JustPaste.it

تحت الرماد .. قراءة في موانع الوحدة الشامية

الحلقة الثانية

"التكييف الفقهي المغلوط للثورة الشامية"

الحمد لله وبعد ..

 

لو رجعنا بالذاكرة لأوائل الثورة سنجد الترتيب التالي: اعتراض جماعي منظم على شكل مظاهرات، ثم هتافات تطالب بمطالب مشروعة، استمر الوضع لأشهر ثم أتت مرحلة السلاح اضطرارًا لا اختيارًا، ودفعًا للصائل على أنفس الناس، وأموالهم، أيّ ترتيب يقول غير هذا فهو مغالطة بحق التاريخ.

إذن؛ فالثورة في أصلها أمر بالمعروف، وإنكار على نظام ظالم، بدأ باللسان، وتدرج حتى بلغ الإنكار مرتبة اليد، وتحميله أكبر مما يحتمل ظلم وبغي، يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله-:

فإنكار المنكر أربع درجات
الأولى : أن يزول ويخلفه ضده .
الثانية : أن يقل وإن لم يزل بجملته
الثالثة : أن يخلفه ما هو مثله
الرابعة : أن يخلفه ما هو شر منه
فالدرجتان الأوليان مشروعتان ، والثالثة موضع اجتهاد ، والرابعة محرمة"[1]

والحاصل أن الخطاب الجهادي بالخصوص - إذا أخرجنا الدواعش من المشهد - هذا الخطاب ممثلا بتصريحات الدكتور أيمن الظواهري في القيادة العامة للقاعدة، وممثليه في الفرع الشامي، مع الخطاب التنظيري الداعم له؛ يلزم الثورة الشامية بالمرتبة الأولى فقط (أن يزول المنكر ويخلفه ضده) لا على سبيل طلب الأفضلية قدر المستطاع، بل على سبيل الحصر، ونفي مشروعية المرتبة التالية تماما، ناهيك عن الثالثة التي هي محل اجتهاد.
ونحن في هذا الصدد ننوه أن غاية الجهد مع الإخوة أن نقنعهم بالحق المشروع الذي لا مرية فيه والذي أقره سادة الأئمة رحمهم الله متمثلًا في المرتبة الثانية من تقليل المنكر وإن لم يزل بجملته، وأن السعي في التخفيف ليس خيانة ولا تنحية للوحي، بل هو صُلب تطبيق الشريعة، وأما ما كان محل اجتهاد كالثالثة فترف من القول أن يناقش .

وهذا أوان البرهنة على أن الخطاب الجهادي يغالط في تكييفه الفقهي للثورة الشامية؛ ففي شهر رجب من عام 1434هـ، نشر الدكتور أيمن الظواهري كلمة قال فيها:

"إن الجهاد في الشام –بفضل الله- يسعى لإقامة خلافة إسلامية مجاهدة، تواصل تضحياتها وعطاءها وبذلها حتى ترفع راية الإسلام والجهاد –بإذن الله وقوته- فوق قمة جبل المكبر في القدس"[2]

وقال:

"فيا أسود الإسلام في الشام؛ اجتمعوا واتحدوا وتواثقوا وتعاهدوا على ألا تلقوا سلاحكم، ولا تغادروا خنادقكم حتى تقوم في شام الرباط والجهاد دولة إسلاميّة تسعى لإعادة الخلافة، وتقيم العدل، وتجتث الفساد، وتبسط الشورى، وتسعى في تحرير فلسطين وكل شبر محتل من ديار المسلمين" [3].

