JustPaste.it

file12.png 

لحظات مع القرآن/٧٤


وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين
أما بعد
تعلق الفساد في نفس الفاسد له حججه النفسية ، منها ما تقدم من كونه لم يخترع هذا الفساد، ولكن سار فيه على سنن الآباء السابقين، فقطع الله تعالى في هذه السورة أي الأعراف هذه الحجة بما تقدم ذكره، وبما قال تعالى في خواتم هذه السورة(أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون)وبقيت حجتهم الثانية، وهي قولهم( والله أمرنا بها) وهذه كما تقدم هي التي أورثتهم الظن السيء بما قال الله تعالى عنهم( وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) في بعض وجوه النظر في تفسيرها، وهو الأقرب، وهذه الحجة هي أعظم ما يطرأ من الشر على الوجود، ذلك لأن المعصية والفاحشة تتستر باسم الدين وطاعة الرحمن، ولذلك أتى عليها القرآن محواً وإزالة بكل حجج الحق التي تدركها النفس من ذاتها ومن غيرها.
كان الرد الأول على هذا الإدعاء قوله تعالى( قل إن الله لا يأمر بالفحشاء)، وهذا إن ربطت السورة بعضها ببعض ذهبت فوراً بلا تردد إلى خاتمة آيات هذه السورة إلى قوله تعالى( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون)، فهنا تفهم قوله تعالى( قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) ذلك لأن من كان صفاته الحسن فإنه لا يأمر بالشر ولا بالسوء،فإن مقتضى صفات الحسن أن لا يصدر إلا الحسن من صاحبها، قولاً وفعلاً، وهذا أمر فطري ، فجعله الله أول ما يرد به على الدعوة الباطلة هذه.
وأنت إن أردت علة ما سيقت له قصص الأنبياء في هذه السورة، رأيت فيها معالجة الإنسان وتاريخه، ومن ذلك معالجة هذه القضية، وذلك في قوله تعالى عن خبر شعيب عليه السلام(ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين) ، وهي إن لم تنس تذكير بما تقدم من أن أصل الوجود هو الصلاح، اذ تكرر هنا من قول شعيب عليه السلام( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) ثم ختمت الآية بقوله تعالى( إن كنتم مؤمنين) ذلك لأن اعتقاد المرء بربه على جهة الحق تجعله لا يأتي إلى شريعة الصلاح، ويعرض عن الفساد، وربط هذا الإتيان بصفات رب العالمين، فإن نسب الشر لأمره، فإنما هو الإلحاد في أسماء الله وصفاته، ولذلك كلما كان المرء عالماً بربه كلما كان عالما بشرعه، وكلما كان عابداً متقرباً إلى الله بإخباته وطاعته وعبادته وتسبيحه وذكره كلما كان أقرب في فهم مقتضيات هذه الصفات، أي أعلم بالحق عند مضايق الطرق، وهذه لا يفهمها إلا من أدام الذكر والصلاة والإستغفار حيث يحس صاحب هذا الحال نور الله في قلبه بهدايته إلى ما غيه صلاح الوجود ، والبعد عن أسباب فساده.
وقضية الفساد في الأرض تكررت في خطاب الأنبياء لقومهم في هذه السورة كما تقدم من قول شعيب عليه السلام، وكذلك من قول صالح عليه السلام، وهو يقول لقومه( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون الجبال بيوتاً فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين) ، ثم انظر تكرارها ذكر عاقبة المفسدين، كما في قول شعيب عليه السلام(وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين) وكذلك في قوله تعالى مخبراً عن عاقبة فرعون وقومه( فانظر كيف كان عاقبة المفسدين)، هذا مع ما ذكر في السورة من سنن الإهلاك التي سنمر عليها إن شاء الله فيما يأتي.
ومن تنبيهات القرآن على قضية رد الدعوى الباطلة في كون المعصية هي شرع الله تعالى ، جاء قوله سبحانه تعظيما لهذا الجرم حيث جعله أعظم ما يقع في الوجود من فساد، وهو نسبة الباطل لدين الله تعالى وشرعه، فقال سبحانه( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم بنزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) فجعل القول على الله أعظم من الشرك به تعالى، ذلك لأن الآية أتت بالمعاصي من الأدنى إلى الأعلى كما هو بين، ثم جعل سبحانه الكذب عليه أعظم من التكذيب بآياته والإستكبار عليها فقال سبحانه في هذه السورة( فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته) وذاك بعد قوله تعالى( والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أو لئك أصحاب النار هم فيها خالدون)
وفي هذه السورة كشف لكيفية وقوع هذا الإدعاء، أخر خبره إلى نهاية السورة، وذلك في قوله تعالى( واتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين) فهذه الصورة من علماء الضلالة الذين باعوا أنفسهم لغير الله رجاء العاجلة، وتركاً لوعد الله في الآخرة هم سبب هذا الفساد، لأنهم يوقعون عن رب العالمين، والناس يأتونهم ليأخذوا منهم ما قال الله تعالى من الأمر والنهي، فيصدرون عنهم بالباطل والشر والفساد، ذلك لما يخبرونهم من الكذب عليه جل في علاه.
هذا الخبر عن هذا الذي أعطاه الله العلم فلم ينتفع به هو الإجابة عن سؤال السائل: كيف جاز لهذه الجموع أن تكذب على الله وتنسب له الحكم بالشر والباطل.
الجواب هنا: حيث يكمن في علماء السوء الذي وصفهم الله بالكلاب، ثم قال جل في علاه( ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون)، وهؤلاء هم من قال فيهم هنا( الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعباً) وعادة القرآن أن يقدم اللعب على اللهو، وذلك لأن هذا هو السنة في جريان أمر الإنسان، إذ يبدأ في صغره باللعب، ثم إذا كبر وترك الواجب صار فعله لهواً، لانه من الإلهاء، وهو صرف الفعل من الواجب أو ما في معناه إلى ضده، فهو من الصغير لعب، ومن الكبير لهو، ولكن هاهنا في هذه السورة حديث عن اتخاذ الدين، فجعلوا دينهم الذي يدينون به لهواً، أي صرفاً من الحق إلى الباطل، ومن الخير إلى الشر، فلهو بما وضع له من الصلاح إلى الفساد، ثم جعلوا هذا الدين بعد تحويله لعباً، وهذا كذلك تجده في سورة العنكبوت، حيث قدم اللهو على اللعب بخلاف الحديث عن حالة الإنسان العامة.
هذا الأمر ، وهو حال المبلغ عن الله تعالى، وكيف هو بصورتيه الحسنة والقبيحة، هو ما اهتمت به السورة، فتأمل قول موسى عليه السلام وهو يخاطب فرعون( حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق)، وتأمل قول هود عليه السلام وهو ينبههم إلى كذبهم على الله تعالى( أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان) ، ثم انظر في قول شعيب عليه السلام( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون) هكذا بإطلاق يدخل فيه الإيعاد والوعد بالكذب الباطل في كل صوره، ومنه زعم الحسنة والسيئة، كذلك تأمل ذكر خبر القرية التي كانت تعصي أمر الله يوم السبت، تحايلاً على شرعه، ثم كيف نجى الله الناهين من العذاب، تعلم أن من أعظم مقاصد هذه السورة بيان عظم الكذب على الله تعالى، وإن من أعظم الشر في الوجود هو نسبة الفاحشة والغلط على الدين، وأنه أكبر وأعظم ما يعصي به هذا الإنسان ربه.
يقابل هذه الصورة حالات إيمانية جليلة، منها:
(ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون).
(والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين).
( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر)
وللحديث صلة

الشيخ عمر محمود أبو عمر

للعودة للفهرس