهليون يعبدون الله جل وعلا ويعبدون الأصنام ، وقد حرفوا ملة ابراهيم  بأكاذيب وافتراءات ، وكان التركيز أيضا فى التنزيل المكى على قصص الأنبياء للعظة والاعتبار ، كما كان الاهتمام بالجانب الأخلاقى مختلطا بأساس العقيدة وبعض التشريع كما فى سور الاسراء ( 22 : 39  ) والأنعام ( 151 : 153 ) والفرقان ( 63 : 77 ) والنحل  (90 : 97  ) . وفى سياق هذه الموضوعات الأساس جاءت بعض  قواعد إجمالية فى التشريع  كقوله جل وعلا (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ   ) ( الأعراف 31 : 33 ).
3 ـ ثم اتسع التنزيل المدنى لتفصيلات التشريع ، وامتاز تشريع الصدقة منه بوضع إطار أخلاقى يغلّف تطبيق هذا التشريع . ففى سياق الحث على الصدقة يقول جل وعلا :( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) . وبعده جاء ما يسمى تسميته بآداب الصدقة .
أول آداب الصدقة : من المتصدق : عدم المنّ والأذى
1 ـ أى ألّا يصاحبها ( منّ ) أو (أذى ). يقول جل وعلا : (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ). فليس كل من يعطى الصدقة ينال أجرها عند الله . لا ينال الأجر إلا من ترفّع عن المنّ والأذى . والمعنى أن المنّ والأذى يحبطان ثمرة الصدقة عند الله جل وعلا ، بحيث لا يجنى إلا خسارة ماله ذلك الذى يتصدق ويؤذى من يتصدق عليه بالمنّ والأذى ،والأفضل له من البداية ألا يتصدق ، بل إن ّالاعتذار عن عدم إعطاء الصدقة بقول معروف خير من صدقة يتبعها أذى ، وهذا ما جاء فى الآية التالية :(قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ).

2 ـ وحتى يتجذّر هذا التشريع ضرب الله جل وعلا أمثالا للتوضيح ، يقول جل وعلا :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) فالمثل هنا لمن يبطل صدقاته بالمنّ والأذى مثل حجر صوّان عليه تراب ، والمنتظر عندما يهطل عليه المطر أن ينبت التراب ، ولكن الصخر الصوأن عندما ينزل عليه المطر فإنه يزيل التربة ويترك الصخر صلدا ، وهكذا الذى يبطل صدقاته بالمنّ والأذى لا يكسب شيئا مما أنفق .
وفى المقابل فإن الذى ينفق يبتغى رضوان الله وعن عقيدة إيمانية صادقة فمثله كجنة فى منطقة رابية مرتفعة نزل عليها مطر فهى تؤتى ثمارها ضعفين ، وحتى لو نزل المطر قليلا فهى تثمر :( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) . ويعطى رب العزة مثلا قصصيا عن الذى احبط عمل الخير بعقيدته السيئة والمنّ والأذى بشيخ طاعن فى السّن أمضى حياته فى تعمير حدائق بهيجة ، وعندما أصابه الكبر لم يكن له من معين ، سوى أطفال صغار يحتاجون للرعاية ، ثم جاءت الكارثة بنيران أحرقت حدائقه واضاعت تعب شبابه وشقاء عمره ، وهو يشاهد حدائقه المدمرة وحوله أطفاله الصغار ، لا يستطيعون عونه بل هم الأحوج الى عونه ، وهو عاجز فى شيخوخته أن يستعيد ما تم تدميره، أى ضاع كل شىء ، الثروة و الصحة و الشباب ، ولم يعد يتبقى إلا الحسرة. هذا المثل القصصى الدرامى المؤثر يصور مصير من يتصدّق ويضيع صدقاته بالمنّ والأذى فلا يكسب مما أنفق إلا الحسرة و الخسار، يقول جل وعلا : ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ).
3 ـ والهدف من هذا التشريع الاخلاقى هو أن تكون الصدقة وسيلة فى تزكية النفس ، وليس مجرد إعطاء مال للمحتاج . وتبدأ تزكية النفس بادراك المؤمن أنه فى حقيقة الأمر لا يملك هذا المال ، ولكنه مال الله جل وعلا الرزّاق الكريم ، وكل ما هناك أنه جلّ وعلا قد أعطى هذا بسطا فى الرزق ليختبره ،أى جعله مخوّلا فى الرزق ليرى كيف يصنع بما خوّله الله جل وعلا فيه ، وفى نفس الوقت ضيّق على الفقير فى الرزق ليختبره فى صبره ، ولهذا فإن المؤمن يعلم ان للفقير والمحروم وسائر المستحقين حقوقا لديه فى المال الذى خوّله الله جل وعلا فيه ، ولا بد أن يعطيهم حقوقهم لينجح فى الاختبار . وبالتالى فلا بد أن يعطيهم حقوقهم عن طيب خاطر آملا فى رضى الله جل وعلا . الآخر يعتقد إنه يعطيهم من ماله هو ، ولذا يمتنّ عليهم ويستعلى عليهم . ومن قاع هذه العقيدة الضالة يحبط الله جل وعلا عمله ، وبينما يتزكى المؤمن بالصدقة ويعلو بها سموا فى الخلق فإن الآخر يهبط ويتضع ، وهو يتصور نفسه غير ذلك .

4 ـ وجعل رب العزة من صفات المتقي أن يعطى ماله لتتزكى وتتطهر به نفسه ، وهو لا ينتظر جزاء الشكر من أحد ،لأن كل ما يبتغيه هو رضى ربه جل وعلا ، لذا سيفوز برضى ربه ولسوف يرضى ويكون مرضيا عنه وسينجو من عذاب النار يوم القيامة : (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى ) ( الليل  17 : 21 ). والمتقون يوم القيامة هم الأبرار ، وقد وصف رب العزة حالهم فى الجنة فقال : (إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ) وهذا الجزاء فى الآخرة لأنهم كانوا فى الدنيا : ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا ) ( الانسان 5 : 9 ). أى لا يقبلون الشكر من أحد لأنهم يبتغون وجه الله جل وعلا وحده.

ثانيا : من حيث المال : أن يكون مالا حلالا :

1 ـ من مبررات العصيان أن يجمع أحدهم المال بالحرام ثم يتصدق به ، معتقدا أنه طالما يتصدق فإن هذه الصدقة ستحلّ له ما إغتصبه وسرقه ونهبه من حرام . وفى العصر الذى يسيطر عليه التدين السطحى المظهرى والاحتراف الدينى يدخل المجتمع نفق التدين بحيث يكون كل تصرف مغلفا بالدين ومحتاجا الى تسويغ دينى أو فتوى دينية تحلّ الحرام وتحرم الحلال. وفى هذا المجتمع المريض تروج دولة رجال الدين الأرضى ، وتتنتشر مساجد الضرار الأيدلوجية التى تروج للباطل ، ويأكل أئمة الدين من المال السحت ليقولوا للناس ما يرضيهم ويغضب الرحمن . وفى هذا المناخ تتكاثر الصدقات والتبرعات من كبار العصاة ، لا فارق بين راقصة داعرة أو (حرامى ) يأكل السحت و ينشر الفساد ، وكلهم يتبرع ويتصدق من مال حرام وهو يحسب أنه يحسن صنعا ، وينسى قول الله جل وعلا :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ). أى لا بد أن تكون الصدقة من كسب طيب حلال سواء من مرتب أو دخل ، أو من ثمرات الأرض . ولم يكتف رب العزة بالأمر بل قرنه بالنهى عن الانفاق من المال الخبيث الذى يأتى بالظلم ، والله جل وعلا غنى عن هذا المال الخبيث . والآية التالية تصف حال المجتمع المريض الذى يسيطر عليه الدين الأرضى وتدينه السطحى و محترفو التدين بأن هؤلاء زعيمهم الشيطان الذى يعدهم بالفقر  ويأمرهم بالفحشاء عبر اساطير الشفاعة والتصدق بالمال الحرام ، وفى المقابل فإن الله جل وعلا يعد المؤمنين بالمغفرة و الفضل : (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )

2 ـ بل هناك أكثر من ذلك . فالمؤمن ينفق من ماله الحلال ، ولا يكتفى بهذا بل ينفق من (أحب ) المال لديه ، فإن كان معه عملة محلية ودولار فهو يعطى الأغلى وهو الدولار، وتلك هى بعض صفات الأبرار ، يقول جل وعلا (  لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) ( البقرة 177 ). الشاهد هنا هو قوله جل وعلا (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ) ، أى يتصدق من أحب المال اليه ، وتلك هى درجة البر ـ أو درجة الأبرار ، يؤكد هذا قوله جل وعلا عن درجة الأبرار : ( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) ( آل عمران 92 )، ونفترض أنك ذبحت عجلا وجعلت جزءا منه صدقة ، فإذا أردت بلوغ درجة البر فعليك أن تتصدق بأفخر أنواه اللحم ،أو تتصدق بما تحبه وتشتهيه من لحم العجل ، ففى النهاية ما ستأكله من العجل مصيره الى ما نعرف ،اما الذى تتصدق به فسيكون عملا صالحا يضىء وجهك يوم القيامة (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )( آل عمران 106 : 107 ).
ثالثا : من حيث القلب والنية والاخلاص:
1 ـ لا بد أن يتعامل المتصدق مباشرة مع رب العزة باخلاص عمله لله جل وعلا وحده دون أدنى اهتمام برأى الناس ، وهنا يكفيه أن الله جل وعلا يعلم نيته ومطّلع على سريرته واخلاصه فى ابتغاء رضى رب العزة ، يقول جل وعلا : (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ). وعندما يصل المتصدق لهذه المرحلة من الاخلاص والتقوى فلا حرج عليه إن تصدّق علانية أو إن أخفى صدقته ، فهو فى الحالتين يجتهد للمصلحة ، فمثلا إن أخفى صدقته فربما يكون حرصا منه على مشاعر من يتصدق عليه من المساتير الذين يعيشون فى فقر ولكن يسترون حالهم ولا يسألون الناس إلحافا ، وتحسبهم أغنياء من التعفف. وإن أظهر صدقته فربما يريد تشجيع الآخرين على الاقتداء به. المهم إنه فى كل ما يفعل يجتهد حسب علمه فى ابتغاء مرضاة الله جل وعلا ، ولا يجعل فى خاطره على الاطلاق أى ذرة من رياء او طلب للشهرة أو رضا الناس ، لأنه يكفيه رضى رب الناس عليه ، وهو الذى يرزقه ، وهو الذى سيجزيه خيرا وهو الذى سيحاسبه يوم القيامة . ومن هنا نفهم قوله جل وعلا :( إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) . فالله جل وعلا هو الخبير بما نفعل وبما نضمر فى سرائرنا . وهذا هو ما يتحسب له من يتقى الله جل وعلا وهو يعطى الصدقة.

2 ـ وطالما هو يتحسّب لرضا الله جل وعلا وحده فهو ينفق فى سبيل الله فى كل حالاته ، إن كان فى يسر أو فى عسر ، فى السرّاء أو فى الضرّاء : (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) ( آل عمران 133 : 134 )، بل إنه فى وقت العسرة يؤثر على نفسه (  وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ( الحشر9 ) ولا يهتم إن كان المستحق للصدقة مؤمنا مهتديا أم عاصيا لاهيا ، يكفى كونه مستحقا للصدقة حتى يعطيه حقه فيها ، أما هدايته أو عصيانه فلا شأن للمتصدق بهذا ، هذا يرجع الى مشيئة من يريد الهداية أو الضلالة ، يقول جل وعلا لكل من يتصدق :(لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ )( البقرة 261 : 272 ).
أخيرا
بهذا تؤدى زكاة المال دورها الأخلاقى فى تزكية وتطهير النفس ، ويتحقق فى المتصدق قوله جل وعلا (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا )( الشمس 7 : 9  ).

 ( 6 ) : بين الزكاة والجهاد فى سبيل الله جل وعلا بالمال

 

 أولا : الزكاة المالية نوعان : حق الله وحق الأفراد والمجتمع

يلفت النظر الى أنه من مصارف الزكاة الرسمية للدولة الاسلامية الثمانية نوعان : ( فى سبيل الله ) و(المؤلفة قلوبهم )، جاء هذا فى قوله جل وعلا (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْوَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِوَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ( التوبة 60 ) ، ولأن الدولة الاسلامية تقوم دعائمها على العدل وحرية الدين والسلام فمن المنتظر أن تهدف الى الانفاق فى سبيل الله فى مجالى الدعوة وفى الاستعداد الحربى لردع من يحاول الهجوم عليها وتخويفه حتى لا يفكر فى الاعتداء ، ويشمل هذا التحبب الى الأعداء بالمال إتقاء لشرهم وتأليفا لقلوبهم، لأن شراء مودتهم أرخص بكثير من الدخول فى مشاكل وقلاقل وحروب، أى إن هناك فى الصدقة الرسمية حقا لله جل وعلا ( المؤلفة قلوبهم ، وفى سبيل الله ) بالاضافة الى حقوق البشر من فقراء ومساكين وغارمين ..الخ . وبجانب الصدقة الرسمية السابقة التى تجمعها الدولة الاسلامية فهناك أيضا صدقة للأفراد يتصدق بها المؤمن على والديه والأقارب واليتامى والمساكين وابن السبيل (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) ( البقرة 215 )، وهناك أيضا حق الله على الأفراد بالجهاد فى سبيله بالنفس والمال.

ثانيا : جهاد النفس وجهاد المال
1 ـ وإذا كان واضحا حق الله جل وعلا فى مصارف الزكاة الرسمية ومستحقيها مع حقوق البشر من الفقراء والمساكين وابن السبيل فإن أوامر الانفاق فى سبيل الله جاءت أيضا موجهة للأفراد بصفتهم الشخصية تدعو الى الانفاق فى سبيل الله فى صور مختلفة تحت بند الجهاد بالنفس والمال ، منها : ربطه بالايمان الحقيقى:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)( الحجرات 15 )، وجعله أعظم درجة عند الله لو ارتبط الانفاق فى سبيل الله جل وعلا مع الايمان والهجرة :(الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ )(التوبة 20 : 22 )، وجعل المؤمنين يتفاضلون فى الدرجات طبقا لدرجة الانفاق ووقته:( وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ )( الحديد   10 : 11 )، وجعله فى موضع المقارنة بالبخل والامساك عن الانفاق فى سبيل الحق جل وعلا ، فكما أن الانفاق فى سبيله مرتبط بصحة الايمان فإن البخل قرين بالكفر: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قَرِينًا وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِم عَلِيمًا)(النساء 37 : 39 ). وهناك التحذير من أن الامساك عن الانفاق فى سبيل الله يؤدى الى التهلكة لأن عاقبة البخل هنا تعنى الهلاك ، فبعد أن ذكر رب العزة تشريع القتال الدفاعى فى الاسلام دعا الى الانفاق فى سبيله خوف التهلكة  يقول جل وعلا :( وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) ( البقرة 195 ) وقال جل وعلا يحذّر الصحابة :( هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) ( محمد 38 ). إنّ الدولة الاسلامية المسالمة تحتاج الى أن تكون قوية حتى لا يطمع فيها معتد باغ ، لذا فالاستعداد الحربى فى الاسلام هو لحقن الدماء وردع العدو المعتدى مقدما حتى لا يغامر بالهجوم على دولة الاسلام المسالمة طالما كان قوية عسكريا، وهذا المجهود الحربى يستلزم إنفاقا وجهادا ماليا مستحقا للجزاء الحسن من الله سبحانه وتعالى ، والله جل وعلا يقول : ( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ)(الأنفال 60 ).
2 ـ وفى كل الدعوات للجهاد بالنفس والمال يأتى الجهاد بالمال مقدما على جهاد النفس لسببين :لأن الحرب فى الاسلام دفاعية وإستثنائية لأنه دين السلام . ولأن الجهاد بالمال هو المعين على نوعى الجهاد : جهاد الدعوة وجهاد القتال ، فكلاهما يحتاج الى الانفاق فى سبيل الله جل وعلا ، أى يحتاج الى الجهاد بالمال. وبالتالى يكون لدينا جهاد بالنفس و جهاد بالمال والجهاد السلمى العقلى والعلمى . ونتوقف مع الجهاد السلمى بالدعوة .
ثالثا :  المجاهدون بالدعوة السلمية فى الاسلام:

1 ـ هو جهاد بالقرآن الكريم ، إحتكاما اليه وتدبرا فيه ودعوة لفهمه والتمسك به مهما كره المشركون ، يقول جل وعلا عن القرآن الكريم:(فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ) (الفرقان 52 ). العادة إن هناك ما يعرف بالشرك العلمى أى إتخاذ أسفار مقدسة والتمسك بتراث والانحياز اليه وتقديسه مهما خالف القرآن الكريم ، ومن أجله يكذبون بالقرآن بينما ينسبون تراثهم كذبا لله جل وعلا كما يقال عن (السّنة ) لدى السلفيين ، وهو ترديد لما كان فى الجاهلية حيث شاع تقديس أسفار تعكس ما وجد عليه الجاهليون آباءهم ، ومن أجلها عارضوا القرآن الكريم ، والله جل وعلا جعلها محنة عقلية عامة تسرى فى كل زمان ومكان ، يقول سبحانه وتعالى عن هذا الصنف الذى يمثّل الآن الأغلبية العظمى من شيوخ المسلمين وممثلى أديانهم الأرضية والمذهبية :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ). وفى المقابل فإن من يتصدّى لهم متمسكا بالقرآن طالبا الهداية من الرحمن سيجد الهدى والتأييد من رب العزة ، يقول جل وعلا فى الآية التالية متحدثا عن الجهاد السلمى الثقافى بالقرآن الكريم :( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )( العنكبوت 68 : 69 ). أى لدينا طريقان متناقضان : تمسك بالتراث وتدين به واتخاذه دينا مهما خالف القرآن الكريم ، ثم جهاد بالقرآن ضد هذا الدين الأرضى طلبا للهداية ورضى الله جل وعلا.
2 ـ كلمة السبيل أو الصراط تعنى الطريق ، ومن معانى مصطلح ( سبيل الله) أو ( الصراط  المستقيم )أنه القرآن الكريم ، وقد جاء فى الوصية الأخيرة من الوصايا العشر التمسك بالقرآن الكريم وحده : (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )(الأنعام 153  )، ويقول جل وعلا عن وجوب التمسك بالقرأن الكريم :(وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ )( الأنعام 126 ). فالقرآن الكريم هو الصراط المستقيم الذى لا عوج فيه:(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا)( الكهف 1 )(قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ( الزمر 28 ). أمّا الأسفار المقدسة لدى اصحاب الديانات الأرضية هى ( العوج ) الذى يناقض الحق القرآنى ، ولهذا فإنّ الدعوة الى هذا ( العوج ) تكون صدّا عن سبيل الله جلّ وعلا ، وقد توعدهم رب العزة جل وعلا فقال:(وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)( ابراهيم 2 : 3 ). هم يستحبون الدنيا على الآخرة ، ويعملون من أجل الدنيا ويأكلون بها الدين، يخلطون الدين بالسياسة ويشترون بآيات الله ثمنا قليلا ، وهذا هو الكفر الحقيقى باليوم الآخر ، لذا كان من وصف أصحاب النار إنهم يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون:(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ )( الأعراف 45 ).

رابعا : المجاهدون بأموالهم فى سبيل الله فى الدعوة السلمية
1ـ أصحاب الباطل يقومون بشراء وتمويل ونشر وتوزيع أباطيلهم من (لهو الحديث ) ليصدّوا عن سبيل الله الذى هو ( أحسن الحديث ) أى القرآن الكريم : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ )( الزمر 23 ).  يقول جل وعلا  عن أصحاب( لهو الحديث): (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( لقمان 6 : 7 ). ولو تأملت أجهزة الاعلام والفضائيات والانترنت والصحف والبرامج لوجدتها ممتلئة بلهو الحديث من تراث الأديان الأرضية، وهم يولون مستكبرين مستهزئين إذا استشهدت لهم بقوله جل وعلا فى الاكتفاء بحديث الله فى القرآن الكريم وحده: (  أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) (الأعراف 185  ) (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ  ) ( المرسلات 49 : 50 ) (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ )( الجاثية 6 : 9 ).

2ـ وقوله جل وعلا:(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا) هو حكم عام يسرى فى كل مجتمع ، يعنى أنه حين يكون هناك (ناس ) فمن أولئك ( الناس ) من ينفق أمواله ليروّج للهو الحديث ليشغل بقية ( الناس ) عن الدين الحقيقى الذى هو (احسن الحديث ) وليصدّهم عن سبيل الله . وهو فيما يفعل يتمتع بجهل هائل (لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ )، لأنه لا يقرأ الأسفار التراثية التى يدافع عنها. ونحن فى برنامج ( فضح السلفية ) نستشهد بالبخارى وهو يطعن فى الاسلام ورب العزة وشرعه ورسوله ، ويأتى برنامجنا مفاجأة لمن يعبد البخارى ويدافع عنه ، لأنهم يدافعون عن شىء لم يقرأوه ، أى إنهم (يضلّون الناس بغير علم ) هم أجهل الجهلاء ، يحملون على ظهورهم أسفارا لا يقرأونها ، لذا ينطبق عليهم قوله جل وعلا (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)( الجمعة 5 ).
3 ـ نحن هنا أمام عادة بشرية سيئة ، وهو ترويج اهل الباطل لباطلهم ، ينفقون اموالهم ليصدّوا عن سبيل الله أى كتابه الكريم ، ويوم القيامة سيكون ذلك عليهم حسرة حين يشهد عليهم الشهداء بما فعلوه ، والله جل وعلا يقول : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) ( الأنفال 36 ). هنا حكم عام يسرى فوق الزمان والمكان ، وفى كل مجتمع ، لا ينطبق فقط على مشركى مكة أو الاسرة السعودية بل يسرى على المستقبل كما يسرى على الحاضر وكما سرى من قبل على الماضى . ومقابل هذا المال الذى ينفقونه فى الصّد عن سبيل الله وكتابه الكريم لا بد من مال للانفاق على الدفاع عن دين الله وكتابه الكريم ، ومن هنا يأتى الانفاق فى سبيل الله ، أو الجهاد فى سبيل الله بالنفس والمال ، ليس فقط فى القتال الدفاعى ـ وهو مقيد بظروف استثنائية ـ ولكن فى الأساس فى الدعوة المستمرة سلميا للحق ، وهذا حتى يكون فى كل أمة أو مجتمع شهداء يوم القيامة يشهدون على المشركين بجرائمهم فى الصّد عن سبيل الله  وتحويل الصراط المستقيم الى عوج .

4 ـ ونستعيد هنا بعض الايات الكريمة التى تحث على الجهاد بالمال فى الدعوة للاسلام الحق والدفاع عنه ضد من يقوم بتشويهه : ( آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ )( الحديد 7)،وقد جعله رب العزة ( تجارة ) مع الله جل وعلا يكون الكاسب فيها هو المؤمن المنفق فى سبيل الله سبحانه وتعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) ( الصّف 10 : 13 ) . ومنها نستفيد أن الجهاد فى سبيل الله بالمال والنفس ينطبق ليس فقط على القتال الدفاعى الذى هو حالة استثنائية بل ينطبق اكثر على الدعوة للاسلام الحقيقى وهو جهاد مستمر الى قيام الساعة ، وأصحابه من الدعاة ومن يساعدهم هم الشهداء يوم القيامة ، ويستحقون هذه المنزلة بما قدّموه فى الدنيا من جهد ومن مال .
خامسا : المجاهدون سلميا فى سبيل القرآن الكريم بأموالهم وأنفسهم هم الشهداء على أقوامهم يوم الحساب.
1 ـ والمجاهدون فى سبيل الله بالقرآن الكريم ومن يعاونهم فى جهادهم سيكونون شهود خصومة يوم القيامة على أولئك المتاجرين بدين الله الذين أمضوا حياتهم الدنيا فى خدمة دين أرضى يدعو للعوج والانحراف العقيدى والاخلاقى ، يقول جل وعلا عن المواجهة يوم الحساب بين أولئك الظالمين المفترين والشهداء علهم (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ )(هود 18 : 19). تجد فى الآيات الكريمة نفس العبارات من الافتراء على الله جل وعلا كذبا بما يسمى بالسّنة أو غيرها واعتبارها وحيا ، والصّد عن القرآن الكريم أو سبيل الله جل وعلا واتخاذ الدين عوجا ، والكفر باليوم الآخر ليس بمجرد إنكاره ولكن بصناعة يوم آخر على هواهم ملىء بالشفاعات والوساطات يتحكمون فيه ويملكونه بدلا من رب العزة.
2 ـ ومصطلح ( الشهداء ) يوم القيامة لا يعنى من يقتل فى سبيل الله ، بل يعنى من سيكون شاهد خصومة على معاصريه من الكفار المشركين ، سواء مات ميتة طبيعية أو قتلا فى سبيل الله جل وعلا . أى هو الذى أمضى حياته الدنيا أو القسط الأكبر منها مجاهدا بنفسه وماله وعقله وجهده دفاعا عن الاسلام ضد من استغل اسمه فى سبيل الحصول على حطام دنيوى ، ومن قام بتشويه شريعته و احترف الكذب على الله ورسوله يحرّف دين الله ، ومن ينشر هذا الزيف ويدافع عنه صدّا عن سبيل الله ، ومن يبذل المال ويستخدم الجاه والقوة فى الصّد عن سبيل الله والدفاع عمن افترى على الله كذبا وكذّب بآياته ، ومن يستغل جاهه فى إيقاع الأذى والاضطهاد بالمجاهدين المسالمين المدافعين عن كتاب الله جل وعلا. أولئك المجاهدون بالدعوة الى الصراط المستقيم والمؤازرون لهم فى سبيل الله جل وعلا سيؤتى بهم يوم الحساب شهداء على الظالمين المدافعين عن البخارى و مالك و الشافعى و مسلم والغزالى والسيد البدوى ..الخ .  
3 ـ يوم الحساب حيث المحكمة الالهية الكبرى ستأتى كل نفس تجادل عن نفسها : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ  ) ( النحل 111 )، ويكون كل نبى شاهدا على قومه الذين عاصرهم وتعامل معهم ، لأن الشهادة تعنى الحضور و المعاصرة للحدث وأصحابه والمشاركة فيه ، لذا فإن عيسى عليه السلام سيكون شهيدا على من عايشهم من قومه فقط وليس له شأن بمن عاشوا قبله أو بعده : (وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ)( المائدة 117 )، ولهذا أيضا سيكون خاتم النبيين شهيدا على من عايشهم من قومه فقط ، وسيؤتى بشهيد على كل أمّة من نفس تلك الأمة ، والله جل وعلا يقول لخاتم النبيين عليهم السلام :( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا)( النساء 41 : 42). ويقول جل وعلا عن أولئك الشهداء والأنبياء فى اشتراكهم فى شهادة الخصومة على الأقوام يوم الحساب : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء)، وموضع الشهادة هنا هو الاكتفاء بالقرآن الكريم وكونه تبيانا لكل شىء يحتاج الى التبيان ، لذا يقول جل وعلا فى تكملة الآية الكريمة:( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) ( النحل 89 )، وهنا إشارة معجزة لمن سيأتى بعد موت خاتم النبيين يسعى فى آيات الله معاجزا يتهم القرآن باحتياجه الى السّنة ، وقد توعدهم رب العزة مقدما فقال : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ  ) (الحج 51 ) (وَالَّذِينَ سَعَوْ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ) (سبأ 5 ) (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ)( سبأ 38 ). فى هذه المحاكمة الالهية سيقول جل وعلا للمشركين الذين يقدسون البخارى وغيره ممن جعلوهم شركاء لله فلا يستطيعون إجابة ، ويأتى الشهود عليهم بالبراهين ضدهم وعندها تظهر الحقائق و يضيع الافتراء ( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) ( القصص 74 / 75 ). وتتجلى مكانة الشهداء يوم القيامة فى أنهم يؤتى بهم مع الأنبياء فى أول مراحل يوم الحساب ، يقول جل وعلا عن يوم القيامة:(وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ) ( الزمر69 : 70 ).
أخيرا
1 ـ إن العادة أن ينفق دعاة الباطل أموالهم فى نشر أباطيلهم للصّد عن سبيل الله وتحويل الطريق المستقيم الى طريق أعوج. ولذا فلا بد من جهد مضاد ببذل المال فى سبيل الله دفاعا عن دين الله الذى تمّ تشويهه ووصمه ظلما بالارهاب و التخلف والظلم والتزمت و التعصب والتطرف . ومها بذل المخلصون للاسلام دفاعا عن الاسلام فهو ليس بشىء بالمقارنة الى درجة الشهداء أو الأشهاد يوم الحساب حين يؤتى بهم جنبا الى جنب مع الأنبياء ليشهدوا على أقوامهم فى يوم آت قريب جدا ، قال عنه رب العزة : (  اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ ) (الأنبياء 1 ) (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا) (المعارج 5 : 7 )( إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ) ( النبأ 40).

2 ـ ودائما صدق الله العظيم .

7 ـ  أثر حق أولى القربى فى التكافل الاجتماعى وأمن المجتمع  

مقدمة
كتابات كثيرة تعرضت لهذا الموضوع ، بحيث يمكن القول بأنه لا جديد يمكن أن يقال فيه ، ولكن عطاء القرآن متجدد يدعو الى المزيد الى التدبر حتى لو كان الموضوع تم قتله بحثا. وهنا نحدد حديثنا عن أثر الزكاة فى التكافل الاجتماعى من ناحية جديدة لم يتعرض لها أحد من قبل ـ على قدر علمنا ، وهى حق ذوى القربى ، وأثر الزكاة فى الأمن المجتمع وحمايته من الانفجار والهلاك .

 أولا  ـ مفهوم ذوى القربى:
1 ـ ذوو القربى ليسوا آل البيت:

يعتقد البعض أن مصطلح ( ذوى القربى ) مقصود به ( آل بيت النبى ) من ذرية (على بن أبى طالب )،وهم يستدلون بقوله جل وعلا:( قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى )( الشورى 23 ) أى أقارب النبى . ولكن لو كان هذا هو المقصود وجاء تشريعا فالمنهج التشريعى القرآنى يقتضى التفصيل والتحديد ، كأن يقال ( إلا المودة فى أقاربى ) ويأتى إستثناء أبى لهب ومن هم على شاكلته ، هذا فى السياق الخاص بالآية وفى داخلها. ثم يأتى التفصيل والتأكيد والتكرار فى السياق القرآنى العام . لم يحدث هذا ،بل حدث العكس ، وهو تكرار نفس المصطلح  فى مخاطبة المؤمنين بما يدل على أن أن المصطلح يعنى الأقارب داخل المجتمع المسلم فى دولة اسلامية ، لها قوانينها المالية وحقوق ومستحقون منهم الأقارب .
وباستعراض الآيات المتعلقة بالموضوع فى سياقها العام فى القرآن الكريم نجد الآتى :
1/1 : إن الحكم الأساس والعام هو أنه عليه السلام وكل الأنبياء عليهم السلام لا يأخذون أى اجر مقابل الدعوة ، وتكرر هذا فيما يخص خاتم النبيين :(قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا )( الانعام 90 ).
1/2 : بل يشمل هذا كل داعية للحق ،إذ لا يجوز أن يطلب من الناس أجرا (اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ) ( يس 21 ).
1/3 : إن رب العزة جل وعلا كرّر فى تأنيبه للمشركين أنه عليه السلام لم يطلب منهم أجرا بأى كيفية :
 (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ) ( الطور 40 )(أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ )(القلم 46 ) (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( المؤمنون 72  ).
1 / 4 : إن الأجر هو لهم وليس للنبى ، وذلك حين يهتدون فينالون الأجر :(قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا )(الفرقان 57).

