JustPaste.it

لقد ولع المذهبيون من المتمسكين بإتباع الآباء بتبديع مخالفيهم في الرأي، فنسبوا كل رأي مخالف للنصوص في فهمهم، أو لقول الأسلاف، إلى الابتداع في الدين وبالتالي فهو ضلالة:

بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا

محمد صادق في الأحد 05 ابريل 2015

بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا

" وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ" سورة البقرة 170

لقد ولع المذهبيون من المتمسكين بإتباع الآباء بتبديع مخالفيهم في الرأي، فنسبوا كل رأي مخالف للنصوص في فهمهم، أو لقول الأسلاف، إلى الابتداع في الدين وبالتالي فهو ضلالة، ومن ثم فإن الهدى يكون حتما في الإتباع للسلف، هذا سيف تراه يقطع يمنة ويسرة فيكّفر ويفسق كلُّ رأي مخالف، وهذه كتب قد بثت فيها دعاوى التبديع لأجل كل خلاف عقيدي أو فقهي، فهل الاختلاف في فهم النصوص أو قبولها أو ردها هو البدعة في الدين؟ وهل ينبغي النظر لكل جديد على أنه بدعة محرمة؟

إن سيف البدعة قد سل ضد كل رأي مخالف، وشُحذ ضد كل رأي جديد، فأهل التجديد رقابهم مقطوعة به، لا يكادون يقولون قولاً مخالفاً للسلف حتى تعلن فيهم محاكم التفتيش أحكامها بالهرطقة والابتداع، وليس الأمر إلا لأنهم قد خالفوا الموروث، وقالوا ما لم يقله أحد الأسلاف، سواء في فهم نص أو قبوله أورده، فالسلفية تحفظ حريمها بمحاربة كل جديد، وأول ما يقال في الجديد أنه بدعة محدثة فهو ضلالة، وشر الأمور محدثاتها، يريدون بالمحدث كل جديد، يتساوى في عقلهم الحديث مع الخطأ والضلال، وكأنهم يكابرون مضاديهم من أهل الحداثة، الذين بالغوا فيها فجعلوها مساوية لكل تقدم وصواب، فكأنما تقدم الآراء أو تأخرها زماناً يلزم منه صوابها أو خطؤها، ضلالها أو هداها، وكلا الحالين ضلالة وخروج عن التفكير العلمي، الذي لا يعرف دليلاً على الحق إلا موافقة الحق والواقع في نفسه.

إن فهم البدع والمحدثات بأّنها كلّ أمر خالف المروي المقبول عند علماء الأمة من السلف والخلف، هو نفق يقود نحو الجمود وعبادة الأسلاف، والتمسك بحذافير غير كتاب الله. هو انحراف عن الحق، فلا كتاب في الدين قطعي الدلالة ملزم سوى كتاب الله، أما السنة فهي ظنية الدلالة. ومن هنا ليس هناك نص في الدين يتمتع بالحجية الدائمة كنص قطعي الثبوت والدلالة عن الله ورسوله سوى القرءآن، ومادام الأمر كذلك فكل فهم يقوم على البرهان في فهم كتاب الله، وفي قبول أورد نص من السنة أو في فهمه فهو شرعة مفتوحة في الدين، وأما أفهام العلماء وآراؤهم فآراء رجال تصيب وتخطئ، تحيا وتموت.

إن مشايخ الدين قد أسرفوا في تبديع كلّ مخالف لمذاهبهم في جزئيات أحكام الشرع وتفاصيل العقائد، ولكّنهم سوغوا أكبر البدع في السياسة المخالفة للدين والسيرة النبوية، ومن أعظمها إحقاقهم لبيعة سلاطين الغلبة بالظلم والعدوان، وإقرارهم لتولي الخلفاء بالتوريث، وهي أعظم بدعة أموية لا زالت قائمة في الأمة إلى اليوم، فلم يكتف المشايخ فيها حّتى جعلوها بيعة شرعية أوجبوها على المسلمين، وشرعوا معها كلّ أثرة في حقوق الناس وألزموهم للطغيان بالسمع والطاعة، وأمروهم بأداء حقوق الطواغيت وأهل الأثرة، ثم التوجه لله بالدعاء أن يلين قلوب الذئاب لترد عليهم حقوقهم، هكذا، ثم يتشدقون بمنع البدع.

وأما الحُمس الذين يريدون التمسك بحرمة كلّ ما لم يكن على عهد رسول الله فإنهم مكابرون إذ لا شيء اليوم مما كان على عهد رسول الله.

ولكن لا ينبغي تبديع كلّ رأي مخالف بدعوى أّنه إحداث في الدين أو زيادة فيه، لأجل أن يسوغ اتهامه بالبدعة المحرمة، إلا أن يخالف قيم الدين ومقاصده من قبح الظلم وسوء عاقبة الفواحش، وحرمة هدر حقوق الناس، إلى سائر القيم الجامعة لكلّ المسلمين، ليظل كلّ مجتهد تحت مظّلة سقفها دون أن تقفز بنا الاجتهادات إلى خارج منظومة القيم، كما فعل بالأمة من شرعوا البيعة والشورى المزيفة فصادروا حقوق الأمة السياسية، فمن خرج عن قيم الدين ومقاصده فهو المبتدع، وأما ما من من جاء برأي جديد منظومة القيم الفاضلة فهو اجتهاد محمود ولو خالف كلّ الأسلاف والصالحين، سواء أصاب أم أخطأ، إذ لا خطر على الأ مة من الأخطاء التي تظل تحت سقف القيم والمقاصد الشريفة.

لقد انشغل مشايخ الدين بالشجرة وضيعوا الثمرة، فتبادعوا في أحكام الفروع، وتساهلوا في الحقوق العامة التي بدأت في تبديلها وإهدارها الدولة الأموية فألغت البيعة والشورى، ورفضت حق الاعتراض والمعارضة، فكان كل مخالف عندهم صاحب فتنة، وأثبتت الأنساب بالسياسة كما أثبت معاوية أخوة زياد، واستباحت الدماء والأعراض بها، وفتحت باب الانقلاب على الحكومة المنتخبة، واستباحت أقدس الأماكن المقدسة كمكة والمدينة بحجة محاربة الخارجين على النظام، واستباحت حرمات المسلمين عبر الغارات العسكرية التي تستهدف المدنيين الآمنين، واستحلت سلبهم وهتكهم بدعوى إزعاج الخصوم كما فعل بسر بن أرطاة باليمن، إلى ما سوى ذلك من الفظائع التي لم تمنع رجال الدين من الإقرار لمعاوية بصحة الخلافة، وبدع دولته إلى اليوم سنن في الإسلام والمسلمين ، يدافع عنها عشاق السلف (الصالح)، ولا عجب فليس هناك سلف غير صالح إلا من عارض أمثال هذه البدع الخطيرة وقد صدق الرسول (ص) حين قال كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفا.

كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف فلعن الله التعصب الذي جعلنا جميعاً نبيض الأسود ونسود الأبيض دون تأنيب من ضمير.

إن اتخاذ السلفية منهجاً في معرفة الحق والباطل – وهو ما عليه كافة المسلمين اليوم إذ الأمة اليوم كلها سلفية، هو في نفسه طريق باطل، يخالف صريح القرءآن الكريم الذي بكت على من قالوا أنهم ألفوا آباءهم على ملة فهُمْ على آثارهم يهتدون، فالقرءآن يرفض أصل اتخاذ هذا المنهاج منهاجاً، فليس هناك من وجه لقبول هذا المنطق، إذ لا دليل على صحة آلية اتباع الآباء في الاهتداء للحق، فأصل هذا المنهاج هو مجرد وهم، وهو لا يقوم على منطق سليم، لا لأجل أن الآباء ضالون، بل لأن التقليد في حد ذاته لا يصلح سبيلاً للعلم ومعرفة الحق، فهو فاسد وإن أصاب. فالدين نفسه يثبت فساد منهاج التقليد في أخذ الدين وعلوم العقيدة والقيم الدينية، وإن كان كل أهل الدين إنما يتبعون عملياً ما ألفوا عليه آباءهم فهم على آثارهم مقتدون.

لقد بات لكل مذهب منبع، منه يجري نهره بالعلماء، فالأزهر منبع يجري منه صنف من العلماء يحافظون على مذهب أو مذاهب محددة من السلف، ومكة والمدينة اليوم منبع يجري منه نهر من العلماء يحافظون على منهج معين من مناهج السلف، والنجف وقم منبع لنهر من العلماء يحافظون على مذهب من مذاهب السلف، وهكذا لكل مذهب وفرقة منبعه وغيرها كثير، يتداولون بالتصحيح والإسناد إرثهم الذي ورثوه جيلاً بعد جيل، ثم ندعي أننا علماء، مع أننا مقلدون لأسلافنا نجتهد إن اجتهدنا- ضمن حوزتهم المنيعة، بل ويعتبرون الخروج من صندوقها خروجاً إلى ميادين الضلال.

إن اتخاذ إتباع السلف منهجا في التفكير باطل، وإن كان هذا السلف صالحاً، فصلاحه في نفسه لا يعني صلاحه لمن بعده، إذ لكل جيل ما يصلحه وما يصلح له، واقتحام السلف حياة الخلف جمود للخلف وإهانة للسلف، حيث مع الأيام يغدو ما اعتادوه من عوائد في الدين غير متوائم مع الحياة، فالسلف (الصالح) كالميت، كرامته في تعجيل دفنه، والاحتفاظ بذكراه.

ولكن الحق أنه لا يوجد وقت تكتمل فيه تجليات الحقائق، وأن كل ما نحيط به في حياتنا مهما سمى، هو إحاطة منقوص ، فبهذا المعنى نحن لا ندرك من الحقيقة أياً كانت إلا الطبقات التي تمكنا من اكتشافها ومعرفتها، أشبه بمسار لا ينتهي ولا ينفك يريك جديداً ويبلى جديداً، حتى أنه يمكن أن يقال أن كل جيل لا يدرك من العلم إلا قليلاً قياسا للعلم الممكن في الأشياء، وإنه لم يعرف حقيقة ذلك الشيء إلا بمقدار، وأن مفهوم الشيء قد تبدل بتراكم أسراره، خذ مثلاً على ذلك الخلية الحية أو الذرة، فعلى ما كان يبدو من بساطة تركيبها وسذاجته عند أول المكتشفين، فهي لا تزال تراكم من العلوم والأسرار ما أقنع العلماء بأن الأسرار لانهاية لها، ولا يقتصر الأمر على الماديات، بل هو في كل الأشياء وكل الأمور.

فلا يوجد في الوجود أو في العلوم موضع لا يمكن النبش فيه عن أسرار جديدة، فالعلوم لا نهائية.وإذا كان الأمر كذلك في الوجودات المادية، والتي من طابعها الثبات، فإنه أشد تغيرا في الشأن الاجتماعي الإنساني، لأن المجتمع أظهر في الصيرورة من الكينونة، فعلمنا في الشمس وهي شبه ثابتة هو غير ثابت ويتغير بالتراكم، فكيف بعلمنا في النفس البشرية والصفات الاجتماعية، وأوجه العدالة، وهي أمور متغيرة متحولة، وإن كانت قيمها الإنسانية والتي هي مثال للصفات الربانية ثابتة. إن هذا الأمر ناتج من طبيعة علم الله سبحانه فهو لانهائي، فعلم الله في كل شيء ليس له نهاية، وما يحيط به الإنسان بالتالي لانهاية له بحسب المشيئة الإلهية، وقد رمز القرآن لهذه فقال:

" قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا " الكهف 109

هذه الصورة الرمزية تكشف لنا عن لانهائية علم الله وبالتالي لانهائية علم البشر، لأنهم إنما يحيطون من علمه بما شاء لهم. فكل حقيقة يدركها الإنسان هي دائماً قابلة للزيادة والتراكم والإضافة إلى حد يمكن أن يقال للحال السابقة عليه أنها كانت تحمل في طياتها جهلا.

هذه الحقيقة تتجلى في تتابع الرسل والكتب السماوية، وتتجلى في الأمر القرآني بالبحث والسير والتدبر والاستدلال، وتتجلى بمغريات الأسرار التي لمَّح لها القرآن داعياً لاكتشافها كمثل سير الجبال التي تُرى جامدة، وكيفية بدء الخلق، وحتى في مجال الحكم القضائي ضرب مثلاً لتطور فهم سليمان عليه السلام عن فهم داوود عليه السلام. فقال:

" وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ " (79) (سورة الأنبياء 78 - 79

وخذ على ذلك مثلا واضحا في ذهاب نظام العبودية، فلا شك أن من واجب الدين اليوم أن يؤمن بحرمة العودة لمثل هذا النظام الذي أشار هو نفسه منذ أول يوم إلى شذوذه وكراهيته وانحرافه عن الطريق السوى. وهذا يلغي من الشريعة قسما كاملا كان يخصص لأحكام العبيد والإماء والمولدين وأمهات الأولاد، من نواح متعددة في حقوقهم وعقوباتهم وميراثهم وغير ذلك. كذلك يمكن اليوم إعادة القول في حكم صلاة المسافر لما تبدلت طبيعة السفر، وفي حكم سفر المرأة والصبي وحدهما.

إن أعظم ما ينبغي علينا، أن نسقط قدسية كلّ فكرة، فنجعلها قابلة للنقاش والبحث والتطوير مهما بدا أّنها الغاية ولا شيء وراءها، لأّنه حتما هناك شيء وراءها، فالعلم ما لم يكن ضارا بالناس فهو محمود، فاهلال يثبت بشعادة الشهود بالأمس، ولكنه يثبت بالحساب اليوم، ولا يعلم ما فى الأرحام بالأمس ، ولكنه يمكن تحديد الأجنة اليوم، كل شيئ قابل للتغير مل دام الله سبحانه الذى كل يوم هو فى شأن يزيد فى إجاكة الإنسان من علمه بما شاء ولأن علمه سبحانه لا حد لع فينبغى على المسلمين أن يتجرؤوا فى البحث دون خوف من أو على أى مقدس.

اليوم ليس المعروفون اصطلاحاً بأهل السلف هم السلفيون فقط، بل الأمة كلها سلفية، تمسك كل فريق بغصن من أغصان القرون الأولى وظل عليه يرعاه ويحميه ويسقيه وينميه، ويكاثر فيه الأعداد بتوالد الأولاد بعد الأولاد حتى تحول الرأي أو المذهب إلى طائفة من المسلمين تتبعه وتأخذ بمذهبه، ومع أنه لا يقول أحد بعصمة هؤلاء، بل ولا بعصمة الصحابة، إلا أن أحدا لا يجرؤ على الخروج على ما رسموه، بعد ما تقدس في النفوس وصار ديناً بعد ما كان مجرد رأي لإنسان من صالحي المسلمين أو مفكريهم.

ليست السنة وحدها سلفية، بل كل المسلمين اليوم سلفيون، والفارق الذي كان بينهم يوم بدءوا لازال على حاله إلى حيث انتهوا، فقد طويت الأقلام وجفت الصحف، وعقمت الأمة، الشيعة هم سلفيون بامتياز أيضاً، ينقلون ما روي عن أئمتهم في القرون الثلاثة الأولى ويتوارثونه، ويتحركون فكراً وعلماً وإنتاجا في حدود ما عقلوه منه، بل قد وجد فيهم من المتشددين في السلفية كما وجد في السنة، فالمعروفون بالإخباريين القدماء يتحرجون في القول في معنى الآيات القرآنية بشيء لم يرد فيه نص عن الأئمة، ففي تفسير البرهان تراه يترك القول في كل آية لم يرد عنده فيها قول، تحرجا عن القول في الدين برأيه، وأما غير المتشددين فحالهم في السلفية لا يختلف عن نظرائهم من أهل السنة والجماعة غير المعروفين بالسلفية اصطلاحا، يبدعون ويزيدون ولكن ضمن الأصول المرسومة، وضمن اليقينيات والمسلمات المذهبية، والويل كل الويل فيما لو خرج عنها خارج، والحال هو الحال عند بقية الفرق.

http://ahl-alquran.com/arabic/show_article.php?main_id=13161