JustPaste.it

file12.png 

لحظات مع القرآن/٧٩


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين
أما بعد
أخطر ما يواجه مسيرة البشرية مع مقصد وجودها هو شرعنة المعصية، أي إسباغ ثوب الشرع على ما حرم الله تعالى ونهى عنه، والشيطان لخبرته بالإنسان يعلم موانع حصول المعصية واقتحام العقبات التي تحول بينها وبينه، وسورة الأعراف بينت هذه الموانع والعقبات بطرق متعددة:
أول هذه الموانع هي الفطرة التي أقامها الله في الإنسان على وفق الحق، لكن الفطرة ليست قوة دفع بلا علم، فهي كالأرض الطيبة التي لا تقدر بذاتها على دفع زراعة الشر فيها، ولذلك لما خلق الله آدم وأسكنه الجنة أصدر له أمراً فيه سعادته، ولم يتركه لمجرد فطرته فقال له الله تعالى( اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا منها حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين)، فزودهما بالعلم، وهو النهي عن الشجرة،وكما أن الفطرة لا تدرك الخير بذاتها لكنها متلائمة معه، وهي على ما قال الله تعالى( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) فهذا خبر حول صلاحية الفطرة في ذاتها اذ لا شر فيها ، وجاء الأمر بعد ذلك بقوله( لا تبديل لخلق الله) وذلك بعدم افسادها، ولما كانت الفطرة بلا علم بل هي مواءمتها وملاءمتها للحق قال تعالى( أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً) فهذه الأرض الطيبة لا زرع فيها، فهي بحاجة للعلم الذي هو قوة الدفع للمعصية، ولوجود الفطرة الطيبة يحصل النكارة بينها وبين المعصية، والنكارة شيء وقوة الدفع شيء آخر، ولا يمكن للإنسان الذي لو جرد من التسليك والتربية وبقي على أصل خلقته إلا إنكار المعصية والنفور منها، لكن قوة الشهوة كذلك هي من فطرته، فبلا علم تكون قوة الشهوة أقدر في دفع هذه الفطرة، لكن خذه النكارة نافعة كذلك في تلقي العلم، وفي قبول ما يعرض عليه من الحق، وهي وإن كانت كذلك إلا أن الله تعالى لم يعلق عليها جزاءً ، بل جعل الجزاء معلقاً بإرسال الرسل فقال سبحانه( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) ، فإن جاء الرسول كان أول مؤيد لما يأتي به هو توافقه مع فطرة الإنسان كما هي في أصل خلقته.
وهذه الفطرة قالها الله تعالى في هذه السورة في قوله تعالى( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم، قالوا بلى شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) وهذا أحد وجهي تفسير هذه الآية .
أما المانع الثاني فهو العلم على ما تقدم ذكره، والعلم الذي به يتم حجر المرء عن المعصية هو علم العبد أنه من الله تعالى، وأثبت الله هذا بالضد مما أتى به العصاة، حيث احتجوا بشرع الله على معصيتهم، فيستفاد من هذا أن علم المرء بشرع الله الحق مانع من إتيان المعصية، ومما تقدم من قوله تعالى( فتكونا من الظالمين) أن العلم خبر عما يحب الله تعالى، وهو خبر كذلك عن الجزاء المترتب على هذه المعصية، وأعظمه الظلم، وهو أحد إركان السوء في الوجود كما يقول ابن حزم أن أساس أخلاق الشر أربعة: الظلم والجهل والجبن والبخل، وبقوة المصدر مع ذكر العاقبة يحصل الإمتثال بترك المعصية، وهذه القضية وهي مصدر الأخلاق والأمر والنهي وأنها من عند الله هو ما يكسبها قوتها، ويحقق الغاية منها، وقد تقدم كيف يفسد هذا الحاجز؛ إما بتزويره في اللغة، وإما بتزويره بالواقع، كما تبين هذا في حيلة الشيطان على أبوينا، وفي حيلة بني اسرائيل في القرية التي كانت حاضرة البحر، وكذلك يقع إفساده بما تقدم ذكره من وجود ما قاله تعالى( واتل عليهم نبأ الذي آتيناها آياتنا فانسلخ منها) ويرد على أمثال هذا ما قاله تعالى( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) وقال تعالى( وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) وهذا مدح لقولهم وفعلهم، فمدح قولهم بالحق، ومدح فعلهم بالعدل، وكذلك يقيمونه في حياتهم، وكذلك في غيرهم،فاجتمع فيهم الحق من جميع جوانبه: قولاً وفعلاً، وفي أنفسهم وفي غيرهم.
والعلم هذا هو أساس قوة المسلم والمؤمن والمهتدي، فبه يتم رد الشر والمعصية، وهو بحاجة للعلم بما أخبر الله تعالى، وكذلك العلم بواقع المخبر عنه، وانظر إلى قوله تعالى( أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة) فهل هذا إلا نظر في واقع المختلف فيه؟
وكذلك قوله تعالى في بيان النظر في المختلف فيه( أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون، ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون).
وكذلك قوله تعالى( ألهم أرجل بمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها).
فالعلم بالشرع كما العلم بحقائق الوجود لمن أبصرهما مانع عند العقلاء من اقتراف المعصية.
ومن موانع اقتراف المعصية هو سيرة الآباء وما هم عليه، فإن قولهم( قالوا وجدنا عليها آباءنا) تصلح دليلاً عكسياً ما لو كان الآباء على خلاف ما هم فيه، ولذلك لما وقف النبي صلى الله عليه وسلم كالجبال الرواسي لا يتحرك إلى الخلف وسيول الكفر تنهال عليه في أحد، إنما استشهد بآبائه الذين هم على هذه الشاكلة من الثبات، فقال: أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب، فإن المرء ليستحي أن يترك المكارم التي جرى عليها آباؤه وأهله.
ومع وجود الآباء الصالحين ممن يمتثل بهم المرء حين حصول الفتن ما قاله بنو اسرائيل لمريم عليها السلام( يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كنت أمك بغياً) ، وقول يوسف عليه السلام( واتبعت ملة آبائي ابراهيم واسحق ويعقوب) وهذا ولا شك ؛ أي وجود آباء الصدق إن كان المرء عاقلا أن يمتنع عما يدنس شرفاً وإثلاً قد ورثه منهم.
ومن موانع اقتراف المعصية: ذكرى سلف أصحابها، وما جرى لهم من العواقب، ولهذا قصت علينا سورة الأعراف سيرة أبينا آدم وزوجه، وقصت علينا سير الأمم السابقين، وعاقبة معاصيهم، وهي مانع للعاقل من أن يسير سبرهم، أو يمشي على منوالهم.
ومن موانعها كذلك عدم الإغترار برب العالمين، وهذا في قوله تعالى( فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه) فانظر إلى جرأتهم على المعصية بزعم ما قالوا( سيغفر لنا) وهذا يقع في قوله تعالى( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم).
ومن موانع المعاصي واقترافها رؤية نعم الله تعالى ، وذلك في قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام( قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين) فأن يأتي الله المرء النعم، من جاه أو مال أو نجاة من بلاء أو علم، وتفكر فيها كان هذا من موانع المعصية، وهذا كما قال يوسف عليه السلام( إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون) فتذكره عليه السلام لنعم الله عليه، وهذا هو الصحيح أن المقصود من قوله ربي هو الله لا غير، نقول: إن تذكره لنعمة الله تعالى منعه من اقتراف ما هم به مع امرأة العزيز.
وللحديث صلة

الشيخ عمر محمود أبو عمر

للعودة للفهرس