JustPaste.it

file12.png 

لحظات مع القرآن/٦٦


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد
فأي قراءة لكلام الله تعالى الحق خطأً تورث احد سبيلي الباطل، إما الكفر بالآيات، وهذا مما حذر منه علي رضي الله عنه وقال: حدثوا الناس بما يعقلون، اتحبون أن يكذب الله ورسوله! ، وإما أن يؤمن القاريء بالباطل الذي فهمه، وينسبه للقرآن خطأً، وكلاهما شر في الدين والحياة الدنيا وفي الآخرة، ومما يعصم النظر في الأخبار القرآنية من دعوى الباطل هو وجوب التعامل معها حسب جغرافيتها و تاريخها، لأن هذه الأخبار جرت في أزمان إنسانية وأماكن دنيوية، وهذا كله يخضعها لسنن الوجود التي يتعامل بها البشر،فكل خبر قرآني عن السابقين وجب قراءته بحسب جغرافيته وتاريخه، وإلا وقع التحريف للكتاب، فإما التكذيب وإما الإيمان بالباطل كما تقدم.
فهل نقرأ قوله تعالى في سورة المائدة( قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتوه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) أنها حالة مطلقة دائما في كل موطن نزال بين المؤمنين وبين الكافرين، حيث يحتج بها الخطيب يوم الجمعة والواعظ في مواعظه أنه كلما جاء المؤمنون لحصن مدينة أو مدينة ما حصل قوله تعالى( ادخلوا عليهم الباب فاذا دخلتموه فإنكم غالبون)؟
الجواب بلا شك أن جعلها حالة مطلقة خطأ على القرآن الكريم، والتاريخ ينفي هذا الفهم تماماً ، بل والقرآن نفسه كما سيأتي ينفيه كذلك، فإذا هي حالة خاصة لها أسبابها وظروفها، وجعلها في المطلق دون النظر إلى تاريخيتها وجغرافيتها يمنع الفهم على الله تعالى في ما قال في كتابه، كما أنه يمنع قراءة العبرة في حصول الوقائع والأحداث، فكونها وقعت في ظرف يعني أن ندرس هذا الظرف وأن نعرف كيفية موافقة الظرف لوقائع القتال بين المؤمنين والكافرين.
ومثلها احتجاج البعض في كل نزال الايمان مع اليهود بقوله تعالى( لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) فهذا له الظرف التاريخي في قتال المسلمين مع اليهود وليس في كل قتال كما يتوهم البعض، وقتال اليهود قد يقع فيه هذا وقد يقع فيه غيره وذلك بحسب الظرف السنني الملائم له عندهم، فهم يختارون لقتالهم ما يحفظ وجودهم ويحقق نصرهم بحسب فهمهم وادراكهم.
وكذلك ما قاله تعالى عن الحالة التي وصل إليها عز الإسلام وذل الشرك بأن يكون شأن الكافرين ما قاله تعالى عنهم( ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً) فهذا ليس في كل موقعة ولا في كل نزال بل هو عندما يصل أهل الإيمان لحالة معينة تحقق هذه السنة، وإلا إن تخلف هذا الظرف تخلف هذه النتيجة، ويشهد لهذا الأمر المتقدم التاريخ، ومما قرره الإمام الشاطبي في الموافقات وجوب تفسير القرآن بحسب العوائد الجارية، وهذا منه كما ترى، والقرآن الكريم يفرض صوراً كثيرة تخالف هذا الإطلاق منا ، يدل على أنه حالة ظرفية سننية خاصة تلائم سنن الوجود وليس حالة مطلقة تصلح في كل حالة.
يقول الله تعالى( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار) فهذا نوع قتال وموقعة لا يولي الكفار أدبارهم، بل هم الزاحفون للقتال، ويحذرنا القران من أن نولي نحن الأدبار لا هم، فهي حالة سننية يقولها القرآن على خلاف ما قاله عن حالة اخرى تقدمت، وذلك لأن لكل حالة سننها التي تجري على وفقها.
وفي قوله تعالى عن قتال المرتدين كما يقول أهل التفسير في سورة الفتح( قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولو بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذاباً أليماً) ، فهذه حالة يكون الكافر فيها غير جازع حتى إذا دخل عليه أهل الإيمان غلبوا وأسقط في يد الكافرين، كما أن هذه الحالة لا يولي صنفها الأدبار ، بل هم كما قال فيهم ربنا( أولي بأس شديد) لا يتركون القتال حتى يقتلوا أو يسلموا، ولا فرار أبداً.
قراءة القصة القرآنية قراءة سننية هي التي تحصل العبرة ،وتحقق مرادها الرباني فيها، وإن لم يقع هذا بقي الحدث القرآني معلقاً على نصر بلا اتباع السنن، بل على المعجزة فقط وليس بهذا تحصل العبرة، ولا اتخاذ الحدث سبيلاً لهداية المؤمنين لسبل النصر والفوز ،وهذا لا يكون ولا يقع، أو يعلق على أمور قلبية بحتة لا أثر فيها لفعل الإنسان المؤمن الذي قال الله عنه ( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين) ولا قوله تعالى بعد موقعة احد( وتلك الأيام نداولها بين الناس) ولا قوله تعالى ( يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون)، وهذا الأمر ليس في هذا الباب وإن كان هو أجل أبوابه لكنه في كل أبواب الخبر القرآني.
لا يعني هذا نفي المعجزة، ولا الكرامة الإلهية، لكن المسلم وهو يقاتل ويفسر ويعتبر لا ينظر لهذا الأمر، بل ينظر إليه كما أمر الله تعالى بوجوب العبرة والاهتداء بالحدث على وفق ما تقرره سنن الوجود من قوله تعالى( وأعدوا لهم) وقوله تعالى( خذوا حذركم،) وأشباه هذه المعاني في القرآن.

الشيخ عمر محمود أبو عمر


للعودة للفهرس