JustPaste.it

تحت الرماد .. قراءة في موانع الوحدة الشامية "المقدمات الأساسية" الحلقة الأولى

 


الحمد لله وبعد ..
فقد خرجت قبل أيام مبادرات تدعو للوحدة الكاملة والاندماج، وأبدئ القول فيها وأعيد؛ حتى خرج الخلاف عن مستواه المقبول، وتعالت الأصوات، واحتدت اللغة، ولم نفق إلا عن مصائب في حلب والساحل، وسنة الله التي لا تخلف أن التنازع بوابة الفشل، وذهاب الريح.
وفي هذه الأيام بإذن الله؛ سأحاول بهدوء مناقشة موانع الوحدة المأمولة، بعيدا عما تضج به الساحة من طعونات وتحريش، وإذا اتفق الرأي مع بعض من تبغض فلا يحملنك ذلك على رده إن كان حقا؛ فالإمام ابن القيم -رحمه الله- قرر أثر الباعث في كلمات الناصح، وأن الاشتراك اللفظي مع مبطل لا يجعل الكلام باطلا؛ فقال:
  "والكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهما أعظم الباطل ويريد بها الآخر محض الحق والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عليه"[1]

وقد صار بيّنًا أن الناس ترد النصح لسوء الأسلوب أكثر من ردها لمعارضتها للمضمون، وأن الناصح المحب المشفق أحق بالقبول من ذلك المناكف المغالب؛ وهذا ما حدا بالإمام الغزالي للقول أن " أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهّال أهل الحق ، أظهروا الحق في معرض التحدي والإدْلال ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء ، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة ، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها"[2]

وأنا موقن أن أوّل موانع الوحدة آتٍ من ضعف تصوّر الأقوال على وجهها، فهذه الجماعات شكّلت نسَقًا،فكريًا له مصطلحاته، ومناطاته، وبناءاته الاستدلالية، وأدواته الحجاجية؛ التي قد يستعصي فهمها على من اقتات مادّته من موائد المستشرقين، فالحقيقة –هنا- لاترى بأعينٍ زرقاء مستشرقة، ولا بعدسات مقلدة مستزرقة، وقد أشار ابن الوزير اليماني –رحمه الله- لمسلك أمثال هؤلاء ممن يلزم خصمه ويحمله وزر قراءته الرغبوية؛ فقال: "من مذاهب النُّقاد في نقضِ كلامِ الخُصُوم: أن يحكوا مذاهبَهم بالمعنى، وفي هذا المذهب شَوبٌ مِن الظلم، لأن الخصمَ قد اختار له لفظاً، وحرَّرَ لدَليلهِ عبارةً ارتضاها لبيان مقصدِهِ، وانتقاها لكيفيةِ استدلاله، وتراكيبُ الكلامِ متفاوتة، ومراتبُ الصِّيغ متباينة، والألفاظُ معاني المعاني، والتراكيبُ مراكيبُ المتناظرين، وما يرْضى المبارزُ لِلطِّرادِ بغير جواده، ولا يرضى الرافعُ للبناء بغيرِ أساسه، مع أن قطعَ الأعذارِ من أعظمِ مقاصدِ النُّظَار"[3]هذا فيمن غيّر اللفظ, فكيف بمن يلزم بما لا يلزم، وقد أمطرت الساحة بتحليلات مغلوطة، تتقفى أثر المراكز الغربية، وتنتقي منها ما يدعم فكرته العالقة في ذهنه، في ممارسة رغبوية مجحفة، وقد كنت أفهم أن يأتي غربي ليخطئ في فهم مناط فقهي هنا، وتركيب هناك؛ حتى رأيت من أبناء جلدتنا من رددوا تعميماتهم السطحية، واستعاروا أدواتهم التحليلية البائسة، وصارت التهم المعلبة ذاتها تكرر بلسان عربي مبين.