1/ 5 : ومن ضمن الهداية مودتهم للقربى ،أى أقاربهم : (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( سبأ 47 )، أو بتعبير سورة الشورى : (قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ).

1/ 6 : ليس فى الاسلام مميزات لأسرة ما أو عائلة توجب على بقية المؤمنين دفع اموال لهم ، فهذا ينافى العدل الالهى كما ينافى تشريع الاسلام فى الزكاة و الأمور المالية والذى يعمل على عدم تركيز الثروة فى فئة او طبقة فتتحول الى الترف وتسبب هلاك المجتمع ، كما سيأتى فى هذا المقال .
2 ـ ذووالقربى هم الأقارب داخل المجتمع المسلم:
2/1 : نفهم هذا من التلازم بين الوالدين وذوى القربى ، وعطف الأقارب على الوالدين بالواو مباشرة ، لأن الأقارب هم الذين يتبعون الأب والأم ، من الأخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات وابنائهم وبناتهم . وإلحاق ذوى القربى بالوالدين فى موضوع الاحسان اليهم جاء حتى فى الشريعة السابقة للقرآن الكريم والتى ذكرها رب العزة عن الميثاق الذى أخذه على بنى اسرائيل :(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ) ( البقرة 83 ). وتكرر هذا وصية لنا فى قوله جل وعلا : (وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) ( النساء 36 )، فجاء ترتيب ذوى القربى بعد الوالدين مباشرة. وجاء فى الصدقة الفردية للوالدين والأقربين (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )( البقرة 215  ). وجاء أيضا فى فرض الوصية قبل الموت للوالدين والأقربين:( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (البقرة 180 ).
2/ 2 : وأحيانا يتم الاكتفاء بمصطلح ذوى القربى ومعناه دون ذكر الوالدين ليضمن الوالدين حيث ان المفهوم هو ان الوالدين هما أول درجة فى الأقارب ، يقول جل وعلا فى صفات الأبرار المتقين : (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ  ) ( البقرة 177 ). لم يرد هنا ذكر للوالدين لدخولهما ضمن (ذوى القربى ) . ولا نتصور البر ببقية الأقارب واهمالهما. كل هذا طبعا يعنى وجودهما ـ أو وجود أحدهما على قيد الحياة.
2/ 3 : وليس كل الأقارب يرثون ، فمنهم من لا يرث ، ومنهم من يرث ، ومنهم من يرث وله حق مفروض فى الوصية عند الموت ، كالوالدين : :( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (البقرة 180 )، خلافا لاكذوبة الدين السّنى القائلة بانه لا وصية لوارث . وجاء النّص على الوالدين فقط فى الوصية عند الموت ، وبعدهما يكون اختيار بعض الأقربين من اختصاص الموصىّ وفق القواعد التى بينها رب العزة فى الآيتين اللاحقتين ( البقرة 181 : 182 ).

2 / 4: هناك فرق دقيق بين مصطلحى ( ذوو القربى أو أولو القربى ) و ( الأقربون ). الأول ( ذوو القربى أو أولو القربى )عام يشمل كل الأقارب ، أما الثانى ( الأقربون )فهو خاص بأقرب الأقارب . وتأسيسا على ذلك فليس كل الأقارب يرثون بل الأقربون وأولهم الوالدان ، نفهم هذا من قول رب العزة جل وعلا فى مقدمة تشريع الميراث:(لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ) فللرجال والنساء نصيب يرثونه مما تركه الوالدان والأقربون ، وهو نصيب مفروض بشرع الله سبحانه وتعالى . أما عموم الأقارب الذين لا حق لهم فى الميراث فقد تحدثت عنهم الآية التالية:( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا )(النساء 7،8  ).أى إذا حضر قسمة الميراث الأقارب (أولو القربى ) الذين لا حق مفروضا لهم فى الميراث  ـ وإذا حضر أيضا اليتامى والمساكين ـ فلهم عطايا من الميراث ـ قبل التوزيع ـ مع قول حسن .
2/ 5 : ويلاحظ أن للأقربين ـ أو أقرب الأقارب ـ حقا مفروضا فى الصدقة الفردية والوصية عند الموت والميراث ، وكلها فرائض واجبة النفاذ . أما الاحسان العام فقد جاء لعموم (ذوى القربى ) كقوله جل وعلا (  إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ  )( النحل 90  )(وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) ( الاسراء 26 ) ( وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (  النور 22) (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)( الروم 38 ). كما يكون لذوى القربى عموما حقوق فى العطاء الرسمى للدولة الاسلامية ، سنتعرض له فيما بعد .
2 / 6 : يلحق بالوالدين وأقرب الأقارب أو ( الأقربين ) أتباع الوالدين والأقربين من حيث الاحسان الى أولئك الأتباع أو الموالى ، ويجوز الوصية لهم ، ويجب تنفيذها ، يقول جل وعلا :(وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا)( النساء 33 ).
3 ـ الاحسان لذوى القربى حق بشرى يجب ألّا يتعدى على حق الله جل وعلا :
3 / 1 : بمعنى يجب أن تحسن الى أقاربك وفق شرع الله جل وعلا ، ولكن ليس على حساب العدل ، فهنا حق الله جل وعلا . فلا تحابى أقاربك عند الشهادة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ )( النساء 135) (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) ( الانعام 152 ).

3 / 2 : ويحرم الاستغفار للمشركين المعتدين المجرمين الذين تبين عداؤهم لله جل وعلا من جرائمهم العلنية :( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُولِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) (  التوبة 113 : 114).
3 / 3 : كما تحرم موالاة أولئك الأقارب المعادون لله تعالى ورسوله بسلوكياتهم الارهابية (بتعبير عصرنا) التى تستهدف المسالمين ، وتحرم موالاتهم ضد المؤمنين المسالمين ، يقول جل وعلا (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُم ) ( المجادلة 22 ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )( التوبة  23 : 24).
3/ 4 : وفى النهاية سيؤاخذ كل فرد بعمله ، ولن تجدى قرابة حيث سيفر المرء من أخيه وأمه وأبيه  وصاحبته وبنيه ( عبس 34 ـ  )، وحيث لا أنساب ولا هم يتساءلون (المؤمنون 101  ) وحيث لا يجدى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا ( لقمان 33 )،وحيث لا تملك نفس لنفس شيئا لأن الأمر كله يومئذ لله جل وعلا ( الانفطار 19 ) وهذا ما يتحسب له المؤمن الذى يريد أن تتزكى نفسه ـ ولا زلنا فى موضوع الزكاة ـ يقول جل وعلا عن يوم الحساب : ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) ( فاطر 18 ).
ثانيا :حقوق ذوى القربى :
الحديث هنا ليس مجرد الأقربين أو أقرب الأقارب بل يشمل جميع الأقارب ،أو (ذوى القربى ) أو ( أولى القربى ) : رسميا لهم حق فى الغنائم وفى الفىء :
1 ـ لهم حق فى الغنائم التى تحصل عليها الدولة الاسلامية إن انتصرت فى حرب دفاعية ، وعن مصارف الغنائم يقول جل وعلا :(وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) ( الانفال 41 ).
2 ـ وفى الفىء ،أى ما يفىء ويدخل الى بيت مال الدولة الاسلامية هو نفس التوزيع : (مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )( الحشر 7 ).

3 ـ وفرديا لهم حق فى الصدقة الفردية : ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )( البقرة 215  ).

4 ـ ولهم حق فى الصدقة التطوعية التى يتطوع بها الابرار، وهم من يريد الوصول الى درجة عليا من الايمان والتقوى ، يقول جل وعلا عن صفات الابرار: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ  ) ( البقرة 177 ).

ثالثا : صلة إعطاء ذوى القربى بالتكافل والأمن الاجتماعى
1 ـ سبق تحديد ذوى القربى بأنهم الأقارب داخل المجتمع المسلم . والمعنى هنا أن كل فرد فى هذا المجتمع المسلم له إعتباران : الأول بصفته فردا أصيلا مطالبا بالصدقة بانواعها ، والثانى بصفته قريبا لفرد آخر. وبصفته قريبا يأخذ حق ذوى القربى ،أو سهم ذوى القربى لفلان ، وفلان هذا يأخذ بدوره عنه سهم ذوى القربى ، أى يشمل سهم ذوى القربى عموم أفراد المجتمع ، فكل فرد له سهم فى الغنائم و الفىء أى ما يدخل الى بيت المال من خراج وغنائم وصدقات ، يعاد توزيعه على عموم الأفراد . بل ويشمل سهم ذوى القربة المحتاجين أيضا من الفقراء والمساكين و اليتامى والغارمين و العاملين عليها لأن كلهم أفراد داخل المجتمع ، وكل فرد هو من ذوى القربى لآخر . وليس هذا فى الفىء والغنائم بل أيضا فى الصدقة الفردية و الصدقة التطوعية التى يقدمها الابرار. يضاف الى ما سبق وجوب الوصية عند الموت للأقربين والوالدين ، وكل أولئك شرائح ممتدة فى عمق المجتمع وشرائحه وطبقاته .
2ـ وبهذا يتحول المجتمع الى شبكة مترابطة يعطى بعضها بعضا وبتلقى بعضها من بعض تحت بنود مختلفة من الصدقة الرسمية و الفردية والصدقة التطوعية و الفىء و الغنائم . وبهذه الشبكة التى تتخلل المجتمع من اعلى الى اسفل طولا وعرضا واتساعا وعمقا يدور مال الأفراد أخذا وعطاءا فيعم الرخاء و يزداد ترابط المجتمع .
3 ـ وسرعة دوران رأس المال تمنع تركزه فى أيدى الطبقة الغنية . احتكار الأغنياء للثروة يحولهم الى طبقة مترفة على حساب الفقراء ، فيزيد الفقر حدة من حيث الكيف ويزداد الفقراء عددا من حيث الكمّ، كما تتضاءل وتنكمش الطبقة الوسطى وهى صمام امن المجتمع. ولأن الثروة تتبع السلطة والسلطة قرينة الثروة فإن وجود طبقة مترفة يعنى وجود نظام حكم استبدادى يمثلها ويدافع عنها ، يتحلى بالفساد والظلم . ولكى يتأكّد الظلم ويسير مرفوع الرأس دون وجل أو خوف فهو يحتاج فى تبريره وتسويغه وتشريعه و تخدير الشعب الى تسيد دين أرضى يتحكم فيه رجال الدين فى الناس يتبولون فى عقولهم بثقافة الخنوع والخضوع والرضى بالمقدور فيتحول الشعب الى قطيع يمتلكه المستبد بعد أن قتل حيوية المجتمع ، ويتأهّل هذا المجتمع الى مرحلة الهلاك والانفجار من الداخل .
4 ـ ويتضح هذا أكثر حين نعرض فى المقال التالى لبقية أوجه توزيع الفىء والغنائم والصدقة الرسمية و الفردية والصدقة التطوعية ، ونصيب كل مجموعة منها ، وأثر ذلك على سرعة دوران المال بما يمنع من احتكار الأغنياء الثروة ويقى المجتمع مغبة الهلاك ، بل وفى نفس الوقت يعود عليهم بالرخاء.

أنصبة المستحقين في أطار التكافل

سبق فى مقال سبق إعطاء لمحة عن مستحقى الزكاة المالية الرسمية والصدقات الفردية.  ونضيف اليها هنا الفىء والغنائم . ويدخل تحت الفىء جميع ما يفىء الى بيت المال او خزينة الدولة من خراج وضرائب على دخل المواطنين ، ونحن هنا نتحدث عن نظام دولة اسلامية ، حيث يتم إقرار الضرائب فى إطار العدل ومصلحة الدولة والمجتمع والافراد ـ وعن طريق ممثلين من الشعب من أهل الاختصاص أو ( الشأن ) أو (أولو الأمر ) . وطالما تتم الموافقة عليه يصبح قانونا واجب النفاذ وشرعا يأذن به الله .

ونعطى بعض التفاصيل :
أولا : لمحة أفقية لعموم المستحقين ومستحقاتهم
فى الدولة الاسلامية روافد للعطاء بعضها من الدولة والآخر من الأفراد . وهى أشمل من الصدقات بأنواعها ، إذ تشمل سبعة روافد أو مصادر يستفيد منها الأفراد المستحقون ، ومجموع فئات المستحقين بالمكرر ثلاثون، كالآتى:
1 ـ الصدقة الرسمية (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة 60 )المستحقون هنا  ـ خارج حق الله جل وعلا ـ هم ستة : الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِونَ عَلَيْهَا وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِونَ وَابْنِ السَّبِيلِ .
2 ـ الصدقة الفردية :(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)  (البقرة 215 ) . المستحقون هنا خمسة : اِلْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبِون وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.
3 ـ الصدقة التطوعية التى يتطوع بها الأبرار فوق المفروض زيادة فى الخير : (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ  ) (البقرة 177 ). المستحقون هنا ستة : ذَوِو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِون  وَفِي الرِّقَابِ.

4 ـ الفىء (مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الحشر7 ) . والمستحقون هنا ـ خارج حق الله جل وعلا ـ أربع ، وهم ذوو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. أى إن الفىء يذهب خمسه للجهاد السلمى بالدعوة ، والاعداد العسكرى لحماية الدولة الاسلامية المسالمة بطبيعتها وشريعتها . ويبقى أربعة أخماس يتم توزيعها على أربعة فئات من المستحقين ، لكل منهم الخمس من دخل الفىء ، وهم ذوو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.

5 ـ ونفس الحال فى الغنائم (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ  ) ( الأنفال 41 ) ، فالمستحقون هنا ـ خارج حق الله جل وعلا ـ أربع ، وهم ذوو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. أى إن الغنائم يذهب خمسه للجهاد السلمى بالدعوة ، والاعداد العسكرى لحماية الدولة الاسلامية المسالمة بطبيعتها وشريعتها . ويبقى أربعة أخماس يتم توزيعها على أربعة فئات من المستحقين ، لكل منهم الخمس من الغنائم ، وهم ذوو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. وهذا خلاف ما جرى عليه الفقه السلفى الذى يعبر عن دولة معتدية على الآخرين وتشجع جندها على الغزو بأن تعطى أربعة أخماس الغنائم لأفراد الجيش ، ثم الخمس الباقى لذوى القربى واليتامى و المساكين وابن السبيل . وهو على أية حال كلام نظرى ، وتطبيقه فى عهد عمر كان مختلفا عن تصورات الفقهاء فى العصر العباسى. وهذه قضية فرعية لا مجال لها الآن.
6 ـ توزيع بعض التركة قبل توزيع الميراث على مستحقيه : (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ) ( النساء 8 ). والمستحقون المقصودون هنا هم ثلاثة فقط : أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ.
7 ـ هذا بالاضافة الى الوصية (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) ( البقرة 180 ). والمستحقون المقصودون هنا هم صنفان فقط : الوالدان والأقربون.
ثانيا : لمحة رأسية لنصيب كل فئة من المستحقين .
 وهنا نتتبع مستحقات كل فئة من المستحقين فى تلك الموارد :
1/ 1 : للفقراء سهم فى الزكاة الرسمية
1/ 2 : للمساكين المحتاجين للطعام : ثلاثة أسهم فى الزكاة الرسمية والغنائم والفىء ، ولهم أيضا سهم فى الصدقة الفردية وسهم فى صدقة الأبرار، وسهم قبيل توزيع التركة . المجموع 6 اسهم .
1/ 3 : ولابن السبيل  المحتاج للضيافة والاكرام : ثلاثة أسهم فى الزكاة الرسمية والغنائم والفىء ، ولهم أيضا سهم فى الصدقة الفردية وسهم فى صدقة الأبرار. المجموع 5 أسهم.
1/ 4 : للانفاق فى سبيل الله سهمان فى الزكاة الرسمية وسهم فى الفىء وسهم فى الغنائم ، أى 4 أسهم ، بالاضافة الى الدعوة المستمرة للانفاق الفردى فى الجهاد بالنفس والمال.
1/ 5: لذوى القربى سهمان فى الفىء والغنائم وسهمان فى الصدقة الفردية وصدقة الأبرار ، أى 4 أسهم  .
1/ 6 : يتميز الوالدان بسهمين فى الوصية الواجبة والصدقة الفردية ، مع دخولهما ضمن ذوى القربى.
1/ 7 : اليتامى لهم سهمان فى الفىء والغنائم وسهمان فى الصدقة الفردية وصدقة الأبرار ، وسهم قبيل توزيع التركة على مستحقيها ،  أى 5 أسهم.
1/ 8 : هناك سهمان مخصصان لعتق الرقيق فى الزكاة الرسمية وفى صدقة الأبرار ، ومع الزعم باندثار تجارة الرقيق يمكن توجيه السهمين الى بنود أخرى كالتعليم والصحة.
1/ 9 : هناك سهم للسائل ـ بغض النظر إذا كان محتاجا فعلا أم محترفا للتسول ، وهذا السهم من الصدقة التى يقدمها الأبرار.

1/ 10 : هناك سهم واحد فى الزكاة أو الصدقة الرسمية لفئتين : العاملون عليها أو الموظفين فى هذا المجال و الغارمون  .عدد الأسهم هنا 32 ، وباقتطاع حق الله جل وعلا فى الجهاد والمؤلفة قلوبهم يتبقى 25 ، مع ملاحظة التداخل بين الأقربن وذوى القربى والوالدين .
2 ـ ويستفاد مما سبق:
2/ 1 : نصيب المحتاجين من الفقراء والمحرومين والمساكين وابناء السبيل هو  14 سهما من جملة 25 . أى إن أغلبية العطاء للمحتاجين ، بينما الأقلية للعاملين على الصدقات (1) من 25 ، والغارمين (1 ) أيضا.
والبقية للوالدين والأقارب (5 ) من 25 ، واليتامى (4 ) من 25 .
2/ 2 : لا يشترط فى الوالدين وذوى القربى و اليتامى أن يكونوا فقراء ،بل يأخذون الصدقة و غيرها بصفة القرابة أو اليتم ، سواء كانوا محتاجين أو غير محتاجين . وبالتالى فهناك 14 سهما من 25 للمحتاجين و9 أسهم للأقارب واليتامى بصفتهم .
2/ 3 : وهؤلاء الأقارب الأغنياء عليهم أيضا دفع الزكاة المالية الرسمية والفردية و التطوعية، أى يأخذون وأيضا يعطون ، ونفس الحال مع اليتيم  الغنى إذ يقوم الوصى على ماله بإخراج زكاة ماله رسميا وفرديا ، وربما تطوعيا . أما لو كانوا فقراء محتاجين فهم يأخذون الاسهم بصفتهم فقراء أو مساكين وأيضا بصفتهم أقارب أو يتامى ..ولو فضل عندهم مال فيجب عليهم إخراج زكاة عنه .
2/ 4 : سبق تحديد ذوى القربى بأنهم الأقارب داخل المجتمع المسلم . والمعنى هنا أن كل فرد فى هذا المجتمع المسلم له إعتباران : الأول بصفته فردا أصيلا ، والثانى بصفته قريبا لفرد آخر. وبصفته قريبا يأخذ حق ذوى القربى ،أو سهم ذوى القربى لفلان ، وفلان هذا يأخذ بدوره عنه سهم ذوى القربى ، أى يشمل سهم ذوى القربى عموم أفراد المجتمع ، فكل فرد له سهم فى الغنائم و الفىء أى ما يدخل الى بيت المال من خراج ، يعاد توزيعه على عموم الأفراد . بل ويشمل سهم ذوى القربة المحتاجين أيضا من الفقراء والمساكين و اليتامى والغارمين و العاملين عليها ..لأن كلهم أفراد داخل المجتمع ، وكل فرد هو من ذوى القربى لآخر . وليس هذا فى الفىء والغنائم بل أيضا فى الصدقة الفردية و الصدقة التطوعية التى يقدمها الابرار.
2 / 5 : أى إن الأغنياء يحصلون أيضا على نصيب من الفىء والغنائم وغيرها ، ولكنها لا تتركز فيهم ، حيث أن سرعة دوران المال واتساع دائرة توزيعه تمنع تركزه فى يد أقلية غنية .
2 / 6 : ومفهوم أن الأغنياء هم أكثر مصدر يأتى منه موارد الزكاة الرسمية والفىء والصدقات الفردية و التطوعية ، ومفهوم أيضا أم المستفيد الأكبر هم الطبقات المحتاجة و المحرومة ، ولكن هذا ليس غبنا للأغنياء بل هو من مصالحهم إقتصاديا ، لأن أولئك الأغنياء مفترض انهم أصحاب مزارع و مصانع ومتاجر ، وتربو وتزيد أرباحهم واستثماراتهم بكثرة الأموال فى أيدى المحتاجين لأن اولئك المحتاجين مستهلكون بطبيعتهم ، أى لا بد ان ينفقوا ما يأتيهم بالشراء من مزارع ومتاجر ومصانع الأغنياء ، أى إن ما يقدمه الأغنياء من صدقات وضرائب يتم توزيعها على الفقراء ستعود الى الأغنياء من خلال زبائنهم الفقراء ، وهذا يتم من خلال دورة سريعة متتالية ومستمرة يدخل بها المجتمع طريق الازدهار والرخاء ،بل وطريق التعاطف الاجتماعى والمودة الاجتماعية بديلا عن الحقد الطبقى و الصراع الطبقى .
2 / 7 : مفهوم فى تطبيق هذه النظم أن تقام مؤسسات رسمية وشعبية لرعاية الفقراء والمساكين ولايواء أبناء السبيل ولكفالة اليتامى والمحرومين . وتقبل هذه المؤسسات تبرعات الأفراد من الصدقات الفردية والتطوعية . ومفهوم أيضا أن هذا يشمل فى عصرنا رعاية أطفال الشوارع واللقطاء وكبار السّن والارامل. ومفهوم أيضا أن الرعاية تشمل الى جانب توفير الطعام والشراب و الاقامة جانبا لا يقل أهمية هو الرعاية الصحية للمرضى فى كل مراحل العمر .
2 / 8 : التعليم الأساس من الطفولة الى مرحلة التكليف والبلوغ فرض حتمى وحق لكل فرد ، وهو واجب على الدولة الاسلامية ، ويشتمل على تعليم مهنى يعين الطالب على شق طريقه بنفسه معتمدا على مهاراته الحرفية . والتعليم الجامعى هو لمن لديه استعداد مالى يستكمل به تعليمه الجامعى وما فوق الجامعى ،  أو يكون ذا تفوق علمى يجعله مؤهلا للتعليم المجانى عبر منح مقدمة من الدولة .  ويتم تمويل التعليم بفرض ضريبة متفق عليها من مجلس شعب منتخب انتخابا نزيها و شرعيا ، أو من خلال مورد ( تحرير الرقيق ) الذى لم يعد موجودا . مع ملاحظة تكرار الوصايا فى القرآن بعتق الرقيق . والعتق من الجهل هو عتق من الرّق . والتعليم ـ أو صناعة إنسان محترم مثقف راق واع ـ هو ضمانة الحرية والرخاء فى المجتمع . كما أن بند (ذوى القربى ) واسع وعريض ويمكن بسهولة أن يتكفل بالتعليم لأن المستفيدين بالتعليم هم الأبناء والأخوة لكل أفراد المجتمع ، هم ذوو القربى لكل فرد ، وهم الأحق بالرعاية الصحية والتعليمية بما يؤهلهم للترقى بأنفسهم وبمجتمعهم.
ثالثا : حدود استعمال الزينة وتحريم كنز الذهب والفضة
1 ـ بسبب تركز المال لدى الخلفاء الأمويين ثم العباسيين قام الفقهاء السنيون بتحريم استعمال الذهب والفضة والحرير. أى إن العصيان السلوكى للخلفاء بكنز الذهب والفضة واكل أموال الناس بالباطل أدى لتطرف فى العصيان من ناحية أخرى هى تحريم المباح الحلال ، وهو استعمال الذهب والفضة والحرير  والجواهر .
2 ـ ومن البداية قال جل وعلا فى تجريم تحريم الزينة أى الذهب والحرير والجواهر:( يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) ( الأعراف 31 : 33 ) .
قوله جل وعلا عن الزينة الحلال (قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يعنى أنها حلال للمؤمنين فى الدنيا ولغيرهم أيضا ، ولكن ستكون حلالا خالصا لهم يوم القيامة وهم فى الجنة يتمتعون بالذهب و الحرير ، يقول جل وعلا عن تمتعهم فى الجنة :(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ )(فاطر 33 ) ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا  ) ( الكهف 30 : 31 ).
ولأن الجواهر حلال فى الاستعمال فقد تكرر تذكير الله جل وعلا للبشر بالنعم المستخرجة من البحر ، ومنه الدرر والجواهر وهى اثمن من الذهب :(وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا)( فاطر 12 )(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) ( النحل 14  ).
3 ـ ولكن الله جل وعلا وضع ضوابط لاستعمال الزينة ، وهى منع الاسراف (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ  ). فالمفترض فى الزينة أنها قليلة يتجمل بها الانسان وهو يحملها على جسده ، ولا نتصوره يحمل زينة ثقيلة ينوء بحملها ، ولو فعل ذلك لاستحق سخرية الناس . ولكن بعضهم يكنز فى خزائنه زينة الذهب والفضة والجواهر ، ويختار بعضها يرتديها فى كل يوم بشكل ولون ونوع مختلف . هنا الاسراف المحرم المنهى عنه ، والذى يتحول به حفظ الزينة الى كنز لها ، فالاسراف يؤدى الى كنز الذهب والفضة أى منعه من التداول:(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ)(التوبة  34 : 35). أى إنه كما منع رب العزة من تحريم التمتع بالزينة فقد منع أيضا من الاسراف فى استعمالها ، وهذا معنى قوله جل وعلا :( يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ). بل جعل رب العزة من الكبائر فى الذنوب أن نتقول على الله جل وعلا بلا علم وان نفتى بتشريع ما أنزل الله به من سلطان (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ).

4 ـ ودعا رب العزة الى أن ننظر الى كل متاع الدنيا على انه مجرد زينة فى حياة مؤقتة وهى الدنيا فلا ينبغى ان تحتل الأولوية فى حياة المؤمن بدلا عن الاخرة . يقول جل وعلا :(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )(آل عمران 14 : 15 ) (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا )(الكهف 46 ).
5 ـ وجعل رب العزة الحلّ فى التصدق فى سبيل الله جل وعلا: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ )( الحديد 20 : 21 ).
وبهذا يتحول استعمال الزينة بالاعتدال الى وسيلة إيجابية تمنع كنز المال وتركزه لدى المترفين وهذا يعنى سرعة دوران المال داخل المجتمع بما يحقق النماء ، كما إن التصدق بالزائد منها وانفاقه فى سبيل الله جل وعلا ينشر الحب والتعاطف بين أفراد وطبقات المجتمع . وعكس ذلك يعنى زيادة الحقد الطبقى لدى الفقراء وزيادة البخل والشح من الأثرياء .
رابعا   : العطاء المالى و العطاء الوجدانى

1 ـ سبق أن تعرضنا لآداب الصدقة ووجوب أن تتنزه عن المنّ والأذى . وعرفنا أن الصدقات بكل أنواعها والفىء والغنائم يشترك فى خيرها عموم المجتمع وتساعد فى سرعة دوران رأس المال مما يدفع بالمجتمع الى طريق الرخاء . ولكنّ الرخاء وحده لا يكفى حتى مع كفالة حق المحتاجين ماليا ( الفقراء والمساكين ) والمحتاجين وجدانيا وعاطفيا ( اليتامى )، فلا بد أن يقترن الرخاء ورعاية المحتاجين بإشعارهم بأن ما يأخذون هو حقّ لهم بتعبير القرآن الكريم : (وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ )( الأنعام 141 ) (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) (الاسراء 26  ) (  فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )( الروم 38) (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ )(الذاريات 19 )(وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) (المعارج 24 : 25 ).
2 ـ ومن هنا نفهم حرص رب العزة جل وعلا على استعمال مصطلح ( الاحسان ) فى هذا السياق ؛ فالاحسان مصطلح قرآنى يعنى مجموعة من القيم العليا من التسامح والغفران والنبل والعطاء دون إنتظار شكر أو أجر من البشر. ونراجع بعض السياقات القرآنية فى العطاء المالى وإقترانها بالاحسان .
2 / 1 : يقول جل وعلا : ( وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ  ) ( النساء 36 ) الاحسان هنا يشمل أيضا الجار والصاحب .
2/ 2 : ويقول سبحانه وتعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ) ( الاسراء    23 : 28 ) هنا تركيز على حق الوالدين مع التسامح الذى يتأكد مع قوله جل وعلا (وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ  )( النور 22 ).
خامسا :وسائل أخرى فى محاربة الجوع والفقر المدقع:
1 ـ جعل إطعام المسكين فدية على من:
* يفطر فى رمضان لأنه لا يقدر على الصيام :(أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ )( البقرة 184 ).
* وعلى من يحلق رأسه وهو محرم بالحج : (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ  ) ( البقرة 196 ).
* ومن يحنث فى اليمين : (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) ( المائدة 89 ).
*ومن يقتل الصيد فى الحرم : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ ) ( المائدة 95 ).
* ومن يظاهر من إمرأته ثم يعود :(وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) ( المجادلة3 : 4 ).
2 ـ دخول المسكين والفقير ضمن مفهوم ( المحروم )، وله حق معلوم فى صدقة الأبرار (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ  ) ( المعارج 24 : 25 )، (  وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ  )( الذاريات 19  ).
3ـ التأكيد على حق المسكين فى وصايا عدة منها (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ  ) ( البلد 13 : 16 ).
4 ـ يتم هذا بالتعاون مع تشريعات أخرى تمنع الاحتكار وتقضى على دابر  الفساد وتربط الحرية الاقتصادية بالحرية السياسية والديمقراطية المباشرة والمحاسبة والشفافية والحق فى العدل والقسط وانفتاح الطريق أمام الأفراد للسعى فى الرزق من خلال قوانين تيسر وتسهل الاستثمار والتعمير والاستصلاح ، وتحصر دور الدولة فى حفظ حقوق الأفراد واستعمال الضرائب والزكاة لاعادة توزيع الدخول بما يضمن حقوق المحتاجين وبما يساعد على سرعة دوران رأس المال لصالح الثروة التى يملكها المجتمع فى الأساس وتكون ملكا للأفراد طالما أحسنوا إستثمارها وتنميتها ، وإلا ينتزعها منهم المجتمع لو كانوا سفهاء ويديرها نيابة عنهم ويعطيهم نفقتهم وحقهم فى الرعاية : (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ) ( النساء 5 ).
5 ـ بهذا يتم ليس فقط القضاء النهائى على الفقر المدقع ، بل يتيسر الطريق لشرائح من طبقة الفقراء لتصعد الى الطبقة المتوسطة التى هى صمام أمن المجتمع ، والتى بدورها يتضخم عددها وتتنوع شرائحها بحيث تصبح الأغلبية طبقات وسطى و الأقليات من الفقراء و الأثرياء ، بل و يتغير مفهوم الفقر ومعياره بحيث يكون (الفقير ) فى هذا المجتمع مساويا من حيث الدخل والامكانات للثرى فى مجتمع آخر .
ختاما
هذه هى سمات المجتمع المسلم ودولته الاسلامية . وبقدر ما توجد بعض هذه السمات الايجابية فى أى مجتمع بقدر ما يكون مجتمعا اسلاميا ودولة اسلامية ، وبنفس القدر يتحصّن من أسباب الهلاك . ومجتمعات الغرب ودوله العلمانية هى الأقرب الى المجتمع الاسلامى الحقيقى ودولته القائمة على العدل والحرية وكفالة حقوق الانسان وكرامته وحقه فى السعادة والسعى فى الرزق.
نتوقف فى الحلقة القادمة مع المجتمع الآخر ، المجتمع الهالك ، وسماته التى تنطبق ـ مع شديد الأسف ـ على المجتمعات المسلمة من المغرب الى أفغانستان وباكستان مرورسا بمحور الشّر ـ وهى السعودية .

