JustPaste.it

file12.png 

لحظات مع القرآن/٦٧


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين وعلى آله وأصحابه أجمعين
أما بعد
فإن سر الخبر القرآني يكمن في كشفه بواطن من يتحدث عنهم، فهو لا يقف على الفعل فقط في مظهره، لكنه يذهب إلى منشأ حركة الفعل ومكون الإرادة له، وباعث حركته، وهذا من أعظم ما يجب الإعتناء به لشرح حركة الوجود والأحداث ، لأن هذه البواطن هي مراد الله تعالى تعالى في الحكم، وعليها يعلق العطاء الإلهي وجوداً ومنعاً، وبها يتحقق الجزاء يوم القيامة عذاباً ونعيماً، كما أن كشف هذه البواطن للموصوفين يعني وجوب اعتناء أهل القرآن بإصلاح هذه البواطن ، وذلك لتحقيق الوعود الإلهية في كل باب.
ومن مزايا هذا الكشف القرآني الجليل أنه يكشف إنسانية الفعل إن كان الموصوف إنساناً سواء كان في صلاحه أو غير ذلك، وذلك بوجود التردد أو مقاومة الشر الذي ابتلي به الإنسان من وجود هواه وشهوته، أو وجود الشيطان ونزغه.
وأما إن كان الفعل للرب فهو يكشف نفس الرب جل في علاه، وما تراعيه من أقدار وأحكام هي الحق والصراط المستقيم.
في حديث القرآن عن بغض نفوس الصالحين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، حيث أراد الله لهم قدر وفعل الخير لخير ما هم عليه من الصلاح والتقوى، جرى هناك حركة نفس خفية رصدتها عين الله تعالى وعلمه المحيط بكل شيء، لتكشف الرعاية الإلهية لهذا الصنف العظيم فقط، ولتبين أن الإنسان هو الإنسان في ضعفه الموجب لحاجته لربه الرؤوف به، فقال تعالى( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم) وسر العطاء ارتكز على هذا الوصف لما قال( من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم) ، فهذا وصف لحركة نفس ترددت في الإقبال، كان الرحمة بها والرأفة من الله عليها أن انتشلها من الذنب الذي هو أحد الخيارات، فكان كل ما قاله من الخبر متعلقاً بهذا الكشف، فتاب عليهم، وهو بهم رؤوف رحيم، فانبعث الوصف المدحي لهم بتحقيق القدر الذي يحبه الله لهم لما هم عليه من الخير.
هنا يقف المؤمن شاكراً لربه، عالماً صدق خبره لأنه لم يعرفه أحد إلا هو ، فهو حديث جرى ثم انقضى بعد أن غمرته النعمة فأقبل على الإستجابة لربه، وهو تعليم لمن أتى أن يعلم أن هذا ليس مما يمنع وقوعه في نفوس الصالحين.
لما وصف الله تعالى حركة نفس يوسف الصديق عليه السلام وهو يعالج الفتنة العظيمة التي حلت عليه في شبابه الذي وصف بقوله( ولما بلغ أشده) وهناك تم القذف به في محنة الإغواء، فجاء الوصف الرباني لحركة نفسه بقوله تعالى( ولقد همت به وهم بها) ثم جاءت العصمة الإلهية بقوله( لولا أن رأى برهان ربه) ليكشف الخبر القرآني الرعاية الإلهية لمثل هذه النفوس الشريفة، وليعلم المؤمن أن هذه الحركة النفسية فطرية الوجود لأن الإنسان هو الإنسان بما ركب عليه من فطر ورغبات، وليعلم أن هذا هو معنى الإختيار الإيماني، لوجود جانب الشر وداعيه ، ومع ذلك ذهب اداعي النداء الرباني.
