JustPaste.it

file12.png 

لحظات مع القرآن/٧٦


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين
أما بعد
فقد تقدم أن من صور المعاصي، وتبريراتها النفسية هو الحيل الواقعة على الفعل، كما تقع الحيل على اللفظ وذلك بوضعه على غير موضعه، وكذلك هنا يتم أخراج صورة الفعل من حالته التي نهي عنها في حالة ما ، إلى صورة أخرى لا تغير حقيقة الشيء في واقعه، لكنها تبديل صورته فقط، وكما هو معلوم فإن مقصود الأمر والنهي هو ترك ما يكره الله تعالى، وإتيان ما يحب الله تعالى، هذا من جهة التعبد المحض، وهو كذلك منع حصول المفسدة القدرية التي ترافق هذا الفعل المنهي عنه، وقد تقدم أن الكلمات لا تصرف هذا القدر، ولا تغيير الصورة كذلك كما هو هنا الآن، فالتصاق العقوبة القدرية مع المعصية قدر لازم، كما أن كراهية الله لها أمر مستقر بالأمر والنهي الشرعيين.
في هذا الخبر الإلهي في سورة الأعراف ، حيث هناك القرية على البحر، وللناس فيها مندوحة وسعة في أيام الأسبوع كلها إلا يوم السبت أن بصطادوا، وقد حرم الله عليهم في هذا اليوم أعمالاً منها جلب الأرزاق، عقوبة لهم لما في نفوسهم من حب المال والجشع في جمعه.
بدأت الآية بلفظ فيه تذكير بجدود سوء، وكأن هذا اللفظ ( واسألهم) فيه استخراج لقذارة يعمل أهلها على سترها، كما يجلس المرء مع مدعي لأمر ، فيقول له: أتذكر، يسأله ليبينه ويكشفه، فيسقط ادعاؤه الباطل، وهذه القرية وهي من بني اسرائيل، عملت تحايلاً لإيقاع السمك الذي وصفه الله بقوله( اذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً) وهو نفس ما وقع للصحابة في حجهم حيث قال سبحانه في سورة المائدة( يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) ، وهاتان الحالتان تكشفان علل بعض الأحكام التعبدية، وذلك لحصول التقوى والخوف بالغيب، وهذه علل غابت عن أصحاب المصالح الشهوانية ممن تكلم عنها بباطل من القول، ورمى السلف الذين أصلوا لقاعدة الحكمة والتعليل والعمل بالمصالح بسوء القول حيث جعل المصلحة العمل بالشهوة دون النظر إلى هذا المعنى العظيم، والذي هو أصل الأحكام كما يقول الشاطبي،حيث جعل مقصد الدين هو اخراج النفس من داعية هواه أولا، وكما عرف علماء الإسلام الدين بقولهم: وضع الهي سائق لذوي العقول إلى ما يحبه الله ويرضاه، أو لما فيه مصلحتهم في الدنيا والآخرة، وهذا من فقههم الذي أفسده أهل الأهواء من فقهاء الشر في هذا العصر.
و لذك أحسن ابن تيمية وهو ينتقد حصر الكليات في الخمس المذكورة، وذكر الناس بأن هناك من المقاصد ما هو أعظم من المذكورات، وهو أمر القلوب، وهذا منه حيث يقول الله تعالى( ليعلم الله من يخافه بالغيب)، وأما في حالة القرية المتقدمة فقد قال تعالى( كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون) فانظر حفظك الله إلى ما بين المقامين من التفاوت، حيث يبتلي الله الصحابة من أجل إظهار تقواهم وخوفهم من الله غيباً، ويبتلي أصحاب القرية بإزجاء السمك يوم السبت ( بما كانوا يفسقون) وذلك لما أسروا من شر في قلوبهم، فأراد الله تعالى أن يفضح هذا الشر ويكشفه، فجاء هذا الإبتلاء.
فكلاهما بلاء، ولكن شتان ما بينهما لما في الفرق بين أهليهما!
هذه القرية لم تغير اسم السمك، كما غير ابليس اسم الشجرة، ولا تلعبوا بهذا الجانب، بل أتوا إلى الفعل، تبديلاً لصورته، حيث خدوا الأخاديد في البحر ، فإن أتت الحيتان يوم السبت، وهي كذلك آتية، أغلقوا عليها الأبواب، فحبست في الأخاديد، ثم يوم الأحد أخذوها، وبالتالي زعموا أن الصيد لم يقع يوم السبت، فانظر إلى مقصد الله تعالى، حيث قال(نبلوهم) فهو ابتلاء النفوس اذاً ، وذلك بحرمانها من شهواتها طاعة له، كما يحرم الصائم طعامه وشرابه وشهوته ، فلا يلتفت الفاسق إلا إلى صورة الفعل، فيتحايل عليها ليذهبها، وتحصل له شهوته بعد ذلك.ك فيفوت مقصد الله تعالى في هذا التحايل، ويحصل الإنسان هلى شهوته.