( 8 ) مجتمع بلا زكاة مصيره الهلاك

مقدمة :
1 ـ استهلكنا حلقات طوالا فى ( الزكاة ) بمعنى تزكية النفس وسموها الخلقى ، وأن الزكاة المالية المعروفة هى الصدقة . ووصلنا الى أن الزكاة المالية ضمن مصارف أخرى ـ كالفىء و الغنيمة ـ تسهم فى استقرار المجتمع ورفاهيته ورخائه وتكوين شبكة ممتدة ومتشعبة ومتعمقة من العلاقات الوثيقة الايجابية بين أفراده عبر تنوع المستحقين للعطايا من فقراء ومساكين وأقارب وابناء سبيل ويتامى وسائلين ومحرومين ..الخ. وقلنا من قبل إن تعريف المسلم هو المسالم بغض النظر عن دينه وعقيدته ، وأن مستحق الصدقة و الغنائم والفىء وغيرها يكون بصفته فقيرا أو مسكينا او سائلا أو قريبا أو يتيما ، وليس تبعا لدينه أو حتى تقواه أو عصيانه لأن ذلك العطاء حق له ولشخصه ولا يرتبط باتجاهاته الفكرية أو العقيدية .
وانتهينا الى أن تلك السمات هى التى تحدد ماهية المجتمع المسلم ودولته الاسلامية ،وانها تتوفر فى الغرب المسيحى وتفتقر اليها  الشعوب المعروفة بانتمائها الى الاسلام . وهذا يجعل الاسلام مسئولا فى نظر بعض السطحيين و المتعصبين عن أحوال المسلمين ، هذا مع إن تلك الشعوب ( المسلمة ) تعتنق أديانا أرضية تناقض الاسلام ، وواقع الأمر أنها تخضع لنظم سلطوية استبدادية ظالمة ، والأديان الأرضية والاستبداد  هما معا سبب نكبات المسلمين فى الماضى وفى الحاضر .
2 ـ ومن عجب أن القرآن الكريم ـ الذى لم نقرأه ولم نقدره حق قدره والذى اتخذناه مهجورا ـ هو الذى يهاجم الاديان الأرضية والطغيان والظلم والفساد والاجرام والاستعباد ، وهو الذى يؤسس لتلك الدولة الاسلامية الديمقراطية السامية بخلقها وعدلها و قيمها وحقوق الانسان فيها . ليس ذنب الاسلام أن من ينتسب اليه يهجرون حقائقه فى العقيدة و الشريعة والاخلاق ، وليس ذنب الاسلام أن ( المسلمين ) يعتنقون اديانا أرضية كالتشيع و التصوف والسّنة ، فى الواقع فإن القرآن الكريم هو الحجّة على المسلمين قبل غيرهم لأنهم وضعوا أنفسهم فى موضع العداء له ، وهم الذين بعقائدهم وسلوكياتهم وتاريخهم وتراثهم شوهوا الاسلام وجعلوه موضع سخرية واستهجان العالم .
3 ـ وفى هذا المقال لمحة عن سمات الدولة المستبدة الظالمة الكافرة التى تنطبق على معظم بلاد المسلمين التى لا تمارس الزكاة ـ بمفهومها الخلقى العام فيكون مصيرها عادة الى الهلاك ، بحيث تجد احداث ووقائع الهلاك جزءا لا يتجزأ من تاريخها ، سواء فى كوارث طبيعية أو حروب اهلية أو احتلالات أجنبية . وتاريخ العرب المسلمين يعطى الأمثلة لذلك بدءا من الفتنة الكبرى الى سقوط الدول الأموية و العباسية وسقوط الاندلس والحملات الصليبية و الاستعمار الاوربى الى قيام النظم الاستبدادية والدول الدينية والدعوات السلفية فى عصرنا الراهن. والعادة أن من مظاهر الهلاك أن يسلط الله جل وعلا الظالمين بعضهم على بعض ليهلك بعضهم بعضا.
أولا :بداية الظلم العقيدى وبداية الظلم السلوكى
1ـ خلق الله جل وعلا البشر أحرارا متساوين فى الخلق وفى عبوديتهم له وحده بحيث أن من حقه جل و(علا ) أن يكون هو وحده الذى ( يتعالى ) على عباده لأنه وحده الخالق لهم. وبالتالى فليس لأحد من البشر المخلوقين أن يتعالى على أمثاله وأقرانه من أبناء آدم . هذا ما ينبغى أن يكون ، وهذا ببساطة  هو مفهوم العدل والمساواة . ولكن الله جل وعلا خلق الانسان ليختبره فى هذه الحياة الدنيا ، لذا جعل البشر متفاوتين فى القدرات الفردية وفى الأخلاق ،وبهذا التفاوت والاختلاف يسعون للرزق فيحدث الصراع حول الثروة و السلطة ويهتز ميزان العدل ، خصوصا وأن النفس البشرية قد ألهمها الله جل وعلا الفجور والتقوى وترك أمر تزكيتها أو فسادها لارادة الهدى أو الضلال داخل الانسان نفسه . وفى مقابل الشيطان الذى يزين للانسان الظلم فإن الله جل وعلا أرسل الرسالات السماوية لكى يقيم الناس القسط ( الحديد 25 ).
2 ـ العدل له مستويان وللظلم أيضا مستويان : عدل مع الله جل وعلا ، فمن الظلم لله جل وعلا أن تتخذ معه شريكا وهو وحده الخالق ،أو أن تنسب له زوجة أو ولدا وهو الذى ليس كمثله شىء. وهذا العدل هو حق الله عز وجل ، والله جل وعلا خلقنا أحرارا ، لنا حق الاختيار بين الايمان والكفر والطاعة والمعصية ، وسيحاسبنا يوم القيامة تأسيسا لهذه الحرية. ثم هناك العدل بين البشر فلا يصح لأحد أن يبغى أو يطغى أو يتعدى على حق الآخر أو يظلم الآخر.والله جل وعلا يأمر بالعدل والاحسان،( النحل 90)،والاحسان فوق العدل ، بالعفو عن الظالم والتبرع بالمال للسائل والمحروم .  تضييع العدل فى التعامل مع الله بعبادة وتقديس غيره عقوبته الخلود فى جهنم . تضييع العدل بين البشر بإقامة حكم استبدادى والرضوخ له عاقبته الهلال فى الدنيا . والله جل وعلا أعلم بمصير المستضعفين يوم القيامة ولكن الظالمين مصيرهم الجحيم .
3 ـ وبتطور مسيرة الظلم يتشابك نوعا الظلم. يبدأ بظلم لأفراد بالعشرات والمئات والآلاف ويتحول الى ظلم شعب بأكمله يتملكه ظالم واحد بصفته ملكا أو زعيما أو رئيسا ، يقهر شعبه حتى يستكين له ، ويستعين بجزء ضئيل من الشعب ليكونوا عدته فى إذلال الشعب ، ويقوم أيضا بالتفرقة بين طوائف الشعب والايقاع بينهم ليظل راكبا فوق ظهرورهم . ومع تنوع أعوان المستبد الظالم من كتبة مثقفين واراجوزات وعسكر وكلاب حراسة لكن يظل أخطرهم أثرا فى مساندة الظالم والظلم هم رجال الدين الأرضى. ومن هذه الحقيقة نبتت مقولة ( الدين أفيون الشعوب ) ، والمقصود بالدين هنا هو الدين الأرضى الذى سيطر على الغرب فيما سبق ولا يزال يسيطر على المسلمين حتى الآن . وبالتحالف بين الدين الأرضى الحاكم المستبد يتعانق نوعا الظلم ( ظلم البشر لبعضهم وظلم البشر لله جل وعلا) إذ أن الدين الأرضى بكل أنواعه هو أفظع ظلم لله رب العالمين .4  ـ فى تشابك ظلم البشر لبعضهم البعض يتعذر أن تتعرف على الظالم والمظلوم ، فكل فرد تقريبا يكون ظالما ومظلوما فى نفس الوقت ، ليس لأنه ظلم نفسه بالسكوت عن الظلم والسكوت عن قول كلمة حق ،       ولكن لأنه وهو مظلوم لا يتوانى عن ظلم الآخرين . يسرى هذا على مستوى افقى ورأسى . المستبد الأكبر يقهر كبار دولته ، وأولئك يقهرون من دونهم الى أن تصل الى المخبر أو الجندى الذى يتسلط على عوام الناس. وفى مستوى الأغلبية الصامتة المقهورة تراها لا تكتفى بظلم نفسها بالسكوت على الظلم ، بل يقهر الأقوى منهم من هو أضعف منه ، الزوج يقهر زوجته والأخ الأكبر يقهر أخوته الصغار والذكر يقهر الأنثى ،والناظر يقهر المدرسين والمدرسون يقهرون التلاميذ ، والموظف البسيط يتعالى على أصحاب المصالح ، والكل يعذّب الكل،والكل يشكو والكل ظالم والكل مظلوم. 
5 ـ وفى تشابك ظلم الناس لرب العزة بأديانهم الأرضية تتنوع المظاهر ولكن تتفق فى تجاهل الدين الحق الذى يدعو الناس لاقامة القسط وما يتطلبه ذلك من استعمال السلاح أو الحديد ذى البأس الشديد (الحديد 25 ).  بعض الأديان الأرضية تتخصص فى الخنوع والتسليم بالأمر الواقع ترفع شعار ما لله لله وما لقيصر لقيصر، وتتفنن فى الرقص فى مواكب السلطان ، كالتصوف وشيوخ المؤسسات الدينية الرسمية وأولئك هم أخطر دعائم الظلم والظالم ، وبعضهم يعتنق دينا أرضيا يتمرد به على الواقع ويحاول الوصول به الى السلطة لا لآقامة العدل بل لاقامة دولة دينية يكون بها متحكما فى الناس ليس فى الدنيا فقط بل فى الآخرة أيضا .
6 ـ فى تشابك الظلم للناس ورب الناس يصل المجتمع الى تركز السلطة والثروة فى يد نخبة مترفة ينتهى بها المجتمع الى الهلاك. تلك هى مواصفات ونهاية المجتمع الظالم الذى لم تطهره الزكاة .
ثانيا : سمات الطبقة المترفة ومجتمعها
1 ـ فى المجتمع العادل الحرّ (الاسلامى حقا ) قلما يوجد أفراد مترفون ، بل لا توجد أصلا طبقة مترفة لأن دوران رأس المال يمنع تركز المال فى طبقة يتضخم ثراؤها بأكل أموال الناس بالباطل فيتحول الثراء الى ترف . فى المجتمع العادل الحرّ (الاسلامى حقا ) تتضاءل طبقتا الفقراء والبلوينيرات ، بينما تتوسع أفقيا ورأسيا الطبقة الوسطى بكل شرائحها من أصحاب الملايين الى أصحاب الدخول المرتفعة من العاملين والخبراء والتجار . وأحيانا تصعب التفرقة بين الناس من حيث المظهر فالسيارات يركبها الغنى والفقير والغذاء الوفير على مائدة هذا وذاك . لايبقى التفاوت فى المظهر سوى فى ملامح متفرقة فى المسكن والعمل. يختلف الحال فى مجتمع الاستبداد والظلم المؤهل للهلاك .
2 ـ ونتعرف على ملامحه من سياق الحديث القرآنى عن المترفين
2/ 1 : تتجلى أبرز السمات فى المساكن ، فالقصور والمنتجعات والشاليهات والعمارات والأسواق الفارهة الضخمة لأقلية القلة من عدد السكان ، يتمتعون بكل وسائل الرفاهية وبأرخص الأسعار أو بالمجان مبتعدين بأنفسهم عن بقية الشعب ، يحيطون مدنهم وقراهم السياحية و منتجعاتهم الصيفية والشتوية بأسوار وحراس . هذا بينما تنتشر العشوائيات بلا مرافق على أطراف المدن و يعيش الفقراء فى المقابر وعلى الأرصفة وتتحول القرى والمساكن الشعبية الى مواطن للأوبئة والتلوث . ويتجلى هذا فى عصر مبارك حيث تم توصيل المرافق الى الساحل الشمالى و ساحل البحر الأحمر ليس لاستزراعه واستثماره لصالح المصريين ولكن لرفاهية المترفين الذين لا يملكون القدرة على الخجل ، إذ لا يحتاجون الى مساكن وقصور إضافية لأن لديهم مختلف الشقق الفاخرة بينما تعانى أجيال كاملة من أزمة الاسكان وتعانى أحياء القاهرة من تدنى الخدمات . نفس الحال فى السعودية حيث تغرق جدة فى المجارى بينما يخطط المترفون لاقامة أعلى برج فى العالم ، وهناك من يعيش فى المملكة فى عشش من الصفيح ولا يجدون ما ينفقون .
وعند وقوع الهلاك تكون المعالم الأساس الباقية بعد التدمير هى قصور خاوية ومرافق مدمرة ـ يقول رب العزة جل وعلا عن إهلاك الأمم السابقة  : (فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ) (  الحج 45 ). اصبحت خاوية على عروشها ، فيها بئر تعطل وقصر مشيد مهجور خاو على عروشه. البئر كان يخدم الشعب كله وهو رمز للمرافق ، ولكنها كانت معطلة لتتوفر الموارد لتشييد القصر الذى يسكنه شخص مترف واحد ، وجاء الهلاك فبقى هذا وذاك دليلا على الظلم وعلى عدم التزكية أو الزكاة. وبعد ثورة 25 يناير وحبس أئمة المترفين أصبحت بعض قصورهم خاوية خربة ومدمرة بينما لا تزال العشوائيات والأحياء الفقيرة على حالها بما يعد إرهاصا بهلاك قادم إن لم تتحقق التزكية والزكاة و الاصلاح .
2/2 : الانحلال الخلقى بأسوأ معانيه تقع فيه القلة المترفة ، وهى تستخدمه فى سياستها وتجد متخصصين فى استغلاله من القوّادين ، وبعضهم يصل بسبب خدماته الى أرفع المناصب ، بل ربما يكون مسئولا عن صياغة العقل والوجدان وهو عاهر أصيل وقوّاد لا يشق له غبار . وليس صفوت الشريف هو المثال الوحيد هنا فستتكشف الأمور عن أمثلة عربية كثيرة لأسماء لامعة ، لأنها سمة أصيلة من سمات المترفين تحدث عنها رب العزة فقال :(وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) أى أمرنا مترفيها بالعدل ففسقوا وعصوا فتم تدميرهم ، وهذا قانون الاهى تم تطبيقه على القرى ـ أى المجتمعات والدول منذ عهد نوح ، يقول جل وعلا :( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) ( الاسراء 16 : 17 )، وسيستمر التطبيق والتدمير للقرى الظالمة ساريا الى قيام الساعة ، يقول جل وعلا فى نفس السورة (وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا )( الاسراء 58 ).

2/ 3 : ومع ذلك كان يمكن تفادى الاهلاك لو قام دعاة للاصلاح يدعون للعدل مع الله بعبادته وحده وتقديسه وحده ولاقامة العدل بين الناس ،واستجاب لهم الناس.  وفعلا نجت بهذا مجتمعات قليلة ـ قديمة ـ من الهلاك ، بينما دفعت الأكثرية منها مسيرة الظلم ومعيشة الترف على حساب الجوعى ، وهذا ما يقوله رب العزة لنا فى القرآن لنتعظ وننجو من هلاك قادم :(فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ) فالقاعدة إن الله جل وعلا لا يهلك قرية إلا إذا كان أهلها ظالمين : (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ  ) ( هود 116 : 117 ).
 2/ 4 : والعادة أيضا أن يتصدى المترفون للاصلاح ليس فقط لأنهم هم المفسدون ولكن لأن الاصلاح سيكون على حسابهم ، سينزل بهم من عليائهم الى موقع المساواة ببقية الشعب ، وسيأخذ ما سلبوه من الناس ليعيدوه الى الناس. وهنم ليسوا على استعداد للتنازل عن السلطة والثروة ، لذا يقاومون الرسل والأنبياء والدعاة للحق والعدل بالاضطهاد والانكار والكفر :(وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ  ) ( سبأ 34 : 35 ).
2/ 5 : وهم حين يقولون ( نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ  ) ( سبأ  35 ) فلا يقولونها من فراغ ، هم يقولونها من واقع دين أرضى متجذر ومتوارث تم تأليفه ليدافع عن الظالمين المترفين ، ولا يزال يقال فى مصر ( سعيد الدنيا سعيد الآخرة ) وهى نفس المعنى الذى يجعل المترفين يعتقدون ملكيتهم للآخرة والجنة كما يخيل اليهم أنهم ملكوا الدنيا. يأتى الهلاك فيفقدون الدنيا ، ويأتى يوم الحساب فيخلدون فى الجحيم .

2 / 6 : ومن سمات هذا الدين الأرضى المتوارث عبادة ما وجدنا عليه آباءنا ، لذا يرفضون الحق الالهى لأنه يدعو لاقامة العدل وينهى عن الظلم . وهى قاعدة لا استثناء لها أن يتحجج المترفون بدينهم الأرضى وعبادة التراث ، وبه يعارضون القرآن الكريم . يقول جل وعلا : ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) ( الزخرف 22 : 23  ).
2/ 7 : ويبقى فى النهاية أن  النجاة من التهلكة هى التزكية والزكاة بالاحسان وليس مجرد العدل : (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (البقرة 195 )، وإلا فالهلاك كما حدث لمن سبقنا : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) ( يونس 13 ).
أخيرا : هل يمكن للعرب تجنب الهلاك الذى بدأت إرهاصاته الآن ؟
بإيجاز : يواجه العرب تحدى التخلص من النظم المستبدة القائمة وبعده سيواجهون تحديا أفظع وهو التخلص من الحركات السلفية التى تطمع فى وراثة ذلك الحكم الاستبدادى . لو نجحت الحركات السلفية بتحويل الاستبداد العسكرى الى حكم دولة دينية سلفية فسيتم الهلاك . أى إن النجاة من الهلاك مرتبط بتحجيم الحركة السلفية بأسرع ما يمكن. التحجيم النهائى للحركة السلفية مستحيل طالما ظلّ الشيطان السلفى الأكبر فى الرياض. لا بد أن تسقط الدولة السعودية حتى يعيش المسلمون أحرارا .

  (9 ) : الحكم الشرعى فى دفع الزكاة داخل الدولة المستبدة

 

مقدمة :

 إن خطاب القرآن الكريم لدولة اسلامية حقيقية أصبح استثنائيا بحكم الواقع التاريخى لأن الدولة الاسلامية التى أقامها خاتم النبيين عليهم السلام ما لبث أن تساقط بنيانها شيئا فشيئا فى عصر الخلفاء الراشدين الى أن تم استبدالها بالحكم الأموى الظالم المستبد وما تلاه من خلفاء غير راشدين . وبالتالى فإن حديث رب العزة لا محل له فى تلك الدول التى تناقضت مع شريعة الاسلام عمليا فى الدولة الأموية ، ثم تمّ تشريع هذا العصيان فى الشريعة السّنية فى العصر العباسى. من هنا فالحديث عن زكاة يكون من مصارفها بند (فى سبيل الله) لم يعد له وجود ، فالمستبد الأموى أو العباسى أوالمملوكى أو العثمانى كان ينهب مال الرعية ويصادر أموال أتباعه الحرامية الذين يسرقون له اموال الناس ، ويهاجم البلاد الاخرى للسلب والنهب ، وفى كل ما يفعل هو يعتقد انه يملك الارض ومن عليها . ليس هذا جهادا فى سبيل الله ولكنه اعتداء فى سبيل الشيطان ؛ إعتداء على المواطنين الذين جعلهم رعية مملوكة له ، وإعتداء على أمم أخرى واحتلالها وفرض الجزية والضرائب عليها إثما وعدوانا.إن كل ما يفعله هو فى سبيل إشباع غرائزه وجشعه ونزواته وغروره واستبداده . وعلى نسق أولئك الخلفاء والسلاطين جاء فى عصرنا مستبدون بنفس الملامح من آل سعود الى صدام ومبارك والقذافى وبن على وغيرهم ، ويتأهب السلفيون الى الوثوب على الحكم فيما يسمى بربيع الثورات العربية ليستعيدوا الظلم الأموى والعباسى والمملوكى و العثمانى ، وهو الأصل الذى تقلده نظم الحكم الحالية.


أولا :  

1ـ الى أن تقوم دولة اسلامية حقيقية فقد انتهى تطبيق أى دولة مستبدة للتشريع القرآنى فى تحصيل وفى توزيع الزكاة الرسمية في قوله جلّ وعلا :( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(التوبة 60).ولكن ماذا عن الزكاة الفردية وزكاة الأبرار التطوعية ؟
2 ـ الزكاة المالية الفردية غير الرسمية واجبة سواء كان الفرد يعيش فى دولة اسلامية أو مستبدة ، فيجب ان يعطيها الفرد للوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل:(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )(البقرة 215). والأمر هنا واضح فكل فرد يعرف والديه وأقاربه وكم هم حوله من اليامى والمساكين ومن يمرّ به من الغرباء أبناء السبيل ، والمجال مفتوح أمامه للبر والاحسان بهم ابتغاء وجه الله عزوجل فى المحيط الذى يعيش فيه .
3 ـ ويبقى لنا نوعان من الصدقة والزكاة المالية : الرسمية و التطوعية .فالى أين يتوجه الفرد المؤمن بزكاة ماله (الرسمية )و( التطوعية ) وهو يعيش فى ظل دولة ظالمة مستبدة ؟ ذلك المؤمن المتقى الذى يريد أن يكون من الابرار السابقين المقربين يوم القيامة ويريد تقديم المزيد فوق الواجب المفروض عليه من الصدقة ليتزكى عند ربه جل وعلا. أين يذهب بصدقاته ؟ .إن رب العزة حدّد مستحقى صدقة الأبرار فقال : (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ )( البقرة 177 ) المستحقون فى صدقة الأبرار التطوعية هم من ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ . ولكن كيف يمكن تطبيقها فى عصرنا فى بلادنا التى تنوء بحكم القهر والظلم والاستبداد والفساد؟.
4 ـ نلاحظ الآتى فى مصارف ومستحقى الصدقة الرسمية والتطوعية :
4/1 : هناك حق لله جل وعلا يتمثل فى الجهاد فى سبيل العدل. وهو نوعان : *جهاد سلمى وعظى فى سبيل العدل العقيدى فى التعامل مع الله جل وعلا بالدعوة الى أنه لا تقديس إلا لله جل وعلا ، ولا عبادة إلا له جل وعلا ، مع تقرير حرية المعتقد للجميع على أساس مسئوليتهم على اختيارهم العقيدى أمام الله جل وعلا يوم القيامة . ثم * جهاد سلمى وحركى فى سبيل إقامة العدل بين الناس ومنع الفتنة أو منع الاكراه فى الدين . ومتوقع لهذا الجهاد السلمى أن يواجه العسف والاضطهاد وبالتالى قد تتحول حركته السلمية الى محاولات للدفاع عن النفس . ونوعا الجهاد يتطلبان معا التضحية بالمال والنفس . وخير الناس من يضحى بالنفس والمال معا .
4/2 : تكررت الدعوة فى القرآن الكريم للجهاد بالمال والنفس بالاضافة الى الدعوة لاقراض الله جل وعلا قرضا حسنا ، وجاء ضمن مصارف الزكاة الرسمية حق الله جل وعلا (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ) ( التوبة 60 ) كما إن هناك بنودا لم تعد تعمل ويمكن توجيهها الى حساب التطوع فى سبيل الله مثل المؤلفة قلوبهم.
4/ 3 : لا مجال مطلقا هنا للتبرع الى دعوة لدين أرضى أو لحركة تعمل فى سبيل الوصول الى الحكم أو ترفع السلاح للهجوم وتغيير الواقع بالقوة ـ هذا لا ينطبق على شعب مظلوم يتحرك سلميا يطالب بحقوقه فيتعرض لهجوم ظالم من قوة خارجية معتدية ،أو من حاكم مستبد طاغ. هنا تكون مؤازرة هذا الشعب حقا من حقوق الله جل وعلا ،أى تكون ( فى سبيل الله ) حتى لو تضمنت حركة الشعب اضطراره للقتال الدفاعى ضد هجوم مسلح غير متكافىء من الطاغية الحاكم . وهكذا فمؤازرة المجاهدين فى سبيل العدل والحرية هى جهاد فى سبيل الله جل وعلا ، مع استثناء الحركات الايدلوجية الساعية للحكم كالاخوان والسلفية وتنظيماتهم.
4/ 4 : أهم مجالات التطوع فى سبيل الله جل وعلا ـ الآن ـ بالمال والنفس تتمثل فى العمل والتبرع لمؤسسات تتفرغ فى توضيح حقائق الاسلام المنسية وقيمه العليا من عدل وحرية مطلقة فى الرأى والدين وسلام وإحسان أى تسامح ، وديمقراطية وعدالة إجتماعية وتكافل إجتماعى . وعلى هامش النضال والجهاد فى سبيل التنوير والعدل يقع ضحايا ، منهم من يلقى حتفه ومنهم من ينتظر ، ومنهم من تنقطع به السّبل بسبب المطاردة ومحاولات الهجرة والافلات من عسف المستبد ، وهم يفقدون ما كان لهم من مكانة وحرمة و ثروة بسبب إختيارهم جانب الحق ، تراهم فى محنة بين عزّة نفس تتأبى أن تطلب الصدقة وحاجة ماسة الى المساعدة ، وما أروع توصيف رب العزة لهم فى سياق الحضّ على مساعدتهم :( لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) ( البقرة 273 ). إن العادة السيئة للمستبد أن يستخدم سلاح التجويع ضد الأحرار المجاهدين ضده ، كما يستخدم القهر لارهاب الناس العاديين من الاقتراب ممن يغضب عليهم ويعتقلهم ، فيعيش أقارب المعتقل المظلوم بين حرمان وتجاهل من الناس ، فإذا خرج المعتقل المظلوم ووجه بالناس تتفاداه وتخشى الاقتراب منه ، وقد لا يجد عملا بحيث يتمنى لو عاد الى السجن .! ضحايا المستبد والمؤسسات التى تقوم على رعايتهم أولى بالرعاية والعون ، ورعايتهم والتبرع لهم جهاد فى سبيل الله جل وعلا.
4 / 5 :و نجد أمثلة فى التبرع للمنظمات العاملة فى إنقاذ الجرحى كالصليب الأحمر والهلال الأحمر ، والى جمعيات حقوق الانسان والديمقراطية ومنظمات المجتمع المدنى العاملة فى مجالات التنوير وثقافة السلام والانفتاح الايجابى الخيّر مع العالم ، وذلك بعد التأكد من اخلاصها فى عملها وشفافية حساباتها المالية وعدم ارتباطها بحركة سياسية أو مذهبية أو عنصرية.التبرع لتلك المؤسسات هو جهاد فى سبيل الله جل وعلا بالمال ، ومساندتها بالعمل التطوعى هو جهاد بالنفس .
4 / 6 : أما حقوق البشر فى الصدقة الرسمية و التطوعية فيمكن ان يضاف اليها موارد كانت مخصصة عتق الرقيق والتوسع فى مستحقيها لتشمل رعاية المرضى و التبرع للمستشفيات و مساعدة الطلبة الفقراء ورعاية دور الأيتام و مؤسسات تأهيل الأحداث المنحرفين ورعاية أطفال الشوارع. وهناك مؤسسات خيرية تعمل فى هذه المجالات وتسعى لجذب التبرعات.والتبرع لها أهم مصارف الزكاة الرسمية والتطوعية .
4 / 7 : وحيث توجد الكوارث الطبيعية والمجاعات فالاسراع الى نجدتها واجب فردى على كل مستطيع ، لا فارق هنا بين ضحايا الكوارث والمجاعات إن كانوا مسلمين أو غير مسلمين ، كما تفعل المنظمات الخيرية الغربية التى تحترم الانسان كانسان وتساعده كانسان دون أى إعتبار للجنس أو اللون أو العقيدة والدين.

 

أولا :  

 

وياليتنا نتعلم من المنظمات الغربية التى تداوى جراح المسلمين فيما يعرف بالعالم الاسلامى ـ المبتلى بالاستبداد والفساد و..السلفية !!.
أخيرا
وهكذا ففى ظل دولة ظالمة يعانى فيها الناس وخصوصا الفقراء يمكن تخفيف المعاناة بتوجيه الصدقات بأنواعها حقا لله جل وعلا و حقا للمستحقين من البشر وعونا للمجاهدين فى سبيل الله جل وعلا ..

(10 ): لا يجوز دفع الضرائب فى دولة مستبدة


1 ـ فى بداية حكم مبارك فى أوائل الثمانينيات كنت أعمل مدرسا فى قسم التاريخ الاسلامى والحضارة الاسلامية فى جامعة الأزهر ، وكان هذا القسم وقتها يتولى تدريس مادة التاريخ فى معظم كليات جامعة الأزهر ، ولما كنت شابا مفعما بالحيوية وسط أقران جاوزوا سنّ العمل الشاق فقد رحبت بقبول جدول ضخم ، فكنت أتولى تدريس مواد التاريخ داخل القسم فى كلية اللغة العربية وفى كليات أخرى فى القاهرة والزقازيق والمنوفية وطنطا. كنت سعيدا بالعمل الشاق لأن لدى ما أقوله وكان ( ولا يزال ) يثير الجدل و يحرّك الراكد من العقول . ولكن كان التصحيح فى الامتحانات هو العبء ، حيث كان مفروضا علىّ أن أقوم بتصحيح حوالى عشرة آلاف من أوراق الاجابات لجميع الطلبة فى القاهرة ( كليات فى منطقة الدرّاسة ومدينة نصر ) بالاضافة الى الأقاليم ، وكنت أضطر لحملها بنفسى فى المواصلات بالاضافة الى عملى فى كنترول الامتحانات فى الكلية التى أعمل فيها رأسا. ولم تكن لدى سيارة ـ وأذكر أنه جاء رمضان شديد الحرارة فى هذا الوقت من العمل ليل نهار . وكان بعض الزملاء يكتفى بالتصحيح وهو فى الكلية نهارا يعمل فى الكنترول ، وأذكر زميلا كان يرتدى الزى الأزهرى يتميز به عنا ، ورأيته وهو يصحح مادة التفسير لعدة مئات من الطلبة ، وكان لا يفتح كراسة الاجابة ، ولا ينظر اليها أصلا ، بل يكتفى بكتابة رقم 50 أو 55 ، اى درجة النجاح بالمقبول للجميع ، وهو يتكلم معنا دون أن يكلف نفسه عناء النظر للورقة . كنت على النقيض احرص ما استطعت على قراءة الاجابات وتقدير الدرجة المستحقة. وأذكر أنه فى تلك السنة التى جاء فيها رمضان فى الامتحانات اضطررت الى حمل ما تبقى من أوراق التصحيح وذهبت بها الى بلدتى أبوحريز فى محافظة الشرقية لاستكمل المهمة قبل عيد الفطر . وانتهت محنة هذا العام بالحصول على مكافأة التصحيح ، وكان مبلغا مهولا .!! طبقا للقواعد الموضوعة وقتئذ فإن الاستاذ الجامعى وقتها عليه أن يصحح بالمجان كمية فى حدود 300 ورقة ـ على ما أتذكر ، ثم الذى يزيد يأخذ عليه مكافأة لا تتعدى 300 جنيه أو 250 جنيه ـ لا أتذكر . المهم اننى قمت بتصحيح أكثر من عشرة آلاف ورقة وجاءت المكافأة بالحد الأقصى ، وبعد خصم الضرائب أتذكر أننى قبضت مبلغ 210 جنيها فقط .

