JustPaste.it

file12.png 

 

لحظات مع القرآن/ب/٥


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد
والموطن الرابع من ذكر الجدال بالباطل من قبل الصادين عن القرآن وما أتى به الأنبياء في سورة المؤمن( غافر) هو قوله تعالى( الذي يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه، فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير).
تقدم صدر هذه الآية في الموطن الثالث من هذا الجدال المذموم، لكنها كان التالي له قوله تعالى( كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا) فهو بيان لحال هذا الجدال في نفس أهل الحق، وهم من ينبغي الإعتناء بهم، ويكفي لبطلان هذا الجدال ما يكون في نفوس أهل الحق له من كراهة وإعراض عنه، والآن في هذه الآية كات التالي له قوله تعلى( إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه) وهذا وصف لحال المجادل، وهو زائد عن قوله تعالى عن نفوسهم( لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم) وعلة هذا المقت الكامن في نفوسهم لنفوسهم هو المذكور هنا( إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه) ذلك لأن الكبر ابتداءً هو خلاف الفطرة البشرية، فالفطرة هذه مركبة على الفقر، وهو لا يتلاءم قط مع الكبر، إذ مدار الكبر على الإمتلاء والإستغناء، والنفس تعلم حالها من الفقر الذاتي الذي لا ينفك عنها، ولذلك يحصل مقت المتكبر لنفسه لتضاد حقيقته مع ما يريده ويحمل نفسه عليه من الكبر الباطل، ولذلك يقول تعالى( ما هم ببالغيه) فهذا كبر لا يمكن الوصول لحقيقته ولا لموجبه في نفس الخلق المركبين هلى الفقر والضعف والحاجة، ومن كانت هذه حقيقته وأصل خلقته فكيف له أن يستوي أمره حتى يصبح غنياً كاملاً، وبهذا الغنى يحق له الكبر في الوجود!
هذا لا يكون أبداً، ولذلك هو يعاني الوصول ولا وصول، ويعاني التسلق على مقصد الوهم ليبلغه وما هو ببالغه، ومن كان هذا شأنه فهو في خال اضطراب وقلق، وتعب ونصب.
ثم إن من كان هذا شأنه فهو شيطان خبيث، يحاول جهده تلدخول في صورة الرب الذي يعطي ويمنع، ويحيي ويميت كما هو شأن من قال لإبراهيم الخليل عليه السلام( أنا أحيي وأميت)، وهذا هو أساس الطغيان والظلم والعلو بالفساد في الأرض، ومن كان هذا شأنه فإن الناس معه مذالبون بقول( فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير)، ولذلك ذكر الحصن الذي يمتنع به العبد من هذا المجادل المتكبر، وهذا قد فعله موسى عليه السلام مع فرعون كما في هذه السورة، فإن فرعون لما قال( ذروني اقتل موسى وليدع ربه) قال موسى عليه السلام( إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) فتأمل استعاذته عليه السلام من هذا المتكبر الذي قال فيه ربنا في الآية هذه( إن في صدورهم إلا كبر) ثم هي تحض على الإستعاذ، وموسى يستعيذ امتثالاً لأمر الله في هذه المواطن.
والشأن هنا فيمن هذه صفته أن يعرض المرء عن جدال هؤلاء، فإنه لا يتصور أن يستعيذ بالله منه ثم هو ينشيء معه حواراً يقوم على البينة والدليل، فمثل هؤلاء يتحدثون بأوهامهم أنهم أغنياء، وأنهم ملوك، وأنهم أرباب للناس من دون الله تعالى، فكيف يقال للعالم ناظرهم، او أقم عليهم الحجة بقطع ادلتهم التي يحتجون بها!؟
ومما تقدم قبل هذه الأية هذه الآيات فتأملها جيداً لتعينك على ما نحن فيه.
يقول تعالى( ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني اسرائيل الكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب)
فهذه عدة المناظر بالحق، وهي عدة الباحث عنه كذلك، وهي مصادر الحق الذي ينشده كل صادق، واختصاص موسى بالهدى يعني أنه أوتي حكمة العمل بالكتاب، وحكمة سلوك الدعوة إليه، والذهاب في أودية الحق المؤدية لشرح الكتاب، فهذا هدى زايد عن الكتاب، وهو يعني أن الناس قد يكون عندهم الكتاب ولا يكون عندهم هدي العمل به، وهذا نقص فيهم، فإن من تمام الخير حصول الكتاب وهداية طريق العمل به، ومن دلك بعد ذلك حمل النفس على العمل بعد ادراك الحق،ثم تتوجه الآية النالية في الخطاب لرسولنا ليبلغ هذا المبلغ في الحق والهدى فيه فيقول تعالى(فاصبر إن وعد الله حق، واستغفر لذنبك وسلح بحمد ربك بالعشي والإبكار) فهذه حكمة القرآن لا يعرفها إلا أهله، وهي أن الحكمة والهدى في القلوب والإرادات لا مبعث لها فقط البينة العقلية، بل لا بد من جلاء الإرادات بأنوار الحق والصفاء بالقرب من الاه، وسبيل ذلك ما قالته هذه الآية بوضوح وجلاء( فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار،) فهذه هو سبيل ترك الطغيان المانع من هداية القلوب، وهذا هو سبيل ترك الكبر الذي يدفع للجدال بالباطل، وهو استعادتك لإنسانيك الضعيفة أمام الله، واستعادتك لفطرتك أنك عبد لله تعالى، وبهذا يسهل قبولك للحق، ومن غير استعادتك لإنسانيتك الفقيرة، واستعادتك لفطرتك القائمة على العبودية في أصل وجودها فأنت متكبر ، ومن كان كذلك كان مترفعا عن أن يبلغه سيل الحق الجاري بين الناس بهدي الداعين إليه.
ولهذا( فاستعذ بالله) من هؤلاء، إذ لا سبيل لدفع كبرهم هذا إلا بأن يحقق الله فيهم المنع القدري الذي يحبس قدراتهم ان أيذاء المؤمنين.
لتعلم ان المسألة ليست فقط قضية معلومات تأمل الأية التي تلي التالية في هذا ، واقرأها بتنعم، فالله يقول( وما يستوي الأعمى والبصير) فهذا هو شأن العلم والجهل،اذ العلم بصر ورؤية، والجهل عمى وظلام، ثم يقول( والذي آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء) فلم يكتف بذكر العلم وضده، بل لا بد من ذكر الإرادة وأثرها على حياة الخلق في هذه الدنيا والآخرة، فجاء ذكر الإيمان والعمل الصالح، وضد ذلك هو السوءوالشر.
قبل هذه الآية بين عظم ما خلق الله غير الإنسان، وهي ردع لهذا الكبر الذي في نفوسهم، اذ إنهم نسوا أن هناك من خلق الاه ما هو اهظم من خلقهم، فقال سبحانه( لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس)، وتأمل جامع الجذر في كلمة الكبر والذي هو الخلق المذموم، وبين كلمة أكبر لتدل على ما هو العظيم خلقة، ومع ذلك فما خلقه الله من هذا العظيم هو ذليل أمام أمر الله تعالى.
إنك أيها المؤمن وأنت ترى نوع هؤلاء وصورهم في الوجود تهلم حقيقة نفوسهم ودواخلهم لتحمد الاه أن عافاك، ذلك لأن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي له الحق المطلق بالحديث عن دواخل النفوس وما هي عليه، وهذا من رحمة الله تعالى بعبيده أن يكشف لهم كوامن مفوس اعدائهم.
وللحديث مع هذه السورة صلة

الشيخ عمر محمود أبو عمر


للعودة للفهرس