وفي وصفه جل في علاه لموقف موسى عليه السلام عندما حضر السحرة بعصيهم وحبالهم، وألقوها أمامه وأمام الناس فخيل لهم أنها تسعى، فقال الله تعالى( فأوجس في نفسه خيفة موسى) وهذه حركة إنسان يعيش إنسانيته، تخاف على قدر ما يعرض لها من خذوب، وليس هذا مما يضرها، لكن الذي يضرها هو استجابتها لداعي الخوف هذا، فجاء النداء الرباني ليبين الرعاية الموفقة لمثل هذا الصنف العظيم من البشر( قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى) فكان هذا موضع اختيار بين أمرين، فكانت الإستجابة لأمر الله، فكان كما قال الله تعالى عنه( إنك أنت الأعلى) .
وهذا كثير في كتاب الله تعالى كقوله( اذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما) فتأمل بها على وفق ما تقدم تجد فيها تلك المعاني بينة.
وهنا إنسان يبتلى في إرادته ونوازعها، وهنا رب ينازع بين غضبه على عصاته وبين قدره الذي قدره، فتأمل هذا النزاع في نفس الرب تعالى:
( ولولا كلمة سبقت من ربك ) يقول بعدها ما يستحقون، مثل قوله( لقضي بينهم) أو قوله( لكان لزاماً وأجل مسمى)، ولكنه التأجيل لما كتبه الله تعالى على نفسه من قدر وحكمة تأجيل، فهذا كشف لنفس الله تعالى وما يقع فيها كما قال في الحديث القدسي: ما ترددت في شيء ترددي... الحديث
وهنا يكشف الله تعالى سبب اختيار الكافر لمعصيته:
يقول تعالى ( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة) يبين أن هذا هو علة من شرح بالكفر صدراً، بعد أن كفر بالله وكان مؤمناً، فيصف الله باعث هذا الفعل، أنه إرادة الحياة الدنيا، وليس الأمر إلا هذا.
وهكذا يمضي القرآن في سوقه لخبره ساعياً لكشف بواعث الإرادات للفعل وما جرى في هذه الإرادات من عوارض، أو ما جرى فيها من اتباع لشهواتها، ليعلم المؤمن ما الذي ينبغي الإعتناء به وتقويمه، وليدرك أن ما فيه من خير أصابه بعد تردد بين الشهوة ورغبة الدار الآخرة هي حالة جارية على الإنسان، كل الإنسان، وفي هذا الكشف عن حالة العاصي ابعاد لفهوم المؤمن بهذا الكتاب من اعذاره بكذب يدعيه أنه اختار هذا بعيداً عن سهوته والرغبة بالعاجلة والإعراض عن الآخرة كما يحب بعض المسلمين اعذار الكافرين بمثل هذه المعاذير.
قاعدة: إن التفسير القرآني لباطن الفعل البشري تفسيراً له لا يعني تعليق حكم الله على هذا الفعل بوجوب التحقق منّا لهذا الدافع، فالوصف لحرك الإرادة ليس قيدا للحكم، وتفسير هذا هو التالي:
في قوله تعالى عن سبب ترك ابليس السجود لآدم جاء التعليل للفعل بقوله( أبى واستكبر) والإباء حالة ظاهرة، تعني الرفض، والاستكبار حالة باطنة كما هو معلوم، فالحكم على فعل ابليس أنه كفر لا يحتاج إلى تحقق القاضي البشري والحاكم الإنساني أن يتحقق من وجود هذا الدافع الباطني ،فتفسير الفعل ليس شرطاً شرعيا لإلحاق الحكم به، ولكن هذا التفسير مهم لنفس المؤمن لمعرفة حالة خصمه وعدم إعذاره كما يفعل الجاهلون.
فلا يقال هنا: إن من فعل فعل ابليس وقال مقولته لا يكفر حتى يتحقق الحاكم وجود الإستكبار في القلب، فإن هذا لا سطلع عليه إلا من تكلم بالقرآن الكريم وهو الله تعالى.
ومثلها في قوله تعالى( إلا من شرح بالكفر صدراً) فهذا وصف لحالة الكفر بالله بعد الإيمان إن لم يوجد الإكراه هلى هذا الفعل، والوصف الباطني ليس قيدا لا في الفقه ولا في قواعد الشرع، لأنه حركة باطنه لايطلع عليها إلا الله، وحين يوجد الفعل بشروطه يعني أنه وقع على وفق ما وصف الله تعالى، فمن كفر بغير إكراه فهذا وصفه عند علام القلوب وحركتها.

الشيخ عمر محمود أبو عمر


للعودة للفهرس