فى نفس العام كانت محاكمة رشاد عثمان ، ونشرت الصحف وقتها إنه حصل على إعفاء ضريبى قدره 5 مليون جنيه عن ( إحدى ) شحنات الخشب التى كان يستوردها . حين وصل مبارك للحكم أراد تشويه سمعة سلفه صاحب الفضل عليه انور السادات ، فلم يجد طريقة سوى الايقاع بأخ السادات (عصمت السادات ) الذى كان شريكا لرشاد عثمان . رشاد عثمان هذا بدأ من الصفر فى ميناء الاسكندرية مستفيدا من الفساد هناك واتهم بالعمل فى تجارة المخدرات ، وصار متحكما فى الميناء ، ودخل الحزب الوطنى ، واشتهر بأن الرئيس السادات قال إنه يأتمنه على الاسكندرية . علا نجم رشاد عثمان فأصبح ضحية لمبارك الذى كان وقتها يتظاهر بالعفة والنزاهة و(أن الكفن ليس له جيوب ) . وكانت محاكمة رشاد عثمان وعصمت السادات تهدف الى تلميع مبارك ووصفه بالرئيس الحريص على طهارة اليد ومحاربة الفساد الذى كان وقتها ببضعة ملايين.!! ما يهمنا هنا هو المقارنة بين عمل استاذ فى الجامعة يكدّ ويتعب شهرين فى تصحيح عشرة آلاف كراسة امتحان ثم تعصف القواعد المالية والضرائب بحقوقه ليقبض بعد عناء 210 جنيها فى الوقت الذى يأخذ فيه تاجر (أمى لا يقرأ ولا يكتب ) خمسة مليون جنيه إعفاء ضريبيا على واحدة فقط من شحنات الخشب. وماذا عن بقية الشحنات وبقية مصادر الدخل الذى لا يظهر فى الاوراق ؟.
2 ـ بالطبع فقد تجاوز الوضع كل الحدود فى عصر مبارك خصوصا عندما سيطر ابناه على مقاليد الثروة والسلطة ومعهما طغمة الفساد ، والكبار منهم فى سجن طرة الآن ، وهم مجرد قمة الجبل الطافية فوق الماء وما خفى أعظم . وستأتى الأيام القادمة بالمزيد والمزيد لمن هم فى السجن الآن ومن لم يدخل السجن بعد . ويتحدثون الآن عن الفوارق فى المرتبات بين الكبار والصغار ، بين مستشارين على المعاش وخبراء فى البنوك تلتهم مكافآتهم ومرتباتهم بلايين الجنيهات وبالعملة الصعبة ، وهم عدة آلاف ، فى مقابل عشرات الملايين من الموظفين فى الحكومة و القطاع العام ، لا يزال مرتب الواحد منهم بضعة مئات من الجنيهات . وفيما يخص موضوعنا عن الضرائب فإن أولئك الموظفين المعدمين يتم خصم ضرائبهم من المنبع ، بينما يجد الكبار ألف وسيلة ووسيلة للتهرب من الضرائب .ومهما بلغ عدد المجانين فى مصر والعالم العربى ومهما بلغت درجة جنونهم فلا أتصور أن واحدا منهم يصدّق أن جمال مبارك أو زكريا عزمى أو صفوت الشريف كان يدفع المستحق عليه من الضرائب ـ لأنه ببساطة لو قام أى ثرى بدفع الضرائب فلن يكون ثريا على الاطلاق ، لأن الضرائب التصاعدية على الدخل تصادر معظم الدخل وتمنع وجود مليونير من الأصل ..
3 ـ هذه الضرائب التصاعدية بالطريقة المصرية هى بالطبع خطأ يجب تصحيحه حتى لا يكون هذا الاجحاف فى نسب الضريبة عذرا للتهرب من دفعها .هذا لوكنا نتحدث عن دولة ديمقراطية حقوقية تقوم على العدل وتمنع فرض ضريبة إلا بقانون ، وفيها برلمان ممثل للشعب بانتخاب نزيه هو الأمين على ثروة الشعب وموارد الدولة ، فيعطى الحكومة بحساب ويحاسبها على ما تنفقه من اموال كما يحاسبها على أدائها فى ادراة مصالح المواطنين وخدمة الدولة ، فى ظل نظام حكم يقوم على العدل والحرية والشفافية ومحاسبة المخطىء مهما بلغ شأنه ، وسيادة القانون فوق الجميع على قاعدة المساواة بين المواطنين فى الحقوق. هذا ما يحدث فى أمريكا وأوربا واليابان. وهذا هو الذى لا تعرفه بلاد المسلمين . من هنا لا يرى الأمريكى بأسا من دفع الضرائب لأنه يجد مردودا حقيقيا لما يدفعه فى صورة حدائق وطرقات ومرافق ، بل إن الضريبة تلعب دورا بارزا فى مساعدة محدودى الدخل ، فهنا فى أمريكا يوجد حد أدنى للدخل ، وصاحب الدخل المحدود حين يدفع عليه ضريبة رمزية يفاجأ عند الحساب بشيك من مصلحة الضرائب يفوق ما دفعه، وذلك وفقا لقواعد تجعل الضرائب عاملا أساسا فى رفع دخل الفقراء . الاحساس الهام هنا أن الأمريكى دافع الضرائب يشعر بأنه الذى ينفق على الرئيس وكبار أعوانه ، ويعرف أن من حقه أن يعرف كيف يتصرفون فى أمواله التى يدفعها. والعبارة السائدة هنا هى الحرص على أموال ( دافعى الضرائب )، هذا لأن الفلسفة هنا أن الشعب هو الذى يحكم وهو الذى يستأجر البعض لكى يدير الأمور بأجر يدفعه له الشعب ، والشعب من خلال ممثليه ومن ينوب عنه هو الذى يراقب أداء الادارة ومصروفاتها ، وهناك قضاء حرّ ومستقل عن السلطتين التشريعية والتتنفيذية ، وهناك مؤسسات أهلية وشعبية تراقب واعلام حر مستقل متأهب لأى خلل أو زلل ليفضحه وينشره على الملأ ، ثم هناك رأى عام يقظ وقوى ومتفاعل ومستعد للحركة دفاعا عن العدل والحرية .

4 ـ فى مصر وبلاد العرب والمسلمين توجد فلسفة أخرى،هى الحكم طبقا لنظرية الراعى والرعية. فى الحقيقة هناك نوعان من الرعاة ونوعان من الرعية . هناك راع بشر يرعى رعية من الماشية والأغنام ، وهناك راع من البشر ولكن يجعل من نفسه الاها مع الله جل وعلا الذى(لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ)(الأنبياء 23)، والرعية هنا هم بشر من حيث المظهر ولكن من حيث السلوك هم يعيشون بنفس طريقة الانعام والأغنام من حيث الخضوع والخنوع للراعى خوف عصاه . الراعى للبقر والغنم لا يكون قاسيا على رعيته ، يستخدم عصاه للتهويش والتخويف بينما تجد الراعى المستبد يتفنن فى تعذيب رعيته من البشر كى يسخرهم فى خدمته وطاعته تماما كالمواشى . ولأنهم بشر وحيوانات ناطقة تستطيع أن تتذمر أو تشكوى فالشكوى غير مسموح بها ، وطالما لا تقدر الغنم والبقر والمواشى على الشكوى فان الرعية البشرية يجب أن تكون كذلك ، ومن يتجرأ منها على التذمر فسيكون عبرة للباقين . من هنا يتميز المستبد الراعى بتعذيب رعيته بينما يتفنن الراعى للبقر والمواشى فى تدليل رعيته . الراعى الذى يرعى الماشية والأغنام ـ حرصا منه على مكسبه ـ تجده شديد الرعاية لرعيته ، يطعمها ويسقيها ويدفئها ويداويها ويعلمها ويروضها .الراعى ( الحاكم المستبد ) يضطر الى الانفاق على الرعية فى التعليم والصحة والمرافق ، ولكنه يقرن هذا بالمنّ والأذى مستكثرا ما يدفعه من امواله ، فهو مقتنع أنه يملك الأرض ومن عليها من بشر وحيوانات ومزارع وموارد . وهو بطبيعة الأحوال لا ينفق فى الموارد وبقية الخدمات إلا ما كان أكثر نفعا له وأوثق صلة به . وبينما يحرص راعى الغنم والبقر على رعاية المرضى منها فإن الراعى الآخر ( الحاكم المستبد ) يضيق ذرعا بالفقراء ويراهم عبئا ، ويتفنن من الخلاص منهم بالمبيدات المسرطنة والأوبئة والأدوية الفاسدة والتلوث وحتى العمليات العسكرية الفاشلة مقدما . وفى الوقت الذى ترى فيه الراعى للغنم والبقر حريصا على العدل والمساواة بين رعيته من الحيوانات من حيث توزيع الماء والأكل والاهتمام فإن مستبدا فاسدا مثل مبارك قام بتعمير الصحراء فى الساحل الشمالى وسيناء وخليج السويس والبحر الأحمر وعلى حواف الدلتا ليتنعم المترفون من اتباعه ، بينما تنتشر العشوائيات فى القاهرة والمدن وتتلوث القرى ونهر النيل وتنتشر الأوبئة، وتتهالك قطارات الفقراء والمواصلات البرية والبحرية و الطرق ليموت آلاف الضحايا من الفقراء ، بينما لو شكى بعض المترفين من صداع فهو يضمن علاجه فى الخارج على نفقة الدولة ومن الضرائب التى يدفعها الكادحون المحرومون .
أخيرا :
1ـ نأتى للسؤال الهام : هل يجوز للمظلوم المقهور المحروم من حقوقه دفع الضرائب لدولة يحكمها المستبد بالقهر والتسلط ؟ أقول بأعلا صوت : لا يجوز إلا فى حالة الاكراه والارغام ، بمعنى لو قدرت على التهرب من الضريبة وأنت تعيش تحت حكم مستبد فعليك ألا تدفعها. إن الضرائب التى تدفعا لمستبد عدو لك وعدو لله جل وعلا يستخدمها هذا المستبد فى تكديس بلايين لا يحتاج اليها وفى شراء أسلحة لقتلك وادوات لتعذيبك و بناء شرطة وجيش لقهرك وحماية سلطانه فوق جسدك العارى . إن لك حقوقا ، إن لم تحصل عليها فليس عليك واجبات . من حقك العدل والحرية والمساواة فى ظل قانون عادل يسرى على الجميع ، إن لم يتيسر لك ذلك فليس عليك واجبات ، ومنها واجب دفع الضريبة . قد يقال إن المستبد فى عصرنا يضطر الى الانفاق على التعليم والصحة وغيرها . ونقول إنه فى الوقت الذى يستنزف فيه عرق المواطنين بالضرائب ، ويستغل لنفسه موارد الدولة فإن ما يعطيه للشعب فى التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية هو لاشىء بالنسبة لما ينهبه من خير الأرض . ولو راعى العدل بنسبة واحد فى المائة ما أخذ من المواطنين ضرائب فيكفيه استغلاله لثروة الوطن التى ينهبها بلا حساب وبلا رقيب .
2 ـ قلنا هناك نوعان من الراعى والرعية ، ومفهوم أن الرعية من البشر هى المظلومة وأن الراعى هو الظالم . ولكن هذا ليس صحيحا على إطلاقه . الصحيح أن الظالم هنا نوعان : ظالم بنفسه وظالم لنفسه. المستبد واعوانه من الزعيم والرئيس والأمير و الوزير وحتى الخفير كلهم ظالمون ضمن نوع ( الظالم بنفسه ). أما من يظلم نفسه فهو الذى يرضى بالخضوع والذل والقهر والخنوع . بل بعضهم يتعود على تحمل الظلم الى درجة تبرير ظلم المستبد والصاق الظلم بالحاشية والأتباع تبرئة للظالم الأكبر. خطره عظيم هذا الصنف الظالم لنفسه ممن يرضى بالظلم ويعيش ساكنا ساكتا أو الذى يتكلم دفاعا عن الظالم وتبريرا لظلمه لأنه هو الذى يمدّ فى عمر الظلم ، وهو الذى يجعل الطريق وعرا أمام المجاهدين فى سبيل الحرية والعدل . هذا الصنف الظالم لنفسه قد يسارع عن طيب خاطر بدفع الضرائب للحاكم المترف . إن دفع الضرائب عن رضا للمستبد عصيان لله جل وعلا لأنه إنحياز الى الظالم وتأييد له ، يقول رب العزة : (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ )( هود 113 ).
3 ـ ليس هناك مبرر للرضا بالظلم إلا عند الاكراه والعجز عن المقاومة . من لا يستطيع المقاومة عليه بالهجرة داخليا أو خارجيا . إن مات وهو ذليل مستضعف فمصيره النار إن كان قادرا على الهجرة ولم يهاجر . يقول جل وعلا (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ) ( النساء 97 ـ ) ، وبالتالى ليس هناك مبرر لمن يستطيع التهرب من دفع الضريبة لحاكم مستبد فاسد ، إلا أن يكون مساعدا له فى ظلمه ومظاهرا له فى طغيانه وفى عدائه لرب العزة ، والله جل وعلا يضع الظالمين ومن يساعدهم فى منزلة واحدة يقول :(إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون)( الممتحنة 9 ).أكثر من ذلك هو وجوب الجهاد بالحديد لاقامة العدل بين الناس إن لم تنفع الدعوة القرآنية السلمية لاقامة العدل ، والله جل وعلا يعلم من سينصره ويقيم العدل،  يقول جل وعلا :(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ( الحديد 25 ). ويبقى بعدها عفو رب العزة لمن تاب وأناب ومن أخطأ عن جهل وبلا تعمد ، أو اضطر لذلك وقلبه مطمئن بالايمان : ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الأحزاب 5 )(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( النحل 119 )( مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( النحل 106 ) .
4 ـ ودائما .. صدق الله العظيم.!

 

الخاتمة

وضح مما سبق أن الزكاة فى الاسلام هى التقوى بتطهر النفس وتزكيتها وسموها خلقيا وسلوكيا وعقيديا ، وأن لها جانبا ماليا هو إعطاء الصدقة لتحقيق نفس الهدف  . ووضح أن الزكاة المالية أنواع منها الزكاة الرسمية التى تجمعها الدولة الاسلامية ، والصدقة الفردية و الصدقة التطوعية الإضافية لمن يريد الدرجة العليا يوم القيامة ، وأن لكل نوع مستحقيه ، وهناك مستحقون مشتركون هناوهناك . كما وضح أن تقديم الصدقة ليس محددا بمرور عام أو حول بل هو بمجرد الحصول على الدخل ، وأن مقدار الصدقة ليس محددابنسبة معينة ولكنه فى مجال الاعتدال و التوسط فى إطار من التنافس على رضى الله جل وعلا ، وأن للصدقة آدابا يجب أن يلتزم بها المتصدق ، وتنبع هذه الآداب من حقيقة أن من يأخذ الزكاة إنما يأخذ حقا له وبالتالى يحرم المنّ عليه أو إيذاؤه فى مشاعره . والى جانب الصدقة فهناك التبرع فى سبيل الله جل وعلا  فى الجهاد والدعوة . وكل هذا أصبح تصرفا فرديا للمؤمن يقوم به بنفسه فى الصدقة الفردية والتطوعية وفى سبيل الله جل وعلا ، بعد انهيار الدولة الاسلامية التى نزل تشريع الصدقة ليتم تطبيقه فيها . 

واضح بهذا أن الزكاة المالية فى الاسلام لها معالم خاصة لم يلتفت اليها فقهاء الدين السنى ، والذين ابتدعوا شريعة جديدة مخالفة للاسلام ونسبوها الى خاتم الأنبياء ـ عليهم السلام . وهم لم يقتصروا على ابتداع ما أسموه بزكاة الفطر السنوية التى جعلوها صدقة على الرءوس وليس على الممتلكات ولكن قاموا أيضا بمخالفة تشريع القرآن الكريم . وهذا يستحق لمحة سريعة ، نرجو أن يقوم أحد الباحثين الحقيقيين بالتخصص فيها بعقد مقارنة بين تشريع الاسلام والتشريع السنى فى موضوع الصدقة والزكاة بالتفصيل.    
أولا : لمحة عن الزكاة فى التنظير الفقهى
1ـ. بالاضافة الى فقه (الحيل ) الذى يبيح ويتفنن فى تشريع التحايل على شرع الله جل وعلا فقد أكّد الفقه السلفى العادى ذلك باهماله الجانب الخلقى والمقصد التشريعى للعبادات ، ومعنى أن تكون العبادة وسيلة للسمو الخلقى فى التعامل مع الناس ـ كما أهملوا الجانب الايمانى للعبادات ، وهو أن يؤدى المؤمن صلاته وصيامه وحجه وصدقاته يبتغى وجه الله تعالى وحده ، وبلا رياء أو تقديس لبشر أو حجر . بايجاز ؛ أهملوا جانب التقوى ، وهى اساس الاسلام ، أى أن تعبد الله رغبا ورهبا ـ أى بالخوف من الله والعمل على إرضائه حين تصلى وحين تحج وتتصدق وتصوم ، بحيث لا تختلط عبادتك لله جل وعلا بظلم الناس أو بظلم رب الناس بتقديس الأولياء وأسفارهم المقدسة و مقابرهم ومعابدهم .
تحوّل الفقه السلفى الى تنظير وتقعيد مظهرى يتخصص فى شكليات العبادات وسطحياتها دون أدنى إهتمام بالمضمون القلبى و الخلقى وانعكاسه على العلاقات بين الناس. وحتى فى هذا التقعيد النظرى الشكلى المظهرى فإن فقهاء السلف لم يجتهدوا فى استتنباط الاحكام من القرآن ، بل استسهلوا وضع آرائهم فى صورة أحاديث ينسبونها للنبى لتكتسب قدسية ومصداقية ، ومنها تواترت احكام الفقه بما يخالف القرآن فيما ابتدعوه ، وهم كالعادة اختلفوا ، وقد رويت أحاديث مختلفة في تقدير النصاب  أى مقدار المال أو الممتلكات التى تؤخذ منه الزكاة ، وقد روى مالك في (الموطأ) أقوال الخلفاء الراشدين وعلماء التابعين والأحاديث المنسوبة للنبي عليه السلام . و(الموطأ) اول كتاب مدون فى الاحاديث والفقه ، ولم يقتنع به اللاحقون فكتبوا احاديث أخرى و احكاما فقهية اخرى تخالف مالك،واستمر هذا عبر القرون ، ليس فى الزكاة وحدها بل فى كل الموضوعات الخاصة بالعبادات والمعاملات والعقوبات او ما يعرف بالحدود.
2 ـ ونأخذ عيّنة من مرويات التراث فى موضوع النصاب : فيذكر مالك حديثاً فى الموطأ  يقول ( ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة ولا في ما دون خمسة أوراق من الورق " الفضة" صدقة ، وليس فيما دون خمسة ذود من الإبل صدقة)" أى يضع حدا أدنى للصدقة ،أو ما أسموه بالنصاب الذي تؤخذ منه الزكاة ، إلا أن إبن سعد في الطبقات الكبرى يذكر أن النبي عليه السلام جعل فريضة الزكاة على بني معرض في إبلهم تؤخذ منهم ناقة سواء كانت الإبل لأحدهم قليلة أو كثيرة أي ليس هنا حد أدنى في النصاب ، ثم يذكر إبن سعد حديثا آخر يرويه عن أبي وائل الذي أدرك النبي عليه الصلاة والسلام ولكنه لم يره ، وقد عاش هذا الرجل حتى أدرك الدولة الأموية ، يقول أبو وائل" أتانا مصدق النبي ـ أي عامل الصدقة ـ فأخذ من كل خمسين ناقة، ناقة فأتيته بكبش لي فقلت خذ صدقة هذا فقال : ليس في هذا صدقة" . وتشير هذه الرواية دليل إلى أن النبي عليه السلام كان يبعث من لدنه عاملا للصدقة ، ولكن في رواية أخرى يقول ابن سعد أن وفد الأزد قدم على النبي يعلن إسلامه فبعث عليهم النبي " مصدقا" منهم يقال له حذيفة بن اليمان الأزدي وكتب له فرائض الصدقة فكان يأخذ صدقات أموالهم  ويردها على فقرائهم " فهنا إختلافات في الروايات فى مقادير الزكاة وفي جبايتها ، فبعضها كان يؤتى به للمدينة والآخر كان يوزع على الفقراء في داخل البلد نفسها .
3 ـ وعن مقدار أو نسبة الزكاة المالية :روى أبو داود في سننه حديثاً يقول "( إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم , وليس عليك شيئ حتى يكون لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول ففيها نصف دينار فما زاد فبحساب ذلك، وليس في مال زكاة  حتى يحول الحول) ." وهذا الحديث لم يعمل به الخليفة عمر بن الخطاب  وفقاً لما يرويه إبن سعد في الطبقات الكبرى إذ يروي أنهم وجدوا في كتاب عمر للولاة أنه يأخذ من تجار المسلمين من كل أربعين درهما ً درهماً . وقد كان عمر يأخذ العشور من أهل الذمة، وقد خالفه في هذا الرأى سعيد بن جبير أحد الفقهاء المشهورين من التابعين . إذن  ففي الأمر اختلاف ، وهو اختلاف كان يمكن أن يكون محمودا لو أسند صاحب الرأى رأيه لنفسه ، ولكن كل واحد منهم كان يجعل رأيه دينا فى حديث ينسبه للنبى أو لعمر مثلا.

 

4 ـ  وعن موعد إخراج الزكاة والصدقة ، تواتر قولهم بمرور عام او حول على المال حتى تؤخذ عليه زكاة ، ففي حديث أبي داوود " وليس في مال زكاة حتى يحول الحول " ويقول ابن عمر " من استفاد مالا فلا زكاة عليه حتى يحول الحول " وفي رواية مالك في الموطأ " لا تجب في مال زكاة حتى يحول عليه الحول" . وقد يقال إن الكلام هنا على الزكاة التي يجمعها الحاكم في توقيت سنوي محدد لجميع الممولين أو سنوياً حسب حالة كل ممول ، ولكن هذا يستدعى وجود ملفات كالملفات الضريبية لكل ممول ، وهذا لم يكن موجودا.
5 ـ والواضح فى كتب الفقه التراثى انها تجاهلت الصدقة الفردية ، مع وضوح الحديث عنها فى القرآن الكريم ، وهى أبعد ما يكون عن حكاية ( حتى يحول الحول ) لأن المسكين يحتاج للصدقة ليأكل مرة او مرتين فى اليوم ولن ينتظر جائعاً حتى يحول الحول !! يقول تعالى في الصدقة الفردية : (قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلالٌ )( ابراهيم 31 ) ويقول جل وعلا (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( البقرة 274)، وجعل رب العزة من صفات أولى الألباب : ( وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ) ( الرعد 22 ). وواضح أن الآيات تتحدث عن أولئك الذين يبادرون بتقديم الصدقة التطوعية في الليل وفي النهار وفي السر وفي العلن وينتظرون الأجر والثواب من الله جل وعلا ، أى هو تصرف فردي بحت لاعلاقة له بالدولة وسياستها في أخذ الزكاة .
6 ـ والله تعالى يقول "(وآتوا حقه يوم حصاده )، والآية الكريمة تتحدث عن الزروع . ومنها ما يثمر كل بضعة أشهر فقط وليس كل عام، وإذا أخذناها قضية عامة فلكل انسان موسم حصاده من مزرعته مهما اختلفت الموارد ، وفي كل موسم حصاد ينبغي الوفاء بحق الله تعالى فيه سواء كان ذلك الحصاد ربحاً شهرياً أو مرتباً أسبوعياً أو أجراً يومياً أو إيراداً سنوياً. إن الدولة الإسلامية قد تأخذ الزكاة على الحول وهى تعطي اعتمادات سنوية للإنفاق على مؤسسات الرعاية الاجتماعية والتعليمية والعلمية والصحية، ولكن الفرد المسلم يتعامل مع أفراد محتاجين يعرفهم ويقابلهم ليل نهار ، وقد يرى الجوع في أعينهم وقد يسألونه فهل يقول لهم : انتظروني حتى يحول الحول ؟.
7 ـ والله تعالى يقول في الصدقة الفردية ومستحقيها: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )(البقرة 215 )،    فالآية تتحدث عن والديْ المؤمن وأقاربه ولهم حقوق في الصدقة الفردية وليس منتظراً أن تكون لهم نفس الحقوق في مؤسسات الرعاية الاجتماعية التي تقيمها الدولة والتي تنفق عليها من إيرادات الزكاة ،والآية تتحدث أيضاً عن اليتامى والمساكين وابن السبيل الذين يعرفهم المؤمن ويقابلهم ويلمس احتياجهم ويعطيهم من ماله صدقة تطوعية ، ومنهم من تقاصرت عنه أجهزة الرعاية الرسمية لسبب أو لآخر، وأؤلئك يقوم الإنفاق الفردي بانقاذهم ورعايتهم ، وهذا الإنفاق الفردي  اليومي يجبر نقص الاعتمادات الرسمية السنوية لدور الرعاية الاجتماعية وبذلك يحدث التعاون بين الصدقة الفردية والزكاة السنوية في توفير الرعاية الاجتماعية لكل محتاج . ومن هنا كانت الصدقة يومية أو شهرية وليست متوقفة على مرور الحول، فهل إذا مرض الوالدان قال لهما إبنهما : انتظرا حتى يحول الحول؟ إن الله تعالى يقول عن الصدقة الوقتية "( والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم)" فهل إذا جاء سائل محتاج يقال له : موعدك العادم القادم ؟ !! وهل ينبغي للسائل المحتاج أن يحتفظ لديه بمواعيد سنوية للمتصدقين ؟.. قد تكون الزكاة الرسمية كل حول أما الصدقة الفردية فهىّ كل يوم .
8 ـ على أن الخلاف الأساس فى تفصيلات الصدقة بين الاسلام والتشريع السّنى يمكن حصره فى  منبع الزكاة ، أو الأصل الذى يتم إخراج الصدقة أو الزكاة عليه . الفقه السنى يجعله فى الموارد الاقتصادية ، بينما يجعله رب العزة فى الدخل وليس فى المورد الاقتصادى . فالفقه السّنى يوجب إخراج الزكاة عن قطيع الانعام وعن المملوك من الذهب والفضة وعن رءوس الأموال فى التجارة . ويضع لكل منها ( نصابا ) أو حدأ أدنى ، ما يزيد عليه يتم إخراج الزكاة عليه . يختلف الأمر فى الاسلام . فالصدقة ليست على الموارد ولكن على الدخل والمكسب الناشىء عنها . وبينما يحصر التشريع السنى منبع الزكاة فى أشياء محددة متجاهلا غيرها فإن التشريع الاسلامى يوجب إخراج الصدقة عن كل رزق يأتى من أى منبع أو جهة . ونعطى مثلا .إن رب العزة يصف المتقين بأنهم ينفقون مما رزقهم الله جل وعلا ، وتكرر هذا فى القرآن الكريم ثمانى مرات .وهذا يعنى ان الانفاق فى سبيل الله جل وعلا هو على الدخل وليس على الموارد التى ينتج عنها الرزق أو الدخل . والموارد تتنوع ، منها موارد انسانية بشرية ومنها موارد طبيعية وحيوانية . هناك من يعمل بجسده وعرقه كالعمال فى البناء مثلا ، وهناك من يأتيه رزقه من قدميه كلاعب الكرة أو من صوته كالمغنّى أو من تدريبه كالحرفيين أو من عقله وتخصصه العلمى كالباحثين والخبراء والموظفين. وهناك من يملك أرضا زراعية أو مصنعا أو قطيعا من الأنعام أو سيارة أجرة . كل أولئك تتنوع موارد الدخل لديهم ولكن لا يدفعون الزكاة على تلك الموارد وانما عما يكسبونه منها . ولكن الفقه السّنى يوجب أخذ الزكاة عن المورد نفسه ، عن قطيع الانعام وعن رأس المال مثلا. تتجلى المفارقة هنا فى الموارد البشرية أو رأس المال البشرى لدى العامل بيده أو بعلمه أو بموهبته أو بتدريبه وخبرته . لا يمكن أن تجعل أولئك الناس يدفعون صدقة عن جسدهم أو ذكائهم او مهارتهم سواء جاءت لهم بدخل أم لا . العدل هو المحاسبة على الدخل أو الرزق الداخل من الموارد سواء كانت بشرية أو غيرها ، أى من ربح المصنع ومن تشغيل رأس المال ومن مرتب الموظف وأجرة العامل ومن بيع منتجات الألبان وبيع المواشى وما تلده تلك المواشى ، وهذا بالطبع بعد حساب المصاريف وتصفية الربح ، وهذا الربح تخرج عنه الصدقة . والمتصدق يحاسب نفسه ويعلم أنه يتعامل مع ربه الذى يعلم السّر وأخفى . هذا يجعل إخراج الصدقة متجددة بتجدد الدخل وتنوعه ، كما يجعل إخراج الزكاة تعاملا مباشرا مع رب العزة على أساس ابتغاء رضى ربه جل وعلا ، وبذلك تحقق الصدقة هدفها فى أن تكون ( زكاة ) للمال وللنفس معا.
ثانيا :الزكاة فى التطبيق العملى تاريخيا:

1ـ  من الناحية العملية التاريخية وبعيدا عن التقعيد الفقهى ، بل قبل أن يبدا التنظير الفقهى تحولت جباية الزكاة الى ظلم ونهب ومصادرات لأموال الناس،فقد توسع الخلفاء الأمويون في استنزاف أموال الناس بحجة الزكاة ، وجاء عمر بن عبدالعزيز فأصلح الأحوال في خلافته القصيرة ، روى إبن سعد أن عمر بن عبد العزيز قال لأحد عماله "كم جمعت من الصدقة ؟ فقال : كذا وكذا . قال فكم جمع الذي كان قبلك ؟ قال كذا وكذا ، فسمى  شيئاً أكثر من ذلك ، فقال عمر: من أين ذلك ؟ فقال إنه كان يأخذ من الفرس ديناراً ومن الخادم دينارا ومن الفدان خمسة دراهم وإنك طرحت ذلك كله ، فقال: لا والله ما ألقيته ولكن الله ألقاه " أي أن إيراد الزكاة تضاءل في عهده لأنه أسقط مظالم أحدثها الأمويون قبله. وقد كتب عمر بن عبدالعزيز إلى واليه عدي بن أرطأه يأمره أن يسقط زكاة المائدة والنوبة والمكس ـ أي الجمارك ـ وقال ولعمري ما هو بالمكس ولكنه البخس الذي قال الله فيه :" ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولاتعثوا في الأرض مفسدين " وقال عمر لعامله المذكور:" فمن أدى زكاة ماله فأقبل منه ومن لم يأت فالله حسبه" !! وهذا هو الاسلام الحق الذى ليس فيه إكراه على تأدية الصدقة وزكاة المال ،إلا إذا كانت بعقد بالتراضى يصبح ملزما للناس أداءه . ولقد كان جباة الزكاة في العصر الأموى يقفون على الطريق يأخذونها من المارة ويستطيلون عليهم، فقال ذلك الخليفة الراشد " وقد رأيت أن أجعل في كل مدينة رجلاً يأخذ الزكاة من أهلها فخلوا سبل الناس في الجسور والمعابر" . وبموت عمر ابن عبدالعزيز عادت الدولة الأموية إلى سابق عهدها من التفنن في سلب أموال الناس بحجة الزكاة فكان يثور الناس عليها أو يتفنون في التهرب من دفع الزكاة.. 
2 ـ وسارت الدول الأخرى على سنّة الأمويين فى نهب أموال الناس باسم الزكاة و الخراج و الجزية ـ بل والمصادرات لأرباب الموال من الجباه والعاملين فى أجهزة الدولة و يستخدمون نفوذهم فى السرقة و النهب ، وعندما يغضب الخليفة او السلطان على أحدهم يصادر أمواله ويعزله وقد يعذبه ليعترف بما خبّأ من أموال ، وأصبح هذا من الأخبار العادية فى العصر المملوكى ،  وعلى نفس النسق سارت وتسير نظم الحكم الاستبدادية الراهنة فى بلاد المسلمين .

