بدعة تكفير العاذر بالجهل
والرد على تنظيم الدولة "داعش" في تكفيرهم علماء المسلمين .
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما مزيدا...أما بعد:
فإنا قد بلينا بفتنتين عظيمتين أفسدتا الدين والحياة؛ فتنة الغلو؛ وفتة الإرجاء؛ فالأولى أهلكت من كان قبلنا واليوم تهلكنا، والثانية تركت الدين أرق من ثوب سابري، فهان على الناس أمر دينهم وولغوا في ملذات الحياة، فكلاهما وبال على الدين والدنيا، على الإسلام والمسلمين. وفي هذا البحث المختصر نتناول أحد هاتين البليتين في منحى مناحيها وهو تكفير علماء المسلمين الذين يعذورن بالجهل والتأويل، فبعد أن فرغوا من تكفير عامة الناس بالحق والباطل، والشبهة والظنة والجهالة،استطالت أقلام الأقزام على علماء الإسلام فأمطروهم بوابل التكفير، وسلبوهم لباس العلم، ونفوا عنهم تحقيق التوحيد والبراءة من المشركين، هذه الفتنة التي أضرم نارها في هذا الوقت "الحازمي" وتبعه على ذلك السفهاء من تنظيم الدولة "داعش" ومن شايعهم ممن هو على شاكلتهم، فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم، فهو قد سن تلك السنة السيئة، وسلك هذا المسلك المشين!
وهذا المسلك يقوم على دعامتين أساسيتين عند القوم :
الأولى : قاعدة من لم يكفر الكافر فهو كافر
والثانية : أن التكفير ذاته من أصل الدين وأصل الدين لا عذر فيه بالجهل ولا التأويل.
فبادئ ذي بدء،فإن لتكفير حكم شرعي يُخاطَب به كل مسلم كما يُخاطَب بالأحكام الشرعية، فما كان منه على صورة الخبر صدقناه وآمنا به وما كان على صورة الأمر استسلمنا له وعملنا بموجبه، هذا موقف المسلم من كل أحكام الشريعة ..
- والحكم بالكفر من الشارع إما أن يناط: "بمعين" كشخص يعينه الله سبحانه أو رسوله صلى الله عليه وسلم بالكفر ...
كقوله سبحانه وتعالى :" تبت يدا أبي لهب وتب .."
وكحكمه سبحانه على اليهود والنصارى وغيرهم في غير ما آية ...
وكحكم النبي صلى الله عليه وسلم في أبيه وأمه وعمه أبي طالب وغيرهم ... فهذا كله حكم على الأعيان أو الطوائف ..
- وإما أن يناط حكم الكفر بوصف أو فعل معين يقوم به المعين، كقوله سبحانه: "إنه من يشرك بالله .." ، وقوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله ... "وقوله: "لقد كفر الذين قالوا ..." الآيات
- فإذا حكم الشارع بالكفر على شخص بعينه أو أشار إلى كفره كفرعون مثلًا، لزم تكفيره عينًا والبراءة منه ومن شركه وكفره، ولا مجال للاجتهاد في تأويل هذه النصوص - لمن بلغته-، ويكون عدم التكفير في هذه الحالة تكذيبًا لهذه النصوص أو ردًّا لها .
- وأما إذا أُنيط حكم الكفر بوصف أو فعل ما، وقيل من فعل ذلك فهو كافر، فهنا يقوم المجتهد بالتحقق من أمرين :
الأول: التحقق من دلالة النصوص على الكفر دلالة قطعية صريحة لا خلاف فيها.
الثاني : ثبوت هذا الوصف في ذاك المعين،بمعنى التحقق من قيام المكلف بالفعل وخُلوِّه من العوارض.
فإذا ثبت أن الحكم الشرعي هو الكفر وأن المكلف قام بالفعل على الحقيقة وأنه قد توفرت الشروط والموانع في حقه قام بتنزيل حكم الكفر عليه، فيحكم عليه بأنه كافر.
ولأن هذين الأمرين محل اجتهاد المجتهدين فإن الأنظار قد تختلف فيهما أو أحدهما. فقد يُختلف في دلالة النصوص على الكفر كما قد يختلف في قيام المكلف في الفعل لاختلافهم في أحد العوارض كالسكر أو الإكراه أو الجهل أو غير ذلك،فلا يلزم من عدم التكفير حينئذ كفر مَن لم يُكفِّر؛ لأنه قد يخطئ في الاجتهاد فيتأول النص أو يتأول المناط أو يجهلهما..
وهذا لا يقال فيه كافر أو مسلم، بل يقال مخطئ أو مصيب أو جاهل ...
ولكي نقف على حقيقة قول (من لم يُكفِّر الكافر فهو كافر ) لا بد أن نرجع بها إلى أصلها في الشريعة، ونرى مأخذ التكفير بها وفقاً لدلالة النصوص على ذلك فأقول :
أولًا: هذه القاعدة (من لم يكفر الكافر فهو كافر) قاعدة صحيحة لا غبار عليها، ولكنها مع ذلك ليست نصًّا في كتاب الله أو سُنّة النبي عليه الصلاة والسلام أو إجماع الأمة، وإذا كانت كذلك، فلابد من ردها إلى أصلها ومخرجها في الكتاب والسنّة وفهمها من خلالهما،فإن التكفير لا يكون إلا بما دلّ عليه الكتاب والسنّة أو الإجماع .
