JustPaste.it

إشراقات

بسم الله الرحمن الرحيم

إشراقات

على ما جرى من ردود وملحوظات بين أبي محمد المقدسي وأبي بصير الطرطوسي

الحمد لله رب العالمين، الذي شرف أهل العلم ورفع منزلتهم على سائر الخلق، وأصلي وأسلم على سيد الأولين والآخرين، الذي لم يُورِّث دينارًا ولا درهمًا، وإنما وَرَّث العلم، فمن أخذه فقد أخذ حظًّا وافرًا، ومن حُرِمه فهو المحروم، أما بعد:

قال سبحانه وتعالى: "شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم" قال الإمام القرطبي رحمه الله: (في هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه، واسم ملائكته كما قرن العلماء) تفسير القرطبي4/41 ، وقال العلامة عبد الرحمن السعدي في تفسيره: (وفي هذه الآية فضيلة العلم والعلماء، لأن الله خصهم بالذكر من دون البشر وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وجعل شهادتهم من أكبر الأدلة والبراهين على توحيده، ودينه، وجزائه وأنه يجب على المكلفين قبول هذه الشهادة العادلة الصادقة وفي ضمن ذلك: تعديلهم، وأن الخلق تبع لهم، وأنهم هم الأئمة المتبعون، وفي هذا من الفضل والشرف وعلو المكانة ما لا يعادل قدره) 1/365.

إخواني.. إن منزلة العلماء كبيرة ومكانتهم عظيمة ليس نحن من يعطيهم هذا الفضل وتلك المنزلة بل الله سبحانه وتعالى من امتن عليهم بذلك، فقال سبحانه: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" ونحن مع اعترافنا بفضلهم ومكانتهم إلا أنهم بشر يصيبون ويخطئون، ويجري عليهم ما يجري على بقية الناس من الخطأ والسهو والزلل ونحوه، ولكنهم تميزوا عن سائر الناس أن من اجتهد منهم فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد.

والعالم الصادق يقول ما يراه و يعتقده صواباً ولا يبالي بعدها من أرضا بقوله ذلك ومن أغضب، وحتى وإن خالف أقرب الناس إليه فالحق أحب إليه، ولكنه مع قول ما يراه حقاً لا يهدر مكانة الآخرين وفضلهم فقد يكون الحق معهم، وإذا انتقد لا يخرج عن طور الأدب والأخلاق، وهذا ما وجدته في ردود الشيخين الكريمين أبي محمد المقدسي وأبي بصير الطرطوسي، فلقد اطلعت على ما كتبه شيخنا الشيخ أبو محمد المقدسي من مقالة بعنوان: (رسالة إلى الصادقين ممن نفروا إلى أرض الجهاد في سوريا) ثم ما أعقبها من ملحوظات لشيخنا أبي بصير الطرطوسي في رسالة بعنوان: (ملحوظات على رسالة إلى الصادقين ممن نفروا إلى أرض الجهاد في سوريا) ثم ما أعقب هذه الملحوظات من ملحوظات للشيخ أبي محمد المقدسي بعنوان: (ملحوظات على ملحوظات الشيخ أبي بصير) على الرغم من أن بعض طلبة العلم والمجاهدين رأى فيها شدة وتخاصم وغلظة، وهنا لي تعليق على تلك الردود والرسائل وإن كان ليس لمثلي أن يعلق بين يدي علماء كبار قد أفنوا أعمارهم في الدعوة والعلم وابتلوا في ذات الله تعالى، ولكن قد تكلم الهدهد بين يدي سليمان عليه السلام فلي في ذلك مندوحة، على أن ما سأقوله ليس تعليقاً بالمعنى المتبادر وإنما هي وقفات وإشراقات استشفتها من خلال اطلاعي للرسائل السابقة للشيخين، ولما رأيت من حزن وضيق أصاب بعض الإخوة من المجاهدين وطلبة العلم في الشام فقد كبر عليهم أن يختلفا عالمان من علماء الإسلام الذَّين أحبهما المسلمون على وجه العموم والمجاهدون على وجه الخصوص لما علموه عنهما من صدق وصدع بالحق ونصح للمجاهدين وتثبيت لهم على الجهاد ومقارعة أعداء الدين، ولكن بنظرة إيجابية إلى ذلك الاختلاف تخف وطأة الحزن على النفوس وتطمئن القلوب وتهدأ، ولذا كانت هذه الإشراقات التي

