JustPaste.it

file12.png 

لحظات مع القرآن /٦٨


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد
الحديث عن النسخ في القرآن متشعب ، ولكن مما أجزم به ضرورة أن الله تعالى لم يبق لنا آية في كتابه لنتلوها لفظاً دون أن يبقى فيها معنى من معانيها لا يصلح للعمل والإمتثال، ولذلك لا يوجد آية هي من كتاب ربنا نتلوها اليوم فيه إلا وفيها أمر من العمل لم يرفع ولم ينسخ، أما الرفع الكلي لحكم آية ولم يبق فيها من أمر التعبد إلا التلاوة فأمر أجزم بخطئه، لأن التلاوة أمر تبعي لا أصلي لمقاصد هذا الكتاب العظيم، فما أنزل هذا القرآن إلا للتدبر المفضي للإقتداء والإمتثال، وهذا مقصد انزاله أصالة ثم تكون التلاوة والتعبد بها تبعية ، ولا يصح أن يزول الأصلي ويبقى التبعي والفرعي، وهذا ما يجب المصير إليه.
وداعي هذا الإختيار هو تعظيم كتاب الله تعالى،وهذا مما اخترته وصرت إليه، وبقي أمر النظر في كل آية قال بعض أهل العلم بالرفع الكلي لحكمها ، وماذا بقي فيها من حكم وعلم عملي واعتقادي لم يرفع ولم ينسخ.
ولذلك فالقول الذي هو أحق بالإتباع هو نفي النسخ الكلي لآيات الكتاب التي بقيت في رسم المصحف، وتتلى ويتعبد بتلاوتها.
ولقد كنت أجبن من إظهار هذا الإختيار لشيوع غيره من القائلين بالرفع الكلي كما هو في كتب علوم القرآن حتى وجدت ابن القيم رحمه الله قد قال بهذا القول، ولكن مبعث اختياره لهذا القول ليس هو مبعث اختياري هنا، وقول ابن القيم هو في كتابه مفتاح دار السعادة، أسوق بعض ما قاله ومبعث اختياره ، فيقول: وهاهنا سر بديع من أسرار الخلق والأمر به يتبين لك حقيقة الأمر وهو أن الله لم يخلق شيئاً ولم يأمر بشيء ثم أبطله وأعدمه بالكلية، بل لا بد أن يثبته بوجه ما لأنه إنما خلقه لحكمة له في خلقه، وكذلك أمره به وشرعه إياه هو لما فيه من المصلحة ، ومعلوم أن تلك المصلحة والحكمة تقتضي ابقاءه.
ثم يقول: فتأمل الأحكام المنسوخة حكماً حكماً كيف تجد المنسوخ لم يبطل بالكلية بل له بقاء بوجه، فمن ذلك نسخ القبلة وبقاء بيت المقدس معطماً محترماً تشد إليه الرحال ويقصد بالسفر وحط الأوزار عنده واستقباله مع غيره من الجهات في السفر، فلم تبطل تعظيمه واحترامه بالكلية، وإن بطل خصوص استقباله بالصلوات، فالقصد إليه باق وهو نوع من تعظيمه وتشريفه بالصلاة فيه، والتوجه إليه قصداً لفضيلته.
ويقول: ومن ذلك نسخ التخيير في الصوم بتعيينه، فإن له بقاءً وبياناً ظاهراً...

ثم جعل يستعرض الأحكام حكماً حكماً على وفق هذه الطريقة، ليدعم مقالته واختياره، حتى قال:
وأما ما كان مستصحباً بالبراءة الأصلية فهذا لا يلزم من رفعه بقاء شيء منه،لأنه لم يكن مصلحة وإنما أخر عنهم تحريمه إلى وقت لضرب من المصلحة في تأخير التحريم،.... ولهذا كان رفعها بالخطاب لا يسمى نسخاً، إذ لو كان ذلك نسخاً لكانت الشريعة كلها نسخاً، وإنما النسخرفع الحكم الثابت بالخطاب، لا رفع موجب الاستصحاب، وهذا متفق عليه. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
ومع كلام الإمام وقفات:
-- أن ما قاله رحمه الله من الإجماع على عدم استخدام لفظ النسخ في وفع حكم البراءة إنما هو في كتب المصنفين للأصول، وأما استخدام الفقهاء للفظ النسخ ففيه ما أنكره ونفاه، فالإمام أبو جعفر الطحاوي يستخدم لفظ النسخ في المعنى الذي نفاه ابن القيم، وللعلماء في استخدام لفظ النسخ صور متعددة، وهو عند الأولين مطلق الرفع، سواء كان كلياً أم جزئياً.
-- طريقة ابن القيم في فهمه لمعاني الأحكام فتحت لي باباً في طريقة القرآن لاستخدام الألفاظ، فإن النظر لظرف الكلام مهم في استخدام اللفظ الموصل لهذا الظرف، سوى المعاني الدالة عليه الكلمة نفسها ، فالمفسرون على أن لفظ( الظن ) في القرآن يكون على معاني في نفس كلمة الظن، إذ يرتقي مستواه لدرجة اليقين كما في قوله تعالى( الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) وهذا ظن بمعنى اليقين، والذي أظنه أن لفظ الظن هنا إنما هو إشارة لواقع المحكوم عليه، وهو يوم القيامة، فهم على يفين بوقوعه، ولكن هناك ما هو ظني غير الوقوع، وهو زمنه ووقته، فهذا لا يعلمه المؤمن، فلزم استخدام لفظ يجمع بين اليقين على الفعل وعلى ظرف الفعل، وهنا الملائم له هو كلمة الظن، كما استخدمها ربنا تعالى.
ومثلها كلمة ( عسى) فهي للترجي، ولكن كما يقول ابن عباس رضي الله عنهما إنها موجبة، اي يقينية الوقوع،ومن تفكر في موطن عسى في القرآن رآها معلقة على حكم، وما وراءها وعد ، والوعد قد يتخلف لتخلف شرطه، فليس مجرد وقوع الفعل( أي الحكم) بظاهره يوجب وقوع الوعد، بل لا بد من مراعاة شروطه وظروفه وعدم وجود موانعه، وهذا يفسر لك دعاء النبي صلى الله عليه وسلم واستغاثته لربه في عريشه في موقعة بدر، مع قوله تعالى( اذ يعدكم الله احدى الطائفتين أنها لكم)، وذلك لخوف النبي صلى الله عليه وسلم من رفع الوعد لتخلف الشرط، وهذا مما يغفل عنه الكبار ، ذلك لفرحهم بالوعد ينسون شروطه وتقييداته، وهذا ما وقع مع نبي الله تعالى نوح، وهو من أولي العزم من الرسل، اذ قال له الله له( وأهلك إلا من سبق عليه القول) مع ما جاء بعدها( ولا تخاطبني في الذين ظلموا) ، فلما جاءالطوفان وأخذ ابنه مع الظالمين، قال عليه السلام( إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق)، فإما أنه غلبته الرحمة على ابنه، وإما أنه لفرحه بوعد نجاة اهله لم يلتفت لشرط النجاة،فرد الله عليه( إنه ليس من أهلك)، فوقوع كلمة عسى بعد الشرط لها ضرورتها لظرف هذا الشرط من هذا الباب أولاً، وثانيا لجهل الموعود من عباده بوقت حصول الوعد، فلاءم هذا كله لفظ ( عسى)، ومع ذلك هي موجبة في علم الله وشرطه، وأما في علم الناس فهي على الترجي.
ومن تفكر في استخدام القرآن لكلمة بدل أخرى إنما وجدها لهذه المعاني، والله أعلم.
وعودة على موضوع النسخ، فإن ما قاله ابن القيم في تفسير الآيات التي حكم العلماء عليها بالنسخ الكلي تحتاج أكثر مما قاله الشيخ رحمه الله، ولها صور من العمل غير ما قاله، وهذا يشجع طالب علم مجد أن يصرف لها الجهد لأهميتها.
دافع ابن الفيم ما رأيت في هذا الباب، وأما ما جعلني أختار هذا القول بعدم الرفع الكلي فهو أن هذا الكتاب أجل من أن يكون فيه كلام يتعبد بتلاوته فقط دون أن يكون في كل آية منه هداية لعمل يقوم له المتقون، ويبقى أمر مهم، وهو أن هذا الكتاب هو الكتاب الأعظم في الوجود الذي يمتحن الناظر فيه والمقبل عليه.

الشيخ عمر محمود أبو عمر


للعودة للفهرس