JustPaste.it

file12.png 

لحظات مع القرآن/ القسم الثاني/٣


بين الزمخشري وابن المنير


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد
في قوله تعالى في سورة البقرة( يجعلون إصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين) أتى ابو القاسم جار الله الزمخشري إلى سبب ذكر الأصابع، وأنها الموضوعة في الأذن لمنع السمع، مع أن الموضوع حقيقة هي الأنامل، فقال: فإن قلت: رأس الأصبع هو الذي يجعل في الأذن، فهلا قيل أناملهم!؟
شرح السبب عنده بقوله: هذا من الإتساعات في اللغة التي لا يكاد الحاصر يحصرها... ففي ذكر الاصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل، ومراده أن القرآن جاء بالأصابع تعبيراً عن شدة وضعهم لرؤوسها في آذانهم منعاً من أن يلج إليها صوت الحق ونداء الداعي.
ثم فرع على هذا التخريج كلاماً، وهو قوله: فالأصبع التي تسد بها الأذن أصبع خاصة، فلم ذكر الإسم العام دون الخاص!؟
أي لم لم يذكر اسم الأصبع المقصود بالوضع وهو السبابة على ما جرت العادة؟
أجاب على هذا بقوله: لأن السبابة من السب،( ذلك لأن الساب لغيره يشير بها حين يسب) فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن.
واستدل بأن الناس استبشعوها وأخذوا يكن ن عنها بالمسبحة( لاستخدامها بالتسبيح) والسباحة( بالتشديد) والمهللة( إذ بها يشير من أراد ذكر التوحيد) والدعاءة( لأنهم يرفعونها في الدعاء في مواطن كالجمعة وموطن حضور الصف للقتال، وحين الحمد في الصلاة بعد القيام من الركوع)
وهذا الجواب فرع عليه سؤلاً بقوله: فهلا ذكر بعض هذه الكنايات؟
فأجاب : هي الفاظ مستحدثة لم يتعارفها الناس في ذلك العهد.
هذا كله لم يعجب ابن المنير الإسكندراني المالكي، وقال: لا ورود لهذين السؤالين، أما الأول: فلأنه غير لازم أن يسدوا في تلك الحالة بالسبابة، ولا بد، لأنها حالة حيرة ودهش، فذكر مطلق الأصابع أدل على الدهش والحيرة، أو فلعلهم يوثرون في هذا الحال سد آذانهم بالوسطى لأنه أصم للأذن واحجب للصوت، فلم يلزم اقتصارهم على السبابة.
وقال: وأما السؤال الثاني ففرع عن الأول، وقد ظهر بطلانه ايضاً ففيه ركاكة، اذ الغرض تشبيه حال المنافقين بحال أمثالهم من ذوي الحيرة، فكيف يليق أن يكنى عن أصابعهم بالمسبحات، ولعل ألسنتهم ما سبحت لله قط.
وختم بقوله: ثم إذا كان الغرض من التمثيل تصوير المعاني في الأذهان تصور المحسوسات فذلك خليق بذكر الصرائح، واجتناب الكنايات والرموز. ا. ه
وهذا الذي جرى بينهما يحتاج إسالة حبر كثير، ولكن سينتهي الأمر إلى إقرار الوجهتين بغض النظر عن الردود والحجج، فإن ابن المنير مال إلا أن السبب لوضع الاصابع هو الدهش والحيرة، ومال الزمخشري إلى أن السبب هو مبالغة في الإعراض، ومن تأمل الحال وجد أن قول الزمخشري أقرب في حقيقة الموصوف، وقول ابن المنير أقرب إلى حقيقة الوصف، فالصد والإعراض مراد المنافق، والحيرة يصاب بها من فاجأته الصواعق، فلماذا نلزم أحدهما بما صرف إليه نظره!؟
ذلك بأن المنافق راد لما علم، ولا حيرة ولا دهش، وأما المصاب بالصواعق فجأة فله هذا الوصف ولا يرد.
لكن ألا يحيرنا ابن المنير عندما قال: أو فلعلهم يؤثرون في هذه الحال سد آذانهم بالوسطى!؟
فأي اختيار لهذا الدهش المحتار وقد فاجأته الصواعق ليترك ما هو من عادته بوضع السبابة إلى وضع الوسطى!؟
حقاً، هذه لا تقبل منه.
واما قوله: إن عدم استخدام كلمة المسبحة لأن الموصوف لا يسبح، فهذه ضميمة في كلام جار الله وأنها مستحدثة من قبل أهل الإسلام، ولم يرد الشيخ شيئا مما عرض به ابن المنير، وإنما أراد الشيخ تنبيهنا إلى أنها ألفاظ مستحدثة، لا يعترض فيها على آخر أعرض عنها لعدم وجودها في ألسنة الناس.
لكن ابن المنير أصاب في قوله: إن غرض التمثيل تصوير المعاني الذهنية بالمحسوسات لقربها من الإنسان، وهذه كلمة قالها الزمخشري قبل ذلك في قوله(مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً) وقال كلاماً رائعا، هو عمدة من تكلم عن المثل وقيمته في كلام الناس عرباً وعجما، حيث قال:
بضرب المثل زيادة في الكشف وتتميما للبيان. ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر- شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق، والمتوهم في معرض المتيقن، والغائب كأنه مشاهد. وفيه تبكيت للخصم الألد، وقمع لسورة الجامح الأبىّ.
ولكن الحقيقة أن هذا الكلام في الموطن المتقدم ليس للزمخشري بل هو لمن هداه لعلم البلاغة؛ أقصد عبد القاهر الجرجاني رحم الله الجميع، إذ قال في أسرار البلاغة:واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني، أو برزت هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورتها الأصلية إلى صورته كساها أبهة... ورفع أقدارها وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، فإن كان مدحا كان أبهى وأفخم وأنبل في النفوس وأعظم؛ وإن كان ذما كان مسه أوجع وميسمه ألذع... وإن كان حجاجا كان برهانه أنور وسلطانه أقهر"
وقد ردد المعنى نفسه في (الشافية)، إذ وسيلة إدراك الصورة التمثيلية في نظر عبد القاهر الجرجاني "هي المعاينة أو الإدراك الحسي الذي هو أكثر أثرا في تقرير المعاني في النفس، من إدراك اللغة المجردة عن التصوير إدراكا عقليا، فالإدراك الأول أشبه بالعلم الضروري الذي تأنس به النفس وتطمئن اطمئنانا لا تجده مع العلم النظري"
فاخذ هذا الزمخشري وألبسه حلة الجمع واللفظ الحسن.
إضاءة : لا تعترض أن هذا من علوم الزوائد التي لا ضرورة لها، فهذا من المهمات اللازمة لتذوق القرآن الكريم، والذي يجعلك متدبراً له، داخلاً في باب الذاكرين الله كثيرا، فإن لم يستفزك هذا فلا عليك أن تعلم انك إنسان بذوق البيان فإن فقدته فقد فقدت إنسانيتك.

الشيخ عمر محمود أبو عمر

للعودة للفهرس