JustPaste.it

file12.png 

 

لحظات مع القرآن /٦٢


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد بن عبد الله الأمين، وعلى آله الطيبين وعلى صحبه أجمعين
أما بعد
فمن طريقة القرآن التمهيد العلمي والنفسي لما يشق على النفوس قبوله، لأن مفاجأة الخلق داع إلى الرد والنفرة، أو إلى التوقف للتأمل من أجل العقل والفهم، والله جل في علاه يحب من عبيده إذا خاطبهم بأمر أن يتلقوه تلقي التسليم والقبول، لكن مع العلم والفقه، وهذا سنة تحقيقه التمهيد وعدم القذف به فجأة كما هو بين في سنن الوجود، والله تعالى مع أنه الرب العظيم، وهو الذي لا يسأل عما يفعل إلا أنه يقيم لقوله حجج الحق، مع كفاية أنها منه لتعلم أنها الحق، إذ الحق أول طرق معرفته أنه صدر ممن هو تام الحكمة والعلم جل في علاه.
ما فائدة تكرر ذكر ما جرى في السماء من أحداث هي التي جرى عليها الوجود الإنساني في الأرض، في كون الشيطان عدواً للإنسان، ونزولهما معاً إلى الأرض لتقع الخصومة الأبدية بينهما؟
لقد تكرر سوق هذا الحدث في مواطن من القرآن كما في سورة البقرة، وسورة الأعراف ،وسورة الحجر وسورة الإسراء وسورة طه وسورة ص ، وفي كل سورة من الفوائد العظيمة التي اختصت بها تراها في السياق وفي تنوع الكلام الإلهي، وسبب هذا الفعل السماوي حتى يكون في ذلك العبرة للإنسان في مقدار خصومة هذا الشيطان، فإنه هو سبب خروج أبيه من الجنة، ومن تذكر هذا في كل موطن فلا بد أن يتخذه عدواً دائما في كل ما وسوس فيه، وكان الله جل في علاه قادراً على أن يوجد هذه الخصومة بالخلق الأول دون هذا الحدث، ولكن الله تعالى يترفق بهذا الإنسان من أجل بلوغ الهدف والغاية في هدايته بأحسن الطرق وأرعاها لنفسه وقلبه.
وعندما أراد ربنا جل في علاه ان يغير القبلة في الصلاة من بيت المقدس الى المسجد الحرام فإنه مهد به من قوله تعالى( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) فهذا تعليل للنسخ، وتوصيف لواقعه، وهي تمهيد لنسخ القبلة، ثم أعقبها تمهيداً بقوله تعالى( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) ، ثم أتى إلى ذكر بيان تمايز شريعة الرحمن المنزلة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم عن شرائع غيره من الأمم، وأن ما كان يسعى إليه رسول الله من موافقة اليهود والنصارى طمعاً في اسلامهم لن يكون ، ولذلك قال تعالى( ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم) وكأنه يقول له ربنا: إن ما تسعى إليه من طمع ادخالهم في دين الحق لن يكون، لأن مقصدهم لن ينتهي حتى تكون تابعاً لهم في دينهم، لا أن يلتحقوا ويهتدوا لهذا الدين الذي أتيت به، ولذلك وجب المغايرة لهم، ولذلك صار من هديه بعد ذلك أن يخالفهم لا أن يوافقهم، فكان تغيير القبلة كما سيأتي من هذا القبيل، وصار من الفقه وعلل الأحكام مخالفة أصحاب الجحيم ، ثم جاء ربنا جل في علاه في بيان فضل هذا البيت ومكانه وقريته التي هو غيها ، وذكر من بناه وخبره، وهذا في قوله تعالى(وإذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) وفي سياق ذكر بناء البيت من قبل النبيين العظيمين ابراهيم واسماعيل عليهما السلام جاء ذكر دعائهما ( ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم) وهذا خلال بنائهما له، مما يدل على ارتباط هذا النبي بهذا البيت الكريم، وبعد هذا التمهيد كله جاء إلى قوله تعالى( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله للمشرق والمغرب) وقد تقدم هذه النسبة( السفه) في قوله تعالى( ومن يرغب عن ملة ابراهيم إلا من سفه نفسه) كما تقدم ذكر المشرق والمغرب كما نبه على ذلك من قبل، وكل ذلك ربط لحصول هذا الحكم الذي قال الله تعالى عنه( وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله)، فحيث علم جل في علاه عظمها على النفوس فإنه مهد لها هذا التمهيد العظيم.