أخيرا
نرجو أن يسفر الربيع العربى عن إقامة نظم حكم ديمقراطية حقوقية تعيد تطبيق الشريعة الاسلامية الحقيقية القائمة على المساواة والعدل والحرية المطلقة فى الدين وحفظ واحترام حقوق الانسان.
والله جل وعلا هو المستعان.
أحمد صبحى منصور

 

 ملحق

الفصل الأول : دورالزكاة المالية ( الصدقة ) فى تزكية النفس عقيديا

(1 )الايمان بأن توزيع الرزق بيد الله جل وعلا ، فهو الذى يبسط الرزق لمن يشاء ، ويقدره على من يشاء.
مقدمة:
قضية الرزق مدخل هام لفهم التزكية العقيدية الايمانية لدى المؤمن (الذى يؤتى ماله يتزكى ) مبتغيا به وجه الله جل وعلا ، غير ناظر لأى لمحة شكر من البشر.

وقد توقفنا فى نفس الموضوع مع قضيتى ( المال مال الله ) و ( الايمان بالدنيا أو الايمان بالآخرة ، أو إرادة الدنيا أو إرادة الآخرة )، ونتوقف الآن مع لمحة أخرى من ملامح ( الرزق ) فى رؤية قرآنية من خلال قوله سبحانه وتعالى :(وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِير)(الشورى 27. . )

أولا:
1
ـ يستطيع الضال أن يزداد ضلالا بالقرآن لو أراد ، كما أن الباحث عن الهدى يجد فى القرآن الهداية ويزداد به هدى طالما توجه للقرآن الكريم بقلب سليم ، لذا يقول رب العزة ) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا ( ( هلاسراء 82).

مريد الهداية يدخل على القرآن الكريم بلا رأى مسبق ، ويفهم مصطلحات القرآن من خلال السياق القرآنى بعد أن يكون قد قام بتجميع كل الآيات المعلقة الموضوع ويبحثها معا متتبعا سياقها العام وسياقها الخاص .أما مريد الضلال فيدخل بهواه ورأيه المسبق ينتقى من الآيات ما يراه موافقا له فى الظاهر ، ويفهمها حسب الشائع من مفاهيم التراث واللغة العربية الراهنة ، ويتجاهل ما يعثر عليه من الايات مخالفة وجهة نظره المسبقة. ومن الطبيعى أن يظهر له تناقض واختلاف فى فهم الآيات بسبب عوج منهجه ، ويفرح بهذا التناقض ويسارع بالهجوم على القرآن ـ إن كان علمانيا لادينيا ـ أو يسارع باخضاع القرآن لوجهة نظره التراثية إذا كان من اتباع الأديان الأرضية.
2
ـ فى نفس الوقت فان للقرآن الكريم مستويات للفهم حسب ما تعطيه من تدبر و تعقل ، وحسب ما تملكه من أدوات البحث والاجتهاد.  هناك درجة ميسرة للذكر (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) ( القمر17 )، وهى الفهم البسيط للآية الكريمة بمجرد قراءتها ، وفى الاية الكريمة السابقة فالفهم البسيط والواضح لها أن الله تعالى لو بسط الرزق لعباده وأعطاهم الكثير منه لبغوا وطغوا ، ولكنه جل وعلا لا يبسط لهم الرزق بل يعطيه لهم بقدر حسب مشيئته ، وحسب علمه ، وهو جل وعلا بعباده خبير وبصير. هذا هو الفهم الايمانى البسيط الذى يتعقله كل مؤمن بدون حاجة الى تدبر أو اجتهاد . وهناك تعمق فى البحث والاجتهاد يعتمد على توفر أدوات الاجتهاد للباحث ، وهذه الأدوات الاجتهادية و المقدرة البحثية مجرد عامل محايد يخضع لمؤثر كبير هو هداية الباحث أو ضلاله.
3
ـ فأصحاب الاجتهاد نوعان : نوع يجتهد فى الاضلال ونوع يجتهد بحثا عن الهداية.

المجتهدون فى الضلال ، ينطبق عليهم قوله جل وعلا (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ) (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) ( سبأ 5 ، 38 ) (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ ) ( الشورى 35)..

هم يستخدمون قدرتهم البحثية فى تتبع الآيات بحثا عن عوج وتناقض دون فهم لمعانى الكلمات القرآنية حسب سياقها ، لذا يمكن أن يرى تعارضا بين الآية الكريمة التى تقول ان الله جل وعلا لا يعطى الرزق الوفير لعباده المخلصين وبين آيات أخرى تحث المؤمنين على الصدقة وتعدهم بربح مضاعف ، مفهوم أن منه ما سيأتى فى الدنيا ، وهى آيات كثيرة منها : (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة 195 )، ( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( سبأ 39 ) (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ) ( سبأ 36 : 37 )(مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (البقرة 245)...

 

ثانيا:
1
ـ المجتهد الباحث عن الهداية يستخدم المنهج العلمى فى فهم مصطلح الرزق حسب السياق.والرزق نوعان : حقيقى ووهمى.
2
ـ هناك الرزق الحقيقى الموحد لكل البشر ، والذى تقوم على أساسه حياتهم وبقاؤهم المادى ، من الهواء والماء و الطعام وضوء الشمس .. هذا الرزق الالهى ميسور بل ومجانى بقدر حاجة الانسان اليه ، فالانسان مثلا لا يستطيع العيش بلا تنفس خمس دقائق ، لذا كان الهواء أثمن نوع من الغذاء ، وبدون الاوكسجين لا يستطيع البشر الحياة ، ولهذا جعل الله جل وعلا الهواء مجانا لا دخل للبشر فى التحكم فيه ، وتخيل العكس ، وكان للمستبد العربى حرية التحكم فى الهواء بيعا وشراءا وانتاجا كما يفعل فى البترول و المعادن و وأدوات الانتاج والثروة ـ من النوعية الأخرى من الرزق ـ الوهمى ـ والتى سنعرض لها ؟ عندها لن يعيش سوى السلطان وحاشية السلطان.!!بعد الهواء يأتى الماء ، وهو ميسور بقدر الحاجة ، فلا يستطيع الانسان العيش بدون ماء يوما أو بعض يوم حسب درجة الحرارة و نوعية الغذاء ، ثم يأتى الغذاء وأكثره وفرة هو أكثره فائدة . ويضطر الانسان الى العمل للحصول عليه ، ثم اللباس و المسكن ، وهكذا.بايجاز ، فالرزق الأساس هو كل ما يدخل الجسد ويخرج منه وما يقى جسده من مرض او تقلبات الجو . هذا الرزق قد ضمنه الله جل وعلا لكل كائن حى ، وليس فقط للانسان ، وبالاضافة الى حتميته فهو مكتوب بتفصيلاته ، من المدخولات و المخرجات ، اى محسوب بدقة متناهية مقدار ما تتنفسه طيلة حياتك ومقدار ما يخرج منك من شهيق ، ومقدار استهلاكك للماء والطعام ومقدار ما يخرج منك ، وهكذا طالما كنت على الآرض تسعى ، فإذا جاء الموت ،أو الوفاة ـ بمعنى توفية كل المقدر لك فى هذه الدنيا من حتميات ومن رزق أساس ـ فان جسدك الميت يتحلل الى غازات وماء وتراب ويعود الى العناصر الأرضية التى جاء منها.
يقول جل وعلا (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ )(هود 6) فهو جل وعلا المتكفل برزق كل دابة ، أى كل كائن حى يدب على الآرض سابحا فى الماء أو طائرا فى الهواء أو على الثرى . وهذا الرزق هو الذى يساعدها على ان ( تدب ) على الأرض ، أى أن تعيش . وهو جل وعلا يعلم من أين جاءت هذه الدابة ـ الميلاد ـ والى أين تنتهى وتعود ـ الموت و التحلل ، وكل ذلك مسجل ومكتوب ، من الرزق الى ما قبله (أى قبل مجىء الدابة وخلقها )، وما بعده (حين يتحلل جسدها ويعود الى العناصر الأرضية التى جاء منها)...
ويقول جل وعلا : (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ )( ق 4) ،أى فالمادة ـ والطاقة ـ لا تفنى ولا تأتى من عدم ، ولكن تتقلب فى صور شتى ، فكل ما يستهلكه البشر طيلة حياتهم من اوكسجين وثانى اوكسيد الكربون فى التنفس وكل ما يستهلكونه من ماء ومن طعام ومن موارد الطبيعة سينتهى فى النهاية الى الخروج من أجسادهم ، فالشهيق يتبعه زفير و الشراب يخرج عرقا وبولا ، و الطعام يتحول الى طاقة و ينتهى الباقى الى فضلات بشرية ، وكل ذلك أثناء حياة الجسد وسعيه ، فإذا مات الجسد تحلل ، يخرج منه الماء ويتيبس ، ثم ينفجر ، و ينمو فيه الدود الذى يتغذى عليه ويموت فيه ،اى الدود ، وفى النهاية يتحلل ما بقى منه الى غازات ـ كريهة الرئحة ـ و تراب ، يعود الى الأرض كما جاء منها إنتظارا للبعث :( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ) ( طه 55) .
ويقول جل وعلا :( وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)( العنكبوت 60 ) ، أى فهذا الرزق الأساس الذى تكفل به الخالق جل وعلا يستوى فيه الانسان الساعى للرزق بعقله وجهده مع الدابة الضئيلة الساكنة المتعلقة بصخرة فى جوف المحيط ، يأتى الرزق لهذه الدابة ( الانسان ) ولتلك الأميبا طالما ظلت على قيد الحياة.
3
ـ النوع الآخر هو الرزق الظاهرى المؤقت الذى يتراءى لكل إنسان ويتلاعب به ،ولا يستطيع الانسان الامساك به والاحتفاظ به طيلة حياته . يتمثل هذا الرزق الوهمى فى رصيدك فى البنك ( مجرد أرقام ) والسيولة المالية التى فى جيبك ( مجرد أوراق ) و الذهب و الأحجار الكريمة التى تحوزها ( هى مجرد أحجار لاتستطيع أكلها أو شربها ، وانت مضطر للحفاظ عليها لمن سيأخذها بعدك ، كما كانت لمن قبلك ) و المساكن ( لا تحتاج منها إلا لمقدار ما تريح ظهرك أو أطرافك ومقعدتك وأنت نائم او جالس )، والأراضى ،وهى نفس الحال كالمساكن ، وكانت لمن قبلك وستئول لمن هو بعدك ، وسبحان من سيرث الآرض ومن عليها بعد انقراض البشر ..!( إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ )( مريم 40)..
المضحك فى ذلك الرزق الوهمى أنه من الكماليات التى يمكن الاستغناء عنها ، ولكنه مرتفع السعر و ثمين و غال بسبب غفلة الانسان وقلة عقله . الأحجار (الثمينة )أو ( الكريمة ) هى مجرد أحجار ، ولكن لأنها نادرة عزيزة المنال فقد أصبحت كريمة غالية يتقاتل من أجلها البشر المغفلون ، مع أنه يوجد ملايين البلايين من البشر عاشوا وماتوا و سيعيشون وسيموتون دون حاجة للتحلى بالأحجار الكريمة.
4
ـ من حكمته جل وعلا أن جعل أساسيات الرزق مجانية أو شبه مجانية ، وتكقل بها لكل دابة ، و لكن تلك الكماليات الزائدة هى الأشياء الغالية الباهظة التى يتفاضل فيها البشر ، هى الرزق الذى يبسطه الله تعالى لمن يشاء و يقلله لمن يشاء بداءا من الذهب و الفضة الى ما يقوم مقامهما من عملات ورقية وحسابات بنكية ترتفع وتنخفض ، وأسهم وسندات أكثر تقلبا فى الأسعار.
وكل متلهف على أسعار البورصة وأسعار العملات والأسهم و السندات هو آمن على رزقه الأساس من الطعام والشراب والاوكسجين و النوم واللباس ، ولكنه فى غفلة عن الشكر لله جل وعلا الذى يطعمه ويسقيه ، بل ربما يسقط صريعا أو مريضا بسبب خسارة مفاجئة فى البورصة ، أو يفسد فى الأرض ليزيد من رصيده من ذلك الرزق الوهمى.
أما المؤمن برب العزة ، والذى إختار الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فيظل حامدا شاكرا لله جل وعلا أن تكفل له بالرزق الأساس وهو الطعام و الشراب ، والشفاء من المرض ، ولا يهتم كثيرا بالرزق الوهمى لأنه مشغول بالرزق الباقى الدائم الخالد وهو نعيم الجنة فى الآخرة ، لذلك يدعو ربه أن يتفضل عليه بالأهم وهو الجنة فى الآخرة والنجاة من النار ، وهذا هو دعاء ابراهيم عليه السلام : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّين رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ....)( الشعراء 78 ـ)
5
ـ المضحك فى ذلك المال فى الرزق الوهمى أنه يزول بمجرد أن تستفيد منه ، فالعملة الورقية مجرد ورقة معك ، لا تنفع ولا تغنى ولا تسمن من جوع ، ولكن بمجرد أن تستفيد منها بشراء شىء ضاعت من يدك وانتقلت الى يد شخص آخر لتبقى معه قليلا ثم تنتقل بالبيع والشراء الى ثالث ، وهكذا يتخللنا ذلك الرزق الوهمى متنقلا من شخص الى آخر ، يتراقص أمام أعيننا ، يخرج لسانه لنا ، ونحن نعدو خلفه نتقاتل من أجله ونتصارع إلى أن يدركنا الموت فيصرخ الضال طالبا فرصة أخرى بدون جدوى ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) ( المؤمنون 99 : 100) .
اى تضيع الورقة المالية بمجرد ان تستفيد منها فى استهلاكك اليومى ، سواء كان المتج المستهلك يدخل فى جوفك من طعام أو شراب أو دخان ( سجائر ) أو كان لمتعة حلال أو حرام. وهذا المنتج المستهلك الذى تستهلكه لا يلبث أن ينتهى الى إخراج فى دورة المياه أو الى زفير فى الهواء مجرد هواء ودخان ،أو الى ملكية ظاهرية كأن تتملك أرضا أو عقارا تملكه ملكية ظاهرية الى ان تفارقه بالموت أو أن يفارقك بالبيع و الشراء أو بالخسارة.
الحالة الوحيدة التى لايضيع فيها المال أو الرزق الوهمى هو أن يتحول الى رزق خالد دائم فى الآخرة ، أى رزق الجنة ، هنا تتضاعف قيمة العملة الورقية حين تؤتيها صدقة فى سبيل الله جل وعلا ابتغاء مرضاة الله دون اهتمام بأن يشكرك أحد من البشر ، هنا تنجو من عذاب النار و تتمتع برزق النعيم فى الآخرة ، يقول تعالى عن النار :( وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى) ( الليل 17 ـ)
6
ـ وهذه هى الناحية الايمانية فى مفهوم الرزق ، والتى يجب على المؤمن تنفيذ أوامر ربه بالانفاق فى سبيل الله جل وعلا حتى لا يندم عند الموت ، وهذا ما أوصى الله جل وعلا به المؤمنين وهم أحياء قبل أن لا يجدى الندم :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) ( المنافقون 9 : 11).
أى من هذا الرزق الوهمى يجب أن نتنافس فى الخير وليس فى الشر ، وأن نؤتى منه الصدقة زكاة للنفس و المال ، وبدون هذه الصدقة لا يتطهر هذا المال الوهمى ولا يزكو . هذا هو ما يفهمه المؤمن مريد الآخرة ، وهذا هوتصرفه فى الرزق الوهمى.
7
ـ عرفنا هذا الرزق الوهمى أنه الذى يقول عنه رب العزة : (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِير)(الشورى 27 ). ولكن من هم العباد الذين يقصدهم الرحمن فى قوله ( لعباده ) ؟ وما معنى أنه لا يبسط لهم فى الرزق الوهمى حتى يبغوا فى الأرض ؟
رب العزة هنا يتحدث عن عباده المهتدين الذين أرادوا الآخرة وسعوا لها سعيها بالايمان والهدى. والمقابل أو الجزاء أنه جل وعلا يزيدهم هدى وإيمانا (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) ( مريم 76 )( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ ) (محمد 17 ) (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )( العنكبوت 69)...ومن وسائله جل وعلا فى زيادة هداهم أنه لا يبسط لهم فى الرزق الوهمى الذى يشجعهم على البغى و العدوان ، وله جل وعلا وحده تقدير الرزق وتحديد المستحق فهو جل وعلا الخبير البصير بعباده.
8
ـ ومن حق أولئك العباد ( عباد الرحمن ) الذين أرادوا الآخرة وسعوا لها سعيها بالايمان و العمل الصالح أن يحصلوا على الرزق بالحلال وأن ينفقوه بالحلال وفق شرع الرحمن ، وهم بذلك يتمتعون بحياة طيبة هانئة فى الدنيا والجنة فى الآخرة (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) ( النحل 97).
يختلف الوضع مع الصنف الآخر ـ ضحية الرزق الوهمى الذى أراد الدنيا وانهمك فى الصراع من أجلها وطغى وبغى ليستحوذ لنفسه على أكبر جزء منها . يتحول هذا الرزق الوهمى الى شقاء له فى الدنيا ، ثم يكون عذابا له فى الآخرة ، ولنقرأ فى ذلك قوله جل وعلا:(فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) ( وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) ( التوبة 55 ، 85 ). (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (آل عمران 180).(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) ( التوبة 34 : 35  )

(2 ) المؤمن مريد الآخرة لا ينسى نصيبه من الدنيا:

مقدمة:
1
ـ فى دور الصدقة ـ الزكاة المالية ـ فى تزكية النفس عقيديا سبقت الاشارة الى أن المؤمن يؤمن أن المال هو مال الله جل وعلا ، وقد جعل الله تعالى للمؤمن فى هذا المال حرية التصرف فيه إختبارا له ، وبالتالى إن كان يريد الآخرة و يسعى لها سعيها وهو مؤمن ـ بالعمل الصالح ـ فلا بد أن يحصل على المال بالحلال وأن ينفقه فى الحلال ، وأن يخرج منه الصدقة يؤتى ماله يتزكى ويترقى خلقيا.
2
ـ ولأن المال ـ هو فى الأصل ـ مال الله سبحانه وتعالى فإنه جل وعلا هو الذى يبسط الرزق ويوسعه على من يشاء ، وهو الذى يقلله ويقدره على من يشاء ، وليس لبشر سلطة فى هذا التوزيع الالهى للرزق.
3
ـ والله جل وعلا يزيد مريد الآخرة هدى بأن لا يبسط له فى الرزق حتى لا يبغى فى الأرض . وهذا البسط أو التقليل فى الرزق لا يسرى على الرزق الأساس الذى تقوم به حياة الانسان ، ولكن يسرى على الرزق ( الوهمى ) من مال وذهب وفضة وعقارات.
4
ـ يتقاتل من أجل هذا الرزق الوهمى معظم البشر ويخسرون من أجلها الدنيا فينتهى الى صفر بالموت وعذاب أبدى فى الآخرة ، بينما يستغل المؤمن مريد الآخرة هذا الرزق الوهمى ليشترى به الآخرة بأن يؤتى ماله يتزكى ، وبهذه الطريقة لا ينتهى الرزق الوهمى عنده الى صفر فى الدنيا بل يتمتع به المؤمن فى هذا العالم ، ثم يتحول هذا الرزق الوهمى الى رزق خالد فى الجنة..
5 ـ أى هناك رزق فى العالم الآخر ، بعد هذا العالم ، هو نعيم الجنة.
وبالايمان و العمل الصالح يتحول الرزق الوهمى الدنيوى الى نعيم أى رزق أخروى خالد ليس له حد أقصى فى الكم ، وليس له حدأقصى فى المتعة ، وليس له حد أقصى فى الزمن لأنه خلود فى نعيم الجنة.
وفى المقابل فإن الذين بغوا فى الأرض تنافسا وتقاتلا وصراعا سيفقدون هذا الرزق الوهمى فى الدنيا بعد ان يكونوا قد عانوا من الشقاء فى سبيله ، سيفقدونه بالموت أو يفقدونه بالخسارة ، ثم يتحتم عليهم أن يدفعوا فاتورة الحساب عذابا أبديا لا تخفيف فيه ولا نجاة منه ولا أجازة أو إنقطاع فيه ..هل تساوى الدنيا كل هذا ؟
6 ـ ونقطة البداية كما سبق هى إختيار كل فرد ، هل يريد الدنيا أم يريد الآخرة.
وقبل الدخول فى تفصيلات الرزق الأخروى الذى يسعى اليه من يريد الآخرة ، نتساءل :هل إرادة الآخرة تعنى التجاهل التام للدنيا ؟ هل تعنى الزهد وتحريم الطيبات وتحريم السعى للرزق ؟ أم أنها السعى الايجابى فى الدنيا طلبا للرزق الحلال ، ليكون الرزق الحلال سبيلا لشراء الرزق الأخروى ـ الجنة ـ ؟.
أولا : الجذور
1 ـ خلق الله جل وعلا الانسان ليختبره ، وليعطى فرصة حرة لمن أراد أن يحسن عملا فى هذه الدنيا ، فى الفترة التى يحياها فى هذا العالم ، ومن أجل ذلك كانت حياة الانسان وكان موته : (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ) ( الملك 1: 2)..
2 ـ والانسان مجبول على غريزة التملك وحب الخلود ، ولذلك فهو يسعى أبدا الى التملك ، وفى صراعه مع الآخرين ينسى أنه لا بد أن يموت تاركا ما كان يتملكه. ولو ايقن فعلا إنه سيموت ما كان هناك نزاع وتقاتل على أشياء مصيره أن يتركها حتميا . ومع ان العقل الانسانى يدرك حتمية الموت إلا إن غريزة تمنى الخلود تجعل الانسان ينسى هذه الحقيقة ، يرى الناس يموتون حوله وهو لا يتعظ ولا يتذكر ، متصورا أنه الوحيد الذى لن يدركه الموت . نسيان الموت يتضافر مع غريزة التملك ليظل الصراع على الثروة مستمرا يسفر كل يوم عن فقد الانسان لحياته فى جرائم فردية وحروب محلية و اقليمية وعالمية.
وفى قصة آدم وحواء والخروج من الجنة تتركز كل الدروس التى ينساها البشر فى العادة . ومن تلك الدروس أن الشيطان وجد طريقه لغواية آدم عن طريق الغريزتين : تمنى الخلود والتملك . كان آدم يعيش فى جنة قال له ربه جل وعلا عنها (إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى )(طه 118 : 119 )، كان يعيش مع زوجه منعما فى الجن ، لا يعانى الجوع ولا الظمأ ولا العرى . ولكنه كان يشعر أنه سيترك هذا النعيم بالموت ، وأنه فى حياته لا يملك تلك الجنة ، يعيش فيها فقط حياة مؤقتة.ومن هنا جاءت غواية الشيطان له ، بأن خدعه بأن يأكل من الشجرة المحرمة ليحقق أمنيته فى الخلود و التملك الدائم : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لّا يَبْلَى ) ( طه 120  )...وهبط آدم وزوجه وفيهما الذرية ، ولم يع أبناء آدم الدرس ، فأغلبهم لا يزال يعصى (يأكل من الشجرة المحرمة )، يظن أنه خالد لن يموت ، ويريد أن يستحوذ لنفسه على كل شىء لو استطاع ، وما هو بمستطيع ،وفى النهاية يخسر كل شىء بالموت ، وينتهى الى خلود فى الجحيم.
3
ـ يزيد فى اختبار بنى آدم تغير الوضع الذى كان فيه أبوهم فى الجنة . أصبح على بنى آدم السعى فى الرزق وتعمير تلك الأرض ، والسعى فى سبيل الرزق أمر الاهى ، من أجله جعل الله جل وعلا الكوكب الأرضى زاخرا بالموارد ممهدا للسعى للرزق نابضا بالحياة المؤقتة فى هذه الدنيا الى أن يأتى يوم البعث والنشور :( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) ( الملك 15.)
ولم تتكرر للانسان الأوامر بالسعى من أجل الرزق وتعمير الأرض بسبب غريزة التملك وتمنى الخلود ، وبهما ينهض الانسان للسعى بل و التنافس و التقاتل ، فاستعمار أو تعمير هذه الدنيا لا يحتاج الى كثرة من الأوامر الالهية ، ولكن يحتاج الى ترشيد وتشريع كى يتحقق العدل والاحسان ، وينجح الانسان فى اختبار الحياة و الموت. ومن أجل ذلك نزلت الشرائع السماوية ، وبعث الله جل وعلا الأنبياء والرسل ، ومنهم صالح عليه السلام :(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ) ( هود 61). فالله جل وعلا هو الذى أنشأنا من الأرض ، وأوكل الينا مهمة تعميرها ، وشرع لنا أن يكون هذا التعمير فى إطار العدل فى التعامل مع رب العزة ـ فلا نتخذ معه الاها ـ والعدل فى التعامل بيننا ، وفى التعامل مع البيئة ، حتى لا يظهر الفساد فى الأرض.هذا ما أراده الله جل وعلا ، ولكن معظم البشر يريدون غير ذلك.
ثانيا : أنواع الارادة البشرية وانواع السعى
1 ـ فى اختبار آدم وحواء كان مباحا لهما أكل ما شاءا فى الجنة عدا شجرة واحدة محرمة . وكانت المحنة و الاختبار فى هذه الشجرة المحرمة . وحمل أبناء آدم نفس الاختبار ، فكل ما فى الأرض حلال ، ويأتى الاستثناء فى المحرم يمثل الشجرة الوحيدة التى كانت محرمة فى جنة آدم، وهذا المحرم قليل جدا بالنسبة للقاعدة وهى المباح . ومن أسف أن معظم البشر لا يقعون فى هوى الحلال المباح ، ولكن يتعلقون بالشجرة المحرمة ،او الحرام الذى هو استثناء من القاعدة. وهم بذلك يضربون عرض الحائط بوصية رب العزة لهم وتحذيره من أن يفتنهم الشيطان بنفس ما فعل بأبيهم آدم من قبل ( الأعراف 27)..والانسان لا يعصى إعتباطا ، بل هو يبدأ بالنية و التفكير قبل التنفيذ ، خصوصا إذا تعلق الأمر بالصراع حول الثروة ، ومحاولة احتكار الشجرة المحرمة.

والبدء بالنية والتفكير و اتخاذ القرار يعنى أن ( يريد ) الانسان واحدا من أمرين : إما أن يريد الدنيا ، لا يرى غيرها ، ويتخذ من كل الوسائل المتاحة سبيلا للفوز بكل ما يستطيع من رزق ومتاع وثروة هذه الدنيا ،وإما أن يريد الآخرة ، يوجه لها وجهه ، ومن أجلها يجعل الدنيا ورزقها وسيلة للفوز بالآخرة.إذا قرر إرادة الآخرة وعمل لها جوزى خير الجزاء فى الدنيا والآخرة :(وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا )(الاسراء 19 ). والعكس مع مريد الدنيا.ولآن مريد الدنيا هو القسم الأكبر من البشر فإن الله جل وعلا يقول موضحا ومحذرا وناصحا :( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى )(الأعلى 16ــ ) ويأمر بالاعراض عن الذى آثر الدنيا ورفض من اجلها الهداية القرآنية :( فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) ( النجم 29)..
2 ـ إذن هناك ارادتان متناقضتان : إرادة الدنيا وإيثارها ، وإرادة الآخرة و النظر للدنيا لاستغلالها وسيلة صالحة للفوز بالآخرة.ويترتب على كل إرادة نوع من السعى مرتبط به ، فمريد الدنيا يسعى فى الأرض يطلب الشجرة المحرمة ،أى بالعصيان و البغى والتعدى على حق الله جل وعلا وحقوق البشر ، ومريد الآخرة يسعى فى الدنيا بالخير متمسكا بالعدل والاحسان.
ومن ملامح السعى هنا وهناك تأتى النظرة للمال أو الرزق ، فمريد الآخرة يجعل المال أو (غريزة التملك ) هدفه الأساس ، وينافس ويصارع الآخرين فى سبيل تملك المال والثروة والرزق متوهما أنه (خالد فى الدنيا )، أما مريد الآخرة فيجعل المال وسيلة للتزكى و السمو الخلقى ، فيجاهد فى سبيل الله جل وعلا بالمال مضحيا بغريزة التملك ، ويجاهد فى سبيل الله جل وعلا بنفسه مضحيا بغريزة حب الخلود ، وقد استقر فى يقينه أن هذه الدنيا هى مجرد متاع مؤقت ، ومعبر للآخرة للاختيار والاختبار ،وأنه لا بد أن يتزود خلال حياته المؤقتة فى الدنيا بزاد التقوى ،أى هى رحلة للآخرة , وتستلزم هذه الرحلة زادا هو التقوى لينعم بالرزق الأبدى فى نعيم الجنة (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ) ( البقرة 197)...
ثالثا : البغى نقطة فاصلة بين مريد الدنيا ومريد الآخرة:
البغى هو الظلم والاعتداء ومجاوزة الحد ،و الطغيان على الحق و العدل . والبغى ينطبق فى كل عصر على كل المترفين من الحكام المستبدين ، وأعوانهم من العسكر ورجال الدين وكل من يخلط السياسة بالدين تلاعبا بالدين واستخداما له للوصول الى الحكم والجاه.والبغى نوعان:
1
ـ المشهور هو البغى والاعتداء على حقوق البشر مثلما يفعله المجرمون العاديون و المستبدون.
2
ـ والبغى غير المشهور والأكثر خطورة ،وهو البغى على رب العزة جل وعلا بالاعتداء على حقه جل وعلا فى التشريع.
والبغى على رب العزة نوعان أيضا:
1
ـ تحليل ما حرم الله (كقتل الأفراد خارج القصاص بزعم حد الردة ، وحد الرجم وترك الصلاة ، والقتل العام كتشريع الجهاد السّنى بالاعتداء على من لم يعتد على المسلمين بالمخالفة لتشريع الجهاد الدفاعى فى الاسلام ، ومثله أن تتحول السرقة والنهب والزنا والاغتصاب الى تشريع مزور تحت اسم الجزية و الغنائم و السبى). وهنا يزين الشيطان للمجرمين تحويل إجرامهم الفردى و الجماعى الى تشريع الاهى بالتزوير و الكذب على الله تعالى ورسوله ، قيتحول البغى العادى ( العلمانى ) البسيط الممكن علاجه الى دين أرضى معزز بوحى منسوب زورا لله تعالى ورسوله ، فيستعصى على العلاج.
2
ـ تحريم ما أحل الله جل وعلا ، مما جعله مباحا ومن الطيبات من الرزق. فالمحرمات فى الطعام وفى الزواج محددة ومفصلة ، ومحاطة بسور وسياج ، وقد أباح الله جل وعلا وأحلّ ما يوجد خارج ذلك السور والسياج ، وحذّر من تحريم هذا الحلال .وهنا يأتى ابليس يزين للانسان المتدين التطرف فى الورع بأن يحرم على نفسه ما أحلّ الله جل وعلا له من الطيبات والزينة ، بزعم الرهبنة أو الزهد.
وعلى سبيل المثال فقد حرمت أديان المسلمين الأرضية أنواعا شتى من الطعام ، وهو بغى صريح على تحريم ما أحل الله جل وعلا ، وعصيان لأوامره حين قال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة 168 ـ ). وسبق تفصيل ذلك فى بحث مفصل عن الحلال والحرام.
كما حرمت الأديان الأرضية للمسلمين التزين بالذهب و الفضة والحرير ، وقد تجاهلوا قوله جل وعلا : ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) ( الأعراف 31 ـ).
وبينما يقع مريدو الدنيا فى البغى على الله جل وعلا والبغى على الناس فإن مريد الآخرة يحذر من البغى العادى فلا يظلم الناس ، ويحذر من البغى الطاغوتى فلا يظلم رب الناس.ومن هنا يكون لمريد الآخرة حق التمتع بالطيبات من الرزق ومن اللباس دون إسراف ،أى إن إرادة الآخرة لا تتعارض مع التمتع الحلال ، بل هو فى المصطلح القرآنى ( حسنة ).
رابعا : مريد الآخرة وحسنة الدنيا والآخرة:
1
ـ مريد الآخرة يدعو ربه جل وعلا قائلا : (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) ( البقرة 201 : 202 )، أى يرجو حسنة الدنيا ( التمتع الحلال ) وحسنة الآخرة ( نعيم الجنة و النجاة من النار) .
2 ـ واهر جل وعلا يخاطب مريد الآخرة بالترغيب فى حسنة الدنيا وحسنة الآخرة فيقول :(قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) أى طالما تمسك بالتقوى ،عاش ومات عليها فله متاع حسن فى الدنيا ، وأمامه ارض اهِي جل وعلا واسعة ليمشى فى مناكبها ويسعى للرزق الحلال ، ثم ينتظره أجره فى نعيم الآخرة ، وهو أجر بدون سقف ، أى بدون حد أعلى ، بلا حساب عددى.
وتقول الآيات التالية :(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ )( الزمر 10 16 ). أى إن المفروض على مريد الآخرة أن يخلص عقيدته ودينه له جل وعلا بلا تقديس لبشر أو حجر ، وأن يبتعد عن العصيان مخافة عذاب يوم القيامة ، وأن يتمسك بعقيدته معترفا بحق الآخرين فى اختيار عقائدهم وتقديسهم وعبادتهم لغير اهيل جل وعلا ، ويكفى ما ينتظرهم من خسارة و عذاب أبدى يتخوف منه كل من يتقى اهيل جل وعلا.
3
ـ وهكذا فللمؤمن التقى حسنة فى الدنيا ، وهو فيما يكسبه فى الدنيا من مال وجاه يجب أن يستخدمه فى الوصول الى الجنة بأن يؤتى ماله يتزكى، وفيما يكسبه من مال من حلال لا ينسى أن يتمتع به فى حدود الحلال مبتعدا عن البغى و الفساد والاسراف :(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) ( القصص 77).
هذا إذا كان غنيا ميسورا ، فإذا كان فقيرا أو يعانى من أزمة وضيق فعليه بالتمسك بالتقوى فى سعيه الدنيوى متوكلا على ربه جل وعلا، وهنا يتحقق فيه وعد اهَه جل وعلا بأن يرزقه من حيث لا يحتسب ، واهمِ جل وعلا لا يخلف الميعاد :(وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) ( الطلاق 2 : 3).
4 ـ واه ب جل وعلا يعد من يهاجر فى سبيل اهُّ صابرا محتسبا متوكلا على مولاه بأن يهبه حسنة فى الدنيا وأكثر منها فى الآخرة : (وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) ( النحل 40 : 41).
وأيضا يبشر ـ مقدما ـ المجاهد فى سبيل اهِه بالمال و النفس بأجر هائل فى الدارين (الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (التوبة 20 : 22).
وعند الاحتضار تأتى الملائكة تبشر مريد الآخرة بالحسنة فى الآخرة بعد أن تمتع بحسنة الدنيا ، كجزاء للسعى الحسن : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ) ( النحل 30 : 31 )..وابراهيم عليه السلام تحمل الأذى وهاجر وصبر متوكلا على اه ف تعالى لذا أعطاه اهْم جل وعلا حسنة فى الدنيا والآخرة : (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين ) ( النحل 122).
5
ـ هذاغ هو الجزاء الحسن فى الدنيا والآخرة لمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن . وأول بند فى هذا السعى أنه يضحى بالمال أو الرزق الوهمى ليشترى به الرزق الأبدى ، ثم لا يحرم نفسه من المتعة الحلال ،مبتعدا عن البغى والظلم.
خامسا : دور المال أو الرزق هنا:
1 ـ المؤمن مريد الآخرة يسعى للرزق دون أن يلهيه الرزق عن ربه الرزاق جل وعلا :( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ )( النور 36 : 37 ) ، أى يعملون بالتجارة والبيع ويحصلون على ربح يتصدقون منه ويخرجون منه زكاة أموالهم ، ولكن تلك التجارة وذلك الربح لا يلهيهم عن العمل للآخرة.أمّا مريد الدنيا فيظل مسحورا بها حتى لحظة الاحتضار ، وينسى قول اهذِ جل وعلا (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ)( التكاثر 1).
2 ـ مريد الآخرة يقوم بتجارة رابحة مع اهِ جل وعلا ، يقدم فيها نفسه وماله ابتغاء مرضاة اهبْ مقابل الرزق الخالد فى الآخرة والربح فى الدنيا أيضا : (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة 111 ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين ) ( الصف 10 ـ ). ولذلك فإن مريد الآخرة لا تأخذه فى اه ف جل وعلا لومة لائم ، وهو على استعداد بالتضحية بالمصالح الشخصية و التجارية و علاقات النسب والولاء للأسرة و القبيلة لو تعارضت مع إرادته للآخرة وموالاته لربه جل وعلا.
وهنا الامتحان الأعظم الذى دخله المؤمنون الأوائل من العرب الذين قامت ثقافتهم على الولاء للقبيلة و التعصب لها ، فتحتم عليهم التضحية بتلك الولاءات وتلك المصالح الدنيوية و التجارية فى سبيل رب العزة وفق ذلك العهد المشار اليه مع رب العزة ، وتلك التجارة مع الرحمن ، يقول تعالى يؤنب بعض الصحابة المكيين ، وهو هنا خطاب عام للجميع :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ( التوبة 23 : ـ ).
أمّا مريد الدنيا ـ فى أسوأ حالاته فهو فى عبادته للمال يستخدم دين اهرُ جل وعلا فى الحصول على المال ، ومن أجل المال يقوم بصناعة دين أرضى بالتزوير والتزييف ليخدع به الناس ، ويحصل منهم على النذور و القرابين ، أو :يشترون بعهد الله  ثمنا قليلا .
وكان منهم بعض أهل الكتاب فى عصر النبوة ، فقال جل وعلا عنهم :(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( آل عمران 77 ـ )،أى تحول عهد اهلْ ودينه واسمه الكريم الى وسيلة لأكل أموال الناس بالباطل ، وهو عمل أساس فى كل دين أرضى ، قبل وبعد نزول القرآن الكريم.
أخيرا:
وقوله جل وعلا السابق ينطبق على عصرنا مائة فى المائة . ولذلك تجد أثرى الأثرياء هم أئمة الأديان الأرضية ، وبالمناسبة :كم تبلغ ثروة الامام السيستانى الشيعى فى العراق ؟ وكم تبلغ ثروة البابا شنودة وكم تبلغ ثروة الشيخ الطنطاوى فى مصر ؟وكم كانت تبلغ ثروة الشيخ الشعراوى قبلهم ؟ مات الشعراوى وترك خلفه ثروته من الرزق الوهمى ، وكذلك سيموت السيستانى وشنودة وطنطاوى ، لا يحملون إلا ما عملته أيديهم ، تاركين خلفهم ملايين الجوعى من أتباعهم كانوا فى أشد الحاجة الى تلك الأموال.
إن أسوا البغى هو ما يفعله أئمة الأديان الأرضية لأن ظلمهم لا يقتصر على البغى على دين اهقُ جل وعلا بل يمتد الى تضليل العوام لصالح المستبدين من الحكام . ومن أسف أنهم يتمتعون بتوقير وتقديس لا يستحقونه ، بينما ينطبق عليهم فى الدنيا قوله جل وعلا:(أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) ( الواقعة 81 : 82).
وينطبق عليهم فى الآخرة قوله جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)(البقرة 174 ـ ) ، وقوله جل وعلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ)( التوبة 34 ـ)

.وصدق الله العظيم. .

(3 ) : العمل للفوز برزق الآخرة:

مقدمة :
رزق الدنيا نوعان : رزق أساس يقيم الجسد وتقوم به حياة الانسان ، ورزق وهمى من أموال سائلة وعقارات تترك الانسان أو يتركها الانسان .وهناك رزق للآخرة هو نعيم الجنة الذى يسعى اليه المؤمن ، ومن أجله يعطى ماله يتزكى وهو حىّ  يسعى فى هذه الدنيا ، يؤمن بالله جل وعلا لا اله غيره ولا تقديس لسواه ، ويعمل الصالحات من العبادات و يتمسك بالأخلاق السامية فى التعامل مع البشر. المؤمن مريد الآخرة يعطى جزءا من الرزق الوهمى المؤقت الزائل يشترى به النعيم الذى لا حد أقصى للاستمتاع به ، ولا حد أقصى لاستمراريته وخلوده .يؤمن مريد الآخرة بوجود الجنة و النار إيمانا يدفعه للتمسك بالعمل من أجل أن يكون (صالحا ) لدخول الجنة ، ولأن يكون ناجيا من دخول النار ، ومن عناصر إيمانه بالآخرة أن يؤمن بوجود رزق الآخرة فى الجنة للذين آمنوا وعملوا الصالحات .هذا الرزق ألأخروى فى الجنة نتعرف عليه من القرآن الكريم ، حتى يعرف المؤمن الفارق بينه وبين رزق الدنيا الوهمى .
ولأنها كثيرة تلك الآيات القرآنية التى تحدثت عن الجنة ونعيمها ورزقها وعذاب النار فإن المنهج هنا هو الاقتصار فقط على الآيات الكريمة التى وصف الله جل وعلا نعيم الجنة بأنه ( رزق ) . وهى تعطى لمحة موجزة عن نعيم الآخرة ،أو رزق أهل الجنة.
أولا : نوعا الرزق للمؤمنين بعد هذه الحياة الدنيا:
1 ـ  نشير سريعا الىى (رزق البرزخ ) لمن مات قتلا فى سيبيل الله عزوجل،أستغفر الله العظيم ، فالله جل وعلا ينهى أن نقول عنهم أموات، لأنهم أحياء فى مستوى آخر من الوجود فى هذا العالم ولكننا لا نشعر به ولا نراه ، يقول جل وعلا :(وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ) ( البقرة 154 ).

2 ـ ولأنهم أحياء فلا بد لهم من رزق يقيم أود حياتهم فى ذلك المستوى من الحياة الذى لا نعرفه.   ولأننا لا نشعر به ولأن الأمر يحتاج منا الى تأكيد بوجودهم أحياء يرزقون فى هذا العالم الغيبى المعاصر و الموازى لنا فإن الله جل وعلا يؤكد تلك الحقائق بصيغة التأكيد( نون التأكيد الثقيلة ) فيقول جل وعلا :(وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (آل عمران : 169).لم يقل : ( لا تحسبوا ) ولكن قال :(وَلاَ تَحْسَبَنَّ ) .والتأكيد هنا أولا :على حياتهم عند ربهم يرزقون ، ثم التأكيد فى الآية التالية على أنهم هم الذين يحسون بنا ويحسون باخوانهم فى مستوى حياتنا نحن ، يتمنون أن يلحق بهم اخوانهم ليتمتعوا معهم بنفس الرزق فى تلك الحياة البرزخية ، يقول جل وعلا : (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران 170 ـ ).

3 ـ ويقابل هذا الرزق و النعيم فى البرزخ (الذى لا نشعر به) عذاب آخر فى البرزخ ، (لا نشعر به أيضا) ، وهو من نصيب فرعون وآله : ( غافر 45 : 46 ) ( القصص 6 ، 8 ) و من نصيب قوم نوح :( نوح 25) ( هود 38 : 39 ). وقوم نوح وفرعون وآله هم أئمة الكفر لكل البشرية.
4 ـ نلتفت الآن لرزق أهل الجنة فى اليوم الآخر.
ثانيا : أوصاف إجمالية لرزق الجنة :
1 ـ رزق الدنيا ليس كريما ، الله تعالى وصف الحلال فى الطعام بالطيبات، ولكن هذه الطيبات من الرزق ينتهى بها الأمر الى نفايات وفضلات نعتبرها نجاسات نتطهر منها، ثم يعاد تدويرها سمادا يسهم فى الزراعة ، وحتى الجسد الانسانى نفسه يتحول بعد الموت للنفس الى جثة تتعفن و تعود الى تراب وتتحول الى سماد.
2 ـ الرزق الكريم الحسن ـعلى حقيقته لا يكون إلا فى الآخرة .يتكون من زاد التقوى فى الدنيا ، وهو التزكية بالعمل الصالح.والنفس المطمئنة التى تدخل الجنة سيكون جسدها. هو عملها الصالح فى الدنيا ، أى يتحول العمل الصالح الى نور يتخلل نفس صاحبه وتتجسد فيه نفس صاحبه فى الآخرة، وبهذا النور تكون درجة قربه من الله جل وعلا ، فالأعلى درجة هم المقربون السابقون ، والأقل درجة هم أصحاب اليمين ( الواقعة 1 ـ )، وجميعهم متقون فى مقعد صدق عند مليك مقتدر(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ)(القمر54 :55).

3 ـ هذا المستوى لا نستطيع الآن تصور عناصر النعيم فيه من الرزق،ولكنه موصوف بأنه كريم و حسن ،حسب فهمنا الدنيوى.
3 / 1 ـ نعيم الجنة رزق كريم: يقول جل وعلا عمّن قضى حياته مؤمنا مهاجرا مجاهدا مضحيا:(وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(الأنفال 74) .أى لهم غفران لما سلف من السيئات ، وبالمغفرة ينجو من النار ،ويدخل الجنة يتمتع فيها برزق كريم .
 3  / 2 ـ نعيم الجنة رزق حسن: ويقول جل وعلا (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا ) ( الطلاق 11) .فهنا وصف للجنة بأن الله تعالى قد أحسن رزق أهلها.ونحوها قوله جل وعلا (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ) ( الحج 57 : 59) فالوصف هنا لنعيم الجنة بالرزق الحسن ، يرزقه لهم الله جل وعلا وهو خير الرازقين.
ثالثا : أوصاف تفصيلية لرزق أهل الجنة :
ونتوقف مع بعض لمحات عن وصف رزق اهل الجنة :
1ـ يقول جل وعلا :(وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ  ) ( غافر 40). هنا المساواة المطلقة فى المسئولية والحساب والثواب والعقاب بين الذكر والانثى ، ثم تكون المساواة المطلقة فى الآخرة ، حيث لا ذكر ولا أنثى بل جنس واحد يتنعم بالجنة أو يتعذب بالنار . الجديد هنا أن ذلك رزق الجنة الخالد ( من حيث الزمن ) ليس له حد أقصى أو حساب من حيث الكيف أو الكم.

2 ـ يقول تعالى :(وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)( البقرة 25 ).
2 / 1 فالرزق هنا متجدد ومتنوع ومختلف من الثمرة الواحدة ، أى هو متشابه ومختلف ومتجدد فى نفس الوقت. وهى نوعية لا نعرفها فى حياتنا الدنيا. (كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا)..
2 /2 . ثم يتمتعون بما خلق الله جل وعلا لهم من حور عين لم تكن موجودة من قبل فى هذه الحياة الدنيا ،إذ سيكون أصحاب الجنة جنسا واحدا بعد انتهاء الدنيا بمافيها من زوجية الذكر والأنثى ، هذه الزوجية تحمل بذور البقاء المرحلى والتجدد الوقتى ثم الفناء فى طبيعة هذه الحياة التى هى بطبيعتها مرحلية ووقتية وزائلة ،أى تجمع بين خاصيتى التكاثر (الحياة)والموت فى نفس الوقت ، الى أن يأتى تدمير العالم وانتهاء (يوم الدنيا ) المؤقت ومجىء ( اليوم الآخر )الخالد. تأتى الآخرة بالخلود حيث لاموت ولا تكاثر بل يكون الناس بين :عذاب أبدى ، يمتزج فيه العذاب بجسد الذى يعانى العذاب ،أو بنعيم أبدى بنفوس مطمئنة خالدة ، ومن خلال جسدها النورانى تتمتع بالحور العين .
الحور العين مخلوقات لم تخلق بعد ، لهن صفات لا توجد فى إناث الدنيا، ينتمين الى عالم أخروى الذى سيتم خلقهن فيه، وقد يأتى التفصيل عنهن فى مقال مستقل ، ولكن جاءت إشارة عنهن بأنهن أزواج مطهرون، (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ) أى المطهرات مما كان يلحق بالذكر والانثى فى الدنيا من نجاسات وقاذورات ، ( فالعورات ) فى الدنيا هى موضع اللذات وموضع النجاسات أيضا.نحن لا ندرى شيئا عن مفردات رزق الجنة ونعيمها سوى التصوير المجازى له فى القرآن الكريم ، و الأسماء التى أطلقها رب العزة عليها لتقريب غيب الآخرة لنا .
2 / 3 ـ وقوله جل وعلا (وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) يعلل الاختلاف بين رزق الجنة و نعيمها وبين ما نعرفه فى هذا العالم الدنيوى . فنحن وكل ما نراه ونتغذى عليه تسرى عليه دورة التكاثر والموت الى أن ينتهى هذا العالم ويأتى عالم آخر ، هو اليوم الآخر الذى له بداية وليست له نهاية بل خلود أبدى  لأصحاب الجنة وعناصر رزقهم ، ولأصحاب النار وعناصر تعذيبهم ، ويجب على مريد الآخرة أن يعمل لها ويستعد من أجلها بتزكية النفس لتكون صالحة لرزق الجنة .
2 / 4 ـ ولكن مداركنا مرتبطة بهذا العالم المادى المشهود ( عالم الشهادة ) وما سيأتى يوم القيامة هو غيب مؤجل لم يحدث بعد ، وبالتالى فكيفية الرزق والنعيم لا يمكن تخيلها ، ويأتى الحديث القرآنى عنها بلغة البشر للتقريب مستعملا لغة المجاز.وهذا يعطى فرصة رائعة لأعداء القرآن الكريم للتندر والسخرية والسعى فى آيات الله معاجزين،  مع أننا لو طلبنا من أحدهم أن يعبر بلغته البشرية عن المعانى التى يحس بها ما استطاع ، لوقيل صف اللذة الجنسية ،أو صف الفارق بين طعم بين نوعين من البقول ما استطاع،مع أنه يعرف ويحس بالطعم ، ولكن اللغة البشرية قاصرة على وصف الأحاسيس والمعانى مما نسمع من الموسيقى ومما نتذوق من الطعام ومما نرى من المناظر،ومما نحس من متعة وعذاب  ـ
هذا فى عالمنا المادى الذى نعيشه فكيف بعالم غيبى لم يتم خلقه بعد ؟.
3 ـ ويقول جل وعلا :(جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا ) (مريم 61 : 63  ) ، فالجنة هنا وعد الاهى غيبى ولكن سيتحقق .
3 / 1 ـ وكونه غيبيا يعنى أنه ليس من عالم الشهادة و المشاهدة ،التى هى سمة عالمنا المادى ، وبالتالى فإنه لا يمكن لمداركنا أن تتخيل هذا العالم الغيبى المحجوب عنا .
3 / 2 ـ وهو ليس مجرد عالم غيبى محجوب عنا ، مثل غيب السماوات والأرض الموجودة حاليا ومثل غيب البرزخ وعوالم الجن والملائكة التى تعيش معنا ولكن فى مستويات أخرى متداخلة أو متوازية مع عالمنا ، إن غيب الآخرة والجنة و النار غيب أعمق وأدق وأبعد لأنه عالم لم يأت أوانه بعد ، ولم يخلق الله ناره بعد ، ولم يخلق جنته بعد .فنعيم الجنة سيكون جزءا من النسيج الحىّ لأصحاب أهل الجنة بمجرد دخولهم الجنة، أما أصحاب النار فستكون أجسادهم وقود النار ، وبهم وبأجسادهم يبدأ ويستمر إشعال النار أبد الآبدين.
3 / 3 ـ وليس فى الجنة لغو ولا ما يسىء من الكلام ، بل تداول التحية بالسلام ، وليس عليهم تكلف السعى للرزق بل يأتيهم فى مواعيدة صباحا ومساءا .
3 / 4 ـ هذه الجنة التى يرثها المتقون فى كل زمان ومكان .
أخيرا :
1 ـ لن يدخل الجنة إلا من كان تقيا (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا)(مريم 63) .
2 ـ وتحديد المتقى ليس فى هذه الدنيا ، ومن يزكى نفسه بمجرد الكلام ويمدحها بالتقوى  فى هذه الدنيا يكون عاصيا لرب العزة الذى نهى عن تزكية النفس بالتقوى (فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) (النجم 32) (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا ) ( النساء 49 : 50).
3 ـ تتحدد التقوى بعمل الفرد الصالح وإيمانه الخالص ، وتأتى المحصلة النهائية للفائز بأن يموت وقد أسلم لله جل وعلا قلبه خالصا التقديس و العبادة له جل وعلا وحده ، وأن تسلم جوارحه من الاعتداء والظلم والبغى والعصيان . وهذه العملية تسمى ( التزكية ) أو ( التطهر ) أو ( التقوى ).
4 ـ والمؤمن فى هذه الدنيا هو الذى يحاول أن يتطهر ويتزكى فى الدنيا استعدادا لليوم الآخر ، ليسعد بجسد نورانى يكون به صالحا لنعيم الجنة ورزق الجنة.
5 ـ وطريقته فى التزكية فى الدنيا هى استغلال كل نعم الله عليه من رزق اساس ( صحة وعافية وجسد وشباب وذكماء ومعرفة ) ورزق وهمى (مال وعقارات وسندان وأسهم وأرصدة ..الخ ) فى الفوز بالآخرة بأن يؤتى ماله يتزكى وأن يبيع الله جل وعلا ماله ونفسه مقابل أن يفوز بالجنة مع من أنعم الله تعالى عليهم (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ )( النساء 69 ) .
6 ـ وثمرة التزكية فى الآخرة أن يتمتع المؤمن بجسد نورانى يشع فى وجهه بياضا عكس مريد الدنيا :(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( آل عمران 106 : 107)،( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) ( عبس 38 ـ  ) .
وأن يصحبه النور يسعى بين يديه وحواليه (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ  )( الحديد 12).
7 ـ وبهذا دعا الله جل وعلا المؤمنين فى الدنيا للتوبة والتطهر والتزكى لكى يفوزوا بثمرة التزكية فى الآخرة :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )(التحريم 8) .
8 ـ بهذه التزكية وبالتضحية ببعض الرزق الوهمى الدنيوى يتمتع برزق الجنة الذى لا تدركه عقولنا الآن .

(4 ) :ين رزق الجنة وعذاب النار

مقدمة:
1
ـ فى الحث على تزكية النفس لتفوز فى الآخرة لا يكتفى القرآن الكريم بالترغيب ،أى بذكر نعيم الجنة ورزق أهل الجنة ،بل يقرن الترغيب بالترهيب ، بالتخويف من عذاب النار.
والسياق القرآنى يتوازن فيه الحديث عن الجنة و النار ، كما يتوازن تأكيد الحرية الدينية بتقرير المسئولية وعذاب من يكفر و النعيم الذى ينتظر من يموت مؤمنا قد تزكى.
وعلى سبيل المثال يبدأ رب العزة بتقرير الحرية فى الايمان أو الكفر ، فيقول : (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) بعدها مباشرة تأتى مسئولية من يختار الكفر وما ينتظره من عذاب هائل: ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) ثم نعيم من يختار الهدى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) ( الكهف 29 ـ)..
2 ـ وهناك بعض الناس يهش ويبش عند تقرير القرآن الكريم للحرية المطلقة فى الفكر والدين و المعتقد وحرية الدعوة للحق أو الباطل ،ولكنه يمتعض عندما يذكر القرآن الكريم تفاصيل العذاب المروع لمن يختار الضلالة ويأبى الهداية.هذا الصنف من المخلوقات يتناسى أن الحرية فى القانون الوضعى قرينة المسئولية ، وهى كذلك فى القانون الالهى ، فأنت ( حرّ ) فيما تقول وفيما تعتقد وفيما تفعل فلا بد أن تكون مسئولا عما تقول وعما تعتقد وعما تفعل.
والله جل وعلا الذى خلقك حرا فى هذا العالم شاء أن يجعل يوما للحساب والمساءلة بعد تدمير هذا العالم ومجىء البشر للقاء الله جل وعلا للمحاسبة على ( حريتهم ) التى كانت معهم فى اليوم ( السابق ) ( يوم الدنيا ). ( هود 7 ) ( الملك 2 )( ابراهيم 48 ـ )..الحرية قرينة المسئولية حتى فى الحديث العادى فى مصر حين يصمم أحدهم على أمر برغم معارضة الآخرين يقولون له بلهجة التهديد : ( أنت حرّ ) أى تتحمل وحدك مسئولية ما تصمم عليه.
3
ـ الأهم من هذا أنه لا يمكن للانسان أن يسمو خلقيا ويتطهر إلا بالتزكية التى تجعله رقيبا على نفسه متقيا ربه فى السّر والعلن.حياة الضمير أو( النفس اللوامة)ـ تتجلى أكثر فى فلسفة القرآن الأخلاقية و التشريعية ، فمعظم تشريعات القرآن مناط التطبيق فيها لضمير المؤمن نفسه ،ليس خوف المجتمع أو العقوبة الدنيوية أو الضبطية القضائية ، ولكن الرهبة من عذاب الآخرة أو ( التقوى )أى خوف الله جل وعلا (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ )(الزمر 13) وخوف النار (وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )(آل عمران 131 : 132)...وبسبب العذاب المروع الخالد الذى ينتظر العصاة الظالمين الكافرين فإن العقوبات فى الاسلام ليس للانتقام ولكن للاصلاح فى الدنيا لينجو الجانى من العقوبة الأكبر فى الآخرة إذا تاب وأناب ، ولذلك تسقط العقوبات المقررة فى الاسلام بالتوبة ـ وذلك ما سنعرض لتفصيلاته فى مبحث تطبيق الشريعة القرآنية.
ولكن الذى يهمنا هنا أن ثنائية الجنة والنار والثواب والعقاب ونعيم الجنة و عذاب الجحيم لها مقصد تشريعى لاصلاح الفرد والمجتمع ، أساسه أن يعيش الفرد يزكى نفسه ، وأن يقيم المجتمع معالم العدل والقسط ، ومن أجل إقامة القسط نزلت كل الرسائل السماوية ( الحديد 25 ). وهذه الدولة الاسلامية تضمن حرية الدين والمعتقد ليكون البشر أحرارا فى دينهم حتى ليتسنى لهم أن يكونوا مساءلين أمام الله جل وعلا وحده يوم القيامة عن اختيارهم العقيدى فى الدين باعتبار أن الدين لله تعالى وحده ، يحكم فيه وحده فى يوم القيامة الذى اسمه يوم الدين.
ومن أسف أن كل هذا السمو فى التشريع القرآنى قد أضاعه المسلمون باديانهم الأرضية وباستغلالهم اسم الاسلام العظيم فى الفتوحات و الحروب الأهلية ، وتلك هى (الفتنة الكبرى) التى لا يزالون فيها يعمهون.
وقد توقفنا مع تفاصيل رزق المؤمنين فى الجنة . وهنا نتوقف مع المقارنات القرآنية لرزق المؤمنين فى الجنة وعذاب الظالمين الكافرين فى الجحيم.
اولا : مقارنة إجمالية بين رزق الجنة وعذاب النار:
1ـ فى سياق واحد وتنويعات مختلفة يأتى حديث القرآن الكريم عن الجنة والنار واصحابهما.
ونعطى أمثلة:
1/ 1 :
فالكارهون لما نكتب من أبحاث قرآنية نوعان : علمانى ينكر الاسلام جملة وتفصيلا ، ومتدين متعصب لدين أرضى يرفض ما يأتى فى القرآن الكريم مخالفا لدينه الأرضى. وكلاهما يسعى فى آيات الله القرآنية معاجزا ؛ المتدين المتعصب لدينه الأرضى يسعى فى القرآن معاجزا بزعم النسخ وأن القرآن حمّال أوجه ..الخ ، والعلمانى الكافر بالقرآن والاسلام يسعى فى القرآن معاجزا ، يتهم القرآن بأنه وثيقة تاريخية لا تصلح لعصرنا ،أو أنه من تلفيق وصنع محمد بن عبد الله، أو أنه يتناقض مع بعضه ، ويتعسف فى تحريف معانى القرآن ليصل الى غرضه.
وقد أنبأ رب العزة سلفا ومقدما بهم ، وعقد مقارنة بين جزائهم فى النار وجزاء المؤمن بالله تعالى وكتابه واليوم الآخر إيمانا يصدر عنه عمل صالح نافع له وللمجتمع. يقول جل وعلا:(فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) (الحج 50 : 51 ) (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ) ( سبأ 4 ، 5) . المقارنة هنا بين مغفرة ورزق كريم للمؤمن و عذاب من رجز أليم لأصحاب الجحيم.
1 / 2 :
وفيما يسمى ببلاد المسلمين يسود الاضطهاد الدينى تمارسه الأكثرية ضد الأقلية المسلمة من المذاهب الأخرى ،أو غير المسلمين. ويعانى أهل القرآن المسالمون اضطهادا ظالما لتمسكهم باصلاح سلمى للمسلمين بالاسلام، ويتحد ضدهم المستبدون والمتطرفون معا ، يصدون عن سبيل الله وآياته.وهذه عادة سيئة بدأت بالذين استكبروا من قوم نوح ، وظلت الى الذين استكبروا من قريش ، ولا تزال مع الذين استكبروا من آل سعود وآل كل مستبد.أى بعد نزول القرآن الكريم ما لبث العرب أن سكنوا فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم أى تصرفوا نفس تصرفاتهم، وهذا ما سيقال لكل الأجيال التى تلت نزول القرآن :(ابراهيم 45 )، وأصبحوا مثلهم يضطهدون المتمسكين بالكتاب السماوى.
وهنا يعقد رب العزة مقارنة بين الظالمين المعتدين وضحاياهم المؤمنين المرغمين على الهجرة بدينهم والدفاع المشروع عن حياتهم :(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ) ( الحج 57 : 59).أى طبقا للايمان والعمل يتحدد الأجر بين عذاب مهين للكافرين المكذبين بالذكر الحكيم و رزقا حسنا ومدخلا مرضيا للمؤمنين المناضلين المهاجرين.
1 / 3 :
وقد تأتى مقارنة جزئية فى لمحة سريعة ، حيث ينعم أهل الجنة برزق واسع وجنات تجرى من تحتها الأنهار بينما يعانى أصحاب النار من غذاء ملتهب وشراب من حميم ، والشفاء الذى يأملون فيه هو طعام وشراب أهل الجنة ، ولذلك ينادون أهل الجنة يستغيثون بهم يتسولون الماء او الطعام ، ويردّ عليهم أهل الجنة إنه لا يصلح لهم فقد حرّمه الله تعالى عليهم :( وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ )( الأعراف 50  ).
ويأتى وصف أهل النار فى الآيتين التاليتين يخبر مقدما عن مصير المستبدين و المتطرفين من أصحاب أهل الأديان الأرضية من (المسلمين) فى عصرنا:(الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )( الأعراف 51 : 52 ). أولئك المستبدون والمتطرفون يتلاعبون بدين الله جل وعلا يستغلونه فى طموحاتهم الدنيوية ، ويزيفون أديانا أرضية تتحول فيها الشعائر الدينية من خشوع وخضوع لله جل وعلا الى لهو ولعب ورقص وغناء ،وقد غرتهم الحياة الدنيا يعتقدون أنهم فيها مخلدون بلا موت وبلا يوم آخر للحساب . وهم بآيات الله فى القرآن يجحدون ، مع أن الله جل وعلا قد أنزل القرآن مفصلا جاء تفصيله على علم ومنهج ليكون هدى ورحمة ليس للجميع ولكن للمؤمنين الذين يطلبون الهداية به.
أما من ارادوا الدنيا و رضوا بها وإطمأنوا اليها وآثروها على الآخرة وتلاعبوا بالدين يخلطونه بالسياسة ليركبوا ظهور العوام باسم الدين :أولئك مصيرهم ان ينساهم الله جل وعلا يوم القيامة كما نسوا ربهم فى الدنيا:( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ )(المجادلة 19)...
فالله تعالى يذكر الذين يذكرونه ، يذكرونه جل وعلا بما يستحق من عبادة وتقديس لا يشركون به شيئا ، وهو جل وعلا فى المقابل يذكرهم يوم القيامة برحمته وجنته حيث يتمتعون برزق الجنة ونعيما: ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) ( البقرة 152) . المؤمن الذى يذكر ربه لا يجعل له شريكا فى العبادة و التقديس ، وهو لا ينسى ربه ، يذكره حين يهم بالمعصية أو حين يخدعه الشيطان فيسارع بالتوبة و التقوى (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أو ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ أَوْ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ )(آل عمران 135) (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ )(الأعراف 102)..