أسأل الله عز وجل أن تكون مؤنسة لإخواني ولكل محبي العلماء والمجاهدين فلا يتصورون ما يسيء للعلماء وقادة المجاهدين، بل يحملون كلامهم على أحسن المحامل وأفضلها، فأقول مستعيناً بالله تعالى:

 

الإشراقة الأولى:

إن ما وقع من خلاف بين الشيخ المقدسي والطرطوسي ما هو إلا ظاهرة إيجابية وقد وقع بين علماء المسلمين قديماً وحديثاً، فالاختلاف سنة قديمة ماضية بين العلماء وأئمة الإسلام ولو لم يحصل ذلك الاختلاف لظننا أن العلماء يجامل بعضهم بعضا ويتبع بعضهم بعضاً، وهذا الاختلاف ليس من جنس الاختلاف المذموم (ما ليس بذموم هو: الاختلاف في الفروع وفي مسائل الاجتهاد)، بل يُمدح إن كان الحامل عليه اتباع الحق وتقديمه، وذلك أن نصوص القرآن والسنة في بيان تلك الأحكام ظنية في دلالتها، فربما رجح مجتهد مالم يرجحه آخر، فالكل مأجور في اجتهاده، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" متفق عليه. ولقد تكلم بعض العلماء قديماً على بعض وقدح بعضهم في بعض فلم يُلتفت لذلك بل عُدّ ذلك من كلام الأقران الذي يُطوى ولا يُروى فقد تكلم الإمام مالك في محمد بن إسحاق صاحب "المغازي", وتكلم النسائي في أحمد بن صالح المصري, وتكلم الثوري في أبي حنيفة, وتكلم ابن معين في الشافعي, وتكلم ابن مَندَهْ في أبي نُعَيم, وكان ابن حزم شديد الوقوع في كبار العلماء، قال ابن حجر في "لسان الميزان" (4|201): "ومما يُعاب به ابن حزم: وقوعه في الأئمة الكبار بأقبح عبارةٍ، وأشنع رد" وقد صح عن ابن معين من طرق أنه كان يتكلم في الشافعي حتى نهاه أحمد بن حنبل وقال له: لم تر عيناك قط مثل الشافعي" (جامع بيان العلم وفضله 2/160). بل حدثت تلك الحدّة والشدة في القول بين الصحابة، قال ابن عبد البر: "قيل لعروة بن الزبير: إن ابن عباس يقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث بمكة بعد أن بعث ثلاثة عشرة سنة، فقال: كذب إنما أخذه من قول الشاعر، قال أبو عمر والشاعر هو أبو قيس بن أنس الأنصاري حيث قال:

ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكر لو يلقي صديقاً مواتياً

(جامع بيان العلم وفضله 2/155).

وعن عبادة بن الصامت أنه قال كذب أبو محمد يعني في وجوب الوتر.. قال ابن عبد البر: "وأبو محمد هذا اسمه مسعود بن أوس الأنصاري وهو بدري وتكذيب عبادة بن الصامت له من رواية مالك وغيره في قصة الوتر" (جامع بيان العلم وفضله 2/154).

وكذَّبت عائشةُ ابن عمر في عدد عُمرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه"، كما ثبت في الصحيح عنها رضي الله عنها.

قال ابن عبد البر: "وقد كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلة العلماء عند الغضب كلام هو أكثر من هذا ولكن أهل الفهم والعلم والميز لا يلتفتون إلى ذلك لأنهم بشر يغضبون ويرضون والقول في الرضا غير القول في الغضب"، ولا يزال أهل العلم والفتيا في كل زمان ومكان يختلفون، والاختلاف سنة الله في الكون، ولكن مع تلك الخلافات لم يكن بين أولئك العلماء الكبار والأئمة إلا التصافي والتسامح والتواد، ها هو الشافعي لما اختلف مع أحد العلماء واشتدَّ ما بينهما خرج الشافعي له قائلاً: (ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم

نتفق في مسألة) قال مالك للخليفة العباسي حينما أراد حمل الناس على الموطأ وهو كتاب مالك وخلاصة اختياره في الحديث والفقه: لا تفعل يا أمير المؤمنين" معتبراً أن لكل قطر علماءه وآراءه الفقهية فرجع الخليفة عن موقفه بسبب هذا الموقف الرفيع من مالك في احترام رأي المخالف وإفساح المجال له. وأنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متماً وقال: الخلاف شر. (الفتاوى 22 – 407)، قال أحمد: "لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق وإن كان يخالفان في أشياء فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضا "، كان شعبة بن الحجاج أميراً للمؤمنين في الحديث، وأبو حنيفة من أهل الرأي بالمكانة التي عرفنا، ورغم تباين منهجيهما فقد كان شعبة كثير التقدير لأبي حنيفة، تجمع بينهما مودة ومراسلة، وكان يوثِّق أبا حنيفة، ويطلب إليه أن يحدِّث، ولما بلغه نبأ موته قال: لقد ذهب معه فقه الكوفة تفضل الله عليه وعلينا برحمته.

