JustPaste.it

 تزكية النفوس

الحمد لله القائل: (إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الذي امتن الله به على المؤمنين يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، ورضي الله عن صحابته الذين امتحن الله قلوبهم  للتقوى، وعن آل بيته الذين طهرهم الله تطهيرا، أما بعد:

فقد حذرنا الله من نفوسنا فقال: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)، وقال: (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه):

وقد ذكر الله أربع آيات في القرآن وذكرها أيضا في صحف إبراهيم وموسى، فما هذه الآيات؟! قال الله سبحانه: (قد أفلح من تزكى*وذكر اسم ربه فصلى*بل تؤثرون الحياة الدنيا*والآخرة خير وأبقى*إن هذا) أي المذكور من الآيات الأربع (لفي الصحف الأولى *صحف إبراهيم وموسى).

(قد أفلح من تزكى) أي زكَّى نفسه، كما قال: (ونفسٍ وما سواها*فألهمها فجورها وتقواها*قد أفلح من زكاها*وقد خاب من دساها) أي قد فاز من زكّى نفسه بالطاعات وترك المعاصي، وقد خسر من دسّس نفسه أي أخفاها وقذّرها بالمعاصي.

أيها الأخوة الكرام: بل إن جميع العبادات في الإسلام فإن المقصود بها زكاة النفوس؛ حتى زكاة المال المقصود بها زكاة النفس، كما قال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)، وحتى صدقات التطوع يُقصَد بها زكاة النفس، قال تعالى: (الذي يؤتي ماله يتزكى).

كما حرم الله المحرمات إلا لتزكية النفوس كما قال الله تعالى: ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم)، وقال سبحانه:(وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن).

أيها الأخوة إن من أعظم مقاصد بِعثة النبي ﷺ تزكية النفوس كما بين الله ذلك فقال: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة).

وأما قوله تعالى: ( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى)، فالمقصود بالتزكية هنا: المدح.

فالنفس مكمن الشـر،  كسلة عن الخير، نشطة إلى المعاصي، (إن النفس لأمّارةٌ بالسوء إلا ما رحم ربي)، فهي تحتاج إلى مجاهدة لتلزم سبيل الرشد فتفلح، قال سبحانه:( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، فعلى العاقل منا أن يُروّض نفسه على طاعة الله، ويُلزمها فعل الخير وإن كرهت، فإنها سوف تعتاد الخير وتألفه، قال سبحانه: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) أي احبسها على الطاعة لأن طبيعتها الكسل والتثاقل عنها!

وعليه أن يَفطمها عن المعاصي والشهوات وإن أحبّتها، قال  الله سبحانه:(فأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى).

والنفس كالطفلِ إن تُرضِعه شبَّ على     حبِّ الرضاعِ وإن تَفطِمه يَنفَطِمِ

ومن شرع في تزكية نفسه تصير نفسُه لوامةً تلومه على فعل المعصية، وتلومه على التفريط في الطاعة، وقد أقسم الله بهذه النفس التي بدأت تتزكى فقال: (لا أقسم بيوم القيامة* ولا أقسم بالنفس اللوامة). ثم إن استمر في تزكية نفسه صارت نفساً مطمئنةً بذكر الله وطاعة الله، وتُبشَّر عند موتها ببشارتين: بشارة من ملائكة الموت، وبشارة من الله جل جلاله:(يا أيتها النفس المطمئنة*ارجعي إلى ربك راضية مرضية) هذه بشارة من الملائكة، ثم يقول الله لتلك الروح الطيبة: (فادخلي في عبادي*وادخلي جنتي).

وأخيرا أيها الأخوة كيف نزكي أنفسنا؟ نزكيها بفعل الطاعة، والإكثار من التقرب بالنوافل بعد الفرائض، ونزكيها بترك المعاصي، فنعصي نفوسنا حين تميل إلى فعل الشر وترك الخير.

رأيتُ الذنوبَ تُميتُ القلوبَ   وقد يُورثُ الذلَ إدمانُها

وتركُ الذنوبِ حياةُ القلوبِ   وخيرٌ لنفسِكَ عِصيانُها

وأعظمُ ما يزكي النفوسَ ويُصلح القلوب: تدبرُ كتابِ الله، قال الله: (أفلا يتدبرون القرآن)، وقال: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين)، فالقرآن شفاء لما في القلوب من الشهوات والشبهات، وهدى من كل ضلالة.

ومن أعظم ما يزكي النفوس: الدعاء، قال الله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من احد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم) ختم الله هذه الآية بقوله: (والله سميع عليم) إشارة إلى دعاء الله بتزكية النفس، فهو سميع الدعاء وهو عليم بمن يستحق الهداية، وقد كان ﷺ يقول: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها).  

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.