وحتى تتضح الصورة؛ لا أحد ينكر وجوب استعادة الأراضي المحتلة، لكن ذلك لا يعني أن تتحمل الثورة عمل أمّة ضخم كهذا.
وأما مسألة نفي المرتبة الثانية تماما وحصرهم لتغيير المنكر بالمرتبة الأولى فمشتهر مستفيض بلسان المقال والحال، ونحن نذكر ردود فعل الخطاب الجهادي الغاضبة –بل والمكفرة عند بعضهم- لميثاق الشرف الثوري، مع أن المطّلعين على كواليسه يعلمون سبب وروده –ولكم أن تسألوا قادة الأحرار مثلًا-، وكيف أنه أنقذ مفاهيم شرعيّة كادت تنتهك من بعض الفصائل الأخرى، فجرى التخفيف بمثل هذا، وستجد موجة الغضب منصبّة على عبارات "سورنة" الثورة، وجعل هدفها قُطريًا في هذه المرحلة، مع أن ذلك غاية الوسع، وفيه من مصالح التخفيف من شر رافضي نُصيري أعم وأنكى، لكن هذا التكييف يُرفَض تمامًا، ويأبون إلا تحميل ثورة شعب مسؤولية أمة بكاملها، وإعادة خلافة ضاعت من جميع أطراف الأمة بالتساوي، ومحو حدود ترسخت منذ أزيد من قرن، وهذا التكييف المغلوط مبني على الحصر في تغيير المنكر بضده ونقيضه؛ فحكم النصيري لا يقابله في الضفة الأخرى إلا خلافة راشدة، والحديث عن دولة وطنية محصورة بحدود سايكس بيكو هو ضرب من بيع دماء الشهداء !

والكارثة العظمى عند الإخوة المخونين أن ثمة لوزام تلزم من مشروع الدولة الوطنية أهمها منع حملات الجهاد العالمي من الانطلاق من الشام؛ فالمنع يستلزم تقييد حرية "المهاجر" في فعل ما يشاء كما يشاء دون التفكير بعواقب فعله على الدولة التي تحتويه، وتقييد حرية المهاجر ومنعه من جعل أرض المستضعفين مسرحا للصراعات =بيع لقضية المهاجرين .
وهكذا تُركّب متوالية النتائج الفاسدة لمشروع الوطنيين الخونة -بالضرورة- في مآل حالهم ! .
أما تنظيم القاعدة –مثلًا- فلا يكون بحال خائنًا لشرط اللجوء والمقام حين يجلب أعتى قوى الكفر للانتقام منه بعد عملية خاطفة انطلقت من أرض مستضيفيه !
بل يفرح الإخوة بذلك جذلين ويعترفون به؛ فيما يعرف بثقافة (الاستدراج )، حتى صار من دلائل العبقرية الحركية أن تجلب الأمريكان لبلاد المسلمين وتقاتلهم على أرضك بدل أرضهم ،وغاية الأدلة الواردة في هذا التقعيد الكبير الخطير، الذي يحتاج أن يقوم له أولو العزم من أهل العلم : كلمة ألقاها الشيخ أسامة بن لادن ذات لقاء، فصارت دليلًا يحتج به، وعلى الأمة التسليم دون شك أو تساؤل أو رد أو طلب حساب .

والعجيب فعلًا؛ أن يظنّ الخطاب الجهادي بممثليه حتى الآن أن استدراج الأمريكان لقتالهم في أرضنا كان فتحًا ونصرًا وحنكة؛ ففي لقاء صحفي قناة الجزيرة أحمد منصور مع أبي محمد الجولاني جرى الحوار التالي:

"أحمد منصور: يعني أسامة بن لادن حينما خطط لأحداث 11 سبتمبر كان هدفه أن يأتي بالأمريكان لأفغانستان؟

أبو محمد الجولاني: نعم كان عدة أهداف، ومنها أن يستجره لحرب برية، ثم بعد ذلك عندما أتى الأمريكان وفي نفس الوقت تزامن مع هذا الأمر دخول الأمريكان إلى العراق، فظهرت لهم القاعدة هناك على حين فجاءة يعني طيلة دراسات قاموا بها الأمريكان"

"أحمد منصور: يعني أسامة بن لادن جر الأمريكان إلى المنطقة وأنهك الولايات المتحدة الأمريكية وأعادها يعني مئة سنة إلى الوراء كما تقول بعض التقارير؟

أبو محمد الجولاني: نعم نعم نعم"[4]

نعم؛ أعلم أن النظام العالمي أساس مصائب الأمة، وأن أمريكا شيطان العالم، وقائدة الصليبية الجديدة، وأن الرأسمالية تنهشنا، وأن الحدود القُطرية تتنافى مع مفاهيم شرعية أولية؛ كل هذا ليس محل الخلاف، المشكلة في استباق المراحل، وتحميل الثوار في سوريا مشاريع تنوء بحملها أمة، مما يؤدي إلى استنزافها، وتشتيت أهدافها.