وهذه الآيات في ذكر هذا البلاء، وهذا التحايل وهو المعصية لله إنما جاءت بعد قوله تعالى(فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون) فهذه نفوس استمرأت الحيلة والتعامل مع شرع الله بالخبث والتغيير، إذ ليس في تغيير القول من حطة إلى غيره أي فائدة تذكر سوى اللعب المتلائم مع نفوس الشر ، وذلك خلاف حيلتهم يوم السبت، وذلك تدليلاً أن النفوس تكره الإنقياد لأمر الله تعالى إذا استمرأت المعصية، وتحول الأمر الإلهي عندهم إلى مجرد صورة للفعل، أو اتخذوه لهوا ولعبا، فهي سمة نفوس لا أكثر ولا أقل.
وهذا كله داخل في قوله تعالى( وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون)
هذه معصية تتكرر في البشرية، وهي كذلك في هذه الأمة، يغيرون صورة الأشياء كالبيوع والأنكحة المحرمة، والمشروبات الممنوعة، والمعاني الجاهلة حيث يسبغ عليها لباس الحلال بتحويل صورتها دون تغيير حقائقها، فلا يخرجون من الطاعة الى المعصية مع استغفار وإنابة وشعور مؤلم بفعل الذنب، لكنه دخول غي المعصية مع تزيينها بأنها طاعة ومباحة، فلا تتألم النفس ولا تتوب ولا تؤوب، ولذلك كان العقاب ما قاله تعالى ( وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون) وهذا ينبيء أن ثمة عقوبات قدرية حلت عليهم، فلم يرتدعوا بل ذهبوا في هذا الشر مذاهب من الإصرار والغرور، فلم يكن إلا أن ختمت الحالة بما قال الله تعالى( فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) وهذه عقوبة تلائم المعصية، فهم في باطنهم بقوا على حالة من التأنس، بما يشعرون ويحسون، وتحولت صورهم إلى قردة، فكان ظاهرهم ضد باطنهم، وهكذا هي الحيلة في نفسها، حيث تبقى الحقيقة كما هي وظاهرها خادع لا يتلائم مع هذا الظاهر.
والذين يقترفون الإثم هم كذلك، يعيشون صورة أنسية ظاهرة، وبواطنهم تنقلب إلى ما يلائم تلك المعاصي، نعوذ بالله من العذاب.
هكذا أحاطت سورة الأعراف بصور المعاصي وأسبابها القلبية، فأتت على اس الكفر بما حكت عن ابليس، وأتت على ذنوب ابن ادم حيث فتح له فيها باب التوبة والإنابة والإقرار بالذنب، اذ يدخل الشيطان إليه متسللاً من خلال حبه للعاجلة، وتغريره بنسيان العواقب أو الزعم بضدها، ثم أتت على المعاصي التي يأتيها أهل الكتاب الذين يريدون الجمع بين الشرع في لفظه والمعصية في حقيقتها،وكل ذلك مع بيان العقوبات القدرية الملائمة لكل معصية، ذلك ومن أعجب ما في هذه السورة أن أغلب ما فيها من وعيد وتهديد إنما هو في بيان العقوبات القدرية الملازمة للمعصية، ومن هذا سوق قصص الانبياء مع أقوامهم، وما جرى لهم من عقوبات قدرية عاجلة في هذه الحياة الدنيا.
لقد اخرج ادم من الجنة ، بعد أن بانت له سوأته وسوأة اهله، وطرد ابليس من السماء، وتحول المتحايلون على الأمر الإلهي إلى قردة ،وحل الوعيد بكل من عصى الأنبياء ،ولم تقع النجاة صراحة إلا لمن قال الله فيهم( وأنجينا الذين ينهون عن السوء) فهذا من أعظم قوانين الوجود ومسيرة التاريخ، وهي مسيرة القرآن حاكيا عن الإنسان وما هو فيه وما حوله.
في هذا كله تأتي آيات الوعيد في هذه السورة منذرة من التعامل مع الله بالكيد والمكر، لأنه جل في علاه يقول( أفأمنوا مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون).
ذلك لأن الله رب قلوب لعظمته تخشع، لا رقاب فقط له تخضع.
وللحديث صلة

الشيخ عمر محمود أبو عمر

 

للعودة للفهرس