JustPaste.it

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا فشرح به الصدور وأنار به العقول والصلاة والسلام على محمد خير الأنام بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
وأشهد أن لا مطاع إلا الله ولا حكم إلا هو ولا تحاكم إلا إلى شرعه ولا إتباع إلا لشرعه ولا عمل إلا بشرعه ولا محبة إلا له ولا توكل إلا عليه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله جاء بالحق والهدى والنور المبين .
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ()
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ()
قال تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ()
فهذه هي قاعدة الأيمان بالله واليوم الآخر التي يقررها الله تعالى بنص محكم صريح قطعي الدلالة لا يوجد فيه أدنى ذرة من تشابه حكم جازم يبين منهاج المؤمن بالله واليوم الآخر أنه يرد كل صغيرة وكبيرة إلى الله تعالى والى رسوله عليه الصلاة والسلام فهذا هو شرط الإيمان الذي لا يقبل الله من أحد أن يكون في حزب الله إلا بتحقيقه فهذا عند التنازع وأما عند عدم التنازع فيعمل بالمتفق عليه إذ أن المسلمين لا يخرجون عن حالتين:
الأولى: إما أنهم متفقون وهذا هو الإجماع ولا يكون إلا على دليل محكم من كتاب أو سنة
الثانية: وإما أنهم متنازعون وفي هذه الحالة يرد المتنازع فيه إلى المجمع عليه وهذا لا يكون إلا في المسائل الاجتهادية في فروع الشريعة ليكون الجميع في دائرة أهل الحق فالمصيب له أجران والمخطيء له أجر فهذه الآية الكريمة تبين أن المؤمنين متفقون في أصول الدين لا نزاع بينهم في ذلك وإنما التنازع يكون في مسائل فروع الشريعة التي بين أصولها سبحانه تعالى وبين تفصيلاتها رسوله عليه الصلاة والسلام وهذا يسمى مسائل الخلاف أو الخلافية. وأما إذا كان التنازع في أصول الدين فقد بانت إحدى الطائفتين عن الأخرى وليس إلا حق أو باطل مأجور أو موزور وهذا يسمى الاختلاف ولذلك قال تعالى: إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم () وبين تعالى هذا العلم بأنه كتابه بقوله: وما كان الناس إلا أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم () ففي هذا الآية يبين تعالى:
1- أن الاختلاف بين الناس هو من حيث الكفر والإيمان.
2- أن الله تعالى أرسل الرسل بكتابه ليحكم في هذا الاختلاف وأنه مبين أتم بيان.
3- أن الاختلاف أكثر ما يكون في الذين أوتوا كتاب الله تعالى.
4- أن هذا الاختلاف يكون بغيا بغير حق لأنه يكون باتباع المتشابه وترك المحكم قال تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يتذكر إلا أولوا الألباب ()
فبين تعالى أن كتابه يشتمل على محكم هو الأصل الذي لا يجوز بحال مخالفته وأن هناك متشابه جعله الله تعالى ليميز به الخبيث من الطيب قال تعالى: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب () فالطيب هو الذي يتبع المحكم وأما المتشابه:
فإما أن يرده إلى المحكم فيعلمه بوجه لا يتعارض مع المحكم.
وإما أن يجهل وجه عدم تعارضه مع المحكم فيكله إلى الله تعالى ويقول الله أعلم:آمنا به كل من عند ربنا ()
وأما الخبيث الذي في قلبه زيغ فإنه يتمسك بالمتشابه ويكون حاله:
أنه يجعل هذا المتشابه متعارض مع المحكم فيحل الكفر والشرك وهذا معنى قوله تعالى: إبتغاء الفتنة () كما بين ذلك بقوله: والفتنة أكبر من القتل () وقوله: والفتنة أشد من القتل () والفتنة هي الكفر والشرك ومن يفعل ذلك فحكمه الكفر والخروج من الإسلام لا يقبل الله تعالى منه عدلا ولا صرفا.
وإما أنه يبتغي تأويله وهذا حال أهل البدع والضلال من المتكلمين وغيرهم.
وقد بين سبحانه وتعالى هذا الأصل العظيم بقوله: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب () فهذه الآية نص صريح بأن الإختلاف لا يكون الرد فيه إلا إلى الله تعالى لأن الله تعالى وصف كتابه بأنه محكم ومفصل بقوله: كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير () وهذا الإحكام والتفصيل متعلق بمسائل الكفر والإيمان وهي توحيد الله تعالى بقوله بعد ذلك: ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير ()، فكل ما يتعلق بمسائل الكفر والإيمان جعل الله تعالى إحكامه وتفصيله وبيانه مختصا به سبحانه وتعالى لان الله تعالى أمر رسوله عليه السلام أن يجعل ما اختلف فيه مع المشركين حكمه إلى الله تعالى، والله تعالى قد بين بنصوص محكمة كيف يكون الإنسان كافرا وكيف يكون مؤمنا وما هو الكفر وما هو الايمان وجعل ذلك أم الكتاب.
فإذا كان النص محكما فلا إشكال أما إذا كان متشابها أي: يحتمل معارضته للمحكم فلا بد من أمرين:
- إما أن يرد إلى الله تعالى وهو النص المحكم وبيان وجه عدم تعارضه مع المحكم.
- فإذا لم يعلم وجه عدم التعارض رده إلى الله تعالى مفوضا علمه له سبحانه ( آمنا به كل من عند ربنا).
وهؤلاء هم من وصفهم الله تعالى بالراسخين في العلم وأنهم المتذكرون وأنهم أولوا الألباب
وأما من خرج عن ذلك فهم من وصفهم سبحانه وتعالى ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ) وبين تعالى حقيقة نياتهم وأنهم خبثاء بقوله: ( فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) فعملهم هذا ليست الغاية منه إلا إباحة الكفر والشرك أو نشر البدعة والضلال، وقد بين عليه الصلاة والسلام ذلك ففي صحيح مسلم كتاب العلم باب النهي عن أتباع متشابه القرآن والتحذير من متبعيه والنهي عن الاختلاف في القرآن أن عبد الله بن عمرو قال: هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما قال فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب.
عن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فيه فقوموا أ.هـ
فنحن في هذا الزمان والذي تجلى فيه ما حذرنا منه سبحانه وتعالى بقوله: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم () يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون() وهؤلاء هم الذين يتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ( أكفرتم) فأباحوا الكفر فضلوا وأضلوا أتباعهم فهؤلاء هم الذين ستسود وجوههم إن لم يتوبوا مما هم عليه جزاء كفرهم ( بما كنتم تكفرون).
فالأمة قد تفرقت في أصل دعوة الله تعالى التي بعث بها رسله فاختلفوا في اصل الدين إذ أن الخلاف في فروع الشريعة موجود منذ عهد النبوة ولا إثم ولا حرج في ذلك ولا ذم.
فالتنازع في اصل الدين هو الاختلاف المذموم.
والتنازع في فروع الشريعة هو الخلاف المشروع.