ومن صور هذا التمهيد ما علل تعالى سبب منع المشركين من الحج للبيت وإعلان البراءة، فإنه جل في علاه علل هذا بعلل عظيمة كما في سورة التوبة تستطيع تأملها واضحة جلية لك بالنظر إليها والتفكر فيها.
ثم تفكر في أن الله تعالى لم يذكر معجزة خلق عيسى عليه السلام من أمه الصديقة مريم بلا أب حتى مهد لها ولادة زوجة زكريا ليحيى عليه السلام، وذلك بأنه لم يذكر هذه الولادة المعجزة في القرآن إلا بعد ذكر معجزة ولادة يحيى كما في سورة آل عمران ومريم والأنبياء، ذلك بأن ولادة زوجة زكريا لا اتهام فيها أبداً، وهي آية عظيمة أجراها الله تمهيداً للخلق لقبول آية ولادة عيسى عليه السلام، وقد أجرى الله لها من آية الصيام عن الكلام كما أجراها لزكريا من قبل ليحصل التفكر والتذكر والقبول بلا معارضة.
وهذه سنة قرآنية متبعة حض عليها العلماء ونبهوا على فائدتها وأهميتها في التعليم والتدريس، تجد هذا في كتب أهل العقل والفكر كما في كتاب الإمام عبد القادر الجرجاني المعنون بدلائل الإعجاز.
اضاءات
١-في سورة البقرة لم يذكر أصل خلقة آدم كما ذكر في السور الأخرى، لأن المقام مقام تعظيم لآدم عليه السلام، وما بديء به الحديث لا يتلائم مع تهوين أصل خلقته.
٢- لم يجمع سبب فساد فعل ابليس وأنه الإباء والكبر إلا في سورة البقرة، ثم تنوع ذكر هذين السببين في سور أخرى.
٣-جاء قوله تعالى ( إنما المشركون نجس) بعد سياق طويل من أفعال المشركين في كل باب، وتستطيع مراقبته من قوله تعالى( كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) إلى آية ذكر نجاستهم، ومع أنه لا يوجد أمة تعلم حقيقة اعدائها من كتابها الهادي لها كما تعلم أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعداءها، من الشيطان إلى أوليائه إلا أن الأغبياء في هذا الباب في كل زمان من أزمنة الهوان يملؤون السهل والواد، من أتباع الشيطان وأولياء الشيطان.
٤- أول كلمة قالها روح الله عيسى عليه السلام( إني عبد الله) إلا أن المنسبين له في ضلال تام عنها، فليس الصلال سببه عدم وصوح البيان، لكنه اتباع الشيطان.
٥- ومن تمهيد الله تعالى لزكريا عليه السلام في قبول آية ولادة مريم، رؤيته كراماتها ليحصل له الإطمئنان بصحة دينها وتقواها وذلك من خلال آية ظاهرة، وكانت سببا له في طلبه الولد الصالح.
٦- لقد كان زكريا عظيم الأدب وهو يقدم حاله في العجز على حال زوجه وهو يقول( أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر)كما في سورة ال عمران، فإن قلت لم قدم حالها في العجز على حالته في سورة مريم حين قال( أنى يكون لي غلام وكانت امراتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتياً) ، قلت وهذا من أعظم الأدب منه، فإنه قدم في سورة مريم عجزه وكبره في بيان الإستشفاع لربه وهو يقول( قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ) ، فلم يكن داعيا لذكر هذا مرة أخرى إلا من باب أدبه في الخطاب، أنه جعله زيادة عما تقدم في ربطه الحال الذي هو فيه مع حال زوجه، فكرره على هذا المعنى من ادب الحديث عن زوجه البار بها.

الشيخ عمر محمود أبو عمر


للعودة للفهرس