JustPaste.it

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

افهم ما يجري حولك !!

 

 

كان النظام الإقطاعي المعمول به - فيما يسمى بالعصور الوسطى في أوروبا - نظاماً طبيعياً ومقبولاً لدى عوام المجتمع .. كان الملك يقتطع أرضاً لمن شاء من النبلاء أو من يقدّم له خدمات جليلة يستحق بها أن يصير نبيلا .. كانت هذه القطعة من الأرض عبارة عن مقاطعة كاملة أو ولاية أو عدة قرى ، وكان هذا الإقطاعي وأسرته يملكون الأرض ومن عليها وما عليها وما تحتها ، ولم تكن هذه الهبة بلا مقابل ، بل على هذا النبيل أن يخدم الملك كلما طلبه ، وعليه أن يوفّر لخزينة الملك مبالغ مالية من نتاج أرضه ، وعليه أن يستنفر عبيده ومماليك مملكته كلما أعلن الملك الحرب ..

 

لم يكن النبلاء في الغالب يرسلون أبنائهم في حروب الملك ، بل كانوا يرسلون عبيد الإقطاع ، وكان النبيل ذاته أو أبناءه يقفون بجوار الملك في الحرب كحراس شخصيين مع بقية النبلاء ، وربما أعطى الملك قيادة الجيش لنبيل من النبلاء الذين عُرفوا بالحنكة العسكرية ، ولم يكن النبلاء يزوّدون الملك بالمال من خزائنهم الخاصة ، بل من نتاج الأرض التي يعمل فيها العبيد ، وإن لم يكف هذا النتاج فإن النبيل في الغالب يفرض ضرائب على العبيد يرهقهم بها قبل أن يدخل يده في خزانته الشخصية ، فالنبلاء كانوا يحتاطون كثيراً للحفاظ على طريقة معيشتهم المترفة ..

 

قد يغضب الملك من بعض الإقطاعيين فيسلبه امتيازاته وأرضه ، وقد يسجنه أو يقتله ، وبعض هؤلاء الإقطاعيون قد تحدّثه نفسه الاستقلال بإمارته إن رأى ضعف الملك أو اغترّ هو بقوّته وسلطانه وتحالفاته ، عندها ينتدب الملك من الإقطاعيين من يحارب هذا المتمرّد ، ويمنّيه بتملّك أرض المتمرّد إذا أتاه برأسه أو جاء به أسيرا ، فالكل في خدمة الملك ، والويل لم تسوّل له نفسه الخروج عن طاعته ..

 

كان الإقطاعيون يظهرون بمظهر القداسة عند عبيدهم ، وكانوا يستعينون برجال الكنيسة في إضفاء هالة القداسة عليهم ، واستغل بعض الإقطاعيون هذه الهالة للحصول على امتيازات خطيرة : كأن يبارك الزيجات بالدخول على الزوجة قبل زوجها وفضّ بكارتها لتحصل لها البركة ولزوجها ، وإن كانت هذه القدسية للإقطاعيين فحدّث عن قدسية الملك ولا حرج ، فالملك معيّن من قِبل الربّ ذاته ، وقدسيته فوق كل قدسية ، ومن يتجرّأ على المساس بالذات الملكية بكلمة أو بحرف فإنه مطرود من بيت الربّ ، مطرود من رحمته ، مستحقّ لعذابه الأليم الشديد ، ولمثل هذا تضجّ الكنائس ، وتدقّ أجراسها ، وتُعلن حالة الإستنفار في طول البلاد وعرضها ، وتصدر الفتاوى الصاروخية تبيّن عظم الجرأة على الإختيار والقضاء الإلهي الكوني الشرعي ..