ثم لو تحدثنا بصراحة أكبر؛ هل هذا هو طريق تحقيق هذه الأهداف الكبرى التي ستغير مجرى الكون؟ لقد اعتادت الجماعات أن تعمل دون أن تدفع فاتورة حساب النتائج، فالقصف الذي تخلفه الاجتهادات المغلوطة يقع على رؤوس الضعفة والعجائز والأطفال والنساء قبل غيرهم، هؤلاء الذي يسميهم البعض "صنم الحاضنة"، فهاتوا جردًا للمراحل التي مضت؛ أليست مرحلة النكاية والجهاد الشامل عندكم بدأت بالحادي عشر من سبتمبر؟ أعتقد أن عقدًا ونصف كافية لنرى الأثر والمصالح، أريد أن أفهم صدقًا؛ هل كان سقوط إمارة طالبان خيرًا ونحن نعلم أنها عارضت الضربات وأعلنت براءتها؟ .


كلنا نعلم أن أمريكا رأس الظلم، وأن تخطئة هذه الاجتهادات لا يخفف بشاعة المظالم الأمريكية، لكني أتساءل عن جدوى مرحلة الاستدراج تلك، فمن حق الأمة -التي دفعت ثمن ردة الفعل- رؤية هذه المصالح التي كانوا يُسكتون بها خصومهم، ما فائدة هذا الاستنزاف والتجارب؛ أم أن التساؤل في هذه المسائل خط أحمر؟ أما الرد بأن الوضع سيء أصلًا، وأن أمريكا لن ترضى أو أنها عازمة على هذا من قبل؛ فسأبين تهافت هذه المغالطة بالدليل والتفصيل عند الحديث عن "فك الارتباط" في مقالة قادمة بإذن الله في هذه السلسلة.

ثم إن التفريق بين جهاد الطلب الشامل وبين جهاد دفع الصائل معلوم في الشريعة؛ فمثلًا: ذمّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين من قاتل للمال في جهاد الطلب الشامل، بينما جعل القتال للدفاع عن المال شهادة عند دفع الصائل، وغالب المنظرين يلبّسون بالخلط بين المقامين، فيجعلون راية من يدافع من الثوارعن ماله، وعرضه، وحرّيته الشرعيّة راية جاهلية !
فانظر كيف اختلفت الأحكام جذريا بين جهاد الطلب وجهاد دفع الصائل 
فكان القتال لأجل المال راية عمية
بينما كان القتال دون المال شهادة 
ووسع نتائج هذا الاختلاف لتظهر لك مفاسد صنيع من يجعل القتال لحفظ الدين والعرض والنفس والمال من بطش الباطنية : قتالا لأجل تحطيم سايكس بيكو وضرب الأمريكان واليهود وإقامة الخلافة .

إذن؛ فإقرار الدولة القُطريّة يترتب عليه رفض محكمات حركية جهادية كما أسلفنا فأقلمة ثورة شعب يقابله رفض الخلافة و الحجر على تصرفات المهاجرين يعني رفض تبني قضيتهم، وحصر الجهاد في الداخل يقابله رفض قانون الاستدراج مما يعني التقاعس عن جهاد الأمريكان !
ولا يمكن للخطاب الجهادي رؤية الدولة القُطريّة في سياق تكييف الوضع بمنكر يقل (دولة صفوية تزول) وإن لم يزل بجملته .
إن ذلك لا يرضي الخطاب الجهادي المحدد بثوابت حركيّة، تطالب تمثلاته بعض المتحالفين في أرض المعركة بتوضيح موقفهم من الدول الطاغوتية القابعة وراء الحدود، والمشاريع الأخرى قبل مواصلة قتال النصيري معهم القابع أمام ناظريهم كما فعلت ذلك جماعة جند الأقصى مثلًا[5]، في مهازل فكرية تتمثل واقعا يندى له جبين المؤمن الذي يرى رأس المال يضيع على أرض المعركة بانسحاب من تشكيل فصائلي لعيون معارك منهجية ورقية
والأمثلة من واقع الثورة الشامية أكثر من هذا، ليس أولها: عدم اندماج النصرة في مشروع الجبهة الإسلامية، فهو نظير انسحاب الجند من جيش الفتح، والباعث الفكري لهذين الفعلين : واحد وإن اختلفا .

وأنا أعلم أن اعتراضًا قد يرد من الإخوة؛ وهو أن الدكتور الظواهري أمر بألا تكون الشام منصة لعمليات خارجية، وهذا الأمر لا وزن له في عالم الحقائق، وهو أشبه ما يكون بالمكياج الحركي لتحسين الصورة، فكيف يكون هذا الأمر حقيقة مع التلازم بالدعوة لنقيضه؛ وهو إقامة نظام على كواهل السوريين يعيد الخلافة ويفتح القدس ويحرر كل شبر محتل ويكسر النظام العالمي . كيف يمكن إقامة هذا النظام التوسعي الشامل مع الالتزام بالعمل داخل الحدود القُطرية لسوريا والبعد عن العمليات الخارجية ! هل سيتم فتح بلاد المسلمين عن بعد ؟
أم بانطلاق نظام لا قطري من داخل الشام كما يدعو الدكتور !
ثم إن هذا الكلام يحمل بذور نقضه داخله؛ فإذا كان الالتزام بالحدود القطرية محرما فكيف تلتزمون بها هنا وتزعمون أن الدكتور يمنع العمليات الخارجية المنطلقة من الشام، أليست هذه "سورنة" للعمليات ! 
ولكنه: حلال على بلابل الدكتور الدوح وحرام على طير الفصائل من كل جنس ! 
مع أني أعلم القيمة الهامشية لمثل هذه التصريحات على أرض الواقع الفكري الشمولي التوسعي للخطاب الجهادي.


توارد الأمثلة في النازلة الشامية لأغلوطات التكييف الفقهي للثورة صالح لدراسة مستقلة، غير أني سأعرج لمامًا بمثال أختم به ما سبق لعنوان رنان في أدبيات الخطاب الجهادي، ألا وهو قصة تطبيق الحدود وعلاقته بالتكييف الفقهي المغلوط للثورة .

قصة الحدود:

يظهر أثر التكييف المغلوط للثورة في مسألة المزايدة على من رجح تأخير إقامة الحدود، ولمزهم بأنهم لا يحكمون الشريعة، وهذه المزايدة تظهر مرتبتين من الإشكالات:
المرتبة الأولى: جعل تحكيم الشريعة مقصورًا على تطبيق الحدود، وهذا التركيز على الحدود قبل استيفاء شروطه له خلفيّة تاريخية؛ فحين جثمت القوانين المنحّية للوحي كان تعطيل الحدود الصفة الأبرز لها، فتواردت ردود العلماء لرد عادية هذا التبديل، وطفقوا يذكرون أن هذه الحدود من محكمات الشريعة، وهذا حق, ثم أتى جيل تربّى على تلك الكتب التي ركّزت عدسة تحكيم الشريعة على مسألة الحدود، بحكم الظرف الفكري، فتسرّب قَصْر هذا المفهوم الكبير على شُعبة دون الباقي، وانتقلت المسألة من مستوى "الرد" إلى مستوى "التقرير"، وصار تحكيم الشريعة عند بعض الجماعات يعني تطبيق الحدود، دون بقية المعاني العظيمة التي يشملها معنى الشريعة؛ وما عليك إلا أن تكتب في محرك بحث تويتر –مثلًا- جملة "تحكيم الشريعة"، ولن تجد مثلًا صورًا لمخابز إطعام، أو خيام إيواء، وهي من الشريعة قطعًا؛ بل ستجد صور الحدود، التي لا أنكر أنها جزء من الشريعة، لكنها ليست كل الشريعة .

المرتبة الثانية:

أن الاجتهاد برفع الحدود مؤقتًا ليس معيبًا، بل هو الحق إن شاء الله، وبناء المسألة على أننا في دار إسلام مجانب للصواب، بل ولسنا في دار حرب، نحن في دار متعددة الأوجه أقرب ما تكون بالدار المركبة التي فصّل أحكامها العبقري ابن تيمية في "الماردينية".

ثم إننا أمام نازلة جديدة؛ فالأمة منذ فجر النبوة اعتادت الحدود الشرعيّة، ولم ترفع إلا قريبًا، لذلك فإن تقريرات الفقهاء في هذه المسألة كانت تدور حول تأخير الحد لحين عودة الجيش للبلد، حيث تقام الحدود بسلاسة، ومما يجب استحضاره هُنا أن كفاءة القضاة –بالعموم- ليست بمستوى يبرئ الذمة للحكم في الديانات والدماء والأموال والأعراض، وأن غاية المؤهلات عند كثير منهم دورة شرعية خاطفة، مع ما يكللهم من تاج "المنهج"، بينما يستبعد طلاب علم أكفاء من أهل البلد بحجج الاختلاف حول مسائل دقيقة؛ كالأسماء والصفات و تفاصيل فقه الإيمان.

لذا؛ فالاستدلال لتأخير الحدود يكون بستة أنواع من الأدلة:

النوع الأول: أدلة جواز تأخير الحد في الغزو، وعمدتها ما رواه الترمذي والدارمي وأحمد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال" لا تُقطع الأيدي في الغزو"[6]، ومما ذُكر في تعليل ذلك أن ذلك لمصلحة إبقائه واحتوائه، وخوفًا من لحاقه بالعدو؛ كما قاله عمر وأبو الدرداء وحذيفة وغيرهم، وقد نص أحمد وإسحاق والأوزاعي وغيرهم على ذلك، ولو طردنا نفس العلة؛ فخوف لحاق الأمة بمشاريع حداثية –مثلًا- يجعل التأخير متسقًا فقهيًا.

النوع الثاني: ما نصّ عليه بعض الفقهاء من جواز تأخير الحد لعارض كالبرد والرضاع وغيره, قال ابن القيم –رحمه الله- :

"
وأكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة راجحة إما من حاجة المسلمين إليه أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار وتأخير الحد لعارض أمر وردت به الشريعة كما يؤخر عن الحامل والمرضع وعن وقت الحر والبرد والمرض فهذا تأخير لمصلحة المحدود فتأخيره لمصلحة الإسلام أولى"[7]

النوع الثالث: آثار درء الحدود بالشبهة، ومن ذلك ما رُوي في مصنف ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قوله : "ادرؤوا القتل والجلد عن المسلمين ما استطعتم" وبوب به " في درء الحدود بالشبهات"[8]

النوع الرابع: ما رُوي عن عمر في إسقاط الحد عام المجاعة، وقد انتصر ابن القيّم في "إعلام الموقعين"[9] لهذا، وأتى بآثار وأقيسة وتعليلات، ولا يحسن بأحد أن يقول أنه رضي الله عنه عطل تحكيم الشريعة، بل كان تحكيم الشريعة في رفع الحد آنذاك .

 

النوع الخامس: عموم أدلة أن التكليف منوط بالاستطاعة، ومنها قوله تعالى "فاتقوا الله ما استطعتم"، وأن الاستطاعة معنى أكبر من مجرد القدرة على الاتيان بالفعل، بل يعني القدرة على احتواء آثاره، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمر بالأصنام أيام مكة، ولم يحطمها مع أن القدرة الجسدية وافرة عنده صلى الله وعليه وآله وسلم، لكنه أخر ذلك حتى بلغ حد الاستطاعة التي تعني القدرة على الفعل، واحتواء آثاره.

 
النوع السادس: ما ورد عن الفقهاء من التعزير بالمال عند تعذر إقامة الحد، وضمان السرقة لمن سرق في دار الحرب، ومن ذلك :
قول الكاساني :

"
وكذلك لو كان أميرا على سرية، أو أمير جيش وزنا رجل منهم ، أو سرق ، أو شرب الخمر ، أو قتل مسلما خطأ أو عمدا ، لم يأخذه الأمير بشيء من ذلك ; لأن الإمام ما فوض إليه إقامة الحدود والقصاص ; لعلمه أنه لا يقدر على إقامتها في دار الحرب ، إلا أنه يضمنه السرقة إن كان استهلكها ويضمنه الدية في باب القتل ; لأنه يقدر على استيفاء ضمان المال"[10]


 
ومنه ما نقله التسولي عن الشيخ ميّارة من المالكية :

"
إذا تعذرت إقامة الحدود، ولم تبلغها الاستطاعة، وكانت الاستطاعة تبلغ إلى إيقاع تعزير يزدجر به: تنزلت أسباب الحدود منزلة أسباب التعزيرات، فيجري فيها ما هو معلوم في التعزير"[11]

وهذا لا يعني ترك العقوبة، لكن تقدّر بقدر ما يردع المفسد، ويحفظ مصالح الناس في دينهم، ودنياهم.

وقبل أن أضع القلم لأدخل في موضوع آخر؛ أقولها مرةً وهي ما أدين الله به :

ستخسر الأمة كل خطوة إصلاحية إذا استمرّ هذا التكييف المغلوط، فالثورة جهادٌ من جهة معانيه ككلمة الحق عند سلطان جائر كافر، والقتال لحفظ الدين، والعرض، والمال، والانتصار بعد الظلم، وفكاك المظلومين من أقبية النظام؛ وغيرها من المعاني الشرعية التي تواترت النصوص على اعتبارها مقاصد شرعية، لكنها ليست جهادًا شاملًا لإزاحة النظام العالمي، وتفكيك الرأسمالية المتوحشة، ومسح حدود سايكس وبيكو.
إن أسوأ ما يمكن أن يسربه إعلام بعض الجماعات التدليس بالثنائيات؛ فكل نقد أو تساؤل لهم يعني أنك تقف في صف الأنظمة أو أمريكا، وعليك أن تقسم ألف مرة إنك نظيف اليد من مصافحة الظلمة، عفّ القلب من موالاتهم، ثم تقسم إن الهروب من النقد بهذه الطريقة ليست عذرًا شرعيًا عند من يريد النجاة يوم القيامة.

وللحديث بقية بإذن الله

 

بدر بن مرعي الثوعي

4 / 5 / 1437هـ

 

 

[1] "إعلام الموقعين" : ( 4 / 339) ط. مشهور

[2] الكلمة بعنوان: ( خمسة وستون عامًا على قيام دولة الاحتلال إسرائيل) نشرتها مؤسسة السحاب.

[3] الكلمة السابقة .

[4] بث اللقاء في شهر شعبان عام 1436هـ

[5] بيان "جند الأقصى" نشر في التاسع من محرم عام 1437هـ

[6] الترمذي (1450)، مسند أحمد(4/181)، الدارمي(2492)، وعند النسائي بلفظ "في السفر" (4979)

[7] "إعلام الموقعين" : ( 4 / 345)، وقد شيد الشيخ بكر أبو زيد فصلًا حافلًا لمذهب ابن القيم وأدلته  وموازنتها مع أقوال الفقهاء في " الحدود والتعزيرات عند ابن القيم" ص 38 وما بعدها.

[8] ( 6 / 515)

[9] ( 4 / 350 – 352)

[10] بدائع الصنائع ( 9 / 520) طبعة دار الكتب العلميّة

[11] أجوبة التسولي عن أسئلة الأمير عبدالقادر في الجهاد ص 153. ط. دار الغرب الإسلامي.