JustPaste.it

file12.png 

لحظات مع القرآن/٧٧


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على حبيب رب العالمين وعلى الطيبين وعلى صحبه أجمعين
أما بعد
كشفت سورة الأعراف مصدر ضعف الإنسان، وهو مجال إنسانيته ، فمنه يتم التواصل والتعاقب بين الأجيال، وهو أجمل نعم الوجود كما قال الحبيب المصطفى: حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء، وما حبب إليه قدراً هو في واقع الأمر أحسن ما في هذه الدنيا وأحلاه وأجمله، فلا يقع للحبيب المصطفى من أقدار إلا وهي متوافقة مع الوضع الإلهي من الإختيار الرباني كما قال سبحانه وتعالى( وربك يخلق ما يشاء ويختار) فالله كما يختار شرعه موافقة لما يحب، وكذلك يمايز في وضعه القدري بين ما يخلق حسنا وتقدمة، فلا يقع لحبيبنا صلى الله عليه وسلم إلا ما اختاره حسنا وخيرية في أصله القدري، وهكذا لما اختار الله لرسوله حب الطيب والنساء قدراً ، كان هذا هو أجمل في الوجود اختياراً وتمييزاً، وهذا مع أنه خير ما في الوجود إلا إنه على وفق قدر الله جعل فيه الفتنة والإبتلاء، فالله يقول( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث) فما حبب إليه هو خير ما في الوجود من مخلوقات قد سخرت له، وكذلك كان فيها الإبتلاء، ولذلك كانت قضية الجنس والنساء والنكاح هي خير ما في الوجود خلقاً وهي كذلك باب الإمتحان والضعف والإبتلاء، وهذا ما وقع لأبينا أدم عليه السلام، فقد أراد الشيطان من إيقاعه في المعصية قوله تعالى( ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما) والأمر الذي يمكن للباحث أن يختاره أن أمر الشهوة والتمتع فيها بين أبوينا كانت قائمة بينهما، ذلك لأن هذا كماتقدم من أجمل النعم، وهو خير من أكل الثمار والجلوس تحت الظلال وما شابه، فإذاً كان هناك تمتع بين الوالدين في هو خاص من النكاح ، ولكن كان الستر للسوأة بينهما، حيث لا يحتاجان إلى لباس يلقى عليهما ليمنع الآخر من رؤيتهما، وهذا تكوين لا نعلم كنهه، وليس في القرآن ما يدل عليه، فالبحث في كيفية هذا الستر الخلقي على سوأة كل واحد منهما لا ينتهي إلا إلى العجز ولا شك، والقصد أن مراد الشيطان هو كشف هذه السوأة، والقرآن سماها كما ترون سوأة، وهذا من السوء الذي يداريه الإنسان لئلا يتلبس به، وهكذا تسمى عورة، لأنها مما يستعر منه الإنسان، والإنسان بفطرته مركوز على كراهية ابانة هذه السوأة والعورة، فكيف يكشف العاقل ما يستحيى منه!؟
وتحرك آدم وزوجه لستر عورتيهما هو دليل استقرارهما على الفطرة حتى بعد معصية الأكل من الشجرة، ثم إن هذا دليل أن المعاصي عاقبتها على حياة الإنسان بأن تخلي بينه وبين مكامن ضعفه، وهذا يقرره القرآن بقوله( إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا) فانظر كيف صار للشيطان على الإنسان سبيل بسبب المعصية، وانظر إلى قوله تعالى عن حركة الشيطان مع متبعه( لأحتنكن ذريته إلا قليلاً) كيف تدلك كلمة التحنيك من كون هذا المربوط بحنكه دابة تقاد لمن أمسك القياد، ولذلك لا يمكن أن تكشف عورتك أمام خصومك من الشيطان وجنده إلا بمعصيتك لله، ولو جمعت ما تقدم من أن المعاصي هي مخالفة التوافق القدري ابتداءً فوق أنها مخالفة لشرع الله تعالى أي لما يحب ويكره لعلمت هذا المعنى جلياً ، فإن المعصية مصادمة لسنن الوجود في وصول المرء إلى غاياته ، ونيله مراده في أحسن الطرق وصوابها، بل إن المعصية منذرة بالهلاك القدري، أي هي معارضة لسنن الوجود السائقة لمراد الإنسان إلى مطلوبه من الخير ودوام الحال بعدم الهلاك، ولذلك كانت معصية ادم وزوجه عليهما السلام كاشفة لعورته وسوأته ، فتم النقص وحصل سبيل للشيطان عليه، بل حصل له مصادمة لسنن الوجود القائمة على الحق، فكشفت العورات وبانت مكامن الضعف، فكانت سيرة الأبوين هو الإندفاع نحو ستر هذه السوأة( وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) وهذا دليل على بقاء الفطرة وسلامتها، فلم يتبجحان بقبح القول وكفره كما يفعل بعض ذريتهما من أن هذا أجمل وأحسن، فيكشف كل واحد سوأته، ويزين ما أمر الله بستره لأنه عورة، ويزعمون أن هذا من حسن الفعل والجمال، إذ انتكست الفطرة، فصار القبيح من السوء والعورة يتفاخر المرء به بين الناس.
هذا هو مصدر ضعف هذا الإنسان الأعظم وهو الشهوة، وهي على ما فيها من جمال كما تقدم ذكره، بل هي أعظم نعم الدنيا وملذاتها، كانت هي مصدر ضعفه الذي يأتي إليه الشيطان ليفسده ويضله، فمن تابعها على غير وجههاكان للشيطان وجنده عليه سبيلاً، ومن عاملها وفق أحكام الشرع أخذها على وجهها وتنعم بها وأصاب منها مقاصد الوضع الإلهي الأول وهو حفظ النسل ودوامه، ولذلك لما أنزل الله الإنسان إلى الأرض من عليه بمنة الستر في قوله حل في علاه( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً) وهذا كما تقدم من أن النعم ليست في وجودها لتحقيق الضرورة فقط بل هي في ذاتها تحقق التحسين والزينة كذلك، وذلك بما ذكر من أمر اللباس وأنه يواري السوأة، وهو كذلك( وريشا) أي للتزين، وأما قوله تعالى( ولباس التقوى ذلك خير) فهذه طريقة القرآن إذ تأخذك فجأة خلال سياقها لنعم الدنيا إلى نعمة أعظم منها، ألا وهي نعمة الأمر والنهي وما فيهما من الخير والفلاح للإنسان، فهو جل في علاه بعد أن ذكر نعمة الدنيا ولباسها الساتر لسوأة الإنسان قذف له أعظم منها وهي نعمة التقوى فقال ( ولباس التقوى) وكما أن اللباس يستر البدن من ظهور سوأته، فكذلك لباس التقوى يستر الإنسان من عورات نفسه التي ما لو ظهرت لكان للشيطان وجنده لهما عليه سبيلا، ومثال هذا كذلك في سورة النحل، فإنه جل في علاه وهو يسوق النعم الكبرى،أتى في سياق ذلك إلى هذا المعنى فقال سبحانه( وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر) ومعناها قوله سبحانه وتعالى( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) وهو دلالة أن التركيب الشرعي على وفق التركيب القدري، فكما أن في الوجود نعم يأتيها المرء على وجه الإباحة، فكذلك هي على وجه ما هي معصية، وهو السبيل الجائر في استخدامها وإتيانها،ومثل هذا قوله تعالى ؛ أي في رفع المرء من النظر إلى النعم القدرية إلى نظره وبصره إلى النعم الشرعية، اذ يقول الله تعالى( وتزودوا) والمقصود زاد السفر من الطعام والشراب، ثم قال سبحانه وتعالى( فإن خير الزاد التقوى) وهو تذكير بنعمة الشرع الذي يحبه الله تعالى ، وهذا هاهنا من نوع ذلك، ( ولباس التقوى) بعد ذكر لباس البدن المادي القدري.
لقد أنزل الله له ما يستر عورته استقذاراً من كشف السوأة، وأنزل له شرعاً هو التقوى حتى يمتنع عن كيد الشيطان وخضوعه له وحصول هلاكه.
هنا تبرز قضية الجنس ورغبة الشهوة الإنسانية كمسألة خطيرة يعالجها القرآن من أصولها لانها من أكبر منافذ الشيطان على ابن ادم.
وللحديث صلة

الشيخ عمر محمود أبو عمر

للعودة للفهرس