ثانيا :مقارنة تفصيلية بين رزق الجنة وعذاب النار:
1 ـ وفى الآية السابقة رأينا كيف يتسول أصحاب النار الماء و الطعام من أصحاب الجنة ، ويرد أصحاب الجنة بالرفض لأن التكوين الجسدى لأصحاب أهل النار لا يسمح لهم إلا بطعام النار وشراب الحميم . ندخل هنا فى مقارنة تفصيلية بين طعام وشراب الفريقين ،أو رزق الفريقين حتى نعرف أهمية تزكية النفس للنجاة من النار وللتمتع برزق أهل الجنة.
2
ـ يقول جل وعلا : (إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ )(الصافات 40 : 71).
2 / 1 : وصف رزق أهل الجنة هنا أنه ( معلوم ) ليس بالنسبة لنا فى هذا العالم بل لأصحابه فى الجنة ،وهو نوعان :نعيم (مادى )بتعبير عصرنا ،أى طعام وشراب ومتعة جنسية ، ونعيم معنوى بالتكريم والتشريف ورضى الله تعالى عنهم ورضاهم عنه وسلام الله تعالى عليهم والملائكة وتبادل السلام والتحية فيما بينهم، والتواصل بينهم بالحديث الممتع على أرائك متقابلين ، وقد نزع الله جل وعلا ما قد كان من عداء قديم بين بعضهم فى الحياة الدنيا ، وتلك هى سعادة الأخلاء مع بعضهم البعض حيث يتسامرون ويطاف عليه بشراب طهور ، متصل غير منقطع ، ولديهم زوجات من الحور العين مطهرات من حيث الجسد ومطهرات من حيث الأخلاق.
كل ذلك يأتى التعبير عنه وفق مدركاتنا ،أى باطلاق صفات وأسماء عليها من نفس الأسماء المستعملة لدينا لتقريب المعنى ، ولكن الحقيقة فوق ما نتصور وفوق ما نتخيل ،ولا يمكن أن تخطر على بالنا ، فلا تعرف نفس بشرية ما خفى من نعيم الجنة :(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( السجدة 17) ، ولذلك يأتى التعبير بالمجاز ، فالحور العين ( قاصرات للطرف) اى استعارة عن الحياء والخفر ، و (كأنهن بيض مكنون ) اى تشبيه لتقريب الفهم.
2 / 2 :
ثم هم فى أحاديثهم سيتذكرون ما كان يحدث لهم فى الدنيا . يتذكر أحد أهل الجنة صاحبا له كان فى الدنيا ، وكيف كان هذا الصاحب ضالا مضلا يريد غواية صاحبه المؤمن ،وكان يتندر عليه منكرا البعث والحساب بعد الموت . ومن خصائص أهل الجنة أنهم يستطيعون رؤية أهل النار والحديث معهم والاطلاع على أحوالهم وهم يتعرضون للتعذيب . وهكذا يتطلع صاحبنا ومعه أصدقاؤه من أهل الجنة الى أهل الجحيم فيرون ذلك الصاحب السابق فى مكانه وسط الجحيم ، فيسائله عن إنكاره السابق للبعث و الحساب و الجنة و النار .ويقول له إنه لو أطاعه لكان معه فى هذا العذاب ،لولا فضل الله تعالى عليه أن قوّى ايمانه فنجا.وبعد هذا الملح يأتى التأكيد الالهى بأن رزق الجنة هو الفوز العظيم ولمثله فليعمل العاملون . ثم تأتى المقارنة بعذاب أهل الجحيم.
2 / 3 :
وتبدأ المقارنة بشجرة الزقوم ، طعام أهل الجحيم ،وأحد أهم عناصر التعذيب فيها ، وأهم بند فى بنود (رزق )أهل النار.
وتأتى أوصافها المرعبة ،فهى شجرة جذورها فى قعر الجحيم ، وتتشعب لتصل ثمارها الى فم كل واحد من أهل النار ليأكل منه كرها ،إذ توصف هذه الشجرة بأنها (فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ ) فهم مجبرون على الأكل منها الى أن تمتلىء منها البطون ، ثم هم مجبرون على أن يشربوا علي ذلك الطعام الملتهب سوائل ملتهبة هى الحميم ، وتلك إحدى دورتى العذاب لأنهم بعد الأكل و الشرب الذى يملأ أجوافهم نارا يعودون الى النار الأصلية لتعصف بجلودهم (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ)...
2 / 4 : ووصف العذاب هنا وفق مدركات البشر لأن حقيقته لا يمكن أن يدركها البشر فى هذا العالم.
ويكفى هنا وصف ثمرة شجرة الزقوم بأنه مثل رءوس الشياطين:(طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ). التشبيه يأتى بصورة مرعبة لم نرها بعد ،وهى رءوس الشياطين، وفيه إعجاز فى الفصاحة القرآنية ، فالعادة فى بلاغة التشبيه أن يأتى المشبه به معروفا ، فحين تقول ( هذا الرجل شجاع كالأسد ) فالمشبه به وهو الأسد لا بد أن يكون معروفا بالشجاعة . ولكن الفصاحة القرآنية فى التدليل على مدى العذاب والرعب تأتى لنا بالمشبه به من الغيوب التى لم نرها ، ولكن فى نفس الوقت نحتفظ لها بكل ما نملك من مشاعر الرعب والفزع ، وهى ( رءوس الشياطين..).
2 / 5 :
وحتى تكتمل الصورة فلا بد أن يأتى استحقاق أهل النار للعذاب لأن الله جل وعلا ليس ظالما للعباد ،فأولئك يستحقون العذاب لأنهم ظالمون (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ) وأنهم كانوا ممن يعبدون (الثوابت الدينية )او ما وجدوا عليه آباءهم ، فقد وجدوا آباءهم ضالين فساروا على آثارهم يهرعون (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ).وهو وصف ينطبق على معظم المسلمين الذين أتخذواالقرآن مهجورا تمسكا بالثوابت وما أجمعت عليه الأمة.
3 :
ويقول جل وعلا :(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ) ( الدخان 43 : 57.).
هنا وصف يقارن طعام أو رزق أهل النار برزق أو نعيم أهل الجنة.
3 /1 :
والأساس فى رزق أهل النار هو شجرة الزقوم . ووصفها بأنه طعام أو رزق الأثيم ،أى الذى عاش بالإثم ومات عليه ، وحمله فوق ظهره ،وأصبح معذبا به ، يأكل طعامه من شجرة الزقوم ، حيث يغلى فى بطنه كغلى الحميم ، ثم بعد دورة الأكل يتم قذفه الى قعر الجحيم ، ثم يصب الحميم فوق رأسه ، ويقال له بالسخرية (ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ )،أى كما كان يسخر فى الدنيا من البعث و العذاب و النعيم تتم السخرية منه وهو تحت العذاب ، ويتم تذكيره بما كان يتندر به على دين الله جل وعلا.
3 / 2 :
والملاحظ هنا أيضا استخدام الاسلوب المجازى بالتشبيه:(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ)،فهنا تشبيه طعام الزقوم بالمهل ، وهو جمرات البراكين المتقدة من النار الذائبة أو (اللافا أو الماجما)،وهذا هو مبلغ علمنا بالنار الذائبة، وهذا (المهل ) الأرضى لا بد أن يبرد ويتحول الى تراب وتربة غنية فيما بعد .أما طعام الزقوم فهو لا يبرد ، ومستوى حرارته فوق تخيلنا ، وهو خالد فى تأججه وتدفقه وغليانه داخل البطون.
وأيضا يأتى تشبيه غلى البطون ، وهو صورة لا نعرفها ، ولا يمكن أن نراها فى حياتنا الدنيا لأن الحديث هنا عن أشخاص أحياء تغلى بطونهم بأعلى ما يمكن تصوره من درجات الغليان ،وهو (غلى الحميم ). والحميم هو ماء النار فى الجحيم. نحن فى هذه الحياة لنا درجة معينة فى تحمل الألم ، فإذا زاد رحمنا الله جل وعلا منه بالاغماء أو الموت .أما فى النار فمن فيها يأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ، وكلما نضج جلده تبدل بجلد آخر ليذوق العذاب خالدا مخلدا أبد الآبدين .ومع العذاب الجسدى يأتى العذاب النفسى من الخزى و التلاعن والتبكيت.
3 / 3 :
والتفكر فى أن تغلى البطون بماء نارى ملتهب يعطى الصورة المطلوبة من الفزع ، لعل وعسى أن يتوب من لديه متسع للتوبة ، فيزكى نفسه وينجو بها من سوء المصير..
3/ 4 :
وتأتى المقارنة برزق ونعيم أهل الجنة حتى تكتمل الصورة .فعلى عكس البغاة الآثمين فإن المتقين ينعمون بالأمن فى (مَقَامٍ أَمِينٍ) يجلسون فى أجمل اللباس مع زوجات من الحور العين ، ويطلبون ما يشاءون من فوكه متمتعين بالأمن. ..

4 ــ ويقول جل وعلا :ـ(هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) (ص 49 : 68.  ).
4/1 : يبدا الوصف هنا عاما للجنة بأنها ( حسن المآب ) أى هى الدار التى يئوب اليها من كان فى الدنيا متقيا فيجد كل الحسن قد تجمع فيها ، بينما تركز كل السوء فى مآب الظالمين البغاة فى الجحيم.
4 / 2 :
وتأتى تفاصيل النعيم التى تتناقض مع تفاصيل الجحيم ، فالجنة مفتوحة أبوابها لأهلها بينما النار مؤصدة مغلقة على أصحابها كلما أرادوا الخروج لاحقتهم مقامع من حديد تلقى بهم فى قاع الجحيم .وأصحاب الجنة فى داخلها يجلسون على أرائك يطلبون ما يشتهون من طعام وشراب ،وحولهم أزواجهم المطهرات من الحور العين ، والرزق المعين لهم لا ينتهى ولا ينفد . هذا وعد الله جل وعلا لمن أراد الآخرة وتزكى لها ، والله جل وعلا لا يخلف الوعد والميعاد.
4 / 3 :
وتنتقل الآيات الى الطرف المقابل ، حيث تكون جهنم للطغاة شر مآب وبئس المهاد .والمآب هنا هو المرجع والمصير النهائى حيث الاستقرار الخالد الذى لا خروج منه. والمهاد هنا هو المكان الذى يلتصق بصاحبه ويلتصق به صاحبه ، وهما مقترنان لا يفترقان.
4 / 4 :
وتأتى إشارة هنا الى أنواع جديدة من طعام أهل النار ، منه ما ورد ذكره فى القرآن الكريم مرادفا للحميم مثل الغساق ، يقول جل وعلا عن الطغاة اصحاب جهنم ( لّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ) ( النبأ 24 : 25 ).ويشير رب العزة الى نوع آخر من طعامهم فبقول (وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) ، أى طعام آخر من نفس الشكل يأتى أزواجا ،وربما يكون ذلك الطعام المشار اليه هو الغسلين ، إذ يقول رب العزة عن الكافر فى الجحيم (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُونَ)(الحاقة 35: 37).
4 / 5 :
وبعد الحديث عن العذاب الجسدى يذكر رب العزة نوعا من العذاب المعنوى وهو تخاصم اهل النار و لعن بعضهم البعض ، وقد تكرر هذا فى القرآن الكريم ، ولكن هنا يتخصص اللعن ليس بين المستكبرين وأعوانهم الذين عاشوا نفس العصر ـ ولكن بين كفرة سابقين وكفرة لاحقين فى بداية تعمير جهنم بأهلها ، فكلما ألقى فى الجحيم فوج واجهه الفوج السابق باللعن ، ثم يتحدون جميعا فى لعن من أضلهم جميعا : (هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ).
ثم يتحدث أصحاب النار فيما بينهم متسائلين عن أفراد من المؤمنين فى الدنيا تعرضوا للتكفير والاتهامات الباطلة ظلما وعدونا ،أطلقها عليهم الظالمون وألصقوها بهم حتى صدقوها ، وطبقا لتلك الاتهامات والاشاعات فلا بد أن يكون مصير أولئك المسضعفين الى النار .ويفتشون عنهم فى النار فلا يجدونهم ،أى كان مصيرهم الى الجنة طالما لامكان لهم فى النار ، ولكن يأبى المستكبرون أصحاب النار الاعتراف بهذه الحقيقة فيتعللون أنه ربما زاغت أبصارهم عن رؤية أولئك الذين كانوا يحسبونهم من الأشرار داخل جهنم:( وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ) .
4 / 6 :
هذا حديث عن أحداث ستحدث فى المستقبل ،ولكن منكرها سيكون غدا من أصحاب النار ، لذا يأتى التأكيد الالهى فيقول جل وعلا :( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ). وهو تأكيد لمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن يتزكى ويتطهر.
5
ـ ونتوقف فى لمحات سريعة عن تفصيلات للعذاب:
5 /1 :
عن شراب أهل النار يقول جل وعلا : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) الكهف 29 ) اى تحيط بهم النار فاذا عطشوا شربوا ماء النار الذى يشوى وجوههم. وهذا هو الحميم الذى تتقطع منه الأمعاء :(وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ) (محمد 15)
5 / 2 :
وبالاضافة الى طعام الزقوم وغسلين وغساق هناك الصديد . إذ من هذا العذاب الأبدى الخالد يتولد داخل الجسم صديد ملتهب يتحول الى قيح متوهج ، سائل مرير آخر لا بد أن يتجرعه الكافر فى دورة عذابه المستمر ، ويكون بلاؤه من تجرع هذا الصديد شديدا ولكنه مرغم على تجرعه ،فقد انتهت بالموت حريته فى الاختيار، وضاعت عليه كل فرص التوبة والاعتذار. اقرأ فى ذلك قوله تعالى عن الكافر وما ينتظره من عذاب (وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ . يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ) (ابراهيم 16 : 17 ). كل لمحة من العذاب كفيلة بموته، ولكن لم يعد هناك موت ، بل خلود فى العذاب ، واصبح يتمنى أمنية مستحيلة أن يأتيه الموت بالراحة من العذاب .!! فقد الماضى والحاضر والمستقبل ، وأصبح لزاما عليه أن يحيا فى هذا العذاب خالدا مخلدا دون نهاية.!!
5 / 3
وبينما يتحلى أهل الجنة بلبس الحرير والفضة والذهب فان لباس أهل النار عذاب لأهل النار . يقول جل وعلا عن لباس أهل الجنة : (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا)(الكهف 31) ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ)(فاطر 33 ) (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) ( الحج 23).
وفى نفس السورة يقول جل وعلا عن لباس أهل النار ( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ)( الحج 19 ) (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ)(ابراهيم 49 : 50)
5 / 4 :
عن اعتقال أهل النار فيها بلا أمل فى الخروج يقول تعالى : ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)، وهم محاطون محاصرون محبوسون بهذا السرادق النارى ، وهم يدورون دورات عذاب مستمرة وخالدة من قعر النار الى أعلاها.
ويصف رب العزة دورة من دورات العذاب فى جهنم حيث يمكن تخيل الكافرين فيها وهم يدورون فيها من أعلى الى أسفل تحت عذاب مستمر ، وتحول لباسهم الى نار وطعامهم وشرابهم الى جمر ملتهب أو"لافا " أو " مجما " وفق تخيلنا ، ثم يخيل اليهم امكانية الهروب اذا اقتربوا من أبوابها فى دورة العذاب وحينئذ تلاحقهم ملائكة النار بمقامع من حديد فيهوون الى أسفل الجحيم ، ويعاودون الصعود فى الدورة التالية من العذاب فاذا وصلوا أبعد نقطة حاولوا الهرب فتتلقفهم الملائكة بالمقامع فتعيدهم الى قعر الجحيم ، وهكذا الى أبد الآبدين: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ) أى يستحمون بالنار فتصهر جلودهم وبطونهم (يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ) (وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ . كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) الحج 19 : 22)
فى هذا العذاب الأبدى كلما نضجت جلودهم بدلهم الله تعالى جلودا غيرها ليستمروا فى العذاب ( النساء 56 ) دون راحة أو دون موت ، يقول تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ) ويعلو صراخهم يطلبون من الله تعالى اخراجهم ويأتيهم الرد بأن الله تعالى أعطاهم الفرصة فى العمر فى حياتهم الدنيا، وفرصا متكررة لمن أراد أن يتذكر ولكنهم تحدوا الله تعالى وأنكروا رسله فأصبح عليهم ان يذوقوا ما كانوا يكذبون به : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ. فاطر 36 : 37)
ثم يتجهون الى رئيس ملائكة الموت واسمه " مالك " يطلبون منه ان يريحهم الله تعالى عليهم بالموت فيرد عليهم يذكّرهم بعنادهم فى الدنيا وتكذيبهم بآيات الله تعالى فى القرآن وسائر كتبه المنزلة : ( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ ماكثون . لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) الزخرف 74 : 78)
أخيرا : لمجرد التذكرة لأصحاب التدين السطحى والاحتراف الدينى:
1
ـ هذا العذاب المريع من نصيب من أراد الدنيا وآثرها على الآخرة . والناس نوعان ، منهم من يبريد الدنيا ومنهم من يريد الآخرة ، وكان هذا حال الصحابة انفسهم ، يقول جل وعلا يخاطبهم فى أحد المواقف:(مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ) ( آل عمران 152)..
2 ـ مريد الدنيا يرضى بها ويطمئن لها غافلا عن الهدى ، وقد وصف الله جل وعلا نفسيته فقال :(إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ) وقال عن جزائهم فى الآخرة:( أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ) أى بسبب كسبهم السىء فى الدنيا ينتظرهم عذاب الآخرة ، وقد تعرضنا لبعض تفصيلاته . ويقول تعالى عن الجانب المقابل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) ( يونس 7 : 9)..
3 ـ مريد الدنيا تضيع ثمرة اعماله الصالحة فى الآخرة لأنها لا تصلح إلا للدنيا ، لذا تأتيه المكافأة عليها فى الدنيا، وينتظره عذاب الآخرة:(مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) ( هود 15 : 16)..
4 ـ يتوقف الأمر على قرار من الانسان ، لو أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فقد زكّى نفسه ليصلح لنعيم الآخرة ، ومن غفل عن تزكية نفسه منشغلا بالدنيا فليس له فى الجنة نصيب ، وينتظره عذاب الجحيم.
5
ـ هل تستحق الدنيا لحظة نعيم فى الجنة أو لحظة عذاب فى الآخرة ؟.!

(5 )إختبار التفاضل فى الرزق إطارا لتشريع الزكاة المالية : تزكية النفس باعطاء المال

مقدمة:
قام الدين السّنى بتشوية الزكاة الاسلامية فقصرها على مجرد إعطاء المال صدقة ، بل شرع فى تلك الزكاة المالية تشريعات تخالف التشريع الاسلامى فى القرآن من حيث مقدار الزكاة وموعدها ، علاوة على الخلط بين مفاهيم الصدقة و الزكاة والانفاق . ومن أسف فإن هذا التشويه السّنى هو الشائع فى ثقافة المسلمين . ولعلاج هذا الخلل نتعرض فى سلسلة المقالات هذه لتشريع ومفهوم الزكاة فى الاسلام.
وقد سبق التركيز على ما أغفله الفقهring; السنى ، فشرحنا مفاهيم الزكاة و الصدقة والانفاق من خلال السياق القرآنى ، ومنه أيضا تعرفنا على المفهوم القرآنى المشهور (إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ) بما يعنى تزكية النفس والسمو بها ، ثم تتبعنا فى مقالات تالية معنى تزكية النفس أو زكاة النفس من خلال النسق القرآنى للتأكيد على أن تزكية النفس هى مدار التشريع الاسلامى و العقيدة الاسلامية ، وليس كما يرى فقهاء الدين السّنى مجرد إعطاء للمال.ونبدأ هنا الجانب الآخر بالتوقف مع تزكية النفس باعطاء المال لتوضيح الاختلاف بين تشريعات الزكاة المالية فى الاسلام وتشريعات الفقهاء فى الدين السنى.وقبلها نتوقف فى هذا المقال مع إطار هذا التشريع وحكمته حيث شاءت إرادة المولى جل وعلا فى إختبار البشر أن يجعلهم متفاضلين فى الرزق ، ليكون أختبار الغنى فى ماله وثرائه ويكون اختبار الفقير فى فقره وصبره.
ونعطى التفاصيل:
أولا :ـ إقترانالتحكم الالهى فى الرزق بالتحكم فى الكون و الخلق:
1
ـ الله جل وعلا هو وحده فاطر السماوات والأرض ، أى الذى خلقهما من لا شىء . وأيضا هو وحده الذى يملك التحكم فيما خلق وفيمن خلق ، وقد شاء أن يجعل الموارد الاقتصادية فى الأرض ملكية عامة متاحة للبشر جميعا معروضة عليهم على أساس المساواة ، وسمى تلك الموارد ( أقواتا) وجعلها سواء ، أى حقا لكل من يسعى اليه، يقول جل وعلا عن الأرض :( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ)( فصلت 10).
ومع كون الموارد الأرضية حقا بالتساوى لكل البشر إلا أنها تستلزم عملا وسعيا وجهدا فى الزراعة والصناعة والاستغلال والاستخراج ، ولم يخلق الله جل وعلا البشر متساوين فى الحيوية والنشاط او الرغبة فى السعى أو فى الذكاء والمعرفة أوالصحة والمرض والامكانات البشرية ، وبسبب هذه الفروق الفردية فليس كل البشر من الساعين للعمل أوالقادرين على الابتكار. ومن هنا تتجلى أحد سببى التفاضل فى الرزق ، وهو السبب المعروف لنا.
2
ـ ولكن قد تمتع بكل مؤهلات الحصول على الرزق ولكن لا تحصل عليه لأسباب تخرج عن علمك وارادتك . هب إنك ذهبت للصيد فى البحر مسلحا بكل الامكانات عالما بأن البحر غني بالرزق ، ولكن لا يمكن أن تضمن الرزق ، بل قد لا تضمن أن ترجع حيا . وهنا السبب الآخر الذى يرجع الى الحتميات الأربع التى تسرى على الانسان فيما يعرف بالقضاء والقدر ، وتلك الحتميات تتعلق بالميلاد والوفاة و المصائب والرزق.
فالرزق فى كميته ووقته يقع ضمن الحتميات التى يتصرف الله جل وعلا فيها وحده، فهو جل وعلا الذى خلقنا متفاوتين فى الرزق (الظاهر) يقول جل وعلا:(وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ )(النحل 71) .
3
ـ هذا يفسر لنا الارتباط بين كونه جل وعلا هو وحده فاطر السماوات والأرض وأنه وحده الذى يبسط الرزق لمن يشاء و يمسك اى يقلل الرزق على من يشاء ، ونحن هنا نتحدث عن الرزق الظاهر من اموال سائلة وأرصدة بنكية و ممتلكات عينية ، يقول جل وعلا :(فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الشورى11 : 12 ) . بالتدبر هنا نرى أنه من صفات الله جل وعلا التى لا يوصف بها غيره : أنه فاطر السماوات والأرض ، وأنه خالق الزوجين الذكر والأنثى ، وأنه ليس كمثله شىء ، وانه السميع البصير الذى لا مثيل له فى السمع والبصر ، وأنه وحده المالك والمتحكم فى مقاليد السماوات والأرض ، وبالتالى فهو جل وعلا وحده الذى يبسط الرزق لمن يشاء ويقلله لمن يشاء طبقا لعلمه الذى وسع كل شىء.
4 -
ومن هنا جات الحجة على مشركى قريش وغيرهم الذين يؤمنون بأن الله جل وعلا هو خالق السماوات والأرض والذى سخّر الشمس والقمر ، ـ لاحظ أن من أشعة الشمس تأتى معظم موارد الأرض أو الرزق ـ وأنه المتحكم فى الرزق والذى يبسط الرزق لمن يشاء فيكون ثريا ـ ويقلله لمن يشاء فيكون فقيرا. فإذا كانوا يؤمنون بهذا فلماذا يتخذون معه أولياء و آلهة أخرى مخلوقة ؟ نقرأ هنا قوله جل وعلا :( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (العنكبوت 60 : 62)
ثانيا ـ فرض الزكاة المالية علاجا للتفاضل فى الرزق
1 ـ وهذا التفاضل فى الرزق جاء علاجه فى نفس الآية، يقول جل وعلا : (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)( النحل 71).
2
ـ فأعظم دليل على التفاضل بين البشر فى الرزق أن يتملك فرد من البشر أخا له فى الانسانية فيما يعرف بالاسترقاق ، ولا يمكن عمليا القضاء التام على الظاهرة لأنها تعبير عن الظلم والعدوان فى طبيعة الانسان وفى حركته على هذا الكوكب ،ولذلك فانه بعد تحريمها عالميا فى شكلها الفج فهى تتلون وتتخفى تحت مسميات شتى فى استعباد الأفراد ، مثل الاستغلال الهائل للعمال والفلاحين والسخرة ونظام الكفيل والدعارة أوالرقيق الأبيض واستغلال العمالة الأجنبية وتهريبها واسترقاقها عرفا وسرا فى أكبر مدن العالم. بل قد تتحول الى استرقاق شعب وشعوب تحت مسمى الاستعمار، او قيام نظم حكم مستبدة بشعارات دينية أوعنصرية أو وطنية أو حزبية ومن خلالها يسترق الحاكم الفرد شعبا بأكمله. وهذا موجز تاريخ العالم.
3
ـ ولأن الاسترقاق هو أبعد مدى يصل اليه التفاضل فى الرزق لذا يجعل الله جل وعلا علاجا مناسبا لهذا التطرف أوالاسترقاق ضمن وسائل الاسلام العملية فى علاج ظاهرة الرق ، ليس فقط من خلال نظامه الاقتصادى فى التعامل مع الثروة على اساس العدل الاجتماعى وكفالة الفقراء ومنع تركز المال فى يد فئة قليلة ، وليس فقط من خلال نظامه السياسى القائم على الحرية والديمقراطية المباشرة ، وليس فقط من خلال التمسك بالقيم العليا من التقوى و العدل والحرية والاحسان وتجريم ومنع كل اشكال الظلم والبغى ، ولكن أيضا من خلال تفصيلات تشريعية خاصة بموضوع الرق نفسه ؛ فلا يجوز فى الاسلام استرقاق من الأصل، أى منع من المنبع ، وبالتالى فليس هناك مورد أو مصدر للرقيق داخل الدولة الاسلامية الحقيقية التى تطبق شرع الله جل وعلا إلا من خلال الشراء من الخارج لمن سبق استرقاقه بغير المسلمين، وهذا ما كان سائدا وقت نزول القرآن.
4
ـ تبقى مشكلة تحرير الرقيق المشترى ، فأوجب الله جل وعلا تحريره من خلال بنود كثيرة مذكورة فى الكفارات والفدية، مع جعل تحرير الرقيق وعتقه من أبرز أنواع البر والصدقات . فإن لم يقم المالك بتحريره فعليه أن يتعامل معه على اساس التساوى فى الرزق ، أى يعطى الرقيق نفس المخصصات التى يتمتع بها المالك ، وإلا كان ذلك المالك جاحدا لنعمة الله جل وعلا حين فضّله فى الرزق الى درجة استطاع بها شراء أخ له فى الانسانية.
5
ـ وهذا هو معنى قوله جل وعلا : (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)(النحل 71). وبالتالى يكون جاحدا لنعمة ربه من يبخل ولا يعطى الزكاة العادية مالا للفقراء والمحتاجين وفق شرع الرحمن جل وعلا . وجحود النعمة يتساوى مع الكفر.
ثالثا : ـ أسلوب الترغيب والترهيب فى الحث على الصدقة والتحذير من البخل
ولأن التفاضل فى الرزق بيد الرحمن جل وعلا ، ولأن البشر قد خلقهم ربهم أحرارا فى الطاعة أو المعصية فى التصدق أو البخل ، ولأن شرع الله جل وعلا مرتهن فى تطبيقه أو عدم تطبيقه بارادة البشر فإن الله جل وعلا يستخدم اسلوب الترغيب والترهيب فى حث البشر والمؤمنين بالذات على تقديم الزكاة المالية أو الصدقة ابتغاء وجه الله جل وعلا وحده.
وهنا نلاحظ الآتى :ـ
التفاضل فى الرزق قرين الإخلاف الالهى للمتصدق
*يقول جل وعلا :(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( سبأ 39 ) ، فبعد إقرار حقيقة التفاضل فى الرزق يأتى الحث للأغنياء على الصدقة والزكاة المالية بوعد بأن الله جل وعلا سيخلف لهم مالا وثوابا مقابل ما دفعوه.
*
ويقول جل وعلا :(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ) ( سبأ 36 : 37 )،أى إن للتفاضل فى الرزق حسابات لا يعلمها البشر ،أى لا يعلمون لماذا جعل الله جل وعلا فلانا فقيرا وجعل أخاه فلانا ثريا ، ولماذا كان هذا أميرا وكان ذاك أجيرا. وفى النهاية فليس الغنى والجاه رخصة للبشر كى يحوزوا مكانة عالية عند الله جل وعلا ، أى ليس رب العزة منحازا للأغنياء كما ينحاز أرباب الأديان الأرضية لأصحاب الثروة و السلطة ، رحمة الله جل وعلا ستكون قريبة من المحسنين المقربين الأبرار يوم القيامة من الفقراء الصابرين والأغنياء المتصدقين . وهنا يشير رب العزة الى أن جزاء المتصدق سيكون الضعف بالاضافة الى الجنة والأمن من عذاب يوم القيامة.
*
ويقول جل وعلا :(مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (البقرة 245 ) أى فلأنه جل وعلا ليس منحازا للفقراء ضد الأغنياء أو للأغنياء ضد الفقراء ، ولأن أوامره ونواهيه هى للجميع على قدم المساواة ، ولأن الذى يختار التقوى و الطاعة منحازا لرب العزة هو فقط الذى يرضى عنه ربه ، من أجل ذلك يأتى هذا الخطاب الالهى للبشر جميعا بصيغة مؤثرة تدعو صاحب المال لأن يقرض الله جل وعلا ـ بتقديمه الصدقة للفقراء ـ وبعد هذا الأسلوب شديد التأثير يأتى الوعد بأن يخلف الله جل وعلا عليه أضعاف هذا المال فى الدنيا حيث أن التفاضل فى الرزق بيد الله جل وعلا ، ونفهم هنا أن من حسابات التفاضل فى الرزق فى الدنيا هو تقديم الصدقة ، فمن يتصدق يبسط الله جل وعلا فى الرزق فى هذه الدنيا قبل الآخرة.
ومن حيث البلاغة والفصاحة يتنوع أسلوب الترغيب فى جزاء الصدقة
* مثل ضرب الأمثلة واستعمال اسلوب التشبيه شديد الدلالة كقوله جل وعلا :( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة 195 ). التشبيه هنا واضح وشديد الاغراء.
*
ومنها الاسلوب التقريرى بالأمر المباشر مصحوبا بالاغراء باخلاف المال فى الدنيا: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ) ( الأنفال 60 ) أو يأتى الأمر مصحوبا بالاغراء بالغفران فى الآخرة :( وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (النور 22)
*
أو يتحول الأمر الى صيغة الجملة الاسمية التى تفيد الثبوت والدوام:( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( البقرة 261 : 274).
2
ـ وهذا الترغيب فى تقديم الصدقة يتوازى معه ترهيب من منع الصدقة و البخل.
ولهذا الترهيب أنواع وأقسام على النحو الآتى:
*
ـ العقاب الالهى الفردى فى الدنيا
كما حدث لقارون الذى بسط الله جل وعلا له فى الرزق فطغى وبغى وجحد فعوقب على رءوس الأشهاد بالخسف فى الأرض :(فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)(القصص 81 : 82)
*
ـ العقاب الجماعى فى الدنيا
ويأتى التحذير للمؤمنين الصحابة فى عصر النبوة حين رفض بعضهم الانفاق فى سبيل الله ، وجاء الوعيد لهم بأن يحيق بهم عاقبة بخلهم ، يقول جل وعلا لهم ولنا وللبشر جميعا : (هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ) ( محمد 38).. وتحقق هذا الوعيد بعد وفاة خاتم المرسلين . نعرف ما قاموا به من فتوحات تخالف شرع الله جل وعلا ، وما صحب هذه الفتوحات من سلب ونهب وسبى واسترقاق ، وتكدست الثروة المسلوبة المنهوبة فى أيدى كبار الصحابة ، مما أدى للنزاع على الثروة وتحول النزاع الى حرب أهلية أو ما يعرف بالفتنة الكبرى ، وأسفرت عن قتل عشرات الألوف منهم، ولا نزال نعيش فى هذه الفتنة حتى الآن ، فلا زلنا نعيش مسبباتها من تكدس الأموال بالظلم والقهر فى أيدى فئة قليلة، واستخدام اسم الله جل وعلا فى أكل اموال الناس بالباطل وتبرير السلب والنهب والقتل بزعم الجهاد . وهنا يأتى العقاب للجميع ، يعمّ الظالم والمؤيد للظلم والساكت عن الظلم . وقد حذّر رب العزة من تلك المحنة فقال : (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(الأنفال 25).
وليس هذا العقاب فى الدنيا فقط ، بل فى الآخرة أيضا.!
العقاب فى الآخرة
يأتى أسلوب الترهيب فى تحذير للمؤمنين من عذاب الآخرة لو بخلوا . يقول جل وعلا : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (الحشر 9 ) . فقد كان من الأنصار من وصل به العطاء والكرم الى درجة الايثار على النفس مع معاناة الفقر. وأولئك قد نجوا من مرض يسميه رب العزة ( شح النفس). والمفلحون فى الآخرة هم الذين نجو فى الدنيا من هذا المرض : (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
ويتكرر هذا المصطلح ضمن أوامر بالتقوى والطاعة والانفاق فى سبيل الله جل وعلا علاجا من شح النفس ووقاية منه، يقول جل وعلا : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ )(التغابن 16).
ومن يأتى نصح المؤمنين بالتصدق فى هذه الحياة قبل أن يأتى الموت ويتمنى المؤمن لحظة الاحتضار لو كانت لديه فسحة من الوقت ليتصدق وليكون من المحسنين ، وهى أمنية فات موعد تحقيقها ، لذا يأتى مقدما الوعظ والتحذير :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( البقرة 254).
ويأتى تحذير آخر للمؤمنين باقامة الصلاة والتصدق فى هذه الدنيا سرا وعلانية قبل أن تأتى الآخرة ( قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلالٌ )(ابراهيم 31)، فالآخرة ليست دار العمل الصالح بل دار الثواب والعقاب والجنة والنار لمن أحسن أو عصى، ولمن تصدق أو بخل.
ويقولها رب العزة بكل حسم أن المؤمنين لن ينالوا درجة الأبرار يوم القيامة إلا بعد أن ينفقوا أحب ما لديهم فى سبيل الله :(لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )( آل عمران 92 )، فهناك من يتصدق بالفائض عنده ، أو بالزبالة ، لا يدرك أن الله جل وعلا عليم بما ينفق ، وهذا لن ينال البرّ حتى ينفق لوجه الله جل وعلا أثمن وأفضل مما عنده.
ونظير ذلك أن تطعم الفقراء فى سبيل الله جل وعلا أحب أنواع الطعام وأحب ما تشتهيه ، وهذا هو ما يفعله الأبرار فى الدنيا : ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) (الانسان 7 : 11)
رابعا : عناصر الاختبار فى موضوع التفاضل فى الرزق والزكاة ـ:
1
ـ عدم وجود عقوبة على من يمنع الزكاة المالية فى تشريع الاسلام:
(
قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ) ( التوبة 53 : 54 )، فالزكاة المالية فرض واجب ، ولكن من يمتنع عن تأديتها لا عقوبة عليه من الحاكم ، فيكفيه أن الذى يتولى عقوبته هو الله جل وعلا الذى يبسط الرزق ويقدره ، والذى يعزّ منن يشاء ويذلّ من يشاء . وهذه حقائق تاريخية وانسانية موجودة فى كل مجتمع.
2
ـ لاوجود للنصاب ، بل عليك أن تنفق من أى رزق يأتى اليك مهما بلغت ضآلته، فهذه من ضمن صفات المتقين :(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)(البقرة/ 3 : 4)

