JustPaste.it

file12.png 

لحظات مع القرآن/القسم الثاني/١
بين الزمخشري وابن المنير

 

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد
عند قوله تعالى في سورة الأنعام( إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحيّ من الميت ومخرج الميت من الحي) وقع نزاع حميد بين الإمامين في سبب ورود الفعل بين اسمي الفاعل، فقوله (فالق الحب والنوى) أتى باسم الفاعل، وكذلك في قوله( ومخرج الميت من الحي) ولكنه في الوسط أتى بالفعل المضارع( يخرج الحيّ من الميت).
أما الزمخشري فقد مال إلى أن قوله( يخرج الحيّ من الميت) تفسيرية لقوله( فالق الحب والنوى) حيث جل في علاه يفلق الحب والنوى فيخرج منها الزرع، فهذا هو إخراج الحي والميت، واستشهد لهذا بقوله( يحيي الأرض بعد موتها) إذ نسب الحياة والموت للأرض بما فيها من أعمال.
ثم جعل قوله تعالى( ومخرج الميت من الحي) معطوفة على مثلها من اسم الفاعل( فالق الحب والنوى)، وبهذا لم يأت لسبب بلاغي فيها ينشر فيها بعض هناته الرائعة التي اعتادها الناظر لتفسيره.
لم يعجب ابن المنير بهذا التخريج السهل، بل ذهب لتخريج معاني مهمة من هذا التلون في الخطاب.
فقال بأن القرآن كثيراً ما يقرن بين إخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي كما في قوله تعالى( يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحي الأرض بعد موتها) وقوله( أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) فدل هذا عنده أنهما توأمان مقترنان، وبالتالي يبعد قطعهما هنا في سورة الأنعام، ويبعد رد ( يخرج الحي من الميت )تفسيراً ل( فالق الحب والنوى).
وحيث لم يقبل وجه ما أتى به الزمخشري فإنه ذهب إلى أن هذا من التنوع والتلوين الذي له مقصد الإظهار، وقال: بأن مراد القرآن في هذا هو: إرادة تصوير إخراج الحي من الميت واستحضاره في ذهن السامع، ذلك لأن الفعل أقوى في تحقيق هذا المراد، واستشهد بما قال سابقاً في تعليقه على الزمخشري في قوله تعالى( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فتصبح الأرض مخضرة) فالسياق قد ابتدأ بالفعل الماضي( أنزل) ثم لون إلىإلى المضارع( فتصبح)، وكذلك في قوله تعالى( إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق، والطير محشورة) فكان السياق ابتدأ بالفعل( يسبحن)، ثم لون إلى اسم المفعول( محشورة)، وكل ذلك لإبراز ما صيغ بفعل أكثر مما صيغ بغيره، لأن الفعل كما يقول يحصل استحضار المراد وبه يتم التصوير أقوى.
وهاهنا لما كان إخراج الحي من الميت أعظم من إخراج الميت من الحي كان الإعتناء به أشد، فجاء به على صيغة الفعل.
هذا قول الإمامين رحمهما الله تعالى.
والذي يمكن لي أن أزيده أن الفعل حركة، والمصدر سكون، وهذا تجده في قوله( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) فلما كان وجود النبي صلى الله عليه وسلم مرتبط بحياة لها حركة تنتهي بالذهاب والإنقضاء فجاء بصيغة الفعل، ولكن دوام بقاء الإستغفار وعدم حركته الموجبة للإنتهاء جاء بصيغة المصدر،ففي آية سورة ص، كان التسبيح حركة جبال لها إرادتها، وأما الطير فحشرها من فعل غيرها، ولها السكون فقط.
وحين تتأمل آية سورة الأنعام فإنك ترى الفلق هو وصف لشيء في نفسه، وكذلك خروج الميت من الحي، فعاقبته وجود ميت، وكلاهما يليق به المصدر، أحدهما لعدم ذكر المنتج، وثانيهما لأن المخرج ميت، وأما خروج حي من ميت فإنه إنتاج لحركة ، يليق بها استخدام الفعل.
وللذكر فهذه الآية جاءت بعد ذكر قصة ابراهيم عليه وسلم وما جرى له مع أبيه آزر ، وما علق عليها بعد ذلك من أحكام وقضايا، فليس بعيداً أن يكون ذكر الفعل لقوله( يخرج الحي من الميت) شداً لما كان عليه الخليل من خروجه حياً بالإيمان من ميت بسبب الكفر، فمثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت.
والله الموفق

الشيخ عمر محمود أبو عمر

للعودة للفهرس