JustPaste.it

file12.png 

لحظات مع القرآن/٧٥


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد النبي الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين
تكشف سورة الأعراف مراتب المعصية في الوجود، وتبِين عن نوازع كل مرتبة، ذلك بأن هذه النوازع هي التي تدل على حقيقتها، فقد تشترك المعاصي في الصورة لكنهما يختلفان في الحكم لاختلاف منزع كل فاعل، هذا إن اتفقت المعاصي في الصور، ولكن ليس الأمر مطلقاً في هذا الباب، وقد جاء مع هذه المعاصي المذكورة في هذه السورة كذلك مراتب العقوبة لكل واحدة.
أول معصية ذكرت في هذه السورة هي معصية ابليس، وذلك في قوله تعالى( ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين، قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) فهذه معصية فيها مواجهة مع ترك الأمر،وهي كذلك متعلقة بالأمر والنهي، ولا علاقة لها بما يسمى الإعتقاد البتة،فهي( إذ أمرتك)، وقد فسرت الأية بعد ذلك منزعها فقال سبحانه( فما يكون لك أن تتكبر فيها)
فهو الكبر اذاً،وهذه معصية كفر ، وإن تعلقت بالأمر، لأنها تركت الفعل كبراً ، وردت على الله تعالى أمره، بأن حولت حالة الكبر إلى تفسير عقلي قياسي، لتستر معانيه الحقيقية، ولذلك قال إبليس( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) وهذه حالة مضطردة في تبرير حالة القلوب، وهي سمة العاصين دوما، إذ يسترون معاني نفوسهم بالخطاب العقلي، والقرآن لا يقيم شأنا لهذا الخطاب العقلي، ولا يجادله، لأنه مجرد غلالة كاذبة، بل يذهب إلى منزع النفس وسبب نشوء ارادتها، وهو ها هنا الكبر لا غير، ولذلك اهتمت السورة بهذا المنزع لتكون الارادة البشرية، فقال سبحانه( والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)، وقال سبحانه( إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي القوم المجرمين).
ولما وقعت المراجعة بين أهل الأعراف وبين الكافرين في جهنم، ذكرهم أهل الأعراف بهذا المنزع من الترفع على الخلق ،فقال سبحانه( ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون، أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون) وكما هو بين كان استكبار ابليس مبنياً على شرف الأصل الذي ادعاه، وأما استكبار هؤلاء فإنما هو بجمعهم وعددهم.
وفي ذكره لقوم ثمود، جاء خبر المعارضين بقوله تعالى عنهم( قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه).
فهذه صورة من صور المعصية، تبنى على الكبر لترك الأمر، وهو يدل أن الله تعالى يمتحن عباده بما معهم من نوازع الشر والجاهلية في هذه الحياة الدنيا لتنشأ في النفوس صراع الإرادات، والتي هي محط العقاب والثواب.
ثم جاء ذكر معصية ادم عليه السلام، وهي معصية لها تعلق بالأمر كذلك، فقد أمره الله تعالى بقوله( ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) وقد كان منهما ما كان من المعصية، لكن منزع هذه المعصية هو الحرص على العاجلة من اللذائذ وغيرها،فقد أتاهما ابليس بقوله(ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) ومن خلال تعظيم اسم الله ولج لهما بعد ذلك فقال سبحانه( وقاسمهما إني لكما من الناصحين).
فهذه معصية في الأمر والنهي، لكن منزعها هو الهوى والغفلة، ( فدلاهما بغرور) فالهوى بحب العاجلة، والغفلة عن الأمر الإلهي بالنسيان، ولم يكن فيها من الكبر ورد الأمر شيء، بل حصل منهما التوبة والإنابة( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) وقد تقدم أن وسيلة الشيطان في إيقاع الوالدين في المعصية أثنان: خطاب الهوى، والإنسان ضعيف أمامه، وكذلك وسيلة استخدام اللغة الباطلة، حيث تحورت شجرة المعصية إلى شجرة الملك والخلد،فهذه لعبة ابليس في المصطلحات والكلمات، ويساعده في ذلك ضعف البشر في معرفة علاقة الأمر بالقدر، ذلك لأن الله لا ينهى عن شيء وللإنسان فيه منفعته، إلا لمعاني العقوبة، ولو راجعت القرآن كله لم تجد في الخطاب الإلهي لآدم وزوجه أي تبرير لترك الشجرة إلا بما يترتب على المعصية من عقاب، كما في هذه السورة( فتكونا من الظالمين) وكذلك في سورة البقرة، ولم يعلم أدم العقوبة العاجلة لهذه المعصية إلا بعد اقترافها، كما قال تعالى( فبدت لهما سوءاتهما)، ومحاولة الإنسان عن الخروج من الأمر القدري هو ما يوقعه في السر( ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة الا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) فهل حقاً يستطيع أن يبلغ الإنسان مراده من هوى النفس ورغبتها بمعصية أمره، وهل حقاً يمنع الله العبد مما خلق لأن في هذا الممنوع منفعته!
كل هذا يسري في الإنسان في لحظة الغفلة واتباع الهوى، وهو قدر لازم للإنسان لا ينفك عنه، وسيقع فيه كما وقع لأبيه من قبل، ولكن كان الفضل لأبيه بالتوبة والاستغفار( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)
اطلاق الأسماء والمصطلحات على غير حقائقها هو باب اللعب بالإنسان، وهو بوابة الولوج للمعصية، فالشرك يصبح اسلاماً، والبدعة تصبح هداية، والدين يصبح بدعة، وتطلق الشهادة على الكافرين، والمنفعة على الربا، وهكذا تلج المعاصي في الإنسان متجاوزة مانع اللغة الفطري الذي هو ناشيء فيه خلقة وتربية في بيئة الإيمان والتقوى، فإن غابت بيئة الإيمان والتقوى حصل التسليك الشركي باتباع الآباء الذي تكلمنا عنه سابقاً.
هذه حيلة اللفظ، وهي من احدى معاني التأويل الباطل الذي منع منه أهل العلم.
في هذه الحالة من المعصية نبهت الآيات على معنى يجب استحضاره:
وقوع النتيجة القدرية اللازمة لفعل المعصية، فقال سبحانه( فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما) ، وكل كلمات التبديل اللغوي لم تنفعهم في صرف هذا القدر اللازم للمعصية، وهذا وإن قبل الله توبة ادم وزوجه عليهما السلام إلا أن النتيجة القدرية لم تتخلف، بل سرت فيهما، وكان بعد ذلك الأثر القدري متلبسا في الفعل بلا انفكاك ، فقال تعالى( قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو)، فالكلمات لا ترد الأقدار، بل يردها الحقائق الشرعية التي وضعها الله لها.
و من المعاني كذلك وجوب الإسراع إلى التوبة من المعاصي ليرتفع اسم الظلم والإجرام عن الفاعل، ولذلك قوله سبحانه وتعالى( فتكونا من الظالمين) متضمن ظلم الإنسان لنفسه بإيقاعها في أثر المعصية القدري، وبإيقاع نفسه في الإثم، والتوبة ترفع الإثم الذي يتعلق به العقاب الأخروي.
هذه حيلة الأسماء والكلمات، وبقيت حيلة الأفعال ، وهذا بين في ذكر قصة القرية كما أتت عليها السورة في ما سيأتي.
وللحديث صلة

الشيخ عمر محمود أبو عمر

للعودة للفهرس