 

الإشراقة الثانية:

أقول على عكس ما قد يظنه البعض، فإن هذه الاختلافات بين العلماء الكبار لا تزيدنا بهم إلا تعلقاً ومحبة وثقة وذلك لعلمنا بهم وبحالهم وصدقهم نحسبهم كذلك والله حسيبهم، فليسوا بعلماء سلاطين تُرسم لهم الخطوط كما تُرسم للبعض ثم يُطلب منهم أن يسيروا عليها، كلا.. بل إنما يدلي كل منهم بدلوه ويقول ما يدين الله به ويعتقد صوابه، وعلى هذا حصل الاختلاف بين الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا، وكما سبق معنا أن هارون الرشيد قال لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله نكتب هذا الكتاب – يعني الموطأ-، ونحمل الناس عليه، ونفرقه في آفاق الإسلام لنحمل عليه الأمة، فقال يا أمير المؤمنين: إن اختلاف العلماء رحمة من الله تعالى على هذه الأمة، كل يتبع ما صح عنده، وكلهم على هدى، وكل يريد الله تعالى".

ومسائل الخلاف السائغ لا يجوز معها التناحر والافتراق والهجر، قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا النوع من الاختلاف لا يوجب معاداةً ولا افتراقاً في الكلمة ولا تبديداً للشمل، فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائل كثيرة من مسائل الفروع كالجدّ مع الإخوة وعتق أم الولد بموت سيدها" الصواعق المرسلة " (2 / 517)-.

 

الإشراقة الثالثة:

عند الاطلاع على كلام المشايخ وردودهم لا تُخطئ العين أدبهم في الحديث ولين الكلام مع شدة الاختلاف في بعض المسائل، ولكن كان ذلك هو الأدب، ولا عجب فهم الذين علمونا تلك الأخلاق والآداب وحسن اختيار الألفاظ والطرح في المسائل، فهذا الشيخ أبو بصير الطرطوسي حفظه الله يقول في كتاب:(فقه الاختلاف عن أهل السنة وأهل البدع) : "بالنسبة للعالم المجتهد الذي يُخطئ فيما اجتهد فيه، والذي له أجر على اجتهاده، تُقال عثرته فيما أخطأ فيه، ويُحسَّن به الظن، ويُتوسَّع له في التأويل، وحقه من الاحترام والتوقير يبقى محفوظاً عند أبناء الأمة، لا يجوز أن يثير خطؤه مشاكل تؤثر على وحدة الكلمة ورصِّ الصفوف، وهذا لا يمنع من رد خطئه برفق، وتحذير الناس مما قد أخطأ فيه، هذا الذي مضى عليه عمل السلف الصالح، وجميع علماء الأمة المتقدمين منهم والمتأخرين عندما يصوّبون أخطاء بعضهم البعض، ويردون على بعضهم البعض، ويُمكن القول كذلك: أن العالم كلما ظهرت عليه علامات الاجتهاد والتقوى والصلاح بصورة أكبر وأوضح،

وسلمت أصوله من المآخذ، وكان بعيداً عن مواطن الشبهات، كلما تعيَّن على الأمة احترامه وتوقيره، وزيد بحقه تحسين الظن، وتُوسِّع له أكثر في التأويل "..

وهذا الشيخ أبو محمد المقدسي حفظه الله يقول في مقال: (الإنصاف حلة الأشراف): "فلنتعلم العدل والإنصاف مع القريب والبعيد، والموافق والمخالف، والعدو والصديق، ولا يجرمنّا شنآن قوم أو يحملنا على ترك العدل والإنصاف، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا حكمتم فاعدلوا وإذا قلتم فأحسنوا..) رواه الطبراني في الأوسط.

