JustPaste.it

file12.png 

لحظات مع القرآن/ القسم الثاني/٢
بين الزمخشري وابن المنير


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد
في قوله تعالى في سورة الأنعام (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) تكلم جار الله على وفق عادته لبيان سبب التفريق بين الفاصلة في الأولى، حبث جاء قوله تعالى( لقوم يعلمون)، والفاصلة في الآية الثانية ، حيث جاء قوله تعالى( لقوم يفقهون) وأرجع السبب للتالي:
كان إناء إنشاءالإنس من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيراً، فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقاً له.
لم يرض هذا ابن المنير الإسكندراني، فذهب في ابتداء رده أن هذا جاء لمجرد التنوع في الخطاب مخافة الإملال، وجعل هذا مجرد تحسين للنظم واتساق في البلاغة.
وقال عن صنيع ابي القاسم: جواب صناعي، لا حقيقة تحته.
ثم كأنه علم من نفسه أن هذا لا يستقيم مع البلاغة في أفقها الأعلى، وأن البليغ لا ينوع فقط لمجرد التنوع، اذ هو يهجم على الكلمات ويكررها لفظاً إذا جاء سببها دون الإلتفات لهذا المعنى فقط، أي مخافة الملال من السامع، وهذا بين في سورة الرحمن حيث تكرر قوله تعالى( فبأي آلاء ربكما تكذبان)، وحيث أحس بهذا طاغياً على نفسه ذهب يجري في سبيل ابي القاسم الزمخشري، فجعل الأمر على وجه معكوس تماماً ، وذهب للتالي:
جعل كلمة يفقهون( الفعل المضارع) ليس مشتقاً من شدة الفهم، بل هي مأخوذة من ( فقه) بكسر القاف، وهذه تطلق على من عنده أدنى فهم، واستدل بكلام الهروي( أي أبي عبيد القاسم بن سلام في كتابه العجيب غريب الحديث)وذلك حين استدل على هذا الأمر بحديث سلمان وأنه قال لامرأة وقد سألته(فقهت) أي فهمت كالمتعجب من فهم امرأة عنه، وذلك كقولهم: فلان لا يفقه شيئا، وذلك حين يعبرون عن أشد الذم ، وهي أشد من قولهم: فلان لا يعلم شيئاً، إذ الأولى ضرب لعقله، والثانية ضرب لعلمه، وتحصيله.
كل هذا ليجعل التارك النظر لما في نفسه أشد ذماً من التارك التأمل في غيره من الأفلاك والنجوم، واستدل لهذا الأمر بقوله تعالى( وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون).
بماذا أحس ابن المنير بعد هذه الرحلة!؟
انظر إليه وهو يقول: فتأمل هذا الفصل وإن طال بعض الطول، فالنظر في الحسن غير مملول.
والحق في هذا أقرب لجار الله، فإنه وإن جاءت كلمة الفقه هنا في هذه الآية فعلاً، فإنها لا تدل على أدنى ما يصيبه المرء من الفقه ليحصل المراد كما استدل بكلام الهروي، بل جاءت بصيغة الفعل المضارع الدال على الدوام والإستمرارية، وهذا يوجب حمل كلمة الفقه على أحسن معانيها، لا كما حملها هو.
والفعل هنا ( يفقهون) لا يعاد إلى أحد وجهي استعمال كلمة فقه، بالكسر أو الضم، لأن الكلام إما أن يعود للمصدر كما يقول البصريون وإما يعود للفعل كما يقول الكوفيون، وهاهنا فعل، يعود لجذر واحد،فإعادة ( يفقهون) لما اختار غير موفق، وأما استدلاله بكلام الهروي فلا يسعفه، لأن كلام صاحب الغريب يدور حول تصريف كلمة سليمان في حركتها، حيث قال( فقهت) بالكسر، فحملت على هذا، ولم يقل( فقهت) بالضم.
خلاصة الأمر عند من تأمل هو التالي:
إن النظر إلى النجوم يورث( علما )به حصل ما قاله تعالى( لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر)، وأما النظر في الإنسان وتقلبه فيورث حالة موجبة للتفكر للمعاد، وهذا أليق بالفقه، ذلك لأنه نتاج لهذا النظر. فالعلم حال يستعمل، والفقه حالة انتاج لمقدمات، والله أعلم.

الشيخ عمر محمود أبو عمر

للعودة للفهرس