 

يحصل بعض الأحيان أن يكتشف بعض العبيد في بعض الإقطاعات أنهم ليسوا عبيداً ، وأنهم في الأصل أحرار ، وأن الحريّة فطرة في الطبيعة البشرية ، وهذا الاكتشاف الخطير قد يؤدي في بعض الأحيان إلى حدوث قلاقل قد تصل إلى المواجهة ، فتتدخّل الكنيسة لتقنع الناس ببركة العبودية للإقطاعي ، وقد تنجح أكثر الأحيان في ذلك ، ولكن بعض الثورات كانت تخرج على إرادة الكنيسة وتوجيهاتها المقدّسة المعصومة ، فتواجَه بوحشية لا يتصوّرها الإنسان ، وإذا لم تنجح هذه الوحشية في قمع الثورة واستفحل الأمر بحيث يؤثّر على الجو العام في المملكة فإن الملك يتدخّل بنفسه ويرسل جيشاً يقمع الثورة أو يستبدل الإقطاعي بمن هو أكثر وحشية ودموّية منه أو أقدر على تهدئة الأمور ، وإن خاف الملك من انتشار هذا الوباء الثوري في أرجاء المملكة فإن جيشه يُحدث مجازر وإبادات جماعية يتخللها النشاط الكنسي المركّز لصرف الناس عن الأفكار التحررية الشيطانية ..

 

لننتقل إلى واقعنا القريب ، وبالتحديد إلى وقت معاهدة سايكس-بيكو ، حيث اجتمع رجل فرنسي وآخر بريطاني فأقطعا أراضي المسلمين لبعض الإقطاعيين الذين صاروا نبلاء بعد أن كانوا هملاً رعاع ، وبعضهم كان منبوذاً لا قيمة له ولا شرف إلا أنه قدّم خدمات جليلة للغرب فاستحق بعض الإقطاعات ، وبعضهم أثبت جدارته في خدمة ملوكه ، وهذه الإقطاعات سموهاً دولاً ، والإقطاعيين : رؤساء وملوك وحكام وسلاطين ..

 

تخلّص الغرب من النظام الإقطاعي البشع في بلاده ، وأورثنا هذا النظام لنعيش في عصر ظلامه وعصوره الوسطى ، فالإقطاعيون عندنا اليوم يملكون الأرض بمن عليها وما عليها وما تحتها ، فالنفط والغاز والحجر والشجر والإنسان والدواب كل ذلك ملك لهم يتصرّفون كيف شاؤوا بلا منازع ولا منغّصات "و كَم من مُتَخَوِّضٍ في مال الله ، و مَال رسوله ، له النارُ يوم القيامة" (صحيح : صحيح الجامع) ، وإن وسوس الشيطان لأحدهم مسائلة الإقطاعيّ ، جاءه الجواب من مراكز الفتوى "الكنسيّة : "اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك" !! [قال بعض المحدّثين : جملة "ضرب ظهرك وأخذ مالك" زيادة مُدرجة في الحديث لا تصحّ] ، فكل الخير من تحت أيدي هؤلاء الحكام ، وكل الشر من معارضيهم {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} (الزخرف : 51 – 52) ..

 

اشترط ملوك هذه الأرض على الإقطاعيين أن يخدموهم كلما أمروا ، فإذا خاض الملوك حرباً جلب الإقطاعيون عبيدهم (جيوشهم) ليتقدموا صفوف جيوش الملوك فيموتوا دونهم ليتقدم الجيش الملكي على أجسادهم ، وهذا ما حصل في الحرب ضد الدولة العثمانية ، وحرب العراق وغيرها ، وإن سوّلت نفس إقطاعي أن ينفرد بقرار مصيري أو يخرج عن طوع الملوك فإنهم يُطلقون يد من حوله عليه فيتقاسمون أرضه أو تأتِ الجيوش الملكية فتتخلّص منه بمساعدة بقية الإقطاعيين ..

 

ورثت أمريكا المُلك عن الفرنسيين والبريطانيين فأصبح الرئيس الأمريكي هو ملك أراضينا الذي يتحكّم في الإقطاعيين ، فيأمر وينهى وهم لا يعصونه ما أمر ويفعلون ما يُؤمرون ، فيجيّشون الجيوش لحروبه ، ويبذلون له الأموال من إقطاعهم ما شاء ، ويقتلون من يشاء ، ويقطعون حبل من شاء ، ويصلون حبل من شاء ، يحجّون إلى بيته الأبيض ، ويعبّدون له الناس ، وويل لمن يتعرّض للذات الأمريكية المقدّسة بسوء ، فالفتاوى الصاروخية تنهال عليه بالتنديد والتصنيف والتوبيخ والتهديد والتشنيع واللعنة والبراءة والتكفير والردّة والعمالة والخيانة وغضب السماء على كل من يعكّر مزاج القداسة الملكية ، وفي نفس الوقت : الإقطاعيون أهل قداسة عند عبيدهم لا يأتيهم الباطل من بين يديهم ولا من خلفهم ، فيستخدم هؤلاء المساجد ومراكز الفتوى لترسيخ فكرة {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (النازعات : 24) في عقول الناس ..