وقوام الوعي بهذا النظام الفكري يتأتى بمتابعة منصاتهم الإعلامية قديمًا وحديثًا، ثم بالتحليل والربط؛ أما المعايشة فشرط كمال لفهم محركات الأفكار عنهم، فإن تيسّر فيا حسنه؛ فليس بالقراءة وحدها يفهم الإنسان، وفي طرف الجماعات نجد ضعف التصور لمفاهيم أكثر تركيبيّة كالديمقراطية والعلمانية والحداثة؛ مما جعل الخلافات تستعر بلا توقّف، والتهم تسري بالجملة, بعيدًا عن التحرير والإنصاف.

ثمة أمر يهمّ استحضاره؛ وهو أن معالجة الشأن الفكري يكون باعتبار الحال لا المفترض الخيالي، فمن ترف القول أن يأتي من يطالب بإلغاء فكرة الجماعات كلها الآن مرة واحدة، دون مراعاة لسياق الحال، وظروف الحرب القائمة، واشتدادها، بل من الظّلم أن نحمّل هذه الجماعات آثار أغلاطٍ أُنتجت عبر عقود، بعوامل جغرافيّة، وسياسيّة، واجتماعية، ونفسيّة، وثقافية,،فالظواهر المركّبة لا تناط بسبب واحد.

وفي هذا الباب أنوّه إلى أن نقد صنيع جماعة ما لا يعني تزكية خصومها بالضرورة من النظم السياسية، فليست الدنيا قائمة على لونين؛ ففيها ألوان أخرى،ثم إن الحق حق بذاته،لا باعتبار مسافة الخصوم منه، وهذه قاعدة مهمة.

 

*النشأة الأولى:

تواتر صنيع العقلاء على أن اكتشاف النبع خيرٌ من تتبع السواقي، وفي عالم الأفكار تشكّل بعض اللحظات معينًا ثرًا يغدق التاريخ بأحداث متوالدة، ولست أريد في هذا المقام تقديم سردٍ تاريخي لنشأة الجماعات، لكني أحب أن يكون أن قارئ هذه السلسلة على بالٍ من خيطين تاريخيين، كوّنا –لاحقًا- النواة الصلبة لمعظم التساؤلات الفكرية في ساحة ثورتنا السوريّة.

الأول:
إدخال القانون الفرنسي إلى بلاد المسلمين، وهيمنته التدريجية على النظام القضائي، وما تمّ من إقصاء الحدود والتعزيرات الشرعية –تحديدًا-، وقد حصل الأمر على فترات متباعدة، وأنا أؤمن أن تأريخ "الحالة" يختلف عن تأريخ "الحدث"؛ فالحالة –مثل تغيير نظام الاحتكام- تؤرخ بالحقب التقريبية، بينما تؤرخ الأحداث بسنة محددة، لكن البوادر يمكن أن ترصد من عام 1718م؛ بالمشروع الذي قدمه ضابط فرنسي للسلطان أحمد الثالث، ثم توالت إرهاصات هذه الحالة.

الثاني:

ما سمّاها دافيد فرومكين في كتابه الجاد المهم "سلام ما بعده سلام" بتسوية عام 1922م، حيث جرت قسمة التركة العثمانية، ورُسمت حدودٌ قُطريّة، ثم ما لبثت السلطنة أن سقطت رسميًا بعد عامين، مما شكّل فراغًا في الهويّة عند المسلمين آنذاك، حاولت تعويضه جزئيًا بإنشاء جماعات تنادي بإعادة الهوية الأممية، ونبذ القُطرية والحدود الحديثة، وفكرة البديل الهوياتي هي علة قيام الجماعات، والتي قام أولها - جماعة الإخوان المسلمين- رسميًا بعد أربعة أعوام من موت السلطنة، وذلك في مارس عام 1928م.

هذان الخيطان التاريخيان سيرافقاننا ذهنيًا خلال هذه السلسلة، ومنه أدلف بإذن الله في المقالة القادمة إلى أول الموانع وهو:

"التكييف الفقهي المغلوط للثورة السورية وآثاره"

 

[1] "المدارج" : 3/521

[2] نقلها عنه الشاطبي في "الاعتصام": 1/ 494.

[3] " 1 / 237 – 238" طبعة الأرناؤوط، وقد نقل أبو الحسين العمراني ( ت 558هـ) : من لم يطلع على دلائل خصمه لم يقدر على قطعه وقصمه "الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار" (1/ 90)