فأصل الإسلام الذي جاءت به الرسل عليهم السلام إلى أقوامهم بينه تعالى بقوله: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين() إذن فالكفر والإيمان ميزانه اجتناب الطاغوت فمن اجتنب الطاغوت فقد حقق عبادة الله تعالى وحده وهو من الذين هداهم الله تعالى وأما من لم يجتنب الطاغوت فقد عبد غير الله تعالى وهو ممن حقت عليه الضلالة ممن قال تعالى فيهم: وفريقا حق عليه الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون() إنهم هؤلاء الذين يتبعون ما تشابه من كتاب الله تعالى ويحسبون كونهم يستندون إلى كتاب الله تعالى أنهم مهتدون كيف هذا؟ والله تعالى حكم بأن الكفر يكون أيضا بالاستناد إلى كتاب الله تعالى: فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة() فليس الحق في أن تحسب- وهذا هو الظن- نفسك على هداية ولكن الهداية أن تكون على ما أحكمه الله تعالى وهو اليقين قال تعالى: إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا () وقال عليه الصلاة والسلام: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث رواه البخاري ومسلم .فكيف يكون حال من كان دينه يتصف بوصفين شرعيين: لا يغني شيئا وأنه أكذب الحديث.
أولا: فقوله تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت() هو مرادف لقوله تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون() وهو مرادف لقول كل نبي جاء إلى قومه: يا قوم أعبدوا الله ما لكم من إله غيره ()
وكل نص من هذه المترادفات يشتمل على ركني التوحيد وهما النفي والإثبات
فالإثبات هو: (اعبدوا الله ) و (إلا أنا فاعبدون) و (اعبدوا الله).
والنفي هو: (اجتنبوا الطاغوت) و (لا إله) و (وما لكم من إله غيره).
فاجتناب الطاغوت هو عدم تأليه غير الله تعالى وعدم اجتناب الطاغوت هو تأليه لغير الله تعالى وهذا نص عام لا مخصص له بحال إذ لا يمكن بحال جواز تأليه غير الله تعالى فهذا من المسلمات العقلية والشرعية التي لا تقبل جدالا. والله تعالى يقول: لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا () وهذا نص عام يقابله نص عام هو الاجتناب العام فمن لم يجتنب الطاغوت فقد جعل مع الله إلها آخر، وقال تعالى: وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين () وهذا نص عام يقابله نص عام هو اجتنبوا الطاغوت فمن لم يجتنب الطاغوت بأي مظهر وجزئية فقد اتخذه إلها. والنصوص بذلك لا تحصى فمن أجل ذلك أرسل الله رسله وأنزل معهم كتبه.
فبهذا يثبت عموم الاجتناب وأنه لا مخصص له.

ثانيا: قوله تعالى: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وسليمان وآتينا داوود زبورا () ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما () وهذه الآية مدنية وممن قص الله على نبيه قبل هذه الآية قصة يوسف عليه السلام وهو مما لا شك فيه داخل في قوله تعالى أيضا: والنبيين من بعده () والذي أوحاه الله تعالى إليهم هو: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت () كل بلسان قومه ليبين لهم ولا شك أن هذا الأمر هو الذي اتفقت عليه الرسل وهو أصل ما شرعه الله تعالى للرسل قال تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب () وهذا الأمر ليس الذي قال فيه سبحانه: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا() فالأصل فيه اتفاق وتوحيد وفروع الشريعة مختلفة.
وهذه الآية فيها دلالات عظيمة منها
- أن التفرق يكون في اصل الشرعة والمنهاج أي في:اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت.
- أن هذه الدعوة: اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فكون الاجتناب عام هو ما كبر على المشركين دعوتهم إليه.
- أن الاجتباء يكون بحق النبوة ( الله يعلم حيث يجعل رسالته).
- أن الهداية تكون على الله تعالى للمنيبين إليه الذين يتبعون المحكم ويفوضون المتشابه إلى الله في حال عدم توجيهه مع المحكم وحالهم ومقالهم: آمنا به كل من عند ربنا.
والله تعالى قص علينا قصص الأنبياء من نوح إلى محمد عليهم الصلاة والسلام بأحكم بيان وأتم تفصيل وكلهم اتفقوا على هذه الدعوة وبين تعالى بنصوص محكمة أنهم دعوا إلى اجتناب الطاغوت اجتنابا عاما وليس في أحوالهم مقالا أو عملا أو تقريرا مخالف للاجتناب العام فهذا هو المحكم من أحوالهم ولا يوجد في أحوالهم متشابه قد يفهم منه غير ذلك إلا ما فهمه الخلف في هذا الزمان من قصة يوسف عليه السلام ويوسف عليه السلام جاء في زمانه وسطا بين الأنبياء فلا يوجد في أحوال من سبقه من الأنبياء متشابه ولا فيمن بعده فنعلم يقينا أن حاله كحالهم وما تشابه ( وليس فيه متشابه إلا في عقول أهل الزيغ) فنرده إلى المحكم ليتفق معه فإن علمنا ذلك فالحمد لله وإن لم نعلم ذلك فوضناه إلى ربنا وقلنا: آمنا به كل من عند ربنا () والخلل في عقولنا وليس في منقولنا. وسأبين بكل تفصيل إن شاء الله تعالى ما يتعلق بقصة يوسف عليه السلام.وبهذا أيضا يثبت عموم الاجتناب وأنه لا مخصص له.

ثالثا: حسب القاعدة الأصولية التي تنص على أنه: لا يجوز تأخير البيان لمجمل أو ظاهر يراد غير ظاهره عن وقت حاجة العمل به أ.هـ
والعمل بالتوحيد: اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت المطلوب العمل به فورا فلو كان المطلوب غير العموم الظاهر فكان ينبغي أن يبين الله تعالى ذلك في نفس الدعوة أي أن يكون: اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت في كذا وكذا وكذا وهذا لم يوجد في دعوة أي نبي حتى في دعوة يوسف عليه السلام حين بينها للفتيان معه في السجن فقد دعاهم دعوة عامة لا تخصيص فيها.فما من مسألة شرعية وخاصة في الفرعيات إلا بين الشرع أدق تفصيلاتها فكيف بأصل الدين فهل يعقل أن يكون من مسائل الاجتهاد متروكا لإفهام البشر المختلفة فأصل الدين هو مراد الله تعالى ولا يعلم مراده إلا منه وليس من البشر، إذ أن أفهام البشر لا ضابط لها.فبما انه لم يأت نص يخصص الاجتناب العام فيبقى على عمومه ولا يوجد نص لا في القرآن ولا فيما أنزله الله تعالى في السابقين لا قولا ولا عملا ونقول نريد نصا لا فهما يحتمل فإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال فهذا بحق النصوص في معنيين فكيف في الأفعال والتي اتفق فيها جمهور الأصوليين على أنها لا عموم لها ولا يستدل بالفعل إلا على صورته المطابقة له. وبهذا أيضا يظهر أن الاجتناب المطلوب هو عموم الاجتناب.

رابعا: إن أصل الإسلام لا إله إلا الله والتي هي أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت تقوم على قاعدة النفي والإثبات أي النهي والأمر.
فالنفي: اجتنبوا الطاغوت الذي هو: لا إله وهذا النهي.
والإثبات: اعبدوا الله الذي هو: إلا الله وهو الأمر.
فالله تعالى يقول: ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا () وبين عليه الصلاة والسلام هذا بقوله: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم. رواه مسلم.
ولا شك أن ما نهى الله عنه وأمر به يدخل في هذا بمفهوم الموافقة المسكوت عنه أولى بالمنطوق.
وهذه القاعدة مقررة في الشرع بالإجماع قال ابن تيمية رحمه الله: فالمنهي عنه يجب تركه بكل حال والمأمور به يجب فعله في حال دون حال أ.هـ شرح العمدة 4/329.
فنص النهي يفيد الترك بكل حال وهو الترك العام إلا إذا ورد نص يخصص والمنهيات لها قاعدة الضرورات: الضرورات تبيح المحظورات. وهذا بحق المحرمات دون الكفر حتى أن هناك من المحرمات لا تباح بحال كشرب الخمر الذي ورد النهي عن استعماله حتى كدواء وكذلك قصد قتل المسلم.
