JustPaste.it

file12.png 

لحظات مع القرآن/٧٣


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله الأمين وعلى آله الطيبين وعلى صحبه أجمعين
أما بعد
فمع هذا التسخير التام لهذا الوجود للإنسان، كان هناك فقط مساحة صغيرة للمحظور والممنوع، في السماء حيث بدأت مسيرة الإنسان، من أجل ابتلائه بالبقاء في النعيم أو الخروج للشقاء كما قال تعالى( فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى)، وفي هذه الحياة الدنيا ليكون المقام النهائي لهذا الإنسان، إما عودة للجنة، وإما الخلود في النار، وهذا ما قاله تعالى( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا) وحيث وجدت هذه المساحة الممنوعة قبل الجنة فهي ليست خالصة له، وإنما يكون الخلوص بعد ذلك، ولذلك قال( خالصة يوم القيامة) أي بلا محظور هو محط البلاء، ذلك لأن الجنة دار جزاء ونعيم تام لا محنة فيها، فالزينة والطيبات من الرزق هناك خالصة من هذا المعنى، أي من معنى البلاء والتحريم، فهذا هو اقوى ما يقال في هذه الآية من قوله تعالى( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)، فإن قيل: وها هو الكافر يأخذ منها في هذه الحياة الدنيا؟ فيقال له: إن هذا على جهة الغصب الشرعي، مع الموافقة القدرية، ولذلك سمي ما يؤخذ من الكفار بلا إيجاف خيل ولا ركاب بالفيء، وكان مما قيل في هذا المعنى ، أن هذا المال فاء؛ اي عاد لصاحبه، فكان وهو بين يدي الكافر على جهة الغصب الشرعي، ولا حق له فيه، فمن امتنع عن عبادة الله، ولم يشكره على نعمه فهو مغتصب له، ولا حق له فيه، وإنمايأكله حراماً من جهة هذا المعنى، فإذا أخذه المؤمن منه في الجهاد فيئا، فهو عائد إلى مستحقه الذي أدى شكره ، فهو صاحبه على جهة الإذن الشرعي، ولذلك قال تعالى( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا).
كان النعيم بلا مشقة في السماء مربوطاً بمحنة عدم أكل الشجرة، والإنسان مركب على الحرص، وهو أول منازل اقتحام الشهوات، ومركب كذلك على الخوف من الفقر والموت والفناء، فكان مدخل الشيطان إليه من هذه الأبواب، وحيث بدأت المحنة بتغيير الأسماء، ذلك لأن الأسماء ليست أداة للتعبير فقط، ولا هي لنقل المعاني بين المتخاطبين لكنها كذلك معاني شعورية، تمس الأحاسيس والمشاعر، وحيث يطلق اللفظ الذي تحبه النفس على شيء حتى لو كان في ذاته مما تاباه النفس، فإن اللفظ يسرق شعور الإباء هذا ليحط بدلاً منه شعور القبول والحب، وهكذا علم الشيطان مصدر قوة الإنسان في هذا البيان، فبه حصل له العلم الذي أسجد له الملائكة في قوله تعالى( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبؤني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا لا علم لنا الا ماعلمتنا إنك أنت العليم الحكيم) ، فمن مركز قوته أتاه، لا بإزالتها ولكن بالتلعب بها وإفسادها.
هذا الباب وهو باب إفساد العلم هو ما اهتمت هذه السورة به ، وأتت عليه بتفصيل وتوضيح مهم، بل بينت وسائله وسبله.
يقول الله تعالى في السورة كاشفاً حجة المعرضين عن أمره بقوله( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها)، وقد شرح المقولة الأولى بعدم اعتبار هذه الحجة وهو اتباع السابقين بقوله تعالى( قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ، كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون، وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون)، فلم يجعل الله للتابع حجة بكونه سائراً على سنن تلسابق من آبائه وغيرهم، بل إن الآيات التي بعدها تدل أن علة هذا الإتباع هو الكبر من اتباع الحق، وتأمل قوله تعالى( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) ذلك لو سألت : لم هذه الجملة المعترضة في الحديث عن المؤمنين بقوله( لا نكلف نفساً إلا وسعها) وتأملت ما تقدم من خصومة التابع مع المتبوع، وما تقدم من حجة العاصي من أنه وجد أباه يفعل ففعل، علمت أن هذه الجملة سببها بيان ادراك النفوس للحق حتى مع كل سبل الشر، ومع حجج النفس من وجود الموانع المدعاة لهذا الإختيار للباطل، فالحق الذي كلف الله النفوس به ليس غامضاً ليحجبه وجود أب سابق له في الفعل، ولا هو غامض حتى يستره السابق عن اللاحق، فهؤلاء المؤمنون الذين جنوا هذه العاقبة بعملهم كما قال تعالى( ونودوا ان تكلم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) ليس أمرهم في إدراك الحق بأقوى من غيرهم، فليس الفضل في العلم بالحق، ولكنه الفضل في اتباع الحق وعدم اتباع الهوى.
وتزاد الحجة بياناً في هذا الأمر بعد ارسال الرسل كما تقدم في السورة من قوله تعالى( قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون) وهذه أي قوله( كما بدأكم تعودون) تأكيد لما تقدم من صلاح الأصل الذي خلق عليه الإنسان، كما هو الصلاح الذي خلق عليه الوجود.
فإن قيل : فأين موضع قوله تعالى( إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون)
قيل: هذا حال لا يقع إلا بعد اتباع الهوى، والسير عليه، وذلك بعد بيان الحجة ووضوحها، فإذا استمرأت النفس الشر حسبته حسناً، وإذا وافقت الشر في الإبتداء ثم سارت عليه حتى ألفته صار هو الحق عندها، وهذا هو واقع البشرية في كل زمان؛ اليوم والبارحة، يأتي إلى الشر وهو عالم به، تحذره الفطرة من إتيانه، فما زال مصراً عليه، مقبلاً عليه بكله حتى يحبه ويراه الحق دون غيره.
وهناك معنى آخر في هذا غير ما تقدم، وهو أن من عمل الشيطان اتباع الأماني، أو غيرها من السبل، أو موافقته كما في هذه السورة في قوله تعالى( وقاسمهما إني لكما من الناصحين) وغير ذلك مما يتعلق به العاصي من سبل الشيطان للإقامة على المعصية.
وهناك معنى ثالث، وهو تعلق هذا بغير هذا الأمر، إنما في قوله تعالى عنهم بقولهم( والله أمرنا بها) وهذه في الشر أكبر من الاولى، وهي ما سياتي الكلام حوله.

الشيخ عمر محمود أبو عمر

للعودة للفهرس