JustPaste.it

file12.png 

لحظات مع القرآن/٧٢


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين
أما بعد
فقد تقرر صلاح الوجود من جهتين من جهة تمامه على خلقته الملائمة له، ومن جهة قيامه على مقاصده التي خلق لها، ومنع القرآن من إفساده( ولا تفسدوا في الأرض بعد إفسادها) فأين موقع الإنسان من هذا الوجود؟
في بداية السورة كان هناك الجواب، فقد قال سبحانه( ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون، ولقد خلقناكم ثم صورناكم)، فقد أعطي الإنسان أدوات التمكين لتحصيل التسخير الذي تقدم ذكره، فكان ما أعطي هذا الإنسان أمران:
التمكين، وأسباب العيش والحياة، والتمكين من الأرض من معانيه قدرته على تصنييع ما فيها، وتحويله، ليتلاءم أكثر مما هو عليه في أصل صنعته، وإعطائه المعايش هو أخذ الشيء على أصل الخلقة، وتقدم ذكر التمكين لأنه أعم وأعلى من ذكر بسط المعايش، وكان هذا التقديم لذكر الإنسان قبل ذكر حال الأرض وصلاحها لأنه متضمن لما سيأتي، فقوله( وجعلنا لكم فيها معايش ) هو من صلاحها، ثم لأن الإنسان هو مقصد هذا الوجود ، فلا بد من ذكره والإشارة لحاله أولا.
وقوله تعالى( مكناكم) يعني صلاحية هذا الإنسان قدراً وتكوينا لمقاصد حياته، وكذلك تأهيل هذا الند لاستجابته لإرادة الإنسان إن أراد تسخير هذا الوجود لمقاصده، فللا يكون التمكين إلا بتأهيل الفاعل، وصلاحية الموضوع.
وهكذا كان الوجود بخلق الله له، من إنسان ومادة حياته وظرف وجوده تام الخلقة على أحسن حال، وحيث تمت كلمة الله صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام، فقد تمت كلمة الله القدرية على أحسن تقويم، وهذا كله مبسوط في القرآن في أكثر من موطن، يعرفها التالي له والمتأمل فيه.
وقولنا أحسن تقويم بما تقدم ذكره من حسن التمام في الخلقة وحسن قيامه لمقصده، ومن عجائب ما يذكر في القرآن أن النعم لا تذكر فقط لهذا بل لها شيء آخر هو من تمام الحسن وأبلغه، فتأمل قوله تعالى( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون) وذلك في سورةالنحل، فلم يكتف القرآن بذكر ما تقدم من قيامها لمقصد وجودها الواجب، بل حصل ما هو أعظم من هذا وهو الحسن والجمال، وتأمل قوله تعالى( والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) حيث ترى موضع كلمة الزينة الي هي فوق قيام الشيء بالواجب ، بل بما زاد عليه من الحسن والتكميل ، وكذلك خذ قوله تعالى( وتستخرجوا منه حلية تلبسونها)، وتأمل قوله تعالى( وزينا السماء الدنيا بمصابيح) وهكذا ترى فوق الحكمة جمالاً رائعاً ذلك لأن الله جميل يحب الجمال، وحين يأتي الفقيه لحكم من الأحكام يمنع فيه فساد الإنسان والوجود ، فإنه لا يأتي فقط لما هو افساد لقيام الشيء على ما خلق له من الواجب، ولكن كذلك يمنع في فقهه افساد كون الشيء جميلاً وزينة، وهذا ما تراه في سنة النبي صلى الله عليه وسلم مشروحا أتم شرح وأروعه.
في هذا التقرير الإلهي لهذه الحقائق كان قوله تعالى ملائما أشد الملائمة، ومذكراً لشيء حاضر غير غائب ، وهو قوله تعالى( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)، فهو سبحانه جل في علاه لم يأت منكراً تحريم ما هو من أسباب معاشه ووجوده، لكنه أتى لما أبعد من ذلك، وهو الزينة، وسياتي تقصيل القول في معنى الزينة كما هو في هذه السورة، وهنا نقول: حيث ذكر ما تقدم من قوله تعالى( وجعلنا لكم فيها معايش) كان لا بد من الإنكار على من توهم أو زعم حرمة هذه المعايش وما فيها من حسن وجمال، فقال سبحانه( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)، فإن سألت موضع قوله تعالى بعد ذكر النعم وأحكامها ( ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) ذلك لأن قانون الوجود مع هذه النعم أن لا تدوم، بل تذهب، فإما في العذاب وإما بفعل عوادي الزمن ، كما قال سبحانه وتعالى( وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً، كان ذلك في الكتاب مسطوراً) فهي آية تضبط زمن هذه النعم بوجود أهلها في هذه الدنيا.
في هذا الوجود الذي تقدم وصفه كان هناك جزر من الفتنة والإبتلاء، في داخل الإنسان، وفي داخل هذا الخلق من غير الإنسان، وهو مادة الحكم الشرعي في جانب الحظر والمنع، هو القليل جدا، كقلة وجود شجرة في جنة لا تترك للإنسان حاجة إلا وهي مقضية بالطيبات، لكن تركيب الفطرة الإنسانية في حب الملك والخلود هو ما يؤجج سعار الذهاب لهذه الشجرة دون التمتع بكل هذه الطيبات.
وللحديث صلة

الشيخ عمر محمود أبو عمر

للعودة للفهرس