أما الكفر فله قاعدة الإكراه: إلا من أكره.
وعليه فالاجتناب عام فيجب اجتناب الطاغوت اجتنابا عاما وبكل حال.
وأما نص الأمر فله قاعدة الاستطاعة أن يفعله على حال دون حال وقد يسقط بكل حال وهذا بحق تفصيلات الشريعة أما عبادة الله كأصل عام فيجب تحقيقه وهو ليس بحثنا ومن جعل القياس في المنهيات على المأمورات أو العكس فهذا منتكس العقل لا يفقه شيئا لأنه لا يمكن بحال أن نقول لا تصل لله لان الله نهى عن الصلاة لغيره أو لان الله نهى عن الخمر فهذا أمر لا يقول به المجانين.
فثبت أيضا أن الاجتناب المطلوب اجتناب عام لا خصوص فيه.

أما ما يتعلق بقصة يوسف عليه السلام فان سورة يوسف قد بينت ذلك أتم بيان واحكمه كيف لا, والله تعالى يقول: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين () ولا شك أن قصص الأنبياء فيه أحسن القصص لأنه:
- بين التوحيد أحسن بيان بقول الرسل وأفعالهم.
- بين دعوة الأنبياء بأحسن حكمة وموعظة حسنة.
- بين دعوة الأنبياء بأحسن الصبر وأحسن اليقين وأحسن التوكل.
وكفى بالقرآن شافيا كافيا قال تعالى: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين()وقال تعالى: الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب()
أولا: حقيقة يوسف عليه السلام
فمن حيث التوحيد فلا يمكن لرسول أن يدعوا إلا بدعوة واحدة لجميع الطبقات التي أرسل إليها سواء كانوا من الملأ أو الأتباع فالكل سواسية متساوون، كذلك لا يمكن أن يدعوا الرسول إلى أمر ويخالفه وخاصة في مسائل الكفر والإيمان.
1- قال تعالى حاكيا قول يوسف عليه السلام: إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون ()
وقوله عليه السلام متعلق بالعزيز وقومه إذ أنه عليه السلام قبل أن يكون مع العزيز كان في قوم موحدين وهم يعقوب وأبنائه كما أنه لم يترك أباه وإخوته وإنما فارقهم رغما عنه صغيرا. فهو يتحدث عن قوم مصر الذين كانوا على الكفر وكان بينهم تاركا ملتهم جميعها غير متلبس بشيء منها وهذا من أعظم العزم أن يكون موحدا منفردا بين قوم أهل كفر وضلال، كذلك فإنه مظهر دينه بكل قوة مع علمه بأن من الفتيين من سيكون في خدمة ملك مصر ومع ذلك بين لهم أن هؤلاء لا يؤمنون بالله ولا يؤمنون باليوم الآخر وأنه على غير ملتهم وأنهم كفار بالله العظيم.
2- قال تعالى: واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون()
فهو عليه السلام يبين لهم أنه على ملة إبراهيم وإسحاق ويعقوب وانه لا يتبع إلا هذه الملة وأن عدم الشرك هو في اتباع هذه الملة وأنه لا هو ولا آبائه يجوز بحقهم أن يتبعوا غيرها وأن اتباع غيرها هو الشرك الذي لا يمكن أن يقعوا فيه.
3- قال تعالى: يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ()
فهو عليه السلام يصف الأمور بحقائقها وأنه لا رب إلا الله وأن المتبوعين من ملتهم هم أرباب متفرقون يفرقون الناس شيعا كل شيعة لها رب من دون الله تعالى.
4- ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباءكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ()
فهو عليه السلام يذم آلهتهم ويشتمها ويبين زيفها ويبين لهم أن التوحيد الذي هو عبادة الله وحده:أن لا يكون الحكم إلا لله فلا حكم إلا بأحكام الله وهؤلاء الحكام الذين يحكمونهم إن هم إلا طواغيت( أرباب) معبودة من دون الله تعالى وكذلك فإذا كان الحكم لله فالبشر يجب أن يتحاكموا إلى هذه الأحكام وحدها لأنها حكم الله الذي هو الدين القيم أما الحكم بأحكام غير الله والتحاكم إلى غير حكم الله فهو اتخاذ أرباب متفرقة من دون الله تعالى وأن هذا دين باطل وهذه الحقائق يجهلها أكثر الناس فأكثر الناس لا يعلمون أن الحكم بغير أحكام الله والتحاكم إليها هو اتخاذ أرباب من دون الله تعالى وأنه ملة القوم الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
فهذا هو يوسف عليه السلام بنصوص قطعية محكمة صريحة لا تحتمل إلا ظاهرها الواضح البين يقول: أنه لا يتبع إلا ملة إبراهيم وأنه تارك لملة أهل مصر وأنه لا يحكم إلا بحكم الله ولا يتحاكم إلا إلى أحكام الله تعالى وأنه عالم بهذه الحقائق.
فاتباع ملة قوم مصر كفر بالله واليوم الآخر.
الحكم بأحكام أهل مصر اتخاذ أرباب من دون الله تعالى.
التحاكم إلى أحكام أهل مصر اتخاذ أرباب من دون الله تعالى.
ثانيا: حقيقة الواقع الذي كان فيه يوسف عليه السلام.
إن قصة يوسف عليه السلام هي قصة من قصص الأنبياء لنأخذ منها العبرة قال تعالى: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى الآية.
فكل قصة يؤخذ منها عبر ولكن هذه العبر إنما هي لأولي الألباب الذين قال فيهم تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب()
فأولوا الألباب هم الراسخون في العلم الذين لا يتبعون المتشابه منه قال تعالى: والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ()
إن المتدبر لقصص الأنبياء يتبين له أن كل رسول جاء لواقع مختلف عن الآخر سواء من حيث كيفية الخلل فيه ومن حيث ردة الفعل من الأقوام.
والله تعالى في قصص الأنبياء بين لنا:
1- أن الرسل جميعا دعوتهم واحدة: اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت.
2- أن هذه الأقوام كانت تتفاوت في الخلل فمنهم من اتخذ الطواغيت لجلب النفع ودفع الضر بالتنسك ومنهم من اتخذ الطواغيت للإفساد في الأرض والتجبر على الخلق ومنهم من اتخذ الطواغيت لأكل أموال الناس بالباطل ومنهم من اتخذ الطواغيت لفعل الفواحش وهذا تعلمه من تتبع كل قوم.
3- أن هذه الأقوام منها من كانت تعيش من خلال مجتمع قبلي يحكمه ملأ منهم كقوم نوح وعاد وصالح وشعيب ولوط عليهم السلام ومنها من كانت تعيش في مجتمع منظم يحكمه شخص يتولى إدارة شؤون البلاد والعباد كالملك في قوم إبراهيم عليه السلام وفرعون في زمن موسى عليه السلام والملك في زمن يوسف عليه السلام.
4- أن الرسل تتوجه مباشرة إلى الملأ والى الملوك في بداية الأمر لأن استجابتهم تؤدي إلى سرعة الاستجابة من الآخرين وكذلك فان دعوتهم تؤدي إلى سرعة انتشار الدعوة وظهورها للناس.
5- أن ردة الفعل من الأقوام متباينة:
فقوم نوح لم يؤمن إلا القلة وكذلك قوم هود وصالح وشعيب وقام الملأ وغالب الأتباع بمعارضة الدعوة ومحاربتها والتآمر عليها وعلى أتباع الأنبياء.
