JustPaste.it
الحمد لله الواحد القهار، مقلب الليل والنهار، والصلاة والسلام على نبينا المختار، وعلى صحبه وآله الأطهار.. أما بعد:
 
 لله در ركائبٍ سارت بهم ** تطوي القفارَ الشاسعاتِ على الدُّجى 
رحلوا إلى البيت الحرام وقد شجَا ** قلبَ المتيّم منهـمُ ما قد شجـا 
نزلوا ببــابٍ لا يخيـبُ نَزيلُه ** وقلوبهم بين المخافـة و الرجا
 
يقول الله عزوجل:(وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ).
 
لله هاتيك الجموع وهي تؤم بيت الله الحرام، فما إن قاربت رحابه، وشارفت مشارفه إلا وقد ضجت حناجرها، وتعالت أصواتها: " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"
 
في الحج أحبتي، تُسكَب العبَرَات، وتتنزل الرحمات، وتفيض العطايا والهِبات، وتُمنَح الهدايا والشهادات..(أُشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم).
 
وفي الحج، تتآلف القلوب وتجتمع، وتتعاظم النفوس وترتفع، وتذلُّ الأفئدة لربها وتنخلع..
 
يا سائرين إلى البيت العتيق لقد ** 
سرتم جسوماً وسِرنا نحن أرواحاً
 
ما أعظمَ شوقنا إلى تلك البقاع الطاهرة، والأماكن المقدسة، ولكننا لبّينا نداءً آخر، وسعينا فوق أرضٍ أخرى، فإن كانت تلك البقاع تُسكب عليها الدموع، فبقاعنا هنا تُسكب عليها الدماء، والنتيجة إن صدقنا نحن وأنتم مع ربّنا واحدة، أن يغفر الله ذنوبنا، ويتجاوز عن سيئاتنا، ويعفو عنا، نسأل من الله أن يتقبل مناومنكم، وأن يرزقنا الصدق والإخلاص في كل قول وعمل..
 
أيها الحجاج، يا من وفقكم الله لبلوغ بيته الحرام، لا تهنئة أعظم ولا أجل ولا أكمل من قوله صلى الله عليه وسلم: "من حج هذا البيت فلم يَرفث ولم يَفسُق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمُه، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" وهذا في الصحيحين.
 
فلْيَهْنِ الوافدين لبيت الله ما وُعِدوا به من مغفرة الذنوب، وستر العيوب، ولْيَهْنِهم ما رُتِّبَ على الحج المبرور من هذا الجزاء الجزيل، ورضَى الربِّ الجليل، فهنيئاً لكم أيها الوافدون لزيارة البيت العتيق، القادمون من كل فجٍّ عميق، فكونوا على جانب كبير من تقوى الله عز وجل والاتصاف بالأخلاق الحميدة، فأنتم أحقُّ وأولى من اتصف بكل خلق جميل؛ اغتناماً منكم لمضاعفة الأجر والثواب في تلك البقعة الشريفة؛ واحتراماً لحرمة بيته؛ وشكراً لنعم الله عليكم التي لا تعدُّ ولا تُحصى.
 
 وإن للحج معانٍ وأسرار ينبغي تدبرها.. فالحج حشد إيماني عظيم، ومؤتمر إسلامي  كبير، يدعو إلى وحدة الأمة وتضامنها، كيف لا والحجاج يجتمعون في صعيد 
واحد وفي مكان واحد، قد جاؤوا من جميع أقطار الأرض، يعبدون إلهاً واحداً، رسولُهم واحد، وشعارهم واحد،  ومنسكهم واحد، تلاشت في تلك العرصات 
كل العصبيات، ولم يعد هناك أثر لاختلاف البلدان والأعراق واللغات؛ حتى غدا الحج شعار وحدة المسلمين، والتعارف والتراحم بينهم، والتسامي عن كل رباط 
عارض رباط الدين وآصرته ، وهم من قبل صاموا شهرًا واحدًا، فهذه المظاهر الجماعية مُؤْذِنة باجتماع هذه الأمة، وأنها لن تفلح إلا بالاجتماع والترابط، وفي 
ذلك تحذير من التنازع والتفرقة، وأنَّ المسلمين ما أُتوا إلا من تفرقهم وتمزقهم، قال تعالى: "وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ" والحج يعج بمظاهر التوحيد 
والعبادة، وكل ذلك ماحٍ للخطايا موفّر للحسنات، وهو صمود في زمن المهانة، وشموخ في وقت الضعف، فالأمة يُحاط بها في كل مكان، ويُكاد لها في كل محفل 
من قِبل أعداء لا يكفّون عن المكر الكُبّار، بالليل والنهار، فيأتي الحج بتلك الجموع ليحيي معاني الصمود والشجاعة ، وأن المسلمين يعزّون بعد ضعفهم، 
ويقوون بعد هزالهم، ويتجمعون بعد تفرقهم، 
(واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا)، إنه رسالة للعالم أن هذه الأمة لن تراهن يوماً على دينها، ولن تساوم أبداً على مبادئها ومعتقداتها، وأنها قوية بربها، عزيزة 
بدينها.
 
إنه اجتماع باسم الإسلام، جمعهم الله على دينه، وآواهم على شرعه، فلم تجمعهم نعرات ولا عنصريات ولا جنسيات، وإنما جمعهم هذا الدين وألف بينهم هذا الإيمان، وفي ذلك تأكيد أن هذه الأمة لا يؤلفها إلا الإسلام، ولا يجمع شتاتها إلا الإيمان، فهو دين الوحدة والتعاون والتضامن، (وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ يْنَهُمْ)
 
فلتبشري يا أمتي بالخير، فإنك أمة العدل والقيادة، وأنت صاحبة العاقبة والسيادة، وبك لا بغيرك يسود الأمن والرخاء، ويعم الخير والسلام..
 
إن بياض اللباس ونقاءَه إشارة إلى طهارة الباطن ونقائه، ودليل على صفاء الرسالة والمنهج، وفيه اطّراح للزينة، وإظهار للتواضع والمسكنة بين يدي الله تعالى، وتذكر القدوم عليه سبحانه ..إن شعيرة الحج تجعل الناس سواسية في لباسهم وأعمالهم وشعائرهم وقبلتهم وأماكنهم، فلا فضل لأحد على أحد، الملك والمملوك، الغني والفقير، الكبير والصغير، الأبيض والأسود، والعربي والأعجمي، كلهم في ميزان الله سواء، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.. (إن اكرمكم عند الله أتقاكم).
 
وحدة في المشاعر، ووحدة في الشعائر، ووحدة في الهدف، ووحدة في المناسك، يسعي الحاج بين الصفا والمروة فيتذكر أن من أطاع الله وتوكل عليه واعتصم به فإنه لا يضيعه بل يرفع ذِكْرَهُ .. هذه هاجر أم إسماعيل عليهما السلام لما قالت لإبراهيم: "آلله أمرك بهذا" قال : " نعم " قالت : إذاً فلن يضيعنا " فرفع الله ذِكْرَها وبدأ الناس يسعون مثلها بما فيهم الأنبياء عليهم السلام..
 
أحبتي.. هناك علاقة كبيرة بين الحج والجهاد، وشَبَه كبير بين هاتين الشعيرتين العظيمتين، فمن أوجه الشّبه بينهما:
 
أن في كلٍّ من الحجّ والجهاد: ترك للأهل والأوطان، وبذل للنّفس والمال، وفي الحجّ من الحاجة إلى الصّبر على المشاقّ والمخاوف ما في الجهاد أيضاً، وإذا شَرَع العبد في الجهاد والتقى الصفان، صار عندئذ فرض عين، حتى وإن كان الجهاد فرض كفاية.. لقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ) وكذلك الحجّ فإنّه وإن كان سُنّة، فإنّه يلزم ويصير فرضاً بالشّروع فيه، لقوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) نزلت عام الحديبيّة، وكان الحجّ والعمرة يومئذ مستحبّا، ومع ذلك أمر بإتمامه.
 
والمجاهد والحاج وفود على الله عزوجل، يستجيب دعاءهم ويغفر ذنوبهم، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحاج والغازي وفد الله عز وجل: إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم" (الجامع الصغير للسيوطي رقم 3776)
 
وفي الأخير.. أيها الأمة المباركة!!
 
إن الاضطراب والضلال، والدخول في متاهات لا نهاية لها، إنما يأتي بسبب البعد عن شريعة الله، والتخلي عن تعاليم الدين، وضعف التمسك بكتاب الله وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، فالله الله بالاعتصام بالكتاب والسنة، ففيهما النجاة من الفتن والهلاك.. 
الله الله في الوحدة والتآلف والترابط بين المسلمين، وتذكّري يا أمة الإسلام مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، هذا هو أول عمل قام به فداه أبي وأمي عند قدومه إلى طيبة الطيّبة..
 
تذكري يا أمتي ميثاق المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، لقد كانت علاقة مُمَيِّزة للدولة الإسلامية، أن الجميع فيها أُخْوة؛ الحاكم أخو المحكوم، والقائد أخو الجندي، والكبير أخو الصغير، والعالم أخو المتعلم، إنها أخوة حقيقية بلغت إلى حد الميراث في أوائل فترة المدينة، ثم نُسخ الحكم وبقيت الأخوة في الدين.
 
واحذري يا أمتي الظلم فإن الظلم كارثة إنسانية، وإن الظلم ظلمات يوم القيامة، والظلم مُهلك للأمم في الدنيا مهما كانت قوية، قال الله تعالى: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِين)
ولذا قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة".
 
إن إقامة العدل وحفظ دماء الناس وأموالهم، مما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حيث قال: "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَلَقْوَنْ رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا".
 
كما أوصيكم أحبتي المجاهدين بأن لا يغرنكم قول المرجفين عنكم؛ أنكم أهل حماس وعاطفة، فهكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم متحمساً للدين، فقد أبطل العهود والمواثيق مع اليهود جرّاء كشفهم لسوأة امرأة مسلمة وقتلهم للرجل المسلم الذي غار لأجلها، فما كان من نبي الملحمة إلا أن جاءهم بالذبح وبخيول الله العاديات ضبحاً.. والمغيرات صُبحاً على المشركين.
 
أوصيكم أيها المجاهدون أن تكونوا على يقين؛ بأن الله منجزٌ وعده، ومُعزٌّ دينه، وناصرٌ جنده وحزبه، ولو بعد حين، فاصبروا فالصبر عند الشدائد، وإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً، ومع الإخلاص والعمل الصالح يكون النصر والتمكين والاستخلاف.. (وعد الله لا يخلف الله الميعاد).
 
فما بقي علينا إلا أن نلجأ إلى الله، ونستعين به، ونحذر من ذنوبنا أشد الحذر، حتى لا تهلكنا وتكون هي السبب في هزيمتنا، ونصدق في توبتنا وإنابتنا إلى مولانا سبحانه، وهو الموفق والمستعان ..
 
أسأل الله العلي القدير أن ينصر عباده، ويدمر أعداءه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين..