JustPaste.it

file12.png 

لحظات مع القرآن/ب/٦


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد
ففي خاتمة ذكر المجادلين بالباطل في سورة غافر قال تعالى( ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون)
وهذا يدل على استقرار أيات الله تعالى ، وأنها صارت في أس وضعها غير متهمة ولا منفية، بل هي قضية ثابتة، فجاء إليها هؤلاء على غير طريق نفي صحتها، ولا مصدرها، بل جاؤوا إليها لصرفها عن حقيقتها، فقال تعالى( أنى يصرفون) والصرف لفظ في اللغة يدل على التغيير والتبديل، فانصراف المرء من مكانه يعني أنه غيره، وصرف المرء لماله يعني تبديله وتغييره،ومنه أخذ صرف الدنانير،ويشتق منه عمل معنوي كقوله( صرف الله قلوبهم) أي أبعدها عن الحق، أو غير ما فيها من الحق للباطل، وكذلك يقال صرف الحديث أي تزيينه، وهو تغيير له من حال إلى حال اجود وأحسن،وكذلك قوله: لا يقبل منه صرف، أي بدل، أو عمل مادي، ومنه صرف الدراهم والنقود، فهذان معنيان في الآية، أولهما ابعادهم عن الحق ، وهذا بعد وضوحه لهم، وثانيهما هو تغييرهم وتبديلهم الحق، تصرفاً فيه من أن يكون على الوجه الذي أنزل عليه، وهذا إنما يكون بعد ثبوت أصله.
وهذا الفعل وصف حكمه في الآية التالية في قوله تعالى( الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون)
وفي هذه الآية بيان رباني أن من ترك الحق فلا بد أن يؤتى الجدال بالباطل، فهو لن يسكت، ولن ينقطع، بل سيبقى في الميدان زاعماً أنه يملك الحجة والبرهان، وأهل الباطل على الدوام لا تعدم لهم شبهة، ولا تنتهي مناوشتهم وهوشاتهم، ومن الغلط الإنشغال بهم، لأن في هذا اهانة للحق، فالمطلوب هو بيان الحق والرد على أصول الأقوال، وأصول أدلتها، أما الذهاب مع المجادلين كل مقال ومذهب، فهذه ليست طريقة القرآن الكريم.
ومن تأمل سياق هذه الآية وجدها بعد قوله تعالى( هو الذي يحيي ويميت، فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون)، ذلك ليعلم المؤمن بالقرآن أن القدر الإلهي ليس مردوداً بالكلمات التي يجادل بها أهل الباطل، فلن تبقى كلماتهم إلا مجرد كلمات وفقط، وأما الفعل القدري فليس مربوطاً بها، كما قال تعالى( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب)، فكل كلمات الناس وصراخهم وسبهم وتصريفهم للكلام، إن حسناً أو قبحاً لن تستطيع دفع العاصفة القادمة، ذلك لأن البعض يظن أن قدر الله مربوط بكلمات الكافرين إن هددوا أو أملّوا غيرهم، وهذا ما يظنه الطغاة أنفسهم من أنفسهم، فتأتي هذه الآيات لتقول: الكلمات والصراخ والتزيين وتصريف القول، وكذا اختياراتكم في آمالكم واعتقادتكم لا تغير قدر الله تعالى، ولا تقدر على دفعه، فالحق هو الوجود في عالم الغيب، فنفيكم لوحدانية الرب لا يعني أنها نفيت الربوبية، ونفيكم للبعث لا يعني أن البعث قد نفي، فهذه مجرد كلمات وهم ، وهذه قيمتها، وأما الحقائق فهي بيد الله تعالى( فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) فكلمات الله فقط هي التي تصنع الأقدار، فهي الحقيقة دون غيرها.
هؤلاء الواهمون يعيشون حالة وصفها الله تعالى بقوله عقب ذلك( كذلك يضل الكافرين، ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق، وبما كنتم تمرحون)
هذه هي الحياة التي يصنعها الوهم، ويصنعها الجهل بعالم الحقائق، فهم بهذا الوهم الذي ظن أنه يملك شيئا، ومستند لعظيم حقيقي، وهذا في قوله تعالى على لسانهم( بل لم نكن ندعو من قبل شيئا) فما هو إلا وهم، لكنهم في الدنيا ظنوه شيئا،واليوم يعلم أنه ليس بشيء،ذلك لخلوه عما اعتقدوه فيه، ومن كان ظانا أن كلماته تصنع الحياة فهو فرح بغير الحق، وهو بعد ذلك يعيش الفرح في حياته.
وفتح هذه الآية بقوله( ألم تر) لتعلم أن هذه حقيقة يعلمها النبي ممن جادله، وهي حقيقة يعلمها كل من قام بالحق بين الناس، فإنه سيرى ولا شك هذه الصورة من الجدال بالباطل، فما عليه إلا الصبر كما قال بعدها( فاصبر إن وعد الله حق)
اضاءة:
لصاحب نظم الدرر لفتة علمية غالية في استدراك الكافرين في قوله تعالى(قالوا ضل عنّا، بل لم نكن ندعو من قبل شيئاً)
قال رحمه الله تعالى: ولما رأوا أن صدقهم قد أوجب اعترافهم بالشرك، دعتهم رداءة المكر ورذالة الطباع إلى الكذب، فاسترسلوا معها فبادروا إلى أن أظهروا الغلظ فقالوا ملبسين على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ظانين أن ذلك ينفعهم كما كان ينفعهم عند المؤمنين في دار الدنيا:( بل لم نكن ندعو شيئاً)اي لم يكن ذلك من طباعنا.
هذا الذي قاله الشيخ وجها من وجوه تفسيرها، ولفائدة ما فيها ذكر هنا.
والله الموفق

الشيخ عمر محمود أبو عمر

للعودة للفهرس