وقوم لوط لم يؤمن منهم أحد حتى زوجته.وقاموا بمعارضة الدعوة وتهديد لوط عليه السلام.
وقوم إبراهيم لم يؤمن منهم إلا زوجته وابن أخيه لوط وقام الملك وغالب الأتباع بمعارضة الدعوة ومحاربتها والتآمر عليها.
وفرعون في زمن موسى عليه السلام لم يؤمن من قومه إلا امرأته ورجل من قومه والسحرة وذرية من قوم موسى عليه السلام وقام فرعون بمحاربة الدعوة ومن جاء بها وقتل السحرة وزوجته وتآمر هو والملأ على قتل ذكور بني إسرائيل واستحياء نسائهم وأتبعوهم مشرقين.
فكانت عاقبة هؤلاء أن دمرهم وانتقم منهم فأغرق قوم نوح وفرعون وجنوده إلى آخر ما قصه تعالى علينا.
فكان تعامل هؤلاء الرسل مع أقوامهم أن المسألة هي اجتناب أو عدم اجتناب ولم يحدث هناك تعامل معهم إلا دعوتهم إلى الاجتناب فقط حتى يستجيبوا, ثم بين تعالى أنه ليس كل الأقوام تكون ردة الفعل عندهم واحده كمن سبق ولكن يحدث أن:
- يؤمن كل القوم الملأ والأتباع كما حدث مع يونس قال تعالى: فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين()
- أن بعض الأقوام لا يؤمنون بدعوة النبي ابتداءا ولكن لا يعارضونها ولا يقفون في وجه دعوة الرسل وهذا هو واقع مصر في زمن يوسف عليه السلام أنهم كانوا لا يتعرضون لمن خالف ملتهم ويتركونهم يعيشون حسب دينهم بل إذا رأوا فيهم الصدق يمكنونهم وهذا ما حصل مع يوسف عليه السلام قال تعالى: فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين() فبأي شيء سيكلم يوسف عليه السلام الملك فمن ملة إبراهيم عليه السلام دعوة الملوك إلى التوحيد ويوسف عليه السلام على هذه الملة فإنه وبلا أدنى ريب سيعرض دعوة التوحيد على الملك فإذا عرضها على فتيين فمن باب أولى أن يعرضها على الملك وهي مهمة الرسل عليهم السلام فلا شك أنه دعاه :أن اتبع ملة إبراهيم وعليك بحكم البلاد بحكم الله وان تتحاكم إلى حكم الله وعليك باجتناب الطواغيت من أرباب متفرقة فهذا يوسف عليه السلام الذي قال الله عنه:
-قبل أن يتآمر عليه إخوته صغيرا: وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك حكيم عليم() وهذه النعمة هي التوحيد قال تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي () فكان يوسف من صغره موحدا تام الديانة .
- بعد تآمر إخوته عليه: فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون() فهو في حفظ الله ورعايته وأن الله تعالى يطلعه على بعض الغيب وهو صغير.
- عند من اشتراه وهو عزيز مصر: وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ()
فهو مكرم وله وضع الابن عند العزيز أو متولي شؤونهم وفوق هذا كله فهو ممكن بتمكين الله له في بيت العزيز وأعظم التمكين أن يعيش بتوحيده دون مضايقات ثم ان التمكين يناقض العبودية فهل يوجد عبد ممكن يفعل في ملك سيده ما يشاء ؟ كلا والله وان نعق الناعقون فهم بذلك يناقضون ابسط قواعد افهم والسلوك البشري فهذا وضع يوسف عليه السلام قبل بلوغه أشده.
- أما عند بلوغه أشده فهو على ما كان عليه قبل ذلك وزاده الله تعالى بقوله: ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين () فالله تعالى بين أنه آتاه العلم والحكمة لأنه من المحسنين وأعظم إحسان تحقيق التوحيد باجتناب الطاغوت وتحقيق ملة إبراهيم عليه السلام.
- عند تعرضه لتآمر امرأة العزيز وصفه الله تعالى: إنه من عبادنا المخلصين () فهو مع توفر دواعي الغواية استعصم وقال معاذ الله. نعم معاذ الله أن يقع نبي في فاحشة قبل أو بعد النبوة ومعاذ الله ومعاذ الله ومعاذ الله أن يقع في مخالفة ملة إبراهيم ولا يجتنب الطاغوت.
- عند تعرضه لغضب امرأة العزيز في حال لم يوافقها فضل السجن على الوقوع في معصية: قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه () فكيف يفضل فعل الكفر على الخروج من السجن ؟!!!!!
- أما في السجن فهو الداع إلى توحيد الله تعالى واجتناب الطواغيت بعدم اتباع غير ملة آبائه واجتناب الأرباب من دون الله وعدم الحكم بغير حكم الله وعدم التحاكم إلى غير حكم الله، ويدعوا إلى ذلك بما آتاه الله تعالى من العلم والحكمة.
ثالثا: المراحل التي مر بها يوسف عليه السلام.
1- عند أبيه:فهذه مرحلة لا شبهة فيها.
2-في بيت العزيز: فهو الموحد المكرم والممكن العالم الحكيم الذي حقق اجتناب الطاغوت وفي مقام الابن فالله تعالى قال حاكيا عن العزيز: عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا()
فيوسف عليه السلام والذي تدل عليه القصة أنه في مقام الابن لأنه كان في قمة الأخلاق أدبا وكان في قمة الحكمة والعلم وكان العزيز على درجة من الوعي بحيث أنه أدرك كل هذا في يوسف عليه السلام ومما يؤيد ذلك أنه كان يصل إلى أخص خصوصيات العزيز وهذا لا يكون إلا لمن كان ابنا أو في مقام الابن بدليل أنه بعد شهادة الشاهد من أهل زوجته خاطبه خطاب الابن المؤتمن الممكن الذي فيه انكسار وأسف: يوسف أعرض عن هذا () ثم إن شدة تعلق العزيز بيوسف وثقته به أنه مع ما حدث لم يغير وضعه بل أبقاه في بيته ومع زوجته التي ثبت لديه مراودتها ليوسف عن نفسه ولم يخالطه أدنى ريب في يوسف عليه السلام.
قد يشغب البعض ويقول إن قوله تعالى: وقال نسوة العزيز تراود فتاها عن نفسه () دليل على انه كان غلامها أي بمقام الخادم.
أقول: إن قول الله تعالى هو حكاية عن قول النسوة وليس تقرير حال وهذا هو المكر الذي اخبر عنه تعالى: فلما سمعت بمكرهن() ومعلوم أن المكر الذي قصدنه هو مكر سيء والمكر السيئ هو تحري الفعل القبيح فقولهن: تراود فتاها () فالمراودة حقيقة منها ولكن المكر متعلق بلفظ فتاها أي أردن من هذا اللفظ تحقيرها والتقليل من شأنها وشأن يوسف عليه السلام. فهو لفظ من النسوة بغير حق فهو ليس كذلك.كما أنه كان معلوما لديهم أن يوسف عليه السلام اشتراه العزيز صغيرا فإذا كان كذلك فلا يعتبر العزيز ناهيك عن امرأته طاغوت بحق يوسف عليه السلام فالعلاقة بينهم هي علاقة عائلية وليست علاقة آمر بمأمور وحاكم بمحكوم إلى غير ذلك أي: علاقة طاغوت مع أتباع فالمسألة خارجة عن مسألتنا وهي اجتناب الطاغوت.
