JustPaste.it

file12.png 

لحظات مع القرآن/ القسم الثاني/٧


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد
ففي قوله تعالى( الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان) يسأل المتدبر لكتاب ربه سر تقديم تعليم القرآن على خلق الإنسان، وواقع الحال القدري أن الخلق أسبق من التعليم، فلم قدم تعليم الكتاب على خلق الإنسان!
هنا وقف جار الله قائلاً:
عدّد الله عز وعلا آلاءه، فأراد أن يقدّم أوّل شيء ما هو أسبق قد ما من ضروب آلائه «1» وأصناف نعمائه، وهي نعمة الدين، فقدّم من نعمة الدين ما هو في أعلى مراتبها وأقصى مراقيها:
وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه، لأنه أعظم وحى الله رتبة، وأعلاه منزلة، وأحسنه في أبواب الدين أثرا، وهو سنام الكتب السماوية ومصداقها والعيار عليها، وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره، ثم أتبعه إياه: ليعلم أنه إنما خلقه الدين، وليحيط علما بوحيه وكتبه وما خلق الإنسان من أجله، وكأن الغرض في إنشائه كان مقدّما عليه وسابقا له، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من البيان، وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير.
انتهى كلامه، ومراده كما هو بين شرف العلم، وأن هذا الترتيب اعتمد تقدمة المرتبة الشرعية على الترتيب القدري المعهود.
جاء هنا ابن المنير وعلق قائلاً:
نغير من هذا الكلام قوله: أن خلق الإنسان كان الغرض فيه. أى المراد منه: أن يحيط علما بالكتب والوحى، ويعوض بأن المراد بخلقه: أن يدعى إلى ذلك، لا أن يقع ذلك منه، فهذا هو المراد العام، ثم منهم من أراد الله منه أن يحيط علما بالدين فيسر له ذلك، ومنهم من أراد ضلالته وجهالته فبعد عنه ولم يوفق، والله الموفق الصواب.
فكلام محمود لم يعجبه هلى اطلاقه، ولكنه ذهب ليحمل الكلام على التكليف لا التشريف،وجعل تقدمة قوله تعالى( علم القرآن) حكماً شرعياً ، وتكليفاً إلهيا، فكأنه يقول: إن قوله تعالى( علم القرآن) هو مقصد ( خلق الإنسان) فهناك من أتى هذا المقصد، وهناك من أعرض عنه.
ولم يذكر لنا ابن المنير وجه تقدمة هذا التفسير لهذه التقدمة من النص أو مقاصد السورة، بل ألقاه هكذا عارية وتركها بلا أدلة .
فهل واقع هذا الإستهلال القرآني( علم القرآن) أقرب للتكليف منه إلى النعمة كما يقول ابن المنير أو هو أقرب إلى النعمة منه للتكليف؟
ترداد قوله تعالى في سورة الرحمن( فبأي آلاء ربكما تكذبان) يجعل عمود مقصد هذه السورة هو النعم، فلو اعتمدنا على هذا لجعلنا كلام جار الله أقرب للمراد، لكن المطلع كذلك يشهد لابن المنير، حيث قال تعالى( والنجم والشجر يسجدان) ( الا تطغوا في الميزان) ( وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان)، وهذا يقرب مراد ابن المنير على مراد الزمخشري، والحق في هذا أن كليهما مقصود معاً، وهذا أمر قد نبه عليه ابن تيمية، ونفى أن يكون هذا من استعمال اللفظ المشترك أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، ، بل هو من استعمال اللفظ في حقيقته المتضمنة للأمرين جميعاً.
وزاد على هذا بقوله: وهذا موضوع عظيم النفع، وقل من يفطن له، وأكثر آيات القرآن دالة على معنيين فصاعداً.
وهذا المعنى أخذه ابن القيم من شيخه كما تجده في مجموعة من تفسيره لبعض الآيات في كتاب التفسير القيم( ص٢٤٠-٢٥٠).
ومن تأمل ما تقدم علم كلام الأئمة في هذا الباب، وهو أنه ما من خبر في القرآن، كذكر النعم كما قال جار الله الزمخشري، إلا وهو تكليف رباني، كما أراده ابن المنير ، فكلاهما حقيقة لكلام واحد،فكل الأخبار تكليف لمن تأملها واهتدى لمقصد كلام الله فيها.

الشيخ عمر محمود أبو عمر

للعودة للفهرس