 

لنا أن نتخيّل حجم الكارثة التي تحل بالإقطاعيين إن تجرأ مَن في إقطاعهم من العبيد وأعلنوا تحرّرهم من ربقة العبودية ثم أعلنوا الحرب على الملك !! إنها كارثة بكل المقاييس ، فالملكُ يُسائل الإقطاعيين عن هؤلاء الذين تجرؤوا على مثل هذه الفعلة الشنيعة : كيف لم يُؤصّل الإقطاعيّون مسألة العبودية للملك في عقولهم !! كيف لم يؤصّل الإقطاعيون مسألة الخوف من عقاب الملك في قلوبهم !! من أين أتى هؤلاء بمثل هذه الجرأة وهذه الأفكار الهدّامة الضالّة الخارجية المتنطّعة الغالية !! أين الفتاوى الصاروخية !! أين قساوسة المساجد !! أين الإعلام المخدِّر !! أين عيون وجواسيس الإقطاعيين عن أمثال هؤلاء قبل استفحال أمرهم وجرأتهم عل الملك !! إنّه التقصير والإهمال والتفريط أيها الإقطاعيون النائمون الخاملون .. أفيقوا قبل أن تُستَبدلوا ، فغيركم يسيل لعابه لإقطاعكم ، فلا تظنوا الملك يجامل على حساب أُلوهيته ..

 

ليس من باب الصدفة أن يقول جامي "أُطيع ولي الأمر وإن ضرب ظهري وأخذ مالي وهتك عرضي" ، فهذه نظرية يُراد لها الانتشار بين الناس حتى تصبح حقيقة راسخة ، وليس من باب المصادفة أن يكون ولاة الأمر "أبخص" : فقولهم وفعلهم وتقريرهم هو الحق المبين من باب {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} (غافر : 29) ، وليس من باب المصادفة أن يبرر "القساوسة" لولي الأمر المقدّس : أخذ المال والأرض وثروات البلاد له ولأهل بيته ينفقونها على ملذّاتهم وشهواتهم ، فهذا حقهم الشرعي بالنصّ الإلهي !! وليس من باب الصدفة أن يمنع "قساوسةُ الحكام" المسلمين من الخوض في السياسة وأمور العامة لأن هذا من شأنه أن يولّد فكرة الحريّة الفطرية في نفوس المُستَعبَدين فينتبهوا ، كل هذا تمهيدٌ للوصول إلى النظام الإقطاعي الأوروبي البغيظ ..

 

ليس من باب الصدفة أن يفرض الإقطاعيون اليوم الضرائب على عبيدهم ، فحروب الملك كادت تصل إلى خزائنهم الخاصة فيؤثّر ذلك على حياة الترف التي يعيشونها ، ودخْل الأرض من النفط وغيره لم يعد يكفِ لتمويل حروب الملك الأمريكي ، فكان لا بد من أخذ هذه الأموال من العبيد في الإقطاعات عن طريق الضرائب ، ولو استمرت حروب الملك الأمريكي فترة أطول فإننا سنرى الضرائب تزيد حتى تُنهك العبيد قبل المساس بخزائن الإقطاعيين المتخمة بالأموال .. لعلنا نذكر أن الاقتصاد الأمريكي والروسي كانا على وشك الإنهيار قبل هذه الحروب ، وكذلك اقتصاد أغلب الدول الأوروبية ؟ من أين تأتي أمريكا وروسيا بنفقة هذه الحروب ، والحروب تُفني ما في الجيوب ؟ هل سمع أحد شكوى الكونجرس الأمريكي من نفقات هذه الحروب ؟ لو كان الإنفاق من خزانة أمريكا لتوقفت الحرب قبل سنوات .. فليبشر العبيد بمزيد من الضرائب التي تموّل هذه الحملة الصليبية على الأمة الإسلامية ..