ويقول الشيخ المقدسي أيضاً في مقاله: (نصيحة وتذكير للإخوة المتحاورين): " فلنتحل بالإنصاف مع خصومنا وإن ظلمونا، فنحن إنما نعاملهم بأخلاقنا لا بأخلاقهم، والعدل والانصاف محبب للفطر والقلوب السليمة ويدخل عليها بلا استئذان، فما الذي يمنع أخا من الاعتراف بعلم فلان أو علان في أبواب شتى من الدين وبأثره على الناس ونفعه للعوام والأمر مشاهد للعيان، ويستثني من ذلك بلا لوم ولا حرج الأبواب التي يثلمها أولئك المشايخ وينبه عليها دون تشنج أو شتم أو سباب"

 

الإشراقة الرابعة:

إن هذه الاختلافات كما أسلفت في الإشراقة الثانية لن تزيدنا إلا إيماناً بصدق هؤلاء الرجال نحسبهم والله حسيبهم كيف وهم من قد ابتلوا في ذات الله وصدعوا بالحق في زمن سكت فيه غيرهم وداهن وجامل في دين الله وأما هم فلم يداهنوا أو يجاملوا أحداً في الدين بل قالوا كلمة الحق عالية مدوية لم تأخذهم في الله لومة لائم بل لقد صبروا في ذات الله فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، رغم ما أصابهم من الألم والسجن والقيد، بل وصدعوا بالحق في وجوه أتباعهم ومحبيهم غير مبالين بما سيقوله الأتباع وما سيقوله الناس وهذا هو محض الأمانة التي حُمّلوا إياها أمام الله تعالى بأن يصدعوا بالحق غير ملتفتين لما سيقوله الأتباع، فإن مما ابتليت به الساحة حقيقة ومما رأيناه عياناً هو سيطرة الأتباع على العلماء، فصار خوف كثير من العلماء من الصدع بالحق أمام أتباعهم أشد من خوف علماء السلاطين من سلاطينهم، وأصبح الصدع بالحق أمام الأتباع أشد وقعاً على النفس وصعوبة من الصدع بالحق أمام السلاطين الجائرين، وإن كان كلمة الحق عند سلطان جائر لها من الأجر ما لها عند الله تعالى وغاية ما سيقوم به ذلك السلطان هو أن يجلد الظهر أو يحبس الجسد، فكيف بالصدع بالحق الذي يُعرِّض العالم أو الداعية للاتهام والتخوين والإسقاط عند الأتباع، فلربما كان ذلك أشد ألماً من العذاب الجسدي، ولذا أقول إن الصدع بكلمة الحق التي تخالف هوى أولئك الأتباع ليس بالأمر الهين، وليس ذلك بيسير إلا على من تجرد للحق ودار معه حيث دار، وأحسب الشيخين أبي محمد المقدسي وأبي بصير ممن تجرد للحق فلا يخشى في قوله لومة لائم، ولنا في ذلك مثال حينما صدع هؤلاء العلماء بالحق في وجوه الغلاة فلقوا ما لقوا من أمور آلمتنا بل أبكتنا على علماء طالما قرأنا لهم ونهلنا من علمهم ومعينهم..

نعم إخواني لا أبالغ إن قلت بأن الصدع بالحق أمام الأتباع أصبح أشد منه أمام السلطان، والكيس من لجم نفسه بلجام الحق وقادها به، كلمة الحق ما هي إلا جرأة نفسيَّة، وقوَّة داخلية، يدفعك إيمانُك الصادق لكي تقولها، بكل ثباتٍ وإباء، ورسوخٍ وشموخ، وانتماء لها واستعلاء، كم من شخص قال كلمة الحق لم يخلص النيَّة فيها لله وحده، بل قالها يبتغي بها رضا الناس؛ ليكون ويكون! ويصعد على الأكتاف، وتهتف باسمه الجماهير! ويحمده الأتباع، ولما ابتلي وأوذي وكله الله إلى الناس فتخلُّوا عنه! وكم من ربَّاني قالها لإرضاء الله، بل في حالة إعراض الناس عنه، فحماه الله وعصمه من أذى الناس، وإن أُوذي حباه الله بمحبَّة الناس ومناصرتهم له ولكلمته، كلمة الحق لها ضريبةٌ اشتكى منها كثيرٌ ممن قالها،

وهي بُعد كثيرٍ من الناس عن قائلها، جاء عن أبي ذر رضي الله عنه قوله: (ما زال بي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى ما ترك الحق لي صديقا)، ومن شرف (كلمة الحق) أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلها من أعظم الجهاد حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر" وكما أنها تُقال أمام السلطان، فلابدَّ من قولها أمام الأتباع والإخوان والأصحاب والحشود، فلربما يكون قولها أمامهم أصعب من أن تُقال أمام السلطان!

وكلمة الحق لا يُستحيا منها ولا ينبغي الخجل من قولها، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا لا يمنعن أحدًا هيبةُ الناس أن يقول بحق إذا علمه"؛ أخرجه الترمذي، وقال: (حديث حسن صحيح).

فكم من جَريءٍ في كلمة الحق أمام السلطان ضعيف جبان في قول كلمة الحق أمام جماعته وتنظيمه ومحبيه، خصوصًا إن كان يعلم أنَّ (كلمة الحق) قد تخالف أكثرهم أو كثيراً منهم..

 

وفي الختام.. أهمس للشيخين الكريمين أبي محمد المقدسي وأبي بصير الطرطوسي ولجميع علمائنا الذين بذلوا من أجل نشر وإيصال دين الله سبحانه وتعالى الغالي والرخيص وعاشوا معنا أحداث الشام لحظة بلحظة وحدثا بحدث يوجهون ويرشدون ويفتون ويحرضون على الجهاد ويثبتون المجاهدين ويصدعون بالحق في كل قضية وواقعة وحدث، ولا عجب فهم الذين أمضوا حياتهم في سبيل الله ولرفع راية التوحيد ولذا فهم ما بين سجين ومطارد ومنفي وفار بدينه مغترب، فلا عجب أن يصدعوا بالحق، ولذا نقول لهم جميعاً: لا يهولنكم ما تلقونه من الغلاة من جحود وإسقاط وإعراض وشتيمة، ولا يهولنكم ما تلقون من صعوبة وتشويه ونحو ذلك، فو الله إنّا نرى في الشام أثر كلماتكم ونرى أثر حروفكم أشد وقعاً على الكفار من نبالنا ورصاصاتنا التي نطلقها، وإن كلماتكم وتوجيهاتكم ونصحكم أحب إلينا مما يأتينا من دعم من أموال المسلمين التي نشتري بها ذخائرنا فو الله إن الإخوة هنا ليتلقفون كلماتكم ويستمعونها وهم في ثغورهم وفي رباطاتهم، بل والله لقد وقفت في أكثر من موقف لإخواني بينهم وبين العدو أمتار لا مئات الأمتار وهم يستمعون إلى صوتياتكم ويستمتعون، قد غطت حلاوة حديثكم عليهم شدة الخوف التي يلاقونها من رصاص أعداء الله سبحانه وتعالى، فلكم كانت كلماتكم بلسماً وضياءً، فإلى مشايخنا جميعاً شيخنا المقدسي وشيخنا الطرطوسي وجميع مشايخنا نقول لهم: الله الله لا تتركوا ساحة الشام فو الله لأن كان بضعة آلاف قد أعرضوا عن الاستفادة من علمكم ومن كلماتكم وكتاباتكم، فإن الله سبحانه وتعالى قد أبدلكم بعشرات الآلاف من المجاهدين، ومئات الآلاف بل الملايين من المسلمين الذين يتلهفون شوقاً لسماعكم، فكم نحب أن نعرف رأيكم ونستنير بهديكم، وكل من يطيل لسانه عليكم فليسوا منا ولسنا منهم، فأبناؤكم المجاهدين ولله الحمد يعرفون مكانة العلماء المخلصين الصادقين ومنزلتهم، ولا يتنكرون لأحد منهم كما هو حال الغلاة، قال الإمام الطحاوي رحمه الله في عقيدته المختصرة: "وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر لا يُذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل" فنقول لأولئك المتطاولين على أهل العلم:

يا ناطح الجبل العالي ليثلمه ** أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل

ونقول له أيضاً:

كناطح صخرة يوما ليوهنها ** فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

وإن أخطأ العالم فالخطأ وارد وكل بني آدم خطاء وليس من معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم فمن الظلم والإجحاف والنكران التنكر للعالم لخطأ وقع فيه، قال الإمام الذهبي رحمه الله -في سير أعلام النبلاء-: "ثم إن الكبير من العلماء إذا كثر صوابه وعلم تحريه للحق واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زللـه ولا نضلله ولا نطرحه وننسى محاسنه, نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه ونرجو له التوبة من ذلك". (جـ 5/ ص 279)

فانظر إلى إنصاف هذا الإمام للعلماء فإنّه ينوه بأنّه إذا ظهر منهم خطأ فإنهم لا يتركون بالكلية ولا يشنع بهم بل يجب احترامهم وتقديرهم مع اجتناب الخطأ الذي وقعوا فيه .

 

أسأل الله تعالى أن يهدينا لما اختلف فيه من حق إنه يهدي من يشاء بإذنه إلى صراط مستقيم، اللهم احفظ لنا علماءنا وقادتنا المجاهدين وأمتنا المسلمة المباركة والحمد لله رب العالمين