كذلك فإنه من المعلوم بالضرورة أن بيت العزيز وهو ما يسمى اليوم رئيس الوزراء ليس من المعقول أن يكون في بيته إلا شخص واحد هو يوسف عليه السلام بل عنده من الخدم والمماليك الكثير ولكن منـزلة يوسف ومكانته لا يصل إليها غيره لأنه بمقام الابن وتنفيذ طلبات العزيز من قبل يوسف عليه السلام هي من هذا الباب قياما بحق البنوة والإكرام مقيد ذلك باجتناب اتباع ملتهم وطواغيتهم.وعلى هذا فقول امرأة العزيز: أخرج عليهن () من هذا الباب ولا شك انه كان طلبا عاديا بالنسبة ليوسف عليه السلام حيث أنه لا يعلم ما دبرته امرأة العزيز وقصدها من ذلك ولا يمكن القول بان هذا النبي الكريم علم قصدها السيئ وتابعها عليه ولا نقول إلا ما قاله: معاذ الله فهذا شعاره عليه السلام.
أما قوله تعالى: ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين () فلا يترتب عليه شيء.
فهو عليه السلام عندما قالت أمامه: ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن() علم إصرارها على مراودته حتى يوافقها دعا ربه ليتخلص منها ومن شرها وأن السجن أحب إليه من الوقوع في المعصية، فهذا من كرامة الله له أن نجاه منها وجعل السجن سببا لتمكنه في ارض مصر.فان سجنوه فهو عن رغبة منه للفرار بدينه ونقول انه كان قادرا ومتمكنا من عدم دخول السجن ولكنه فضل ذلك لما آتاه الله من العلم والحكمة، فان لم يكن برغبته فيكون رغما عنه وهذا خارج النـزاع فلا شبهة والحمد لله.
فخلاصة ذلك: انه عند العزيز ذلك الموحد تام الديانة الابن المتبنى الممكن المكرم صاحب الشأن والمؤتمن.
3- يوسف عليه السلام في السجن.
- أنه عليه السلام في السجن من المحسنين أي: أن أفعاله في السجن وأحواله قولا وعملا متصفة بالإحسان وأنه داع إلى التوحيد فكما أنه دعا الفتيين كذلك فهذا ليس مختص بهم فقط وإنما لكل من استطاع التحدث معه فقد دعاه إلى ما دعا إليه هذين الفتيين ولكن اختصاص ذكر الفتيين لما يتعلق بأحداث قصته عليه السلام.
- قوله تعالى: اذكرني عند ربك () هل كان غاية يوسف عليه السلام من ذلك الخروج من السجن وأنه تذمر من الحبس متظلما ؟
أقول: معاذ الله فليس الملك الذي سجنه وإنما يقيننا بأن الأنبياء لا يفعلون إلا ما يكون القصد منه الدعوة إلى الله وإقامة التوحيد فهو أراد أن يتوصل إلى الملك ليبلغه دعوة الله تعالى التي هي مهمة كل نبي كونه في سجن لا يتمكن من الخروج والوصول إليه..
قوله (اذكرني) متعلق بماذا ؟
لا شك بأن من نجى منهما سيذكر يوسف عليه السلام بما علمه من أحوال يوسف عليه السلام بأنه:
من المحسنين وهو قولهم ( إنا نراك من المحسنين) فهم حكموا عليه بعد سبر أخلاقه وطول مدة رفقته في السجن وقربه منهم بدليل قوله تعالى: لا يأتيكما طعاما ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله().
وانه على درجة عالية من جودة التعبير والإطلاع على شيء من علم الغيب وأنه يدعوا إلى دين آخر غير دين الملك, ودليل ذلك أنه لم يخبرنا الله تعالى غير ذلك عن حال يوسف مع هذا الفتى ولم يذكر عنه انه قال له كما يقول البعض اذكر مظلمتي عند الملك ليتخذ من ذلك فهما يعارض به أصل الدين والدليل قوله تعالى: وقال الذي نجى منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون () وهذه الآية فيها إضمار أي: هناك في السجن رجل من المحسنين على علم بتأويل الرؤيا وقد عبر لي رؤيا كنت رأيتها بأنني سوف أكون في مكاني هذا وهذا ما حصل فأرسلوني إليه كي أقص عليه الرؤيا وآتيكم بتعبيرها . فلا نترك قول ربنا لأقوال الرجال ولم يذكر انه من المظلومين أو أنه يتظلم لأن هذا الموقف هو ما تنـزع إليه النفس لذكر ما يرقق القلوب بأن يقول: هناك رجل مظلوم وسجن بمؤامرة وهو ليس ممن يفعل هذا لأنه من المحسنين ومعبر للرؤيا.أما كونه تظلم فهذا باطل لأن التظلم يكون لدفع الأذى الذي حصل له من هذا الظلم وهو السجن وهذا ما نفاه عليه السلام عن نفسه بفعله وذلك عندما أمر الملك بإخراجه رفض إلا بعد بيان سبب وجوده فكيف يطلب الخروج قبل ذلك.
- قوله تعالى: وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين () من الذي نسي ذكر ربه يوسف عليه السلام أم الفتى؟
الجواب: أنه الفتى بدليل قوله تعالى: وقال الذي نجى منهما وادكر بعد أمة () فالفتى قد تذكر بعد أن نسي ومن الذي أنساه ؟ إنه الشيطان لأن الشيطان عدو الرسل والدين الحق والشيطان أنسى الفتى حتى لا يتوصل يوسف عليه السلام إلى الملك ويبلغه التوحيد فتنتشر دعوة التوحيد وتعلوا، فهذه مصلحة الشيطان في عدم ذكر يوسف عند الملك ولكن الله غالب على أمره . ونحن ننـزه الأنبياء عن أن يكون للشيطان سلطان عليهم بدليل قول الله تعالى: قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين () والله تعالى قال في سورة يوسف عليه السلام عن يوسف عليه السلام: إنه من عبادنا المخلصين () وبدليل قوله تعالى: قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين() ويوسف عليه السلام ليس من الغاوين والدليل أنه لم يخضع للغواية مع توفر دواعيها وكان منه ما اعترفت به من راودته عن نفسه بقولها ( فاستعصم) فإن قيل: ماذا تقول في قوله تعالى: وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ()
أقول: إن هذا خطاب للرسول عليه السلام والمقصود به أمته كقوله تعالى: لئن أشركت ليحبطن عملك () ومعلوم أن الأنبياء معصومون من الشرك ثم إن الرسول عليه السلام منـزه من أن يسمع الاستهزاء بآيات الله تعالى وينسى ذلك وبتسلط من الشيطان فقد ورد عنه أنه صلى الله عليه وسلم أنه إذا انتهكت حرمات الله غضب غضبا شديدا. فإن قيل وماذا عن قوله عليه السلام في الصحيحين: إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني أ.هـ
أقول: ليست مسألتنا في جواز النسيان عليه وإنما في أن يكون للشيطان سبيل على الرسل عليهم الصلاة والسلام.
فخلاصة المسألة: أن أذكرني متعلقة بشيء غير منطوق وإنما مفهوم ولا يحدد الا بالقرائن فهو يحتمل وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال وقد بينا الحق بالقرائن والحمد لله تعالى . ولو كان الأمر على ما قاله البعض أذكر مظلمتي فهذا قول لا يدل ظاهره على معصية فضلا عن التحاكم الذي هو الكفر فهو يحتمل أكثر من معنى أيضا وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال . ولا يجوز معارضة مسائل الكفر والإيمان بالأمور المحتملة لأن هذا من باب الظن والاجتهاد فالكفر والإيمان مسائل يقينية لا تعارض إلا بيقيني مثلها .
