JustPaste.it

file12.png 

لحظات مع القرآن/٦٣


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله الطيبين وعلى صحبه أجمعين
أما بعد
فإن القرآن يتحدث عن فرق الناس مع الايمان بوضوح وجلاء، فهو يتحدث عن المؤمنين والكافرين والمنافقين، وهذا بين في السورة الجامعة لمعاني القرآن الكريم، وهي سورة البقرة، وذلك في جملة ما ابتدأت به من بيان هذه الفرق، وكما هو معلوم فقد أكثرت من ذكر المنافقين فوق ذكر المؤمنين والكافرين، والقرآن يقسم الكافرين إلى قسمين: ملأ وأتباع، ويقسم المنافقين إلى مترددين وقساة ثابتين على نفاقهم، وهكذا يفصل آياته ليعرف الناس صفات كل طائفة، لكن القرآن يعرض عن بيان الجموع التي لا أثر لها في معركة الحق والباطل، استخفافاً بها، وعدم رعاية لأمرها، لأنها في واقع الأمر كذلك.
في سورة الشعراء أراد فرعون الجميع حاضرة، وخاطبهم خطاب الخبث والمكر، فقال الله تعالى عنه( وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين) وهذا كما نرى عدم انصاف في الإختيار، إذ لم يذكر إلا حالة كون السحرة هم أهل الغلبة في هذه المنازلة العظيمة، وجمع الناس كذلك كان مطلب موسى عليه السلام ، كما في سورة طه حيث قال فرعون(فلنأتينك بسحر مثله، فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى) فكان رد موسى عليه السلام( موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى)، وهذا هو مطلب الغلام كما في قصة اصحاب الأخدود، حيث طلب جموع الناس ليشهدوا مقتله، وقد شرحت هذا في درك الهدى في اتباع سبيل الفتى، والقصد أن هذه الجموع قد حرص الجميع على جمعها وحضورها؛ فرقة الإيمان رجاء إسلامها وفرقة الباطل لتغريرها، ولكن القرآن الكريم اغفل ذكر حركة هذه الجموع، وغيب حالها واختيارها، وكأنها ليست شيئا، لأن واقع الأمر كذلك، فهي غثاء لا قيمة لاختيارها، ولا لقراراتها، فغاب ذكرها حيث غاب قرارها وغاب تأثيرها.
هذه الجموع وإن كانت كثيرة، ولو بلغ عددها مبلغ السيل، لكنها غثاء فيه، والغثاء هو مجرد قش طاف تسوقه تيارات القوة المائية التي تسري تحته وتتلعب به في اختياراتها هي، دون ارادة منه.
اذا العبرة ليست في العدد إنما العبرة بالتأثير، ولذلك يعرض القرآن أكثر حالات الإيمان كحالات فردية لها قوة خطابها وقراراتها كما في قصة سورة يس، وكما في ذكر امرأة فرعون، وكما في ذكر لوط عليه السلام مع الخليل عليه السلام، وهكذا.
في قصة اصحاب السبت من بني اسرائيل ابرز القرآن الحالتين الواضحتين بجلاء، الفرقة المؤمنة، والفرقة العاتية عن أمر ربها، وجاء ذكر الواقفين جماهيريا يتفرجون، ويعيبون على الناهين، فقالوا( لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً)، ولما وقع العذاب أغفل الله ذكر هذه الفرقة، فلم يأت عليها بخبر، لا نحاة ولا عذاباً ، وما ذلك إلا لهوانها على الله في هذا الباب.
الذين يصنعون التاريخ هم من يستحقون الدخول في كتابه، وكتاب ربنا هو كتاب تاريخ الإيمان وحال الناس فيه ، وما جرى بينهم من خصومة، ثم ما وقع من مألات كل فريق، لكن هؤلاء تلذين يعيشون في هامش الحياة من أجل دنياهم، ويجلسون في مقاعد الجماهير الناظرة فقط، فهؤلاء لا كرامة لهم، وبذلك لا يستحقون الدخول في صراع الحق والباطل، ولا في دخول كتاب الحياة.
حالة إيمان جماعية عظيمة حصلت، وسجل القرآن حدثها ، ومشهدها المؤثر ، وهي ما وقع لأهل الأخدود ، ومن عجائب هذه الحالة مع كونها حركة جموع إلا أن عاقبتها أعظم عاقبة وهي عاقبة الشهادة، فلم تختلف عن حالة السحرة كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا في الصباح فجرة كفرة وفي المساء شهداء بررة، أي السحرة من قوم فرعون، وكذلك كما في قصة صاحب يس، فهؤلاء استحقوا دخول كتاب التاريخ العظيم، وكتاب الحياة العزيز، فسجل موقفهم أعظم تسجيل وأحسنه.
الجموع والجماهير ليس قيمتها في عددها، ولا في كثرتها، ولا في حضورها لمشاهدة الأحداث وسماع الأخبار والكلام، لكن قيمتها حين تختار الإيمان، وتتحمل نتائج هذا الاختيار، فتقبل على الإيمان لأنه الإيمان، ولأنه الحق، ولأنه سبيلهم إلى الجنة، وأما الجموع التي تأتي من أجل المغنم فقد تكلم الله عنها في آية أسميها آية الجموع والجماهير المراقبة، وهي في سورة النساء في قوله تعالى( الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح قالوا ألم نكن معكم، وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة، ولن يجعل الله للمافرين على المؤمنين سبيلاً) وتأمل كيف ألغى تأثيرهم في الدنيا، بل قال( فالله يحكم بينكم يوم القيامة) وكأن هؤلاء صفر في هذه الحياة الدنيا، أما شأنهم يوم القيامة فلهذا حديث آخر في كتاب ربنا.
من السور العظيمة التي تبين الإختيار الجماعي للإيمان هي سورة النصر، في قوله تعالى( ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً)، وهؤلاء الجموع كانوا يترقبون انتصار النبي صلى الله عليه وسلم على أهل قريش، ليلتحقوا به، ولذلك كان صلح الحديبية فتحا لمكة، وفتح مكة فتحا لدخول الناس أفواجاً، وهذا يدل العاقل أن الجموع تحتاج إلى بيئتها من تحقيق النصر لطائفة الإيمان لتلتحق بها الجموع بعد ذلك، فالمطلوب هو ثبات طائفة الإيمان على الحق، والصبر بعدم لحوق الجموع بها حتى يتحقق لها الكفاية من تحقيق بيئة ملائمة لالتحاق هذه الجموع بها.
بعد هذا تكون القيادة هي التي تسير الجموع، لا الجموع التي تفرض ايقاعها على اختيارات طائفة الإيمان.

الشيخ عمر محمود أبو عمر


للعودة للفهرس