JustPaste.it

file12.png 

لحظات مع القرآن /٦٥


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد نبي الله الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين
أما بعد
فمن أفسد ما قيل في هذا العصر من بعض زاعمي الفكر الإسلامي أن الكتاب الكريم كتاب عمومات، وذلك من أجل فتح المجال لهم بالتقول على الله بلا علم، و لتركهم النظر فيه للإجابة على أسئلة الوجود والنوازل، وهذا مما أورث زهداً بالتفكر في الكتاب العظيم، لأن المرء يقبل على الشيء لفائدته في نفسه، فإن خلا عن الفائدة زهد فيه، وهؤلاء يقولون: الإجابات على مهمات الحياة ليست في الكتاب تفصيلاً، وإنما هي ألفاظ عامة ، ثم تملأ الفراغات التفصيلية باجتهادات الناس العقلية المستقلة حيناً والموروثة من العقول الجاهلية حيناً أخر.
مما نطق به الكتاب قوله تعالى(كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير)، وقد صرح القرآن الكريم أن فيه الإجابة التفصيلية لكل نوازل الحياة وأسئلة الناس الوجودية، وذلك في قوله تعالى( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ، ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون)، وإذا كانت التوراة وهي ليست بمنزلة القرآن في لغتها ولا علومها قال الله تعالى فيها( ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن وتفصيل كل شيء ) وقال عما كتب له في الألواح( وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء) فما بالك بهذا الكتاب العظيم!؟
ومن أسباب صرف العقل المسلم وقلبه عن النظر في الكتاب فصلهم آيات الأحكام عن كله، وظنهم أن آيات الأحكام محصورة فيما نطق به من أحكام مباشرة، كما في الفرائض وحد الزنا والقذف ، وأحكام الأيمان والشهادة والطلاق، وكأن الحياة القرآنية هي تلك الأحكام الخاصة بمثل هذه الوقائع، هذا مع أن القرآن في أصل هدايته أنه كتاب الصراع بين الحق والباطل، وهو كتاب الله الهادي للفئة المؤمنة في صبرها وثباتها وجهادها وما يعرض لها من نوازل في مسيرتها المهدية من خطوب في هذا الباب.
فالقرآن الكريم كتاب السيرة النبوية للأنبياء حيث عاشوا ، وقيل لهم وقالوا لأقوامهم، وعرضت لهم نوازل فاتخذوا لها من الأحكام التي هي من هداية الله للسائرين على هديهم وطريقهم، يستحضرونها عند حلول عللها في حياتهم، وهو كتاب السيرة النبوية لرسولنا صلى الله عليه وسلم حيث سجل القرآن حياة النبي صلى الله عليه وسلم بالتفصيل لأعظم غزواته ، وما عرض عليه وما عرض له خلال مسيرته في الدعوة إلى الله والجهاد، والله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر قصة ابراهيم مع أبيه وقومه كما في سورة الأنعام، قم جاء لذكر ابناء ابراهيم عليهم السلام جميعاً فقال الله تعالى العظيم لنبيه الكريم ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)، ولو كان أمر هؤلاء الأنبياء خفياً كما يزعم هؤلاء فكيف يقع الإقتداء بهداهم المذكور تفصيلاً كما قال تعالى(كتاب فصلت آياته قرآنا عربياً لقوم يعلمون).
فالأخبار القرآنية هي أحكام ربانية، وقصص الأنبياء هي أحكام يقتدي بها العاملون لدين الله تعالى، يعودون إليها في كل وقت، ويبحثون فيها عن أجوبة لما يعرض لهم من نوازل ومعضلات، ىالقرآن في هذا الباب لا يعطي ثماره ولا كنوزه إلا بالتثوير ، والأمر كما قال ابن مسعود: -من أراد العلم فليثور القرآن- لأن هذا الكتاب مكنون، أي في كن وحرز يحفظ به من أن يكون مبذولاً لكل أحد ، فهو لا يكشف معالمه إلا بالإتيان إليه ومحاورته والترفق به، مع الإخلاص لرب العالمين، لأن هذا الكتاب عزيز، وعزته تأبى عليه أن يبذل نفسه هو على غير طالبه العارف بحقه.
يبقى أمر مهم هو عمدة في هذا الباب وهو مرافقة القرآن في الليل والنهار ، لأن الأنس به هو الذي يكشف لك معالمه، ومن رافق شيئا وقتاً طويلاً علم ما هو عليه، والذكي إنما يمتاز عن الذكي الآخر في فهم شيء ما إنما بسبب طول الصحبة، فمن أطال صحبته للقرآن علم مزاجه ومفاتحه ودرره، وإلا فهذا الكتاب يستغلق عليه ، ويكون كالمار على جبال الذهب والفضة وهو لا يراها.
وأنا أضرب لك مثالاً لما أتى عليه بعض أهل العلم من تثوير علم القرآن لأمر فصل فيه أدب الأكل وإطعام الضيفان لترى بعض ما يكشف لك ما بعده من المواقف التي تلزمك في جهادك ودعوتك:
في سورة الذاريات جاء قوله تعالى( هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين، اذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون، فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون)، فانظر كم أخذوا منها من أدب معاملة الضيفان، والعرب ورثوا هذه الخصلة من إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام ، ومن ابنه اسماعيل كذلك:
-- كان سلام ابراهيم عليه السلام خيراً من سلامهم، وهذا هو مفتتح اللقاء بهم تأنيساً لهم لأنهم في نفسه غرباء، والغريب لمن جرب الغربة يريد أكثر ما يريد أن يطرد الوحشة التي تتعبه، فقالوا هم( سلاماً) وهي جملة فعلية، لأنها جاءت بالنصب، فرد عليهم بأحسن من سلامهم، فقال( سلام) وهي جملة اسمية، وسمة هذه الجملة الثبات والقوة أكثر من الجملة الفعلية الي صارت بدخول العامل عليها، وهذا تحقيق( بأحسن منها).
-قال تعالى( فراغ)، والروغان يكون بالسرعة والخفية، وهذا من أعظم ما يفعله المستقبل لضيفاه، إذ ذهب لقضاء حاجتهم بسرعة، ولأن الأمر فيه عطاء فلم يرد أن يكسر خواطرهم بإظهار وإعلان تحصيل الطعام لهم، بل ذهب خفية بلا كسر لنفوسهم، وبسرعة لقضاء حاجة نفوسهم،ثم مع عظمة هذا السيد إلا أنه ذهب ولم يصرخ على أهله بتحضير الطعام، بل قام بنفسه ليحضر لهم حاجتهم.
-- ( إلى أهله) وهذا تطبيق لما يقوله الناس: الجود من الموجود، لوجود كفايته لهم، فلم يذهب إلا إلى أهله، لا لغيرهم ليقوم بشأنهم.
-- (فجاء) وهذا تأكيد لما تقدم من فيامه مع نفسه الشريفة بخدمة ضيوفه، فلم يحضر الطعام إلا هو، ولم يتركه لا لخادم ولا لأهل.
(بعجل) فقالوا هذا أعظم الطاعم، إذ جمع بين الكثرة والطيبة، فلو كاء بأكبر كالجمل والبقر لخلا من الطيبة بمقامه عن مقام العجل، ولو أتى بالمعز أو الضأن لكان فيه الطيبة لكن مع القلة، فجاء بما جمع بين الطيبة والكثرة، وهذا أعظم الكرم، ولذلك قال في وصف عجله( سمين) ليدل على تخيره لهم على أحين حال وأكرمه.
--( فقربه إليهم) وهذا من الكرم العظيم، إذ لم يكلفهم القيام إلى الطعام بل أحضر الطعام لهم ولمجلسهم.
--( ألا تأكلون)، وهذا ترفق في الخطاب احترازاً منه أن يسيء لهم أو أن يقع في نفوسهم ما يكرهون، فلم يقل لهم كلوا بل كأنه الرجاء( ألا تأكلون)، وهذا من حسن خطابه لهم.
هذا كله وهو لا يعرفهم، لأنه قال ( منكرون) وهذا يعني جهله بهم، وتنبيهاً إلى خلوهم من آثار المسافرين، سواء بثيابهم أو بأشكال وجوههم وابدانهم.
فهذا خبر قرآني تضمن أحكام الخير اللازمة لتحقيق قوله تعالى( فبهداهم اقتده).
إن الهداية التامة لا تتحقق إلا بالتفصيل التام، والذين يخطؤون الذهاب للقرآن في النوازل والغمرات تائهون عن الحق، واقعون في الضلالة مهما زين لهم الشيطان فعالهم واختياراتهم، فهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم هو سيد البشر في عقله وحكمته ولو اجتمع البشر جميعاً على قول وخالفهم هو لكان رأيه هو الصواب أو الأقرب للصواب، ومع ذلك جرده الله تعالى من هذا الأمر فلم يترك له حق الإختيار الذاتي في سبيل الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله تعالى، بل قال له( واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين)، فهذا طريق لا اختيار فيه لك، ولا رأي لك فيه، بل هو الإتباع، وهو طريق لا سعة فيه بأخذ الرخص، لقوله( واصبر) فإن الرخص في هذا الباب إنما هي معوقات الوصول للنصر، ولذلك قال بعدها( حتى يحكم الله) ، لأن العواقب في هذا الباب خفية في كل شيء؛ في طريق حصولها، وفي توقيت زمانها، وفي نوع وقوعها، فلئن نصر الله السابقين بإهلاك قومهم فإن نصرك سبكون أعظم وأكبر، ومن المعقول في أذهان البشر ومفاهيمهم أنه كلما أخذ المرء بعزائم الأمور كان وصوله لهدفه أقرب، وكانت غنائمه أعظم ، وخلوصها إليها دون الأخرين أصفى وأنقى.
نعم مع عقلك يا محمد، وهو عقل عظيم، إلا أن هذا هو باب الإتباع فقط، فهل يدرك العالمون للإسلام هذا الأمر، أم أنهم رضوا بالقليل من العطاء الذي يلائم اختياراتهم بترك العزائم والإقبال على المداهنة؟!
هذا من نوع تفصيل القرآن الكريم للسائرين على هدي الأنبياء، ويطلبون ثمارهم.

الشيخ عمر محمود أبو عمر


للعودة للفهرس