JustPaste.it

file12.png 

لحظات مع القرآن/٦٩


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد نبي الله تعالى الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد
النصر مع الدين حالة أخرى غير ما نراه من حالات الغلبة مع غير هذا الدين، ذلك لأن الكافر في نصيبه كما سماه الله تعالى( وإن كان للكافرين نصيب) لا يحصل إلا في هذا النصيب إلا العبرة، والفهم في جريان السنن الإلهية ، ولكن مع المؤمنين هناك العطاء الإلهي، وهناك الحب والبركة والتأييد والدخول في آيات كثيرة تدل أن النصر مع المؤمنين هو دخول في حالة من الرضى الإلهي والقبول لمن حققه والحب له.
أهل بدر حصل لهم النصر ، فكان النصر هذا دليل حب الهي لهم، حتى قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم، والله يقول عن الفتح( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً)، وأما ما حصل لمن معه من مستحقي هذا الفتح فقال سبحانه( ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً) ، فالنصر في عالم الجهاد والدعوة ليس فقط تحقيق غلبة دنيوية لكنه يعني رضى الله تعالى عن هؤلاء القوم، وقبوله لهم، وإدخالهم في عالم الأولياء والصالحين، ولذلك لا بد من توافق الفعل الشرعي من المجاهد مع الفعل الالهي من الاصطفاء لنوع هؤلاء المجاهدين الذين يستحقون هذا النصر.
في غزوة بدر تم الاصطفاء القدري لنخبة تستحق في عالم الغيب دخولها في ديوان البدرية، وهذا فعل قدري وقع فيه الاصطفاء من غير قرار قائد له، كما ورد في الأثر من قوله صلى الله عليه وسلم: هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها، قال ابن عباس رضي الله عنهما:فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعض وذاك أنهم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حرباً.
فها أنت ترى الاصطفاء الإلهي لهذه الموقعة، وهذا ما تحقق بعينه في تبوك حيث وقع الاصطفاء الإلهي لمن أسبغ الله عليهم توبته بقوله( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار) ، فالنصر في هذا الدين ليس معنى دنيوياً به يتحقق الغلبة على الأعداء فقط، لكن فيه معنى القبول والمغفرة والرضى، ولذلك كان هذا الإجراء من ملك مسلم عظيم، مدحه الله تعالى بملكه لبسطة العلم والجسم ، ألا وهو طالوت.
في سورة البقرة ذكر الله قصة بني اسرائيل من بعد موسى
وكيف طلبوا ملكاً يقاتل بهم في سبيل الله تعالى، وجرت فتن عظيمة يكون الناس فيها في حالة ابتلاء لكل الصور التي بها يتساقط من لا يستحق النصر، أي المغفرة والتوبة والولاية والرفعة والاصطفاء، فكانت فتنة نوع هذا الملك، فحيث قال لهم نبيهم اختيار ربهم تعالى لطالوت، جاء الاعتراض( ولم يؤت سعة من المال) و( أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه)، وهذا خطاب الملأ، كما تقدم في قوله تعالى عنهم( ألم تر إلى الملأ من بني اسرائيل) فهؤلاء ملأ لهم قيمهم في القيادة:
قيمة الثراءوالمال، وواضح أنهم يريدون إجراء الاصطفاء على وفق هذه القيم، فهم مجتمع تجاري مالي يقدم فيه أصحاب الأموال والثراء لقيادة الجهاد، وهذا لا يحقق النصر، يعني ليس بهذا يتم الاصطفاء والتوبة والولاية.
وقد عرضوا بأمور خفية في قولهم( ونحن أحق بالملك منه)، وهذه قيم الجاهلية الفاسدة كفيمة العرق والعشيرة والأصل، ومثلها في يومنا القطرية وتقسيمات الدول الجاهلية، فهذه إن قدر الله لها حكم الجهاد يعني عدم استحقاقها النصر، فكيف يرضى الله تحقيق نصر لدينه يدخل به أهل هذا النصر تاريخ التأييد الإلهي بقائد اختير على وفق فيم الجاهلية، أو كانت قيم الجهاد هذا على وفق هذه القيم القذرة؟
وقد جرت أمور من التصفية الشرعية والقدرية لهذا الجيش ليتحقق النصر، كانت كلها تسقط جموعاً من اللاحقين به على معنى ما قالوه( ومالنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا) فكان بعد أن جاء الأمر بالقتال أن قال الله في وصفهم( تولوا إلا قليلاً منهم) ولكن هل مجرد اللحوق والقبول بالقتال كاف في الدخول في الصالحين؟
ليس هذا كافيا،فكانت فتنة القيادة، وما تقدم من الذكر.
ثم لما سار بهم، جاءت تصفية أخرى، هي فتنة النهر،( فلما فصل طالوت بالجنود) فهؤلاء جنود قد أعدوا لأمر القتال، فهم في الظاهر قد اكتمل شأنهم، فبقيت فتنة البواطن في امتثال القوة الإيمانية، فابتلاهم الله بالنهر( فمن شرب منه فليس منه ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده ) فكان أن سقطت جموع، ( فشربوا منه الا قليلاً منهم).
ثم جاءت غربلة أخرى حين وصلوا فرأوا الجموع، هذا مع أن القرآن وصف الواصلين لصف القتال بقوله( فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه) فهم مؤمنون، إلا أن البعض قال( لا طاقة لنا اليوم بطالوت وجنوده) .
وللقاريء أن يتصور دسيسة تلك الكلمة منهم( اليوم) ، فهي تخفي ظلال الخوف الحاضر، ليتكيء عليها هؤلاء عند المباحثة، ذلك بأنهم لا يعطلون الجهاد، ولا يبطلونه، ولكنهم يؤجلونه ، مع أن موجبه قد حضر، وهذا شأن النفس الذكية في ستر صرفها الواجب عند حضوره، لا بإظهار إماتته ونسخه، لكن تحت ظلال حكمة التأجيل لتحصيل أسباب النصر ، فيما يزعمون.
ولهؤلاء يقال: إن كانت القضية قضية جموع وكثرة فلم وقع الإبعاد لجنود سبق لهم الإعداد فطردوا من الصفوف، قدراً أو شرعاً بما تقدم من الفتن كفتنة النهر؟
لهؤلاء أن يقولوا للجهاد: ليس اليوم، بل نعود ونحضر جنوداً أخرى.
في جواب الفئة القائدة والمبصرة لأمرين هما في قوله تعالى( قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)
أولاهما : حسن العلاقة مع الله والثقة به( يظنون أنهم ملاقوا الله)، وهذه عدة الذهاب إلى الموت دون جزع ولا خوف.
وثانيهما: قراءة التاريخ والاعتبار به( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة)
، اقول في جواب الفئة المؤمنة قراءة لحدث النصر، وأنه في هذه الموقعة قد قدر الله له أسبابه، فعندما تأتي الفتن ولا تستأصل الجموع، يعني أن الخالص من هذه الجموع بعد الفتن سيحقق الله به النصر.
في هذا لمن تفكر بيان الفرق بين ما يقدر الله تعالى من أقدار هي بيئة النصر الإلهي، أي بيئة العطاءوالإصطفاء، وبين ما يظنه الناس من أسباب النصر عندهم.
في التقدير الإلهي يتم التمحيص ليحصل إبعاد من لا يستحق العطاء، وفي ميزان الناس: هاتوا واجمعوا كل الجموع؛ منافقين يقودون من وراء ستار، ولصوص يرون مصالحهم مع الجموع السائرة، فيركبون الظهور، وقادة لهم أسماء صنعت على غير عين العلم والقوة، فإن قدر الله لهذا الجهاد خيراً، جاءت الفتن ، وطال الوقت ، ليرتفع في الجموع ميزان الحق الموصل لدرجة الاستحقاق والعطاء، وليسقط من يسقط لفساده وقصوره عن هذا المقام.
فهما عاملان لا بد منهما حين تجري الأقدار ليحصل النصر والفتح: الفتن، وطول الزمن، أولاهما للطرد، والثانية للإعداد.

الشيخ عمر محمود أبو عمر


للعودة للفهرس