4- يوسف عليه السلام مع الملك
قوله تعالى: قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم ()
فما حقيقة قوله اسأله ؟
إن هذا الأمر مما أكرم الله به يوسف عليه السلام بل هو معجزة قد جعله البعض دليلا على نـقض أصل التوحيد. فقد اتفق رأي امرأة العزيز والنسوة على إغواء يوسف عليه السلام بدليل قوله تعالى: وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن () فقد كدن ليوسف جميعا واتفقن على ذلك فما الذي جعل يوسف عليه السلام يطلب هذا الطلب الذي يبدوا منه لأول وهلة انه مغامرة فلو أن النسوة حتى لا يفتضحن اتفقن على أنه قد راود امرأة العزيز وأنه سجن بناء على شهادتهن بذلك فما حاله عند ذلك ؟ ولكن طلب هذا الأمر وهو متيقن بأن الله تعالى سيجعل النسوة يتكلمن بحقيقة ما حصل وأنه ما طلب هذا إلا لتكون دعوته إلى الله تعالى غير مشوبة بنقيصة إذ أن الناس قد يتخذون ذلك ذريعة لعدم قبول دعوته, ثم إن قوله هذا قاله من باب الاستعلاء وليس من باب الرجاء فهو مسجون ويأت إليه رسول الملك ويطلب منه مقابلة الملك فيقابله بالرفض ويقول لن أخرج وارجع إلى من أرسلك وقل له فليسأل النسوة اللاتي قطعن أيديهن كيف فعلن ذلك ولماذا ؟ فلو قلن: دعتنا امرأة العزيز ودخل علينا يوسف وكنا نمسك بالسكين نقطع الفاكهة والطعام فدهشنا لجماله فنسينا حال السكين فقطعنا أيدينا.وهذا حق وهو ما حصل ولكن كيف عرف الملك قصة المراودة ؟ فيوسف عليه السلام لم يخبره بذلك.فالجواب: أن الملك قد سأل عن سبب وجود يوسف عليه السلام في السجن فأخبر أنه متهم بمراودته لامرأة العزيز وتعبير الرؤيا لا يكون إلا من رجال صالحين ولا بد ايضا ان الملك قد تحقق من أخلاق يوسف عليه السلام فثبت لديه من كل هذه القرائن أنه لا يمكن أن يكون كاذبا ولا يمكن أن يكون ممن يريد السوء والفحشاء وتيقن من حقيقة النسوة بناء على كل ذلك ناهيك عن أنه الملك الذي لديه من الأعوان ما يتوصل به الى حقيقة الأمور , وأمر آخر أن الانتقال من حدث إلى آخر في القصص القرآني لا يلزم منه الإتصال وإنما يأخذ وضعه الطبيعي وما يتعلق به من حيث مسار الأحداث .
فهل قول يوسف عليه السلام فاسأله ما بال النسوة. تحاكم أو طلب للتحاكم؟ الجواب لا وألف لا.
1- يوسف عليه السلام بحكم الخارج من السجن لان الملك قد أصدر أمره بإخراجه ولا علاقة ليوسف عليه السلام بذلك فهو لم يلتمس ذلك أو يطلبه.
2- التحاكم هو طلب حكم. فما هو الحكم الذي طلبه يوسف عليه السلام ؟ فحقيقة الأمر أن سبب سجن يوسف عليه السلام كانت خافية وغير ظاهرة فأراد عليه السلام إظهار الحقيقة الخافية ولم يرد حكما أو أراد تحاكما ولا نقول إلا قوله: معاذ الله, فبأي الدلالات يستدلون ؟ فليس هناك منطوق يقول: وتحاكم يوسف أو: وأراد أن يتحاكم أو قصد من طلبه التحاكم إلى غير ذلك؟ وبأي مفهوم فهموا ذلك ؟ فالتحاكم إلى الطاغوت هو أن يذهب الإنسان إلى الطاغوت يطلب منه حكما تكليفيا أو وضعيا في قضية ما حكما منه لتحقيق مصلحة مرجوة.
ومفهوم الخطاب إما مفهوم موافقة (فحوى الخطاب) وهو: المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق والتحاكم لا يمكن بحال ولا بأي دليل أو اعتبار أن يكون مفهوم موافقة للسؤال.
وليس السؤال ( الاستفسار) من أي كان فيه دلالة على أنه يفيد معنى التحاكم والاستفسار من طاغوت أو غيره لا يمكن بحال أن يكون تحاكما .
فطلب يوسف عليه السلام سؤال استفسار وليس سؤال حكم.
وإما لحن الخطاب وهو ما دل عليه اللفظ من الضمير الذي لا يتم الكلام إلا به وهنا لا دلالة فيه على شيء من هذا.
أما مفهوم المخالفة فلا دلالة فيه أيضا.
أما أن يكون معنى اسأله أي: إني أطلب حكمه أي أتحاكم إليه. فبأي لغة يتكلمون فان شغبوا وقالوا لا مشاحة في الاصطلاح فنقول لهم:انتقلتم من فاسد إلى أفسد، فما معنى لا مشاحة في الاصطلاح؟ فالاصطلاح: هو اللفظ الذي تعورف عليه وتردد في الاستعمال أنه مرادف لمعنى لغوي أو شرعي ويكون في عرف المتكلم، بمعنى آخر أن يتكلم بلفظ ظاهره لا يدل على المراد ولا يعرف المراد إلا بتصريح المتكلم . ونقول لهم: أنتم هنا تستدلون بقول الله تعالى وقول الله تعالى هو حقائق شرعية فهل ورد التحاكم في كتاب الله تعالى بمعنى السؤال ؟ وعلى مفهومكم سيكون معنى قوله تعالى : قد أوتيت سؤلك يا موسى () أي : قد أوتيت تحاكماتك ،وكذلك في مفهومكم فإن معنى : سأل سائل بعذاب واقع () تحاكم متحاكم بعذاب واقع ، وكذلك قوله تعالى: واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها() معناه عندكم : تحاكم إلى القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها .وكذلك قوله تعالى: يسألونك عن الساعة () معناه عندكم يتحاكمون إليك عن الساعة.
فإن قالوا قد يرد السؤال ويكون متعلقا بالحكم كقوله تعالى: يسألونك عن الأنفال () وغيرها مما سأل عنه الصحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام لمعرفة حكمه.
قلنا لهم: أنتم كمن هرب من الرماد ليقع في النار ونلزمكم بقولكم:
- فقولكم (قد يرد) أي يحتمل والقاعدة الشرعية تقول: إذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال، فاستدلالكم باطل بقولكم.
- والسؤال هو استفسار أي طلب العلم بذلك المسئول عنه فإن كان عن حكمه فيحتمل أن يسأل عنه ليعمل به ويحتمل مجرد المعرفة ويحتمل معرفته لإبطاله إلى غير ذلك من الاحتمالات وهنا نعمل بقاعدة: إذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال. فاستدلالكم باطل من وجه آخر.
- فكون اسأله تفيد معنى التحاكم في قصة يوسف عليه السلام باطل من الوجوه المتقدمة وباطل أيضا من قرائن أخرى:فالتحاكم إلى غير شرع الله تعالى كفر والأنبياء معصومون من الكفر.والتحاكم مصطلح شرعي له وصف شرعي لا يتعدى حكمه إلى غيره وتغيير المعنى الشرعي إلى معنى آخر هو تحريف للكلم من بعد مواضعه.. فالله يقول إن يوسف عليه السلام قال: اسأله () وهؤلاء يقولون قال:أطلب حكمه، فمن أصدق حديثا ؟ الله أصدق حديثا .
- قوله تعالى: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ()
والله لولا أن المقام مقام انتصار لأنبياء الله تعالى ما خضنا في هذا.القول: إن من علم التوحيد العلم بالرسل من حيث:
ما يجب لهم .
وما يجب عليهم.
وما يجوز بحقهم .
وما يستحيل عليهم.
والأصل في الرسول أنه يأت إلى قومه ويطلب منهم أن يدخلوا تحت طاعته سواء منهم الأمير أو الحقيرفمنصب الرسالة والنبوة أعلى من أي منصب فقول كل رسول لقومه كما اخبر تعالى: فاتقوا الله وأطيعون () والله تعالى يرسل رسله لتطيعهم أقوامهم قال تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله () والطاعة هي: امتثال الأمر، والأمر هو: طلب الفعل عل سبيل الإلزام والاستعلاء.فالرسل تقول لأقوامها يجب عليكم امتثال أوامرنا وعليه: فكل طلب فعل من الرسل هو أمر يجب على أقوامهم أن يمتثلوه لا فرق بين كبير وصغير وملك وأمير أو حقير، وكما أن الرسل تأمر أقوامها بعبادة الله واجتناب الطاغوت كذلك فإنهم يأمرونهم بغيرها وهذا ما شهد له القرآن قال تعالى عن شعيب: ولا تنقصوا المكيال والميزان () وقال عن صالح: ولا تمسوها بسوء () وقال عن موسى وهارون مخاطبين فرعون: أن أرسل معنا بني إسرائيل(). والله تعالى يرسل الرسل عليهم السلام للقيام بحفظ الضرورات الخمس: الدين والنفس والمال والعرض والعقل. وبسبب الجهل في دين الله تعالى ظن الكثير ممن يتصدرون للعلم أن مصر في زمن يوسف عليه السلام على وشك مجاعة وهذا سيؤدي إلى انهيار النظام وكون يوسف عليه السلام على خزائن مصر بوجود الملك هذا إبقاء للنظام الطاغوتي ؟
فنقول لهم: إن يوسف عليه السلام كغيره من الرسل أرسله الله تعالى إلى ملك مصر وقومه يأمرهم بالتوحيد وبطاعته وهما شقي دعوة الرسل: فاتقوا الله وأطيعون () فإذا آمنوا فقد أصبحوا في طاعته وسيتولى سياسة أمورهم بما يحفظ عليهم الضرورات الخمس دينهم ونفوسهم وأموالهم وعقولهم وعرضهم فإن لم يؤمنوا فيأمرهم أيضا: إن لم تؤمنوا فلا إكراه في الدين ولكن عليكم طاعتي فيما يحفظ نفوسكم وأموالكم وأعراضكم وعقولكم، اضافة الى ان الرسل لا تقول الا ما كان ماذونا لها بقوله فعلى هذا فقول يوسف عليه السلام وحي من الله تعالى .
فيوسف عليه السلام عندما كلم الملك دعاه إلى التوحيد فلم يؤمن بدليل قوله تعالى: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك () أي: أن دين الملك يخالف دين يوسف عليه السلام.فأخبره أنه يجب عليك أن تطيعني في تولي حفظ الضرورات الخمس الدين والنفس والمال والعقل والعرض وهو قوله: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم () وهذا العلم والحفظ مما آتاه الله تعالى بقوله: فلما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما () وعليه فإن يوسف عليه السلام تولى خزائن الأرض بما أتاه الله من الحكمة والعلم وهو دين الله تعالى ملة إبراهيم عليه السلام.
قد يقول قائل وماذا تقول في قوله تعالى: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك () فإن هذا دليل على وجود شرع الملك الطاغوتي.
أقول: لا حرج في ذلك فشرع الملك غير نافذ على يوسف عليه السلام وإنما على من يؤمن به وكون يوسف متولي أمور مصر بوجود الملك لا يجعله يكره الناس على الإيمان بدليل قوله تعالى: لا إكراه في الدين () وهذا عام في جميع الشرائع، فمن آمن من أهل مصر فلن يلجأ إلا إلى شرع الله تعالى ممثلا بيوسف عليه السلام لا إلى شرع الملك فهذا هو الإيمان وسوى ذلك الكفر.
أما من لجأ إلى يوسف عليه السلام من أهل الكفر إن شاء حكمه بشرع الله تعالى وإن شاء أعرض عنه فهو مخير بدليل قوله تعالى: فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت بينهم فاحكم بالقسط إن الله يحب المقسطين() فلا ضرر شرعي عليه بالإعراض عنهم وإن حكم فعليه الحكم بالقسط وهو شرع الله تعالى.
وكون الحاكم الفعلي للبلاد الوزير الأول أو رئيس الوزراء موجود كما هو الآن في كثير من البلاد لا يمنع من وجوده في الماضي .
فهل يوسف الرسول عليه السلام قال اجعلني على خزائن الأرض لنيل حظ دنيوي وهو الوزارة ؟
أم انه أراد من ذلك المحافظة على نظام الملك الطاغوتي ؟
أم أنه أراد من ذلك اتخاذ ذلك وسيلة لدعوة الناس إلى توحيد الله تعالى باجتناب ملة أهل مصر وملكهم ؟
فما الذي يجب أن يقال بحق الأنبياء ؟ أليس هدفه عليه السلام الدعوة إلى توحيد الله وهي المهمة التي بعثه الله تعالى لتحقيقها حتى لقاء ربه ؟ بلى ومعاذ الله أن يكون غير ذلك.
فإذا كان كذلك فالصورة هي: نبي مرسل مؤمن مجتنب للطاغوت متبع للتوحيد مجتنب ملل الكفر مظهر دينه داع إليه متحاكم إلى حكم الله ويحكم بحكم الله تعالى.
ولا يمكن لطاغوت رفض دعوة التوحيد وحاربها أن يجعل لمن آمن بها وأظهر ذلك ولاية يحكم بموجبها، ولكن قد يوجد طاغوت يقبل بوجود دعوة التوحيد ولكن لا يؤمن بها ويولي أصحابها ولايات في ملكه ليعملوا فيها بدينهم فما المانع من ذلك وهذا هو حقيقة فعل يوسف عليه السلام فمن كان كذلك وطلب ولاية بهذه الصفة فنقول كما فعل يوسف افعل فهذه صورة فعل يوسف عليه السلام ولا يستدل إلا على مثلها فكيف يستدلون فيها على جواز اتباع الشرائع الطاغوتية أو العمل من خلال الشريعة الطاغوتية أو الحكم بالشرائع الطاغوتية سبحانك هذا بهتان عظيم.
ونقول: هل التحاكم إلى الطاغوت كفر ؟ فان قالوا نعم فنقول كيف أجزتم الكفر بحق الأنبياء وهم معصومون ؟فهذا كفر من حيث شعرتم أو من حيث لم تشعروا.
وان قالوا التحاكم إلى الطاغوت ليس كفر ؟ قلنا لهم: قد كفرتم لأنكم حكمتم بغير حكم الله فالله يقول أنه كفر وانتم تقولون ليس بكفر.
ونسألهم: هل اتباع غير ملة الأنبياء كفر ؟ فان قالوا نعم نقول: كيف جوزتم بحق الأنبياء الكفر.
وإن قالوا ليس بكفر قلنا لهم: قد حكم الله أنها كفر فغيرتم حكم الله تعالى وبدلتموه.
ونسألهم: هل الحكم بغير ما انزل الله كفر ؟ فإن قالوا نعم قلنا لهم:كيف أجزتم الكفر على الأنبياء.
وإن قالوا: ليس بكفر قلنا لهم: قد حكم الله انه كفر فغيرتم حكم الله تعالى.
وان قالوا قال فلان وقال فلان قلنا لهم: إن مسالة الحكم من اصل الدين ولا يرد فيها إلا إلى الله تعالى كما تقرر.وكما ترى فإن القوم لا يستندون إلا إلى الظن الذي لا يغني من الحق شيئا والذي هو أكذب الحديث.
5- العزيز يوسف عليه السلام .
قوله تعالى: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله الآية
استدلوا بهذا على أن يوسف عليه السلام كان يحكم بشرع الطاغوت ولو حكم بدين الملك ما استطاع أن يأخذ أخاه أي: من أي شيء أعجب من فهمهم المغلوط أم من استدلالهم الباطل وقد بينا ذلك فيما سبق ونزيده بيانا إن شاء الله تعالى فأقول: قوله تعالى لا علاقة له بما ظنوه لأن هذا إخبار عن حال يوسف عليه السلام انه: لا يمكن بحال وما ينبغي له أن يأخذ أخاه في دين الملك كقوله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام: ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء () والحكم بغير شرع الله شرك يتنـزه عنه الأنبياء،.
وكقوله تعالى: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية. أي : ما ينبغي لهم ولا يجوز لهم.، وكقوله تعالى: ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض الآية أي: لا ينبغي ولا يجوز له أن يأخذ أسرى إلا بعد الإثخان.
كما وأن يوسف عليه السلام بعد حادثة أخذ أخيه قد تفرد بحكم مصر بدليل قوله تعالى: ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا() فهذا دليل على أنه كان المالك لعرش مصر والمتصرف فيه وبدليل قوله تعالى: رب قد آتيتني من الملك () أي أنه ملك مصر وأن إيتاء الملك معناه في قول الله تعالى الانفراد بالحكم بدليل قوله تعالى: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك () وكقوله تعالى : وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ()وهذا يدل دلالة واضحة لا لبس فيها أن يوسف عليه السلام كان في وجود الملك ذو سلطان مطلق وقوة أدت به إلى الانفراد بحكم مصر وتولي ملكها.
هذا ما يتعلق بقصة يوسف عليه السلام وهو الحق الذي لا جدال فيه ولا مراء ولا يصار إلى الاستدلال على مسائل التوحيد بأقوال العلماء وحاشاهم أن يبيحوا الكفر وإنما لهم أقوال غير صريحة قد يفهم منها ما يخالف التوحيد وتحتمل عدم المخالفة فلماذا نرجح احتمال المخالفة ولا نرجح احتمال الموافقة ثم إن أقوال العلماء ليست حجة في دين الله تعالى فلا حجة في التوحيد إلا قول الله تعالى لأننا سنحاسب على هذا التوحيد يوم القيامة بموجب كتاب الله تعالى وليس بموجب أقوال العلماء قال الله تعالى: وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون () فكيف نحكم ونطلب أراء العلماء في مسائل التوحيد وقد بين الله تعالى أحكامها بتفصيل وإحكام وقد أنكر الله تعالى على من طلب حكما لمسالة من غير كتاب الله بين حكمها في كتابه قال تعالى: وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين(). فإذا كان هذا الوعيد بحق من طلب حكم مسالة بين الله تعالى حكمها في التوراة من خاتم الأنبياء وأنه ليس بمؤمن وأنه كافر كافر هذا حكم الله تعالى على من فعل ذلك فكيف بمن طلب حكم الرجال لمسألة بين حكمها في أعظم كتاب أنزله على خير رسول عليه الصلاة والسلام ؟!!
فكيف بمن استدل بأقوال الرجال غير قطعية الدلالة والثبوت على مسائل أجمعت الرسل جميعها على تنـزه الأنبياء عن فعلها وأجمعت الكتب السماوية على أنها كفر بالله العظيم..
فيا عباد الله اتقوا الله في أنفسكم فماذا أنتم قائلون لربكم إذا سألكم لم فعلتم الكفر لم جعلتم الكفر حلالا ؟ وماذا سيقول لكم إذا قلتم يا رب فهمنا من قول العالم الفلاني ذلك ؟ أو يا رب تشابهت علينا الأدلة.عندها سيقول لكم ألم اقل في كتابي: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله () لِم لم تتبعوا المحكم وتفوضوا في المتشابه ؟ , ألم أحذركم من إتخاذ الاحبار والرهبان اربابا؟
الله الله في أنفسكم ولا تجادلوا عن أحد قال تعالى: يوم تأت كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون() وقال تعالى: ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما () وهل هناك أعظم خيانة من تبديل حكم الله تعالى ومعارضة محكمات الكتاب بمتشابهاته أو بمتشابهات أقوال الرجال. وقال تعالى: هاأنتم جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أمن يكون عليهم وكيلا() وهؤلاء الذين يتبعون المتشابه ويفتون به قد بين رسول الله صل الله عليه وسلم كيفية التعامل معهم ففي الحديث الصحيح عن عائشة أنها قالت قرأ عند نبي الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات إلى قوله أولي الألباب() قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم قال مطر: حفظت أنه قال لا تجالسوهم فهم الذين عنى الله فاحذروهم..
قال صاحب تحفة الاحوذي: وقوله كل من عند ربنا أي الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق وكل منهما يصدق الآخر ويشهد له لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد فأولئك الذين سماهم الله أي أهل الزيغ أو زائغين بقوله في قلوبهم زيغ فاحذروهم أي لا تجالسوهم ولا تكالموهم أيها المسلمون والمقصود التحذير من الإصغاء إلى الذين يتبعون المتشابه من القرآن.هـ 8/273
وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير()
ومن إعجاز القرآن العظيم أن الله تعالى قال: الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عن الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار () بعد ذكره يوسف عليه السلام بقوله: ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا ()
الله أكبر الله أكبر الله أكبر نعم إن يوسف جاء بالبينات_ وهي الدعوة التي بينها لصاحبيه في السجن_ والذين يتبعون المتشابه يظنون أن ما فهموه من قصة يوسف هو القول الفصل ولكن بين تعالى أنه بعث من بعده موسى عليه السلام _ والآيات في سورة غافر يقولها الله حاكيا عن مؤمن آل فرعون في زمن موسى_ إلى مصر والى ملكها وقد أصابتهم السنين فلم يذهب موسى عليه السلام إلى فرعون وقال له: اجعلني على خزائن مصر () لماذا ؟ لأنه شتان بين واقع موسى عليه السلام وواقع يوسف عليه السلام وقد بينت ذلك بالتفصيل.
وأخيرا بقيت مسألة وهي متى أرسل يوسف عليه السلام ؟
الظاهر والعلم عند الله تعالى أنه أرسل إلى أهل مصر وهو في السجن لأنه لم يدع أحدا إلى التوحيد ولم تظهر دعوته إلا في السجن لأنه في ذلك الوقت مأمور بالبلاغ والدعوة أما قبل ذلك فهو ليس مأمور بذلك.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا وزدنا علما انك أنت العليم الحكيم اللهم انفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا اللهم اجعل علمنا حجة لنا لا علينا اللهم من أراد الحق فخذ بيده إلى الحق إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ومن أراد الباطل باتباع المتشابه وضرب الكتاب بعضه ببعض فخذه اخذ عزيز مقتدر واجعله عبرة لمن لا يعتبر.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين