JustPaste.it

file12.png 

لحظات مع القرآن/٨٠


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى وأصحابه أجمعين
اما بعد
فالدين في حياة البشرية جنعاء هو أعظم ما يشكل اختياراتهم وإراداتهم ولم تبن أمة من الأمم من غير اعتقاد، وكل محاولات الإنفلات من الدين لتشكيل حضورة ما أو انبعاث جماعة من الجماعات باءت بالفشل، لأن التدين أمر فطري كامن في النفس البشرية باعتبار سلوكها الفردي أو الجماعي، وهناك من قال بأن هدم الدين من خلال الدينهو تعميق لمفهوم الدين نفسه، فأراد أن يهدمه من خارجه كما يفعل أصحاب العلمانية الصلبة كما يسمونها، إلا أن هؤلاء لم يخرجوا من جحورهم ولم يستطيعوا السير ولو خطوة واحدة نحو اهدافهم، وهناك من قال: إنه لا يتحقق هدم الدين إلا من خلال الدين نفسه، وهؤلاء هم من حذر القرآن منهم، لأنهم يقومون بمخاطبة الفطرة لتستقر على غير الحق وهي مطمئنة بأنها تمارس الحق والهدى، ولذلك كان التأويل بصورتيه كما تقدم ذكرها في فوائد سورة الأعراف هو السبيل الأنجح عندهم لتحقيق المعصية من خلال النص نفسه، وهذا ما يمكن تسميته بشرعنة المعصية؛ أي إسباغ ثوب الشرع على المعصية، وبهذا تتغلغل في نفوس الناس وتستقر، وفي تاريخ البشرية كانت هذه الجريمة هي الأقوى فعلاً وأثراً، كما ذكر الله تعالى عن إشراك قوم نوح في قوله(وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) وهؤلاء كانوا رجالاً صالحين ، وأقام الناس على قبورهم القبور وشيدوها، ثم بتطور بين الأجيال جعلوها آلهة معبودة من دون الله، فمدخل الشرك هو الدين نفسه، وذلك بحرف حقائقه عن معانيه الصحيحة، وهكذا لم يمنع القرآن حصول التأويل آي التحريف له، مع منعه من حصول التحريف اللفظي له كما قال تعالى(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) فقد يحصل التأويل والتحريف لمعانيه كما هو معنى هذه الآية، ، وهذا هو أعظم ما يفسد الدين ويقلب تدين الناس لربهم إلى تدينهم وعبادتهم للشيطان.
في هذه السورة؛ أي سورة الأعراف، احتج الكافرون على معصيتهم بقولهم( والله أمرنا بها)، وهذا هو سبيل أعظم الشر في الوجود حيث تطمئن النفس وتذهب للفعل بلا شعور الإثم ولا المعصية، وهذا قد وضح مجاله فيما تقدم ، ونأتي إليه مرتباً هنا حتى لا ننسى.
النفس البشرية تميل للشهوة، وهي تريد الانعتاق من الأمر الإلهي، فهي لحرصها الذي لا تحده الحدود، ولجهلها عند حضور المعصية بعاقبة الذنب، وبنسيانها الإمر عند غلبة الشهوة واستحكامها على النفس تذهب للشهوة المحرمة، فإن خوطبت بعد ذلك بطلب التوبة وبالتذكير بالأمر الإلهي حصل لها الإنابة والعودة للسير على الجادة والسبيل القويم، لكنها قد تصر وتأبى التوبة، وبهذا يحصل لها الإقامة على الذنب، وتكون في حالة معالجة ومصارعة بين الفطرة والمعصية، كذلك بين خطاب الله تعالى لها وبين رغبتها في المنهي عنه، ثم بعد ذلك تطوع النفس للذنب، لسواد القلب وضعف الوازع والمانع، ولغياب قوة الترهيب عن هذه النفس، ولكن الشيطان لا يقبل هذا حتى تستقيم النفس استقامة دائمة عليها بلا شعور بالندم، وحينها لا بد من حالتين، تحصلان معاً أو يحصل أحدهما، أولاهما رد الأمر والإستهزاء به والإستكبار عليه، وهذا ما حدث مع الشيطان والله يقول(ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) أو تكون الثانية بوجود مجرم كبلعام يسبغ الشرع القويم على هذه المعصية العظيمة، فيعمل بها العامل والعاصي مطمئناً أنه يطبق أمر الله تعالى، ولذلك قالوا( والله أمرنا بها)، وبهذا كان من خطاب شعيب عليه السلام لقومه أن قال لهم( :{وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } فربط إيمانهم بعدم الإفساد، لأن الإيمان لا يستقيم إلامع أمر الله ابتداءً ولا يستقيم أمر الله تعالى مع الفساد كما قال تعالى ( قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) ، وموجبات الحق كنتائجه لا تكون إلا حقاً، هكذا يقضي القرآن على شبهة إتيان المعصية على وجه يتأول به العاصي معصيته أنها من الدين، ومن خلال النظر في التجارب السابقة تتحقق العبرة بنتائج الفساد كما قال تعالى مواصلاً في كلام شعيب عليه السلام لقومه( وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين).
ومما يستفاد من هذه السورة في هذا الباب أن الله أجرى على ألسنة اثنين من أنبيائه قوله تعالى( قد جاءتكم بينة من ربكم) ، وهذا في قوله على لسان شعيب عليه السلام، وعلى لسان صالح عليه السلام ، وذلك في تفصيل أن البينة هي الناقة، وفي قول موسى عليه السلام قوله( قد جئتكم ببينة من ربكم)وذلك في تفصيل للبينة وأنها العصا واليد ، ومن تأمل كلمة البيان ومعناها وجدها على قسمين، فالبينة من كلام صالح وموسى عليهما السلام هي الآية الكونية، ولكن البينة في كلام شعيب هي التشريع الموافق للفطرة مما يدركه الناس ابتداً أنه الحق وأن ضده هو الفساد، وهذا بين في التفريق بين الحق الذي يأمره الله تعالى وبين ضده مما تأمره النفس والشيطان، ولذلك بعد أن ذكر أمر البينة من كلام شعيب عليه السلام كان بعدها هو التشريع الحق( فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس اشياءهم)، فكما أن البينة تكون بالنظر إلى الآيات الكونية القاهرة كذلك تكون بالنظر إلى الآيات التشريعية التي تدل على الحق لملاءمتها لفطر الناس وعقولهم السليمة.
وللحدث صلة

الشيخ عمر محمود أبو عمر

للعودة للفهرس