ثانيا: إذا تأملنا هذه القاعدة (من لم يكفر الكافر فهو كافر )، وجدنا دلالة الكتاب والسنة على التكفير بها من باب اللوازم والمآلات لا من باب التكفير الصريح المحض الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة دلالة قطعية وصريحة، فمن لم يكفر الكافر يلزمه رد النصوص التي كفرت هذا الكافر أو التكذيب بها ،أو الرضى بكفر الكافر وتصحيح مذهبه، فالتكفير بهذه القاعدة يرجع حقيقته إلى أمرين:
الأول: تكذيب النصوص التي قضت بتكفير الكفار أو ردها، سواء كانوا معينين من قِبل الشارع أو جاء التكفير على أوصاف وأفعال من قامت به حكم بكفره .
الثاني: الرضا بالكفر وتصحيحه .
فإذا ثبت هذا نكون قد رجعنا بهذه العبارة إلى أصلها في الشريعة، وكلا الأمرين كفر بإجماع الأمة ولكن يأتي في...
ثالثاً: إذا ثبت أن تكفير من لم يكفر الكافر من نوع التكفير باللوازم والمآلات، فإن هذا النوع محل اجتهاد المجتهدين واختلاف الأنظار، وهذا يرد عليه احتمال الخطأ والتأويل .
رابعًا: كلام أهل العلم مهما علت رتبتهم في العلم وبلغت منزلتهم في الفضل لا يقاس عليه بمجرده ما لم يرد إلى هذا الأصل؛ لأنه ليس شرعًا منزلًا ولا بيانًا مُحكَمًا .. فكلام شيخ الإسلام في ابن عربي وفي من ادعى الإلهية في علي رضي الله عنه، وكذا كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعلماء الدعوة في طواغيت الخروج وغيرهم إذا تأملته وجدت ما ذكروه يتفاوت ظهورًا وخفاءً، وأغلبه كفر صريح واضح لا إشكال فيه، لا مجال لمتأول أن يتأوله أو يتوقف فيه ..
ومع شناعة ما حكى شيخ الإسلام من حال ابن عربي وابن سبعين وغيرهم فقد قال:
"ولكن هؤلاء الْتَبَس أمرهم على مَن لم يعرف حالهم، كما الْتَبَسَ أمر القرامطة الباطنية لما ادعوا أنهم فاطميون، وانتسبوا إلى التشيع، فصار المتبعون مائلين إليهم، غير عالمين بباطن كفرهم..." ا.هـ.
ومع ذلك فلا يقاس على كلام أهل العلم في هؤلاء غيرهم بل يكون المُنطلَق في التكفير في كل حاله هو الكتاب والسنّة وإجماع الأمة ..
خامساً: من لم يُكفِّر الكافر إذا تحقق أنه يُكذِّب النص أو يرده أو يصحح الكفر أو يرضى به فهو كافر .. ليس لأنه لم يكفر الكافر أو يشك في كفره، بل لأنه كذَّب النص أو رده أو صحح الكفر أو رضي به ..وكل هذا كفر دل عليه الكتاب والسنّة وإجماع الأمة ...
سادساً: أهل الغلو لما جعلوا تكفير الكافر من أصل الدين وجعلوه بمعنى البراءة من المشركين لم يقبلوا بهذه الأعذار لأن أصل الدين الذي قرروه لا يُقبَل فيه العذر بالجهل أو بالتأويل أو غيره إلا الإكراه ...
سابعًا: تكفير الكافر ليس هو البراءة منه لا لغة ولا شرعًا، وقد يتبرأ المسلم من الشرك والمشركين بغير التكفير، كأن يعلم أن هذا باطل ويجتنب ماهم عليه من الضلال، وسيأتي كلام الشيخ البابطين في ذلك، وليس التكفير هو الكفر بالطاغوت، فقد قال تعالى : والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها .. "، فاجتناب عبادتها مع العلم ببطلانها كفرٌ بها.
وإذا آمن العبد بالله ولم يشرك به شيئاً فقد كفر بالطاغوت بل بكل طواغيت الأرض، وإنما ذكر هذا المعنى في كلام بعض أهل العلم من باب ذكر القول بلوازمه ومقتضياته، لا من باب التفسير المطابقي للمعنى، وقد سبق تفسير كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي يحتج به،
وعلى أية حال فإن كلام أهل العلم ينبغي أن يرد إلى أصله في الشريعة كما سبق، والقوم يركزون جهدهم على التكفير وكأنه هو الأصل الأوحد في الدين، وجعلوا أنفسهم بوابة التوحيد والإسلام ..فمن يُرِدْ أن يكون موحدًا بحث عن أحدهم ليدله على طاغوت زمانه الذي لا يكون مؤمنًا إلا بتكفيره والكفر به!
ثامنا: البراءة من المشركين تثبت بعد الحكم عليهم بأنهم مشركون ومن لم يثبت لهم حكم الكفر لخطأ أو تأويل أو جهل فلا يقال عنه إنه لم يتبرأ من المشركين أو إنه يُكذِّب النصوصَ أو إنه يصحح الكفر ويرضى به ..
ومنشأ الخلل اعتبارهم التكفير للمشركين هو نفس البراءة منهم، والبراءة منهم هي أصل الدين وركن التوحيد ومن لم يحققه -لأي سبب كان- فهو كافر ولا يعذر بما سبق ..
وكل مَن يقرر هذا يلزمه التكفير بالتسلسل لا محالة حتى يعود الكفر على كل مَن على هذه الأرض بما فيهم أهل الغلو أنفسهم...
-
وإذا أردنا أن نتبين بطلان قولهم بإن تكفير المشركين من أصل الدين ننظر إلى ما يقابله من معنى وهو الحكم بالإسلام على المسلمين، فتكفير المشركين يقابل الحكم بالإسلام على المسلمين، فهذا من البراء وهذا من الولاء.