 

الثورة العربية الأخيرة (الربيع العربي) لم تكن للمطالبة بالديمقراطية ولا الدولة المدنية ، بل كانت للمطالبة بالحريّة التي هي ضد العبودية للبشر ، ولما فشل الإقطاعيون في احتواء الموقف ، وتفاقَم الأمر ، وخاف الملك الأمريكي من انتشار وباء الفكر الرافض للاستعباد : تدخّل الملك وأرسل مستشاريه للإقطاعيين للإشراف على وأد هذه الثورة ، فلما فشلوا : انتقلوا إلى مرحلة القمع الوحشي ، فأحرقوا الناس أحياءً وقصفوا المدن والقرى بالصواريخ والقنابل واستطاعوا إخضاع العبيد مرة أخرى ، ومن لم يخضع فهو قتيل أو سجين ، وبعض من رفض الخضوع ولم يُؤسَر : انتقل إلى الثورة المسلّحة (الجهاد) فأعلن الحرب ضد الإقطاعيين وضد ملكهم ، وقد أدرك البعض حقيقة منطق الإستعباد الزائف منذ البداية فأعلنوا الحرب قبل هذه الثورات بسنوات طويلة ، وهؤلاء لقوا من المواجهة والتشويه ما لم يلقه غيرهم ، وكان الإرهاب والإفساد وتحريف الدين أعظم تهمهم ، وهذا شأن الطغاة مع المؤمنين في كل زمان {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} (غافر : 26) ، ولكن جريمة موسى الحقيقية هي : اخراج بني إسرائيل من عبودية فرعون {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الشعراء : 22) ومطالبته فرعون بتحريرهم من ربقة عبوديته {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الاعراف : 105) ..

 

مِن عادة بعض النفوس المُستعبَدة : الإنكار على من يفكّر في تحريرها ، إذ يستطيل العبد حرب الحريّة ، فقد قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} (الأعراف : 129) ، {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} (القصص : 57) ، ويشتدّ خوف المُستَعبد من مآلاتها {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} (الشعراء : 61) ، وربما اشتاق المُستَعبد إلى أيام العبودية حتى بعد تحريره {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقرة : 61) ، فبعض النفوس جُبلت على العبودية للبشر فلا تتصوّر أن تكون حرة لا تعبد غير الله وحده {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} (القرة : 93) !!

 

اغترّ الإقطاعي "صدّام حسين" بقوّته ، ورأى أنه يسعه الخروج على إرادة الملك ، فانتدب الملك من بجواره من الاقطاعيين ليلزموه الطاعة فلم يستجب ، فتمادى واحتل أرض إقطاعيّ آخر ، وقد استدرجه الملك لفعل ذلك لتأتي الجيوش الملكية وتدمّر العراق وتجعل فيه أمريكا إقطاعياً آخر كان ضعيفاً فاختلّت الأمور ، ثم حوّلت مُلكيّة العراق لإيران الأقوى لتضبط الأمر ، وأمرت بقية الإقطاعيين بجوار العراق أن يمكّنوا لإيران فيها ، فرضخوا ، وأمدّوا وكيل إيران في العراق بالمال والسلاح والعتاد والرجال طاعة لملكهم المقدّس ، مع يقينهم بأن إقطاعيوا إيران لهم مطامع في إقطاعاتهم ، لكنها الأوامر الملكية ، وقد رضيت أمريكا عن إيران لدرجة أنها وعدتها بضم أكثر من إقطاعية (اليمن والعراق وسوريا والكويت والبحرين) مبدئياً ، وخافت إيران أن يكون هذا استدراجاً أمريكياً كما حصل لصدام ، فأوحت لعملائها في هذه البلاد باحتلالها نيابة عنها وأمدّتهم بالمال والسلاح ..

 

لا تختلف سوريا كثيراً عن العراق ، فبشار الأسد إقطاعي مثالي يحمي حدود مقاطعة يهود في فلسطين المحتلّة كأبيه ، فالملك راضٍ عنه ولا يريد إزالته لأنه يخدمه بكل تفانٍ وإخلاص ، والكل مأمور بالحفاظ على بشّار المحضيّ ، والكل مأمور بالوقوف بجانبه وحمايته من كل سوء ، ولمّا كانت جيوش الملك في شغل عن التركيز على حماية بشار لقتالها بعض "المشاكسين" في أماكن أخرى : استعان الملك بملك آخر (روسيا) ليحافظ على محضيّه حتى لا يصل إليه الثوار ، ولكن هذا الملك طمع في سوريا ، وهو الآن يحاول احتلال جزء من سوريا عسكرياً مع إبقاء بشار كذيل له يحركه وقت شاء ، ولذلك أطلقوا على بشار لقب "ذيل الكلب" ، وهو تعبير دقيق ..

 

لا يستطيع الناس اختيار من يحكمهم في النظام الإقطاعي ، فلا بد من مباركة الملك لكل من يريد حكم مقاطعة في مُلكه .. لما نجحت جبهة الإنقاذ في انتخابات الجزائر أعلن الرئيس الفرنسي بأن دولته ستتدخّل عسكرياً في الجزائر إن آل الحكم لجبهة الإنقاذ ، ولما فازت حماس في إنتخابات فلسطين أعلنت أمريكا أنها منظّمة إرهابية ، ولما فاز مرسي في انتخابات مصر أوحى الملك الأمريكي للإقطاعيين بإسقاطه وسجنه ومن معه ، وربما قتله ، لأنه تجرّا وأعلن نفسه إقطاعياً دون موافقة الملك ، ونحن نرى أبناء "النبلاء" يحجون إلى البيت الأبيض كلما اقتربوا من الكرسي كي يباركهم الملك القدسي فيرضى ولايتهم بعد أن يضمن ولائهم المطلق ..

 

من أراد أن يفهم ما يجري حوله في زماننا هذا فليجعل حقيقة نظام الإقطاع نصب عينيه ليستطيع تحليل المواقف السياسية بدقّة ، فكل تحليل خارج هذا النطاق يعتبر ضرباً من الخيال ، ومن شاء فليقرأ تاريخ الإقطاعية الأوروبية في العصور الوسطى ويقارنها بواقعنا المعاصر ليرى التطابق العجيب يبن الإقطاعيين والحكام ، وبين الكنيسة وبعض المُفتين ، وبين الملوك وأمريكا ..

 

احتاجت أوروبا لقرون حتى تتخلّص من واقع الإقطاع البغيض ، وراح ضحيّة الثورة الأوروبية ملايين الأوروبيين ، وأشعل الثورة مفكرون وفلاسفة خرجوا عن نطاق الكنيسة المُعبّدة الناسَ للإقطاعيين والملوك ، والحقيقة أن الثورة الأوروبية مدينة للشريعة الإسلامية بأفكارها التحررية ، فلم يكن عند الأوروبيون غير البلاد الإسلامية ينهلوا منها معاني الحرّية ، فكانوا يقارنون واقعهم بواقع المسلمين ، وانتبهت الكنيسة لهذا فشنّت حرباً شعواء على المفاهيم الإسلامية ليقطعوا على الفلاسفة الطريق ، وانتبه الفلاسفة لحيلة الكنيسة فحوّلوا الأفكار المستوردة إلى صناعة محلّية ليفوّتوا الفرصة على الكنيسة ، ثم شنوا حرباً مضادة عليها فكان شعارهم "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسّيس" ، والغريب أن الفكرتين بقيتا دون تغيير : فكرة محاربة الكنيسة ، وفكرة شيطنة الإسلام ، وهذا رغم نيل الأوروبيون للحريّة ، ورغم انحسار دور الكنيسة لدرجة كبيرة !!

 

إن الثورة الإسلامية يقودها العلماء في الغالب ، فهي ثورة لا تحارب الدين ، بل تُرجع الناس إلى المعاني الصافية لقواعد الشرع ، فقضيّة الحريّة قضيّة مقدّسة في الشريعة الإسلامية ، وهي حرّية منضبطة بضوابط الشرع ، وليست حريّة بهيمية كما عند الغرب ، فالمسلمون أحرار منذ أن ولدتهم أمهاتهم إلى أن يواريهم الثرى ، ولا يجوز لمسلم أن يقبل الاستعباد لغير الله أبداً ، فهذا مُحرّم عليه شرعاً ، بل من أعظم المحرّمات ، وليس في الإسلام قدسية لملك ولا حاكم ولا عالم ولا أي إنسان ، ولا يملك الحاكم البلاد والعباد ، بل هو أجير ووكيل للناس يعمل براتب يقرّونه هم ، فوظيفته تنظيم شؤون حياتهم ، وهم من يختار الحاكم عن طريق وكلائهم من أهل الحل والعقد الذين يرضَون ، وهؤلاء يحاسِبون الحاكم نيابة عن الشعب ، ويعزلونه إن أخل بشروط عقد الوكالة ، ولهم أن يدْعوا للخروج على الحاكم بالسيف إن عدَل عن الشرع ..

 

هذه هي المعاني التي يتبناها الأوروبيون اليوم ، ونحن استبدلنا ديننا بنظام العصور الوسطى الذي حاربه الأوروبيون ، فالرجوع إلى الدين كفيل بأن يُخرجنا من هذا النظام الإقطاعي (أو المُلك الجبري) إلى النظام الأفضل في تاريخ البشرية (خلافة على منهاج النبوّة) ، فلا بد أولاً من التخلّص من هذا النظام العفن المعشعش في العقول عن طريق البيان ، فالناس يظنون أن ما هم فيه هو الدين ، وأنه الشرع ، وأنه القدر المحتوم !!

 

الواجب بيان حقيقة أن الأرض لله وليست للحاكم ، وأن العبودية لله وليست للحاكم ، وأن الدين لله وليس للحاكم ، وأن الطاعة المطلقة لله وليست للحاكم ، وأن الحاكم أجير عند الناس وليس العكس ، وأن المال مالُ الناس وليس الحاكم ، وأن الحكم لله وليس للحاكم ، فوظيفة الحاكم : تطبيق شرع الله تعالى ، ومتى أخل بهذه الوظيفة : عُزل ، ومتى ما شرّع قانوناً واحداً مخالفاً لشرع الله فإنه يَكفر ثم يُعزل ويُقتل ، فلا مُشرّع غير الله تعالى ، ولا حكم لغير شرعه .. ووظيفة الحاكم : إنتداب الناس للجهاد في سبيل الله ، ولا يجوز له الإخلال بهذه الوظيفة ، فمتى ما عطّل الجهاد : عُزل ، وإن نهى الناس عن القتال المتعيّن : يُعصى ، فإن أنكر فرضّية الجهاد : يكفر ثم يُعزل ويُقتَل ..

 

إن قضّة الحريّة الفطرية والشرعية من أخطر القضايا اليوم ، وإدراك حقيقتها كفيل بتعديل الكثير من الأوضاع ، فالناس غُثاء لعدم إدراكهم قيمة أنفسهم ، والعبودية للحاكم والنظام استشرت في عروق كثير من الناس دون وعي ، ولا يكون المسلم مسلماً إلا بتحقيق العبودية المطلقة لله وحده ، وهذا النظام الإقطاعي أودى بتوحيد الناس وصرَفهم عن حقيقة دينهم ورسالتهم ، ومن تعلّق بالمخلوق : لم يحرص على لقاء المَعبود سبحانه ، ومن هنا يطغى الوَهن "حب الدنيا وكراهية الموت" ، فالمسلمون اليوم مليارين ، والذين نفروا منهم للجهاد في كل الثغور لا يتجاوزون المائتي ألف ، أي بنسبة (0,0000001) ، وهذه النسبة تدلّ على خلل كبير في هذه الأمة المُستعبدة لغير الله تعالى ، كان نتاجه : نزع المهابة من صدور أعداءها منها ، ومتى ما رجع المسلمون إلى تحقيق التوحيد الخالص لله تعالى وحده : رجعوا إلى دينهم وجهادهم ، ونبذوا ما يخالف شرعهم ..

 

 

والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم ..

 

كتبه

حسين بن محمود

11 ذو القعدة 1437هـ