3 ـ معنى المحسن : وهكذا فالفقير عليه أن يتصدق بما يستطيع ، وأن يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة أو حاجة ، وهذا هو منتهى الكرم ونبل الأخلاق فى الاسلام . فإذا لم يجد الفقير ما ينفق منه فعليه أن يتمنى ذلك مخلصا فى قلبه ، أى يتمنى أن يعطيه الله جل وعلا مالا لكى ينفق منه ويتصدق. وهنايكون عند الله جل وعلا محسنا بمجرد النية الصادقة.
نفهم هذا من قوله جل وعلا عن بعض الصحابة الأبرار الفقراء الذين كانوا يبكون لعجزهم عن التبرع فقال الله جل وعلا عنهم يرفع عنهم الحرج : (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ) ، أى جعلهم محسنين مع أنهم لا يجدون ما يتبرعون به ، والسياق القرآنى هنا يقول :(لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ)( التوبة 91 ـ).
4
ـ وفى المقابل يكون الجزاء عنيفا مع االذى يعاهد الله جل وعلا وينذر إن أغناه الله جل وعلا أن يتبرع ويتصدق ، فلما أغناه الله وأوسع عليه فى الرزق حنث بعهده. هذا ما حدث من احد الصحابة ونزل فيه قوله جل وعلا يحكم عليه بسوء المصير يوم القيامة : (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( التوبة 75 : 78)
5
ـ ونظير ذلك تلك العقوبة الهائلة لمن يسخر من المتصدقين المخلصين ، وهذا ما حدث من بعض المنافقين فى عهد خاتم المرسلين ، وقد استغفر النبى لهم فلم يقبل الله جل وعلا استغفاره لهم :(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)( التوبة 79 : 80).
أخيرا
1 ـ تلك بعض مظاهر الاطار التشريعى لتفصيلات وأحكام الزكاة المالية فى الاسلام . يتضح فيها أن زمام الأمور فيها بيد الله جل وعلا ، فهو الذى جعل البشر متفاضلين فى الرزق وهو الذى شرع تأدية الزكاة المالية واجبا وفرضا لعلاج هذا التفاوت فى الرزق ، وهو الذى خلق البشر احرارا فى الطاعة أو المعصية، وهو الذى يستخدم معهم اسلوب الترغيب والترهيب، وأخيرا هو الذى يتولى عقابهم ومكافأتهم فى الدنيا والآخرة.
2
ـ ولأن للزكاة المالية وصفا أخلاقيا هو ( الكرم ) فإن لها إطارا أخلاقيا آخر يربط بين التشريع الاسلامى فى الزكاة وبين الجانب الخلقى فى الاسلام .

 

 6 )   الاطار الأخلاقى لتشريعات الزكاة المالية فى الاسلام : تزكية النفس باعطاء المال

مقدمة:
1
ـ سئل فقيه : هل يمكن أن أباشر زوجتى جنسيا فى نهار رمضان ؟ فأجاب الفقيه : نعم . سافر بها . فلو سافرت بها جاز لك الافطار وجاز لك مباشرتها جنسيا.وسئل فقيه آخر : أريد أن أتزوج بلا مهر ، فقال الفقيه : يمكن ذلك بزواج ( الشغار ) أى أن تزوج ابنتك أو أختك لفلان على أن يزوجك هو ابنته أو أخته ، و يتنازل كل منكما عن الصداق للآخر.وسئل فقيه آخر : لا أريد أن أدفع زكاة مالى ، فهل عندك من حيلة ؟ فقال الفقيه : نعم . تعطى زكاة مالك الى من تثق فيه على ان يعطيك هو زكاة ماله بنفس القدر.
هذه بعض الفتاوى المشهورة فيما يعرف بفقه الحيل.( فقه الحيل ) من أشهر ملامح الشريعة السّنية ، بدأ به المذهب الحنفى ثم اتسع ميدانه لكل من يريد التلاعب بشرع الله جل وعلا .
2 ـ هناك تياران متعارضان فى الفقه السنى : أحدهما تيار (عقلى ) ولكن لا يستخدم العقل والفكر فى استنباط احكام القرآن وفى تطبيقها ، بل فى التحايل عليها ، كما سبق فى الأمثلة السابقة . ثم هناك الاتجاه المحافظ الرافض للعقل والمعتمد على تزوير الأحاديث والاكتفاء بها فى سنّ أحكام الشريعة السنية.والتياران معا يتناقضان مع المنهج الاسلامى فى التشريع ، حيث يكون القرآن هو المصدر الوحيد للشرع الاسلامى ، وحيث يكون استباط الأحكام الشرعية من القرآن مرتبطا بالتقوى وليس بالتحايل والتلاعب بشرع الله جل وعلا.والأحكام التشريعية فى القرآن دائما ترتبط بالتقوى ، وهى خلاصة الأخلاق العالية ونقاء الضمير بحيث يحاسب الفرد نفسه ويتحسب للوقوع فى الخطأ ، فإذا وقع فيه بادر بالتوبة وتصحيح الايمان والعمل ، وتنقية صفحته قلبيا وعمليا من الرذائل.
3 ـ وكل العبادات فى الاسلام وسائل للتقوى ، أو حسن الخلق والتمسك بالقيم العليا ، ولكن الفقه السنى أهمل عنصر التقوى فى العبادات ، فقام بالتركيز على الأداء الشكلى والمظهر السطحى فتتحول العبادات الى وسائل للرياء و العصيان والفساد الخلقى.
4
ـ وقد أوضحنا اهمال الدين السنى لمفهوم الزكاة والتزكية واقامة الصلاة وايتاء الزكاة ودور الزكاة المالية عموما فى تزكية النفس بالتقوى وكون التفاضل فى الرزق اختبارا للبشر فى تأدية الزكاة المالية .والآن نتوقف مع الاطار الأخلاقى الخاص بموضوع الزكاة المالية أو آداب تقديم الصدقة ـ قبل واثناء وبعد تقديمها ـ حتى يقبلها رب العزة جل وعلا.
أولا : آداب الصدقة قبل تقديمها:
(
أ ) معرفة أن الصدقة ضمن الحقوق المالية المفروضة على المؤمن:
1
ـ ذكر رب العزة جل وعلا بعض الحقوق المالية على المؤمن ، ومنها : كتابة الوصية للوالدين والأقربين بالعدل و المعروف حقا واجبا مفروضا على المتقين وهم يودعون الحياة :(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) ( البقرة 180 )، و حق المطلقة قبل الدخول فى متعة مالية بالمعروف و العدل :(لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ) ( البقرة 236 ). و حق المطلقات بعد الدخول فى المتعة المالية بالمعروف و العدل (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) ( البقرة 241).
2
ـ وجاء التركيز على كون الصدقة حقا للمستحقين أو ( حق الصدقة). :
فالصدقة من الحقوق المالية على المؤمن ، ويجب عليه وهو يؤديها أن يعلم أنه يؤدى حقا مفروضا عليه ، وأن الفقير او المحتاج هو (صاحب حق ) والمتصدق يؤدى له ( حقّه ) ، فليس للمتصدق منّة أو فضل أو جميل على (المتصدق عليه ) ، وبالتالى فعلي المتصدق المقدم للزكاة أن يؤديها ابتغاء مرضاة الله جل وعلا ، ليس تملقا أو رياءا أو تفاخرا أو بالمنّ والأذى.
وقد أشار رب العزة الى بعض أوجه (حق الصدقة ) بنفس تعبير ( الحق ) أى المستحق شرعا ، ومنها:
2/ 1 :
الصدقة من الزروع و المنتجات الزراعية ، ويكون إخراجها بمجرد وقت الحصاد ، يقول جل وعلا : (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ )(الأنعام 141)
2 / 2 :
عموم الصدقة على كل أنواع الدخل ، يقول جل وعلا :(وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ) ( الاسراء 26 )(فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )( الروم 38 ) (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) ( الذاريات 19 )(وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) ( المعارج 24 : 25)..
3 ـ وواضح وصف الصدقة ـ أو (الزكاة المالية ) بأنها (حق ) أى واجب الأداء.
وتفسير ذلك هو أن الله جل وعلا هو الرزاق ، وهو صاحب المال فى الأصل ، فأنت حين تنفق فأنت لا تنفق من مالك ولكن من مال الله الذى أعطاه لك (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) ( النور 33 ) أى إنك مستخلف فى المال الذى أعطاه الله تعالى لك ، وهو الذى استخلفك على هذا المال ، وهو الذى أمرك بالانفاق منه (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ) (الحديد 7).
(ب ) : تقديم الصدقة من المال الحلال وليس الحرام
1ـ ولأن الصدقة هى ( صدق ) فى التعامل مع رب العزة الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ، وهو الذى يعلم مصدر حصولك على الأموال ، وما جاء منها بطريق حلال وما جاء منها غصبا وحراما ، فليس من المنطق أن تتقرب لله جل وعلا بالتصدق بمال تعرف أنه حرام . هذا ليس خداعا لرب العزة بل خداع للنفس.والله جل وعلا لا يقبل الصدقة الآتية من مال خبيث ، بل يفرض أن تاتى الصدقة من مال طيب حلال من كسب اليد ومما تخرج الأرض ، يقول جل وعلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) ( البقرة 267)..
2 ـ هنا تبدو احدى ملامح التناقض الأخلاقية بين الاسلام والدين السنى فى موضوع آداب الصدقة .
الاسلام يوجب مجىء المال من حلال بعيدا عن اى شبهة فساد أو ظلم ، ولكن فى الدين السّنى تجد النقيض ؛بالتشجيع على كسب المال الحرام ، ثم التصدق ببعضه لتطهيره وتطهير صاحبه.وتلعب الأحاديث الشيطانية دورا هاما فى الترويج لهذا الافك ، فمن يحج يرجع كيوم ولدته أمه نقيا من الذنوب ، وليس مهما إن يعصى طول العام ثم يحج بضعة أيام ينفض فيها عن جسده أوزار كل العام ، وليس مهما مصدر المال الذى يحج به، ومن يبنى مسجدا ولو كمفحص قطاة يبنى الله له قصرا فى الجنة ، وليس مهما إن كان البانى للمسجد مصليا أم لا ، وليس مهما مصدر المال الذى يبنى به.ومعظم المبانى الدينية للمسلمين من مساجد وزوايا وخوانق وأسبلة ورباطات ومقامات تم بناؤها فى تاريخ المسلمين بالسخرة ومصادرة الأموال ومن الكسب الحرام لأمراء وملوك فجرة مستبدين مفسدين أرادوا التكفير عن مظالمهم ببعض ما اكتسبوه من المال السحت ، وهذا ما لا يقبله الله جل وعلا .
ج ): معرفة أن الله جل وعلا يعلم سريرتك وما تقدمه من صدقة او نذر
1 ـ ومن هنا يتردد ويتكرر فى موضوع الحث على الصدقة تذكير المؤمن بأن الله جل وعلا يعلم سريرته ومصدر ماله ، سواء تصدق من هذا المال أو قدمه نذرا لله جل وعلا :( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) ( البقرة 270) . هذا من ناحية مصدر المال.

2 ـ ومن حيث المستحقين للصدقة فقد يرى المتصدق ان بعض مستحقى الصدقة على غير دين أو خلق فيجعل ذلك مبررا لحرمانهم من حقهم ، وهذا خطأ جاء التحذير منه لخاتم المرسلين مؤكدا أنه ليس مسئولا عن هداية أحد لأن الهداية ارادة شخصية لكل انسان ، ومسئولية شخصية على كل فرد ، وهى علاقة مباشرة بينه وبين ربه لا شأن لمخلوق آخر بالتدخل فيها حتى لو كان خاتم النبيين ، فمن يشاء من البشر الهداية يهده الله جل وعلا ، وكونه مهتديا أو ضالا لا علاقة له باستحقاقه للزكاة المالية أو الصدقة.
المؤمن منهى عن تدخل عواطفه الشخصية والدينية فيمن يستحقون صدقته لأنه يقدمها ابتغاء مرضاة الله وليس تبعا لهواه وعواطفه ، ولو التزم الاخلاص فى إعطاء الصدقة لمستحقيها على أساس الاحتياج الفعلى للصدقة فإن الله جل وعلا سيوفيه خيرا فى الدنيا والآخرة :( لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ )( البقرة 272) .
3 ـ والحكم باستحقاق فلان للصدقة يقوم على حسب الظواهر ، وهناك من يدعى الفقر ، وهناك من يحترف السؤال والتسول ، ولهم حق طالما سألوا الناس ، فللسائل حق وكذلك للمحروم.
ولكن لا ينبغى أن يصرف إلحاح محترفى التسول النظر عن بعض مستحقى الصدقة الحقيقيين ، ومنهم من نسميهم بالمستورين ، أى أناس محترمون يعانون الفقر سرا ولكن يسترون حالهم بالصبر الجميل والتعفف . وأولئك يكثر عددهم فى عصور الفساد حين تتكون الطبقات المترفة التى تكتنز الثروة وتحتكرها.
وحين يفتح الفساد أبوابه لكل باغ وعاد من كل الطبقات فإن الشرفاء الرافضين للفساد ينتقلون تدريجيا للفقر ، ويهبطون من الطبقة العليا للوسطى ثم للطبقة الدنيا . ومنهم من يقف ضد الفساد يقول كلمة حق فى وجه الظالمين فيتعرض للاضطهاد ، وقد يلجأ للهجرة تاركا بيته وأهله فتنقطع به السّبل ويعيش محاصرا فى الأرض.هذا الصنف الكريم الشريف من المؤمنين الأطهار الفقراء المستورين هم الأحق بالصدقة ، والأحق بالعثور عليهم لمعاونتهم ، وما أروع قوله جل وعلا فيهم :(لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )(البقرة 273) .
ثانيا : الآداب عند تقديم الصدقة:
1
ـ بهذه الآداب والأخلاقيات قبل إعطاء الصدقة فإن المتصدق المؤمن المخلص لا يتقيد بوقت معين فى إعطاء الصدقة ، فحيثما يرزقه الله جل وعلا بمال ـ أى مال قليلا أو كثيرا ـ فإنه يسارع باخراج حق الله من هذا المال ، ليلا أو نهارا ، سرا أو علانية ، لأن قلبه قد أخلص لله جل وعلا حنيفا ، ولا يهمه ما يقال عنه من مدح أو قدح ، المهم أن يرضى ربه جل وعلا: ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( البقرة : 274).
2 ـ ومن يصل لهذه الدرجة لا يخاف عليه من الرياء والنفاق طالما أخلص لله جل وعلا قلبه ووجهه ، لذا يستوى فى حقه أن أعلن صدقته ليقتدى به غيره وليشجع غيره ،أو أخفاها حرصا على مشاعر المتصدق عليه ، فهذا المتصدق النقى القلب يحاول بكل ما فى قلبه من نية حسنة أن يرضى ربه بكل حال : ( إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ )( البقرة 271).
ثالثا : الآداب بعد ايتاء الصدقة : التحذير من المنّ على المتصدق عليه واعتبار المنّ أذى:
 1ـ أفظع ذنب يبطل عمل الصدقة ويستجلب حقد المتصدق عليه أن تمنّ عليه وتعيّره بما أعطيته له من صدقة . لا يفعل هذا مؤمن مخلص على الاطلاق لأنه يعرف أنه لا يعطى من ماله بل من مال الله جل وعلا الذى استخلفه فيه ، ولأنه يؤمن أن للفقير و المحتاج حقا فهو يعطيه حقه الشرعى المفروض من رب العزة ، وهو ينتظر مقابل ذلك ثواب ربه جل وعلا فى الدنيا وفى الآخرة ، وبالتالى فلا مكان إطلاقا لأن يمنّ على مستحق أخذ حقه ، بل يعلن له مقدما أنه لا يريد منه جزاءا ولا حتى مجرد كلمة شكر : (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ) ( الانسان 9 : 10).
الذى يمنّ على المتصدق عليه ويعيّره يعيش بثقافة قارون الذى زعم أنه صاحب المال وأنه حصل عليه بعلمه ، وعليه فلو أعطى من هذا المال فقيرا فإنه يرى من حقه استعباد الفقير بهذا المال ، وينتظر من الفقير أن يخضع له شكرا وعرفانا ،فإن لم يفعل سلقه بالمنّ والأذى. ولأهمية هذا من الناحيةالأخلاقية و النفسية فلقد عرض لها رب العزة بالتشريع والترغيب والترهيب مصطنعا أروع اسلوب مؤثر من الناحية البلاغية : ( البقرة : 262 : 266). 
2 ـ فى البداية يقول جل وعلا :( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) .
هنا أسلوب علمى تقريرى محدد ينقسم الى ثلاث فقرات فى حديث عن المتصدقين . الفقرة الأولى عنهم قبل وبعد إنفاق أموالهم فى سبيل الله ، وقد قاموا بالمطلوب قبل وأثناء تقديم الصدقة ، والمطلوب هنا أنهم قدموها مخلصين عقيدتهم لله جل وعلا بلا رياء أو تظاهر. الفقرة الثانية تتحدث عنهم بعد إنفاقهم فى سبيل الله فتصفهم بأنهم بعدها لم يتبعوا الصدقة بالمنّ والأذى . وبالتالى فقد نجحوا فى مرحلتى ما قبل وما بعد إعطاء الصدقة ، ويترتب على النجاح هنا أن ينالوا الجزاء ، وهو أن يكونوا من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
أهمية الاسلوب العلمى هنا أنه جاء بالجملة الاسمية ( الذين ينفقون ..)( لا خوف عليه ).والجملة الاسمية تفيد الثبوت والدوام . وحين تستعمل فى معرض التشريع بمعنى الأوامر والنواهى تكون أكثر دلالة وأكثر حثا وأبلغ تحريضا ، كقوله جل وعلا فى الحث على تأدية فريضة الحج (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)(آل عمران 97) .
من هنا نفهم مغزى استعمال الجملة الاسمية فى التحذير من المنّ فى قوله جل وعلا :( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) .
ونتوقف مع العطف بالواو فى التفسير القرآنى للمنّ ، إذ جاء يعطف (الأذى) بالواو على (المنّ) ليجعل المنّ أذى ، ثم تأتى الآية التالية لتكتفى بكلمة (أذى ) فقط لتؤكد على أن المنّ أذى ، يقول جل وعلا (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى). والمفارقة واضحة هنا ؛ إنك تعطى شخصا مالا بيدك وتؤذيه بلسانك فيضيع ثواب فعلك عند الله جل وعلا و تخسر شكرانه ولا تجنى سوى نقمته . أى خسرت مرتين عندما اعطيته المال وعندما جنيت الكراهية . ومن هنا يكون المنّ ليس أذى للفقير فقط ولكن للمتصدق ايضا.
3
ـ واستعمل رب العزة نفس الاسلوب التقريرى العلمى الموجز وبالجملة الاسمية فى الآية التالية : ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) .المعنى ببساطة ان الاعتذار عن دفع الصدقة بلطف أفضل من ان تعطى صدقة ثم تتبعها بالمنّ والأذى . ويضاف اليها أن الله جل وعلا غنى عن العالمين وغفور رحيم حليم بهم.ومع الايجاز هنا فقد جاءت الآية الكريمة بمعنى جديد مترتب على الآية السابقة ومؤكد له.
4
ـ وبعد استعمال الجملة الاسمية والاسلوب التقريرى الموجز تأتى التفاصيل تشرح وتوضح.
4 / 1 :
وبدأ الشرح بالنهى بأبلغ عبارة وأوجزها . فلم يقل جل وعلا يا ايها الذين آمنوا لا تؤذوا من تعطيهم الصدقة بالمنّ حتى لا تبطلوا ثمرة صدقاتكم وثوابها ، ولكن جاء النهى بايجاز عن إبطال الصدقة بالمنّ والأذى ، فقال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى) .
4 / 2 :
وبعد النهى البليغ الموجز جاءت تفصيلات الشرح باسلوب أدبى يستعمل التشبيه فى أروع صوره ، يقول جل وعلا : (كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )، فالمرائى الكافر بالله واليوم الآخر هو فقط الذى يقع فى المنّ والأذى ، وجاء تشبيهه بتراب فوق حجر هطل عليه مطر فأزاح التراب وكشف عن حجر صلد لا يصلح لزرع ولا نماء . والمعنى ان قلب المنافق المرائى كالصخر لا يجدى معه زرع ولا تبقى عليه تربة ولا ينفع فيه مطر ، فلو أنفق فلا خير فى نفقته لأن فى قلبه مرضا يجعل لسانه ينطق بالمنّ والأذى فيضيع ثمرة الانفاق.
4 / 3 :
وتأتى الآية التالية باسلوب تشبيه لانفاق المؤمن الذى يبتغى وجه الله جل وعلا : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ). التشبيه هنا بحديقة فى ربوة مرتفعة ، وهى ذات تربة غنية خصبة ، فلو جاءها مطر غزير أنتجت ضعفين وإن جاءها مطر قليل فهو يكفيها . فهنا الثواب مضمون والثمرة مضمونة وبلا اى خسارة.
4 / 4 :
ثم تأتى الآية التالية بأروع صور التشبيه ، وهى التشبيه التمثيلى الذى يحكى قصة شديدة الايحاء وشديدة الايجاز ، يقول جل وعلا : ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) ( البقرة 262 : 266).

تخيل أنك شيخ طاعن فى السن يقترب منك الموت وتقترب من الموت ، وانت وحدك مسئول عن حديقة فيحاء من نخيل وأعناب ، وقد أفنيت عمرك فى استزراعها واستنباتها ورعايتها حتى علت أشجارها وآتت ثمارها ، وفى غمرة انشغالك بها نسيت أن تتزوج فى شبابك ، ثم تزوجت متأخرا ، وأنجبت فى ارذل العمر أطفالا صغارا لا حول لهم ولا قوة ، وأصبحت وحدك المسئول عنهم وعن رعايتهم وعن رعاية الحديقة ، ثم جاءت المصيبة الكبرى بأن نزل إعصار محرق فدمر الحديقة وأحالها الى خراب . وبقيت أنت وأطفالك بين خرائبها ، ليست لديك القدرة على اصلاحها واعادة تعميرها ولن تعيش حتى ترى أولادك يكبرون ويصلحونها . ستبقى تنظر الى الخرائب والأطفال الصغار و جسدك الواهن عاجزا يائسا.هل تودّ هذا لنفسك ؟ بالطبع ..لا.
ولكن هذا ما ستقع فيه فعلا فى الدنيا والآخرة حين تنفق الصدقات وتتبعها بالمن والأذى ، فأنت تتخيل وتتوقع الجزاء الشكور من الناس ، وفى النهاية لن تجد سوى الجحود من الناس و المقت و العذاب من رب الناس.
هذا هوالبيان الرائع للقرآن الذى يدعو الناس للتفكير والاعتبار (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ).
5 ـ وبرغم كل هذه الأوامر والنواهى واستخدام شتى الآساليب الحقيقية العلمية التقريرية و البلاغية الأدبية المجازية فإن أغلب المسلمين اليوم يقعون فى المنّ والأذى.
وأشهرهم فى هذا المجال المظلم الموحش آل سعود الذين اغتصبوا أرض معظم الجزيرة العربية وجعلوها مملكة وضيعة ومزرعة لهم أطلقوا عليها اسمهم . وقد احترفوا السلب و النهب فى فقرهم ، فلما اكتشف البترول فى الاراضى ـ التى اغتصبوها من أصحابها الأصليين ـ أنفقوا المال فى المجون وفى سبيل الرياء وتزعم العالم (الاسلامى ). ومع أن تبرعاتهم تأتى من مال منهوب ، ومع أنها لا تقارن بتبرعات الغربيين لمنكوبى المسلمين فى الزلازل والبراكين فإن آل سعود حين يرسلون شحنة مساعدات يملأون الفضاء منّا وأذى . بل وحين يعطون المواطنين فى المملكة بعض حقوقهم المالية فإنهم يجعلونها ( مكرمة ملكية ) ومن إنعامات الملك ، ويتغنى بها الخطباء و أجهزة الدعاية.
هم بذلك يحكمون بأنفسهم على أنفسهم بالكفر بالله جل وعلا وباليوم الآخر ، وفق ما قاله رب العزة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).
ودائما : صدق الله العظيم.!