JustPaste.it

file12.png 

لحظات مع القرآن/ب/٢


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصصحبه أجمعين
اما بعد
فسورة غافر كما سميتها في مبحث آخر سورة الفرادة، حيث يخرج العظماء بعيداً عن نظام الجماعة الضالة كما خرج مؤمن آل فرعون من مجتمعه وانتظم في سلك الحق والهدى، وصاحب هذه الفرادة يملك عقلاً سديداً، وإرادة صلبة، والتزاماً بالحق الذي يعتقده، وله القدرة على بيان ما عنده من الحق للمخالف، بل الزامه به، لا بقوة الدليل فقط، لكن بقوة التزامه بالحق الذي يؤمن به، اذ كلما كان المرء ملتزماً بما يؤمن به كلما كان قوياً في حجته امام خصومه ومخالفيه، والعكس كذلك صحيح،ولذلك جاءت هذه الفرادة في مؤمن آل فرعون، ثم رأينا لفظاً تكرر في هذه السورة وهو لفظ المجادلة، حيث ورد خمس مرات هي:
-- وذلك في مطلعها في قوله تعالى( ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد).
-- ( وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب).
--(الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار)
--( إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير)
--(ألم تر إلى الذي يجادلون في آيات الله أنى يصرفون)
ومن تأمل في تصرفات أحوال المجادلين بالباطل في هذه السورة يرى عجباً وتنوعاً في الأحوال والمصائر وطرق الوقاية، وإليك بعضها مما يدلك على غيرها وأعظم منها:
-- ارتبط في مطلعها الجدال في التقلب في البلاد، وذلك يبين أن هؤلاء لهم سطوة وقوة ومن نوع الملأ المذموم في القرآن، وهذا معناه أن قوة ما عندهم في الجدال إنما من خارج الحجة لا من داخلها، وهذا من أفسد أنواع قوى الحجج، إذ الحجة الصالحة هي التي يمتلكها الدليل من داخله، لا من خارجه، فالذي يفرض دليله بما معه من قوة المال والسلطان والجنود هو من أفسد ما يقع في هذه الحياة ومعانيها، وهذا من نوع طرق فرعون كما تبسطه سورة غافر ( المؤمن) هذه، فهو بما معه من باطل القوة والعلو قال لهم(ما أريكم إلا ما ارى) كما في هذه السورة، ولذلك حجته بعسكره وملكه وسلطانه وماله، فهو يسكت أكبر الخصوم وأعظمهم بجنوده إن رفضوا وبماله إن سكتوا وقبلوا، وبالتالي نبه القرآن تاليه والمؤمن له بقوله( فلا يغررك تقلبهم في البلاد)، فلا تتبعهم بمثل هذه البهارج والأكاذيب التي لا علاقة لها بالحق الذي أنت تؤمن به،ولو تأملت مطلع السورة لرأيتها تتناسب مع هذا الأمر العظيم، وذلك بقوله جل في علاه( ذي الطول) أي الله، فهو سبحانه من يملك القوة والملك وكل شيء، وهو سبحانه( إليه المصير) وبهذا تعلم تناسب الآية هذه( غافر الذنب...)، وبين قوله( ما يجادل في آيات الله..) ليكون إيمانك بالغيب مسقطا لسلطانهم الذي يمنع عنك رؤية قوة حجة الحق.
وهذا كله مقدمة لحديث موسى عليه السلام وفرعون، لأن هذه الصورة التاريخية هي التي تحقق لك معنى اتباع الحق حتى أمام منطق القوة والتقلب في البلاد.
قليل هم من يذهب للحق لأنه يملك الدليل في نفسه، مبتعداً عن الباطل حتى وهو يسكت الحق بالظلم والطغيان وقوة العساكر، فكن أنت منهم كمؤمن آل فرعون.
خلال عرض صورة الباطل في نفس صاحبه وقبل الذهاب لحالة الجدال بالباطل مرت السورة على حقيقة نفس الكافر والفاسد والعاصي بقوله تعالى( إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم انفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون)
هنا تحسست الآيات الربانية نفس المجادل بالباطل، اذ هو يظهر أمامك مجادلاً يملك الأدلة، وله نفس تطمئن لما معها، ولكن هذا الظاهر مخادع كاذب، بل هو في داخله يعيش حالة المقت والسب لنفسه، والكره لموقفه، ذاك لأنه صغر أمام الباطل، وتضاءل أمام ماله وسلطانه، وضعف أمام تهديده وجبروته، فهو يمقت نفسه ويكرهها، وبالتالي هو يعيش شعور الخزي بينه وبين نفسه.
هكذا عليك أيها المؤمن العالم ان تفهم حالة خصمك، فلا تغرك جعجعته، ولا تذهب جاهلا إلى مظهره دون مخبره، ومهما سببت انت عليه، فهو يسب نفسه أكثر، ولذلك لا تذهب بعيداً في ظنك أنه يحادل مقتنعا بباطله، ولا تظن انه يؤمن بما يظهر لك في حواره، بل قل كما قال ابن العاص رضي الله عنه: والله إني أعلم أنك تعلم أنك كذاب.
ثم تذهب الآيات إلى حجج الله الفاصلة، والذاهبة إلى حالتي الإنسان في النظر:
(هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقاً،)
فالله لا يقيم الحجج العقلية على عبيده فقط، ولكن يقيم عليهم حجج الإحسان، ذلك لأن الحجج العقلية تقيم المعاني العقلية، وأما الإحسان فهو يقيم المعاني النفسية والقلبية، وبالتالي يتحقق بهما الإقرار والخضوع، وهما أس العبادة في هذا الدين.
وللحدث مع الجدال في سورة الفرادة( غافر، المؤمن) له صلة إن شاء الله تعالى

‏الشيخ عمر محمود أبو عمر‏

للعودة للفهرس