JustPaste.it

file12.png 

 

لحظات مع القرآن/٦١


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله سيد الأولين والآخرين من خلق الله تعالى أجمعين، وعلى آله الطيبين وعلى صحبه الغر الميامين وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد
فتعليل الأحكام فقه قرآني، ففوق أنها من عند الله تعالى فهي الحق، إلا أنّ النظر إليها من الجوانب الحياتية، والنتائج القدرية ملمح قرآني مهم يجب الإعتناء له والنظر إليه من قبل الفقيه والحكيم، وفي سورة البقرة بيان عظيم من رب عظيم في النظر إلى تعليل حكم اتخاذ الشهود في العقود وكتابة الشهادة، والسياق حديث عن العقود المالية ، مع أن آيات أخرى حديث عن الشهود في الطلاق كما في سورة الطلاق والعقود في السفر كما في سورة المائدة ، والشهود في الحدود وغيرها، ولكن هاهنا بيان عظيم لقضية كتابة الشهادة في العقود المالية، فانظر إلى هذا البيان القرآني العظيم:
يقول تعالى(ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشاهدة وأدنى ألا ترتابوا)
فقد بدأ الله تعالى في تعليل هذا الحكم ببيان أمره عنده جل في علاه، وهذا هو أعظم ما ينبغي الإعتناء به، فالأشياء والأعمال في ديننا لا تكتسب الحسن إلا لأنها عند الله حسنة، ولا تكتسب القبح إلا لأنها عند الله قبيحة، ولذلك بدأ ربنا هذا التعليل بقوله( ذلكم أقسط عند الله)، والفقيه الذي يكشف عن الأحكام لا يقدر عليها إلا إذا كان عالما بنفس الله تعالى فيما تحب وتكره، وهذا لا يمكن اكتسابه إلا بأمرين:
أولاهما: كثرة النظر في الكتاب والسنة ليفقه نفس الرب وما هي ، وما تحب وتكره، فإن المرء لا يعلم حقيقة حب الآخر أو كرهه حتى يصحبه طويلاً في علمه وأحكامه واختياراته، والفقيه لا يجوز له الإجتهاد إلا إذا كان عالماً بنفس الرب وما شرعت من الحق وما نهت عن باطل ، وذلك من خلال مصاحبة الكتاب وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار ، مع التفكر فيه والبحث عن أسراره ودرره وتقريراته.
ثانيهما: الأنس برب العالمين والقرب منه، فالتقرب منه ليكشف له عن نفسه فيما يحب ويكره، ولذلك لا يصل للحق فيما اشتبه على الناس إلا أهل التقوى والعبادة وأهل القرب منه، فكلما تقربوا إليه تقرب إليهم أكثر ، وبالقرب هذا يحصل المعرفة والعلم، وبهذا يكشف لهم جل في علاه عن معاني نفسه فيما يحب ويكره.
والقسط هو العدل، والعدل هو الحق، ولكن ما العدل في هذا الأمر وهو الشهادة!؟
لقد خلق الله تعالى الوجود ، وجعل في هذا الوجود التنوع والتعدد، فكل ما خلقه الله تعالى جعل له من الشرائع ما يوافقه، كما قال تعالى( ألا له الخلق والأمر) والأمر هو موافقة الخلق فيما يحقق العدل في تنوعهم وتعددهم، ولذلك كان الأمر قسطاً لأنه يقيم هذا التعدد على وفق ما خلقه الله تعالى في الوجود، فبهذا كان كتابة الشهادة موافقة لما خلق الله تعالى من صلاح العقود في أموالهم وحياتهم.
ثم جاء الله تعالى بعلة أخرى بعد كون كتابة الشهادة هي الحق في نفس الله تعالى وفي نفسها في كونها قسطاً توافق الخلق الإلهي، ألا وهو النظر إليها في تقويم ما وضعت له من الأمر ، فقال تعالى( وأقوم للشهادة)
فها هنا تكلم الله تعالى عنها في كونها صالحة نافعة لما وضعت له من مقصد، فالشهادة تحتاج لغيرها لتقوم قياماً صحيحاً في الإثبات وفض النزاع وتحقيق العدل والحق، ولذلك نظر إلى الكتابة هذا النظر، فقال تعالى( وأقوم للشهادة) فهي ضرورة لتحقيق قيام ما وضعت له.
ثم جاء القرآن إلى صلاحيتها في كونها مانعاً لشر، فما تقدم هو النظر إلى الواجب من واقعها وفعلها، وهاهنا النظر إلى كونها مانعاً للفساد ، فقال تعالى( وأدنى ألا ترتابوا)، فلم يكتف القرآن بذكر حسناتها الفاعلة للخير، بل جاء إلى ذكر منعها لعواقب الشر، فإن الوجود لا يستقيم فقط بالأمر بالمعروف، بل لا بد من النهي عن المنكر ، فقال تعالى( وأدنى ألا ترتابوا)، فكتابة الشهادة يمنع من الشك والريبة، وهو سبب الخصومات، فمنع حصول أسباب الخصومات بهذا الفعل الشرعي العظيم.
فها أنت نرى كيف علل الله تعالى حكمه، وهو سبحانه وتعالى الحكيم ، وكونه جل في علاه هو الرب العظيم قادر وله الحق سبحانه أن يقول ما يقول فيطيعه الناس دون معارضة ولا فهم لما يأمر، لأنه كل في علاه( لا يسأل عما يفعل) ، لكنه الحكيم لا يجري من الأحكام إلا بالحق، وهو يعامل خلقه بالرحمة والعلم والحكمة وما يصلح نفوسهم وعقولهم وحياتهم.
اضاءة
تأمل كيف أن الأمر الشرعي لما ذكر في نسبته للحق جاء بالمطلق فقال تعالى( أقسط عند الله) وكذلك لما ذكر الأمر في نفسه( وأقوم للشهادة) لكنه لما نزل إلى عالم الإنسان والواقع جاء بالتقريب لا بالإطلاق، فقال تعالى( وأدنى ألا ترتابوا) ذلك لأن الشيء والأمر وإن كان في نفسه حق مطلق إلا أنه في الوجود الإنساني لا يقع هذا الموقع، بل بمجرد تعامل البشر به صار نسبياً، ذلك لأن الإنسان هو كذلك، لا تنقضي نفسه من حديث، ولا تنشأ المطلقات فيه، وهذا في الوجود الإنساني كله، فلا خير في هذه الدنيا مطلق، بل كل خير فيها نسبي، ولا شر فيها كذلك، بل كل شيء نسبي كما قال تعالى( وإثمهما أكبر من نفعهما) وهنا يأتي ما تقدم قوله من ضرورة العلم بنفس الرب في المشكلات والنوازل الخفية التي يشتبه فيها الحق بالباطل، فكما قال أهل العلم: العلم معرفة خير الخيرين وشر الشرين، وأما معرفة الخير من الشر فيقدر عليه الأكثرون.
في الملمات يعرف العالمون بربهم خير الخيرين مع خفاء مرتبتها لتقاربهما، ويعرفون شر الشرين مع عدم تمايزهما عند أهل النور الضعيف.

الشيخ عمر محمود أبو عمر


للعودة للفهرس