JustPaste.it

file12.png 

لحظات مع القرآن/٨١


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد
فأنت قد رأيت أن أغلب صور حالات المعاصي وتبريرها في نفوس الناس كما عرضتها سورة الأعراف أنها من أناس لا يريدون مصادمة الأمر والنهي، ولكنهم يريدون أن تتوافق هذه المعاصي مع الشرع، فمعاصي يجعلونها( والله أمرنا بها) ومعاصي يأتونها على وجه تأويل النص، ومعاصي يقترفونها على وجه الحيل والتلعب، وقد بينت السورة سبل اقتراف هذه المعاصي ومن يقوم بها، وما هي أحوالهم من العلم، كما عرضت صورة الرجل الذي هو كالكلب إن تحمله يلهث وإن تتركه يلهث، وهكذا، وهناك صورة من أحابيل إبليس في دفع العاصي للإقامة على معصيته، ذلك لأن الندم والتوبة سبيلهما الوحيد وهو شعور المرء بعظم جرمه، فإن هون المرء وشيطانه المعصية أقام عليها وامتنع عن إتيان التوبة، وهي أعظم ما يحبه الله تعالى، ويطلبه منه ويحض عليه، ولذلك هي من أبغض أفعال العبد للشيطان، من أجل ذلك أقام إبليس موانع اتيان التوبة، وهو إزالة دافعها، وهو الشعور بالندم، وذلك بالتقليل من جرمها وعاقبتها، وقد شرحت سورة الأعراف هذا مع ما ورد من هذا المعنى في سور أخرى.
يقول الله تعالى(فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا الْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ۚ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَّا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ۗ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُون) وهذا الخلف لم يأتهم الأمر على وجه تام، بل تكشف سورة الشورى منابع انحراف هذا الخلف التالي، وذلك في قوله تعالى(﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) فقد بينت هذه الأية أن اختلاف حملة الكتاب فيه يورث شكاً عند الوارث له، والواجب هو اتحاد الناس عليه ليأتي الوارث له على وجه اليقين عليه، فالتالي في الشك إنما جاء فساد يقينه عليه إذ لم يحمله الوارث به إلا بتفرق واختلاف، وهذا حاصل، فتفرق الناس في الكتاب توجب عند الناظرين اليهم القول: لو كان هذا حقاً لاجتمعوا عليه، وإذ لم يجمعهم فهذا دليل بطلانه، فتشريع التفرق والإختلاف يعني توريث الشك والتردد.
ولكن هذا الخلف كان موجب اقبالهم على المعصية كما يكشفها القرآن هو حب الدنيا، وذلك في قوله تعالى( يأخذون عرض هذا الأدنى) وهو عرض، والعرض ما لم يستقر ، بل هو متغير أو زائل، وهو أدنى ، أي أقرب، والمقصود ما في الحياة الدنيا من نعيم، فحب الدنيا هو الدافع، لكن هذا الحب لا بد أن يبرر دينياً، فقالوا( سيغفر لنا) وفي موطن آخر ، وهو في سورة المائدة إذ برروا هذا الخصوص بعدم لحوقهم العذاب بسبب المعصية ما قالوه( نحن أبناء الله وأحباؤه) ، وفي سورة البقرة جاء قولهم اقل في الشر، وإن كان هو عظيما في الشر، فقالوا( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) فقد اعترفوا هاهنا بأن ما ياتونه يوجب العذاب، لكن لخصوصيتهم ، فإنه لن يصيبهم الا القليل منه، ولكن هاهنا في الأعراف أبعدوا في الشر ، فلم يعترفوا بأن ما يفعلوه سيورثهم النار، فقالوا( سيغفر لنا) مع أن قولهم في اعتراف أن ما ياتونه ذنبا، وإلا لم قالوا( سيغفر) ولا تكون المغفرة في هذا الباب إلا بذنب.
فهذا هو تهوين المعصية، وهذا هو ادعاء الخصوص، وهما سبيل لإبليس في دفع الناس للذنب والإجرام، وما من أمة إلا ولها نصيب من تلعب ابليس فيها في هذا الشأن.
ومن سياق الآيات هذه في الأعراف يتبين أن من هون المعاصي هم حملة الكتاب، وذلك في قوله تعالى( ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق) ، فدل أن ما بين هذه المعصية وهذا السياق لهذا القول اتصالاً، وهو أن من قال هذا الباطل من التهوين إنما هم من أخذ عليهم الميثاق بقول الحق ، كما قال تعالى(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) وقوله تعالى هنا( واشتروا به ثمنا قليلا) دليل أن الفتوى عندهم للبيع، يعطونها لمن يدفع ولمن يأمرهم وينهاهم، فيحصل الشر العظيم.
وفيها كذلك أي آيات سورة الأعراف، أنه كان لهم شأن من التوبة وعدم العودة، وذلك في قوله تعالى( وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه) وسبب عودتهم لها هو ما قاله تعالى من ( سيغفر لنا) فصار عودتهم لا على سبيل غلبة الشيطان ، فيؤوب المرء ويستغفر فيغفر له، ولكن يأتي إليها على سبيل التهوين منها، وانها لن تأتي بعقوبتها، وهذا من أعظم الشر لترك التوبة، وللجرأة على اقترافها مرة بعد مرة، حتى تصبح سمة مجتمع، وتلبساً طويلا، وحينها لا بد من تشريعها وجعلها دينا لهم.
هكذا يطبق الشيطان على الإنسان ليأتي المعصية باسم الدين، وليستمر عليها باسم الدين، وليس هذا بمانع من لحوقه العذاب، لأن دافع ذلك كله هو ما قاله تعالى( يأخذون عرض هذا الأدنى)، وحقيقة هذا الدين تقوم على حب الدار الآخرة وإيثارها عما سواها كما قال تعالى( وللدار الآخرة خير للذين يتقون).
هكذا تكون قضية الدار الآخرة ليست قضية اعتقاد مجرد ، بل فاصلة وحد بين الفتوى التي يريد بها المرء وجه الله فيخطيء فيعذر، وبين آخر يريد الدنيا فيخطيء كالأول، لكنه لا يعذر، والعبرة بينهما هو مراد كل واحد، ومقصد كل مفتي وعامل ، لتدخل قضية الغيب أصلا في الفتوى، وفيصلاً بين الحق والباطل.
والحمد لله رب العالمين

الشيخ عمر محمود أبو عمر

للعودة للفهرس