JustPaste.it

file12.png 

لحظات مع القرآن/ القسم الثاني/٨


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين
في قوله تعالى من سورة الأنعام:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
قال جار الله في كشافه:
جَعَلَ يتعدّى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ، كقوله وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير، كقوله وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ،والفرق بين الخلق والجعل: أن الخلق فيه معنى التقدير وفي الجعل معنى التضمين، كإنشاء شيء من شيء، أو تصيير شيء شيئا، أو نقله من مكان إلى مكان. ومن ذلك (وَجَعَلَ منها زوجها ). انتهى كلامه
قال ابن المنير في تعليقه عليه:
وقد وردت «جعل» و «خلق» موردا واحدا فورد (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها ) وورد (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) وذلك ظاهر في الترادف، إلا أن للخاطر ميلا إلى الفرق الذي أبداه الزمخشري. ويؤيده أن «جعل» لم يصحب السموات والأرض، وإنما لزمتها «خلق» وفي إضافة الخلق في هذه الآية إلى السموات والأرض، والجعل إلى الظلمات والنور مصداق للمميز بينهما، واللَّه أعلم.

قلت( عمر) لم يحسن ابن المنير في قوله: وذلك ظاهر في الترادف، بل هذا من أغرب ما يرد على بال البلاغي، فلو استقصى مواطن ما أشار إليه من ورود( جعل) مكان ( خلق) في قوله( زوجها) لعلم الفرق بين الحالين من السياق، وإليك التالي:
ورد اقتران الخلق مع الجعل في القرآن تقريباً مما استطعت جمعه في أربعة عشر موطناً أذكر لك بعضها، فانتبه لها:
-- هذا الموطن من سورة الأنعام، ثم في سورة الأعراف في قوله تعالى( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها).
-- وفي النحل في موطنين أولاهما:( والله خلقكم ثم يتوفاكم...) ثم قال في الآية التالية( والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً، وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة)
وفي قوله تعالى فيها( والله جعل لكم مما خلق ظلالاً)
--وفي الفرقان( وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً)
-- وفي الروم في موطنين ، أولاهما في قوله تعالى(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة)
وفي قوله تعالى(والله خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة)
--وفي فاطر ، قوله تعالى( الحمد لله فاطر السموات والأرض...) ثم قال تعالى بعدها( جاعل الملائكة أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع)
-- وفي الحجرات، في قوله تعالى( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)
-- وفي المدثر، في قوله تعالى( ذرني ومن خلقت وحيداً، وجعلت له مالا ممدوداً)
--وفي القيامة، في قوله تعالى(ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى)
فأنت نرى أنه ما أن يأتي الخلق في هذه الآيات إلا ويردف لفظ الجعل، والفرق بينهما هو ما قدم الزمخشري، وكلهم قد أخذ منه هذا، لايخرجون عنه، حتى لو اختلفت عباراتهم في ذلك، ثم أنت ترى أنه إذا اقتصر على أحدهما لم يكن إلا ذكر الخلق فقط، كقوله تعالى في النجم( وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى) وفي الليل( وما خلق الذكر والأنثى) فورود (جعل) فيما أشار إليه ابن المنير إنما هو لعقب الخلق لا استقلالاً كما يوهم لفظه، ولذلك تبقى كلمة الزمخشري نافذة على التفريق الذي أشار إليه، وليس هو من الترادف في شيء، فبعد الخلق يأتي الجعل ، اذ الخلق كما قال الالوسي: يراد به الإنشاء والإيجاد،والجعل يراد به الإنشاء والإبداع، في كلمة هي تفسير لكلام جار الله الزمخشري كما تقدم.
بقي في هذا الباب مسألة، وهي استقلال سورة النساء في ذكر الخلق مرتين ، دون ذكر الإيجاد، فما هو سرها وسر افتراقها عن آية سورة الأعراف، هذا له كلام آخر، وهو كالتالي ان شاء الله تعالى:
في سورة الأعراف ذكر العرض كما يقولون في الصفات التي أرادها الزمخشري، فهي ما يقال فيها لفظ الجعل، بخلاف الإيجاد للشيء كوناً من أصله، ففيها قوله( وجعل منها زوجها ليسكن إليها) فهي بينة في العرض، وذلك ( ليسكن اليها)، وأما في سورة النساء فهو بيان للإيجاد نفسه، وذلك في قوله ( وخلق منها زوجها) فإنه على الصحيح والله أعلم أنك ترى المرء يتزوج من ابنة عمه، وهما من نفس واحدة، هي الجد والجدة، وهما مخلوقان بقوله( الذي خلقكم من نفس واحدة).
والحمد لله رب العالمين

الشيخ عمر محمود أبو عمر‏

للعودة للفهرس