JustPaste.it

file12.png 

لحظات مع القرآن/٦٤


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله النبي الصادق الأمين وعلى آله الطيبين وعلى أصحابه نجوم الهدى أجمعين
أما بعد
فقد مضت طريقة القرآن في بيان الأحكام والأقدار على معنى الإبتلاء لتمحيص الإيمان من شوائبه، ولكشف حقائق الناس، ومضت طريقة الفقهاء المعاصرين في إزالة هذا البلاء والفتنة ليحصل البقاء في الدين وادعاء الإيمان والتقوى بلا تمحيص، ومن الركام الكثير الذي نجده مبثوثاً باسم الواعظين والفقهاء قلما نجد الدعوة للتمسك بالحق في الهدى والمواقف تصبيراً للناس لئلا تضل بهم الطرق وتنحرف بهم السبل فلا يصلون إلا إلى الخراب والفساد.
عندما تحدث القرآن عن تحويل القبلة علل هذا الحكم بعلة عظيمة نطق بها بالنص وذلك في قوله تعالى( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله) فهذا تشريع رباني يقذفه الله تعالى على وجه يحصل به البلاء ، فقوم يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقوم ينقلبون على اعقابهم، والناس في مناهجهم لا يريدون هذا البلاء ولا هذا التفرق، بل يدعون ليل نهار إلى جعل الجميع في سبيل واحد، وهم يعلمون حال الناس ودينهم وحرصهم على الشريعة أو ارتباطهم بالطواغيت والمفسدين في الأرض، وحين ينطق صاحب فتوى بفتوى في نازلة جعلها الله ابتلاءً لطائفة من الطوائف فإنه لا ينظر إلى مراد الله تعالى من هذه النازلة، ولا إلى معنى تمحيص الله للعباد بها، بل يذهب ليقول كلام الباطل زعماً أنه يجمع الفرقاء ويحقق إزالة المحنة والبلاء.
الفتن القدرية تتبع الحكم الشرعي، فما من ابتلاء قدري يقع إلا على وجه اختبار الناس في نازلة شرعية، إذ يرقب الله تعالى في هذا نظر الناس وقولهم ومواقفهم : أٓنظروا فيها إلى مقصد الرب منها؟، وإلى ما يحب الله للعبد فيها؟، أم ينظر فيها الفقيه والقائد إلى شهوته ورغبته وهواه، وكلمة الشهوة هنا يدخل في معناها الخروج من البلاء بسرعة على غير طريق الشرع، وأما الذي يكيف الشرع ليخرج من البلاء القدري فقد يحصل له هذا، ولكن سيجد في طريقه الآخر بلاءً أعظم وأشد، ففي طريق بلاء اتباع الشرع يكون عاقبته النصر والظفر وتحصيل المقصود، ويكون في طريقه الذي اختار به شرعاً غير شرع الله خروجاً عن البلاء هذا إلى بلاء فيه الهزيمة والخسارة والخذلان.
في بيان القرآن لحال المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم كما في سورة النساء جاء فيه اتهامهم له بالتالي( وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك) ومعنى هذا القول من هؤلاء المنافقين أن اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم لمواقف ما ، هي التي كانت تحقق( سيئة) لهم، وبسبب هذا الإختيار عابوا عليه ، واتهموه أنه سبب هذا البلاء، وإنهم يريدون دوماً الفعل الذي لا يوصل لهذه النتيجة، وهذه المسالة غير ما وصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم( ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما) لأن هذا في غير ما وجب اتباعه من الشرع.
كان الناس يقولون: الأيسر هو طريق النصح والصبر والإصلاح البطيء، وكان أناس يقولون هذا اختيار مخالف لسنة الله تعالى في الصراع مع الأعداء والطواغيت، فمهما كان طريق الحق صعباً إلا أنه الصواب الذي يجب اتباعه، وحين يفعل المهتدي فعلته يقول له الآخر( هذه من عندك).
لقد أنزلت علينا البلاء بفعلتك هذه فهلا أخذت بسبيل لا نصب فيه ولا تعب!؟
وهذه الآيات التي تقدمت في سورة النساء في سياق الحديث عن الجهاد الذي افتتح أمرها بقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم)
إنها الأقدار المنتظرة على كل سبيل، ينظر إليها الفقيه والقائد ، وهي لا تهمه ولا تخيفه بسبب الصعوبة، لكنه يتساءل دوما أهذا هو الطريق أم لا، أموصل هو أم لا، فهذا هو اهتمامه بالعواقب، والحكم على الفعل أنه شرعي أو غير شرعي بالعواقب هو سبيل القرآن الكريم:
-- ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين)
فهذا تهديد بالنتائج ، ومصير الأفعال واختيارات الناس، وهي في نفس التقي تعادل الأمر الشرعي لأن الفعل القدري هو فعل الله وعقوبته، كما الأمر الشرعي هو ما يحبه الله تعالى ويرضاه، أو يبغضه ويكرهه.
--( فانظر كيف كانت عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين)
والمكر درجات، يمكر الكافر في فعله وكفره، ويمكر المحتال في فتواه وتلعبه، ولكل عقوبته القدرية عند الله تعالى، ومن صور الحيل في هذا الباب تسمية التخفف من الشرع حكمة وتيسيراً، وتسمية هوى النفس فتوى.
--( فأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر ويكأنه لا يفلح الكافرون)
فهذه موعظة بالقدر الإلهي، والتي اصابت منهم الذكرى والتعلم والنطق بالحق الذي يريده الله تعالى، مع أنه قد تقدم موعظة العلماء لهم بقولهم( ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون)، لكنها الكلمات التي لا يحسن التبصر بها إلا العظماء، وبقت شواهد القدر أقوى في نفوس الأكثر من البشر.
وهذا الفقه في القرآن كثير لمن تدبره.
وبقيت أمور في هذا الباب:
لماذا يصر البعض على اتخاذ موقف الباطل عندما يعجز عن الحق، ولا يستحيي من إعلانه هذا وإدراجه في فتواه وكلامه!؟
--الفقه القرآني في هذا الباب هو ترك الأقدار تجري على وفق ما اختار الناس من حق وباطل، وأما أنت فلا تترك الحق، وحين تعجز عنه تقول كما قال الصالحون من قبلك( لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) ، وتعتزل الباطل كما قال القرآن عن فتية أهل الحق( واذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف)، وحينها جرت سنة الله تعالى بصبر هذه الطائفة المؤمنة أن يجري لها من المقادير بفعل الآخر ما يحقق لها النصر والنفاذ لمرادها في الوجود بالنجاة ونصر الإسلام، ولكن مما يؤسف له أن غلبة النجاة هي ما تحكم الناس أكثر من همهم بنصرة الدين.
-- هل الأقدار السالفة في الوقوع يحصل بها اتعاظ التابعين لأسلافهم؟
واقع البشرية ينطق بغير هذا ، ومما يؤكد قوله تعالى( يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون)
وهو جل في علاه القائل( وما منع الناس أن يؤمنواإذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلاً)
في الدعوة والجهاد إنما هو فقه العزائم، لا لأنها اختيار النفس وتشددها بل لأنها السبيل القويم في الوصول إلى الأهداف لمن قرأ تاريخ الأنبياء واعتبر، وتذكر دائما أن الشر ليس خياراً.

الشيخ عمر محمود أبو عمر

 


للعودة للفهرس