JustPaste.it

الكلمة الباقية

منهاج الأمة في المواجهة

بسم الله الرحمن الرحيم

المقـدمـة

الحمد لله رب العالمين الذي أنزل الكتاب على عبده ولم يجعل له عوجا منه آيات محكمات هن أم الكتاب نصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده والصلاة والسلام على من جعله الله الأسوة الحسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر المبعوث رحمة للعالمين وعلى صحابته الصادقين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أنزل إلينا كتابا محكما مبينا يهدي إلى صراط مستقيم وجعل فيه متشابها ليميز الله الخبيث من الطيب.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ورضي الله عن صحابته الذين آووه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه.

فإن خير الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

لقد وصلت الأمة إلى درجة من الذلة والهوان عصرت قلوب ذوي الحجا والبصائر وأدمعت مآقيهم وفتت أكبادهم وألقت بظلالها على مهجهم وأرواحهم ولم لا وهم يستذكرون أمجاد سلفهم الذين بنوا صرح أعظم حضارة وأعرق تاريخ بدمائهم الزكية وتركوا إرثا لا تزال آثاره تسري في دمائهم تحثهم على بعث جديد يعيد للأمة ماضيها التليد ماض يقوم على الحق والعدل شرفها ربها بحمل الأمانة التي أشفقت من حملها الجبال الرواسي والأرض ذات المهاد والسماء ذات البروج: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ(آل عمران:110), فوفت بعهد ربها فاستحقت كرامته في الآخرة وخلد ذكرها في الأولى : كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (آل عمران:110),إنهم أبناء أمة قامت على روح من أمر الله تعالى:وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا(الشورى:52), فهم الأحياء وغيرهم الأموات :أوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ(الأنعام:122), يسيرون على هدى فهم على نور من ربهم صدورهم طيبة مستقرة لا تعتريها الأمراض والأسقام متحصنة بآيات ربها :وََنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً(الإسراء:82),أصحاب قلوب مطمئنة إلى باريها هم بقية الأمم التي يرفع الله بسببهم الهلاك والمحق لأنهم مصابيح الهدى: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا(هود:116), نجوا فأنجى الله بهم وأهتدوا فهدى الله بهم وزادهم هدى وآتاهم تقواهم, تغربوا عن الخلق وهم بينهم وخرجوا من الأرض وهم عليها فهم أولوا البصائر نظروا بعين الحق فعلموا مما علمهم عبد الله ورسوله عليه الصلاة والسلام فعن أبي الدرداء:قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء,فقال زياد بن لبيد الأنصاري كيف يختلس العلم منا وقد قرأنا القرآن فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا فقال ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم أ.هـ صحيح (سنن الترمذي, الدارمي,المستدرك, مسند الشامين), و في رواية أخرى: والله إن كنت لأحسبك يا زياد لمن فقهاء المسلمين ألست تعلم أن التوراة والإنجيل أنزلت على اليهود والنصارى فما نفعهم إذ لم يعملوا به أ.هـ والمقصود بهذا العلم هو علم التوحيد(الإسلام) الذي جاءت به الرسل ويحصل التمكين به ويظهره الله على الدين كله.

لقد طعنت الأمة في مقتلها يوم أن وصلت إلى مرحلة اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله تعالى الذين حرفوا الكتاب من بعد مواضعه فغيروا وبدلوا مراد الله تعالى فأفتوا بغير علم من قرآن ناطق وسنة ماضية وصنعوا دينا جديدا بآرائهم فضلوا وأضلوا وهلكوا وأهلكوا ولله در ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه إذ يقول:لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من قبل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأكابرهم فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم وتفرقت أهواؤهم فذلك حين هلكوا أ.هـ (أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي), وجعلوا الدين مطية فتفقهوا لغير الدين و تعلموا لغير العمل والتمسوا الدنيا بعمل الآخرة وتدافعوا على أبواب السلاطين يستجدونهم فتات موائدهم فأكلوا السحت وهم يعلمون فرسخوا الوهن في قلوب الأمة فقلوبهم قلوب الذئاب وألسنتهم أحلى من العسل فحلت بهم فتنة جعلت الحليم منهم حيران فأنى لهم أن يكونوا ربانيين ينيرون للناس دياجي الظلم بعد أن أصبح علمهم حثالات الأذهان وصدق الشعبي رحمه الله تعالى حين قال : ما حدثوك هؤلاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ به وما قالوه برأيهم فالقه في الحش أ.هـ صحيح(سنن الدارمي, مصنف عبد الرزاق, حلية الأولياء), فخرجوا وأخرجوا من تبعهم وذب عنهم من تحت يد الله وكنفه, فعن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله:لا تزال هذه الأمة تحت يد الله وفي كنفه ما لم تمال قراؤها أمراءها ولم يزك صالحوها فجارها وما لم يمن خيارها شرارها فإذا فعلوا ذلك رفع الله عنهم يده ثم سلط عليهم جبابرتهم فساموهم سوء العذاب وضربهم بالفاقة والفقر وملأ قلوبهم رعبا.أ.هـ(الزهد لابن المبارك), فهؤلاء هم أعظم الناس شرا إذ قاسوا الأمور برأيهم فأحلوا الكفر والحرام فهدموا الإسلام وثلموه :فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ (البقرة 79), فهؤلاء أعدى أعداء الله تعالى صنعوا أجيالا حالهم كما قال تعالى: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (الزمر:45).

لقد خيل لأعداء الأمة أنهم بهؤلاء مسخوا الدين وتمكنوا من استمالة قلوب الأمة وأنه لا عودة إلى دين رب العالمين وما علموا أن هذا استدراج لهم حتى حين ليأخذهم بعذاب مقيم في الدنيا ويوم يقوم الناس لرب العالمين وأن الله منشئ لهم قوما يحملون راية خير المرسلين قاهرين لعدوهم ظاهرين لا يضرهم كيد الكائدين المخذلين المخذولين ولا مخالفة المخالفين هم العدول لهذا الدين ينفون عنه تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين وتحريف الغالين لا لآرائهم مصوبين أو عنها منافحين فجعلوا كفايتهم تنزيل الحكيم الخبير لأنه:لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (فصلت:42),(الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (هود:1).

فالآفة العظمى والداهية الدهماء أن تتكل الأمة وتعتمد في أخذ دينها على هؤلاء الذين باعوا الأمة ودينها فعند هذه المرحلة يصبح هدايتها من الصعوبة بمكان حيث تدخل في قوله تعالى:وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ (البقرة:145),والله تعالى يخاطبهم بقول صريح :أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً (النساء:82), فقوله سبحانه فيه الفصل والتوافق فهو الوحي المبين من لدن حكيم عليم وأما قول هؤلاء السحرة الذين لبسوا على الناس دينهم وأوهموا العباد أن كتاب الله تعالى سر من الأسرار لا يناله إلا من هم بزعمهم كبار وأن هناك صغار ليس لهم من الأقدار للنظر في كتاب العزيز الغفار وزعموا أنه طلاسم تحار فيها العقول وكذبوا وويل لهم من العزيز الجبار فهو القائل بأوضح بيان:كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (ص:29 ),إلا التناقض في ذاته المعارض لكلام المولى تبارك وتعالى فكانت النتيجة أن أعرض أفراد الأمة عن كتاب ربهم ولم يسمعوا لقوله تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (محمد:24), وترتب على ذلك أن الكلام في الأحبار والرهبان(المشايخ) خط أحمر عند أصحابهم فبهم الحب والبغض وعليهم هالة من التقديس والتعظيم أكثر مما هو لله تعالى ولرسوله عليه السلام والواقع اكبر برهان.

من اجل هذا كله قال عليه الصلاة والسلام: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (رواه الشيخان) فهذا هو الميزان الثابت إلى يوم القيامة الذي توزن به الأعمال والأقوال، فواقع الرسول عليه الصلاة والسلام وخلفائه الراشدين هو الميزان الذي توزن به الأمور فما وافقه فهو الحق نعض عليه بالنواجذ وما سواه فهو الباطل نرميه وراء ظهورنا ونتخذه ظهريا مهما كان منمقا ومزخرفا ومهما كان قائله لأن فيه الانتكاس والتردي في مهاوي العمى والضلال وهذا الحديث له اثر عظيم خاصة في الواقع الجاهلي لأن الفتن أعظم والتحريف أكثر فلا بد أن يكون الإنسان على أعلى درجات الحذر عاملا بهذا الحديث في كل الأمور دقها وجلها.

فيا قوم أفيقوا فإن الله مظهر دينه وناصر عباده لا محالة ولكن يريد أن يرفع بهذا القرآن أقواما ويضع آخرين فإن رحى الإسلام دائرة وقد افترق القرآن والسلطان من أزمان بعيدة فهنيئا لمن سخره الله تعالى ليكون مع كتاب الله عز وجل فدار معه حيث دار.

لقد جهل الناس أبسط قواعد تدبر كتاب الله تعالى والتي بينها سلفنا الصالح أحسن بيان ونبهوا على أنها ليست مختصة بإنسان دون إنسان فهي للناس كافة ليعلم كل منا دينه ولكي لا نكون ألعوبة بيد أئمة الضلال الدعاة إلى أبواب جهنم الذين يحرفون الكتاب عن مراد الله تعالى وأهمها:

1- قال أبو عبد الله الزركشي رحمه الله تعالى: عن ابن عباس أنه قسم التفسير إلى أربعة أقسام قسم تعرفه العرب في كلامها وقسم لا يعذر أحد بجهالته يقول من الحلال والحرام وقسم يعلمه العلماء خاصة وقسم لا يعلمه إلا الله ومن ادعى علمه فهو كاذب وهذا تقسيم صحيح:

فأما الذي تعرفه العرب فهو الذي يرجع فيه إلى لسانهم وذلك شأن اللغة والإعراب فأما اللغة فعلى المفسر معرفة معانيها ومسميات أسمائها ولا يلزم ذلك القارئ ثم إن كان ما تتضمنه ألفاظها يوجب العمل دون العلم كفى فيه خبر الواحد والاثنين والاستشهاد بالبيت والبيتين وإن كان مما يوجب العلم لم يكف ذلك بل لا بد أن يستفيض ذلك اللفظ وتكثر شواهده من الشعر.

وأما الإعراب فما كان اختلافه محيلا للمعنى وجب على المفسر والقارئ تعلمه ليتوصل المفسر إلى معرفة الحكم وليسلم القارئ من اللحن وإن لم يكن محيلا للمعنى وجب تعلمه على القارئ ليسلم من اللحن ولا يجب على المفسر ليتوصل إلى المقصود دونه على أن جهله نقص في حق الجميع

إذا تقرر ذلك فما كان من التفسير راجعا إلى هذا القسم فسبيل المفسر التوقف فيه على ما ورد في لسان العرب وليس لغير العالم بحقائق اللغة ومفهوماتها تفسير شيء من الكتاب العزيز ولا يكفى في حقه تعلم اليسير منها فقد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين.

الثاني: ما لا يعذر واحد بجهله وهو ما تتبادر الأفهام إلى معرفة معناه من النصوص المتضمنة شرائع الأحكام ودلائل التوحيد وكل لفظ أفاد معنى واحدا جليا لا سواه يعلم أنه مراد الله تعالى فهذا القسم لا يختلف حكمه ولا يلتبس تأويله إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد من قوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله وأنه لا شريك له في إلهيته وإن لم يعلم أن لا موضوعة في اللغة للنفي وإلا للإثبات وأن مقتضى هذه الكلمة الحصر ويعلم كل أحد بالضرورة أن مقتضى قوله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ونحوها من الأوامر طلب إدخال ماهية المأمور به في الوجود وإن لم يعلم أن صيغة أفعل مقتضاها الترجيح وجوبا أو ندبا فما كان من هذا القسم لا يقدر أحد يدعي الجهل بمعاني ألفاظه لأنها معلومة لكل أحد بالضرورة

الثالث:ما لا يعلمه إلا الله تعالى فهو ما يجرى مجرى الغيوب نحو الآي المتضمنة قيام الساعة ونزول الغيث وما في الأرحام وتفسير الروح والحروف المقطعة وكل متشابه في القرآن عند أهل الحق فلا مساغ للاجتهاد في تفسيره ولا طريق إلى ذلك إلا بالتوقيف من أحد ثلاثة أوجه إما نص من التنزيل أو بيان من النبي صلى الله عليه وسلم أو إجماع الأمة على تأويله فإذا لم يرد فيه توقيف من هذه الجهات علمنا أنه مما استأثر الله تعالى بعلمه.

والرابع: ما يرجع إلى اجتهاد العلماء وهو الذي يغلب عليه إطلاق التأويل وهو صرف اللفظ إلى ما يئول إليه فالمفسر ناقل والمؤول مستنبط وذلك استنباط الأحكام وبيان المجمل وتخصيص العموم وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه على ما تقدم بيانه أ.هـ البرهان في علوم القرآن2/164-166.

2- قال الشافعي : كل ما سنَّ رسول الله مما ليس فيه كتاب وفيما كتبنا في كتابنا هذا من ذِكرِ ما مَنَّ الله به على العباد من تَعَلُّم الكتاب والحكمة : دليلٌ على أن الحكمة سنة رسول الله مع ما ذكرنا مما افترض الله على خلقه من طاعة رسوله وبيَّن من موضعه الذي وضعه الله به من دينه : الدليلُ على أن البيان في الفرائض المنصوصة في كتاب الله من أحد هذه الوجوه:

منها: ما أتى الكتاب على غاية البيان فيه فلم يحتج مع التنزيل فيه إلى غيره.

ومنها: ما أتى على غاية البيان في فرضه وافترض طاعة رسوله فبين رسول الله عن الله كيف فرْضُهُ ؟ وعلى من فرْضُهُ ؟ ومتى يزول بعضه وَيَثبُتُ وَيَجِبُ ؟ .

.أ.هـ الرسالة 33-34.

3- قال ابن كثير رحمه الله تعالى: فإن قال قائل فما أحسن طرق التفسير فالجواب أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن قال الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً (النساء:105), وقال تعالى: بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (النحل:44), وقال تعالى:وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (النحل:64), ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه يعني السنة والسنة أيضا تنزل عليهم بالوحي كما ينزل القرآن إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن أ.هـ

وقال أيضا: والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه فإن لم تجده فمن السنة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن بم تحكم قال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال بسنة رسول الله قال فإن لم تجد قال اجتهد برأيي قال فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله وهذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد كما هو مقرر في موضعه وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المهتدين المهديين وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أ.هـالتفسير 1/4.

4- إن التعامل مع الأدلة الشرعية ينطلق من دلالاته التي تضبط وتحدد أصوله وفروعه وهذه الدلالات هي دلالة المنطوق ودلالة المفهوم وعدم الخلط بينهما فتجد الكثيرين ممن تعالموا في هذا الزمن لا يميز أحدهم بين المنطوق والمفهوم ولا يميز بين مفهوم ومفهوم فيأتي بما تقشعر منه الجلود .

بالإضافة إلى اعتبار المكي والمدني ورد المدني إلى المكي والمتأخر إلى المتقدم وأن أصل الدين قد تم إحكامه وتفصيله فالتطبيق العملي للتوحيد قد تم منذ أول لحظة الدعوة في الفترة المكية وأما الفترة المدنية فهي التطبيق العملي للشرائع وهذه الشرائع ليست على ميزان واحد فالرسول عليه الصلاة والسلام هو القدوة للمسلمين جميعا كما قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (الأحزاب:21), فأقواله وأفعاله منها ما يتعلق به كونه نبيا ومنها ما يتعلق به كونه إمام المسلمين وأميرهم ومنها ما يتعلق به كزوج ومنها ما يتعلق به كقاضي ومنها ما يتعلق به كأب ومنها ما يتعلق به كآحاد المسلمين فلا بد عند النظر في سنته صلى الله عليه وسلم التمييز بين هذه الأمور وتنزيلها على متعلقاتها وعدم التمييز أدى بالكثيرين إلى الإفتراء على دين الله تعالى وضرب الأدلة بعضها ببعض.

5- قال تعالى:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (النساء:59),فهذه هي قاعدة الأيمان بالله واليوم الآخر التي يقررها الله تعالى بنص محكم صريح قطعي الدلالة لا يوجد فيه أدنى ذرة من تشابه وحكم جازم يبين منهاج المؤمن بالله واليوم الآخر أنه يرد كل صغيرة وكبيرة إلى الله تعالى والى رسوله عليه الصلاة والسلام فإن هذا شرط الإيمان الذي لا يقبل الله من أحد أن يكون في حزبه إلا بتحقيقه إذ أن المسلمين لا يخرجون عن حالتين:

الأولى: متفقون وهذا هو الإجماع ولا يكون إلا على دليل محكم من كتاب أو سنة.

الثانية: متنازعون وفي هذه الحالة يرد المتنازع فيه إلى المجمع عليه وهذا لا يكون إلا في المسائل الاجتهادية في فروع الشريعة ليكون الجميع في دائرة أهل الحق فالمصيب له أجران والمخطئ له أجر فهذه الآية الكريمة تبين أن المؤمنين متفقون في أصول الدين لا نزاع بينهم في ذلك وإنما التنازع يكون في مسائل فروع الشريعة التي بين أصولها سبحانه تعالى وبين تفصيلاتها رسوله عليه الصلاة والسلام وهذا يسمى مسائل الخلاف أو الخلافية.

وأما إذا كان التنازع في أصول الدين فقد بانت إحدى الطائفتين عن الأخرى وليس إلا حق أو باطل مأجور أو موزور وهذا يسمى الاختلاف ولذلك قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ(آل عمران:19), وبين تعالى هذا العلم بأنه كتابه بقوله: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (البقرة:213), فنتبين من ذلك:

1- أن الاختلاف بين الناس هو من حيث الكفر والإيمان.

2- أن الله تعالى أرسل الرسل بكتابه ليحكم في هذا الاختلاف وأنه مبين أتم بيان.

3- أن الاختلاف أكثر ما يكون في الذين أوتوا كتاب الله تعالى.

4- أن هذا الاختلاف يكون بغيا بغير حق لأنه يكون باتباع المتشابه وترك المحكم قال تعالى:هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ (آل عمران:7), فبين تعالى أن كتابه يشتمل على محكم هو الأصل الذي لا يجوز بحال مخالفته وأن هناك متشابه جعله الله تعالى ليميز به الخبيث من الطيب قال تعالى:مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (آل عمران:179), فالطيب هو الذي يتبع المحكم ويرد المتشابه إلى المحكم لكي يبقى في دائرة المحكم ولا يخرج عنه فيعلمه بوجه لا يتعارض مع المحكم, فإن جهل وجه عدم تعارضه مع المحكم فيكله إلى الله تعالى:آمنا به كل من عند ربنا (),وهؤلاء هم من وصفهم الله تعالى بالراسخين في العلم وأنهم المتذكرون وأنهم أولوا الألباب.

وأما من خرج عن ذلك فهم من وصفهم سبحانه وتعالى بقوله :فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ(), وبين تعالى حقيقة نياتهم وأنهم خبثاء بقوله: فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ(),فمن يتمسك بالمتشابه ويعارض به المحكم ويجعله أصل مستقل فيفصله عن المحكم فهو الخبيث الذي في قلبه زيغ يضرب الكتاب بعضه ببعض فيحل الكفر والشرك وهذا معنى قوله تعالى: ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ (), والفتنة هي الكفر والشرك ومن يفعل ذلك فحكمه الكفر والخروج من الإسلام لا يقبل الله تعالى منه صرفا ولا عدلا,وإما أنه يبتغي تأويله وهذا حال أهل البدع والضلال من المتكلمين وغيرهم,فعملهم لا غاية له إلا إباحة الكفر والشرك أو نشر البدعة والضلال، وقد بين عليه الصلاة والسلام ذلك ففي صحيح مسلم كتاب العلم باب النهي عن أتباع متشابه القرآن والتحذير من متبعيه والنهي عن الاختلاف في القرآن أن عبد الله بن عمرو قال: هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما قال فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب,وعن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فيه فقوموا أ.هـ (رواه الشيخان).

فنحن في هذا الزمان والذي تجلى فيه ما حذرنا منه سبحانه وتعالى بقوله: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (آل عمران :106) وهؤلاء هم الذين يتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ( أكفرتم) فأباحوا الكفر فضلوا وأضلوا أتباعهم فهؤلاء هم الذين ستسود وجوههم إن لم يتوبوا مما هم عليه جزاء كفرهم ( بما كنتم تكفرون).

فالأمة قد تفرقت في أصل دعوة الله تعالى التي بعث بها رسله فاختلفوا في أصل الدين إذ أن الخلاف في فروع الشريعة موجود منذ عهد النبوة ولا إثم ولا حرج في ذلك ولا ذم.

فالتنازع في أصل الدين هو الاختلاف المذموم.

والتنازع في فروع الشريعة هو الخلاف المشروع.

وقد بين سبحانه وتعالى هذا الأصل العظيم بقوله: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (الشورى:10), فهذه الآية نص صريح بأن الاختلاف في أصل الدين ( الكفر والإيمان) لا يكون الرد فيه إلا إلى الله تعالى لأن الله تعالى وصف كتابه بأنه محكم ومفصل بقوله: الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (هود:1), وهذا الإحكام والتفصيل متعلق بمسائل الكفر والإيمان وهي توحيد الله تعالى بقوله بعد ذلك: أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (هود:2)، فكل ما يتعلق بمسائل الكفر والإيمان جعل الله تعالى إحكامه وتفصيله وبيانه مختصا به سبحانه وتعالى لأن الله تعالى أمر رسوله عليه السلام أن يجعل ما اختلف فيه مع المشركين حكمه إلى الله عز وجل بقوله: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (الشورى:10)، والله تعالى قد بين بنصوص محكمة كيف يكون الإنسان كافرا وكيف يكون مؤمنا وما هو الكفر وما هو الإيمان وجعل ذلك أم الكتاب قال الشافعي رحمه الله تعالى: فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها قال الله تبارك وتعالى : كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (إبراهيم:1).أ.هـ الرسالة 1/19..

هذه مقدمة كان لزاما علي إيرادها بين يدي موضوعي هذا تذكيرا ونصحا لقوله تعالى: وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (آل عمران:187).

لقد آل حال الأمة مع الإسلام - دين الفطرة والعقل الذي هو أوضح من الشمس - في ظل الواقع المرير أن يكون مجهولا من قبل كثير من الناس بل غالبهم حتى أصبح المسلمون غرباء فطوبى لهم ولله در ابن القيم إذ يقول: ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله لا شيخ ولا طريقة ولا مذهب ولا طائفة بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده وإلى رسوله بالإتباع لما جاء به وحده وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقا وأكثر الناس بل كلهم لائم لهم فلغربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم. ومعنى قول النبي هم النزاع من القبائل أن الله سبحانه بعث رسوله وأهل الأرض على أديان مختلفة فهم بين عباد أوثان ونيران وعباد صور وصلبان ويهود وصابئة وفلاسفة وكان الإسلام في أول ظهوره غريبا وكان من أسلم منهم واستجاب لله ولرسوله غريبا في حيه وقبيلته وأهله وعشيرته فكان المستجيبون لدعوة الإسلام نزاعا من القبائل بل آحادا منهم تغربوا عن قبائلهم وعشائرهم ودخلوا في الإسلام فكانوا هم الغرباء حقا حتى ظهر الإسلام وانتشرت دعوته ودخل الناس فيه أفواجا فزالت تلك الغربة عنهم ثم أخذ في الاغتراب والترحل حتى عاد غريبا كما بدأ بل الإسلام الحق الذي كان عليه رسول الله وأصحابه هو اليوم أشد غربة منه في أول ظهوره وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة فالإسلام الحقيقي غريب جدا وأهله غرباء أشد الغربة بين الناس وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جدا غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة ذات أتباع ورئاسات ومناصب وولايات ولا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم وما هم عليه من الشبهات والبدع التي هي منتهى فضيلتهم وعملهم والشهوات التي هي غايات مقاصدهم وإراداتهم فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة غريبا بين هؤلاء الذين قد اتبعوا أهواءهم وأطاعوا شحهم وأعجب كل منهم برأيه كما قال النبي مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر حتى إذا رأيتم شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ورأيت أمرا لا يد لك به فعليك بخاصة نفسك وإياك وعوامهم فإن وراءكم أياما صبر الصابر فيهن كالقابض على الجمر ولهذا جعل للمسلم الصادق في هذا الوقت إذا تمسك بدينه أجر خمسين من الصحابة ففي سنن أبي داود والترمذي من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: سألت رسول الله عن هذه الآية يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فقال بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك العوام فإن من وراءكم أيام الصبر, الصبر فيهن مثل قبض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله قلت يا رسول الله أجر خمسين منهم قال أجر خمسين منكم وهذا الأجر العظيم إنما هو لغربته بين الناس والتمسك بالسنة بين ظلمات أهوائهم وآرائهم فإذا أراد المؤمن الذي قد رزقه الله بصيرة في دينه وفقها في سنة رسوله وفهما في كتابه وأراه ما الناس فيه من الأهواء والبدع والضلالات وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله وأصحابه فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه وطعنهم عليه وإزرائهم به وتنفير الناس عنه وتحذيرهم منه كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع متبوعه وإمامه فأما إن دعاهم إلى ذلك وقدح فيما هم عليه فهنالك تقوم قيامتهم ويبغون له الغوائل وينصبون له الحبائل ويجلبون عليه بخيل كبيرهم ورجله فهو غريب في دينه لفساد أديانهم غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم غريب في صلاته لسوء صلاتهم غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم غريب في نسبته لمخالفة نسبهم غريب في معاشرته لهم لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم.

وبالجملة فهو غريب في أمور دنياه وآخرته لا يجد من العامة مساعدا ولا معينا فهو عالم بين جهال صاحب سنة بين أهل بدع داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع آمر بالمعروف ناه عن المنكر بين قوم المعروف لديهم منكر والمنكر معروف.أ.هـ مدارج السالكين3/197-200 , هذا في زمانه رحمه الله تعالى فكيف لو رأى زماننا ؟!!!.

ولأجل هذا كله أضع ما سطرته بين يدي كل طالب حق لا تأخذه في الله تعالى لومة لائم جهد بضع عشرة عاما من البحث والدراسة تحديدا منضبطا لحقيقة الإسلام على مراد الله تعالى بنصوص محكمة واضحة بينة كما أضفت لذلك ما يتعلق ببيان حقيقة الهجمة التي تتعرض لها الأمة وما يتعلق بها من بعض المسائل المهمة سائلا المولى عز وجل أن يجعل ذلك كله خالصا لوجهه الكريم وأن يكون لي ذخرا يوم لا ينفع مال ولا بنون كما وأنوه إلى أنني قد استعنت بمراجع وخاصة من المنتديات والمواقع على الانترنت وما لم اذكر نسبته إلى قائله فلا أنكره ولا أدعيه لنفسي فما كان مني إلا الجمع والترتيب والله ولي التوفيق.

المدخل إلى الإسلام

لقد جعل الله تعالى طريقا لمرضاته دينا قويما هو الإسلام وجعل جزاء أهله الحسنى وزيادة ورضوان منه أكبر فهو الدين الذي بعث به أنبياءه وأنزل به كتبه لقوله عز وجل: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ (آل عمران:19)، ومن لم يأت بالإسلام فلا حظ له عند الله تعالى لقوله عز وجل: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (آل عمران:85),وهو وصية الله تعالى إلى عباده المؤمنين بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (آل عمران:102), لقد جعل الله تعالى الفصل في تعريف الإسلام وبيان حقيقته منوطة به سبحانه ولم يجعل ذلك لغيره مصداقا لقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ() أي: إن الدين الذي لا يقبل الله سواه هو الإسلام كما أمر به وأراده مبين في كتابه أحسن بيان وأتمه وعنده أي: في كتابه العظيم ألا وهو القرآن الكريم لتكون حجة الله قائمة على عباده , فهذا الدين له حقيقة يجب أن يُتعامل معه من خلالها وهي انه كأي دعوة قابلة للرفض والقبول ففيه خصائص تدعوا إلى قبوله وأخرى تدعوا لرفضه ولكن قابلية رفضه هي الغالبة فهو دين مرفوض ابتداء, فهذه الحقيقة يجب أن تكون من الثوابت في التعامل مع البشر قال سبحانه:وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (يوسف:103), وقال تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ (يوسف:106), وقال تعالى: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (الأنعام:116), وقال تعالى:أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (الفرقان:44), وقال تعالى:المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (الرعد:1), ولم يعرض على إنسان إلا وحصل عنده التردد بدرجات متفاوتة إلا أبا بكر الصديق رضي الله عنه ولذلك استحق أن يكون صديق هذه الأمة وخير البشر بعد الأنبياء والرسل عليهم السلام فما من أمة جاءها رسولها إلا كذبوه مع أن دعوة الرسل متضمنة خيري الدنيا والآخرة ففي الآخرة جنات عرضها السموات والأرض وفي الدنيا حياة خالية من الشقاء والضلال فكون هذا الدين مرفوض ابتداء بينه تعالى في كتابه العزيز من خلال قصص الأنبياء: قال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15)(سورة يس), فجهد ثلاثة رسل نتيجته إيمان رجل واحد والله أعلم بالمهتدين, قال تعالى: وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (يس:20), عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد ( رواه مسلم), ونبي الله نوح عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما كانت حصيلة هذا الجهد العظيم على أكثر الروايات إيمان بضع وثمانين وكانت دعوته مليئة بالمغريات التي تدعوا النفس لقبولها كما أخبر تعالى بقوله: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (نوح:10), وهذا الاستغفار هو: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (نوح:3), فإن فعلتم ذلك فلكم: يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارا ً(12سورة نوح ),فهذا هو الرخاء الاقتصادي والرفاه الاجتماعي في الدنيا مع ما ينتظرهم من نعيم في الآخرة وهذه كلها عوامل قبول فماذا كان في دعوته من عوامل الرفض التي جعلتهم يقولون كما أخبر الله تعالى عنهم:قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (الشعراء:116), وقوله: وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (نوح:23), مع أنهم يعلمون حق العلم أن هذه التي ذكروها من الأصنام جمادات لا تضر ولا تنفع وهذا يتكرر مع كل نبي جاء إلى قومه, فلا بد من معرفة خصائص هذا الدين والعوامل التي تحول دون قبوله.

صفات وخصائص الإسلام العامة

إن الإسلام يقوم على مقومات ويمتاز بخصائص يعرض من خلالها تجعله دعوة حقيقية بناء عليها تكون ردة فعل الآخرين من قبول أو رفض وهذه الميزات والخصائص هي:
أولا: الإسلام علم أي: أنه قائم على مقدمات وحقائق عقلية يجب أن تتطابق مع واقعها ولا يمكن الحصول عليه إلا بالتعلم فمن تعلم الإسلام فقد أصبح على علم بحقيقته ليأخذه بعلم وبصيرة وليس عن جهل وغفلة قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ(محمد:19),وقال تعالى: هَـذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (إبراهيم:52), فهو كأي علم آخر لا بد من تعلمه فهو ليس جينات وراثية تنتقل من الآباء إلى الأبناء فكما أن ابن الطبيب لا يولد طبيبا إلا إذا علم الطبيب ابنه الطب وابن النجار لا يولد نجارا إلا إذا علمه النجارة فكذلك الإسلام وغيره من الأديان لا يصبح الإنسان من أتباعها إلا إذا تعلمها من غيره, قال عليه الصلاة والسلام: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة هل تحسون فيها من جدعاء أ.هـ ( رواه البخاري ومسلم), ورواية أبي داوود: كل مولود يولد على الملة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يشركانه أ.هـ,والعلم هو معرفة الشيء على حقيقته والعمل به فإذا لم يعمل به فلا يكون علما ولذلك قيد عليه الصلاة والسلام النجاة بالوفاة على لا إله إلا الله بالعلم بقوله: من مات وهو يعلم أن لا اله إلا الله دخل الجنة.أ.هـ (رواه مسلم والإمام أحمد والنسائي والبزار والطبراني وابن أبي شيبة وغيرهم).

فالإسلام الذي هو لا اله إلا الله شهادة لقوله عليه السلام: بني الإسلام على خمس شهادة أن لا اله إلا الله…الحديث( رواه الشيخان وأهل الآثار),والشهادة -الحضور والمشاهدة- هي دليل عملي على الحصول على المشهود به وتكون حقيقية وصادقة لمن حصل عليها بعد العلم,والله تعالى يقول: وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (المعارج:33), والقيام بالشهادة المراعاة والحفظ لها وتوفية حقها بالعلم والعمل والثبات عليها وهي الحكمة التي أمر الله أهل الإيمان أن يعلموها أولادهم قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (لقمان:13) فالكفر الذي هو عبادة غير الله تعالى هو الظلم العظيم, ففرض عيني قبل أن نعلم أبناءنا القراءة والكتابة وغير ذلك أن نعلمهم الشرك الذي هو الكفر ليحذروه وليكونوا على بصيرة منه فيكون علم في الصغر حتى لا يقابل بعوامل الرفض عند البلوغ لأن الإنسان قبل البلوغ على الفطرة السليمة التي خلقه الله تعالى عليها وهي الاستعداد النفسي والجاهزية القابلة لتقبل الإسلام إضافة لكونه صفحة بيضاء وأرض خصبة للنبتة التي يغرسها فيه أبواه ولذلك ينشأ على ما وجد من دين فحكمه قبل البلوغ حكم أبويه أو من تعلم منه فإذا بلغ أفصح عنه لسانه وعمله بما تعلمه من دين .

ثانيا: الإسلام غاية وهدف: فالإسلام ليس مجرد أمر قضي وانتهى أمره وأنه أصبح مضمونا بمجرد قول أو فعل قال تعالى:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (آل عمران:102), فيجب تحقيق الإسلام في كل لحظة من لحظات الحياة لأن الإنسان لا يدري في أي لحظة يأتيه الموت فربما يكون بعد ثانية أو دقيقة أو يوم أو يومين أو سنين فلا بد من أن يكون حريصا غاية الحرص ليكون محققا للإسلام وجاهزا لاستقبال الموت في أي لحظة, فالوفاة على الإسلام أمنية غالية يتمناها قدوة البشر وهم الأنبياء والرسل قال تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (يوسف:101), وهي وصية أبى الأنبياء وملة إبراهيم عليه السلام قال تعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (البقرة:132),فعلموا أن الإسلام هو عبادة الله وحده الذي هو إله آبائهم وعليه فإن كل الأهداف والغايات في حياة الإنسان لمن أراد الإسلام تصبح لاغية وتتحول من غايات وأهداف إلى وسائل يجب أن يتحقق فيها الإسلام فإذا لم يتحقق بها الإسلام فيضرب بها عرض الحائط فلا عشائرية ولا رفاهية ولا وطنية ولا قومية ولا علو منزلة ولا مال ولا أولاد ولا أبناء ولا زوجات ولا آباء ولا أمهات ولا مساكن ولا تجارة فكل هذا يجب أن يتحقق فيه الإسلام كغاية وكل هذا يصبح وسائل يحقق الإنسان من خلالها توحيده, فالإسلام يستغرق حياة المسلم بجميع جوانبها قال تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (الحجر:99) ,أي: أن الإسلام هو عبادة الله تعالى وحده حتى الموت.
ثالثا: الإسلام مؤثر بطبيعته من خلال إعلانه والعمل به دون إشهار السيف في وجه مخالفيه. فما الذي جعل الأمم تقف في وجه رسلها وتقابلهم بالعداء والرفض والتكذيب والتعذيب بمجرد أن قالوا لهم اعبدوا الله مالكم من اله غيره أي: أسلموا ؟ فهناك ردة فعل شديدة وعنيفة من البشر تجاه الدعاة إلى الإسلام رسلا وورثة رسل,وطبيعة الإنسان السوية أنه لا يحدث ردة فعل إلا تجاه حدث أثّر عليه، ودرجة ردة الفعل تتفاوت بتفاوت هذا التأثير، فما الذي جعل قريش تقابل الرسول عليه السلام كما بين تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين(الأنفال:30), وما الذي جعل فرعون يقول لموسى عليه السلام: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (غافر:26),( قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (الشعراء:29), وقوم صالح: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (النمل:49), وقوم شعيب: قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (الأعراف:88) , وهذا دأب الأمم مع رسلها الحبس والقتل والإخراج والتعذيب.

وهذا بلال بن رباح رضي الله عنه عبد حبشي لا يؤبه به ما أن أعلن إسلامه حتى أصبح ندا لزعماء قريش بحيث تولوا تعذيبه بأنفسهم فهو لم يفعل شيئا إلا أن أعلن إسلامه فما هو تأثير إسلامه على زعماء قريش فهو لم يحمل عليهم سلاحا ولم يعتد على أحد منهم ، فعند الإسلام يقف الأب في وجه ابنه والأم في وجه ابنها والأخ في وجه أخيه وأبناء العمومة بوجه عمومتها وكان فرقا بين الناس.

فما بال الناس هذه الأيام يقولون في بلاد الكفر التي طبقت الأرض نحن مسلمون ونشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولا تأثير لقولهم وإعلانهم هذا في واقع الحال ؟!!

إن حقيقة الإسلام أنه مغير لأنظمة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية إنه التغيير لسلوك البشر ولمنهج الحياة وهذه الحقيقة بينها تعالى بوضوح من خلال دعوة موسى عليه السلام حيث جاء إلى فرعون ودعاه إلى الإسلام فكانت ردة فعله كما قال تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (غافر:26), فهناك أثران للإسلام وأهله في المجتمعات:

1 - تبديل الأديان أي: تغيير منهج الحياة ليكون قائما على قول الله تعالى وأمره وحكمه وشريعته بالكيفية والطريقة التي بينها رسوله عليه الصلاة والسلام وأن تكون مناهج الحياة كلها صغيرها وكبيرها مستمدة من المصدر الرباني وإلغاء أي قول ومصدر آخر مهما كان سواء قال فرعون أو قال الملك أو الزعيم أو الرئيس أو الشيخ أو فلان وفلان أو قال الحجر أو الشجر أو القانون أو الدستور أو الشرعية الدولية أو القانون الدولي أو الأمم المتحدة أو أي مسمى سماه الناس: مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (يوسف:40).

2- إظهار الفساد حسب اصطلاح الرافضين له والذي هو في الحقيقة إظهار الصلاح في الواقع وهذا الفساد الذي زعمه فرعون بقوله:يبدل دينكم( نظام حياتكم) -وكل نظام غير الإسلام- القائم على الطبقية المتعددة والتفاضل بين البشر بناءً على اعتبارات متعددة وفاسدة.فالمجتمع الذي يكون محكوما بغير شرع الله فإن حاكمه طاغوتا(معبودا من دون الله), تجد أن عقليتة هي نفس عقلية غالب الناس في بيئته- وصدق من قال: الناس على دين ملوكهم- لأنه من خلال سيطرته عليهم فهو يؤدبهم بأدبه ويعلمهم دينه ويربيهم بتربيته وهذا ما بينه تعالى بقوله: وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (الأعراف:127) فهي نفس عقلية فرعون( الحاكم)التي صرح بها وهي :َقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (غافر:26), وبالتالي فإن هؤلاء الملأ وهم السادة يمثلون مجتمعهم- إلا من رحم ربك- أما في دين الله تعالى فالناس سواسية كلهم مأمورون ومحكومون ومتبعون لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى فهذا هو الفساد الذي يقرره فرعون وملأه.
رابعا :ثقل الإسلام : فصعوبة الشيء تعرف من خلال النتيجة المترتبة عليه فما كان حقيرا فجهد الحصول عليه حقير وما كان عظيما فجهد الحصول عليه عظيم فالإنسان يعمل طول النهار بضعة سنين ليحصل على بيت يكنه وقوت يشبعه،وعمله في هذه الحياة الدنيا كله شقاء وعناء لا يكاد المرء يرى أولاده،ولا يزيد في عمره ثانية واحدة ولا يزيد في رزقه ذرة واحدة وفوق ذلك كله فنهايته الموت الذي يحرص كل الحرص ليفر منه وهو ملاقيه, أما نتيجة الإسلام فهو خلود أبدي في جنات عرضها السموات والأرض بجوار رب العالمين فكم يستغرق العمل من أجل ذلك ؟ إنه عقد الإيمان قال تعالى: إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (التوبة:111), نعم فجزاء التضحية بالمال والنفس ليس قصرا في الدنيا أو جاها إنما هو شيء آخر فهذا النبي صلوات الله وسلامه عليه يمر على آل ياسر وهم يعذّبون ويقّتلون فلم يعدهم بالنجاة والرئاسة في الدنيا وإنما ذكرهم بعقد الإيمان بقوله: صبرا آل ياسر فان موعدكم الجنة( أخرجه الحاكم في المستدرك وغيره بسند صحيح ) وفي رواية : فإن مصيركم الجنة, نعم إنه الصبر ولا يكون الصبر إلا على الصعاب والمشاق قال تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (المزّمِّل : 5 ),انه الإسلام انه الثقل ومن حمل الثقيل فيجب أن يوطن نفسه على الصبر لأن النتيجة هي خلد وملك لا يبلى.

إن صعوبة الإسلام بينها تعالى أيضا بأروع مثل بقوله: لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (الحشر:21), فإذا كانت الجبال الرواسي تتصدع ولا تستطيع حمل القرآن الذي هو يمثل الإسلام فكيف الحال بالإنسان وهو المخلوق الضعيف قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً(الأحزاب:72).

خامسا: الإسلام يضع الإنسان على مفترق في الإختيار إما الآخرة وإما الدنيا: قال تعالى: مَّن مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً (19:الإسراء), وقال تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ (الشورى:20), فالإسلام مدخله طلب الآخرة والإعراض عن الدنيا التي هي مصيدة الشيطان ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل(رواه البخاري), كأنك غريب أي: بعيد عن موطنه لا يتخذ الدار التي هو فيها موطنا ولا يحدث نفسه بالبقاء قال العيني:هذه كلمة جامعة لأنواع النصائح إذ الغريب لقلة معرفته بالناس قليل الحسد والعداوة والحقد والنفاق والنزاع وسائر الرذائل منشؤها الاختلاط بالخلائق ولقلة إقامته قليل الدار والبستان والمزرعة والأهل والعيال وسائر العلائق التي هي منشأ الاشتغال عن الخالق أ.هـ وقال الطيبي: ليست أو للشك بل للتخيير والإباحة والأحسن ان تكون بمعنى بل فشبه الناسك السالك بالغريب الذي ليس له مسكن يأويه ولا مسكن يسكنه ثم ترقى واضرب عنه إلى عابر السبيل لان الغريب قد يسكن في بلد الغربة بخلاف عابر السبيل القاصد لبلد شاسع وبينهما اودية مردية ومفاوز مهلكة وقطاع طريق فان من شأنه ان لا يقيم لحظة ولا يسكن لمحة أ.هـ فتح الباري11/234,وقال ابن دقيق العيد: واعلم أن من في الدنيا ضيف وما في يده عارية وأن الضيف مرتحل والعارية مردودة والدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر وهي مبغضة لأولياء الله محببة لأهلها فمن شاركهم في محبوبهم أبغضوه وقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم السائل إلى تركها بالزهد فيها ووعد على ذلك حب الله تعالى وهو رضاه عنه فإن حب الله تعالى لعباده رضاه عنهم وأرشده إلى الزهد فيما في أيدي الناس إن أراد محبة الناس له وترك حب الدنيا فإنه ليس في أيدي الناس شيء يتباغضون عليه ويتنافسون فيه إلا الدنيا, وقال صلى الله عليه وسلم: من كانت الآخرة همه جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت الدنيا همه شتت الله شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له ] السعيد من اختار باقية يدوم نعيمها على بالية لا ينفد عذابها أ.هـ شرح الأربعين النووية, وقال عليه الصلاة والسلام: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلما( رواه الترمذي وغيره بسند حسن ), وعن الحسن البصري بسند حسن : حب الدنيا رأس كل خطيئة.أ.هـ , والدنيا هي العاجلة والإنسان بطبعه يحب العاجل ويسارع إليه وطلب الآخرة أمر غيبي لا يمكن أن يقوم إلا بيقين وتوكل وحسن ظن بالله تعالى وهذه هي قواعد الإيمان.

سادسا: أن الإسلام قائم على الخوف أي:أن تقوم العلاقة بين المخلوق على التعلق بخالقه وحده ومراقبته في السر والعلن وهذه هي الخشية , قال تعالى عن أهل الجنة في الدنيا: قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (الطور:26), وقال تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ (ق:45), وقال تعالى: سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى(الأعلى:10), وقال تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (فاطر:18), وقال تعالى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (الأنبياء:49) ولذلك جعل الله تعالى جزاء خشيته بالغيب الجنة بقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (الملك:12), وبقوله تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان ِ(الرحمن:46), وبين عليه الصلاة والسلام في حديث قدسي أن الإسلام ركنه الخوف من الله تعالى المصاحب لحال الإنسان المؤمن إلى لحظة الموت فيما يرويه عن ربه عز وجل: وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة, وعن شداد بن أوس رضي الله عنه بلفظ: لا أجمع لعبدي أبدا أمنين ولا أجمع له خوفين إن هو أمنني في الدنيا خافني يوم أجمع فيه عبادي وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع فيه عبادي في حظيرة القدس فيدوم له أمنه ولا أمحقه فيمن أمحق أ.هـ حديث حسن(صحيح ابن حبان , شعب الإيمان للبيهقي ,حلية الأولياء).

العوائق التي تحول دون قبول لإسلام

إن الرسل عليهم السلام يأتون إلى البشر ويدعونهم إلى الإسلام فداعي القبول في هذه الحالة واحد وهو وازع الإيمان في القلب ويقابل بعوامل رفض هي:
1- الشيطان: الذي يجري من بن آدم مجرى الدم والذي أخذ العهد على نفسه أمام الله تعالى بإغواء بني آدم وصدهم عن الحق ليكونوا شركاءه في العذاب المهين قال الله تعالى عنه: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(17) الأعراف), أي: ولا تجد أكثرهم مسلمين لان الشاكر هو المسلم قال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً(3) سورة الإنسان, فالله خلق الناس وجعل لهم جنسيتين فقط إما الإسلام وإما الكفر قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (التغابن:2), فالشيطان سيقف في طريق الحق- وهو الإسلام- لصد الناس عنه بشتى الوسائل والأساليب ومن جميع الاتجاهات إلا الجهة العلوية التي يأتي منها الحق أما باقي الجهات فان الشيطان يأتي لابن آدم منها ليحول بينه وبين الهداية، فطريق الحق من جهة واحدة وطرق الشيطان من أربع جهات بناءً على ذلك يتبين بشكل واضح أن دواعي الرفض أكثر من دواعي القبول.وكذلك فان الإغواء من الشيطان من قبل نقاط الضعف في البشر وهي حب الخلود والملك المحسوسين وهو المدخل الذي جاء منه إلى أبوي البشرية: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى (طه:12), فكان التحذير من الله تعالى للبشر بقوله: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (فاطر:6), والشيطان لا يكون من الجن فقط وإنما هناك شياطين الإنس الذين هم أشد خطرا والذين ينفذون خطط شيطان الجن بأيديهم وبألسنتهم بينما شيطان الجن يكون عمله مع الإنس من خلال الوسوسة والإغواء قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (الأنعام:112), وعلامة الشيطنة هي الدعوة إلى ما يؤدي إلى الخلود في جهنم أي: الشرك قال تعالى مبينا لذلك: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (فاطر:6), فكل من يقود أتباعه إلى السعير فهو شيطان لا فرق بينه وبين شيطان الجن, وشياطين الإنس هم :

- السادة والكبراء الذين يستمدون سلطانهم من موازين أرضية دنيوية قال تعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (الأحزاب:67).

- الأحبار والرهبان (علماء الضلالة) الذين يحرفون الدين قال تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (التوبة: 31), وصدق العالم الرباني عبد الله بن المبارك حين قال:

وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها

2- النفس: والنفس بطبيعتها أنها أمّارة بالسوء قال تعالى: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (يوسف:53),والاستثناء يكون للقليل من الكثير فأكثر النفوس أمارة بالسوء الذي هو بخلاف الحق بالإضافة إلى أن النفس مجبولة على الراحة والدعة والميل إلى الأسهل والأخف عليها لأنها قائمة على دعامتين هما:

- التقليد الأعمى للآباء قال تعالى: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (الزخرف:22).

- الألفة للموروثات قال تعالى: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ(70: الصافات) والإسلام مخالف للنفس ومخالف للتقاليد والموروثات لأنها غير قائمة على شرع صحيح وشاق صعب على النفس قبوله.

3- الهوى: والهوى يتميز بعدم الاستقرار وليس له ضابط يحدد حركته فهو يتميز بالتخبط والطيش والخفة وكلها عوامل تخالف طبيعة الإسلام الذي هو منهج حياة منضبط بضوابط ربانية تحكم حركة الإنسان في الحياة قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (الفرقان:43)، وقال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (الجاثية:23)، وقال تعالى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (ص:26), وإذا نظرنا إلى هذه العوائق وجدناها تشكل مجمل الطواغيت التي يجب أن يتبرأ منها المرء ليحقق الإسلام الذي يضمن به النجاة من الخلود في النار.

فالإسلام يجب أن يقدم بطبيعته وصورته الحقيقية المتمثلة بخصائصه وبعوامل القبول والرفض ليتم الاختيار من الإنسان اختيارا حقيقيا صحيحا خاليا من التقليد والغفلة ليتحمل تبعات اختياره في الدنيا والآخرة فالله تعالى قال: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (الأحزاب:72),وأساس الإتباع قائم على ما بينه تعالى من قصة موسى عليه السلام مع الخضر: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً(66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً(67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً(68) (قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69 : الكهف )، إنه الصبر والطاعة المطلقة القائمة على اليقين بأسماء الله وصفاته.

حقـيقة دعـوة التوحيـد

إن العمل بالإسلام عمل مستمر وبذل وعطاء وصبر ومصابرة ومكابدة للواقع غير الإسلامي المرير الذي يقوم على أهواء مختلفة ومتباينة وليس للإسلام وصف حقيقي إلا ما وصفه الله به أنه جهاد: َوجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ..إلى قوله: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ (الحج:78), فكانت الدعوة بهذا القرآن إلى الإسلام جهادا: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً (الفرقان:52), ولذلك كان الجزاء من جنس العمل كما بينه تعالى بقوله:وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (العنكبوت:69), فهذه الآية المكية التي نزلت قبل فرض جهاد السيف تصور حال المسلم الحقيقية مع هذا الدين أنه جهاد لطلب مرضاة الله تعالى ليتحقق للعبد الهداية إلى طرق الخير ليصل إلى معية الله تعالى وبذلك يحصل على أعلى وسام رباني ألا وهو الإحسان الذي هو أعلى مراتب الإيمان ولقد كانت هذه الآية خاتمة لسورة بدأت بقوله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (العنكبوت:2), كمقدمة لما يترتب على هذه الدعوة العظيمة الذي هو ملازم لها :وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (العنكبوت:3), وجاءت بداية السورة: وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (العنكبوت:6), لتتوافق مع نهايتها :وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(العنكبوت:69) , ذكل هذا إنما هو بيان لحقيقة الإسلام التي أصبحت غريبة كما بدأت غريبة.

قال السعدي في تفسيره: فإن أعظم الدين التوحيد ومن أجله أرسلت الرسل وأنزلت الكتب وعليه يحاسب الخلق وينقسمون إلى مهتد من أصحاب النعيم وضال من أصحاب الجحيم ولا يحصل التفرق في أمم الرسل إلا فيه ولقد بين الله تعالى أن التوحيد هو الدعوة التي بعث بها كل رسول إلى أمته فقال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (النحل:36), يخبر تعالى, أن حجته قامت على جميع الأمم, وانه ما من أمة متقدمة أو متأخرة, إلا وبعث الله فيها رسولا وكلهم متفقون على دعوة واحدة, ودين واحد, وهو: عبادة الله وحده لا شريك له " أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ". فانقسمت الأمم, بحسب استجابتها لدعوة الرسل وعدمها, قسمين.
" فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ " فاتبعوا المرسلين, علما, وعملا.
" وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ " متبع لسبيل الغي.
" فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ " بأبدانكم وقلوبكم " فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ " فإنكم سترون من ذلك, العجائب, فلا تجد مكذبا, إلا كان عاقبته الهلاك.أ.هـ .

وهذا الأصل العظيم إنما هو المعنى العملي لهذه الدعوة الربانية العظيمة والذي يترتب عليه أحكام الإيمان والضلال فمن كان ضالا في الدنيا فهو ضال في الآخرة لقوله تعالى: وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (الإسراء:72) ومن كان في هذه الدنيا مهتديا فله حكم الظاهر بالهداية والله أعلم بالمهتدين وهذه الدعوة هي قوله تعالى:لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً (الإسراء:22), وهو معنى قوله تعالى: وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ (النحل:51),وكذلك معنى قوله تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (الأعراف:65), فمدار هذه الدعوة العظيمة على أربع كلمات ركنها العمل:

- أعبدوا: وهي العمل من الخلق.

- الله : وهو المعبود بحق.

- اجتنبوا: وهو العمل من الخلق.

- الطاغوت: وهو المعبود من دون الله وكل معبود من دون الله فهو المعبود بالباطل.

وحقيقة التوحيد تتوقف على العلم بهذه المصطلحات الأربعة أعلاه والعمل بها والتي تشكل أركان كلمة التوحيد, وما حصل الخلل والتفرق إلا في تحديد مدلولات هذه المصطلحات, فإذا أردنا النجاة فلا بد من ضبط وتحديد المراد من هذه الألفاظ على مراد الله سبحانه وتعالى من خلال كتابه في آياته المحكمات الواضحات البينات لنحقق العلم بـ لا إله إلا الله كما أمر الله تعالى بقوله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (محمد:19).

أولا: العبـــادة

يعتبر مصطلح العبادة والذي يدور عليه رحى الدين وأساس الملة الإسلامية أكثر الأمور محاربة من قبل أعداء الله تعالى بدءا من إبليس الذي زين لأهل الابتداع الذين أرادوا التقرب إلى الله تعالى فضلوا السبيل وانتهاء باليهود والصليبيين الذين تيقنوا من أن قوة الإسلام وأهله إنما تقوم على فهم حقيقة الدين الذي ينطلق من وضوح مفاهيمه ومصطلحاته فأدخلوا التحريف فيه عبر مخطط محكم بدأ من مهاجمتها من الخارج بكسر قوتها العسكرية ثم أعملوا المباضع فيها من داخلها بأيدي حكامها وما يسمى بالعلماء الذين تربوا في أحضان الأنظمة التي ما وجدت إلا لاستكمال حلقة الحرب على هذا الدين لإطفاء نور الله تعالى والله متم نوره ولو كره الكافرون فالعبادة يدور معناها على ثلاثة أمور في كتاب الله تعالى سيتم بيانها بالتفصيل هي :

1- الدعــاء: دليل ذلك قوله تعالى: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً) (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً (49) مريم.

2- الحكـم :ودليل ذلك قوله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (يوسف:40), وقوله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (يوسف:67), وقوله تعالى: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (الكهف:26) مرادف لقوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (الكهف:110).

3- الـولاء: ودليل ذلك قوله تعالى :أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (الزمر:3).

وهذه الأمور الثلاثة عامة تشمل كل أفرادها المتعلقة بها والتي جاء قول الله تعالى فصلا بتحديدها فلا يحدد المراد منها إلا هو سبحانه كيف لا وهو الذي أمر بها لأن الدين يقوم على قاعدتين :

الأولى: الشعائر والتنسك، الأصل فيها التوقف أي لا يجوز التقرب إلى الله تعالى إلا بما ورد النص به لأننا لا نعلم ما يرضي ربنا إلا عن طريق وحيه.

الثانية: الأشياء- ما خلقه الله تعالى في هذا الكون وسخره للثقلين- الأصل فيها الإباحة إلا إذا ورد الدليل من الله تعالى على خلاف ذلك لأنه خالق البشر وخالق ما هو مسخر للبشر فله الحكم والأمر.

وهذه المظاهر الثلاثة للعبادة قد أحاط بها معنى العبادة بشكل معجز لأن قول الله تعالى معجز ومن إعجازه إحاطته بالمعاني والمدلولات وقد جاءت اللغة واشتملت عليها ولذلك سنقدم في دراستنا هذه المعاني اللغوية كمدخل للمعاني الربانية التي أرادها الله سبحانه وتعالى لنبرهن على أن أصل الإسلام الذي نزل به القرآن هو بحسب اللغة العربية وقواعدها ومعانيها :إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (الزخرف:3), وأن أحكامه عربية كذلك: وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ(الرعد:37), وأنه أنذر وبشر بلسان عربي: وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (الأحقاف:12), وأنه لم يأت مخالفا لما عهده العرب وألفوه من لغتهم:قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُون(الزمر:28), وأنه جاء مفصلا بحسب اللغة واضحا بينا لا يحتاج معها إلى غيرها أو ما يخرج عن مدلولاتها,والنتيجة أنه بلسان عربي واضح صريح قال تعالى: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ(الشعراء:195), وهذه الأمور الثلاثة – معاني العبادة - متداخلة مع بعضها البعض,وهذه الأمور الثلاثة – معاني العبادة -متداخلة مع بعضها البعض.

العبـادة في اللغة: وأَصل العُبودِيَّة الخُضوع والتذلُّل.وتَعَبَّدَ اللَّهُ العَبْدَ بالطاعة أَي استعبده, والتَّعَبُّدُ التَّنَسُّكُ والعِبادَةُ الطاعة, وقال الزجاج في قوله تعالى:إياك نعبد أي:نطيع الطاعة التي يخضع معها, وقيل إياك نوحد, ومعنى العبادة في اللغة الطاعة مع الخضوع.

قال الأَزهري غلط الليث في القراءة والتفسير ما قرأَ أَحد من قرَّاء الأَمصار وغيرهم وعَبُدَ الطاغوتُ برفع الطاغوت إِنما قرأَ حمزة وعَبُدَ الطاغوتِ وأَضافه قال والمعنى فيما يقال خَدَمُ الطاغوتِ قال وليس هذا بجمع لأَن فَعْلاً لا يُجْمَعُ على فَعُلٍ مثل حَذُرٍ ونَدُسٍ فيكون المعنى وخادِمَ الطاغوت.

وكلُّ من دانَ لملك فهو عابد له وقال ابن الأَنباري فلان عابد وهو الخاضع لربه المستسلم المُنْقاد لأَمره وقوله عز وجل: اعبدوا ربكم() أَي: أَطيعوا ربكم وعَبَّدَ الرجلُ أَسْرعَ وما عَبَدَك عَنِّي أَي:ما حَبَسَك, وعَبِدَ به لَزِمَه فلم يُفارِقْه أ.هـ لسان العرب3/273.

والعَبْدِيَّةُ والعُبودِيَّةُ والعُبودَةُ والعِبادَةُ : الطَّاعَةُ أ.هـ القاموس المحيط 1/378.

وقال آخَرُونَ : العُبُودَةُ : الرِّضا بما يَفْعَلُ الرَّبُّ والعِبَادَةُ : فِعْلُ ما يَرْضَى به الرَّبُّ, وأَما عَبَدَ الله فَمَصْدَرهُ : عِبَادَة وعُبُودة وعُبُودِيّة أَي أَطاعه.وفي اللسان: وعَبَد اللهَ يَعبُده عِبادَةً ومَعْبَداً : تَأَلَّه له .

والمُعَبَّدُ كمُعَظَّمٍ : المُذَلَّلُ من الطريق وغيره يقال: بَعِيرٌ مُعَبَّد أي مُذَلَّلٌ طريقٌ مُعَبَّدٌ أي مسْلُوكٌ مُذَلَّل.وقيل: هو الذي تَكثرُ فيه المُخْتَلِفةُ . قال الأزهريُّ:والمُعَبَّد: الطَّريقُ المُوطُوءُ. والمُعَبَّدُ: المُكَرَّمُ المُعَظَّم كأَنّه يُعَبَد ضِدٌّ قال حاتم: تَقُولُ أَلا تُبْقِي عليكَ فإِنَّني.. أَرى المالَ عِنْدَ المُمْسِكِينَ مُعَبَّدَا أي مُعَظَّماً مَخْدُوماً وبَعِيرٌ مُعَبَّدٌ: مُكَرَّمٌ أ.هـ تاج العروس1/2096-2101.

( تَعَبَّدْتُهُ ) دعوته إلى الطاعة أ.هـ المصباح المنير2/289.

العبادة فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيما لربه وقيل تعظيم الله وامتثال أوامره وقيل هي الأفعال الواقعة على نهاية ما يمكن من التذلل والخضوع المتجاوز لتذلل بعض العباد لبعض أ.هـ التعاريف 1/498.

ومعنى العبادة في اللغة العربية قبل حدوث المصطلحات الشرعية دقيق الدلالة وكلمات أئمة اللغة فيه خفيه والذي يستخلص منها أنها إظهار الخضوع للمعبود واعتقاد أنه يملك نفع العابد وضره ملكا ذاتيا مستمرا فالمعبود إله للعابد كما حكى الله قول فرعون (وقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ) أ.هـ التحرير والتنوير1/4159.

أقوال المفســـرين في العبادة

لقد ورد مصطلح العبادة عند المفسرين بمعان متعددة ومتنوعة تدل دلالة واضحة على شموليته وإحاطته بجميع مظاهره القائمة على الذل والخضوع اعتبارا على أصل دلالته اللغوية لأن مهمة الرسل من أول لحظة في دعوتهم لأقوامهم إنما هي تذكير الخلق بالحكمة من خلقهم وبيان حقيقة العبادة ومعناها ومظاهرها وصورها كلٌ بلسان قومه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(إبراهيم:4), وهذه المعاني هي:

1- التوحيد بأن يكون الخضوع لله وحده وطاعته وحده

روي عن مجاهد فيه أَنه يقول:إِن كان لله ولد في قولكم فأَنا أَوّل من عبد الله وحده وكذبكم بما تقولون قال الأَزهري وهذا واضح ومما يزيده وضوحاً أَن الله عز وجل قال لنبيِّه قل يا محمد للكفار إِن كان للرحمن ولد في زعمكم فأَنا أَوّل العابدين إِلهَ الخَلْق أَجمعين الذي لم يلد ولم يولد وأَوّل المُوَحِّدِين للرب الخاضعين المطيعين له وحده أ.هـ لسان العرب3/273.

وإنما اخترنا البيان عن تأويله بأنه بمعنى نخشع ونذل ونستكين دون البيان عنه بأنه بمعنى نرجو ونخاف وإن كان الرجاء والخوف لا يكونان إلا مع ذلة لأن العبودية عند جميع العرب أصلها الذلة وأنها تسمي الطريق المذلل الذي قد وطئته الأقدام وذللته السابلة : معبدا والشواهد على ذلك من أشعار العرب وكلامها أكثر من أن تحصى وفيما ذكرناه كفاية لمن وفق لفهمه إن شاء الله تعالى أ.هـ تفسير الطبري1/98.

2- الإسلام

{ونحن له مسلمون}ونحن له خاضعون بالعبودية والطاعة وقيل: منقادون لأمره ونهيه.أ.هـ تفسير الطبري 1/ 612, روح المعاني1/396.

فتأويل قوله : { إن الدين عند الله الإسلام } : إن الطاعة التي هي الطاعة عنده الطاعة له وإقرار الألسن والقلوب له بالعبودية والذلة وانقيادها له بالطاعة فيما أمر ونهى وتذللها له بذلك من غير استكبار عليه ولا انحراف عنه دون إشراك غيره من خلقه معه في العبودة والألوهة أ.هـ تفسير الطبري3/211.

3- القنـوت

القنوت في كلام العرب معان أحدها: الطاعة والآخر: القيام والثالث: الكف عن الكلام والإمساك عنه, وأولى معاني القنوت في قوله:{كل له قانتون}الطاعة والإقرار لله عز وجل بالعبودية.أ.هـ تفسير الطبري 1/554

{كل له قانتون} روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:كل قنوت في القرآن فهو طاعة, قال النحاس: مطيعون طاعة انقياد وقيل:قانتون مقرون بالعبودية وإما قالة وإما دلالة.أ.هـ تفسير القرطبي 14/ 18 .

والقانت : المطيع الخاضع : أي كل من في السموات والأرض مطيعون له خاضعون لعظمته خاشعون لجلاله والقنوت في أصل اللغة القيام قال الزجاج :فالخلق قانتون أي قائمون بالعبودية إما إقرارا وإما أن يكونوا على خلاف ذلك فأثر الصنعة بين عليهم وقيل:أصله الطاعة ومنه {والقانتين والقانتات}.أ.هـ فتح القدير1/207.

قانتون أي :مطيعون وقيل مقرون بالعبودية والقنوت على وجوه الطاعة والقيام في الصلاة والدعاء والصمت.أ.هـ التبيان تفسير غريب القرآن1/104.

ويقنت معناه : يطيع ويخضع بالعبودية قاله الشعبي وقتادة أ.هـ تفسير الثعالبي3/226.

4- الانقياد والطاعة والإتباع

{إن كنتم إياه تعبدون} يقول:إن كنتم منقادين لأمره سامعين مطيعين أ.هـ تفسير الطبري2/88.

{إلا آتي الرحمن عبدا} إلا وهو مملوك له يأوي إليه بالعبودية والانقياد أ.هـ تفسير البيضاوي1/36.

ونحن له مسلمون أي مذعنون مقرون بالعبودية وقيل: خاضعون منقادون مستسلمون لنهيه وأمره قولا وعقدا وقيل: داخلون في الإسلام ثابتون عليه أ.هـ روح المعاني1/391.

الاشتغال بالعبودية من أداء الأوامر واجتناب النواهي والتسليم في القدر أ.هـ روح المعاني7 /113.

أن الإسلام طوعا هو الانقياد والامتثال لما أمر الله تعالى من غير معارض أ.هـ روح المعاني3/214.

جوز أن يكون اسم الجلالة بدلا من( ربكم) في (وقال ربكم) اتبع ( ربكم) بالاسم العلم ليقضى بذلك حقان: حق استحقاقه أن يطاع بمقتضى الربوبية والعبودية وحق استحقاقه الطاعة لصفات كماله التي يجمعها اسم الذات, وعن مجاهد وزيد بن أسلم تفسير قوله (إلا ليعبدون) بمعنى:إلا لآمرهم وأنهاهم.أ.هـ التحرير والتنوير1/3772.

  1. الديـن

قال أبو جعفر : ومعنى {الدين} في هذا الموضع : الطاعة والذلة أ.هـ تفسير الطبري 3/211.

{إن هدى الله هو الهدى} يقول:إن طريق الله الذي بينه لنا وأوضحه وسبيله الذي أمرنا بلزومه ودينه الذي شرعه لنا فبينه هو الهدى والاستقامة التي لا شك فيها لا عبادة الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع فلا نترك الحق ونتبع الباطل{وأمرنا لنسلم لرب العالمين}يقول:وأمرنا ربنا ورب كل شيء تعالى وجهه لنسلم له لنخضع له بالذلة والطاعة والعبودية فنخلص ذلك له دون ما سواه من الأنداد والآلهة.أ.هـ تفسير الطبري5/231.

وانتصب(دينا) على التمييز, وإسلام الوجه كناية عن تمام الطاعة والاعتراف بالعبودية وهو أحسن الكنايات لأن الوجه أشرف الأعضاء وفيه ما كان به الإنسان إنسانا وفي القرآن (فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعني ) أ.هـ التحرير والتنوير1/1031

6- الإخبـات

وقوله{فله أسلموا} يقول: فلإلهكم فاخضعوا بالطاعة وله فذلوا بالإقرار بالعبودية وقوله:{وبشر المخبتين} يقول تعالى ذكره: وبشر يا محمد الخاضعين لله بالطاعة المذعنين له بالعبودية المنيبين إليه بالتوبة أ.هـ تفسير الطبري 9/150.

7- التشريع والحكم

نص سبحانه على أن التفريق بين الله ورسله كفر وإنما كان كفرا لأن الله سبحانه فرض على الناس أن يعبدوه بما شرع لهم على ألسنة الرسل فإذا جحدوا الرسل ردوا عليهم شرائعهم ولم يقبلوها منهم فكانوا ممتنعين التزام العبودية التي أمروا بالتزامها فكان كجحد الصانع سبحانه وجحد الصانع كفر لما فيه من ترك التزام الطاعة والعبودية وكذلك التفريق بين رسله في الإيمان بهم كفر أ.هـ تفسير القرطبي6/8.

وعلى الثاني يريد أن تلك الأحكام حدود حاجزة بين الألوهية والعبودية فالإله يحكم والعباد تنقاد فلا تقربوا الأحكام لئلا تكونوا مشركين بالله تعالى أ.هـ روح المعاني2/69.

8- التسخير

(فاتخذتموهم سخريا ) هزؤا وقرأ نافع وحمزة و الكسائي هنا وفي ( ص ) بالضم وهما مصدر سخر زيدت فيهما ياء النسب للمبالغة وعند الكوفيين المكسور بمعنى الهزء والمضموم من السخرة بمعنى الانقياد والعبودية أ.هـ تفسير البيضاوي1/170.

9- التنسك

{واسجد} أي صل لله {واقترب} أي تقرب إلى الله جل ثناؤه بالطاعة والعبادة أ.هـ تفسير القرطبي 20/118.

وفيما يلي كلاما جامعا في العبودية: وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً (النساء: 36).

فيه ثمان عشرة مسألة :الأولى - أجمع العلماء على أن هذه الآية من المحكم المتفق عليه ليس منها شيء منسوخ وكذلك هي في جميع الكتب ولو لم يكن كذلك لعرف ذلك من جهة العقل وإن لم ينزل به الكتاب وقد مضى معنى العبودية وهي التذلل والافتقار لمن له الحكم والاختيار فأمر الله تعالى عبادة بالتذلل له والإخلاص فيه فالآية أصل في خلوص الأعمال لله تعالى وتصفيتها من شوائب الرياء وغيره أ.هـ تفسير القرطبي 5/171

وقال الألوسي رحمه الله تعالى: وأما التعبد فأما من الحمد لله لأنه للتعليم فيقدر أمر يفيده والأمر الإيجابي يلزمه النهي عن الضد في الجملة ولا نرى فيه بأسا أو من أهدنا الصراط المستقيم إن أريد به ملة الإسلام أو من تقدير قولوا بسم الله ومن تأخير متعلقه وإما من إياك نعبد فإنه إخبار عن تخصيصه بالعبادة وهي التحقق بالعبودية بارتسام ما أمر السيد أو نهى أ.هـ روح المعاني1/35.

وقال الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى: عبد- العبودية : إظهار التذلل والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال وهو الله تعالى ولهذا قال : { ألا تعبدوا إلا إياه } [ الإسراء / 23 ]والعبادة ضربان:عبادة بالتسخير وهو كما ذكرناه في السجود ؛ وعبادة بالاختيار: وهي لذوي النطق وهي المأمور بها في نحو قوله : اعبدوا ربكم (البقرة:21), واعبدوا الله (النساء:36), والعبد يقال على أربعة أضرب :

الأول: عبد بحكم الشرع وهو الإنسان الذي يصح بيعه وابتياعه نحو:العبد بالعبد (البقرة:178), و:عبدا مملوكا لا يقدر على شيء (النحل:75)

الثاني:عبد بالإيجاد وذلك ليس إلا لله وإياه قصد بقوله:{إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا (مريم:93).

والثالث : عبد بالعبادة والخدمة والناس في هذا ضربان :

عبد لله مخلص وهو المقصود بقوله :واذكر عبدنا أيوب (ص:41),( إنه كان عبدا شكورا (الإسراء:3).( نزل الفرقان على عبده(الفرقان:1),(على عبده الكتاب (الكهف:1),(إن عبادي ليس لك عليهم سلطان (الحجر:42),(كونوا عبادا لي (آل عمران:79),( إلا عبادك منهم المخلصين (الحجر:40),(وعد الرحمن عباده بالغيب(مريم:61),( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا (الفرقان:63) فأسر بعبادي ليلا (الدخان:23),(فوجدا عبدا من عبادنا(الكهف:65).

وعبد للدنيا وأعراضها وهو المعتكف على خدمتها ومراعاتها وإياه قصد النبي عليه الصلاة والسلام بقوله : تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار ( أخرجه البخاري في كتاب الرقائق 7/ 175) وعلى هذا النحو يصح أن يقال : ليس كل إنسان عبد الله فإن العبد على هذا بمعنى العابد لكن العبد أبلغ من العابد والناس كلهم عباد الله بل الأشياء كلها كذلك لكن بعضها بالتسخير وبعضها بالاختيار وجمع العبد الذي هو مسترق : عبيد وقيل عبدي (في اللسان : ومن الجمع : عبدان وعبدان وعبدان) وجمع العبد الذي هو العابد عباد فالعبيد إذا أضيف إلى الله أعم من العباد , ولهذا قال :وما أنا بظلام للعبيد(ق:29), فنبه أنه لا يظلم من يختص بعبادته ومن انتسب إلى غيره من الذين تسموا بعبد الشمس وعبد اللات ونحو ذلك, ويقال : طريق معبد أي : مذلل بالوطء وبعير معبد: مذلل بالقطران وعبدت فلانا : إذا ذللته وإذا اتخذته عبدا.قال تعالى:أن عبدت بني إسرائيل (الشعراء:22 أ.هـ مفردات القرآن1/319. ولم يذكر الرابع إلا أن يكون تقسيمه للثالث على اعتبار أنهما اثنان والله أعلم.

تنبيه هام : إن العلماء عند ذكرهم لمعنى العبادة فيذكرون لفظ العبادة الصريح وبعض معانيه كالطاعة وغيرها لا يقصدون التغاير المضاد وإنما يقصدون اختلاف التنوع من باب عطف الخاص على العام وعطف العام على الخاص كما هو معهود الخطاب في الشرع واللغة وذكرهم لمصطلح العبادة يقصدون به أحد معنيي التوحيد : توحيد التأله وهو توحيد التوجه – القصد والطلب ( الشعائر والتنسك)- أما المعنى الآخر فهو توحيد الربوبية الذي هو توحيد مصدر التلقي , لأن التوحيد لا يتحقق إلا بهذين الأمرين بحيث يكون مصدر التلقي وهو الأمر والنهي والأحكام ظاهراً وباطنا من الله تعالى وحده والتوجه إلى الله تعالى وحده بالأفعال الظاهرة والباطنة من خلال هذه الأوامر والنواهي والأحكام فتكتمل الدائرة من الله تعالى وحده وعلى مراد الله وحده وإلى الله وحده وبهذا يتحقق التوحيد لأن معنى التوحيد إنما هو من التفرد والوحدانية بحيث يكون مصدر التلقي والتوجه واحدا وهذا معنى سورة الإخلاص.

معاني العبـادة ومظاهرها التفصيـلية

1-:الدعــاء فالدعاء هو الدين والعبادة وله ثلاثة معان وكيفيات في كتاب الله تعالى هي:

أ‌- التسمية بالأسماء الحسنى: قال تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (الأعراف:180),وهذا ما اصطلح عليه العلماء بتوحيد الأسماء والصفات ولذلك فكل من أسبغ على نفسه صفة من صفات الله تعالى أو نسب إلى نفسه أو إلى غيره ما اختص الله تعالى به نفسه فقد جعل مع الله إلها آخر سواء بالقول أو العمل.

ب‌- السؤال والاستغاثة قال تعالى: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء (آل عمران:38), وقال تعال: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(الأعراف:55),والآيات كثيرة.

ت‌- الطـاعة قال تعالى: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (الأعراف:56), وقوله تعالى: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا

دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً (الفرقان:77) , وقوله: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ(غافر:60), ومن معان الدعاء أيضا الأمر قال تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (النور:51), وسيأتي مزيد تفصيل للطاعة عند بحث الولاء إن شاء الله تعالى.

الدعـاء في اللغـة

( دعا ) قال الله تعالى وادْعوا شُهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين قال أَبو إسحق يقول ادْعوا من اسْتَدعَيتُم طاعتَه ورجَوْتم مَعونتَه في الإتيان بسورة مثله وقال الفراء وادعوا شهداءكم من دون الله يقول آلِهَتَكم يقول اسْتَغِيثوا بهم فالدعاء هاهنا بمعنى الاستغاثة وقد يكون الدُّعاءُ عِبادةً إن الذين تَدْعون من دون الله عِبادٌ أَمثالُكم وقال أَبو إسحق في قوله أُجِيبُ دعوة الدَّاعِ إذا دَعانِ معنى الدعاء لله على ثلاثة أَوجه:

فضربٌ منها: توحيدهُ والثناءُ عليه كقولك يا اللهُ لا إله إلا أَنت وكقولك ربَّنا لكَ الحمد.

والضرب الثاني: مسأَلة الله العفوَ والرحمة وما يُقَرِّب منه كقولك اللهم اغفر لنا.

والضرب الثالث:مسأَلة الحَظِّ من الدنيا كقولك اللهم ارزقني مالاً وولداً وإنما سمي هذا جميعه دعاء لأَن الإنسان يُصَدّر في هذه الأَشياء بقوله يا الله يا ربّ يا رحمنُ فلذلك سُمِّي دعاءً. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال الدُّعاءُ هو العِبادَة ثم قرأَ: وقال ربُّكم ادْعوني أَسْتَجِبْ لكم إنَّ الذين يسْتَكْبرون عن عِبادتي() وقال مجاهد في قوله:واصْبِرْ نفْسَكَ مع الذين يَدْعُون رَبَّهم بالغَداةِ والعَشِيّ() قال يُصَلُّونَ الصَّلَواتِ الخمسَ ورُوِي مثل ذلك عن سعيد بن المسيب في قوله: لن نَدْعُوَ من دونه إلهاً() أَي لن نَعْبُد إلهاً دُونَه وقال الله عز وجل: أَتَدْعُون بَعْلاً أَي أَتَعْبُدون رَبّاً سِوَى الله ..ز والدُّعاءُ الرَّغْبَةُ إلى الله عز وجل.ودَعا الرجلَ دَعْواً ودُعاءً ناداه والاسم الدعْوة ودَعَوْت فلاناً أَي صِحْت به واسْتَدْعَيْته وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُقدِّمُ الناسَ في أَعطِياتِهِم على سابِقتِهم فإذا انتهت الدَّعْوة إليه كَبَّر أَي النداءُ والتسميةُ وأَن يقال دونكَ يا أَميرَ المؤمنين,وقوله عز وجل أَنْ دَعَوْا للرحمن وَلَداً أَي جعَلوا وأَنشد بيت ابن أَحمر أَيضاً وقال أَي كنت أَجعل وأُسَمِّي أ.هـ لسان العرب14/257.

و (الدعاء) بالضم ممدودا (الرغبة إلى الله تعالى) فيما عنده من الخير والابتهال إليه بالسؤال ومنه قوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية ,(دعوته زيدا)ودعوته (بزيد) إذا سميته به, والاسم الدعوة والدعاوة ويكسران) الذي في المحكم والاسم الدعوى والدعوة وفى المصباح ادعيت الشئ طلبته لنفسي والاسم الدعوى, والدعوة بالفتح في الطعام اسم من دعوت الناس إذا طلبتهم ليأكلوا عندك يقال نحن في دعوة فلان ومثله في الصحاح(واندعى أجاب) قال الاخفش سمعت من العرب من يقول لو دعونا لاندعينا أي لأجبنا, والدعاء العبادة والاستغاثة,وما دعاك إلى هذا الأمر أي ما الذي جرك إليه واضطرك أ.هـ تاج العروس1/8381-8383, القاموس المحيط 1/1655,المصباح المنير1/194-195.

أقوال المفسرين في الدعـاء

قال ابن منظور رحمه الله: لأن الدعاء معناه العبادة هذا قول الزجاج أ.هـ لسان العرب14/235, وقال أيضا: لن ندعو من دونه إلها أي لن نعبد إلها دونه وقال الله عز وجل أتدعون بعلا أي: تعبدون ربا سوى الله وقال ولا تدع مع الله إلها آخر أي: لا تعبد أ.هـ لسان العرب 14/257-262.

قال الطبري رحمه الله : عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين فأخبر صلى الله عليه وسلم أن دعاء الله إنما هو عبادته أ.هـ التفسير 2/160-161.

وقال أيضا: وقوله: وقال ربكم ادعوني أستجيب لكم يقول تعالى ذكره ويقول ربكم أيها الناس لكم ادعوني يقول اعبدوني وأخلصوا لي العبادة دون من تعبدون من دون الأوثان والأصنام وغير ذلك أ.هـ التفسير24/78-79.

قال القرطبي رحمه الله : ومعنى تدعون تعبدون أ.هـ التفسير 7/204.وقال أيضا: فالدعاء بمعنى العبادة أ.هـ التفسير 2/208-212 .

قال ابن الجوزي رحمه الله: قوله تعالى أين ما كنتم تدعون أي: تعبدون من دون الله أ.هـ زاد المسير 3/ 194.

قال ابن تيمية رحمه الله : فلهذا كان هذا أقوى القولين أي ما يعبأ بكم لولا أنكم تدعونه فتعبدونه وتسألونه فقد كذبتم فسوف يكون لزاما أي عذاب لازم للمكذبين .أ.هـ دقائق التفسير 2/359.

وقال النسفي رحمه الله في تفسيره قولا جامعا نصه: وقال ربكم ادعوني: اعبدوني,استجب لكم :أثبكم فالدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن ويدل عليه قوله: إن الذين يستكبرون عن عبادتي .وقال عليه السلام:الدعاء هو العبادة وقرا هذه الآية صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس رضي الله عنهما: وحدوني اغفر لكم وهذا تفسير للدعاء بالعبادة ثم للعبادة بالتوحيد وقيل سلوني أعطكم أ.هـ التفسير4/78.

فهذا تفسير الله تعالى وتفسير رسوله عليه الصلاة والسلام وإجماع أهل العلم بالتفسير واللغة.

2- :الحكــــــم: والحكم هو الدين ويتعلق به ثلاثة أمور تشريع الأحكام والحكم بها والتحاكم إليها وهو ما دلت عليه اللغة وقرره علماء الأصول:

أ‌- تشريع الأحكام التكليفية والوضعية قال تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (المائدة :50) وقوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (الشورى:21) ,وقال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (الجاثية:18).

ب-‌ الحكم بالأحكام ( تكليفية أو وضعية)قال تعالى:وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (المائدة:49) , وقوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (المائدة:44).

ت‌- التحاكم إلى الأحكام: قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (النساء:60) وقوله تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً (النساء:65), فالتحاكم إلى غير الله تعالى وغير رسوله عليه الصلاة والسلام إيمان بالطاغوت وقد بينه سبحانه بأنه الضلال البعيد الذي هو عدم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً(النساء:136).

الحكـم في اللغة

حكم أصله: منع منعا لإصلاح ومنه سميت اللجام: حكمة الدابة فقيل: حكمته وحكمت الدابة: منعتها بالحكمة وأحكمتها: جعلت لها حكمة وكذلك:حكمت السفيه وأحكمته أ.هـ مفردات القرآن 1/347

  • [ حكم ] ح ك م : الحُكْمُ القضاء وقد حَكَم بينهم يحكم بالضم حُكْما و حَكَم له وحكم عليه والحُكْمُ أيضا الحكمة من العلم والحكِيمُ العالم وصاحب الحكمة والحكيم أيضا المتقن للأمور وقد حَكُم من باب ظرُف أي صار حكيما وأحكَمَهُ فاسْتَحْكَمَ أي صار مُحْكَما والحَكَمُ بفتحتين الحاكم وحَكَّمه في ماله تحكِيماً إذا جعل إليه الحكم فيه فاحْتَكَمَ عليه في ذلك واحتكموا إلى الحاكم وتَحَاكمُوا بمعنى والمُحاكَمَةُ المخاصمة إلى الحاكم وفي الحديث {إن الجنة للمحكمين} وهم قوم من أصحاب الأخدود حُكموا وخُيروا بين القتل والكفر فاختاروا الثبات على الإسلام مع القتل أ.هـ مختار الصحاح1/167.

الحكـم عند علماء الأصـول: وقوله أحكامنا مفعول المصدر جمع حكم وعرفوه بأنه القضايا والنسب التامة والأحكام المراد بها الخمسة:الوجوب والتحريم والندب والكراهة والإباحة وما يتعلق بها والتعريف فيها .أ.هـ إجابة السائل شرح بغية الآمل 1/25.

الحكم هو الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع فيتناول اقتضاء الوجود واقتضاء العدم إما مع الجزم أو مع جواز الترك فيدخل في هذا الواجب والمحظور والمندوب والمكروه وأما التخيير فهو الإباحة وأما الوضع فهو السبب والشرط والمانع فالأحكام التكليفية خمسة لأن الخطاب إما أن يكون جازما أو لا يكون جازما فإن كان جازما فإما أن يكون طلب الفعل وهو لإيجاب أو طلب الترك وهو التحريم وإن كان غير جازم فالطرفان إما أن يكونا على السوية وهو الإباحة أو يترجح جانب الوجود وهو الندب أو يترجح جانب الترك وهو الكراهة فكانت الأحكام ثمانية : خمسة تكليفية وثلاثة وضعية وتسمية الخمسة تكليفية تغليب إذ لا تكليف في الإباحة بل ولا في الندب والكراهة التنـزيهية عند الجمهور وسميت الثلاثة وضعية لأن الشارع وضعها علامات لأحكام تكليفية وجودا وانتفاء أ.هـ إرشاد الفحول1/10, والمراد بالاقتضاء الطلب فيشمل طلب الفعل إيجابا أو ندبا وطلب الترك تحريما أو كراهة والمراد بالتخيير الإباحة أ.هـ الإبهاج1/44.

والحكم هو إمضاء قضية في شيء ما وهو في الدين تحريم أو إيجاب أو إباحة مطلقة أو بكراهة أو باختيار أ.هـ الإحكام لابن حزم 1/49.

الحكم الشرعي:خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير وزاد ابن الحاجب فيه أو الوضع ليدخل جعل الشيء سببا أو شرطا أو مانعا كجعل الله تعالى زوال الشمس موجبا للظهر وجعله الطهارة شرطا لصحة الصلاة والنجاسة مانعة من صحتها فإن الجعل المذكور حكم شرعي لأنا إنما استفدناه من الشارع وليس فيه طلب ولا تخيير لأنه ليس من أفعالنا حتى يطلب منا أو نخير فيه أ.هـ التمهيد في تخريج الفروع على الأصول 1/48.

لعلك تقول أصول الفقه تشتمل على أبواب كثيرة وفصول منتشرة فكيف يندرج جملتها تحت هذه الأقطاب الأربعة فنقول القطب الأول هو الحكم وللحكم حقيقة في نفسه وانقسام وله تعلق بالحاكم وهو الشارع والمحكوم عليه وهو المكلف وبالمحكوم فيه وهو فعل المكلف وبالمظهر له وهو السبب والعلة ففي البحث عن حقيقة الحكم في نفسه يتبين أنه عبارة عن خطاب الشرع وليس وصفا للفعل ولا حسن ولا قبح ولا مدخل للعقل فيه ولا حكم قبل ورود الشرع وفي البحث عن أقسام الحكم يتبين حد الواجب والمحظور والمندوب والمباح والمكروه والقضاء والأداء والصحة والفساد والعزيمة والرخصة وغير ذلك من أقسام الأحكام وفي البحث عن الحاكم يتبين أن لا حكم إلا لله وأنه لا حكم للرسول ولا للسيد على العبد ولا لمخلوق على مخلوق بل كل ذلك حكم الله تعالى ووضعه لا حكم لغيره وفي البحث عن المحكوم عليه يتبين خطاب الناسي والمكره والصبي وخطاب الكافر بفروع الشرع وخطاب السكران ومن يجوز تكليفه ومن لا يجوز وفي البحث عن المحكوم فيه يتبين أن الخطاب يتعلق بالأفعال لا بالأعيان وأنه ليس وصفا للأفعال في ذواتها وفي البحث عن مظهر الحكم يتبين حقيقة السبب والعلة والشرط والمحل والعلامة فيتناول هذا القطب جملة من تفاريق فصول الأصول أوردها الأصوليون مبددة في مواضع شتى لا تتناسب ولا تجمعها رابطة فلا يهتدي الطالب إلى مقاصدها ووجه الحاجة إلى معرفتها وكيفية تعلقها بأصول الفقه أ.هـ المستصفى1/8.

وفيما يلي تفصيل شامل لمعاني الحكـم الثلاثـة:

أ‌- تشريع الأحكام التكليفية والوضعية قال تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (المائدة :50) وقوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (الشورى:21) , وقال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (الجاثية:18).

أقوال المفسـرين وأهل العلـم

ولكنا أنشأنا قرونا أي:ولكنا خلقنا بين زمانك وزمان موسى قرونا كثيرة فتطاول عليهم العمر وتمادى الأمد فتغيرت الشرائع والأحكام وعميت عليهم الأنباء لا سيما على آخرهم فاقتضى الحال التشريع الجديد فأوحينا إليك ..وقوله تعالى ليدبروا آياته, متعلق بـ أنزلناه أي: أنزلناه ليتفكروا في آياته التي من جملتها هذه الآيات المعربة عن أسرار التكوين والتشريع فيعرفوا ما يدبر ظاهرها من المعاني الفائقة والتأويلات اللائقة أ.هـ تفسير أبي السعود 7 /225.

وقوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم أي: في التشريع بالأمر والنهى..وقول السائل ما قاله في عمره أو بعد النبوة أو تشريعا فكل ما قاله بعد النبوة واقر عليه ولم ينسخ فهو تشريع أ. هـ الفتاوى7/232, 18/11.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الأقضية والأنكحة والبيوع: وليس الغرض من ذلك ذكر التشريع العام وإن كانت أقضيته الخاصة تشريعا عاما وإنما الغرض ذكر هديه في الحكومات الجزئية التي فصل بها بين الخصوم وكيف كان هديه في الحكم بين الناس أ.هـ زاد المعاد 5/5

والذي قال لنا وما آتاكم الرسول فخذوه هو الذي شرع لنا هذه الزيادة على لسانه والله سبحانه ولاه منصب التشريع عنه ابتداء كما ولاه منصب البيان لما أراده بكلامه كله بل كلامه كله بيان عن الله والزيادة بجميع وجوهها لا تخرج عن البيان بوجه من الوجوه بل كان السلف الصالح الطيب إذا سمعوا الحديث عنه وجدوا تصديقه في القرآن ولم يقل أحد منهم قط في حديث واحد أبدا إن هذا زيادة على القرآن فلا نقبله ولا نسمعه ولا نعمل به ورسول الله صلى الله عليه وسلم - أجل في صدورهم وسنته أعظم عندهم من ذلك وأكبر أ.هـ إعلام الموقعين2/313.

الثالث( من مقاصد القرآن): التشريع وهو الأحكام خاصة وعامة. قال تعالى: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله () ولقد جمع القرآن جميع الأحكام جمعا كليا في الغالب وجزئيا في المهم فقوله ( تبيانا لكل شيء ) وقوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) المراد بهما إكمال الكليات التي منها الأمر بالاستنباط والقياس . قال الشاطبي لأنه على اختصاره جامع والشريعة تمت بتمامه ولا يكون جامعا لتمام الدين إلا والمجموع فيه أمور كلية...

هذا وإن القرآن كتاب جاء لهدي أمة والتشريع لها وهذا الهدي قد يكون واردا قبل الحاجة وقد يكون مخاطبا به قوم على وجه الزجر أو الثناء أو غيرهما وقد يكون مخاطبا به جميع من يصلح لخطابه وهو في جميع ذلك قد جاء بكليات تشريعية وتهذيبية والحكمة في ذلك أن يكون وعى الأمة لدينها سهلا عليها وليمكن تواتر الدين وليكون لعلماء الأمة مزية الاستنباط وإلا فإن الله قادر أن يجعل القرآن أضعاف هذا المنـزل وأن يطيل عمر النبي صلى الله عليه وسلم للتشريع أكثر مما أطال عمر إبراهيم وموسى ولذلك قال تعالى ( وأتممت عليكم نعمتي ) فكما لا يجوز حمل كلماته على خصوصيات جزئية لأن ذلك يبطل مراد الله كذلك لا يجوز تعميم ما قصد منه الخصوص ولا إطلاق ما قصد منه التقييد ؛ لأن ذلك قد يفضي إلى التخليط في المراد أو إلى إبطاله من أصله وقد اغتر بعض الفرق بذلك . قال ابن سيرين في الخوارج : إنهم عمدوا إلى آيات الوعيد النازلة في المشركين فوضعوها على المسلمين فجاءوا ببدعة القول بالتكفير بالذنب وقد قال الحرورية لعلي رضي الله عنه يوم التحكيم ( إن الحكم إلا لله ) فقال علي " كلمة حق أريد بها باطل " وفسرها في خطبة له في نهج البلاغة وثمة فائدة أخرى عظيمة لأسباب النـزول وهي أن في نزول القرآن عند حدوث حوادث دلالة على إعجازه من ناحية الارتجال وهي إحدى طريقتين لبلغاء العرب في أقوالهم فنـزوله على حوادث يقطع دعوى من ادعوا أنه أساطير الأولين ...إن القرآن هو المعجزة المستمرة على تعاقب السنين لأنه قد يدرك إعجازه العقلاء من غير الأمة العربية بواسطة ترجمة معانيه التشريعية والحكمية والعلمية والأخلاقية وهو دليل تفصيلي لأهل تلك المعاني وإجمالي لمن تبلغه شهادتهم بذلك .. وأن تكاليف الله للعباد على ألسنة الرسل ما أراد بها إلا صلاحهم العاجل والآجل وحصول الكمال النفساني لذلك الصلاح فلا جرم أن الله أراد من الشرائع كمال الإنسان وضبط نظامه الاجتماعي في مختلف عصوره. وتلك حكمة إنشائه فاستتبع قوله ( إلا ليعبدون ) أنه ما خلقهم إلا لينتظم أمرهم بوقوفهم عند حدود التكاليف التشريعية من الأوامر والنواهي فعبادة الإنسان ربه لا تخرج عن كونها محققة للمقصد من خلقه وعلة لحصوله عادة أ.هـ التحرير والتنوير1/4160,59,26,19

ب-‌ الحكـم بالأحكام ( تكليفية ووضعية): وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (المائدة:49) , وقوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (المائدة:44).

وفيما يلي تفصيـل لمسألة الحكـم .

إن مسألة الحكم والحكام قد انتشرت فيها المؤلفات والخطب والمحاضرات التي لا تشفي عليلا ولا تروي غليلا تباينت الأقوال فيها بين إفراط وتفريط ومن ذلك خطبة قد جاءت بعجائب ومخالفات للنصوص وقواعد الأصول الشرعية تمثل ما استقر في عقول وقلوب فئة كبيرة من الناس ممن ينتسبون إلى الإسلام بما يتعلق بمسائل الحكم من حيث الاعتقاد والعمل فكان لزاما تبيين ذلك ذبا عن دين الله تعالى وإعادة الأمور إلى نصابها وتوضيح الأمور عسى الله تعالى أن يهدي من ضل عن جادة الصواب وقد اخترت معالجة هذه القضية العظيمة من خلال مناقشة ما ورد في هذه الخطبة كونها استوعبت ما لم يستوعبه غيرها من الخلل والانحراف والتحريف والتي حاءت .

التشابه والإحكام في آية الحكم
- قوله: فإني أركز كلامي على مسألة من هذه المسائل قد اشتبهت على كثير من الناس، وهي مسألة الحكم بغير ما أنزل الله تبارك وتعالى، الحكم بالدساتير والقوانين الوضعية أ.هـ

أقول:

1- إنه يقرر هنا بأنها من المتشابهات على الناس أي: مسألة الحكم بالقوانين الوضعية التي هي غير ما أنزل الله تعالى ومعلوم أن الحكم بغير ما أنزل الله تعالى لم يحدث في حياة الرسول عليه السلام ولا في حياة الخلفاء الراشدين من بعده فهذا أمر حادث والرسول عليه السلام يقول: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (رواه الشيخان وأهل الآثار) وفي رواية: ومن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وفي رواية: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد.أ.هـ وعن العرباض بن سارية قال :وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال رجل : إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا يا رسول الله ؟ قال:أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبد حبشي فإنه من يعش منكم يرى اختلافا كثيرا وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ أ.هـ( رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وغيرهم), فالحكم بغير ما أنزل الله تعالى أمر مردود غير مقبول لا نعض عليه بالنواجذ بل نتركه ولا نتمسك به.

2- لم يبين ما هي حقيقة التشابه الموجود في هذه المسألة ليبني عليه أحكامه وكلامه ليكون هاديا فهو قد استدل بحديث: لئن يهدي الله بك رجلا واحدا أحب إليك من حمر النعم () ومعلوم أن الهداية تكون لأمر شرعي غير مردود مع أن الهداية المقصودة في الحديث هي الهداية إلى الإسلام.كما أن التشابه لا يكون في الأحكام وإنما يكون في الأمر والفعل المتعلق به الحكم فقد لا يعلم الإنسان حقيقة أمر ما فيظنه بكيفية معينة ويكون الحق في كيفية أخرى أما الحكم فلا تشابه فيه لكن قد يجهله الإنسان وهذا بحق من دخل الإسلام ورضي به دينا مثال ذلك: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (البقرة:278), فهذه الآية تشتمل على أمرين:

الأول: حكم وهو التحريم المستفاد من النهي ( وذروا).

الثاني: الشيء المحرم وهو الربا.

فإذا ورد هذا النص على شخص ما فإنه يتيقن من أن الربا منهي عنه أي: محرم، ولا يشتبه عليه هذا الحكم لأن الأحكام صريحة واضحة منصوص عليها لا لبس فيها أما الربا فقد يشتبه عليه من حيث عدم معرفة معناه وكيفيته وقد يعلم معناه ولا يعلم كيفيته وهكذا فلم يبين هذا التشابه المزعوم .

3- بما انه قرر أن هذا التشابه متعلق بفتنة التكفير والمتعلقة بالحكم بغير ما أنزل الله تعالى فهو يقصد ولا شك تكفير الحاكم بغير ما أنزل الله تعالى وعليهفالمقصود هو قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (المائدة :44),وهذه الآية تتضمن أمرين لا ثالث لهما:

الأول:الفعل وهو(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ), وهو متعلق بأشخاص مكلفين سواء كان هذا الحكم قوانين وضعية بالشكل المتعارف عليه أو أي شكل آخر فالعبرة انه غير ما أنزل الله تعالى.

الثاني: حكم الله تعالى بالكفر على من لم يحكم بما انزل الله تعالى بقوله: فأولئك هم الكافرون().

والسؤال هنا:هل التشابه في قوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله (), أم في قوله: فأولئك هم الكافرون() أم في الأمرين معا؟ وما المقصود بالتشابه وكيفيته ؟ هذا هو أصل المسألة التي لم يتطرق إليها بحال. فحكم الكفر في الآية واضح بين صريح : فأولئك هم الكافرون() وهذا قول الله تعالى وحكمه لا يمكن لأحد مهما كان أن يغيره فلا تشابه فيه.

وأما قوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله () فهو مناط حكم الله تعالى وهو أيضا واضح بين صريح، فالله تعالى حكم على أمور سواء حكما تكليفيا أو حكما وضعيا فإذا تحقق في قضية ما، ما يثبت فيها حكما تكليفيا أو وضعيا ولم يحكم فيه الذي أسند إليه الحكم فيها بحكم الله تعالى وحكم فيها بغير ما أنزل الله فيتحقق فيه حكم الله تعالى بأنه كافر ( فأولئك هم الكافرون) فهذا أمر واضح بين صريح قطعي الثبوت والدلالة. فما هو إذن التشابه وأين هو وكيف يزال هذا التشابه المزعوم؟وهل يزال بغير قول الله تعالى وقول رسوله عليه السلام؟!قطعا وجزما لا فلا يوجد متشابه إلا عند أهل الزيغ والضلال.

حالات الحكـم بغير ما أنزل الله
قوله: قال تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (المائدة :44), وقال عز وجل: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (المائدة:45), وقال: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (المائدة: 47) فالحكم بغير ما أنزل الله له أربعة أحوال:
الأول:أن يحكم بغير ما أنزل الله معتقدا أن الأحكام الوضعية أفضل من حكم الله عز وجل، فهذا كافر خارج من ملة الإسلام.
الثاني:أن يحكم بغير ما أنزل الله معتقدا أن الأحكام الوضعية وحكم الله متساويان في الفضيلة، فهذا كافر خارج من ملة الإسلام.
الثالث:أن يحكم بغير ما أنزل الله معتقدا أن الحكم السماوي أفضل من الأحكام الوضعية لكنه يعتقد أن الحكم السماوي لا يصلح لهذا الزمان، فهذا أيضا كافر خارج من ملة الإسلام.
الرابع:أن يحكم بغير ما أنزل الله معتقدا أن الحكم السماوي هو الأفضل والأصلح، لكنه لهواه وعصيانه أو لظلمه وفسقه أو لإكراهه؛ حكم بغير ما انزل الله، فهذا لا يخرج من ملة الإسلام، بل هو عاص كبقية العصاة من المسلمين، وهذه هي التي خالف فيها الخوارج أ.هـ

أقول:

1- هل هذا القول بناءً على أدلة شرعية وفهم صحيح لها أم من عنده ؟ فان كان من عنده فكلامه باطل ولا يعول عليه وإن كان من أدلة شرعية فيجب عليه أن يبينها أي: أن يكون هناك نص على ما قاله وهذا لا يوجد حقيقة وإنما قوله بناءً على فهم ويلزم من ذلك أن يبين كيفية هذا الفهم. وفهم النصوص الشرعية له تكييف شرعي محدد إما مفهوم موافقة أو مفهوم مخالفة وهذا كله دلالة مفهوم ولكن النصوص الشرعية لا تقتصر على هذا النوع من الدلالة فهناك دلالة المنطوق وهو النص والظاهر.

2- كلامه كله متعلق بالاعتقاد الذي لم يبين كيفيته ( أعني الاعتقاد) فهو يقول: إن حكم بغير ما انزل الله تعالى معتقدا انه أفضل أو مساو لحكم الله أو أن حكم الله تعالى لا يصلح فهذا يكفر كفرا اكبر مخرجا من الملة، مع أن قوله تعالى متعلق بفعل الحكم وليس بالاعتقاد فمن اعتقد أن الحكم بغير ما أنزل الله أفضل من حكم الله أو أنه مساو له فقد كفر سواء حكم أم لم يحكم وكذلك من اعتقد أن حكم الله لا يصلح كفر بمجرد الاعتقاد.

فالسؤال: أين مناط الآية وهو: ومن لم يحكم بما أنزل الله, الذي هو منطوقها, أي:الفعل الذي هو نص الآية وظاهرها والذي حكم الله تعالى على فاعله بأنه كافر؟ فتركَ الشيء المنصوص عليه الذي هو مناط الحكم ولم يجعل له اعتبار وهو الفعل المجرد عن الاعتقاد، علما بأن المناط الذي جعله للآية هو من باب مفهوم الموافقة وهو: المسكوت عنه أولى بالمنطوق, فالاعتقاد أولى بالحكم من الفعل الذي هو عدم الحكم بما أنزل الله مع ثبوت الحكم للمنصوص عليه وهو عدم الحكم بما أنزل الله، وقوله تعالى نص على كفر من لم يحكم بما أنزل الله فمجرد عدم الحكم بما أنزل الله حكمه الكفر فمن باب أولى أن يكفر من حكم بغير حكم الله تعالى وأولى منهما من اعتقده ولكن غره كما غر غيره عدم ذكر العلماء صورة من حكم بغير حكم الله تعالى مع اعتقاده أن حكم الله أفضل وهذا القسم أشد كفرا لأنه أولى بالكفر من غيره إذ لا مسوغ له للحكم بغير حكم الله تعالى ولم يذكره العلماء لأن هذا كفره معلوم اضطرارا.

3 - أما الحالة الرابعة فقد وقع من خلالها في عدة مصائب:

الأولى: أنه جعلها في الاعتقاد أيضا ومعلوم أن النص يتكلم عن فعل الحكم.

الثانية: أنه اخرج حالة من عموم النص بغير دليل.

الثالثة: أنه جعل الإكراه والهوى متساويان ولم يفرق بينهما.

الرابعة: أنه جعل الإكراه متعلق بالحاكم ولم يبين كيفيته.

الخامسة: لم يبين كيفية الحكم هوىً وعصيانا ودليله على ذلك.

فالله تعالى يقول: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (المائدة :44), وهو يقول: من حكم بغير ما انزل الله معتقدا أن حكمه أفضل من حكم الله أو مساو له أو أن حكم الله لا يصلح فهو كافر خارج من الملة لكن من حكم بغير ما أنزل الله معتقدا أن حكم الله أفضل ولكن من اجل ثمن قليل فهذا لا يكفر ؟ والله تعالى يقول: وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (المائدة :44), فما جعله الله تعالى وهو الثمن القليل- لأي سبب كان- سببا للحكم بغير ما انزل الله ورتب عليه حكم الكفر المخرج من الملة جاء هو ومن على شاكلته وقالوا بأنه ليس كفر.

مصطلح الكفـر حقيقتـه ومعناه الشرعي

- قوله: وهنا أيضا مسألة أخرى مهمة؛ ألا وهي أنه في النصوص الشرعية جاء الكفر على نوعين: كفر أكبر مخرج من الملة، و كفر أصغر غير مخرج من الملة أ.هـ

أقول:

1- من المعلوم أن النصوص الشرعية هي قول الله تعالى وقول رسوله عليه السلام.

2- إن التعامل مع النصوص الشرعية تكون بردها إلى الأصول المحكمات والأصل في الكلام الحقيقة الشرعية ولا يتم صرفها عن حقيقتها إلا بقرائن من الأدلة الواضحة, ومعلوم أن لفظ الكفر الأصل فيه المعنى الشرعي وهو نقض الإيمان المخرج من الملة ولا يصار إلى صرفه عن هذه الحقيقة إلا بدليل,كذلك فان التعامل مع الخطاب الشرعي يكون بحسب معهود المتكلم فمصطلح الكفر ورد في قول الله تعالى وقول رسوله عليه الصلاة والسلام فما هو حقيقة ورود هذا اللفظ في كلا الخطابين؟, ومن الخطأ المستبين والتحريف للدين أن نجعل كلام الله تعالى مبينا لكلام رسوله فإن الله تعالى أنزل الكتاب على رسوله وجعل رسوله مبينا لهذا الكتاب قال تعالى: بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (النحل:44),وهذا أحد مسالك أهل الضلال بتحريف الدين فقول الله مثلا: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ(),لا نستدل على معناه بنصوص تتعلق بمسائل أخرى من قول الرسول عليه السلام وإنما يجب أن يكون البيان لنفس النص بمعنى أن هذا نص في الحكم فيجب بيانه من خلال نصوص تتعلق بالحكم سواء للألفاظ أو الأحكام إذ أن مسألتنا هي في كفر من لم يحكم بما أنزل الله هل هو أكبر أم أصغر ؟ وليست مسألتنا هل ورد معنى الكفر في كلام الرسول عليه السلام بمعنى الكفر الأصغر أم لا ؟ وعليه فإن لفظ الكفر بجميع تصريفاته اللغوية ورد في كتاب الله تعالى في أكثر من 428 آية وهو ما يقارب الألف لفظ ولم يرد أي لفظ من هذه الألفاظ بمعنى الكفر الأصغر لا بقرائن ذاتية ولا خارجية إلا لفظ واحد وهو قوله تعالى: ُيعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ(الفتح:29), حيث ورد عن بعض العلماء تفسير كلمة الكفار بالزراع والأكثر على أن الراجح في معناها هو المعنى الشرعي وهو نقض الإيمان (الكفر الأكبر) وعلى فرض أن معناها الزراع فهذا خارج مسألتنا, فمعهود الخطاب للفظ الكفر في كلام الله تعالى أنه الكفر الأكبر ولم يرد قرائن تصرفه عن ذلك في أي نص ومن أدعى غير ذلك فليأتنا بسلطان مبين وإلا فقد افترى على الله تعالى الكذب وهو من المحرفين للدين.

أما قول الرسول عليه السلام فقد ورد فيه لفظ الكفر أيضا بتصريفات مختلفة ويجب أن ترد إلى المعنى الوارد في كلام الله تعالى وأن لا يصرف عن ذلك إلا بقرائن وهنا أصل وقاعدة ثابتة مجمع عليها لا يخالف فيها إلا ضال خرج عن دين الإسلام وهي أن الذي يصرف حكم الكفر في الخطاب الشرعي عن الأكبر المخرج من الملة إلى الأصغر غير المخرج من الملة هو نص شرعي من قول الله تعالى أو قول رسول الله عليه السلام فقط لا غير سواء نص صريح أو قرينة ذاتية أو خارجية أما غير ذلك فلا نقبل منه أيا كان سواء كان صحابيا كبيرا أو صغيرا مشهورا بالعلم أو غير مشهور-وحاشاهم أن يفعلوا ذلك- فكيف بمن دونهم.

- قوله: وإن شئت فقل: كفر اعتقادي وكفر عملي لا يضاد الإيمان، فالكفر الأكبر أو الكفر الاعتقادي يكفر صاحبه ويخرجه من ملة الإسلام، والكفر العملي الذي لا يضاد الإيمان أو الكفر الأصغر لا يكفر صاحبه إلا إذا اعتقد حل فعل ذلك العمل المحرم فينتقل من الكفر العملي إلى الكفر الاعتقادي الذي يكفر به كفرا أكبر مخرجا من الملة. أ.هـ

أقول:1- كلامه هنا يدل على أنه حاطب ليل لا يدري ما يقول ونسألهم أين الدليل على هذا التقسيم؟.

2- أنه جعل الكفر المخرج من الملة مقيدا بالاعتقاد فقط وأن الكفر العملي لا يخرج من الملة ونريد منه ومن يقول بقوله أن يجيبونا على الأفعال التي حكم الله تعالى عليها أنها كفر أكبر مخرج من الملة من ذلك قوله تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ(65)لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ(66,التوبة), فالله تعالى قد حكم عليهم بالكفر المخرج من الملة لمجرد الاستهزاء المجرد عن الاعتقاد.
وكذلك قوله تعالىَّ: لقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ (7, المائدة), فهؤلاء قد كفروا لمجرد القول.وكذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ (74:التوبة), فهنا أيضا كفروا لمجرد قولهم كلمة الكفر.وكذلك أجمعت الأمة على أن من سب الله أو سب رسوله فقد كفر بمجرد السب وكذلك من داس المصحف لمجرد الفعل يكفر والأمثلة كثيرة على ذلك.وكذلك ماذا يقول في قوله تعالى:لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً (الإسراء:22), ومعلوم أن كلمة تجعل تعني العموم سواء أن يجعل بباطنه أو ظاهره قولا وعملا ولا يمكن أن يكون بالاعتقاد وهنا يرد سؤال هل يعلم هو ومن يقول بقوله كيف يجعل الإنسان بقوله وعمله وقلبه إلها مع الله فإذا كان فليقولوا لنا كيف؟

وكذلك ماذا يقول بقوله تعالى: وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ (النحل:51), ومعلوم أن الاتخاذ يكون قولا وعملا ظاهرا وباطنا فليقولوا لنا كيف يتخذ الإنسان الهين اثنين أو أكثر؟, ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب .

وخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث بلال بن الحارث المزني قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه أ.هـ

فإن قالوا أن هذه تدل على الإعتقاد ’ قلنا لهم فأنتم جهمية وكيف عرفتم أنها تدل على الاعتقاد ؟ ونقول له ولمن يقول بقوله: هل الشرك فقط في الاعتقاد الذي هو استحلال المحرم؟ فأين النص الذي يبين هذا والقرآن ما نزل والرسول ما أُرسل إلا لبيان الشرك والنهي عنه ؟: ُقلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (النمل:64).

3- أنه قيد الكفر الأكبر بتحريم ما أحل الله تعالى ومعلوم أن الشرع قد قرر أن المحرمات على نوعين: مكفرات وغير مكفرات. فالمكفرات لمجرد فعلها يكفر فاعلها أما غير المكفرات فلا يكفر فاعلها إلا باستحلالها. فهل السجود للصنم كشرب الخمر؟ وهل الطواف بالقبر كالسرقة؟ وهل سب الله تعالى كالربا؟ وهل قتل النبي كالنميمة؟ وهل تحريف كتاب الله تعالى كسب المسلم؟ إلى غير ذلك.

- قوله: ومثال الكفر العملي، قول النبي:( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) فهل هذا كفر يخرج من دين الإسلام ؟,الجواب:لا، يعني لو أنك تقاتلت مع أخيك فهل تكفر كفرا أكبر ؟ الجواب: لا، هذا يسمى كفرا أصغر؛ لا يخرج من ملة الإسـلام,وهكذا, فمن استحل قتال المسلم واعتقد حل ذلك فهذا كفره كفرٌ اعتقاديٌ، وحينئذ يخرج من الملة.وهكذا...إذاً؛ فالمعاصي قد يطلق عليها كفر أصغر أو كفر عملي، والكفر الأصغر لا يخرج من ملة الإسلام، وعقيدة أهل السنة والجماعة في الكبائر أنهم لا يكفرون بالمعاصي والكبائر، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، ولا تفارقه صفة الإيمان، والذين يكفرون بالمعاصي هم الخوارج، وكذا المعتزلة في الآخرة لمن مات على كبيرة ولم يتب منـها.أ.هـ

أقول:

1- كيف عرف أن قتال المسلم غير مخرج من الملة هل من نفس النص أم من نص آخر وهل كل قتال للمسلم غير كفر؟ فمثلا قتال المشركين للمسلمين في غزوة بدر وقتال المرتدين للصحابة أليس كفرا ؟

إنه يقرر أن أهل السنة والجماعة لا يكفرون بالمعاصي والكبائر فهل يا ترى الكفر ليس من الكبائر, فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ) ثلاثا قالوا: بلى يا رسول الله , قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين - وجلس وكان متكئا فقال - ألا وقول الزور. قال:فما زال يكررها حتى قلنا ليته يسكت أ.هـ (رواه الشيخان), فهل من فعل الشرك لا يكفره أهل السنة والجماعة ؟ سبحان الله!! .

3- إن الكبائر تنقسم إلى قسمين كبائر مكفرة وكبائر غير مكفرة فكيف نميز بينها ؟,علما بأن الله تعالى قد حكم على الكفار بالكفر بناء على العمل بنص واضح صريح وليس بموجب الاستحلال أو الإعتقاد القلبي بقوله :هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (الأعراف:53), وقوله تعالى:وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْصَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ) (فاطر:37), وقوله تعالى: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (المطففين:36), فأين الكفر الاعتقادي يا معشر المحرفين للدين أحفاد جهم؟.

فبعد هذا أليس هم من يحرفون الدين ويقولون على الله تعالى بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير ويصدق عليهم قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9 ) سورة الحج.

مصطلح الكفر عموما وفي الحكم خصوصا عند الصحابة رضي الله عنهم

أما ما ينسبه للصحابة والعلماء من بعدهم فقد ثبت خلافه عنهم رضي الله عنهم فإنهم قد حكموا على من حكم بغير ما أنزل الله أنه كافر كفرا أكبرا مخرجا من الملة روى ذلك البيهقي وابن جرير والهيثمي والطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وما أدراك ما ابن مسعود فهو من أعلم الصحابة بكتاب الله عز وجل بعد الخلفاء الراشدين شهد لنفسه بذلك وأقره الصحابة ففي خطبة له قال : والله لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة والله لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم قال شقيق فجلست في الحلق أسمع ما يقولون فما سمعت رادا ذلك () .أ.هـ رواه البخاري رحمه الله في صحيحه.

وعن مسروق قال: قال عبد الله رضي الله عنه: والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيما أنزلت ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه. أ.هـ رواه الشيخان.

وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه ممن أمرنا الرسول عليه السلام بأخذ القرآن عنه قراءةً وتفسيرا فعن مسروق: ذكر عبد الله بن عمرو عبد الله بن مسعود فقال لا أزال أحبه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : خذوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود وسالم ومعاذ وأبي بن كعب أ.هـ (صحيح البخاري) , فلو صح ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه وثبت عن عبد الله بن مسعود خلافه فالقول قول ابن مسعود رضي الله عنه, قال ابن كثير رحمه الله تعالى: إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المهتدين المهديين وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أ.هـ تفسير ابن كثير1/4.

فعن مسروق قال: سألت عبد الله يعني بن مسعود عن السحت فقال: الرشا وسألته عن الجور في الحكم فقال ذلك الكفر.وفي رواية أخرى: قال: سئل عبد الله عن السحت فقال: هي الرشا فقال: في الحكم فقال: عبد الله ذلك الكفر وتلا هذه الآية ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.وفي رواية أخرى ,قال: سألت بن مسعود عن السحت أهو رشوة في الحكم قال: لا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون ولكن السحت أن يستعينك رجل على مظلمة فيهدي لك فتقبله فذلك السحت أ.هـ سنن البيهقي 10/139, وهذه أسانيد منها الحسن ومنها الصحيح.

وعن ابن مسعود قال: الرشوة في الحكم كفر وهو بين الناس سحت. رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح مجمع الزوائد4/198.

عن مسروق قال سألت ابن مسعود عن السحت أهو الرشا في الحكم فقال: لا من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر, وفي رواية أخرى: : سألت ابن مسعود عن السحت قال: الرشا فقلت في الحكم قال: ذاك الكفر..أ.هـ تفسير الطبري 6/240.

وقال ابن جرير الطبري رحمه الله: وأما قوله : وأكلهم السحت(), فإنه يعني به الرشوة التي كانوا يأخذونها على حكمهم بغير كتاب الله لمن حكموا له به أ.هـ تفسير الطبري 6/298.

فابن مسعود رضي الله عنه حكم بأن الحكم بغير ما أنزل الله كفر مجرد أي:كفر أكبر , ولو كان كفرا أصغر لبين رضي الله عنه ذلك ولما فرق بينها وبين السحت الذي هو معصية دون الكفر, ولم يعهد عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم ذكروا مصطلح كفر أصغر أو كفر دون كفر إلا ما ينسب لابن عباس رضي الله عنه ولم يصح ذلك , وأما أن المعاصي دون الكفر يطلق عليها كفر أصغر سواء كانت كبائر أو صغائر فهذا المصطلح لم يعهد إلا عن التابعين ومن بعدهم وكذلك فلا فرق بين السحت أو الهوى أو أي معصية, ومن المعلوم والثابت قطعا ويقينا أن لفظ الكفر إذا ورد مجردا عند الصحابة رضي الله عنهم فإن معناه الكفر الأكبر المخرج من الملة بدليل ما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ثم أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن، قيل أيكفرن بالله.قال: يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط أ.هـ ولو كان معنى الكفر في القرآن يحتمل معنيين لسأل الصحابة عن ذلك ولبين لهم الرسول ذلك أيضا, قال الإمام الشافعي ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينـزل منـزلة العموم في المقال.أ.هـ إرشاد الفحول1/198 ,القواعد والفوائد الأصولية1/234.

فانظروا يا عباد الله فهذا ابن عباس الذي يُنقل عنه انه قال كفر دون كفر يروي لنا أن الصحابة لا تفهم من كلمة الكفر المجردة إذا وردت في النصوص الشرعية - القرآن والسنة- إلا الكفر بالله وهو الكفر الأكبر المخرج من الملة وهذا إجماع منهم مع إقرار الرسول عليه الصلاة والسلام لهم بهذا الفهم ولا يمكن لابن عباس رضي الله عنه أن يخالف في ذلك فقوله قولهم,وقبل ذلك لو ورد لفظ الكفر في كتاب الله تعالى بمعنى الكفر الأصغر لبين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ من المقرر بالإجماع عند أهل العلم المعتبرين أنه: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. فكيف يترك صلوات الله وسلامه عليه بيان قضية يترتب عليها تفرق الأمة ومتعلقة بأصل الدين ولأجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب وهي بيان الكفر المخرج من الدين من غيره والله تعالى أمر في آيات كثيرة على الاجتماع وعدم التفرق: قال تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ(103, آل عمران), وحبل الله تعالى هو كتاب الله تعالى وقال تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (آل عمران:105), فهذه البينات المحكمات الواضحات من ربنا قد بينت أن الكفر في كتاب الله تعالى لا يعني إلا أمرا واحدا وهو الكفر الأكبر المخرج من الملة فهل ابن عباس يجهل هذه الأصول ليقول بخلافها ويكون ممن يبذر بذرة التفرق والاختلاف, معاذ الله ولكنه الفهم الفاسد وحب الدنيا الذي جعل أناسا يفترون عليه وَيٌقولونه ما لم يقل, ونقول لهم: هذا ما فهمتموه من قوله ولكن نريد قولا واضحا يقول فيه من حكم بغير ما أنزل الله سواء حكما تكليفيا أو وضعيا أنه كفر دون كفر وأتونا بسلف لكم إن كنتم صادقين.

أما سبب الضلال عنده فهو ما قاله بنفسه ينبز به غيره ما نصه: منشأه أنه فهم آيات الله عز وجل بعقله المجرد دون أن يرجع إلى فهم الرعيل الأول سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، ومن سار على دربهم من العلماء الربانيين في كل قرن، أ.هـ. فقوله نقوله له ولمن يقلدهم: أنك ومن تقلدهم قد فهمتم ليس آيات الله تعالى وأحاديث نبيه صلى الله عليه وسلم فهما فاسدا وإنما فهمتم أقوالا لبشر غير معصومين لم يؤتوا كلاما معجزا أو جوامع الكلم فحصل فيها لبس فهمتموها بعقولكم المجردة دون ردها إلى آيات الله المحكمات وأحاديث رسوله المبينات وأقوال صحابته الذين عرفوا التنـزيل وفهموا حقيقة الدين غضا طريا.

فهذا بعض ما قاله الرعيل الأول والعلماء الربانيين الذين تتشدقون باقتفاء أثرهم فأفتيتم بغير علم فضللتم وأضللتم الناس فحملتم أوزاركم وأوزارا مع أوزاركم وجعلتم الدين أرق من الحرير.

الاستدلال الفاسد والجهل بقواعد التعامل مع النصوص الشرعية

قوله: وينبغي لنا أن نبين أمرا مهما هنا لكي نجلي الشبهات ونبين عقيدة أهل السنة والجماعة في هذه المسألة الهامة دون محاباة لا لحاكم ولا لمحكوم:هذه الآيات آنفة الذكر، بدأت جميعا بـ (من) ومن هنا اسم موصول للعاقل يفيد العموم؛ أي يشمل كل الناس حاكما كان أو محكوما؛ ذكرا أو أنثى، غنيا أو فقيرا؛وبيانه:أنك لو قيل لك أخرج إلى الشارع، وأحضر ( من ) وجدت لهذه الوليمة مثلا، فلو وجدت عشرة رجال وأحضرت خمسة وتركت خمسة فأنت حينئذ لم تعمل بمقتضى هذا الأمر فقوله تعالى ( من ) يشمل العموم.وقوله تعالى:( بما)،(ما) هنا تفيد العموم لغير العاقل، فهي تشمل كل الأحكام التي أنزلها الله سبحانه وتعالى، فالأمر بالصلاة حكم أنزله الله سبحانه، وهكذا الصيام والزكاة والحج، كلها أحكام شرعية أنزلها سبحانه وتعالى، وكذلك تحريم الزنا واللواط والسرقة والربا والغيبة والنميمة وغيرها من المحرمات، فهذه كلها أحكام شرعية أنزلها المولى عز وجل، والمقصود أنه لا فرق بين حاكم أو محكوم في هذه الأحكام فالكل مأمور بها وبتطبيقها.أ.هـ .

أقول:

1- إذا كانت عامة كما يقر هو وأمثاله في الأحكام والأشخاص فكيف استثنى منها حالة أو شخص فعموم الآية يشمل كل حالات الحكم وكل شخص حاكم ؟ ومع ذلك فقد وقع في مصيبة وهي انه حرف الآية عن مناطها فالآية تتكلم عن الحاكم فجعل عمومها متعلق بالحاكم والمحكوم فلا علاقة للمحكوم بهذه المسألة فالآية تتكلم عن الحاكم فأين ذكر الله تعالى المحكوم ؟.

2- هذا القائل حاطب ليل يهرف بما لا يعرف ودليل ذلك انه لا يفرق بين الأفعال والأوامر والأحكام؟ لأن كل من الأمر والحكم والفعل له تكييف شرعي محدد تترتب عليه الأحكام،أنظر إلى قوله: فالأمر بالصلاة حكم أنزله الله سبحانه أ.هـ قلت:هل قوله: وأقيموا الصلاة(), حكم أم أمر ؟ إنه أمر يترتب عليه حكم والحكم المترتب على هذا الأمر هو الوجوب. فهو يريد أن يقول: أن من لم يصل فقد حكم بغير ما أنزل الله تعالى وبالتالي فكفره مختلف فيه وكذلك الصوم والحج والزكاة فأقول له: هل من صلى يلزم منه أنه يحكم عليها بحكم الله وهو الوجوب ؟ وهل يلزم ممن لم يصل أنه يحكم بغير حكم الله؟ ومعلوم أن هذا بطلانه أشهر من نار على علم.

ثم أنظر إلى قوله: وكذلك تحريم الزنا واللواط والسرقة والربا والغيبة والنميمة وغيرها من المحرمات، فهذه كلها أحكام شرعية أنزلها المولى عز وجل أ.هـ فنقول له: إن ما ذكرته ليس أحكام وإنما أوامر تتعلق بأفعال لها أحكام فالزنا والربا والنميمة أفعال منهي عنها وحكم هذا النهي هو التحريم فلا يلزم ممن زنا أن يحكم على الزنا بغير حكم الله تعالى وكذلك من يرابي وكذلك من يسرق وأيضا لا يلزم ممن لا يسرق أن يحكم على السرقة بحكم الله تعالى,فهو يخلط بين الأفعال التي نص الشرع عليها أنها دون الكفر الأكبر وبين حكم التحريم لها وعليه فهناك فرق كبير بين المخالفة في الفعل الذي هو دون الكفر الأكبر وبين المخالفة في حكمه, ومراده من هذا التحريف والتخليط القائم على الجهل بالدين أن يخلص إلى المساواة بين الأحكام والأفعال دون تمحيص وعلم فحكم الوجوب للصلاة غير فعل الصلاة وحكم التحريم للزنا غير فعل الزنا وحكم القطع على السرقة غير فعل السرقة وحكم الجلد على الزنا غير فعل الزنا وهكذا.

اتخـاذ المشايخ أرباب من دون الله تعالى في الأمة

قوله: حينئذ يقال: ما الفرق بين حاكم يزني وبين محكوم يزني؟لا فرق؛ فكلاهما وقع في مخالفة لا يخرج بها من الملة، إلا إذا استحلها، واعتقد في قلبه حلّ هذا الأمر فهذا يكفر سواء كان حاكما أو محكوما حتى ولو:وسعنا الصورة: محكوم قتل مائة نفس محرمة القتل، وحاكم قتل مائة نفس محرمة القتل … ما الفرق ؟
الجواب: لا فرق؛ كلاهما عاص فاعل لكبيرة عظيمة من الكبائر، اللهم إلا أن يستحلا ذلك فهما حينئذ كافران خارجان من دين الإسلام، فلو أن المحكوم قتل مائة نفس لأنهم مسلمون، وأراد بذلك حرب الإسلام لأنه إسلام فهذا يكفر، وكذلك لو أن الحاكم قتل مائة نفس وأراد بذلك أن يقضي على الإسلام فهذا كافر خارج من دين الإسلام.لكن … حاكم أو محكوم؛ قتل مثل هذا العدد لكي يحافظ على كرسيه لا أنه يريد حرب الإسلام؛ فهذا لا يكفر وإنما فعل فعلا شنيعا عظيما عند الله. أ.هـ

أقول :

1- وهذا دليل آخر على انه حاطب ليل فهو في واد وآية الحكم في واد آخر فما علاقة زنا الحاكم بمسألة الحكم في الآية فالحديث عن الحكم بغير ما أنزل الله تعالى وليس عن فعل المخالفة التي هي دون الكفر وكذلك فليس الحديث عن كون الشخص حاكم أو محكوم فالله تعالى: يقول: ومن لم يحكم بما أنزل الله() وهذا متعلق بعموم الناس فأي قضية يُحكم فيها بغير حكم الله تعالى فيكون الحاكم بهذا الحكم كافرا سواءً كان أميرا أو إنسانا عاديا إذ أن الإنسان سواء كان أميرا أو غير أمير فهو حاكم في أمور تتعلق بوصفه.فالحاكم إذا زنى هل حكم بغير ما أنزل الله ؟ نقول: لا,هو فعل فِعل( بكسر الفاء) الزنا ولم يحكم فالشرع يتكون من أفعال وأحكام فما يتعلق بالحكم له كيفية وما يتعلق بالفعل له كيفية وهذه صورة واقعية للأئمة المضلين في الأمة الذين يفتون بجهل فيَِضلون ويُضلون.

فنقول له ولمن يقول بقوله: إن إبليس لعنه الله أول من سن الكفر وحكم الله عليه بالكفر لأنه رفض السجود لآدم عليه السلام فأين الاستحلال هنا ؟ فالله تعالى حكم عليه بالكفر لأنه أبى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (البقرة:34), ولم يقل إلا إبليس استحل وكان من الكافرين, ثم كيف عرفنا انه كفر كفرا أكبر ؟ فقوله تعالى: وكان من الكافرين() فإنها تحتمل على تأصيله الكفر الأصغر بل إن كفر إبليس على تأصيله كفر كفرا أصغر لأنه لم يستحل كونه لم يفعل فعلا أصلا وإنما رفض فعل, ثم نقول له أليس: حكم الزنا الحرمة ومن قال بخلافه كفر ؟ أليس حكم الزاني الجلد وحكم الزنا الحرمة ؟ فما الفرق بين من قال إن الزنا حلال وبين من قال إن حكم الزاني السجن فكلاهما حكم وهما سواء؟.

2- أنظر إلى الإضطراب وعدم الفهم عند القوم حيث يقول: إلا إذا استحلها، واعتقد في قلبه حلّ هذا الأمر أ.هـ فهو هنا يقيد الاستحلال باعتقاد القلب إذ أنه لا يكتفي بالاستحلال ليحكم بالكفر إلا إذا رافق ذلك اعتقاد قلبي بذلك أيضا بمعنى أن لو إنسانا قال أن الخمر حلال مع علمه بالتحريم فهذا لا يكفر عنده حتى يعتقد في قلبه أيضا ومعلوم أن الأحكام في الإسلام إنما هي على الظاهر وأما السرائر فعلمها عند الله سبحانه فقط: قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (النمل:65), فعن أبي سعيد الخدري قال: بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبية في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها قال فقسمها بين أربعة نفر بين عيينة بن بدر وأقرع بن حابس وزيد الخيل والرابع إما علقمة وإما عامر بن الطفيل فقال رجل من أصحابه كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء قال فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تأمنونني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء. قال فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار فقال يا رسول الله اتق الله قال: ويلك أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله . قلا ثم ولى الرجل . قال خالد بن الوليد يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ قال:لا لعله أن يكون يصلي.فقال خالد:وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس ولا أشق بطونهم أ.هـ(رواه الشيخان).

وكذلك حادثة أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلا فقال لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقال لا إله إلا الله وقتلته ؟ قال قلت يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح قال أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ أ.هـ(صحيح مسلم), فهنا أمور منها:

1- قول الرجل الصريح لا إله إلا الله وهو عمل ظاهر.

2- الخوف من السلاح – وهو أمر قلبي - بناء على قرينة ظنية محتملة.

3- قوله عليه الصلاة والسلام : أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا أ.هـ.

فالرسول عليه الصلاة والسلام ينكر على أسامة الحكم على الرجل بناء على الباطن- ما في القلب- وعلى الأمور الظنية المحتملة مقابل الفعل الظاهر الواضح الذي لم يرافقه أو يعقبه فعل أو قول ظاهر يخالفه,ولذلك جاء في رواية ابن ماجة بسند حسن ما نصه: قال: يا رسول الله لو شققت بطنه لكنت أعلم ما في قلبه , قال : فلا أنت قبلت ما تكلم به ولا أنت تعلم ما في قلبه أ.هـ , علما بأن هؤلاء يحرفون الاستدلال بهذا الحديث ويجعلونه في الحكم على الأشخاص بناء على الأمور القلبية الباطنة!!!!.

وعن عبد الله بن عتبة قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة أ.هـ صحيح البخاري.

وقد بوب النووي رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين بابا بعنوان:باب إجراء أحكام الناس على الظاهر.أ.هـ

فما في القلوب لا يعلمه إلا علام الغيوب فهو وأمثاله يطالبوننا بأن نكون آلهة من دون الله نعلم الغيب وما في قلوب العباد فهم بذلك يشاقون الله ورسوله ويتبعون غير سبيل المؤمنين وهدي الخلفاء الراشدين المهديين.

ونسألهم كيف يكون الاستحلال ؟ وكيف نعلم أنه يستحل ذلك في قلبه؟ فلو قال قائل أنا استحل ذلك في قلبي لما تحقق شرطه لأن هذا قول لسانه وليس قول قلبه (اعتقاده )- مع أنه لم يبين الاعتقاد كيف يكون فهو يتكلم عن شرط مبهم غير محدد لا ضوابط له ولا معنى- وعليه فالشروط التي جعلها للتكفير لا يمكن بحال أن تتحقق - وبهذا يكون هو ومن يقول بقوله قد ألغى حكم الكفر من الإسلام من حيث يدري أو لا يدري وجعل ذلك أساس الإسلام وأنه دين الصحابة والتابعين ومن تبعهم وجميع العلماء ونحن نتحداهم أن يأتونا بقول صحابي أو تابعي أو قول عالم معتبر من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ببدعتهم وضلالهم أن من وقع في مخالفة قد نص الشرع على أنها كفر مجرد لا يخرج بها من الملة، إلا إذا استحلها، واعتقد في قلبه حلّ هذا الأمر,فإذا لم تكن هذه عقيدة غلاة الإرجاء فلا إرجاء على وجه الأرض.

3- أنظر إلى قوله: وكذلك لو أن الحاكم قتل مائة نفس وأراد بذلك أن يقضي على الإسلام فهذا كافر خارج من دين الإسلام، لكن حاكم أو محكوم؛ قتل مثل هذا العدد لكي يحافظ على كرسيه لا أنه يريد حرب الإسلام؛ فهذا لا يكفر وإنما فعل فعلا شنيعا عظيما عند الله. أ.هـ

أقول: سبحان الله وإنا لله وإنا إليه راجعون إن مسألتنا في الحكم وليس في فعل المخالفات الشرعية التي نص الشرع على أنها حرام ( دون الكفر) فأنت ترى الخلط عندهم وعدم تمييز المسائل, كما أن من أراد القضاء على الإسلام كفر سواء قتل أم لم يقتل فهل يا ترى من أراد القضاء على الإسلام دون أن يفعل شيئا يكفر عندهم أم لا؟!! , ثم بخصوص حكام اليوم فهل هؤلاء عندما يقتلون الذين يدعون إلى تحكيم الشرع يفعلون ذلك من أجل المحافظة على كرسيهم؟فإن كان كذلك فهذا يعني أن الشرع يسلبهم كراسيهم فإن لم تكن هذه حربا على الإسلام فما هي الحرب على الإسلام ؟ وما نسمعه هذه الأيام من حرب على الإرهاب وقتل الإرهابيين بزعمهم موافقة وطاعة لأسيادهم اليهود والنصارى أليست هذه حربا على الإسلام والمسلمين أم أنها حرب على أهل الأوثان ؟!!!!

ونقول لهم هل رأيتم في أحلامكم أن هؤلاء هدموا قبرا يعبد ؟!!!! وهل رأيت من تزين لهم عملهم دعوا إلى تحكيم شرع الله من 100سنة إلى الآن؟!! وهل رأيتهم يقفون في وجه اليهود والنصارى ؟!!!!!! وهل رأيتهم يمنعون الفساد وينصرون الفضيلة ؟!!!!

استقيظ هداك الله أنت وشيعتك فأنتم تغطون في سبات عميق وانظر بعين البصيرة وقل لنا هل هناك شيء يستند إلى شرع الله تعالى في تصريفهم لشؤون البلاد والعباد ؟!!!

الافتراء على الله تعالى وعلى علماء الأمة
- قوله: وهذا التأصيل السني الذي نص عليه علماء أهل السنة في كتبهم ينطبق تماما على الظلم وكذا الشرك وكذا الفسق، فالفسق فسقان والشرك شركان والظلم ظلمان، فكل من هذه الثلاثة أصغر وأكبر وبهذا جاءت النصوص.أ.هـ وسرد نصوصا شرعية.

فنقول له:إن هذا التأصيل شيطاني فأنتم لم تكتفوا بالجهل والابتداع في الدين وتحريف نصوص رب العالمين حتى جعلتم ذلك هو دين الصحابة الصالحين.ثم كيف عرفتم أن هذا ظلما اكبر أو اصغر وأن هذا فسقا اكبر أو أصغر ؟ أليس أن الأصل في هذه الألفاظ أنها الأكبر إلا إذا ورد نص أو قرينة تدل على غير ذلك,أم أن الأصل عندكم أنها الأصغر إلا إذا جاءت قرينة تدل على أنها الأكبر أم أن الأصل فيها أنها أصغر مطلقا؟, فهؤلاء القوم وجدوا نصا في الكفر حسب فهمهم وأنه يتعلق بمعصية معينة دون الكفر الأكبر فجعلوا ذلك عاما في جميع الذنوب, فوقعوا فيما قاله وهو, قوله: وبعد؛ ما هو منشأ ضلال من ضل وغلا في هذه الآيات حتى كفّر الموظفين والعمال الذين يعملون عند الحكام الجواب: منشأه أنه فهم آيات الله عز وجل بعقله المجرد دون أن يرجع إلى فهم الرعيل الأول سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، ومن سار على دربهم من العلماء الربانيين في كل قرن، أ.هـ

أقول:

1- بعد هذا البيان الواضح من الذي يتكلم في آيات الله بعقله المجرد فضل عن سبيل الله تعالى وأضل الخلق وحرف الدين وهو يحسب أنه من المهتدين؟!,إنه هو ومن يقول بقوله, ثم يأت هو ومن على شاكلته ليقول:إن ابن عباس رضي الله يقول عن هؤلاء أنهم مسلمون وأن ما يقومون به ذنوب كفر دون كفر.

2- إن الأصل في الرد إنما هو إلى الله تعالى وإلى رسوله: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (النساء:59), ولم يقل سبحانه فردوه إلى فهم الرعيل الأول أو إلى أصحاب العمائم أو الحاصلين على الشهادات من أنظمة طاغوتية أو حتى إلى الصحابة.

3- إن الأدلة الشرعية دلالتها إما منطوق أو مفهوم, فمن قصر دلالة النصوص الشرعية على المفهوم فقط فقد افترى على الله إثما عظيما لان هذا الدين إنما هو لجميع الناس, والناس عقولهم متفاوتة ففي الشرع نصوص دلالتها لا تحتاج إلى تعمق ونظر وإعمال قواعد فهم خاصة وإنما دلالتها منطوقة ظاهرة, فقوله تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (المائدة:44), دلالته منطوقة أي: ما دل عليه اللفظ في محله, وليس فيه إشكال ولا صعوبة ولا يحتاج إلى تدقيق وأعمال لقواعد فهم النصوص.

4- إن قواعد فهم النصوص الشرعية ليست حكرا على احد وهي معلومة ومن تعامل مع النصوص من خلالها فقد وصل إلى الحق.

5- إن الله تعالى حذر من الرد إلى غير الله ورسوله وبالأخص إلى العلماء في مخالفة النصوص الواضحة الصريحة قال تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (التوبة:31), وهذا هو سبب ضلال الشيعة الذين جعلوا كلام علمائهم معصوما نسخوا به النصوص الشرعية تخصيصا وتقييدا وبيانا وهو سبب ضلال اليهود والنصارى والله تعالى يقول: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (المائدة:43), فانظر رحمك الله إلى هذا النص الواضح البين الصريح الذي حكم فيه سبحانه وتعالى حكما أبديا على من حكَّم أيا كان مع وجود حكم الله تعالى بأنه كافر خارج من الملة إذ تحكيم غير الله تعالى في هذه الحالة ما هو إلا رد لحكم الله وعدم قبوله وإلا لماذا تطلبون وتبحثون عن حكم من لم يحكم بما أنزل الله وحكم الله تعالى واضح بين في أعظم كتاب أنزله الله تعالى؟
6- قوله: ولو عاد لوجد أن هذا الفهم هو فهم ابن عباس رضي الله عنهما وطاووس ومجاهد ومذهب أصحاب المذاهب الأربعة وعلماء أهل السنة والجماعة من المفسرين والمحدثين كأمثال الطبري والقرطبي وابن كثير والشنقيطي، ومن علمائنا المعاصرين كأمثال العلامة المحدث ناصر الدين الألباني والعلامة ابن باز رحمة الله عليهم جميعا وأسكنهم فسيح جناته، وجعلنا ممن يستمسكون بغرزهم، ويسيرون على دربهم ويحشرون في زمرتهم، آمين آمين، أ.هـ

أقول: لا والذي بعث محمدا بالحق وأنزل الكتاب بالحق وحكم بالحق وجعل أحكامه محكمة واضحة ما هو بقول ابن عباس أو قول أحد من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم وقد بينت ذلك سابقا بيانا محكما وسنزيده بيانا وأما المعاصرون فهم مقلدون للسابقين وكثير منهم يقول بقولهم دون فهم ودون تحقيق وأساس قولهم جميعا القول المنسوب لابن عباس رضي الله عنهما, يقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى: وهذه الآثار عن ابن عباس وغيره مما يلعب به المضللون في عصرنا هذا المنتسبين للعلم ومن غيرهم الجرءآء على الدين يجعلونها عذرا وإباحة للقوانين الوثنية التي ضربت على بلاد المسلمين أ.هـ حكم الجاهلية 39.

فهذا عالم من علماء الأمة المشهود له يحكم على هؤلاء بأنهم مضللون, ونحن نقول أنكم مضللون وما جئنا بجديد.

فعن أي شيء يتحدث ابن عباس لو فرضنا جدلا صحة ما ينسب إليه وهو غير صحيح؟ وبحق من يتحدث؟ ومع من يتحدث ؟وما هو سبب قوله ومعناه؟

وهل قال ابن عباس إن من حكم على السارق بالسجن مع ثبوت السرقة انه كفر دون كفر ؟

وهل قال بأن من حكم على الزاني بالسجن أو الغرامة المالية أنه كفر دون كفر؟.

وهل قال من جعل أساس حكمه الرد إلى القوانين الوثنية أنه كفر دون كفر ؟

وهل قال من جعل نفسه مطيعا ومتبعا لشرائع اليهود والنصارى أنه كفر دون كفر ؟

وهل سيقول أحد أن غير قول الله وقول الرسول يخصص أو يقيد أو يبين الأدلة الشرعية؟

أما مسألة الحكم فهي من أصول الدين التي بينها سبحانه وتعالى وفصلها تفصيلا محكما بعشرات الآيات لا تحتاج إلى قول أيٍ كان فالله سبحانه وتعالىيصف الحاكم بغير حكم الله تعالى أنه طاغوت بقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (النساء:60), وهؤلاء يقولون أنه مؤمن بالله واليوم الآخر فهل يوجد في شرع الله تعالى طاغوت مؤمن ؟!!! ويصف المتحاكم إليه بأن إيمانه زعم وليس حقيقيا, فكيف يكون المتحاكم إلى من لا يحكم بما أنزل الله كافرا كفرا أكبر والحاكم بهذا الحكم (بغير ما انزل الله) كفره أصغر !!! لا أقول إلا سبحان الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فهذا حال من انقلبت موازينه واتبع هواه بغير هدى من الله فالطاغوت كافر كفرا أكبر ثم يأت أناس ويدعون بأن ابن عباس رضي الله عنه قال بأنه كافر كفرا أصغر.

فبأي الأقوال نقول؟ أنترك قول ربنا سبحانه وتعالى لأفهام الأفهام فلا نقول أن هذا فهم ابن عباس رضي الله عنهما ولكن هذا ما فهمه الخلف من فهم نسب إليه وليس بصحيح, فأصبحنا نتعلق بأفهام الأفهام وليس بالأفهام الواضحة المستندة إلى أدلة واضحة, فقولهم مبني على الظن المتصف بوصفين شرعيين:

الأول: قوله تعالى: وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئا ً(النجم:28).

الثاني: قوله عليه السلام: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث () متفق عليه.

فمن كان كلامه أكذب الحديث وأنه لا يغني من الحق شيئا كيف يكون أصلا للدين؟ فإن كان دين البشر فنعم, أما الإسلام دين الله تعالى فلا, وحتى نجلي الأمر بشكل واضح وأشمل سأتناول ما يتعلق بهذه الآية من خلال أقوال من زعم أنهم يقولون بقوله الذي هو افتراء على الله تعالى وقولا بغير علم ولا كتاب منير.

1- لقد بينا بيانا شافيا ومحكما بالأدلة الشرعية أن لفظ الكفر إذا ورد في القرآن معناه الشرعي والحقيقي هو الكفر المخرج من الملة وإذا ورد في كلام الرسول عليه الصلاة والسلام الأصل في معناه هو المعنى الشرعي وهو المخرج من الملة كما فهم ذلك الصحابة رضي الله عنهم إلا إذا جاءت قرينة (نص شرعي) يدل على صرفه عن معناه الشرعي وهو الكفر الأكبر إلى الكفر الأصغر.

2- ما هو المعنى الشرعي لمصطلح الحكم عندهم ؟ وقد تم بيان ذلك بالتفصيل علما بأن الحكم إذا كان إلزاميا فهو متعلق بحكم القاضي أو الأمير وهو القضاء، وإذا كان غير ملزم فهو الفتوى.وهذا كله هو معنى الحكم وهو: خطاب الشارع للمكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع أي:بمعنى آخر: هو خطاب الشرع والمتعلق بالفصل وإصدار الأحكام على الأفعال والأقوال الظاهرة والباطنة من وجوب وحرام وحلال ومكروه ومستحب سواء كانت بالتكليف أو الفصل في القضاء بين المتخاصمين من قطع وجلد وإصلاح وتفريق وغيرها وهي الأحكام الوضعية.

3- هل هذه الآيات نزلت بحق المسلمين؟ بمعنى هل حدث وأن أحدا من المسلمين في زمن نزول الوحي سواء كان أميرا أو غير أمير لم يحكم بما أنزل الله سواء كان الحكم وضعيا أو تكليفيا أو بمعنى أدق رد الحكم إلى غير الشرع ؟.

الجواب: إن معرفة ذلك يسيرة من خلال معرفة سبب النـزول فإن الصحابة رضي الله عنهم الذين شهدوا التنـزيل قد أجمعوا على أن هذا لم يحدث من أحد من المسلمين بأي صفة كان وأن هذه الآيات نزلت في أهل الكتاب الذين لم يحكموا بما أنزل الله تعالى روى ذلك أهل الحديث وأهل التفسير:

عن البراء بن عازب في قوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون في الكافرين كلها.أ.هـ تفسير الطبري4/588.

عن أبي البختري قال سأل رجل حذيفة عن هؤلاء الآيات ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فأولئك هم الظالمون فأولئك هم الفاسقون قال فقيل ذلك في بني إسرائيل قال: نعم الإخوة لكم بنوا إسرائيل إن كانت لهم كل مرة ولكم كل حلوة كلا والله لتسلكن طريقهم قدر الشراك.أ.هـ الطبري 4/588.

عن علقمة ومسروق أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة فقال : من السحت قال : فقالا أفي الحكم قال ذاك الكفر ثم قرأ هذه الآية ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.أ.هـ تفسير الطبري4/579, 588.

عن ابن عباس قال إن الله أنزل ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون و فأولئك هم الظالمون و فأولئك هم الفاسقون قال: قال ابن عباس أنزلها الله في الطائفتين من اليهود.أ.هـ تفسير ابن كثير 2/80.

وقال ابن كثير رحمه الله: وقد روى العوفي وعلي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا كما تقدمت الأحاديث بذلك أ.هـ التفسير 2/80.

هذا ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم وعن ابن عباس تخصيصا ولم يرد عن الصحابة ما يخالف ذلك أما ما ورد عن التابعين مما يخالف ذلك فلا يعارض به ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم.

قال ابن جرير الطبري رحمه الله بعد أن ذكر أقوال الصحابة والتابعين: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت وهم المعنيون بها وهذه الآيات سياق الخبر عنهم فكونها خبرا عنهم أولى أ.هـ التفسير 4/588.

وقال رحمه الله مقدمة لقول الصحابة والتابعين ما نصه: يقول تعالى ذكره ومن كتم حكم الله الذي أنزله في كتابه وجعله حكما بين عباده فأخفاه وحكم بغيره كحكم اليهود في الزانيين المحصنين بالتجبيه والتحميم وكتمانهم الرجم وكقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة وفي بعض بنصف الدية وفي الأشراف بالقصاص وفي الأدنياء بالدية وقد سوى الله بين جميعهم في الحكم عليهم في التوراة :فأولئك هم الكافرون() يقول : هؤلاء الذين لم يحكموا بما أنزل الله في كتابه ولكن بدلوا وغيروا حكمه وكتموا الحق الذي أنزله في كتابه هم الكافرون يقول هم الذين ستروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبيينه وغطوه عن الناس وأظهروا لهم غيره وقضوا به لسحت أخذوه منهم عليه وقد اختلف أهل التأويل في تأويل الكفر في هذا الموضع فقال بعضهم بنحو ما قلنا في ذلك من أنه عنى به اليهود الذين حرفوا كتاب الله وبدلوا حكمه. أ.هـ التفسير 6/251-257.

وقال ابن كثير رحمه الله: وقوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال البراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وابن عباس وأبو مجلز وأبو رجاء العطاردي وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله والحسن البصري وغيرهم نزلت في أهل الكتاب زاد الحسن البصري وهي علينا واجبة وقال عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم قال: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ورضي الله لهذه الأمة بها أ.هـ التفسير 2/61-62. فأين قولهم بأن ما قالوه هو قول السلف من الصحابة والتابعين؟.

فهذا هو القول الثابت والمعتبر ومن المعلوم العبرة بعموم النص وأن سبب النـزول وصورة سبب النـزول داخلان في عموم النص. فمن فعل فِعل( بكسر الفاء) اليهود فهو داخل في حكم عموم النص فاليهود كانوا مقرين بحكم الله تعالى ولم يكونوا معتقدين خلافه كما ثبت من سبب النـزول وأنه بقي واضحا في التوراة ولم يغيروه منها وكان معلوما عندهم ولكنهم حكموا بغير ما أنزل الله لمصلحة عظيمة هي الحفاظ على جماعة اليهود من التفرق بمعاقبة الشريف والوضيع منهم والأخذ على يد المفسد,وهذا واضح وصريح في ما رواه مسلم رحمه الله في صحيحه: عن البراء بن عازب قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمما مجلودا فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟,قالوا: نعم فدعا رجلا من علمائهم,فقال:أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟,قال: لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك نجده الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد قلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه, فأمر به فرجم فأنزل الله عز وجل: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر..إلى قوله :إن أوتيتم هذا فخذوه (المائدة:41 ), يقول ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا فأنزل الله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون(المائدة:44),( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون(المائدة:45), ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (المائدة:47) في الكفار كلها أ.هـ

ومن الملاحظ أن فعل اليهود إنما هو في الحكم بحكم وضعي وهو حد الزنا والذي نزل حكم الله تعالى فيمن حكم بغيره أنه كافر وكل الأحكام التي يحكم بها الحكام في هذا الزمان إنما هي أحكام وضعية, وكذلك فإن حكم الله تعالى بالكفر نزل بحق من حكم في نازلة واحدة كما فعل اليهود في الحكم على الزانيين بغير حكم الله تعالى وهذا قول فصل في الرد على من يدّعي أنه لا تدخل في الحكم الحادثة والحادثتان افتراء على الله تعالى وتحريفا لدينه سبحانه.

4- لقد ثبت معنى الحكم وأن مناطه متعلق بعموم الأحكام التكليفية والوضعية سواءً بسواء فلا فرق بين من حكم على الخمر أنها حلال وبين من حكم على السارق بالسجن, والحرمة للخمر والقطع للسارق كلاهما حكم,علما بأن سبب النـزول هو الحكم الوضعي فمن فرّق فعليه الدليل ولن يستطيع، ومن خصص أو قيد فعليه الدليل ولن يستطيع, فلا اعتبار في تغير سببه سواء للشهوة أو القرابة أو الرشوة أو غيره كما ثبت والحمد لله رب العالمين.

ولا يشوش على ذلك كما فعل بعض الجهلة الذين ليس لهم حظ من العلم بما ورد في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة وزيد بن خالد: أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما اقض بيننا بكتاب الله وقال الآخر وهو أفقههما أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي أن أتكلم قال(تكلم). قال إن ابني كان عسيفا على هذا - قال مالك والعسيف الأجير - زنى بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وجارية لي ثم أني سألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ابني جلد مائة وتغريب عام وإنما الرجم على امرأته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله أما غنمك وجاريتك فرد عليك ) , وجلد ابنه مائة وغربه عاما وأمر أنيس الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت رجمها فاعترفت فرجمها أ.هـ

قلت:

أ- إن هذه المسألة متعلقة بشق الإثبات وهو ثبوت الإسلام للشخص وأحد أركانه أن الحكم كله لله بمعنى أن لا يرد الحكم لغير الله تعالى مع علمه بالحكم وأما عند جهله بالحكم فهو يرده إلى أصل الإيمان بحسب قواعد الإسلام والمسلم مع إقراره بهذا الركن وعمله به قد يقع في قضايا يجهل حكم الله فيها بمعنى لم يصله نص الحكم فيتعامل معها بناء على ما أداه إليه اجتهاده وهذا الذي افتدى لم يثبت لديه نص الحكم ابتداء حتى قام بسؤال أهل العلم ورفع القضية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته القاضي والحاكم وحتى وصوله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن القضية قد رفعت إلى القضاء فهو طالب لحكم الله تعالى وحكم رسوله عليه السلام.

ب- هناك من المخالفات ما هو متعلق بحق الله تعالى ومنها ما هو متعلق بحق الخلق ومنها ما هو متعلق بحق الله تعالى وبحق الخلق معا وهذه الحقوق منها ما يجوز فيه الصلح ومنه ما لا يجوز فيه الصلح وكون الفداء بالمال واقع فقد ظن الصحابي الذي زنى ابنه أن الحدود تدرأ بالصلح .

ت- عارض الجهل قد حصل للصحابي من جهتين من جهة الحكم حيث أخبره زوج المرأة أن على ابنه الرجم وكذلك حصل له الجهل من جهة ظنه ان الحد حق لولي المجني عليها وكذلك من جهة أن الحد يدرأ بالفداء, ولم يترجم أحد من العلماء أو يذكر ما ذكره الخلف هذه الأيام وجعلوا ذلك إباحة للحكم بحكم الأوثان وأحكام اليهود والصليبيين ولم يجعلوها من مسائل الحكم بغير ما أنزل الله .

5- لقد وردت الأحاديث الصحيحة التي تبين وتفصل في أن الحكم في الأحكام الوضعية والتي تكون على سبيل القضاء أن المخالف فيها في النار وهذا لا يكون إلا بحق الكفر لقوله تعالى: وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ(غافر:6), إلا إذا ورد دليل يصرفه عن ذلك فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال:القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار. قال أبو داود وهذا أصح شيء فيه يعني حديث بن بريدة القضاة ثلاثة وهو حديث صحيح, فهذا الحديث يبين ما يلي:

أ - أن الذي يحكم إما كافر وإما مؤمن إما في الجنة وإما في النار.

ب - أن الذي في الجنة هو الذي يحكم بحكم الله تعالى.

ت - أن الذي في النار صنفان هما:

- من عرف حكم الله تعالى وحكم بغيره وهذا يشمل كل الأسباب لرشوة أو شهوة أو قرابة الخ وسواء حكم مرة واحدة أو أكثر.

- ومن لم يكن عالما بحكم الله وحكم بجهله.

ث - بين عليه الصلاة والسلام أنه يخرج من هذا من كان مؤهلا للحكم وحكم باجتهاده ردا إلى شرع الله تعالى في حال عدم علمه بالحكم الشرعي فعن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر فحدثت به أبا بكر بن حزم فقال هكذا حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة.أ.هـ (رواه أبو داوود بسند صحيح). فهذا ما بينه الرسول عليه السلام بخصوص مسألة الحكم والقضاء ولا قول لغيره عليه الصلاة والسلام ولم يرد تفصيل يخالف ذلك.

6- وهنا نقول عن أي شيء يتحدث ابن عباس رضي الله عنه- على التسليم بصحة ما نسب إليه- وبعض التابعين والعلماء من بعدهم بخصوص الحكم بغير ما أنزل الله وأنه كفر دون كفر ؟

الجواب: من المعلوم اضطرارا أنه لا يمكن لصحابي أو تابعي أو أحد من علماء المسلمين أن يغير حكما لله تعالى فإذا عرفنا معنى الحكم الذي يقصده هؤلاء تكشفت الحقائق:

أ – بخصوص القول المنسوب لابن عباس والتابعين إنما هو رد على الخوارج الذين حكموا على من فعل معصية من الأمراء أنه كافر كونه حاكم وهذا كان في مفهوم الخوارج أنه حكم بغير ما أنزل الله تعالى فالمسألة هي عدم فهم الخوارج لمعنى الحكم حيث ظنوا أن كل مخالفة للشرع تسمى حكم ويتنـزل على فاعلها حكم الله تعال بأنه كافر فلم يفرقوا بين الأحكام والأفعال وجعلوها شيئا واحدا.

فجاء المعاصرون ووافقوا الخوارج في إطلاق لفظ الحكم ومعناه على المخالفات الشرعية ولم يفرقوا بين الأفعال والأحكام فهما سواء في سوء الفهم، لكن الخوارج أحكم مسلكا وسبيلا منهم فحكموا على فهمهم الفاسد بنص حكم الله تعالى بينما المعاصرون حكموا على فهمهم الفاسد بالقول المنسوب لابن عباس رضي الله عنه، ولا شك أن من رد أقواله إلى قول الله تعالى وقول رسوله عليه السلام أهدى سبيلا لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا ً(النساء :59), فلذلك كان عند الخوارج أن من فعل منهيا عنه وترك مأمورا به فقد حكم بغير ما أنزل الله وبالتالي فهو كافر مخلد في جهنم ,وعند هؤلاء أنه مؤمن عاصي,والأقوال المتعلقة بالحكم عند الصحابة والتابعين إنما هو رد عليهم فيما كان حادثا في ذلك الزمان من بعض الأمراء من مخالفات شرعية في الأفعال وليس مخالفات في الأحكام حيث لم يثبت إطلاقا دون نزاع أنه حصل في زمان ابن عباس رضي الله عنه أن قاضيا أو أميرا حكم على من زنا بالسجن أو على من سرق بالغرامة أو على من شرب الخمر بحكم مخالف لحكم الشرع ومن ادعى ذلك فعليه بالدليل المحكم الصريح الواضح الذي لا شبهة فيه, فكما أن حكم من حكم على الخمر أنها حلال مع علمه بحكم الله أنه كافر فكذلك فإن حكم من حكم على السارق بالسجن مع علمه بحكم الله أنه كافر أيضا سواء بسواء وكذلك من رد الحكم إلى غير شرع الله تعالى ولو كان مشابها لحكم الله تعالى أو حكم رسوله عليه الصلاة والسلام فهو كافر فهذا القول الذي أثر عن السلف موضع النـزاع ليس تفسيرا للآية وإنما فتوى لواقعة حصلت استدل المخالف لهم بالآية في غير محلها فأنكروا أن تكون دليلا على صحة ما ذهبوا إليه, فيجب قبل الإستشهاد بقولهم أن نعلم حقيقة الواقعة وهذا مالم يتعرض له مرجئة هذا الزمان جهلا وغفلة وتعالما فأرونا الواقعة ثم انقشوا.

عن عمران بن حدير قال : أتى أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس فقالوا:يا أبا مجلز أرأيت قول الله :ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون(), أحق هو ؟ قال:نعم, قالوا:ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (المائدة :45),أحق هو ؟ قال:نعم!قال فقالوا : يا أبا مجلز فيحكم هؤلاء بما أنزل الله ؟ قال: هو دينهم الذي يدينون به وبه يقولون وإليه يدعون فإن هم تركوا شيئا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبا ! فقالوا:لا والله ولكنك تفرق ! قال : أنتم أولى بهذا مني ! لا أرى وإنكم أنتم ترون هذا ولا تحرجون ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك أو نحوا من هذا, وفي رواية أخرى:قعد إلى أبي مجلز نفر من الإباضية قال فقالوا له:يقول الله:ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون()فأولئك هم الظالمون (المائدة:45) (فأولئك هم الفاسقون(المائدة:47), قال أبو مجلز: إنهم يعملون بما يعملون - يعني الأمراء - ويعلمون أنه ذنب ! قال:وإنما نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى قالوا: أما والله وإنك لتعلم مثل ما نعلم ولكنك تخشاهم قال:أنتم أحق بذلك منا! أما نحن فلا نعرف ما تعرفون! قالوا:ولكنكم تعرفونه ولكن يمنعكم أن تمضوا أمركم من خشيته.هـ تفسير الطبري 4/588.

فقول الخوارج إفراط وقول المعاصرين تفريط وقولنا هو الحق لا إفراط ولا تفريط فالمخالف في الأفعال( التي ورد الدليل أنها ليست كفر), مسلم عاص والمخالف في الأحكام كافر خارج من الملة, فالحكم له صورتان لا ثالث لها وهي:

الأولى: الحكم بحكم الله إما عدلا وهي الإيمان أو ظلما وهي الفسق أو الكفر الأصغر.

الثانية: الحكم بغير حكم الله وهي الكفر.

وضل من ضل بسبب عدم التمييز بين هذه الأمور للشبهات والشهوات التي طغت على قلوبهم.

ب - إن ما تقرر هو قول العلماء من بعد ابن عباس رضي الله عنه فلا يوجد على الإطلاق عالم من السلف قال بأن الذي يخالف في الحكم الشرعي الوضعي أو التكليفي أنه مسلم ولكنهم يشترطون العلم بالحكم والرد إلى شرع الله تعالى فإذا تحقق علمه بالحكم فقد حكموا عليه بالإجماع أنه كافر خارج من الملة، ولذلك فان أقوالهم متعلقة بمن سرق أو زنا أو شرب الخمر ونحو ذلك أي: ما هو مثله أي المخالفة في الأفعال - النواهي والأوامر دون الكفر-وأذكر قولا جامعا لشيخ الإسلام محمد بن نصر المروزي رحمه الله: ومن ترك الإيمان الذي هو عمل مثل الزكاة والحج والصوم أو ترك الورع عن شرب الخمر والزنا فقد زال عنه بعض الإيمان ولا يجب أن يستتاب عندنا ولا عند من خالفنا من أهل السنة وأهل البدع ممن قال إن الإيمان تصديق وعمل إلا الخوارج وحدها فكذلك لا يجب بقولنا كافر من جهة تضييع العمل أن يستتاب ولا يزول عنه الحدود وكما لم يكن بزوال الإيمان الذي هو عمل استتابته ولا إزالة الحدود عنه إذ لم يزل أصل الإيمان عنه فكذلك لا يجب علينا استتابته وإزالة الحدود والأحكام عنه بإثباتنا له اسم الكفر من قبل العمل إذ لم يأت بأصل الكفر الذي هو جحد بالله أو بما قال قالوا ولما كان العلم بالله إيمانا والجهل به كفرا وكان العمل بالفرائض إيمانا والجهل بها قبل نزولها ليس بكفر وبعد نزولها من لم يعملها ليس بكفر لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقروا الله في أول ما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم إليهم ولم يعملوا الفرائض التي افترضت عليهم بعد ذلك فلم يكن جهلهم ذلك كفرا ثم انزل الله عليهم هذه الفرائض فكان إقرارهم بها والقيام بها إيمانا وإنما يكفر من جحدها لتكذيبه خبر الله ولو لم يأت خبر من الله ما كان بجهلها كافرا وبعد مجيء الخبر من لم يسمع بالخبر من المسلمين لم يكن بجهلها كافرا والجهل بالله في كل حال كفر قبل الخبر وبعد الخبر قالوا فمن ثم قلنا أن ترك التصديق بالله كفر به وان ترك الفرائض مع تصديق الله انه أوجبها كفر ليس بكفر بالله إنما هو كفر من جهة ترك الحق كما يقول القائل كفرتني حقي ونعمتي يريد ضيعت حقي وضيعت شكر نعمتي قالوا ولنا في هذا قدوة بمن روى عنهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين إذ جعلوا للكفر فروعا دون أصله لا تنقل صاحبه عن ملة الإسلام كما ثبتوا للإيمان من جهة العمل فرعا للأصل لا ينقل تركه عن ملة الإسلام من ذلك قول ابن عباس في قوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.

أنواع الفسق والشرك والكفر: قال أبو عبد الله قالوا وكذلك الفسق فاحتطنا فسق ينقل عن الملة وفسق لا ينقل عن الملة فيسمى الكافر فاسقا والفاسق من المسلمين فاسقا ذكر الله إبليس فقال ففسق عن أمر ربه وكان ذلك الفسق منه كفرا وقال الله تعالى وأما الذين فسقوا فمأواهم النار يريد الكفار دل على ذلك قوله كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون وسمي القاذف من المسلمين فاسقا ولم يخرجه من الإسلام قال الله والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون وقال الله فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج فقالت العلماء في تفسير الفسوق ها هنا هي المعاصي كان الظلم ظلمين والفسوق فسقين كذلك الكفر كفران أحدهما ينقل عن الملة والآخر لا ينقل عنها فكذلك الشرك شركان شرك في التوحيد ينقل عن الملة وشرك في العمل لا ينقل عن الملة وهو الرياء قال الله جل وعز فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعباده ربه أحدا يريد بذلك المراءاة بالأعمال الصالحة وقال النبي صلى الله عليه وسلم الطيرة شرك قال أبو عبد الله فهذان مذهبان هما في الجملة محكيان عن أحمد بن حنبل وموافقيه من أصحاب الحديث.

حكى الشالنجي أنه سأل أحمد بن حنبل عن المصر على الكبائر يطلبها بجهده إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصوم هل يكون مصرا من كانت هذه حاله؟؟ قال هو مصر مثل قوله: لا يزني حين يزني وهو مؤمن يخرج من الإيمان ويقع في الإسلام ومن نحو قوله لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ومن نحو قول ابن عباس في قوله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فقلت له :ما هذا الكفر قال كفر لا ينقل عن الملة مثل الإيمان بعضه دون بعض فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه. وقال ابن أبي شيبة لا يزني حين يزني وهو مؤمن لا يكون مستكمل الإيمان يكون ناقصا من إيمانه أ.هـ تعظيم قدر الصلاة 521-528.

فانظر رحمك الله بعين البصيرة وليس بعين التقليد إلى قوله: فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه أ.هـ أين النصوص الشرعية واختلاف العلماء فيمن حكم بالسجن على السارق أو بالسجن على الزاني وما شابه ذلك أو من رد حكمه إلى غير شرع الله تعالى أنه فاسق داخل دائرة الإيمان؟.

فالنتيجة: أن من لم يحكم على من لم يحكم بما أنزل الله بالكفر فقد حكم بغير ما أنزل الله وينطبق عليه حكم الله بأنه كافر قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في ذكره لأنواع الطواغيت ما نصه:

الثاني : الحاكم الجائر، المغير لأحكام الله تعالى، والدليل قوله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (النساء:60).
الثالث : الذي يحكم بغير ما أنزل الله، والدليل قوله تعالى: َمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون (المائدة:44) أ.هـ الدرر السنية 1/162.

أنظر كيف أنه فرق بين الحاكم الجائر المغير أي: الذي شرع من عنده وبدل وبين من لم يشرع ولكن حكم بغير ما أنزل الله تعالى فجعلهما سواء وأنهما طاغوت ولم يتطرق إلى الاعتقاد.

وإتماما للفائدة أنقل دراسة لمسألة الحكم نقلا عن منتدى الفوائد لمن سمى نفسه بـ ابن القرية الفلاح المعتصم ذكر أنها استغرقت منه عشر سنوات من البحث:

الحاكمية عبادة كأي نوع آخر من العبادات مثل الصلاة،والصيام، والذبح، والدعاء، والنذر، وو0لا فرق بينهما أبداً, دليل ذلك من كتاب الله: قال تعالى: إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ "(يوسف:40) وقال سبحانه: وهُوَ اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى والآخِرَةِ ولَهُ الحُكْمُ وإلَيْهِ ترجعون (القصص:70), وقال سبحانه: إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ( يوسف:67), وقال سبحانه:أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ( الأنعام:63), وقال سبحانه: وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ (الرعد:37), وقال سبحانه :وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ( الكهف 26).

فعبادة الله تعالى تقتضي إفراده عز وجل بالتحليل والتحريم، حيث قال سبحانه: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ والْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهاً واحِداً لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ () فهذه الآيات تدل على أنها من توحيد العبادة أي [ توحيد الألوهية ] وأن الذي يشرك مع الله في حكمه كالذي يشرك في أي نوع من أنواع العبادة .

قال الشنقيطي: الإشراك بالله في حكمه، والإشراك في عبادته كلها بمعنى واحد، لا فرق بينهما البتة، فالذي يتبع نظاماً غير نظام الله، وتشريعاً غير تشريع الله، كالذي يعبد الصنم ويسجد للوثن، لا فرق بينهما البتة بوجه من الوجوه، فهما واحد، وكلاهما مشرك بالله [ انظر أضواء البيان 7/162.

ويقول رحمه الله تعالى أيضاً : ويفهم من هذه الآية (ولا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً), أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله، وهذا المفهوم جاء مبيناً في آيات أخر، كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله ولا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ وإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وإنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ( ) فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم، وهذا الإشراك في الطاعة، واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى، هو المراد بعبارة الشيطان في قوله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ()0 وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم:يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِياً()أ.هـ أضواء البيان 3/4,404/83.

ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم: أن تحكيم شرع الله تعالى وحده هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله بقوله: وتحكيم الشرع وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه، إذ مضمون الشهادتين أن يكون الله هو المعبود وحده لا شريك له، وأن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم- هو المتبّع المحكّم ما جاء به فقط، ولا جردت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك والقيام به فعلاً وتركاً وتحكيماً عند النزاع أ.هـ فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم12/251، (رسالة تحكيم القوانين).

كذلك عُلم من كتاب الله أن الحكم من توحيد الربوبية{التوحيد العلمي الخبري},فالحكم بما أنزل الله تعالى من توحيد الربوبية؛ لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبيته وكمال ملكه وتصرفه،ولهذا سمى الله تعالى المتبوعين في غير ما أنزل الله تعالى أرباباً لمتبعيهم، فقال سبحانه:اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ والْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهاً واحِداً لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(التوبة:31).

يقول ابن حزم - في قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ...الآية : لما كان اليهود والنصارى يحرمون ما حرم أحبارهم ورهبانهم، ويحلون ما أحلوا، كانت هذه ربوبية صحيحة، وعبادة صحيحة، قد دانوا بها، وسمى الله تعالى هذا العمل اتخاذ أرباب من دون الله وعبادة، وهذا هو الشرك بلا خلاف أ.هـ الفصل3/266.

ويقول ابن تيمية في هذا الشأن: قد قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ والْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهاً واحِداً لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ () وفي حديث عدي بن حاتم - وهو حديث حسن طويل رواه أحمد والترمذي وغيرهما وكان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو نصراني، فسمعه يقرأ هذه الآية، قال: فقلت له: إنا لسنا نعبدهم، قال أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه ؟ قال فقلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم، وكذلك قال أبو البختري: أما إنهم لم يصلوا لهم، ولو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم،ولكن أمروهم فجعلوا حلال الأمة حرامه،وحرامه حلاله، فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية..فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام،وتحريم الحلال،لا أنهم صلوا لهم،وصاموا لهم،ودعوهم من دون الله، فهذه عبادة الرجال،وقد ذكر الله أن ذلك شرك بقوله:لاَّ إلَهَ إلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ()أ.هـ الفتاوى7/ 67.

ويقول العز بن عبد السلام: وتفرد الإله بالطاعة لاختصاصه بنعم الإنشاء والإبقاء والتغذية والإصلاح الديني والدنيوي، فما من خير إلا هو جالبه، وما من ضير إلا هو سالبه..وكذلك لا حكم إلاّ له أ.هـ قواعد الأحكام 2/134 -135.

ويقول عبد الرحمن السعدي: فإن الرب، والإله هو الذي له الحكم القدري، والحكم الشرعي، والحكم الجزائي، وهو الذي يؤله ويعبد وحده لا شريك له، ويطاع طاعة مطلقة فلا يعصى بحيث تكون الطاعات كلها تبعاً لطاعته أ.هـ القول السديد ص 102’

فمما سبق يتضح لنا جلياً أن الحكم من توحيد الربوبية, وإليك الدليل أنها من توحيد الأسماء والصفات : أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً (الأنعام:114), وقوله تعالى: : فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ (الأعراف:87), وقوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ (التين:8).

وهنا يتضح لنا من كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أقوال السلف، والخلف أن الحكم من توحيد الألوهية، والربوبية، والأسماء والصفات والتي تؤكد أنه عبادة من صرفها لغير الله فقد أشرك بالله العظيم 0

الحكم شرط في الإيمان لا كما يقول البعض ممن شطح به الجهل، والتعنت أنه ليس شرطاً في الإيمان وإليك الدليل: يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمنوا أطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(النساء:59), فلقد عدّ الشارع هذا التحكيم إيماناً كما قال تعالى: فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً(النساء:65).

يقول ابن حزم": فسمى الله تعالى تحكيم النبي -صلى الله عليه وسلم- إيماناً، وأخبر الله تعالى أنه لا إيمان إلا ذلك، مع أنه لا يوجد في الصدر حرج مما قضى، فصح يقيناً أن الإيمان عمل وعقد وقول؛ لأن التحكيم عمل، ولا يكون إلا مع القول، ومع عدم الحرج في الصدر وهو عقد أ.هـ الدرة 238 .

ويقول ابن تيمية: لذلك أوجبت الشريعة التحاكم إلى الشرع وجعلته شرط الإيمان، قال تعالى: فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ (النساء:59) وقال سبحانه: ومَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ (الشورى: 10). أ.هـ الفرقان 65.

وقال رحمه الله: فالشرع المنـزل من عند الله تعالى وهو الكتاب والسنة الذي بعث الله به رسوله، ليس لأحد من الخلق الخروج عنه، ولا يخرج عنه إلا كافر.. أ.هـ الفتاوى ج 11 / 262.

ويقول أيضا: فكل من خرج عن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشريعته، فقد أقسم الله بنفسه المقدسة، أنه لا يؤمن حتى يرضى بحكم رسول الله في جميع ما شجر بينهم من أمور الدين أو الدنيا، وحتى لا يبقى في قلوبهم حرج من حكمه أ.هـ الفتاوى 28/471.

ويقول ابن القيم: إن قوله ( فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) نكرة في سياق الشرط تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين: دِقِّه وجُلِّه، جليه وخفيه، ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله وبيان حكم ما تنازعوا فيه، ولم يكن كافياً لم يأمر بالرد إليه،إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النـزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النـزاع. ومنها أن الله جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان، ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه،لا سيما التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين، وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر، ثم أخبرهم أن هذا الرد خير لهم، وأن عاقبته أحسن عاقبة أ.هـ أعلام الموقعين 1/49-50.

ويقول ابن كثير: فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله، وشهد له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى: ( إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ )أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النـزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر أ.هـ التفسير3/209.

ويقول الشيخ السعدي في هذا الصدد: الرد إلى الكتاب والسنة شرط في الإيمان. فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النـزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت كما جاء في الآية: (أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ يَزْعُمُونَ.)الآية، فإن الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله وتحكيمه، في كل أمر من الأمور، فمن زعم أنه مؤمن، واختار حكم الطاغوت على حكم الله، فهو كاذب في ذلك..أ.هـ التفسير 2/90.

نقولات سلفية

عن مسروق قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيما أنزلت ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه 0 صحيح البخاري.

عن سالم بن أبي الجعد قال قيل لعبد الله ابن مسعود رضي الله عنه ما السحت قال الرشوة قالوا في الحكم قال ذاك الكفر ثم تلا هذه الآية ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " وهو عند الطبري وأبي يعلى وغيرهما ولا خلاف في صحته عنه رضي الله عنه 0

عن ابن طاووس عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون () قال:"هي كفر"، وفي لفظ: "هي به كفر"، وآخر: "كفى به كُفْره"، رواه عبد الرزاق في تفسيره (1/191) وابن جرير (6/256) ووكيع في أخبار القضاة (1/41) وغيرهم بسند صحيح.

قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى ناقلاً عن إسحاق ابن راهويه: قد أجمع العلماء أن من دفع شيئاً أنزله الله أو قتل نبي وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر [34] وللعلم أن إسحاق هو الذي نقل الإجماع على كفر تارك الصلاة فكيف يقبل منه في الصلاة ولم يقبل منه في الحكم ؟!!! وتأمل أخي كلمة ((وهو مقر )) أ.هـ التمهيد 4 /226 .

عن مسروق قال: القاضي إذا أخذ هدية فقد أكل السحت وإذا أخذ الرشوة بلغت به الكفر أ.هـ مصنف ابن أبي شيبة 4 / 443.

عن السدي ومن لم يحكم بما أنزل الله يقول:ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمدا وجار وهو يعلم فهو من الكافرين أ.هـ تفسير الطبري4/588.

قلت: وإن كان أسباط كثير الخطأ إلا أنه صدوق وقد وافق ابن مسعود ومسروق وإجماع ابن راهويه

وقال ابن حزم رحمه الله تعالى: " من حكم بحكم الإنجيل مما لم يأت بالنص عليه وحي في شريعة الإسلام فإنه كافر مشرك خارج عن ملة الإسلام "أ.هـ الإحكام في أصول الأحكام 5 / 153 .

وقال ابن تيمية والحكم بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو عدل خاص وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها والحكم به واجب على النبي صلى الله عليه وسلم وكل من اتبعه ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر أ.هـ منهاج السنة ج 5 /131.

وقال رحمه الله ومعلوم أن من أسقط الأمر والنهى الذي بعث الله به رسله فهو كـافـر بـاتـفـاق الـمسـلـمـيــن والـيــهـود والـنــصـارى أ.هـ مجموع الفتاوى8/106.

وقال أيضا: وقد يقولون إن الشرائع قوانين عدلية وضعت لمصلحة الدنيا فأما المعارف والحقائق والدرجات العالية في الدنيا والآخرة فيفضلون فيها أنفسهم وطرقهم على الأنبياء وطرق الأنبياء وقد علم بالاضطرار من دين المسلمين أن هذا من أعظم الكفر والضلال أ.هـ مجموع الفتاوى2/232.

وقال أيضا: ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوغ إتباع غير دين الإسلام أو إتباع شريعة غير شريعة محمد فهو كافر وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب أ.هـ مجموع الفتاوى28/524.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكّم الطاغوت وتحاكم إليه, والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حدَّه من معبود أو متبوع أو مطاع, فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة له أ.هـ أعلام الموقِّعين 1/85.

يقول ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في معرض تفسير قوله:أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يُوقنون(المائدة:50).«يُنكر الله تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كلّ خيرٍ الناهي عن كلّ شرٍّ، وعَدَل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من الشريعة..كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات..فــمـن فـعـل ذلـك مـنـهـم فـهـو كـافـر يـجـب قــتـاله حـتـى يــرجــع إلــى حـكــم الله ورســوله، فــلا يـحـكــم سـواه فــي قـلــيـل أو كـثــيـر.

وقال أيضا: بعد أن نقل عن الجويني نتفاً من الياسق أو الياسا التي كان يتحاكم إليها التتار: فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر, فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين أ.هـ البداية والنهاية11/128.

والحكم بغير ما أنزل الله من أنواع الشرك والتدخل في ملكه وملكوته ومعارضة شرعه بشرع يشترعونه أ.هـ رسالة التوحيد - الدهلوي 1/129

وقال عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ رحمه الله تعالى: من تحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد التعريف فهو كافر أ.هـ الدرر السنية 2/241.

ويقول الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله تعالى " ومن أصدر تشريعاً عاماً ملزماً للناس يتعارض مع حكم الله فهذا يخرج من الملة كافراً. أ.هـ أهمية الجهاد ص 196.

قال الشيخ سليمان العلوان حفظه الله :كـمـا نـقـل الإجـمـاع عـلـى ذلـك إسحاق والإمـام ابـن حـزم والـحـافـظ ابـن كـثـيــر رحـمـهم الله تـعـالـى فـي الـمـجـلـد الـثـالـث مـن الـبـدايــة والـنـهـايـة فــي تـرجـمــة جـنـكـيـز خـان.

إشـكاليات والرد عليـها

الإشكال الأول:قالوا لا بد من الاستحلال،وهذا خطير فإن الإنسان يكفر بالعمل ولا يشترط الاعتقاد فإبليس امتنع فقط عن السجود تكبراً وهذا عمل والصلاة من الأعمال فمن تركها غير جاحد كفر كما أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وخصوصاً إن ورد نص على أن ترك هذا العمل مكفر كالحكم والصلاة فقد ورد فيهما نص فتأمل هذا الكلام وقد ورد الإجماع عن إسحاق بالكفر في الحكم كما ورد في الصلاة,وهذا القول هو من أقوال المرجئة إليك الدليل من كلام السلف رحمهم الله تعالى.

قال الإمام إسحاق بن راهويه:غلت المرجئة حتى صار من قولهم إن قوما يقولون: من ترك الصلوات المكتوبات وصوم رمضان والزكاة والحج وعامة الفرائض من غير جحود بها لا نكفره يرجى أمره إلى الله بعد إذ هو مقر فهؤلاء الذين لا شك فيهم يعني في أنهم مرجئة أ.هـ فتح الباري لابن رجب1/23.

وجاء في السنة لعبد الله بن احمد عن سويد بن سعيد الهروي قال سألنا سفيان بن عيينة عن الإرجاء فقال: والمرجئة أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا اله إلا الله مصرا بقلبه على ترك الفرائض وسموا ترك الفرائض ذنبا بمنـزلة ركوب المحارم وليس بسواء لان ركوب المحارم من غير استحلال معصية وترك الفرائض متعمدا من غير جهل ولا عذر هو كفر. أ.هـ السنة 1/347.

الإشكال الثاني: وهو أثر ابن عباس رضي الله عنه أنه قال كفر دون كفر وفي رواية ليس الكفر الذي تذهبون إليه ورواية ليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ..وهي من طرق والرد عليها من وجوه:

أولاً : وجد من يخالف ابن عباس من الصحابة هذا على فرض صحة ما ورد عنه ولم يصح قطعاً كما سيأتي وهو ابن مسعود رضي الله عنه وقد قال صلى الله عليه وسلم " رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد " أي: (ابن مسعود ) وهو القائل ( والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيما أنزلت ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه , فقد أقسم بالله أنه لا يعلم من هو أعلم منه بكتاب الله 0

ثانياً: الإجماع المنقول عن إسحاق رحمه الله تعالى المخالف لمفهوم هذه الرواية 0

ثالثاً: القرائن من كتاب الله تدل على أن المقصود بالكفر هو الكفر الأكبر وليس الأصغر من حيث أنها عبادة من أصل التوحيد إطلاقها والأصل في الكفر إذا عُرّف باللام أنه الكفر الأكبر كما قرر هذا شيخ الإسلام رحمه الله في الاقتضاء [1/208] إلا إذا قيد أو جاءت قرينة تصرفه عن ذلك". اهـ0

وقال رحمه الله تعالى: " وذلك أن اللام في لغة العرب هي للتعريف فتنصرف إلى المعروف عند المتكلم والمخاطب وهي تعم جميع المعروف فاللام في القول تقتضي التعميم والاستغراق لكن عموم ما عرفته وهو القول المعهود المعروف بين المخاطب والمخاطب أ.هـ الاستقامة 1/ 222.

رابعاً:وهي قضية القضايا،ورحى المسألة، وفصل الزبد عمَّا ينفع الناس، في الأثر الوارد عن ابن عباس رضي الله عنه بألفاظ مختلفة فهي حرِية بفرزِ غثِّها عن سمِينِها،وصفاءِها عن كدرِها، فندرس أسانيدها دراسة علمية موثقة على نهج أهل الحديث، سلفهم ومن وافقهم من خلفهم، آخذين ما لنا وما علينا نقول وبالله التوفيق:

الرواية الأولى:" عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في تفسير قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون):" من جحد ما أنزلت فقد كفر ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق "

نقول:هذه الرواية أخرجها الطبري في جامع البيان (6/166) , وابن أبي حاتم في التفسير(4/1142) وهي من طريق عبد الله بن صالح عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس به؛ وهي طريق معلولة بعلتين:

العلة الأولى: عبد الله بن صالح ضعيف قال العلماء فيه ما نصه :

قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن عبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد فقال كان أول أمره متماسك ثم فسد بآخره وليس هو بشيء

قال ابن المديني: لا أروي عنه شيئاً 0

وقال النسائي: ليس بثقة 0

قال أحمد بن صالح: متهم ليس بشيء0

قال صالح جزرة: كان ابن معين يوثقه وهو عندي يكذب في الحديث0

قال أبو زرعة: لم يكن عندي ممن يتعمد الكذب وكان حسن الحديث 0

قال أبو حاتم: صدوق أمين ما علمته 0

فالأئمة الكبار كأحمد وابن المديني والنسائي وأحمد بن صالح وصالح جزرة ضعفوه.

العلة الثانية: الانقطاع بين ابن أبي طلحة وابن عباس فهو لم يسمع منه قال ذلك: ابن معين ودُحيم وابن حبان وغيرهم وأما قولهم بينهما مجاهد وعكرمة فهذا لا يصح لوجهين:

الوجه الأول: أن الذي أثبت سماعه مجهول من مجاهد وعكرمة فقد ذكر ذلك المزي في تهذيب الكمال وقال:" بينهما مجاهد " ولم يعزو ذلك لأحد ممن عاصر ابن أبي طلحة أو إمام من أئمة الجرح والتعديل، وأما ما جاء عن الطحاوي في مشكل الآثار فهو لا يُفرح به أبداً لأنه نسب ذلك لبعض العلماء ولم يسم منهم أحدا بل هو نفسه نقد مثل هذه الرواية فإليك كلامه : من خبر ابن عباس رضي الله عنهما الذي رويناه في صدر هذا الكتاب وإن كان خبرا منقطعا لا يثبت مثله غير أن قوما من أهل العلم بالآثار يقولون إنه صحيح وإن علي بن أبي طلحة وإن كان لم يكن رأى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فإنما أخذ ذلك عن مجاهد وعكرمة مولى بن عباس رضي الله عنهما أ.هـ شرح معاني الآثار 3 /279 0 "

أقول: فهل سمى أحد من أهل العلم الذين عاصروا ابن أبي طلحة وعرفوه حق المعرفة ؟ وهل مجرد العزو للمجهول يعتبر حجة؟علما أن الطحاوي رحمه الله تعالى يقول كما هو مبين أعلاه: وإن كان خبرا منقطعا لا يثبت مثله أ.هـ فهو يقصد الانقطاع الوارد بين ابن أبي طلحة وابن عباس السماع لم يثبت بيقين قطعاً.

الوجه الثاني: أن نفي السماع المطلق ورد من كلام الأئمة الأثبات وخص يعقوب بن إسحاق عدم سماع الصحيفة بقوله عندما سأل صالح بن محمد ممن سمع التفسير قال : من لا أحد .أ.هـ أنظر تهذيب الكمال2 /974 , فلا يزول هذا إلا بيقين فاليقين لا يزول بالظن كما هو متقرر 0

أما قولهم هي وجادة فهذا القول أوهن من بيت العنكبوت لأن شروط الوجادة لا تنطبق عليها قطعاً ولا يستحق النقاش لأن هذا من رمي الكلام على عواهنه فحقه إهماله قربى, كذلك علي بن أبي طلحة هذا يروي المنكرات وقد روى في هذه الصحيفة من المنكرات الشيء الكثير ويأتي بما ينكر عليه وما يتفرد بمعناه عن سائر أصحاب ابن عباس كما قال الإمام أحمد أن له منكرات وإليك بعض الأدلة:

منها:ما أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (81),واللالكائي في«شرح أصول اعتقاد أهل السنة (2/201), من طريق عبد الله بن صالح عن معاوية عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ [النور: 35] يقول: الله سبحانه وتعالى هادي أهل السموات والأرض,{ مَثَلُ نُورِهِ } مثل هداه في قلب المؤمن، كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإذا مسته ازداد ضوءاً على ضوءٍ.

ومنها: ما أخرجه الطبري في مواضع من تفسيره 8/115 والبيهقي في الأسماء والصفات (94) بهذا الإسناد مرفوعاً في قوله تعالى: {المص} {كهيعص} { طه} } يس} { ص} { طس } { حم } { ق} { ن } ونحو ذلك قال: قسمٌ أقسمه الله تعالى، وهو من أسماء الله عزّ وجلّ 0

وهذا خبر منكر فسبحان الله كيف هذا يصح عند العقلاء؟ هل سمع الأنام أن قاف وصاد ونون من أسماء الله تعالى بمعنى إذا دعوت الله تقول يا قاف ويا صاد الله المستعان , كذلك روى ابن الحكم كما نقل السيوطي في الإتقان ( 2/189) عنه أن الشافعي قال:لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث أ.هـ أقول: كيف وفي الصحيفة ما يزيد على (1400) رواية؟!!.

فخلاصة القول أن هذا لأثر لا يثبت قطعاً على منهاج المحدثين من علماء الجرح والتعديل كما هو ظاهر لكل طالب حق، وناشد هدى 0

الرواية الثانية: تعد من المشكلات وهي عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى:وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ). قال: هي به كفر، وليس كفرا بالله وملائكته وكتبه ورسله. وقد جاء هذا اللفظ عند الطبري من كلام ابن عباس رضي الله عنه فيما يظهر على من لم تظهر له العلة؛ وهو من طريق " سفيان عن معمر بن راشد عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس " وجاء من كلام عبد الله بن طاووس رحمه الله ولكن مقتضى علم الحديث يصرخ بأن هذه اللفظة " من كلام ابن طاووس " وليست من كلام ابن عباس رضي الله عنه فهي مدرجة وذلك من وجوه:

الوجه الأول: أن الذي روى هذه الزيادة من كلام ابن عباس هو" سفيان " عن معمر بن راشد وقد خالفه فيها عبد الرزاق ففصلها وبين أنها من كلام طاووس، قال عبد الرزاق: اخبرنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله (فأولئك هم الكافرون) قال: هي به كفر. قال ابن طاووس: وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله"؛ فتبين أن ابن طاووس هو قائلها لا ابن عباس.

الوجه الثاني: أن أئمة الحديث قالوا: إذا اختلف أصحاب معمر فالقول لعبد الرزاق، ذكر ذلك إمام العلل والجرح والتعديل وصاحب المعرفة والمعاصرة بعبد الرزاق الصنعاني فقال:محمد بن سهل بن عسكر قال سمعت أحمد بن حنبل يقول :إذا اختلف أصحاب معمر في حديث معمر فالحديث حديث عبد الرزاق أ.هـ تاريخ أسماء الثقات 1/1800.

كذلك الحافظ ابن حجر رجح رواية عبد الرزاق عن معمر عن رواية عبد الأعلى عن معمر وما أدراك ما عبد الأعلى ثقة من رجال الجماعة ؟! وإليك البينة قال رحمه الله تعالى: ووقع عند النسائي أيضا في حديث الزهري من رواية عبد الأعلى عن معمر زيادة البطة بين الكبش والدجاجة لكن خالفه عبد الرزاق وهو أثبت منه في معمر فلم يذكرها أ.هـ فتح الباري 2/ 368.

لذلك يؤكد ابن عبد البر رحمه الله تعالى هذا فيقول: وأبان ليس بحجة ولا تقبل زيادته على عبد الرزاق لأن عبد الرزاق أثبت الناس في معمر أ.هـ التمهيد6/410,علماً أن أبان هذا ثقة له أفراد من رجال الصحيحين

وقال الدوري: عن بن معين كان عبد الرزاق أثبت في حديث معمر أ.هـ تهذيب التهذيب6/ 279.

وقال يعقوب بن شيبة: عبد الرزاق أثبت في معمر جيد الإتقان.

فتأمل أخي القارىء الكريم كيف رجح الأئمة الكبار كأحمد وابن معين وابن عبد البر ويعقوب وابن حجر رواية عبد الرزاق عن غيره وكيف يستميت القوم الذين يؤيدون مذهب الإرجاء في مخالفة الأئمة فالله المستعان.

الوجه الثالث: أن الرواية الصحيحة الثابتة هي رواية عبد الرزاق المطلقة التي تقرر ((هي به كفر )) دون الزيادة المدرجة في رواية سفيان (( وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله ))، وهذا مقتضى كلام الإمام أحمد وابن معين ويعقوب وابن عبد البر وابن حجر 0

الوجه الرابع : ما قرره أئمة الحديث في المدرج ينطبق تمام المطابقة على هذه الرواية، قال الذهبي رحمه الله تعالى: " المدرج هو ألفاظ تقع من بعض الرواة متصلة بالمتن لا يبين للسامع إلا أنها من صلب الحديث ويدل دليل علي أنها من لفظ راوي، يأتي الحديث من بعض الطرق بعبارة تفصل هذا من هذا " أ.هـ 0 وهنا جاءت رواية تفصل هذا من هذا ممن هو أوثق وأحفظ للرواية من المخالف

فخلاصة هذه الرواية: أنها مدرجة من كلام ابن طاووس وابن عباس رضي الله عنه ( بَرِيءٌ منها ).

الرواية الثالثة لفظة " كفر دون كفر " عن ابن عباس: أخرجها المروزي في تعظيم قدر الصلاة 2/521 والحاكم في مستدركه 2/313 من طريق هشام بن حُجَير عن طاووس عن ابن عباس به (إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفراً ينقل عن الملة (فأولئك هم الكافرون كفر دون كفر). وزاد بعضهم ( وظلم دون ظلم وفسق دون فسق). (( لا تصح )) في سندها هشام ابن حجير ضعفه ابن معين وأحمد وغيرهما وقد تفرد بها دون سواه فهي منكرة لسببين:

السبب الأول:-: تفرد هشام بها.

السبب الثاني:مخالفته من هو أوثق منه فقد خالف عبد الله بن طاووس وهو أوثق منه ورواية ابن طاووس جاءت بألفاظ هي: هي كفر، وفي لفظ:هي به كفر، وآخر:كفى به كُفْره،رواه عبد الرزاق في تفسيره (1/191) وابن جرير (6/256) ووكيع في أخبار القضاة (1/41) وغيرهم بسند صحيح وهي مطلقة واضحة لم تقيد بما ذكره ابن حجير بالزيادة0فيتضح أن هذه الرواية أيضاً لا تصح فهي منكرة لا تصلح في الشواهد 0

الرواية الرابعة :(( ليس الكفر الذي يذهبون إليه )) فهي من طريق هشام بن حجير فقد ضعفه الكثير من الأئمة قال: قال علي بن المديني قرأت على يحي بن سعيد: ثنا بن جريج عن هشام بن حجير حديثا، قال يحي بن سعيد: خليق أن أدعه. قلت: أضرب على حديثه؟ قال: نعم.

قال بن عدي كتب إلي محمد بن الحسن ثنا عمرو بن علي سمعت يحي سئل عن حديث هشام بن حجير فأبى أن يحدث به ولم يرضه.

قال عبد الله بن أحمد: سألت يحيى عن هشام بن حجير فضعفه جداً، وقال سمعت أبي يقول: هشام بن حجير مكيٌ ضعيف الحديث.

أما توثيق هؤلاء الأئمة له كابن حبان، وابن سعد، وابن شاهين والعجلي فهو لا شيء عند علماء الجرح والتعديل الذين عليهم التعويل في مثل هذا الخلاف كأحمد وابن المديني وابن سعيد فهم أئمة الدنيا في هذا الفن خصوصاً وقد تفرد بها هشام ولم يتابعه عليها في الصحيح أحد ولذلك يقول " سفيان مبرراً سبب روايته عن هشام ما نصه: لم نأخذ منه إلا ما لا نجد عند غيره أ.هـ إذاً فكل ما رواه سفيان عن هشام هو من هذا القبيل فكيف يدعى المتابعة عليه ؟! .

قلت(الناقل): سمعت أبى يقول ذلك نا عبد الرحمن نا صالح بن احمد بن محمد بن حنبل نا على يعنى بن المديني قال سمعت يحيى يعنى بن سعيد القطان وذكر عمرو بن مسلم صاحب طاووس فحرك يده وقال ما أرى هشام بن حجير إلا أمثل منه قلت له أضرب على حديث هشام بن حجير فقال نعم أ.هـ الجرح والتعديل 6/259.

هشام بن حجير المكي روى عن طاووس روى عنه محمد بن مسلم الطائفي وسفيان بن عيينة سمعت أبى يقول ذلك نا عبد الرحمن نا إسماعيل بن أبى الحارث البغدادي قال نا احمد بن حنبل عن سفيان يعنى بن عيينة قال:قال بن شبرمة ليس بمكة مثله يعنى مثل هشام بن حجير نا عبد الرحمن نا صالح بن احمد بن محمد بن حنبل قال:قال على بن المديني قرأت على يحيى بن سعيد نا بن جريج عن هشام بن حجير حديثا قال يحيى بن سعيد خليق أن ادعه قلت أضرب على حديثه قال نعم.

ثنا عبد الرحمن انا عبد الله بن احمد بن محمد بن حنبل فيما كتب إلي قال سألت أبى عن هشام بن حجير فقال ليس هو بالقوي قلت هو ضعيف قال ليس هو بذاك قال وسألت يحيى بن معين عن هشام بن حجير فضعفه جدا.

نا عبد الرحمن قال ذكره أبى عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين انه قال هشام بن حجير صالح.

نا عبد الرحمن قال سألت أبى عن هشام بن حجير فقال مكي يكتب حديثه أ.هـ الجرح والتعديل 9/53.

هشام بن حجير مكي ثقة صاحب سنة أ.هـ معرفة الثقات للعجلي2/327.

هشام بن حجير حجازي يروى عن طاووس روى عنه سفيان بن عيينة وأهل الحجاز أ.هـ الثقات لابن حبان7/567.

هشام بن حجير المكي قال أحمد ليس بالقوي وضعفه يحيى جدا أ.هـ الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي 3/174.

هشام بن حجير خ ق س المكي تابعي ضعفه ابن معين وقد سئل عنه يحيى القطان فلم يرضه وضرب عليه حدث عنه ابن جريج وقواه آخرون واحتج به الشيخان قال ابن شبرمة: ما بمكة مثله قلت: أخذ عن طاووس حدث عنه ابن جريج وابن عيينة قال العجلي ثقة صاحب سنة وقال أبو حاتم يكتب حديثه أ.هـ ميزان الاعتدال في نقد الرجال 7/77.

هشام بن حجير كتب إلي محمد بن الحسن ثنا عمرو بن علي سمعت يحيى سئل عن حديث هشام بن حجير فأبي أن يحدث به ولم يرضه. ثنا بن حماد ثنا صالح بن احمد عن علي قرأت على يحيى بن سعيد القطان كتابا فيه عن هشام بن حجير حديث فتكلم فيه بشيء فقلت اضرب عليه فقال نعم وفي موضع آخر قال قرأت على يحيى عن بن جريج عن هشام بن حجير قال يحيى خليق أن ادعه قيل ليحيى اضرب على حديثه قال إن شئت ضربت عليه .

ثنا بن حماد حدثني عبد الله ثنا أبى عن هشام بن حجير فقال ليس بالقوي قلت هو ضعيف قال ليس بذاك قلت عمرو بن مسلم الجندي الذي روى عنه بن عيينة ومعمر قال ضعيف هو أضعف من هشام بن حجير فضعفه ولهشام بن حجير أحاديث وليست بالكثيرة وقد روى عنه بن جريج وغيره أ.هـ الكامل في ضعفاء الرجال7/111.

هشام بن حجير المكي روى عن طاووس ومالك بن أبي عامر الأصبحي والحسن البصري وعنه بن جريج ومحمد بن مسلم الطائفي وشبل بن عباد المكي وابن عيينة قال الميموني عن أحمد عن بن عيينة قال بن شبرمة ليس بمكة مثله وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه ليس بالقوي قلت هو ضعيف قال ليس هو بذاك قال وسألت يحيى بن معين عنه فضعفه جدا وقال إسحاق بن منصور عن بن معين صالح وقال بن المديني عن يحيى بن سعيد ثنا عنه بن جريج وخليق أن أدعه قلت اضرب على حديثه قال نعم وقال الآجري عن أبي داود ضرب الحد بمكة قلت في ماذا قال فيما يضرب فيه أهل مكة وقال العجلي ثقة صاحب سنة وقال أبو حاتم يكتب حديثه وذكره بن حبان في الثقات قلت وقال بن سعد كان ثقة وله أحاديث وقال الساجي صدوق وقال إذنه قال بن عيينة لم نأخذ منه إلا ما لا نجد عنده غيره أ.هـ تهذيب التهذيب 11/32.

هشام بن حجير بمهملة وجيم مصغر المكي صدوق له أوهام من السادسة أ.هـ التقريب 2/572.

هشام بن حجير المكي وثقه العجلي وابن سعد وضعفه بن يحيى القطان ويحيى بن معين وقال أحمد ليس بالقوي وذكره في الضعفاء أبو جعفر إذنه وحكى عن سفيان بن عيينة قال لم نأخذ عنه إلا ما لم نجد عند غيره وقال أبو حاتم يكتب حديثه قلت ليس له في البخاري سوى حديثه عن طاووس عن أبي هريرة قال سليمان بن داود عليهما السلام لأطوفن الليلة على تسعين امرأة الحديث أورده في كفارة الأيمان من طريقه وفي النكاح بمتابعة عبد الله بن طاووس له عن أبيه أ.هـ مقدمة فتح الباري 1/447.

وقد قيل إن الحسن بن علي أخطأ في هذا الحديث فجعله عن معمر عن ابن طاووس وإنما المحفوظ فيه أنه عن هشام بن حجير عن طاووس وهشام ضعيف فالله أعلم أ.هـ حجة الوداع لابن حزم 1/442.

قلت ( الناقل ):وهشام بن حجير عامة روايته أخذها عنه بن عيينة وهي مرويات قليلة ولا يعتبر من أهل الحديث وإن كان صالحا في نفسه ولم يرو عنه سفيان إلا كما صرح: لم نأخذ منه إلا ما لا نجد عند غيره أ.هـ وهذا تضعيف منه له وهو أعلم الناس به معاصرة ورواية.

أما ما انخدع به البعض ممن ينتسب إلى الحديث أنه من رجال الشيخين, فإن البخاري رحمه الله لم يرو له إلا حديثين متابعة كما بين ابن حجر رحمه الله ومن كان هكذا فلا يعتبر عمدة عند البخاري وكذلك فإن مسلم لم يرو له إلا حديثين اثنين متابعة. فثبت انه ليس ممن تثبت روايته عند الشيخين منفردا ولا يصلح إلا في المتابعات ولم يتابع على ما رواه في التفسير,وكذلك فإنه في مسألة عظيمة تتعلق بأصل الدين لا يؤخذ بقول من كان مختلف فيه فلا بد أن يكون ممن أجمع الرواة على عدالته.

الرواية الخامسة :(كفر لا ينقل عن الملة ) فهي رواية ضعيفة وهي من طريق محمد بن يحي حدثنا عبد الرزاق عن سفيان عن رجل عن طاووس عن ابن عباس في قوله ( فأولئك هم الكافرون) قال:كفر لا ينقل عن الملة,وفيها مبهم كما هو بين ,إذاً يتقرر أن الثابت حتماً من غير شك عن ابن عباس والذي لا يدخله النقد هو (هو به كفر) الذي رواه عبد الرزاق وغيره بسند صحيح لا يدخله الريب فهو العمدة والأصل ومن هنا ينضم إلى قائمة السلف ابن عباس رضي الله عنه وما جاء عن طاووس خلافه فهو لا يخرق إجماعاً قد انعقد.

خامسا: هذه الرواية على ما تحمل من أهمية بالغة وتحديد مصير ومنهجية شرعية وتأويل عن الظاهر كان حري وحري بأئمة الحديث أن يتسابقوا عليها كالبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وأبو داوود والدارمي والطيالسي وغيرهم الجم الكثير من أصحاب السنن والمسانيد والمعاجم ولا يخلو منها تفسيرا أبدا لأهميتها المتناهية خصوصا وقد نقل الإمام ابن راهويه الإجماع على خلافها فإعراضهم عنها عجيب جداً وإن كان أحمد رحمه الله تعالى رواها في الإيمان من طريق هشام الذي ضعفه هو وكذا سعيد ابن منصور وابن بطة والحاكم والبيهقي والمروزي فإن إعراض أهل الصحاح عنها مريب وعجيب وغريب جدا مما يؤيد التضعيف المطلق لها وليس هذا والله انتصارا للنفس أو للمذهب أو لفكر فليس من الدين أن ينتصر لمذهب على سبيل الفساد بين العبد وخالقه سبحانه.

الإشكال الثالث: ما رواه البغدادي :أخبرنا أبو محمد يحيى بن الحسن بن الحسن بن المنذر المحتسب أخبرنا إسماعيل بن سعيد المعدل أخبرنا أبو بكر بن دريد أخبرنا الحسن بن خضر قال سمعت بن أبي داود يقول أدخل رجل من الخوارج على المأمون فقال ما حملك على خلافنا قال آية في كتاب الله تعالى قال وما هي قال قوله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فقال له المأمون ألك علم بأنها منزلة قال نعم قال وما دليلك قال إجماع الأمة قال فكما رضيت بإجماعهم في التنزيل فارض بإجماعهم في التأويل قال: صدقت.السلام عليك يا أمير المؤمنين أ.هـ تاريخ بغداد 10/ 186.

نقول: هذا لا يثبت ففي سنده محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية أبو بكر الأزدي.

قال أبو منصور الأزهري اللغوي: دخلت على بن دريد فرأيته سكران أ.هـ لسان الميزان 5 /133.

أقول: فالله أعلم ما حاله لما روى هذا الإجماع المخالف لإجماع السلف المنقول عن الأثبات 0

وقال أبو ذر الهروي : سمعت بن شاهين يقول كنا ندخل على بن دريد ونستحيى منه مما نرى من العيدان معلقة والشراب المصفى وقد كان جاوز التسعين,وقال مسلمة بن القاسم كان كثير الرواية للأخبار وأيام الناس والأنساب غير انه لم يكن ثقة عند جميعهم وكان خليعا0نفس المرجع.

الإشكال الرابع: قالوا أن النجاشي كان مسلماً وقد صلى الرسول الكريم عليه السلام عليه لما مات وكان ملكاً حاكماً يحكم شعباً بالنصرانية,وهذا والله من أخطر الاستدلالات على الإطلاق حيث وأن المفهوم منه أنه يجوز الحكم بالنصرانية وغيرها ويبقى الحاكم بها صالحاً لأن الرسول عليه السلام قال عن النجاشي "عبد صالح " فقاتل الله الإرجاء كيف يفعل بأهله ؟! ويرد على هؤلاء من وجوه :

الوجه الأول: أن لازم هذا الاستدلال جواز الحكم بالنصرانية على التسليم بأن النجاشي كان يحكم بها بعد إسلامه وهنا الباقعة التي ليس لها راقعة وهو إعلان لتدمير كل الأصول المثبتة لحرمة الحكم بغير ما أنزل الله وقد انعقد الإجماع أن جميع أحوال الحكم بغير ما أنزل الله تعالى ممنوع شرعاً وهذه مخالفة صارخة لم يقل بها أحد من العقلاء فضلاً عن العلماء!!!

الوجه الثاني : أن النجاشي رضي الله عنه مات قبل نزول سورة المائدة التي فيها الحكم وبيان إكمال الدين بل مات قبلها بسنتين ويزيد قال الحافظ ابن حجر في الإصابة قال الطبري وجماعة مات في رجب سنة تسع الإصابة وقال غيره كان قبل الفتح أ.هـ 1 / 206. فتبين أن موته كان قبل؛ ومن المعلوم أن الصلاة لم تفرض إلا في حادثة المعراج حين لم يكن يكتمل الدين بعد وكانوا على الإسلام وهم لا يصلون فالشرع لا يلزمك إلا بما أتاك وهذا من ضروريات العلم فلما فرضت الصلاة بعدها كان تركها ناقضاً فكذلك الحكم فسبحان الله كيف يفعل الهوى بأهله ؟!! 0

الوجه الثالث: من أين للقوم حجة بسند صحيح أن النجاشي كان يحكم بالنصرانية بعد إسلامه فإن قالوا الأصل قلنا بل الأصل أن الإسلام يجب ما قبله وحسن الظن به أنه حكم بما وصله من الإسلام 0

الوجه الرابع: من لازم هذا القول أن الحاكم إذا قنن قانونا حرم فيه كل حلال وحرم فيه كل حلال لهوى أو خوف على ملك وإرضاءً لقومه فإنه يصلى عليه ويقال كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم(العبد الصالح).

الوجه الخامس: أن الآية الكريمة جاءت لتخبر أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حكم فيهم أي أهل الكتاب فليحكم بينهم بما أنزل الله فجاءت الآية في الموضع المستشكل بقوله تعالى (( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ )) 0 فأكتف بهذا القدر وإلا رد هذه القشة يسير ولا تستحق الإلتفات إليها ولم يعدها السلف من المشكل فهي من محدثات الخلف وعش سترى أنكر وأكبر وأكثر 0

خلاصـــة:أثر ابن عباس تأثر به من تأثر وتناقض فيه من تناقض بعد تقرير الأصول من الكتاب والسنة بل وذهبت طائفة من المرجئة اليوم أن المستبدل لا يكفر أبدا إلا إذا استحل والله المستعان.أ.هـ

ت‌- التحاكم إلى الأحكام: قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (النساء:60) وقوله تعالى:فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً (النساء:65),فالتحاكم إلى غير الله تعالى وغير رسوله عليه الصلاة والسلام إيمان بالطاغوت وقد بينه سبحانه بأنه الضلال البعيد الذي هو عدم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً (النساء:136).

معـنى التحــاكم

وفي الحديث وبكَ حاكَمْتُ أي رَفَعْتُ الحُكمَ إليك ولا حُكْمَ إلا لك وقيل بكَ خاصمْتُ في طلب الحُكْمِ وإبطالِ من نازَعَني في الدِّين وهي مفاعلة من الحُكْمِ ,ويقال أَفْتَيْت فلاناً رؤيا رآها إِذا عبرتها له وأَفْتَيته في مسأَلته إِذا أَجبته عنها وفي الحديث أَن قوماً تَفاتَوا إِليه معناه: تحاكموا إِليه وارتفعوا إِليه في الفُتْيا ,والفُتيا تبيين المشكل من الأَحكام وأَفْتَى المفتي إِذا أَحدث حكماً, وفي حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما:ما كُنْتُ أَدْرِي ما قَوْلُ اللّهِ عزّ وجلّ: ربَّنَا افتَحْ بيننا وبَيْنَ قَوْمِنا (), حتى سمعْت بنتَ ذي يَزَن تقول لزوجها: تعال أَفاتِحْك أَي أَحُاكمْك . ومنه لا تُفَاتِحُوا أَهل القَدَرِ.أَي لا تُحَاكِموهم وقيل : لا تَبْدؤُوهم بالمجَادلةِ والمناظَرة, وفيه الحديث:أنّ أربعة تَفَاتَوْا إليه عليه السلام: أي تَحاكَمُوا من الفَتْوى.يُقال:أفْتَاه في المسئلة يُفْتِيه إذا أجابَه.والاسْم:الفَتْوَى ومنه الحديث:الإثْم مَا حَكَّ في صَدْرك وإن أفْتَاك الناسُ عنه وأفْتَوْك.أي: وإن جَعَلوا لك فيه رُخصة وجَوازا, والتنافر في اللغة أصله التحاكم في الحسب ثم كثر حتى استعمل في كل تحاكم ,وتَخَايَرُوا: تَحَاكَمُوا في أَيِّهم أَخْيَر.أ.هـ لسان العرب12/140و15/145,القاموس المحيط 1/625,تاج العروس1/1692,2806, النهاية في غريب الأثر3/177, الفائق3/87,التعاريف 1/ 208.

فالتحاكم : هو طلب (محاولة إيجاد الشيء) حكم تكليفي أو وضعي وأخذه للعمل به أو التزامه.فإن كان من جهة ملزمة فهو القضاء وإن كان من جهة غير ملزمة فهو الإفتاء.

أقوال العلـماء في التحـاكم

قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: وفي هذه الآيات أنواع من العبر من الدلالة على ضلال من يحاكم إلى غير الكتاب والسنة وعلى نفاقه وإن زعم أنه يريد التوفيق بيد الأدلة الشرعية وبين ما يسميه هو عقليات من الأمور المأخوذة عن بعض الطواغيت من المشركين وأهل الكتاب وغير ذلك من أنواع الاعتبار أ.هـ مجموع الفتاوى3/317.

وقال أيضا: فذم الذين أوتوا قسطا من الكتاب لما آمنوا بما خرج عن الرسالة وفضلوا الخارجين عن الرسالة على المؤمنين بها كما يفضل ذلك بعض من يفضل الصابئة من الفلاسفة والدول الجاهلية جاهلية الترك والديلم والعرب والفرس وغيرهم على المؤمنين بالله وكتابه ورسوله وكما ذم المدعين الإيمان بالكتب كلها وهم يتركون التحاكم إلى الكتاب والسنة ويتحاكمون إلى بعض الطواغيت المعظمة من دون الله كما يصيب ذلك كثيرا ممن يدعى الإسلام وينتحله في تحاكمهم إلى مقالات الصابئة الفلاسفة أو غيرهم أو إلى سياسة بعض الملوك الخارجين عن شريعة الاسلام من ملوك الترك وغيرهم أ.هـ مجموع الفتاوى12/339-340.

وقال أيضا: فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول و أعرض عن حكمه فهو من المنافقين وليس بمؤمن وأن المؤمن هو الذي يقول : سمعنا وأطعنا فإذا كان النفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول و إرادة التحاكم إلى غيره مع أن هذا ترك محض وقد يكون سببه قوة الشهوة فكيف بالنقص والسب ونحوه ؟ أ.هـ الصارم المسلول1/42.

وقال أيضا: ومن جنس موالاة الكفار التي ذم الله بها أهل الكتاب والمنافقين الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر أو التحاكم إليهم دون كتاب الله أ.هـ مجموع الفتاوى 28/199.

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: وقد أمرنا الله برد ما تنازعنا فيه إليه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فلم يبح لنا قط أن نرد ذلك إلى رأي ولا قياس ولا تقليد إمام ولا منام ولا كشوف ولا إلهام ولا حديث قلب ولا استحسان ولا معقول ولا شريعة الديوان ولا سياسة الملوك ولا عوائد الناس التي ليس على شرائع المسلمين أضر منها فكل هذه طواغيت من تحاكم إليها أو دعا منازعة إلى التحاكم إليها فقد حاكم إلى الطاغوت أ.هـ إعلام الموقعين1/245.

وقال أيضا: القلم الثالث قلم التوقيع عن الله ورسوله وهو قلم الفقهاء والمفتين وهذا القلم أيضا حاكم غير محكوم عليه فإليه التحاكم في الدماء والأموال والفروج والحقوق وأصحابه مخبرون عن الله بحكمه الذي حكم به بين عباده وأصحابه حكام وملوك على أرباب الأقلام وأقلام العالم خدم لهذا القلم أ.هـ التبيان في أقسام القرآن1/129.

وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله :فمن اعتقد أن تحكيم شريعة الإسلام، يفضي إلى القتال والمخالفة، وأنه لا يحصل الاجتماع والألفة، إلا على حكم الطاغوت، فهو كافر عدو لله ولجميع الرسل؛ فإن هذا حقيقة ما عليه كفار قريش، الذين يعتقدون أن الصواب ما عليه آباؤهم، دون ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.
المقام الثاني: أن يقال: إذا عرفت أن التحاكم إلى الطاغوت كفر، فقد ذكر الله في كتابه أن الكفر أكبر من القتل، قال: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} ، وقال: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}، والفتنة: هي الكفر; فلو اقتتلت البادية والحاضرة، حتى يذهبوا، لكان أهون من أن ينصبوا في الأرض طاغوتا، يحكم بخلاف شريعة الإسلام، التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم.
المقام الثالث: أن نقول: إذا كان هذا التحاكم كفرا، والنّزاع إنما يكون لأجل الدنيا، فكيف يجوز لك أن تكفر لأجل ذلك؟ فإنه لا يؤمن الإنسان، حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وحتى يكون الرسول أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.
فلو ذهبت دنياك كلها، لما جاز لك المحاكمة إلى الطاغوت لأجلها، ولو اضطرك مضطر وخيرك، بين أن تحاكم إلى الطاغوت، أو تبذل دنياك، لوجب عليك البذل، ولم يجز لك المحاكمة إلى الطاغوت; والله أعلم.أ.هـ الدرر السنية 10/ 492-511.

3- الـولاء هو الدين والعبادة وله أربعة معاني:

أ‌ - الطــاعة: قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ) (149) بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ(150)آل عمران.

ب‌-الإتبـاع: قال تعالى:اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (الأعراف : 3 ).

ت - النـصرة: قال تعالى: وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ (الشورى:46) ,وقال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ (يس:74).

ث- المحـبة: قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ(166),البقرة,وقال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (آل عمران:31),وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (الممتحنة:1).

معـنى الـولاء في اللغــة

والوَلْيُ: القُرْبُ والدُّنُوُّ, الوِلاية بالكسر السلطان و الوَلايةُ و الولاية النُّصرة. قال الفراء: والوَلِيُّ والمَوْلى واحد في كلام العرب, قوله تعالى( أَن تَولَّوْهم)أَي: تَنْصُروهم, قال ابن الأَعرابي: ووالى فلان فلاناً إِذا أَحبَّه قال الأَزهري: وللموالاة معنى ثالث سمعت العرب تقول والُوا حَواشِيَ نَعَمِكم عن جِلَّتِها أَي اعْزِلوا صِغارَها عن كِبارِها وقد والَيْناها فتَوالَتْ إِذا تميزت. قال أبو منصور: وهو اسم يقع على جماعة كثيرة فهو: الرَّبُّ والمالِك والسَّيِّدُ والمُنْعِم والمُعْتِقُ والنَّاصِر والمُحِبُّ والتَّابع والجارُ وابن العَم والحَلِيفُ والعَقِيدُ والصِّهْرُ والعَبْدُ والمُعْتَقُ والمُنْعَمُ عليه قال : وأَكثرها قد جاءَت في الحديث فيضاف كل واحد إِلى ما يقتضيه الحديث الوارد فيه .

والمُوالاةُ : ضِدّ المُعاداة والوَلِيُّ: ضدّ العدوّ ويقال منه تَوَلاَّه.وقوله عزَّ وجل:{ فتكون للشَّيطان وَلِيّاً } قال ثعلب: كلُّ مَن عَبَد شيئاً مِنْ دون الله فقد اتَّخذه وِليّاً.

والمُوالاةُ:المُتابعَةُ. وافْعَلْ هذه الأَشياء على الولاءِ أَي مُتابَعَةً والولي فعيل بمعنى الفاعل وهو من توالت طاعته من غير أن يتخللها عصيان, ويقال :أَوْلاني مَلَّكني المعروف وجعله منسوباً إِليَّ وَلِيّاً عَليَّ من قولك هو وَلِيُّ المرأَة أَي صاحبُ أَمرها والحاكم عليها قال : ويجوز أَن يكون معناه عَضَّدَني بالمعروف ونَصَرَني وقَوَّاني من قولك بنو فلان وَلاء على بني فلان أَي هم يُعِينونهم . وقال أَبو معاذ النحوي : و تَوَلَّيْتُ فلاناً أَي اتَّبَعْتُه ورَضِيتُ به.والتَّوَلِّي يكون بمعنى الإِعْراضِ ويكون بمعنى الإتباع قال الله تعالى:{وإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قوماً غيركم} أَي إِنْ تُعْرِضوا عن الإِسلام.وقوله تعالى:{ ومَن يَتَوَلَّهُمْ منكم فإِنه منهم } معناه: مَن يَتَّبِعْهُم ويَنْصُرْهم والله أعلم.أ.هـ لسان العرب 15/ 405, القاموس المحيط 1/1732, تاج العروس1/865-8657,مختار الصحاح1/740, التعريفات1 /329, كتاب العين 8/ 365, المغرب في ترتيب المعرب2/372, النهاية في غريب الأثر 5 /510, المصباح المنير 2-672, 673.

تفصيل شـامل لمعاني الـولاء

أ‌ - الطــاعة: قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ) (149) بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ(150)آل عمران.

والطاعة : اسم للطوع الذي هو مصدر طاع يطوع بمعنى انقاد وفعل ما يؤمر به عن رضى دون ممانعة فالطاعة ضد الكره . والطاعة : امتثال الأوامر واجتناب النواهي قالوا ولا تكون الطاعة إلا عن أمر كما أن الجواب لا يكون إلا عن قول يقال أمره ( فَأَطَاعَ ) والطوع الانقياد بسهولة والطاعة مثله لكن أكثر ما يقال في الائتمار فيما أمر والارتسام فيما رسم. وقيل : طَاع : إذا انْقَاد وأطِاع : اتَّبَع الأمْرَ ولم يُخَالفه, فإذا مَضى لأَمرِه فقد أَطاعَهُ فإذا وافقَه فقد طاوَعَهُ أ.هـ تاج العروس1/ 5426 -5427، لسان العرب 8 / 240, القاموس المحيط 1/ 962, مختار الصحاح1/403, المصباح المنير2/380,النهاية في غريب الأثر3/322 , كتاب العين2/209, التعريفات1/182, التعاريف1/487, التحرير والتنوير1/1400, 2927.

فالطاعة هي امتثال الأمر والتي تعني الرضى وعدم الكره أي المحبة,و امتثل أمره: احتَذاه وعمل على مِثاله, و( امْتَثَلْتُ ) أمره أطعته, ورَسَمْتُ له كذا فارْتَسَمَه إذا امتَثله أ.هـ لسان العرب11/610, 12/241, المغرب في ترتيب المعرب2/258, المصباح المنير 2/564.

الأَمْرُ :معروف نقيض النَّهْيِ وأَمَرَهُ يَأْمُرُه أَمْراً وإِماراً فأْتَمَرَ أَي قَبِلَ أَمْرَه وائْتَمَرَ الأَمرَ أَي امتثله ,فأْتَمَرَ أَي أَطاعها وأُولُو الأَمْرِ : الرُّؤساءُ والعلماءُ ,.والأمر بمعنى الحال جمعه ( أُمُورٌ ) وعليه ( وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) و( الأَمْرُ ) بمعنى الطلب جمعه ( أَوَامِرُ ) وعليه أكثرُ الفُقَهاء وهو الجارِي في ألْسِنَة الأقوام أ.هـ لسان العرب4/ 26, القاموس المحيط 1/439, تاج العروس 1 / 2463 , المصباح المنير جزء 1 /21 .

الأمر عند علـماء الأصول والبلاغـة والتفسيـر والحديث هو: استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب وصيغته افعل وهي عند الإطلاق والتجرد عن القرينة تحمل عليه إلا ما دل الدليل على أن المراد منه الندب أو الإباحة ولا تقتضي التكرار على الصحيح إلا ما دل الدليل على قصد التكرار ولا تقتضى الفور أو هو طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء والإلزام أو اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء , والاقتضاء طلب (والطَّلَبُ:مُحاوَلَةُ وِجْدانِ الشَّيءِ وأَخْذِه ) الفعل مع المنع عن الترك وهو الإيجاب أو بدونه وهو الندب أو طلب الترك مع المنع عن الفعل وهو التحريم أو بدونه وهو الكراهة والأمر والدعاء يتشاركان لفظا ومعنى ويتفاوتان بالاستعلاء والتسفل وقيل: بالرتبة والدعاء إذا استعملت في طلب الفعل على سبيل التضرع نحو (رب اغفر لي ولوالدي ) والالتماس إذا استعملت فيه على سبيل التلطف كقولك لمن يساويك في الرتبة أفعل بدون الاستعلاء والاحتقار نحو (ألقوا ما أنتم ملقون).أ.هـ إرشاد الفحول1/140, الإحكام للآمدي2/258, , المحصول للرازي2/22,المدخل1/223, المستصفى1/202, روضة الناظر1/189,الورقات1/13, التعريفات 1/50, لسان العرب1/559, الكشاف1/ 59, تفسير البيضاوي1/69, تفسير النسفي1/34, الإيضاح في علوم البلاغة جزء1/141-143, شرح سنن ابن ماجه 1/63 , مجموع الفتاوى28/168, الاستقامة2/292.

ولأن مسألة الطاعة أثير حولها كثير من الشبهات ومن ذلك أنهم جعلوا للطاغوت طاعة وأن هذا لا يناقض التوحيد فإليك أقوال أهل العلم من المفسرين لتكون على بينة ولتعلم حقيقة التحريف والجهل في هذا الأمر وأن التوحيد هو إخلاص الطاعة لله وجعلها له وحده ليس لمن دونه منها شيء بنص صريح كما أن البعض حرف معنى الطاعة وجعلها حق الطاعة ومعلوم أن هذا تقييد للمعنى الشرعي لا بد من نص شرعي صريح عليه مع ان حق الطاعة تتعلق بالباطن وهو الإعتقاد القلبي والطاعة شيء آخر.

أمن الأمان و الأمانة بمعنى وقد أمنت فأنا أمن و آمنت غيري من الأمن و الأمان و الأمن ضد الخوف و الأمانة ضد الخيانة والإيمان ضد الكفر..والأمانة تقع على الطاعة والعبادة والوديعة والثقة والأمان أ.هـ لسان العرب 13/21 , النهاية في غريب الأثر 1/166 , المطلع 1/248, عون المعبود9/58,فيض القدير 6/261, نيل الأوطار 9/103.

وقال شيخ المفسرين رحمه الله تعالى: والذي أراد ابن عباس إن شاء الله بقوله في تأويل قوله:اعبدوا ربكم, وحدوه أي: أفردوا الطاعة والعبادة لربكم دون سائر خلقه أ.هـ تفسيرالطبري1/160.

وقال أيضا: ويكون الدين كله لله يقول حتى تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره أ.هـ الطبري9/248.

وقال أيضا: يقول تعالى ذكره اجتنبوا أيها الناس عبادة الأوثان وقول الشرك مستقيمين لله على إخلاص التوحيد له وإفراد الطاعة والعبادة له خالصا دون الأوثان والأصنام غير مشركين به شيئا من دونه أ.هـ تفسير الطبري17/155.

وقال أيضا: وقوله: ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى يقول تعالى ذكره ومن الناس من يخاصم في توحيد الله وإخلاص الطاعة والعبادة له بغير علم عنده بما يخاصم ولا هدى يقول ولا بيان يبين به صحة ما يقول ولا كتاب منير يقول ولا بتنزيل من الله جاء بما يدعى يبين حقية دعواه أ.هـ تفسير الطبري21/79.

والدين ما ورد به الشرع من التعبد ويطلق على الطاعة والعبادة والجزاء والحساب أ.هـ الحدود الأنيقة 1/70.

وقال الواحدي رحمه الله تعالى:وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أي شرك يعني قاتلوهم حتى يسلموا وليس يقبل من المشرك الوثني جزية ويكون الدين أي:الطاعة والعبادة لله وحده فلا يعبد دونه شئ فإن انتهوا عن الكفر فلا عدوان أي فلا قتل ولا نهب إلا على الظالمين والكافرين أ.هـ الوجيز1/155.

وقال البغوي رحمه الله تعالى: هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا يعني المطر الذي هو سبب الأرزاق وما يتذكر وما يتعظ بهذه الآيات إلا من ينيب يرجع إلى الله تعالى في جميع أموره فادعوا الله مخلصين له الدين: الطاعة والعبادة ولو كره الكافرون أ.هـ معالم التنـزيل 4/94

وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: لله رب العالمين أي خالصا له لا شريك له فيه والإشارة بذلك إلى ما أفاده لله رب العالمين لا شريك له من الإخلاص في الطاعة وجعلها لله وحده أ.هـ فتح القدير 2/185

وقال ابن تيمية رحمه الله : وحقيقته( التوحيد) أن تفنى بعبادته عما سواه ومحبته عن محبة ما سواه وبخشيته عن خشية ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه وبموالاته عن موالاة ما سواه وبسؤاله عن سؤال ما سواه وبالإستعاذه به عن الاستعاذة بما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه وبالتفويض إليه عن التفويض إلى ما سواه وبالإنابة إليه عن الإنابة إلى ما سواه وبالتحاكم إليه عن التحاكم إلى ما سواه وبالتخاصم إليه عن التخاصم إلى ما سواه أ.هـ منهاج السنة 5/347.

وقال أيضا رحمه الله كلاما جامعا صريحا واضحا:الاستسلام لله وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده فهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره وذلك إنما يكون أن يطاع في كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت .. إلى قوله: فالدين هو الطاعة والعبادة ..وقال صلى الله عليه وسلم : إنا معاشر

الأنبياء ديننا واحد. متفق عليه, وهو الاستسلام لله لا لغيره بأن تكون العبادة والطاعة له والذل وهو حقيقة لا إله إلا الله. أ.هـ الفتاوى 5/184.

فهؤلاء علماء الأمة يجمعون على أن العبادة بعمومها تعني الطاعة بعمومها ولم يستثن أحد منهم شيئا منها لأن الله سبحانه بين بأن الصراط المستقيم الذي هو الإسلام والتوحيد هو طاعة الله وحده وطاعة رسوله لا ثالث لهما بقوله: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقا (النساء: 69).وعليه فإن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت يكون معناه: أطيعوا الله واجتنبوا طاعة الطاغوت فمن استثنى شيئا من العموم كالقول بجواز طاعة الطاغوت في المباح فيكون معناه جواز عبادة الطاغوت في المباح , ومن قال بجواز طاعة الطاغوت في الأمور الإدارية يكون قوله جواز عبادة الطاغوت في الأمور الإدارية وهكذا لأن معنى العبادة الطاعة فأينما وجد مصطلح العبادة في أي نص نضع معناه وهو الطاعة فيكون المعنى صحيحا لا لبس فيه وهو مراد الله تعالى وكذلك فإن معنى الدين الطاعة فمن أطاع الله تعالى فهو في دين الله تعالى ومن أطاع الطاغوت كان في دين الطاغوت ومن قال يجوز طاعة الطاغوت في شيء فقد جعل للطاغوت من الدين شيء والتوحيد( الإسلام) إنما هو أن يكون الدين كله لله كما نص القرآن على ذلك بلفظ صريح واضح: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه الآية (الأنفال:39).

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: واعلم : أن الإنسان ما يصير مؤمناً بالله، إلاّ بالكفر بالطاغوت، والدليل قوله تعالى : َمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:256) الرشد : دين محمد ؛ والغي : دين أبي جهل ؛ والعروة الوثقى :شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله، وهي متضمنة للنفي والإثبات . تنفي جميع أنواع العبادة عن غير الله تعالى، وتثبت جميع أنواع العبادة كلها لله وحده لا شريك له.أ.هـ الدرر السنية 1/163.

ونقول أيضا:إن الله تعالى جعل الطاعة في الإسلام لله ولرسوله إستقلالا وطاعة أولي الأمر تبعا لطاعتهما لقوله تعالى: َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(النساء:59), فطاعة الرسول طاعة لله لقوله تعالى:مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً(النساء:80),وطاعة أولي الأمر – العلماء والأمراء- الذين حققوا اجتناب الطاغوت وجعلوا حياتهم قائمة على طاعة الله ورسوله- مقيدة بطاعة الله ورسوله فطاعتهم إنما تكون إذا أمروا بطاعة الله ورسوله وعند ذلك تكون طاعتهم طاعة لله ورسوله لقوله عليه الصلاة والسلام: من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني أ.هـ (رواه البخاري ومسلم), وقوله أميري: هو كل من يتولى على المسلمين ويعمل فيهم بما شرعه صلى الله عليه وسلم

وعليه فمن أطاع الطاغوت وأنها تجوز وهي من دين الله تعالى فهو بين أمرين :

الأول: إما أن تكون طاعتهم طاعة لله ورسوله.

الثاني:إما أن يكونوا من أولي الأمر من المسلمين لقوله تعالى: وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ(),وبذلك جعل الطاغوت مسلما وتجوز ولايته على المسلمين بمعنى: أنه تجوز موالاته, وكلا الأمرين لا يمكن القول بأحدهما ولم يقل بهما أحد من المسلمين فضلا عن علمائهم وهو من مشاقة الله ورسوله واتباع غير سبيل المؤمنين.

ب‌-الإتبـاع: قال تعالى:اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (الأعراف:3).

( تبع ) تَبِعَ الشيءَ تَبَعاً وتَباعاً في الأَفعال وتَبِعْتُ الشيءَ تُبوعاً سِرْت في إِثْرِه أَتْبَعَهُ أَيْ حَذَا حَذْوَهُ قفا أثره وذلك تارة بالجسم وتارة بالارتسام والائتمار..ويقال:أتبعه:إذا لحقه قال تعالى: فأتبعوهم مشرقين(الشعراء:60)التّابع :التاليِ ومنه التتبّعُ والمتابعة والإتباع واتَّبَعَ القرآنَ ائْتَمَّ به وعَمِلَ بما فيه..يَتْلُونه حقَّ تِلاوته أَي يَتَّبِعونه حقَّ اتِّباعه وأَراد لا تَدَعُوا تِلاوته والعملَ به فتكونوا قد جعلتموه وراءَكم كما فَعل اليهود حين نَبَذُوا ما أُمروا به وراء ظهورهم.أ.هـ مفردات القرآن1/176, تاج العروس1/5125, كتاب العين2/78, لسان العرب 8 /27.

ت - النـصرة: قال تعالى: وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ (الشورى:46) , وقال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ (يس:74).

والنُّصْرة حُسْن المَعُونة والنَّصْر العَطاء ونَصَرَهُ منه:نَجَّاهُ وخَلَّصَه و انْتَصَرَ منه انتقم.وقد نَصَره يَنْصُرُه نَصْرا إذا أعانَه على عدوّه وشَدّ منه وفي الحديث انصرْ أخاك ظالماً أو مظلوماً, وتفسيره:أن يمنعه من الظُّلْم إن وَجَدَه ظالماً وان كان مظلوماً ِأعانه على ظالمِهِ والأنصارُ جماعة الناصِر وأنصار النبيَّ أعوانُه, والنَّصيرُ والنّاصِرُ واحدٌ وقال الله جلَّ وعَزَّ:نِعمَ المَوْلَى ونعم النصيرُ ونُصرَة الله لنا ظاهِرةٌ, ونُصرَتُنا لله هو النُّصْرَة لعباده أو القيام بحفظِ حدوده وإعانةِ عهوده وامتثالِ أوامره واجتناب نواهيه قال اللهُ تعالى:إنْ تَنْصُروا اللهَ يَنْصُرْكم() وهو ناصِرٌ أ.هـ لسان العرب5/210,القاموس المحيط1/621,تاج العروس1/3539, مختار الصحاح1/ 688,النهاية في غريب الأثر5/143, كتاب العين 7 /108.

ث- المحـبة: قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ(166),سورة البقرة ), وقال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (آل عمران :31 ) وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (الممتحنة:1).

الحُبُّ نَقِيضُ البُغْضِ والحُبُّ الودادُ والمَحَبَّةُ وكذلك الحِبُّ بالكسر.وفي حديث أُحُدٍ " هُوَ جَبَلٌ يُحِبُّنَا ونُحِبّهُ " قال ابن الأَثير : وهذا محمولٌ على المجازِ أَراد أَنه جَبَلٌ يُحِبُّنَا أَهْلُهُ ونُحِبُّ أَهْلَهُ وهُم الأَنْصَارُ ويجوزُ أَن يكونَ من باب المَجَاز الصَّريحِ أَي أَنَّنَا نُحِبُّ الجَبَلَ بِعَيْنِه لأَنَّه في أَرْضِ مَنْ نُحِبُّ. اسْتَحَبَّهُ عليه أي آثره عليه واختاره ومنه قوله تعالى { فاستحبوا العمى على الهدى } وحقيقة الاستحباب : أن يتحرى الإنسان في الشيء أن يحبه واقتضى تعديته ب (على ) معنى الإيثار.

والمحبة : انفعال نفساني ينشأ عند الشعور بحسن شيء : من صفات ذاتية . أو إحسان أو اعتقاد أنه يحب المستحسن ويجر إليه الخير . فإذا حصل ذلك الانفعال عقبه ميل وانجذاب إلى الشيء المشعور بمحاسنه فيكون المنفعل محبا ويكون المشعور بمحاسنه محبوبا وتعد الصفات التي أوجبت هذا الانفعال جمالا عند المحب إرادة ما تراه أو تظنه خيرا وهي على ثلاثة أوجه:

- محبة للذة كمحبة الرجل المرأة ومنه: ويطعمون الطعام على حبه مسكينا (الإنسان:8).

- ومحبة للنفع كمحبة شيء ينتفع به ومنه: وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب (الصف:13).

- ومحبة للفضل كمحبة أهل العلم بعضهم لبعض لأجل العلم.

والمحبة في كلام العرب على ضروب منها المحبة في الذات والمحبة من الله لعباده المغفرة والرحمة والثناء عليها والمحبة من عباده له القصد لطاعته والرضا لشرائعه.أ.هـ معاني القرآن1/384, مفردات القرآن1/287,النهاية في غريب الأثر 1/869,لسان العرب1/289,تاج العروس 1/379 -380,مختار الصحاح1/167, التحرير والتنوير1/744.

ثانيـا: الله سبـحانه وتعـالى

وقد عرف نفسه _ وهو الغني عن التعريف_ في آيات كثيرة منها قوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ(23)هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 24 ) الحشر.

وعرف نفسه - إذ لا يعرف ذاته إلا هو- : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1 ) اللَّهُ الصَّمَدُ (2 ) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ( 3 ) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ( 4 ) سورة الإخلاص.

وعرف نفسه وأنه المتصرف بالخلق والمنعم على خلقه بقوله: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ(60 ) أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(61 ) أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (62 ) أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63 ) أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (64 ) قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65 )سورة النمل.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة أ.هـ أخرجه الشيخان وغيرهما من أهل السنن والمسانيد.

ثالثـا: الاجتنـاب ( اجتنبوا)

مصطلح الاجتناب بينه سبحانه وتعالى من خلال ردود الأقوام على دعوة رسلهم فكل رسول قال لقومه: اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ الآية كما يلي:

- رد قوم نوح عليه السلام كما أخبر عز وجل بقوله: وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (نوح:23).

- رد قوم هود عليه السلام كما أخبر عز وجل بقوله: قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (هود:53), وقوله تعالى: قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (الأعراف:70).

- رد قوم صالح عليه السلام كما أخبر عز وجل بقوله: قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (هود:62).

- رد قوم شعيب عليه السلام كما أخبر عز وجل بقوله: قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (هود:87).

- رد فرعون وقومه كما أخبر عز وجل بقوله: قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ(يونس:78) وقوله تعالى: وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (الأعراف:127).

- رد العرب قوم محمد عليه الصلاة والسلام كما أخبر الله تعالى بقوله: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (الصافات:35), ففهمت أقوام الرسل عليهم السلام أن اجتناب الطاغوت هو ترك معبوداتهم من دون الله (الطاغوت) ويذروها ويلتفتون عنها والنهي عنها.

مصـطلح الاجتنـاب في اللغـة

وجنب الشيء وتجنبه وجانبه وتجانبه واجتنبه بعد عنه وجنبه الشيء وجنبه إياه وجنبه يجنبه وأجنبه نحاه عنه وفي التنزيل العزيز إخبارا عن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (إبراهيم:35), أي:نجني وقد قرىء واجنبني وبني بالقطع ويقال جنبته الشر وأجنبته وجنبته بمعنى واحد أ.هـ لسان العرب 1/ 278, القاموس المحيط للفيروزأبادي.

والجار الجنب(النساء:36)، أي: البعيد، قال عز وجل: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه (النساء:31)، .. و: اجتنبوا الطاغوت (الزمر:17),عبارة عن تركهم إياه، فاجتنبوه لعلكم تفلحون)المائدة:90)، وذلك أبلغ من قولهم: اتركوه. أ.هـ المفردات في غريب القرآن للأصفهاني.

مصطلح الاجتناب ودلالاته في القرآن

الاجتناب ورد في ثمان آيات لا تاسع لها في كتاب الله تعالى وهي متعلقة بأصل الدين وتفصيلاته ولا يتغير معناه بتغير متعلقه فالمصطلح الشرعي ثابت المعنى وسأذكر بعض أقوال العلماء على كل آية.

أولا:آيات الاجتناب المتعلقة بأصل الدين:

الآية الأولى:وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (النحل:36).

(واجتنبوا الطاغوت),أي: اتركوا كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم، وكل من دعا إلى الضلال.أ.هـ تفسير القرطبي10/94.

(فهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ),أي: ليس الأمر كما تزعمون أنه لم ينكره عليكم بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار ونهاكم عنه آكد النهي وبعث في كل أمة أي: في كل قرن وطائفة من الناس رسولا وكلهم يدعون إلى عبادة الله وينهون عن عبادة ما سواه (أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) أ.هـ, تفسير ابن كثير2/750.

ومعنى اجتنبوا الطاغوت أعرضوا عن عبادته وخصوا عبادتهم بالله عز وجل أ.هـ فتح القدير4/456.

الآية الثانية : ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ(الحج:30).

الوثن: التمثال من خشب أو حديد أو ذهب أو فضة ونحوها، وكانت العرب تنصبها وتعبدها, والنصارى تنصب الصليب وتعبده وتعظمه فهو كالتمثال أيضا,وقال عدي بن حاتم: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال:(ألق هذا الوثن عنك) أي الصليب؛ وأصله من وثن الشيء أي أقام في مقامه. وسمي الصنم وثنا لأنه ينصب ويركز في مكان فلا يبرح عنه. يريد اجتنبوا عبادة الأوثان. أ.هـ تفسير القرطبي12/52.

الآية الثالثة :وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (الزمر:17),أي: تباعدوا من الطاغوت وكانوا منها على جانب فلم يعبدوها.. وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ أي: رجعوا إلى عبادته وطاعته.أ.هـ تفسير القرطبي15/213.

ثانيا:آيات الاجتناب المتعلقة بتفصيلات الشريعة

الآية الأولى:قوله تعالى: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً (النساء:31), أي: إذا اجتنبتم كبائر الآثام التي نهيتم عنها أ.هـ تفسير ابن كثير1/636.

الآية الثانية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون (المائدة :90). فاجتنبوه أريد:أبعدوه واجعلوه ناحية؛ فأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور....قوله: (فاجتنبوه) تقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه؛ لا بشرب ولا بيع ولا تخليل ولا مداواة ولا غير ذلك. وعلى هذا تدل الأحاديث الواردة في الباب. أ.هـ تفسير القرطبي6/266.

" فَاجْتَنِبُوهُ " أي: اتركوه " لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " فإن الفلاح, لا يتم إلا بترك ما حرم الله, خصوصا هذه الفواحش المذكورة. فهذه الأربعة, نهى الله عنها, وزجر,وأخبر عن مفاسدها الداعية إلى تركها, واجتنابها. تفسير السعدي

( فاجتنبوه ) الضمير عائد على الرجس أي: اتركوه ( لعلكم تفلحون) أ.هـ تفسير ابن كثير2/125.

الآية الثالثة: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (الشورى:37).

الآية الرابعة: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (النجم:32). وهم الذين يبتعدون عن كبائر الذنوب والفواحش إلا اللمم.أ.هـ .تفسير السعدي.

الآية الخامسة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (الحجرات:12).

قال علماؤنا: فالظن هنا وفي الآية هو التهمة, ومحل التحذير والنهي أ.هـ تفسير القرطبي16/282.

يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن كونوا منه على جانب يقال جنبه الشر إذا أبعده عنه وحقيقته جعله في جانب فيعدى إلى مفعولين أ.هـ تفسير البيضاوي 1/218,تفسير النسفي 4/166

أي تباعدوا منه وأصل اجتنبه كان على جانب منه ثم شاع في التباعد اللازم له أ.هـ تفسير الالوسي 26/156.

مصطلح الاجتناب في السنة

قال أبو طلحة كنا قعودا بالأفنية نتحدث فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام علينا فقال: مالكم ولمجالس الصعدات اجتنبوا مجالس الصعدات فقلنا إنما قعدنا لغير ما باس قعدنا نتذاكر ونتحدث قال: إما لا فأدوا حقها غض البصر ورد السلام وحسن الكلام أ.هـ صحيح الإمام مسلم.

عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا اللاعنين قالوا وما اللاعنان يا رسول الله قال الذين يبرزون على طريق الناس أو في مجلس قوم أ.هـ مسند أبو عوانة 1/166.

عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجتنبوا من الأوعية الدباء والمزفت والحنتم أ.هـ مسند الإمام أحمد ابن حنبل

عن أيمن بن خريم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال يا أيها الناس عدلت شهادة الزور إشراكا بالله ثلاثا ثم قال: اجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور.أ.هـ مسند أحمد.

عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتنبوا هذه الشجرة المنكرة من أكلها فلا يقربن مسجدنا أ.هـ المعجم الأوسط 7/335.

ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام فقال:اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون فإن كانوا قد اجتنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة فوالذي نفسي بيده لئن (أرادوا المدينة)لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم قال علي فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون فلما اجتنبوا الخيل وامتطوا الإبل توجهوا إلى مكة أ.هـ تاريخ الطبري2/71.

وفي الصحيحين ' عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات.أ.هـ

معـنى الاجتنـاب عند علـماء الحديث

قوله اجتنبوا أي:ابتعدوا من الاجتناب من باب الافتعال من الجنب وهو أبلغ من أبعدوا واحذروا ونحو ذلك أ.هـ عمدة القاري14/61.

اتقوا دعوة المظلوم أي :اجتنبوا دعوة من تظلمونه وذلك مستلزم لتجنب جميع أنواع الظلم على أبلغ وجه وأوجز إشارة وأفصح عبارة لأنه إذا اتقى دعاء المظلوم لم يظلم فهو أبلغ من قوله لا تظلم وهذا نوع شريف من أنواع البديع يسمى تعليقا أ.هـ فيض القدير 1/141.

اجتنبوا :أبعدوا وهو أبلغ من لا تفعلوا لأن نهي القربان أبلغ من نهي المباشرة أ.هـ فيض القدير 1/153.

( فاجتنبوا الطريق ) أي اعدلوا وأعرضوا عنها وانزلوا يمنة أو يسرة أ.هـ فيض القدير1/370.

إياكم والوصال أي: اجتنبوا تتابع الصوم بغير فطر فيحرم لأنه يورث الضعف والملل والعجز عن المواظبة على كثير من وظائف العبادات والقيام بحقها أ.هـ فيض القدير 3/123.

اجتنبوا ما أسكر أي :احترزوا عن المسكر أ.هـ عون المعبود 10/118.

مصطلح التـرك

التَّرْكُ وَدْعُك الشيء وتَرَكْتُ الشيءَ تَرْكاً خليته أ.هـ لسان العرب 10/405.

تَرَكْتُ المنزل(تَرْكًا) رحلت عنه و(تَرَكْتُ) الرجل فارقته ثم استعير للإسقاط في المعاني فقيل( تَرَكَ) حقه إذا أسقطه و( تَرَكَ) ركعة من الصلاة لم يأتِ بها أ.هـ المصباح المنير 1/74.

ترَك الشيء خلاّه أ.هـ مختار الصحاح 1/83.

ولم يأت مصطلح الترك في القرآن والسنة إلا على المعنى اللغوي المعهود عند العرب في لغتهم ولم يفهموا منه إلا لما وضع له.

مصطلح نذر في اللغة:

قال الراغب الأصفهاني:وذر,يقال: فلان يذر الشيء.أي: يقذفه لقلة اعتداده به، ولم يستعمل ماضيه وقال تعالى: قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا (الأعراف:70)،(ويذرك وآلهتك (الأعراف:127).أ.هـ الغريب في مفردات القرآن

وذَرْهُ، أي: دَعْهُ، يَذَرُهُ تَرْكاً .أ.هـ القاموس المحيط.

مصطلح نذر عند علـماء التفسيـر

قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر: نترك أ.هـ تفسير الجلالين

قال أبو بكر الأنباري: ويذرك وإلاهتك؛ بمعنى ويتركك وعبادة الناس لك. وقراءة العامة "وآلهتك ". أ.هـ تفسير القرطبي 7/213.

( ويذرك وآلهتك ) قال بعضهم الواو ها هنا حالية أي أتذره وقومه يفسدون في الأرض وقد ترك عبادتك وقرأ ذلك أبي بن كعب وقد تركوك أن تعبد وآلهتك حكاه ابن جرير وقال آخرون هي عاطفة أي أتدعهم يصنعون من الفساد ما قد أقررتهم عليه وعلى ترك آلهتك وقرأ بعضهم إلاهتك أي:عبادتك وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وغيره وعلى القراءة الأولى قال بعضهم كان لفرعون إله يعبده أ.هـ تفسير ابن كثير2/319 .

وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ,أي:يدعك أنت وآلهتك,وينهى عنك,ويصد الناس عن اتباعك.أ.هـ تفسير السعدي.

مصطلح نذر في السنة

عن النعمان بن سالم قال سمعت أوسا يقول:أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف فكنت معه في قبة فنام من كان في القبة غيري وغيره فجاء رجل فساره فقال:اذهب فأقتله فقال: أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله,قال:يشهد, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذره ثم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها حرمت دماؤهم وأموالهم إلا بحقها قال محمد فقلت لشعبة أليس في الحديث أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله قال أظنها معها ولا أدري

قال ابن الأثير: والمراد في الحديث: أي يقر بالشهادة لاجئا إليها لتدفع عنه القتل وليس بمخلِص فلذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم "ذره" أي أتركه ودعه أ.هـ جامع الأصول 1/249.

وأما مصطلحي أتنهانا وتلفتنا , فـ أتنهانا من النهي وهو الكف وتلفتنا من لفته أي صرفته وكلاهما يتضمن معنى الترك أيضا.

فالاجتناب يعني ترك المعبودات من دون الله تعالى تركا عاما وهذا الأمر تجلى من خلال التطبيق العملي الذي بينه الله تعالى في كتابه لأهل التوحيد من خلال إبراهيم عليه الصلاة والسلام والذي لا يقبل الله عز وجل إلا ملته فأمر بها خير رسله محمد عبد الله ورسوله عليه الصلاة والسلام بقوله : ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (النحل:123), فملة إبراهيم عليه السلام هي التوحيد قولا وعملا ظاهرا وباطنا وما سواها الشرك وقد تجلى هذا التطبيق العملي من خلال مصطلحيين عمليين هما الاعتزال والبراءة .

مصطلح الاعتزال فيما يتعلق بأصل التوحيد ورد في أربع آيات هي:

1- قوله تعالى:وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً (الكهف:16).

2- قوله تعالى:وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً (مريم:48).

3- قوله تعالى:فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً (مريم:49).

4- قوله تعالى: وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (الدخان:21).

فالاعتزال في القرآن كما بينه سبحانه وتعالى من خلال إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى:وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (الصافات:99), وقوله تعالى : فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (العنكبوت:26), فهو المفارقة والهجرة وهو ما نص عليه أهل التفسير واللغة بالإجماع .

مصطلح الاعتـزال في اللغـة

اعتزل الشيء إذا كان بمعزل منه فمعنى اعتزلي أي كوني وحدك في جانب أ.هـ المطلع1/336.

العزلة خروج عن مخالطة الخلق بالانزواء والانقطاع أ.هـ التعاريف1/513.

الاعتزال طلب العزل وهو الانفراد عما شأنه الاشتراك والاعتزال تجنب الشيء عمالة أو إمارة أو غيرهما بالبدن أو القلب أ.هـ التعاريف1/75 .

عزلت الشَّيء نحّيته.أ.هـ كتاب العين1/353.

العزلة جانبهم وزايلهم وفارقهم وبات منهم وانفتل عنهم أ.هـ الألفاظ المؤتلفة 1/183.

الاعْتِزالُ والأَعْزَلُ: الرَّمْلُ المُنْفَرِدُ المُنْقَطِعُ أ.هـ القاموس المحيط 1/1333.

واعْتَزَلْتُ القومَ أَي:فارَقْتهم وتَنَحَّيت عنهم أ.هـ لسان العرب11/440.

مصطلح الاعتزال عند علماء التفسير:

وقوله: وأعتزلكم وما تدعون من دون الله() يقول: وأجتنبكم وما تدعون من دون الله من الأوثان والأصنام أ.هـ تفسير الطبري8/349.لاحظ كيف فسر الاعتزال بالاجتناب.

وأعتزلكم وما تدعون من دون الله() أي: أهاجر بديني عنكم وعن معبوداتكم حيث لم تقبلوا نصحي ولا نجعت فيكم دعوتي أ.هـ فتح القدير 3 /481.

وأعتزلكم وما تدعون من دون الله() أي : أعتزل ما تعبدون من دون الله : قال مقاتل : كان اعتزاله إياهم أنه فارقهم من ( كوثى ) فهاجر منها إلى الأرض المقدسة أ.هـ معالم التنزيل للبغوي1/235.

وأعتزلكم وما تدعون من دون الله } بالمهاجرة بديني أ.هـ تفسير البيضاوي1/19.

وأعتزلكم وما تدعون } أفارقكم وأفارق ما تعبدون من أصنامكم.أ.هـ الوجيز للواحدي 1/683.

قوله تعالى وأعتزلكم أي: وأتنحى عنكم وأعتزل ما تدعون من دون الله أ.هـ زاد المسير5/238.

مصطلح الاعتـزال في السنة وعند علماء الحديث

( إذا قرأ ابن آدم السجدة ) أي آيتها ( فسجد ) للتلاوة ( اعتزل ) أي تباعد وكل من عدل إلى جانب فهو معتزل ومنه سميت الفرقة العدلية معتزلة أ.هـ فيض القدير1/415.

فلما كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن حيدة لما سئل عن آية الإسلام أن تقول أسلمت وجهي لله وتخليت وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتفارق المشركين إلى المسلمين وكان التخلي هو ترك كل الأديان إلى الله ثبت بذلك أن كل من لم يتخل مما سوى الإسلام لم يعلم بذلك دخوله في الإسلام أ.هـ شرح معاني الآثار 3/216.

وتخليت التخلي التفرغ أراد التبعد من الشرك وعقد القلب على الإيمان أي:تركت جميع ما يعبد من دون الله وصرت عن الميل إليه فارغا ولعل هذا كان بعد أن نطق بالشهادتين لزيادة رسوخ الإيمان في القلب ويحتمل أن يكون هذا إنشاء الإسلام لأنه في معنى الشهادة بالتوحيد والشهادة بالرسالة قد سبقت منه بقوله إلا ما علمني الله ورسوله أو أن هذا الكلام يتضمن الشهادة بالرسالة لما في أسلمت وجهي من الدلالة على قبوله جميع أحكامه تعالى ومن جملة تلك الأحكام أن يشهد الإنسان لرسوله بالرسالة ففيه أن المقصود الأصلي هو إظهار التوحيد والشهادة بالرسالة بأي عبارة كانت والله تعالى أعلم أ.هـ حاشية السندي على النسائي5/5.

مصطلح البراءة فيما يتعلق بأصل التوحيد ورد في تسع آيات مرادفة لمعنى الاعتزال وهي قوله تعالى:

1- وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ (الزخرف:26).

2- قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (الممتحنة:4).

3- قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (الأنعام:19).

4- فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (الأنعام:7).

5- وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (التوبة:3 ).

6- وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (يونس:41).

7- أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ (هود:35).

8- إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (هود:54).

9- فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (الشعراء:216).

مصطلح البـراءة في اللغـة

بَرِئَ إِذا تخَلَّصَ وبَرِئَ إِذا تَنَزَّهَ وتباعَدَ وبَرِئَ إِليَّ وبارَأْتُ شَرِيكي إِذا فارَقْتَه, بَرِئَ منه ومن الدين والعيب سلم أ.هـ لسان العرب1/31, تاج العروس1/77, مختار الصحاح 1/73.

التنـزيه التبرئة ونزهت الله عن السوء برأته منه أ.هـ التعاريف 1/209.

مصطلح البراءة عند علماء التفسير

برئت من الشيء أبرأ براءة فأنا منه بريء إذا أزلته عن نفسك وقطعت سبب ما بينك وبينه أ.هـ تفسير القرطبي8/60, فتح القدير 2/481.

المراد من قوله: ( لست منهم في شيء ) أي: أنت منهم بريء وهم منك براء تقول العرب: إن فعلت كذا فلست مني ولست منك أي: كل واحد منا بريء من صاحبه أ.هـ معالم التنزيل للبغوي1/208.

وأصل التركيب لخلوص الشئ عن غيره إما على سبيل التقصي كقولهم بريء المريض من مرضه المديون من دينه أو الإنشاء كقولهم برأ الله آدم من الطين أ.هـ تفسير البيضاوي1/324.

برئت من الأمر إذا تخليت منه أ.هـ روح المعاني25/111.

والتبرؤ تكلف البراءة وهي التباعد من الأمر الذي من شأن قربه أن يكون مضرا ولذلك يقال تبارا إذا أبعد كل الآخر من تبعه محققة أو متوقعة أ.هـ التحرير والتنوير1/480.

- أصل البرء والبراء والتبري : التقصي مما يكره مجاورته أ.هـ مفردات القرآن 1/112.

مصطلح البراءة في السنة وعند علماء الحديث

قوله تخليت معناه تبرأت من الشرك وانقطعت عنه أ.هـ غريب الحديث للخطابي1/323.

أسْلَمْتُ وَجْهِي إلى اللهِ وَتَخَلَّيْتُ أي تَبَرَّأْتُ من الشِّرْك أ.هـ غريب الحديث لابن الجوزي1/302.

الخلاصة: اتفاق علماء اللغة والتفسير والحديث بالإجماع على أن الاجتناب هو الترك والاعتزال والبراءة والمراد به العموم المطلق لما وضعت له.

رابعـا: الطاغـوت ( المعبود من دون الله )

مصطلح الطاغوت ورد في كتاب الله تعالى في ثمان آيات لا تاسع لها لم تجعل للطاغوت من عموم معاني العبادة التي ورد بيانها شيئا وإنما أقتصر الذكر الحكيم على ذكرها لبيان:

1- أصل الدين: قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (النحل : 36 ), وقوله تعالى:لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(البقرة:256).

2-أن الطاغوت يكون بمعنى الجمع بقوله تعالى: اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة:257).

3- أن الطاغوت يأت بمعنى المؤنث بقوله تعالى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (الزمر : 17 ).

4-أن عبادة الطاغوت ليست خاصة بمن لم يأتهم رسول أو كتاب, قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً (النساء:51).

5- أن أهل الكتاب منهم من عبد الطاغوت مع وجود الكتاب ولم ينفعهم ذلك بقوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ (المائدة:60).

6- بعض مظاهر العبادة التي قد يظن البعض أنها ليست عبادة مع ادعائهم الإيمان ولكنهم ممن عبدوا الطاغوت:

أ- التحاكم, قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (النساء:60).

ب- الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وأن كل قتال لا يكون تحت راية الإسلام يكون للطاغوت بدليل قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (النساء:76).

معـنى الطاغـوت

والطاغوت يعم كل مخلوق معبود من دون الله تعالى من الجمادات والنباتات والحيوانات الثقلين وممن رضي بالعبادة من الجن والإنس.

قال النووي رحمه الله تعالى: قوله الطواغيت هو جمع طاغوت قال الليث وأبو عبيدة روينا وجماهير أهل اللغة الطاغوت كل ما عبد من دون الله تعالى وقال ابن عباس ومقاتل والكلبى وغيرهم الطاغوت الشيطان وقيل هو الأصنام قال الواحدى الطاغوت يكون واحدا وجمعا ويؤنث ويذكر... قال النحويون وزنه فعلوت والتاء زائدة وهو مشتق من طغى وتقديره طغووت ثم قلبت الواو ألفا والله أعلم أ.هـ شرح النووي لمسلم 3/18.

وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : والطاغوت : عام في كل ما عبد من دون الله، فكل ما عبد من دون الله، ورضي بالعبادة، من معبود، أو متبوع، أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله، فهو طاغوت ؛ والطواغيت كثيرة،ورؤوسهم خمسة:
الأول : الشيطان، الداعي إلى عبادة غير الله، والدليل قوله تعالى : أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (يس:60).
الثاني : الحاكم الجائر، المغير لأحكام الله تعالى، والدليل قوله تعالى :أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (النساء:60).
الثالث: الذي يحكم بغير ما أنزل الله، والدليل قوله تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (المائدة:44).
الرابع:الذي يدعي علم الغيب من دون الله،والدليل قوله تعالى:عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً ()إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (الجن:26- 27), وقال تعالى : وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (الأنعام:59).

الخامس: الذي يعبد من دون الله، وهو راض بالعبادة والدليل قوله تعالى:وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (الأنبياء: 29 ). أ.هـ الدرر السنية1/162-163.

وقال أيضا: قال ابن القيم: رحمه الله تعالى، معنى الطاغوت: ما تجاوز به العبد حده، من معبود، أو متبوع، أو مطاع.
والطواغيت كثيرة، ورؤوسهم، خمسة، إبليس لعنه الله، ومن عبده وهو راض، ومن ادعى شيئاً من علم الغيب، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومن حكم بغير ما أنزل الله ؛ والدليل قوله تعالى : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ( البقرة256) وهذا : معنى لا إلَه إلا ّ الله. أ.هـ الدرر السنية 1/135.

 وقال أيضا: والطواغيت كثيرة والمتبين لنا منهم خمسة : أولهم الشيطان، وحاكم الجور، وآكل الرشوة، ومن عبد فرضي، والعامل بغير علم أ.هـ1/137.

والطاغوت على ضربين:

الأول: طاغوت يعقل( جن أو إنس).

الثاني: طاغوت لا يعقل ( جماد أو نبات أو حيوان).

والطاغوت عموما ينقسم إلى ثلاثة أقسام بحسب مظاهر العبادة:

أ- طاغـوت دعــاء ( تنسك وسؤال واستغاثة وطاعة وتسمية) وهو ما يطلق عليه التنسك أو النسك أو التقرب دليل ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (الأعراف: 194 ).

ب- طاغـوت حكــم: دليل ذلك قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدا ً(النساء : 60 ).

ت- طاغـوت ولاء: دليل ذلك قال تعالى: اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة : 257) ,وقال تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (النساء:76).

ولذلك بين سبحانه وتعالى أن الدعاء والحكم والولاء هو العبادة والتأليه ومن جعل ذلك لغير الله تعالى فقد اتخذ إلها آخر وأشرك بالله العظيم:

1- أما الدعـاء فدليله قوله تعالى: قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (الأنعام:71).

2- وأما الحـكم فدليله قوله تعالى: أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ(الأنعام 114).

3- وأما الـولاء فدليله قوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ (الأنعام:14).

وجمع الله تعالى ذلك كله بقوله : قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (الزمر:64).

فالمعبود بحق هو الله الخالق ولا خالق إلا هو سبحانه وتعالى والمعبود بالباطل ( الطاغوت) هو كل مخلوق ينسب له الحكم والأمر والاستغاثة والإتباع والمحبة والنصرة دون الرد إلى الله تعالى وإلى رسوله عليه السلام سواء كان يعقل- إذا رضي بذلك - أو لا يعقل وغالب المعبودات التي لا تعقل هي الأوثان (الجمادات) سواء كانت على هيئتها التي خلقها الله تعالى عليها أو وضعها( صنعها) الإنسان أو شكلها بأي شكل أو صورة ومها أطلق عليها من أسماء,وكل ما يصدر عن الإنسان فهو جماد كما بين تعالى في محاجة إبراهيم لقومه: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (الصافات:95) , وحقيقتها واحدة مهما اختلف شكلها وتغير اسمها فهي لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع ولا تأكل ولا تشرب ولا تمشي ولا تدافع عن نفسها كما قال تعالى: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72 )أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73-72, الشعراء), وقال تعالى: قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (الأنبياء:63) ,وقال تعالى:فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (الصافات:91) , وهذه هي الحجة التي أوتيها إبراهيم عليه السلام على قومه والتي ذكرها سبحانه وتعالى:وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (الأنعام:83), ولذلك قال الله تعالى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ (الأعراف:195), ولا يمكن بحال أن تكون الجمادات مما ينسب لها شيء من شرع الله تعالى كما يقال موافق للشرع أو مخالف للشرع- إذ كيف يكون للجماد أمر ونهي ؟ وهل يقول ذلك عاقل ؟ وكيف يكون لجماد تنظيم حياة البشر وهي القاصرة عن تنظيم نفسها إذ لا حياة فيها ؟ والطاغوت في زماننا هو:

أولا: الطاغـوت من غيـر العقـلاء :

  1. الأوثـان: وهي الدساتير والقوانين التي ينسبون إليها تنظيم حياة البشر من خلال الحكم والأمر والنهي والسياسات المختلفة والأوطان التي جعلوها القبلة التي يتوجهون إليها ويعملون من أجلها... الخ , قال تعالى: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (الحج:30) , وقال تعالى: إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (العنكبوت:17).

2- الهـوى:قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (الفرقان:43), وقال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (الجاثية:23).وقوله تعالى: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (القصص:50).

ثانيا: الطاغـوت من العقـلاء:

1- السادة والكبراء وهم أصحاب السلطان ( الأمر والنهي) الذين يأمرون بغير أمر الله أو يحكمون بغير حكم الله أو يُتَّبَعون على غير شرع الله تعالى ويردون شؤونهم إلى غير الله والرسول قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (الأحزاب:64),إلى قوله: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (الأحزاب:67), وغالبا ما يكونون ممن يحافظون على الطواغيت ممن لا تعقل وخاصة الوثنية سواء كانوا بصفة فردية أو مؤسسات و أنظمة ويتكلمون باسمها كما قال ابن عباس رضي الله عنه : ـ الجبت: الأصنام؛ والطاغوت: تراجمة الأصنام، الذين يكونون بين أيديهم، يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس أ.هـ الدرر السنية2/301.

وهم يردون ذلك إلى أمور جعلوا لها قداسة وتعظيما من دون الله تعالى وأسبغوا عليها هالة تمنع الناس من السؤال عن حقيقتها ليتمكنوا من الاستخفاف بالناس والسيطرة عليهم ويستخدمون كل الطرق بالترغيب والترهيب لتعبيد الناس لها.

وقد بين تعالى أن السلطان هو سلطان القوة والأمر بقوله: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ(غافر:47), وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (سبأ:33).

2- العلمـاء ( الأحبار والرهبان) وهم بسلطانهم المعنوي الديني الذين يحرفون الأدلة بتأويل باطل من إباحة الكفر أو تحليل الحرام و تحريم الحلال, قال تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(التوبة:31).وقد بين تعالى أن طاغوتية الأحبار والرهبان من خلال الإدعاء بأن ما يقولونه هو من عند الله تعالى بمعنى أنه مما يصدقه الشرع ويتوافق مع النصوص الشرعية وفي الحقيقة أنه من عند أنفسهم قال تعالى : وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(آل عمران:78), وهؤلاء هم الذي يحرفون الكلم عن مواضعه تارة وتارة بتحريف الكلم من بعد مواضعه.

3- الشيطان الجـني : فالطواغيت من البشر هم شياطين الإنس وكما سبق ذكره فإن طاغوتيتهم مستمدة من السلطان المادي والمعنوي وأما الشيطان الجني فليس له سلطان على الإنس سواء معنوي أو مادي بدليل قوله تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم ٌ(إبراهيم:22), ومن قوله تعالى يتبين ما يلي:

أ- أنه نفى السلطان وقد جاء لفظ السلطان نكرة في سياق النفي مما يفيد العموم أي : أنه لم يكن له سلطان مادي أو معنوي وهذا حق فالشيطان لم تكن له إمارة وحكم على الناس وكذلك لم يكن من الأحبار والرهبان يعيش بين الناس لأنه كما بين تعالى : يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (الأعراف:27), فهو يرانا ولا نراه فمعنى ذلك ليس له خطاب موجه لبني آدم يأمرهم به وينهاهم ويحل لهم ويحرم عليهم.

ب- الإستثناء في قوله تعالى : إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ(),استثناء منقطع إذ أن الدعوة ليست من السلطان وإنماهي طلب فعل على سبيل التخيير مع امتلاك المخير حرية الاختيار, فليس في ذلك سلطان من قوة ولا حجة.

ج- إن مظاهر علاقة الشيطان مع البشر هي:

1- الإغواء قال تعالى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (ص:82).

قال القرطبي رحمه الله تعالى: لأغوينهم () لأستدعينهم إلى المعاصي وقد علم أنه لا يصل إلا إلى الوسوسة ولا يفسد إلا من كان لا يصلح لو لم يوسوسه أ.هـ تفسير القرطبي 15/201.

وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: فأقسم بعزة الله أنه يضل بني آدم بتزيين الشهوات لهم وإدخال الشبه عليهم حتى يصيروا غاوين جميعا.أ.هـ فتح القدير4/634.

2- التزيين : قال تعالى: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (الحجر:39).

قال الشوكاني رحمه الله تعالى:أي ما داموا في الدنيا والتزيين منه إما بتحسين المعاصي لهم وإيقاعهم فيها أو يشغلهم بزينة الدنيا عن فعل ما أمرهم الله به فلا يلتفتون إلى غيرها.هـ (فتح القدير3/188).

3 - الوسوسة: قال تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى (طه:120).

قال الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى: الوسوسة : الخطرة الرديئة وأصله من الوسواس وهو صوت الحلي والهمس الخفي.هـ المفردات522.

وجاء في التبيان تفسير غريب القرآن ما نصه:فوسوس إليه الشيطان ألقى في نفسه شرا.أ.هـ 291.

4- النزغ: قال تعالى: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(الأعراف :200).

قال الطبري رحمه الله تعالى: وأصل ( النزغ ) الفساد يقال : ( نزغ الشيطان بين القوم ) إذا أفسد بينهم وحمل بعضهم على بعض أ.هـ التفسير 6/155.

وعليه فإن عبادة الشيطان التي حذر منها سبحانه وتعالى بقوله: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (يس:60),هي بفعل الشرك والذي لا يكون إلا بتزيين الشيطان كما بين تعالى عن المشركين بقوله: وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (العنكبوت:38),وقوله تعالى: وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (النمل:24), وقال تعالى: تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (النحل:63) , ولذلك بين سبحانه وتعالى أن السلطان الذي للشيطان على المشركين هو استجابتهم لتزيينه بقوله:وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم(), ولقد بين تعالى أن عبادة الشيطان تكون باتباعه بقوله: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (سبأ:20),وبين هذا الإتباع بأنه السير على خطوات الشيطان بقوله تعالى: وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (الأنعام:142).

وأما الفعل المجرد للمخالفة دون الكفر فهي المعصية ولا تكون عبادة للشيطان كما أخبر سبحانه وتعالى عن آدم عليه السلام: فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى(طه: 121), وكما أخبر تعالى عن شرب الخمر بقوله:إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ (المائدة:91), فطاغوتية الشيطان إنما هي طاغوتية مقيدة بتزيين الشرك فمن فعل شركا من نفسه مخيرا فيه فقد استجاب لدعوة الشيطان وتولى عن دعوة الله تعالى فيكون قد أتخذه إلها من دون الله سبحانه تعالى ومن فعل المعصية بتزيين الشيطان وغوايته كان عاصيا وليس عابدا للشيطان.

والطاغوت الوثني طاغوتيته مطلقة وتتعلق بعموم الأفعال إذ لا تعامل معها إلا من منطلق الطاغوتية, بخلاف الطاغوت البشري فقد تكون طاغوتيته مطلقة وقد تكون مقيدة وما يكون طاغوتا بحق أناس قد لا يكون طاغوتا بحق آخرين وما يكون طاغوتا في حال قد لا يكون طاغوتا في حال آخر وما يكون طاغوتا في وقت قد يكون مسلما في وقت آخر بخلاف الأوثان وهذا قليل من يتفطن له في التعامل مع الأدلة الشرعية التي لا بد من معرفة الحكم أولا ثم معرفة الواقع للزمن والأشخاص ولا بد من التفريق فيما يتعلق بالأدلة الشرعية الواردة بحق الطاغوت بين حقيقة الطاغوت من حيث أنه يعقل أو لا يعقل ومن حيث كونه جني أو إنسي ومن حيث كونه ممن يرد الأمور إلى شرع الله تعالى أو إلى غير شرع الله تعالى وعدم ضبط الأمور بهذه الكيفية وتحديدها هو مزلة الأقدام وخاصة في هذا الزمان حيث أصبح النظر في الأدلة الواردة بحق الطاغوت غير واضحة ومنضبطة ومحددة فتأخذ على العموم حسب الهوى وتقيد حسب الهوى فمن ذلك قولهم جواز طاعة الطاغوت بالمباح وهذا قول يشمل عموم الطاغوت ويسقط قولهم هذا لأنه يدخل فيه الطاغوت من الأوثان والتي لا يمكن بحال ان تكون مطاعة سواء بمباح أوغيره وكذلك الشيطان لا يأمر بمباح ولا يزينه ولا يعتبر من الغواية ونحن نستدل بعموم الاجتناب حيث يجتنب إجتنابا عاما كونه طاغوتا.

وإن قالوا لا نستدل بعموم الطاغوت وإنما إستدلالنا يتوافق مع ما يتعلق به من حيث حقيقته ومجال طاغوتيته فقد رجعوا وسلموا للحق.

فإذا ثبت بأن معاني العبادة هي التسعة( التنسك والتسمية بالاسماء الحسنى والطاعة والتشريع والحكم والتحاكم والاتباع والنصرة والمحبة), بالعموم المطلق نستطيع أن نفقه قول الله تعالى المتعلق بالتوحيد الصريح كقوله تعالى : قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (الأحقاف:4),فهذا المطاع والحكم والمتحاكم إليه والمشرع والمتبع والذي يعمل له ومن أجله ماذا خلق من الأرض؟ فلا خالق إلا الله تعالى ليس بشرا وحجرا ولا غير ذلك من المخلوقات فإن الخالق وحده هو المطاع والمشرع والحكم والمتحاكم إليه والمتبع شرعه والذي يعمل من أجله وله ولذلك حكم الله تعالى حكما واضحا وصريحا بقوله: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (الأحقاف:5), فالدعاء هو العبادة- وهي التسعة السابقة- وعليه فلا يوجد اضل ممن أطاع غير الله تعالى أو حكم بغير حكم الله تعالى أو تحاكم على غير حكم الله أو اتبع غير شرع الله أو عمل لغير الله تعالى وعاقبته :إ ِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (الأنبياء:98).

الأصول الشرعية الدالة على عموم اجتناب الطاغوت والمطلق

إن أصل الإسلام الذي جاءت به الرسل عليهم السلام إلى أقوامهم بينه تعالى بقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (النحل:36), كما مر بيان ذلك بالتفصيل فالكفر والإيمان ميزانه اجتناب الطاغوت فمن اجتنب الطاغوت فقد حقق عبادة الله تعالى وحده وهو من الذين هداهم الله تعالى وأما من لم يجتنب الطاغوت فقد عبد غير الله تعالى وهو ممن حقت عليه الضلالة ممن قال تعالى فيهم: فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (الأعراف:30), إنهم هؤلاء الذين يتبعون ما تشابه من كتاب الله تعالى ويحسبون كونهم يستندون إلى كتاب الله تعالى أنهم مهتدون بدليل قوله تعالى: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ(آل عمران: 7) , فليس الحق في أن تحسب-وهذا هو الظن- نفسك على هداية ولكن الهداية أن تكون على ما أحكمه الله تعالى وهو اليقين قال تعالى: وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (النجم:28), وقال عليه الصلاة والسلام: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث أ.هـ (رواه البخاري ومسلم), فكيف يكون حال من كان دينه يتصف بوصفين شرعيين: لا يغني شيئا وأنه أكذب الحديث. ولذلك يظن الكثيرون أن اجتناب الطاغوت ليس المقصود منه الترك العام وقد مر بيان ذلك علما بأن هذا الترك إنما هو متعلق بالمخلوق كونه يُمارَس بحقه أي مظهر من مظاهر العبادة التي سبق ذكرها بالتفصيل مع التنبيه أن الطاغوت قد يتصف بجميع مظاهر العبادة فيكون طاغوتا مطلقا ومنهم من يتصف بمظهر أو مظهرين وكل بحسبه وإليك الدلالات والقواعد الشرعية التي تدل على عموم الترك (الاجتناب):

أولا: قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(النحل:36) , مرادف لقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ(الأنبياء:25), وهو مرادف لقول كل نبي جاء إلى قومه: َ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ (الأعراف:59),وكل نص من هذه المترادفات يشتمل على ركني التوحيد وهما النفي والإثبات:
فالإثبات هو: (اعبدوا الله ) و (إلا أنا فاعبدون).
والنفي هو: (اجتنبوا الطاغوت) و (لا إله).
فاجتناب الطاغوت هو تأليه الله تعالى وحده وعدم اجتناب الطاغوت هو تأليه لغير الله تعالى لأن الاجتناب مقابل للتأليه وهذا نص عام لا مخصص له بحال إذ لا يمكن بحال جواز تأليه غير الله تعالى لأن عدم الاجتناب تأليه كونه شق النفي المقابل لشق الإثبات فمن لم ينف مطلقا لم يثبت مطلقا فهذا من المسلمات العقلية والشرعية التي لا تقبل جدالا, والله تعالى يقول: لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً (الإسراء:22), وهذا نص عام يقابله نص عام هو الاجتناب العام فمن لم يجتنب الطاغوت فقد جعل مع الله إلها آخر، وقال تعالى: وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ (النحل:51), وهذا نص عام يقابله نص عام هو اجتنبوا الطاغوت فمن لم يجتنب الطاغوت بأي مظهر وجزئية فقد اتخذه إلها, فمن أجل ذلك أرسل الله رسله وأنزل كتبه. وبهذا يثبت عموم الاجتناب وأنه لا مخصص له.
ثانيـا: قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورا ً(163 ) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً(164, النساء), وهذه الآيات مدنية وممن قص الله على نبيه قبل هذه الآية قصة يوسف عليه السلام وهو مما لا شك فيه داخل في قوله تعالى أيضا: وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ () والذي أوحاه الله تعالى إليهم هو قوله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ (), كل بلسان قومه ليبين لهم كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (إبراهيم:4),ولا شك أن هذا الأمر هو الذي اتفقت عليه الرسل وهو أصل ما شرعه الله تعالى للرسل قال تعالى: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (الشورى:13) , وهذا الأمر ليس الذي قال فيه سبحانه: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً (المائدة:48), فالأصل فيه اتفاق وهو التوحيد وفروع مختلفة وهي الشريعة, وهذه الآية فيها دلالات عظيمة منها :
- أن التفرق يكون في أصل الشرعة والمنهاج أي في:اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت.
- كون الاجتناب المطلوب في الدعوة عام ومطلق هو ما كبر على المشركين دعوتهم إليه.
- أن الاجتباء يكون بحق النبوة ( الله يعلم حيث يجعل رسالته).
- أن الهداية تكون على الله تعالى للمنيبين إليه الذين يتبعون المحكم ويفوضون المتشابه إلى الله في حال عدم توجيهه مع المحكم وحالهم ومقالهم: آمنا به كل من عند ربنا.
والله تعالى قص علينا قصص الأنبياء من نوح إلى محمد عليهم الصلاة والسلام بأحكم بيان وأتم تفصيل وكلهم اتفقوا على هذه الدعوة وبين تعالى بنصوص محكمة أنهم دعوا إلى اجتناب الطاغوت اجتنابا عاما وليس في أحوالهم مقالا أو عملا أو تقريرا مخالف للاجتناب العام فهذا هو المحكم من أحوالهم ولا يوجد في أحوالهم متشابه قد يفهم منه غير ذلك إلا ما فهمه الخلف في هذا الزمان من قصة يوسف عليه السلام والذي جاء في زمان وسط بين الأنبياء فلا يوجد في أحوال من سبقه من الأنبياء متشابه ولا فيمن بعده فنعلم يقينا أن حاله كحالهم وما تشابه ( وليس فيه متشابه إلا في عقول أهل الزيغ)فنرده إلى المحكم ليتفق معه فإن علمنا ذلك فالحمد لله وإن لم نعلم ذلك فوضناه إلى ربنا وقلنا: آمنا به كل من عند ربنا () والخلل في عقولنا وليس في منقولنا,وسأبين بكل تفصيل إن شاء الله تعالى ما يتعلق بقصة يوسف عليه السلام في بحث مستقل, وبهذا أيضا يثبت عموم الاجتناب وأنه لا مخصص له.
ثالثـا: حسب القاعدة الأصولية التي تنص على أنه: لا يجوز تأخير البيان لمجمل أو ظاهر يراد غير ظاهره عن وقت حاجة العمل به أ.هـ فالعمل بالتوحيد مطلوب فورا فلو كان المطلوب غير العموم الظاهر لكان ينبغي أن يبين الله تعالى ذلك في نفس الدعوة أي: اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت في كذا وكذا ولا تجتنبوا في كذا وكذا وهذا لم يوجد في دعوة أي نبي حتى في دعوة يوسف عليه السلام حين بينها للفتيين معه في السجن فقد دعاهم دعوة عامة لا تخصيص فيها فما من مسألة شرعية وخاصة في الفرعيات إلا وبين الشرع أدق تفصيلاتها فكيف بأصل الدين فهل يعقل أن يكون من مسائل الاجتهاد متروكا لإفهام البشر المختلفة فأصل الدين هو مراد الله تعالى ولا يعلم مراده إلا منه وليس من البشر، إذ أن أفهام البشر لا ضابط لها, فبما انه لم يأت نص يخصص الاجتناب العام فيبقى على عمومه ولا يوجد نص لا في القرآن ولا فيما أنزله الله تعالى على السابقين لا قولا ولا عملا ونقول نريد نصا لا فهما يحتمل فإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال فهذا بحق النصوص في معنيين فكيف بحق الأفعال التي اتفق فيها جمهور الأصوليين على أنها لا عموم لها ولا يستدل بالفعل إلا على صورته المطابقة له, وبهذا أيضا يظهر أن الاجتناب المطلوب هو عموم الاجتناب.
رابعـا: إن أصل الإسلام لا إله إلا الله والتي هي أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت تقوم على قاعدة النفي والإثبات أي النهي والأمر.
فالنفي: اجتنبوا الطاغوت الذي هو: لا إله وهذا هو النهي.
والإثبات: اعبدوا الله الذي هو: إلا الله وهو الأمر.
فالله تعالى يقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (الحشر:7) , وبين عليه الصلاة والسلام هذا بقوله: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم.أ.هـ رواه مسلم.
ولا شك أن ما نهى الله عنه وأمر به يدخل في هذا بمفهوم الموافقة المسكوت عنه أولى بالمنطوق.
وهذه القاعدة مقررة في الشرع بالإجماع قال ابن تيمية رحمه الله: فالمنهي عنه يجب تركه بكل حال والمأمور به يجب فعله في حال دون حال أ.هـ شرح العمدة 4/329.
فنص النهي يفيد الترك بكل حال تركا عاما إلا إذا ورد نص يخصص والمنهيات لها قاعدة الضرورات تبيح المحظورات, وهذا بحق المحرمات دون الكفر حتى أن هناك من المحرمات لا تباح بحال كشرب الخمر الذي ورد النهي عن استعماله حتى كدواء كما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والدارقطني وابن أبي شيبة أن رجلا يقال له سويد بن طارق:سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه عنها فقال إني أصنعها للدواء فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنها داء وليست بدواء, وفي رواية بلفظ:نصفها للدواء (),وكذلك قتل النفس المحرمة لأن الأصل في الدماء الحرمة.أ.هـ أما الكفر فله قاعدة الإكراه:إلا من أكره.
وعليه فاالطاغوت - المعبود من دون الله تعالى- , يجب اجتنابه اجتنابا عاما وفي كل حال.
وأما نص الأمر فله قاعدة الاستطاعة أن يفعله على حال دون حال وقد يسقط بكل حال وهذا بحق تفصيلات الشريعة أما عبادة الله كأصل عام فيجب تحقيقه وهو ليس بحثنا ومن جعل القياس في المنهيات على المأمورات أو العكس فقد قال على الله مالا يعلم فثبت أيضا أن الاجتناب المطلوب هو اجتناب عام لا خصوص فيه.

خامسـا: شهادة التوحيد التي هي( لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أو اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ,أو عْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ), تتضمن النفي والإثبات بلفظ دقيق فنص الإثبات قوله: اعْبُدُواْ اللَّهَ (), والذي هو إثبات لعبادة الله تعالى وليس إثباتا لذات الله تعالى لأن ذات الله تعالى ثابتة في الفطر فهي الخلقة التي خلق الله تعالى عليها البشر متأصلة في العقول ليس هناك ما يدل على خلافها .

وأما النفي فهو نفي لذات الطاغوت وهو المعبود من دون الله سبحانه بنص واضح صريح وهو قوله تعالى : َاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ (), لأن نفي الذات أبلغ من نفي الفعل بحقه فليس هناك حق لوجود معبود من دون الله تعالى فكيف بعبادته ؟! إذ أن وجود معبود دون الله تعالى أمر تستنكره العقول ولا تقبله وترفضه رفضا قاطعا فالمشركون الذين يعبدون غير الله تعالى يستنكرون ذلك وينفونه إذا واجهتهم بالمصطلح الصريح بأنكم تعبدون غير الله تعالى وذلك لأنهم مفطورون على عبادة الله وحده ولكن الخلل في عدم فهم مصطلح العبادة بحيث يصبح معناه مختزلا يتوافق مع المعنى العرفي الذي اصطلح عليه الناس بالألفة والتقليد ولذلك عندما سمع الصحابي عدي بن حاتم رضي الله عنه قبل إسلامه- وكان على النصرانية -رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ قوله تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ الآية قال مستنكرا : ما عبدناهم(), فمن قوله هذا نستطيع أن نتبين أمورا هامة تنبيء عن حقيقة عقلية المشرك وهي:

1- أن اتخاذ الأرباب هو اتخاذ معبود من دون الله تعالى.

2- أنه استنكر أن يكون هناك معبود غير الله تعالى.

3- أن الخلل إنما يكون في فهم مصطلح العبادة كمفهوم عام شامل.

4- أن عبادة غير الله تعالى لا تكون إلا عن جهل وغفلة وتقليد.

5- أن وجود الكتب السماوية لا يعتبر مانعا من وجود الشرك عند أهلها وأن الأحبار

والرهبان- العلماء والعباد- هم أصل الشرك في أممهم وبوابة الخروج من دين الله تعالى وأنهم الوسيلة التي يتخذها الحكام لذلك.

فقولنا لا إله إلا الله لا بد أن نقصد منه المعنى الذي يريده الله تعالى الذي هو نفي المعبود من دون الله تعالى وليس ما اصطلح عليه الناس في واقعهم فيجب أن تكون شهادة حق صريحة واضحة بمعنى:

- لا لأي مسئول ومستغاث به ومطاع ومسمى بالأسماء الحسنى والصفات العلى إلا الله تعالى.

- لا لأي شرع وحكم إلا تشريع وحكم الله تعالى.

- لا لأي منصور ومحبوب إلا الله تعالى.

- لا إتباع إلا لشرع الله تعالى.

فالمسلم ليس في حياته إلا قول الله تعالى وقول رسوله عليه السلام حكما وإتباعا وطاعة وتحاكما ومحبة ونصرة وتشريعا وأولوا الأمر هم القائمون والمحافظون على قول الله تعالى وقول رسوله عليه السلام والذين ليس في حياتهم إلا طاعة الله تعالى وطاعة رسوله عليه السلام وسوى ذلك فهو الكفر والطاغوتية , والمرء على دين من يطيع ويتبع ويتحاكم إليه ويحبه وينصره ومن جعل لغير الله تعالى مع الله تعالى شيئا من ذلك فهو المشرك الكافر, فالله يريد ذلك كله خالصا له وهذا معنى قوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (الأنفال :39),أي:حتى يكون الدعاء كله( تنسكا وسؤالا واستغاثة وطاعة وتسمية بالأسماء الحسنى) والحكم كله( تشريعا وحكما وتحاكما) والولاء كله ( طاعة واتباعا ومحبة ونصرة) وانظر إلى لفظ كله أي: ليس لغيره منه شيء والتي تعني العموم المطلق فالدين هو العبادة وهو الدعاء والولاء والحكم بمعناها العام فلا يكون المرء مسلما إلا إذا جعل كل ذلك كله بإطلاق لله وحده ومن جعل أي شيء منه لغير الله تعالى فقد خرج إلى الشرك فالله تعالى يقول: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا (الكهف:110).

ملة إبراهيـم عليه السـلام

الإسـلام والديمقراطيـة

إن الديمقراطية التي جلبها الغرب وزرعها في بلادنا وفي عقولنا في ظل غياب الوعي لدى الشعوب وغياب القيادة الواعية سواء من العلماء أو الأمراء الذين يحملون هموم الأمة وأمانة الدعوة إلى دين الله عز وجل لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد والوصول بالأمة إلى عزتها مع ما رافق ذلك من إنشاء قيادات من العالم الإسلامي غربية العقل والوجدان عملت على تشريبه إلى الأمة بجرعات تدريجية مدروسة بتخطيط محكم حتى أصبحت هي الأصل وما سواها تبع لها هي دين غير دين رب العالمين لا يقبل الله ممن ينتسب إليها أو يعمل بها صرفا ولا عدلا وهم من قال الله تعالى فيهم: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (آل عمران:85).

ولم يكتف الذين أخذوا الديمقراطية عن اليهود والنصارى بالدعوة إليها وجعلها الأصل الذي تقوم عليه حياتهم بل أضافوا إلى ذلك أعظم مصيبة حلت بالأمة بأن أخضعوا الإسلام بفعل التحريف والتجهيل للمباديء الديمقراطية العلمانية القائمة على فصل الدين- بالمعنى القاصر المختزل في هذا العصر وليس المعنى الشامل - عن الدولة وتفريغ حياة الناس من حقيقة الإسلام حتى غرقت الحركات التي توصف بأنها إسلامية في مستنقع الديمقراطية وتبنته جملة وتفصيلا بدعوى أن الشورى في الإسلام هي الديمقراطية وكفى بذلك تحريفا للكلم من بعد مواضعه بصورة علنية مفضوحة فالشورى هي استخراج الرأي بمراجعة البعض البعض الآخر مقيدة بأمور المسلمين التي لم يرد فيها نص لقوله تعالى: وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (الشورى:38), فهذه الآية تتضمن أمرين :

الأول:قوله تعالى: وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ (لشورى:38), فالاستجابة تكون لأمر الله تعالى وأمر رسوله عليه السلام مصداقا لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ ( الأنفال:24),أي: إن الإيمان يتحقق بالاستجابة لأوامر وأحكام الله والرسول وذلك إنما يكون بالسمع لها والطاعة لقوله تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (النور:51 ), فلا شورى في ذلك وإنما التسليم والامتثال وهذا هو معنى الإسلام قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً (الأحزاب:36), فمن جعل أحكام الشرع خاضعة للشورى فقد خرج من دين الإسلام - إن كان دخله-وأصبح في دين الشياطين.

الثاني: قوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ (لشورى:38), والضمير في أمرهم يعود على المسلمين وليس إلى الأوامر والأحكام الشرعية وهي الأمور التي تعرض للمسلمين ولم يرد فيها شيء من النصوص الشرعية وهذا هو موضع الشورى والتي قال فيها سبحانه: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ (آل عمران :159),فهناك أمر الله تعالى وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام وهناك أمور المسلمين التي تتعلق بالتطبيق العملي للأوامر والأحكام الشرعية الخاصة بما يتعلق بجماعة المسلمين والتي لم يرد فيها بيان الكيفية وليست أمورا مبهمة قال الطبري رحمه الله تعالى: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال : إن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه ومكايد حربه تألفا منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرة التي يؤمن عليه معها فتنة الشيطان وتعريفا منه أمته مأتى الأمور التي تحزبهم من بعده ومطلبها ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم فيتشاوروا فيما بينهم كما كانوا يرونه في حياته يفعله فأما النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله كان يعرفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صواب ذلك وأما أمته فإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله في ذلك على تصادق وتأخ للحق وإرادة جميعهم للصواب من غير ميل إلى هوى ولا حيد عن هدى فالله مسددهم وموفقهم أ.هـ التفسير 3/494.

أما الديمقراطية فهي جعل كل أمور الحياة بمجالاتها المختلفة سواء وردت النصوص الشرعية بها أم لم ترد خاضعة للنقاش والمداولة وتقريرها حسب الأكثرية مهما كان هذا الأمر لا اعتبار فيه لشرع الله تعالى فالديمقراطية دين لا علاقة له بدين الله تعالى وهذه الحركات المسماة إسلامية سارت في ركب الديمقراطية مستغلة بذلك حالة الانهزام التي تعيشها الأمة حفاظا على مصالحها الدنيوية والمكتسبات التي أنعمت بها الأنظمة عليها مقابل السير في ركب التحريف واتخاذ دين الديمقراطية بديلا تقوم من خلاله النشاطات البشرية فزادت الأمة تلبيسا وإضلالا فخرجت عن الثوابت الشرعية وفتحت الباب على مصراعيه للإلحاد ومزقت الأمة إلى كيانات وأعملت مباضع التبشير ومكنت للورم اليهودي في جسد الأمة فآلت بالأمة إلى أن أصبحت تائهة في ذيل القافلة تتلقف الصفعات الموجعة فألفت الذلة والمهانة فلا الأمة سارت بركب الغرب وأعلنت انخلاعها من الدين ولا هي تشبثت بدينها على مراد ربها وسلكت بالأمة طريق نبيها وخلفائه من بعده الذين ما زالت آثار أعمالهم شاهدة على دور الإسلام الحقيقي في الأرض وأنه لا وجود على الحقيقة لغيره فهو المهيمن على الدين كله.

فالديمقراطية نظام حياة من وضع البشر يقوم على اختلاق رموز يحيطونها بهالة من القداسة والتمويه يطلقون عليها أسماء دون حقائق يحجبون بذلك عقول الناس عن التفكير بكنهها وحقيقتها ويجعلونها أساسا لتمرير مخططاتهم للسيطرة على مقدرات الأمة البشرية والمادية لتكون في خدمة أعدائها من اليهود والصليبيين وهذه الرموز يتم إسناد الأحكام والأوامر إليها من دون الله تعالى لتكون متبعة لتصبح المتفردة - قولا دون حقيقة - بتدبير وتصريف شؤون الحياة البشرية بشتى مجالاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية سواءً للفرد أو الجماعة على حد سواء وعلى الصعيدين الديني(حسب المعنى المختزل) والدنيوي ولا ضابط لها إلا ما تمليه مصالح فئة وطبقة معينة على حساب مصالح الأكثرية لتصبح الروابط الضيقة ذات الدلالات المبهمة وغير المنضبطة من خلال مصطلحات غير محددة عليها مدار التقاء وتجمع الناس -كما يزعمون- وما زادتهم إلا فرقة وتفريقا وتراجعا والواقع خير برهان على ذلك حيث أن الأمة أصبحت أحزابا وجماعات وطنية وقومية وقبائلية في ذيل القافلة وعالة على الأمم تكالب عليها الأعداء كما تتكالب الأكلة على قصعتها بخلاف الإسلام الذي يقوم على إفراد الله تعالى بالحكم والأمر وتصريف الحياة البشرية في جميع مجالاتها على المستوى الفردي والجماعي من خلال منهج واضح يتمثل بكتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام لتحقيق مصالح محددة واضحة تقوم على تأليه الله وحده من خلال الأمر والحكم للمحافظة على الضرورات الخمس للبشرية وهي الدين والعقل والدم والمال والعرض في إطار رابطة محددة واضحة هي جماعة المسلمين على أساس المساواة الحقيقية برباط الأخوة الإيمانية والتي لا تفرق بين حاكم ومحكوم وغني وفقير فالكل تحت مظلة الشرع تحت حكم واحد وأمر واحد.

وحال الديمقراطية وصفا وشكلا ومضمونا على الحقيقة كما يصورها سبحانه وتعالى بقوله: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(39 ) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40 ) سورة يوسف.

ملة إبراهيم عليه السلام دين العقل والفطرة

إن كل منهج ( دين) سوى الإسلام هو في الحقيقة استخفاف بالعقول وصرفها عن القيام بمهمتها التي فطرها الله سبحانه وتعالى عليها فالإنسان تميز بالعقل عن باقي المخلوقات وعليه مناط التكليف الشرعي في الدنيا الذي يعقبه الجزاء في الآخرة وهذا العقل جعل الله عز وجل له مداخل إدراك هما السمع والبصر ليصل به إلى مستوى التشريف والتكريم قال تعالى: وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (النحل:78), فنبه سبحانه وتعالى إلى أمور أساسية ورئيسة منها:

1- أن الشكر المراد هنا هو الإسلام بدليل قوله تعالى: إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ( 7:الزمر), لأن الإسلام قسيم الكفر.

2- أن الوصول للإسلام يكون بوساطة العقل من خلال وسائل الإدراك السمع والبصر:

- بدلالة الآيات الكونية حيث البصر وسيلة إيصالها إلى العقل بدليل قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (البقرة:164)، من خلال حقيقة ثابتة في الفطرة أنه لا خالق لهذا الكون إلا الله تعالى وأن الاستقرار الذي تتمتع به المخلوقات بدقة وانضباط إنما هو من خلال التزامها بالنظام (الأوامر والأحكام) الرباني وأن التغير في هذا النظام يؤدي حتما إلى انهياره ودماره ولذلك لم يجعل لغيره سلطان على الأحداث الكونية والبشر جزء من هذا الكون لا يمكن أن ينضبط ويستقر إلا بحكم الله تعالى وأمره وشرعه.

- وإما بدلالة الآيات الشرعية وهي الوحي المنـزل من الله تعالى على رسله الكرام حيث السمع وسيلة إيصالها إلى العقل بدليل قوله تعالى: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (الروم:52),وقال تعالى: وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ(النمل:81),وقال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ(العنكبوت:43) ،وبين ذلك أيضا بقوله: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (العنكبوت :49)، فالنتيجة أن الآيات الشرعية لا بد أن تكون عن علم والعلم لا يكون إلا بوجود العقل الذي يتصور الأشياء على حقيقتها والاستدلال بالنقل وهو الآيات السمعية-وحي الله تعالى- لا يمكن أن يتناقض مع العقل الصريح لأن العقل من الله سبحانه والآيات السمعية منه أيضا فالكل من عند الله تعالى والله يقرر قاعدة عقلية صريحة: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً(النساء:82) وعليه تتطابق الحقيقة العقلية مع الحقيقة الشرعية.

وبما أن الإنسان من هذا الكون فقد جعل الله تعالى له نظاما كونيا يتمثل بالأداء اللاإرادي لأعضائه لتؤدي مهمتها على الوجه الذي يحقق له الاستقرار وهذا من كمال رحمته لأن الإنسان ظلوم جهول ولو ترك ذلك له لأهلك نفسه فكذلك أنزل له نظاما متعلقا بأدائه الإرادي الاختياري من خلال رسله عليهم الصلاة والسلام تضبط حركته في الحياة وتحدد له كيفية ممارسة نشاطاته بجميع شؤونها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية تحقق له الاستقرار والهداية فكما أن أعضائه إذا تغير نظامها فشلت في أداء مهمتها وبالتالي سيحدث لها الدمار والهلاك والفساد فكذلك إذا تخلى عن منهج الله تعالى - أوامره وأحكامه- فسدت حياته وحصل له الضنك والشقاء والفساد وكما أنه لا يمكنه التصرف بأعضائه المختلفة المشاهدة المحسوسة المكونه لجسده كل على حدة ولا يستطيع أن يضع لها نظاما من عنده بأي شكل من الأشكال فكيف يضع نظاما لمجموعها كاملة ممثلة بالإنسان مع غيره من البشر إضافة إلى أن ممارسة البشر لشؤون حياتهم إنما هو متعلق بالروح غير المشاهدة وغير المحسوسة والتي لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى؟.

من أجل ذلك كانت النجاة يوم القيامة لمن استخدم عقله في تدبر الآيات الشرعية( السمعية) والكونية( المرئية) للوصول إلى حقيقة وجود الإنسان ومهمته كما جاء صريحا بقوله تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ(الملك:10), فأعظم الذنوب هو الإعراض عن الآيات السمعية (وحي الله تعالى المنزل),وعدم تدبرها وكذلك الإعراض عن الآيات الكونية لقوله عليه الصلاة والسلام عند قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (آل عمران:190): ويل لمن قرأ هذه الآية ولم يتفكر فيها أ.هـ (صحيح ابن حبان 2/386).

إن ما سبق كان مقدمة ضرورية ومدخلا أساسيا لفهم الإسلام وكيفية التعامل معه بوجوه الاستدلال وأنه ليس دين التقليد الأعمى والجهل بل دين العقل والعلم الذي يحصل به الاستخلاف والتمكين وقيادة الأمم وأنه لا يؤخذ إلا بعد تدبر واقتناع ووضوح الحجة لموافقته الفطرة السليمة التي خلقها الله تعالى وبذلك يكون راسخا رسوخ الجبال الرواسي في قلوب وحياة معتنقيه.

حقيقة ملة إبراهيم عليه السلام

إن الإسلام القائم على إتباع ملة إبراهيم عليه السلام لقوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (النحل:123), وقال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (آل عمران: 67), وهذه الملة ( ملة إبراهيم عليه السلام) تقوم على ركنين:

الركن الأول: بيان حقيقة المعبود ( المطاع والحكم ومن يتحاكم إليه والذي يعمل من أجله ومن يحب وينصر ويتبع شرعه) على أساس الإقناع العقلي بدليل قوله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيم ٌ(الأنعام:83), وانظر إلى ارتباط الحجة بالعلم والحكمة ومعلوم بما قصه الله سبحانه علينا في القرآن من قصة إبراهيم عليه السلام الاستدلال العقلي وأن إقامة الحجة بموجبها بحيث يصل العقل إلى نقطة التسليم التي مقتضاها ولازمها الإقرار عندها بالحقيقة الجلية المعروضة عليه كما بين تعالى بقوله: قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ (66)أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) سورة الأنبياء),وهذا الأمر كان بعد المناظرة العقلية: قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (الأنبياء:63) , فبما أن الذي ينسب له الأمر والحكم والتشريع والتعظيم لا ينطق وليس فيه مقومات الحياة الدائمة والعلم والحكمة والإحاطة فكيف يكون له أمر وحكم فيطيعه البشر ويتحاكمون إليه ويُحَكِّمونه ويسندون إليه تصريف شؤون الحياة للبشر الناطقين الأحياء, وهذا الأمر مبين في مناظرة أخرى: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ(72)أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73, الشعراء), فلم يكن منهم إلا الإقرار بالجهل الذي هو الغفلة وأنهم ما اتخذوها آلهة(أطاعوها وعظموها واتبعوها وعملوا لها وتحاكموا إليها ولجئوا إليها واتبعوا ما ينسب إليها من الشرع) عن علم وإدراك واقتناع وإنما هو الجهل والتقليد كما بين تعالى بقوله: قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (الشعراء:74), ثم تتكرر هذه الحقيقة في مناظرة أخرى: فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ(91) مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ(92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ(93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ(94) الصافات), وهنا تظهر حقيقة جلية واضحة يدل عليها العقل دلالة صريحة بقوله: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96, الصافات), أي: أتطيعون المخلوق وتذرون الخالق أتتحاكمون إلى المخلوق وتتركون حكم الخالق أتعملون من أجل المخلوق وتستنكفون عن العمل للخالق أتعظمون المخلوق على الخالق فأين أنتم من الحقائق التالية:

1- العقل يستنكر أن يكون ما يصنعه ويعمله الإنسان له إدراك.

2- العقل يستنكر أن يتحكم المصنوع بالصانع.

3- العقل قد استقر فيه أن الإنسان مخلوق وما يصدر عنه مخلوق.

4- أن ما يصدر عن الإنسان يتصف بعدم الحياة وأنه جماد وأنه أدنى مراتب الموجودات.

فدين الله تعالى ( الإسلام) قائم على الأحكام والأوامر الربانية لتدبير وتصريف شؤون الحياة البشرية ليس للمخلوق من ذلك شيء مهما كان قال تعالى:يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ (آل عمران:154), والكفار قديما قرروا قاعدة عقلية صحيحة صريحة اقرها سبحانه وتعالى: وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ (المؤمنون:34), فخضوع البشر للبشر خسران مبين وانحطاط عظيم لأنهم متماثلون في البشرية والمدارك ولا ميزة لإنسان على إنسان إلا بما شرعه سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات:13), فكيف إذا كان البشر خاضعون للجمادات فإن هذا هو الخسران الذي ما بعده خسران وتنازل عن البشرية والسقوط في هاوية الجنون, وعلى هذا فلا يوجد إلا خالق أو مخلوق ولا خالق إلا الله سبحانه وتعالى وهذا دل عليه الدليل العقلي الذي نبه عليه سبحانه وتعالى بقوله: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (الأنبياء:22), فإذا وجد الشرك وجد معه الفساد وهذا معلوم بالاضطرار, فإذا تقرر هذا فكل ما في الوجود سوى الله تعالى فهو مخلوق وينقسم إلى قسمين:

الأول: مخلوق غير منظور بوسائل الإدراك البصرية وهم الملائكة والجن وهذا لا يعلم وجوده إلا عن طريق السمع المترتب على أصل الإيمان مع أن هذا الأمر (العلم بوجود الجن والملائكة) علم اضطراري علمه أبو البشرية لأبنائه بالتوارث صدقه الوحي الإلهي من خلال بعث الرسل على مر الأزمنة.

الثاني: مخلوق منظور وهم أربعة أقسام لا خامس لها: الإنسان والحيوان والنبات والجماد فكل ما في الكون من مخلوقات منظورة لا بد اضطرارا عقليا أن تكون أحد هذه الأربعة فما يراه الإنسان لا بد أن يكون: إنسانا أو حيوانا أو نباتا أو جمادا، فأعلاها الإنسان ثم الحيوان ثم النبات وأدناها الجماد, والتكليف متعلق بالإنسان من ربه فعلاقة الإنسان بربه علاقة عابد بمعبود وعلاقة مخلوق بخالق فيجب أن يكون الإنسان متعلق بربه لا يلفته عنه شيء وهذه هي العبودية.

إن الواقع الكفري مرتبط ارتباطا إقتضائيا- بمعنى من لوازمه التي لا تنفك عنه – بالأوثان فأينما وجد الكفر وجدت الوثنية وهذا يعلم من خلال أول شرك حصل في البشر في قوم نوح عليه السلام بعبادتهم للأصنام- ومن التلبيس على الأمة أنهم رسخوا فيها أن عبادة المشركين للأصنام إنما هي بالسجود لها أو بالصلاة المعروفة علما بأن العرب الذين جاءهم الرسول عليه السلام وكانت آلهتهم من الأصنام تملأ أرجاء الكعبة لا يتقربون لها بالسجود أو الصلاةلأنهم كانوا يأنفون من السجود ولم ينقل عن أحد من علماء الأمة أن عبادة الأصنام عند العرب المشركين بالسجود أو الصلاة - وكما بين إبراهيم عليه السلام هذه الحقيقة بقوله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (إبراهيم:35)، وقال مخاطبا قومه: إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(العنكبوت:17),وبين سبحانه وتعالى أن الإسلام يقوم على اجتناب الأوثان بقوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (الحج:30), وبين عليه السلام أن كثير من أمته سيعود إلى عبادة الأوثان بقوله:وإنّما أخاف على أمتي الأئمة المضلين،وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبيٌّ، وأنا خاتم النَّبيِّين لا نبيَّ بعدي، ولا تزال طائفةٌ من أمتي على الحقِّ" قال ابن عيسى: "ظاهرين" ثم اتفقا "لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر اللّه تعالى"..أخرجه الحاكم في المستدرك وقال على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وأخرجه الإمام أحمد وأبو داود), فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين بوحي مبين أن الأمة مع أنها تنتسب إليه وأن كتاب الله تعالى بين يديها إلا أنه سيصيبها ما أصاب الأمم قبلها وأنها ليست أمة معصومة وستنتشر فيها عبادة الأوثان وستجعل الجمادات آمرة وحاكمة ومطاعة ومعظمة ويعمل من أجلها وسيفوض إليها تصريف وتدبير شؤون البشر بكافة مجالاتها وستنزلق إلى حياة الشرك والوثنية وبذلك يعود الإسلام غريبا كما بدأ, وعليه فلا بد من بيان الحقائق التالية:

أولا: ما هي الأوثـان ؟

الجواب: الوَثْنُ والوَاثِنُ المقيم الراكد الثابت الدائم ... قال ابن الأَثير الفرق بين الوَثَنِ والصَّنَم أَن الوَثَنَ كل ما له جُثَّةٌ معمولة من جواهر الأَرض أَو من الخشب والحجارة كصورة الآدمي تُعمَلُ وتُنْصَبُ فتُعْبَدُ والصَّنَمُ الصورة بلا جُثَّةٍ ومنهم من لم يفرق بينهما وأَطلقهما على المعنيين قال وقد يطلق الوَثَنُ على غير الصورة والجمع أَوْثانٌ .. أَصل الأَوْثانِ عند العرب كل تِمْثالٍ من خشب أَو حجارة أَو ذهب أَو فضة أَو نحاس أَو نحوها وكانت العرب تنصبها وتعبدها وكانت النصارى نصبت الصَّليب وهو كالتِّمْثال تُعَظِّمُه وتعبده ... وقال عَدِيُّ بن حاتم قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي عُنُقِي صَليب من ذهب فقال لي أَلْقِ هذا الوَثَنَ عنك أَراد به الصليب والله أَعلم أ.هـ لسان العرب 13/442.

لقد ثبت بما لا يدع مجالا لعاقل أنها كل جماد مصور ( صنم) أو غير مصور ينسب له الأمر والحكم والتدبير في حياة الإنسان كما بين إبراهيم عليه السلام أنها لا تنطق ولا تأكل ولا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر ولا تتحرك وبينها سبحانه بقوله:أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ (الأعراف:195), فإذا اتصف أي شيء بهذه الصفات فهو وثن مهما كان اسمه وواضعه.

ثانيـا: كيف نعرف الواقع الوثني والأوثـان المعبودة؟

الجواب: يجب علينا أن ننظر في هذا الواقع لنعلم من الذي يرد إليه الأمر والحكم والتحاكم والتشريع ومن هو الذي يعمل من أجله ومن هو الذي ينصر ويطاع ومن هو المتبوع فإن كان فيه صفات الجماد فهو الوثن المعبود من دون الله تعالى مهما تغير شكله أو تغير اسمه لأن حقيقته ثابتة لا تتغير وعندها لا ينظر إلى كون أمره أو حكمه أو شرعه مخالف أو موافق للشرع لأن القول بهذا إقرار بالأوثان فما دامت أوثان فالعقل يقول أنا لا تنطق حتى تأمر فتطاع وأنها لا تنصر نفسها حتى تنصر غيرها وأنها لا تعقل فكيف يصدر عنها حكم وهي لا تتحرك فكيف تنفع أو تضر وبما أنها لا تسمع ولا تبصر فطاعتها لا تنفع ومعصيتها لا تضر في الواقع.

ثالثـا: ما هي الأوثـان في عصرنا؟

الجواب: إنها التي يسمونها- وما هي إلا أسماء كما قال تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (النجم:23) – الدستور والقانون أو النظام أو المادة، سواء كانت وطنية أو إقليمية أو دولية فهم ينسبون لها:الحكم والأمر والتشريع وهي التي يرد إليها تصريف علاقة البشر بالله تعالى وبالبشر وبالحيوان وبالنبات وبالجماد ومنها أخذت باقي الأوثان شرعيتها,فأين قول الله تعالى أو قول رسوله عليه السلام بأن هناك قانون ودستور من صنع الإنسان له طاعة وحكم وإتباع ونصرة وأنه يدبر حياة البشر: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (النمل:64), فهم يقولون: أمر القانون وحكم القانون ونص القانون وسمح القانون ومنع القانون بموجب القانون بقوة القانون وهذا القانون متفرع عن الوثن الأكبر الدستور، فهم يثبتون قولا وعلما وحكمة وإرادة وقوة لهذا القانون، فنقول لهم:

هل القانون والدستور هو الله سبحانه أو من عنده ؟ سيجيبون بالنفي.

هل القانون والدستور خالق أم مخلوق؟ قطعا إنه مخلوق لأن الخالق هو الله وحده.

هل هو مخلوق غير منظور من الملائكة أو الجن؟ الجواب لا شك بالنفي.

هل هو مخلوق منظور من الحيوان أو النبات أو الجماد؟ الجواب قطعا بالنفي.

هل القانون هو الإنسان؟ فمن أبواه ؟ وما دينه ؟ هل هو كبير أم صغير ؟ هل هو عالم أم جاهل؟ فالجواب النفي, لأنه من صنع البشر ونحتهم والبشر لا يصنع إلا جماد فهم وضعوها ونقول لهم إنكم على ملة تناقض ملة إبراهيم عليه السلام لقوله: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ(95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96,الصافات) وقال تعالى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (المائدة:76) فمتى كانت صنعة الإنسان تتكلم ولها إرادة وحياة وحكمة وعلم بحيث تكون أعلى من الإنسان وتحكم على فعله , فكيف يجعل من يعقل مرتبته دون الجماد وأنه مسخر لها؟.

فالنتيجة إما أن يكون القانون والدستور جمادا أو لا شيء وأيا كان منهما فلا يوجد عاقل يقبل أن يكون المتصرف فيه ومدبر أموره وشؤون حياته جمادا مهما كان أو أن يكون لا شيء إضافة إلى أمر عظيم وهو أ الله تعالى أمر بقطع يد السارق وجلد الزاني ورجم الزاني المحصن ونهى عن الربا وعن الخمر والفواحش وأمر بجهاد اليهود والنصارى وعدم موالاتهم وغير ذلك والقانون أمر بسجن السارق والزاني ورخص الربا والفواحش وأمر بعدم جهاد اليهود والنصارى وموالاتهم ومضادة الله تعالى في كل أمر فكيف يطاع مثل ذلك ويعظم ويحترم ويكون آمرا ناهيا لخلق الله تعالى ويكون له قدر وشأن؟!.فمن هو هذا الذي يعارض الله تعالى في كل أمر وحكم؟.

ويقولون بعد ذلك: القانون فوق الجميع ( فوقية معنوية ولو كان المقصود من ذلك الفوقية المكانية لتناقضوا مع أنفسهم فاين يكون ؟ هل فوق السماء أم بين السماء والأرض إذ لا يوجد أحد فوق الجميع بائن عن خلقه إلا الله تعالى ) وهذا تأليه للقانون والدستور سواء صرحوا بهذا أم لم يصرحوا به لأن الألوهية كما قررها سبحانه وتعالى بقوله: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (الزخرف:84) وألوهية الله سبحانه في السماء لا تختلف عن ألوهيته في الأرض فقال عن ألوهيته في السماء – وهي بحق الملائكة-: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ( 49) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(50), وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ(51,النحل), فمن كانت له الفوقية المعنوية فوق الجميع فهو الإله وهذه الفوقية تقتضي الأمر لأن الأمر لا يكون إلا لآمر والآمر لا بد أن يكون أعلى من المخلوق والذي هو أعلى من المخلوق وفوقه إنما هو الخالق وله الربوبية قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (الأعراف:54) وعليه: فالفوقية تأليه والآمر إله, فالطاعة تأليه والتحاكم تأليه والإتباع تأليه والحب تأليه والنصرة تأليه والعمل بالشرع تأليه وهذه الآية فيها دلالة عظيمة بأن الخلق مرتبط بالأمر وأن عبودية السموات والأرض بالتسخير وأنها مسخرة بأمر الله تعالى وكذلك فإن عبودية الإنسان لربه بأن يكون مسخرا بأمره وحده وهذا ما بينه تعالى بقوله:ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (فصلت:11).

والقول: فوق الجميع, طامة كبرى فمعني ذلك العموم أي: فوق الخالق والمخلوق في الواقع المعاصر صحيح فقد جعلوا الدستور والقانون هو الذي يقرر أمر الله وحكمه وشرعه فهما الأصل والفوقية لهما فهذه هي الديمقراطية دين العصر دين الوثنية فهل بعد هذا الكفر كفر ؟!!!!!.

ونخلص من ذلك أنه لا يكون المرء مسلما إلا إذا اجتنب (ترك) هذه الأوثان- الدساتير والقوانين-طاعة وحكما وتحاكما وإتباعا وعملا ومحافظة، وترك القائمين عليها لأنهم يمثلونها فإذا كان الكاهن سادن بيت الأوثان بصورته الأولى يجلس في مبنى ويمثل هذا الوثن ويتحدث بإسمه ونيابة عنه فإن هذه الأنظمة ممثلة بحكامها وملأها ومن يعمل فيها هم سدنتها كل يؤدي مهمته في خدمتها والمحافظة عليها ونصرتها وتعبيد الناس لها فكل مبنى لهذه الأنظمة هو بيت الدستور والقانون( الوثن) البيت الذي فيه يعبد أي:يعظم ويخضع له ويتبع ويطاع.

فهذا هو الإسلام الذي يُخلّص الإنسان من التبعية لغيره من المخلوقات التي لا تعقل ويجعل تبعيته لمن خلق العقل ليتساوى مع غيره في الخضوع لجهة واحدة ومصدر واحد فيحقق التوحيد الذي هو دين الله تعالى توحيد لمصدر التلقي الذي هو نفسه مصدر التوجه والذي به النجاة من الخلود في الجحيم والفوز بجنات النعيم.

الركن الثاني: ويتجلى من خلال مظهرين:

1- بعد بيان حقيقة المعبود بحق وهو الخالق سبحانه وتعالى وحقيقة المعبودات من دونه عز وجل وأنها مخلوقات قاصرة من خلال الحجج العقلية يتبع ذلك بيان ما يتوجب فعله تجاه هذه المعبودات وهو البراءة منها كما نص تعالى بقوله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ (الزخرف:26),نعم إنه البراءة التي هي الاجتناب والترك لأن الأوثان- ومنها القانون والدستور- معبودات من دون الله تعالى ووصفها الشرعي أنها طاغوت والإسلام هو كما قرره تعالى بقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (النحل:36) , ومن دعا إلى طاعتها والتحاكم إليها والمحافظة عليها والعمل بشرائعها فهو طاغوت أيضا حكمه حكمها وينطبق عليه ما ينطبق عليها.

2- الدعوة إلى اجتنابها ( تركها والبراءة منها واعتزالها) ومن رفض الانصياع إلى نداء العقل فيجب اتخاذ موقف حازم تجاهه كما بين تعالى بقوله: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(الممتحنة:4) وعلى هذا نفهم قوله تعالى: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(الكافرون:2).

3- الصبر على الدعوة وعلى التوحيد حتى يحكم الله تعالى بين عباده وبين أعدائه قال تعالى: وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (الأعراف:87), وقال تعالى: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ(يونس:109).

وقد بين سبحانه وتعالى حقيقة من لم يتبع هذه الملة المباركة بقوله تعالى: وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (البقرة:130), وتسفيه النفس إنما يكون بسلب صفة العقلانية منها والتخلي عن صفة التكريم والانحدار بالبشرية إلى مستوى الأنعام كما قال تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (الفرقان :44), لأن الإنسان عندما لا يستخدم عقله في الوصول إلى أعظم حقيقة في الوجود ألا وهي المعبود بحق وما يجب له واختيار المنهج الرباني وشريعة الرحمن لتقوم حياة الإنسان عليها ومن خلالها يكون قد استنكف عن المهمة التي خلقه الله تعالى من أجلها وعطل الغاية من وجوده وكفر بربه.

فالنطق بالشهادتين هو إعلان قبول الإسلام والدخول فيه والانخلاع والتبرؤ من كل منهج ونظام سواه كائنا ما كان, فعن معاوية بن حيدة رضي الله عنهقال: قلت يا رسول الله وما آية الإسلام قال أن تقول أسلمت وجهي لله وتخليت وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وكل مسلم على مسلم محرم إخوان نصيران لا يقبل الله عز وجل من مشرك يشرك بعد ما أسلم عملا أو يفارق المشركين إلى المسلمين أ.هـ أخرجه الإمام أحمد والنسائي بسند حسن.

فـ لا إله إلا الله تعني: أنه لا مطاع ولا حكم ولا متبع شرعه ولا يعمل له ولا محبوب ولا منصور إلا الله فلا أطيع إلا الله ولا أحكم إلا بحكم الله ولا أتحاكم إلا إلى حكم الله ولا أحب إلا الله ولا أنصر إلا الله ولا أتبع إلا شرع الله أي: أن نظام حياتي وعلاقتي بالخالق والمخلوق إنما هو قائم على أوامر الله تعالى وأحكامه وشرعه وحده لا شريك لغيره في شيء من ذلك.

وأما شهادة أن محمدا رسول الله فتعني: أن هذه الطاعة والحكم والمحبة والنصرة والإتباع إنما هي كما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وعملا وبذلك نحقق قوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (الأحزاب:21).

فالديمقراطية التي أشربها الناس اليوم إلا من رحم الله تعالى وينادى بها ليلا ونهارا هي أن يخضع كل أمر وحكم وشأن في الحياة سواء كان لله تعالى أو لمن دونه للشورى والنقاش والاختيار بينما الإسلام إنما يكون التسليم- والإسلام إنما هو من الاستسلام- لأمر الله تعالى وحكمه غير خاضع للشورى والنقاش والتخيير لقوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً (الأحزاب:36), وما الشورى إلا فيما لا نص فيه من الله تعالى ومن رسوله عليه السلام ومن جعل شرع الله تعالى وأمره وحكمه خاضع للنقاش والاختيار فقد خرج من دائرة الإيمان والإسلام إن كان قد دخل فيه وأصبح في دين الديمقراطية الوثنية.

فكيف يجتمع عابد الرحمن وعابد الأوثان؟!

وكيف يجتمع من ارتقى بنفسه وكرمها مع الملأ الأعلى مع من سفه نفسه وتهاوى بها في الدركات؟!

كيف تجتمع ملة التوحيد الحنيفية الربانية مع الديمقراطية الوثنية الشركية؟!

وكيف تجتمع شريعة الرحمن ومنهجه مع شريعة الشيطان ومنهج أعداء الرحمن من يهود وعبدة صلبان؟!

وكيف يجتمع الاستخلاف والتمكين مع المحق والهلاك؟!

الإسلام إعلان ظاهر يصدقه عمل ظاهر

وبناء على ما سبق فإن الإسلام القائم على اليقين والصبر والاطمئنان إلى وحي الله وشرعه يتضمن أمرين، إعلان وترجمة عملية لهذا الإعلان:

- فالإعلان الذي هو الإقرار وهو قول لا إله إلا الله, قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (الأنبياء:25),فعندما يقولها الإنسان يجب أن يعني بقوله هذا: أنه منذ هذه اللحظة- لحظة الإعلان- أن منهجه في الحياة قائم على تأليه الله وحده أي: أيها الناس أنا لا أؤله إلا الله فلا تأليه عندي لغيره.

- والترجمة العملية هي أن تكون أقواله وأعماله تحقق وتقول لا إله إلا الله تعالى والتي جاء النص القرآني المحكم موضحا للمعنى العملي لها بقوله تعالى:وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(النحل:36) ,إذن فكل عمل وقول يجب أن يحقق فيه الإنسان عبادة الله واجتناب الطاغوت لان هذا الأمر هو أول ما يسأل عنه البشر جميعا رسلا ومرسل إليهم قال تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (الأعراف:6).

أما سؤاله للمرسلين فقد بينه بقوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ(المائدة:109), فيا أيها الرسل ماذا أجابتكم أقوامكم قولا وعملا عندما دعوتموهم إلى عبادة الله واجتناب الطاغوت؟.

وأما سؤاله للمرسل إليهم فقد بينه تعالى بقوله: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ( القصص :65), أي: وأنتم أيها الناس ماذا عملتم بدعوة الرسل هل عبدتموني واجتنبتم الطاغوت أي: هل أطعتموني وحدي وحكمتم بأحكامي وحدي واتبعتم شرعي وحدي ونصرتموني وحدي.

فهذا الأمر هو الأمنية التي يتمنى الكفار من أجلها العودة إلى الدنيا لتحقيقها قال تعالى:وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ (إبراهيم:44) انه إجابة دعوة الله بعبادته واجتناب الطاغوت فلا نجاة من الخلود في جهنم إلا بذلك.

فالله تعالى خلق الخلق جميعا فكلهم خلقه ولا خالق سواه فيجب أن تكون علاقة الخلق علاقة مخلوق بخالق أي:الخالق معبود والخلق عابد فالخالق آمر والمخلوق مأمور قال تعالى: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (الأعراف:54) , فلا يكون آمرا إلا من كان خالقا ولا خالق إلا الله تعالى فعلى الخلق أن يكونوا مأمورين بأمره وحده فهم متساوون في هذا فلا يحق أن يكون البعض آمرا على بعض إلا بأمر الله تعالى فحينها يكونون جميعا مأمورين أن يأمروا بأمر الله قال عليه السلام: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته()رواه الشيخان والإمام أحمد وغيرهم , فيجب عليكم أن تكونوا آمرين بأمر الله تعالى مأمورين بأمره، فمن أمر بغير أمر الله تعالى فقد تجاوز حده وطغى ومن ائتمر بغير أمر الله تعالى فقد تجاوز حده وطغى وهذا هو معنى قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (الزخرف :84), وألوهيته في السماء أي: ألوهيته وربوبيته للملائكة كما قال تعالى:يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(النحل:50), وبين أيضا ألوهيته لهم بقوله: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (الأنبياء:27),فتأليه الله تعالى يكون بفعل ما أمر والانتهاء عما نهى عنه وزجر والمرء يؤله من يأتمر بأمره (يطيعه), لأن العبادة هي الطاعة.

كذلك فالخالق حكم ومتحاكم إليه والمخلوق محكوم ومتحاكم إلى حكم الله تعالى فمن حكم بغير حكم الله تعالى فقد طغى وتجاوز حده ومن تحاكم إلى غير حكم الله تعالى فقد طغى وتجاوز حده قال تعالى : إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (يوسف:40).

وأيضا فالخالق مشرع وشرعه متبوع والمخلوق متبع قال تعالى: اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (الأعراف:3),فمن شرع غير شرع الله تعالى أو رد شرعه إلى غير الله تعالى فقد طغى وتجاوز حده ومن اتبع غير شرع الله تعالى فقد تجاوز حده وطغى.

كذلك فإن الخالق محبوب والمخلوق محب ولا يحب إلا ما أحبه الله تعالى قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَاب (البقرة : 165), وقال تعالى: لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (المجادلة:22),وقال تعالى: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (التوبة:24).
وكذلك فالخالق منصور والمخلوق ناصر لخالقه ومن أمر بنصرته قال تعالى:وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ (يس:74),وقال تعالى:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (محمد:7 ).
وخلاصة ذلك كله هو أن يكون الله تعالى ورسوله المطاعان وأن يرد الأمر إلى الله ورسوله في الأمور كلها صغيرها وكبيرها قال تعالى:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا (النساء:59), فالرد إلى الله والرسول هو الإيمان بالله واليوم الآخر والرد إلى غير الله والرسول كفر بالله واليوم الآخر,وعليه فإن الله تعالى يبعث الرسل حين ينتشر سلطان الطواغيت وتصبح حياة أكثر الناس من خلال أوامرهم وأحكامهم وتشريعاتهم فهم غارقون في عبادة غير الله تعالى (الطاغوت)ليذكروا الناس بالميثاق الذي أخذ عليهم ويدعونهم إلى طاعة الله وحده والحكم بحكم الله وحده والتحاكم إلى حكم الله وحده واتباع شرع الله وحده والعمل من أجل الله وحده ومحبة الله وحده، وهذا يعني قطع الحياة من خلال الطاغوت واستئنافها من جديد من خلال قول الله تعالى وقول رسوله لأنه : مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ( النساء:80), وأما طاعة غير الرسول المجردة فهي طاعة للطاغوت وخروج من دين الرحمن .

فهذا أول أمر يُسأل عنه الناس يوم الحشر يوم الموقف العظيم يوم الحسرة والندامة يوم لا ينفع مال ولا بنون يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه، وهذا أيضا أول ما يسأل عنه العبد في أول منازل الآخرة في قبره كما ورد عن البراء أن رسول الله ذكر قبض روح المؤمن ثم عودة روحه إلى جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه في قبره فيقولان من ربك () إنه السؤال الرهيب الذي يتوقف عليه السعادة الأبدية أو الشقاء الأبدي: من ربك ؟ أي: بأمر من كنت تأتمر ومن كنت تطيع؟ وبأحكام من كنت تحكم وإلى من كنت تتحاكم ؟, وبأي شرع وقول كنت تعمل وتتبع ؟ فالجواب: إما الله وحده وتحصل النجاة وأما إن كانت حياته قائمة على غير شرع الله أو شرع الله وغير شرع الله فلن يستطيع الإجابة كما ورد في الحديث: فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان من ربك فيقول ربي الله فيقولان ما دينك فيقول ديني الإسلام فيقولان له ما هذا الرجل الذي فيقول رسول الله فيقولان له ما عملك فيقول قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقته فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فافرشوا له من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة... وأن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل ملائكة سود الوجوه... ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء أن كذب فافرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه أ.هـ حديث صحيح رواه الإمام أحمد والحاكم في المستدرك والطبراني في المعجم الأوسط وعبد الرزاق في مصنفه.

فخلاصة القول أن لا إله إلا الله يجب أن يعلم قائلها ويعني بقوله وعمله أنه:

- لا طاعة لكل آمر إلا الله تعالى وحده ولا سمع إلا لقول الله تعالى وحده.

- لا حكم إلا لله وحده ولا تحاكم إلا لأحكامه وحده.

- لا إتباع إلا لشرع الله تعالى وحده.

وهذا هو معنى قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران:64), فالشرك واتخاذ البعض أربابا يكون باتخاذ مطاعين لا تستند أوامرهم إلى شرع الله واتخاذ حكام يحكمون بغير ما أنزل الله ( أحكام لا تستند إلى شرع الله) والعمل بموجب أقوال وشرع لا تستمد ولا تستند إلى شرع الله تعالى.

وجـوه بيـان التوحيـد في القـرآن

لقد أرسل الله تعالى رسله وأنزل كتبه من أجل بيان التوحيد الذي هو عبادته وحده وهو الأمر الذي من أجله خلق الخلق لقوله تعالى : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات:56), وجعل أعظم كتاب أنزله فأحكمه وفصله على أعظم رسول من أجل هذه الحقيقة بدليل قوله تعالى: الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(هود:1), فهنا يبين سبحنه وتعالى أن هذا الكتاب منزل من عند الله تعالى محكم غير متشابه يدل دلالة واضحة صريحة على حقيقة التوحيد لا يحتاج إلى غيره,لأن هذا الإحكام والفصل قد جاء من عند الحكيم الخبير الذي وضع كل شيء في محله خبير بحقيقة النفوس وملكاتها فمعنى ذلك أن هذا الكتاب يبين التوحيد لكل البشر المكلفين شرعا على اختلاف مستوياتهم الإدراكية بدليل قوله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (ص:29),وهذا خطاب لكل البشر على عمومهم وتدبر كتاب الله تعالى فرض عين على كل مكلف وبوجود القرآن تمت حجة الله على خلقه بدليل قوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (الأنعام:19), ثم بين تعالى أن إنزال هذا الكتاب وإحكامه وجعله مفصلا إنما هو للغاية التي خلق الخلق من أجلها بعد ذلك مباشرة بقوله تعالى: أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (هود :2), فثبت أن عبادة الله وحده وهي المعنى العملي لـ لا إله إلا الله بأن يكون الدعاء والحكم والولاء بجميع معانيها لله وحده ليس منها للمخلوق شيء بالوجوه التالية.

أولا: بيـان التوحيـد من خلال مصطلح لا إله إلا الله

فالغاية من إرسال الرسل قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (الأنبياء:25) وفي هذه الآية بين سبحانه وتعالى أن التوحيد (عبادته وحده) هو لا إله إلا الله,وأن معناها:

1- الدعـاء:بدليل قوله تعالى: هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (غافر:65).

2- الحـكم : بدليل قوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (القصص:70), وقوله تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (التوبة:31).

3- الـولاء: بدليل قوله تعالى: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (الأنعام:106).

ثانيـا: بيـان التوحيـد من خلال قاعـدة النفي والإثبات

فالتوحيد الذي يقوم على لا إله إلا الله يتضمن ركني النفي والإثبات, فالنفي هو : لا إله , والإثبات هو: إلا الله. وعلى هذا فكل أمر تحقق فيه النفي والإثبات فهو التوحيد أي العبادة التي لا يجوز مقارفتها وإيجادها وصرفها لغير الله تعالى .

- النفي والإثبات في مصطلح العبادة : لقد جاء النفي والإثبات في آيات كثيرة وأساليب متعددة كقوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (الأعراف:59), وهي دعوة كل نبي إلى قومه والتي تضمنت أن العبادة هي التأليه فأثبتها الله تعالى لنفسه ونفاها عن غيره , وقال تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (الرعد:36),وقوله تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ (الزمر:11 ).

- وأما النفي والإثبات في معاني العبادة فهو:

1- الدعـاء: فالإثبات دليله قوله تعالى: هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (غافر:65),والنفي دليله قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (الجن:18)، والنفي والإثبات معا دليله قوله: قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (الجن:20).

2- الحـكم: ولأهمية هذا الأمر جاءت الآيات متضمنة النفي والإثبات بأسلوب الحصر والقصر بقوله تعالى :ُ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (الأنعام:57), وقوله تعالى: مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (يوسف:40),وقوله تعالى: وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (يوسف:67).ومن أجمع الآيات قوله تعالى: ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (غافر:12), والتي جمعت الدعاء والشرك والكفر والإيمان.

3- الـولاء فالإثبات دليله قوله تعالى: إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (الجاثية:19) وقوله تعالى: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ(الأنعام:106).

والنفي دليله قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء... الآية (الممتحنة:1), وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً (النساء:144).

وأما النفي والإثبات معا فدليله قوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الشورى:9) وقوله تعالى:أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (البقرة:107), وقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (التوبة:116), وقوله تعالى: وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (الأنعام:153), وقوله تعالى: اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (الأعراف:3),وقوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (الجاثية:18), وقوله تعالى: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(الشورى:15), وبهذا يثبت أن التوحيد هو نفي العبادة-الدعاء والحكم والولاء-بمظاهرها عن غير الله تعالى وإثباتها لله وحده.

ثالثـا: بيان التوحيد من خلال مصطلح الاتخاذ وأن معاني العبادة تأليه قال تعالى: وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ(النحل:51)

1-الدعـاء دليله قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (الأنعام:40).

2-الحـكم دليله قوله تعالى: أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (الأنعام:114).

3- الـولاء دليله قوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ (الأنعام:14).

معـنى الألـوهية والربوبيـة لهذه الأمـور

أما الربوبية فقوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (الأنعام:164).

وأما الألوهية فقوله تعالى: قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (الأعراف:140). وقوله تعالى: أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ (يس:23), وعليه فإن الدعاء والحكم والولاء بمعانيها تأليه وأنها لله وحده ليس للمخلوق منها شيء.

رابعـا: بيـان التوحيـد من خلال مصطلح الإحسـان

إن أحسن العمل هو العبادة وهو الغاية التي خلق الله تعالى من أجلها الخلق بدليل قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (هود:7), وقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (الملك:2), وقوله تعالى: إِنَّا جعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً(الكهف:7):

1- بيان أن ملة إبراهيم عليه السلام أحسن الدين وما سواه أسوأ الأديان بدليل قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ( النساء:125).

2- بيان أن دعـاء الله تعالى والدعوة إليه والانتساب إلى الإسلام هو أحسن العمل وما سواه فهو أسوأ العمل أي : دعاء غير الله تعالى والدعوة إلى غير الله تعالى والانتساب إلى غير الإسلام دليله قوله تعالى:وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (فصلت:33).

3-بيان أن حـكم الله تعالى ( تشريعا وحكما وتحاكما) هو أحسن الحكم وأن من عمل به فهو من أهل اليقين وما سواه أسوأ الحكم ومن عمل به فهو من الجاهلين دليله قوله تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (المائدة :50).

4- بيان أن الـولاء هو أحسن العمل:

أ‌- الإتباع لشرع الله تعالى هو أحسن العمل واتباع غيره أسوأ العمل دليله قوله تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (الزمر:55),ودليل أن أحسن الشرائع هو كلام الله تعالى قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(الزمر:23).

ب‌-طاعة الله تعالى وطاعة رسوله هو أحسن العمل حالا ومآلا وطاعة غير الله تعالى وغير رسوله عليه الصلاة والسلام هو أسوأ العمل حالا ومآلا دليله قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (النساء:59).

بيان أن الله تعالى جعل الأمور السابقة إن كانت لله تعالى فهي أحسن العمل وأهلها هم المحسنون وإن كانت لغيره فهي أسوا العمل وأن أهلها هم المسيئون وأن الحساب والجزاء متعلق بها ودليل ذلك قوله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (النجم:31).

- المحسنون هم المسلمون المؤمنون أهل الجنة دليله قوله تعالى: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (يونس:26), وقوله تعالى: هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (الرحمن:60).

- المسيئون هم الكافرون الظالمون الفاسقون أهل الجحيم والنيران دليله قوله تعالى: فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ(فصلت:27).

وهكذا تتفق كل الوجوه التي تبين التوحيد على أن العبادة هي: الدعاء والحكم والولاء, ليتضح لكل عقل سوي أن هذا القرآن من عند الحكيم الخبير ومبينا وجه إعجازه مصداقا لقوله تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً (النساء:82).

الكفر والشرك حقيقتهما والعلاقة بينهما

مما أحدث في هذا الزمان من التحريف لدين الله تعالى التفريق بين الكفر والشرك بلا دليل شرعي محكم مما ترتب عليه نتائج خطيرة وتأصيل هو هدم للدين (وتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) منها:
- كل شرك كفر وليس كل كفر شرك.
- إن المشرك غير معذور والكافر معذور.
- إن الشرك والكفر حكم الدنيا ولا يلزم منه أن يكون مشركا أو كافرا في الآخرة.
وهذا القول( التفريق بين الكفر والشرك) مبني على ثلاث مقدمات عند القائلين به:
الأولى: القاعدة التي تقول ليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه.
الثانية: إن هذين اللفظين بينهما عموم وخصوص كلفظ الإسلام والإيمان.
الثالثة: إن الكفر معناه اللغوي الستر- ولم يبينوا المعنى الشرعي وعلاقتة بالمعنى الشرعي وبقى الأمر مبهما-.
أقول وبالله التوفيق:إن الحديث في دين الله تعالى لا بد أن يكون مستندا إلى النصوص الشرعية من قول الله تعالى وقول رسوله عليه السلام,فقد قرر الشرع الحكيم أن الكفر هو الشرك والعكس صحيح بآيات محكمات تواطأ القرآن كله على ذلك وعجبا لمن يدّعي التوحيد ويحسب نفسه من الدعاة المشار إليهم بالبنان كيف يجهل هذا ؟!!!فأي علم يعلمه ولا يعلم ما تواطأ عليه القرآن وصدق عليه قوله عليه الصلاة والسلام: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا (أخرجه الشيخان وغيرهم) فلفظ الكفر بتصريفاته ورد في أكثر من 420 آية وأمر بهذه الصورة كيف يكون خافيا ؟!!!!!.

من الأدلة على أن الكفر هو الشرك والعكس صحيح:
1- في سورة البقرة حيث قسمت الناس في أولها إلى ثلاثة أقسام:مؤمنون وكافرون ومنافقون,والذي يعنينا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ(6:البقرة), فأين المشركون ؟ الجواب: أنهم هم الكافرون, فالأيمان يقابله الشرك لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (التغابن:2), والكافر هو المشرك, وقوله تعالى: رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ (الحجر 2), وهؤلاء هم المشركون.إذ أنه ليس ثمة إلا مسلم - سواء كان فاسقا أو غير فاسق- وكافر سواء كان مشركا أو منافقا فكل كافر مشرك.
2- قوله تعالى:فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (البقرة:24), أين المشركون ؟ إنهم الكافرون وهل أعد الله النار للكافرين دون المشركين؟!!
3- قوله تعالى: وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ (البقرة :89), وهؤلاء الذين كفروا هم المشركون من العرب (الأوس والخزرج).

4- قوله تعالى: قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (آل عمران:12), وهؤلاء هم مشركوا العرب.

الآيات التي تنص صراحة على أن الكافر مشرك:
1-   قوله تعالى: اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة :257), وهؤلاء هم عبدة الطاغوت وعابد الطاغوت مشرك بالله تعالى.
2- قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ (الأنعام:1) , فالكافرون عامة هم من يعدلون بربهم والذي يعدل بالله سبحانه هو المشرك.

3- قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ (الحشر:2) وأهل الكتاب مشركون والله تعالى حكم عليهم بالكفر وهذا هو الأصل والآيات كثيرة على هذا.

الآيات التي تدل على أن الكفر هو الشرك بدلالة المطابقة:
1- قال تعالى:إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً (النساء:116), فالله تعالى يقرر أن الشيء الذي لا يغفره هو الشرك، وقال تعالى:إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (آل عمران:91), وهذا دليل على أن الكفر لا يغفر فالشرك والكفر سواء,وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً ( 169,النساء).

  1. قال تعالى: وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً (النساء:116), فالضلال البعيد هو الشرك، وقال تعالى: مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ (إبراهيم:18), فالكفر هو الضلال البعيد والشرك هو الضلال البعيد فهما سواء.

وقد بين الله تعالى بيانا فاصلا لمن شرح الله صدره للإسلام هذا الأمر بقوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً (النساء:136), فالضلال البعيد هو الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وهذا الكفر هو الشرك أما إذا كان من يتكلم بالتوحيد لا يدري كيف يكون الشرك فهذه من معجزاته عليه السلام حيث أخبر أن هناك دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها وبين أنهم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا بقوله: عن حذيفة قال قلت : يا رسول الله هل بعد هذا الخير شر كما كان قبله شر قال يا حذيفة أقرأ كتاب الله واعمل بما فيه فأعرض عنى فأعدت عليه ثلاث مرات وعلمت إنه إن كان خيرا أتبعته وإن كان شرا اجتنبته فقلت هل بعد هذا الخير من شر قال نعم فتنة عمياء عماء صماء ودعاة ضلالة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها وهذه رواية الإمام أحمد وأما رواية الشيخين فهي: قلت ( حذيفة بن اليمان رضي الله عنه) فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت يا رسول الله صفهم لنا قال ( هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ) أ.هـ. وماذا يقولون في سورة الكافرون:قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(2), ومعلوم أن من عبد غير الله تعالى فهو مشرك والله تعالى جعل حكمه الحقيقي والأصلي الكفر.
الاستدلال بقاعدة ليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه

لقد جعل الكثيرون من هذه القاعدة الشماعة التي يعلقون عليها جهلهم ليحرفوا الدين ويقولوا على الله ما لا يعلمون على اعتبار أنها تقتضي التغاير بين الشرك والكفر وفهموا منها أن من وقع في الكفر لا يقتضي الحكم بكفره بينما من وقع في الشرك فهو مشرك وهذا كله تخرص وقول بلا برهان فهذا ليس دليل في محل النـزاع مقابل الأدلة من قول الله تعالى ,كما أن قاعدة : من لم يكفر الكافر فهو كافر (), عامة بحق كل من عبد غير الله تعالى إذ أن الإسلام مبني على لا اله إلا الله لقوله تعالى:وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (النحل:43), والتي تتكون من ركنين:
الأول: النفي وهو قوله: لا إله.
الثاني: الإثبات وهو قوله: إلا الله.
وبين سبحانه وتعالى معنى ذلك بقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (النحل:36).
فركن النفي في الآية الأولى هو: لا إله وفي الآية الثانية اجتنبوا الطاغوت .

وركن الإثبات في الآية الأولى هو: إلا الله وفي الثانية اعبدوا الله، فالكفر يتعلق بشقي التوحيد :
- فبما يتعلق بشق النفي الذي هو اجتناب الطاغوت فمن لم يجتنب الطاغوت فقد وقع في عبادته وهذا هو الكفر المخرج من الملة وهو قسم واحد لا ثاني له تواطأ على ذلك القرآن والسنة واجتمعت عليه الأمة ولم ينقل عن عالم من أهل الإسلام خلاف ذلك وهذا هو مناط قاعدة من لم يكفر الكافر فهو كافر،إذ أن من لم يحكم على من عبد غير الله تعالى بالكفر فهو كافر.
- أما ما يتعلق بشق الإثبات الذي هو اعبدوا الله -تفصيلات الشريعة أي كيفية عبادة الله تعالى العملية منها وهي الأوامر والنواهي والخبرية والمتعلقة بتفصيلات الأسماء والصفات وتفصيلات الأنبياء وما يتعلق بهم وتفصيلات اليوم الآخر ومنها حياة البرزخ - فالكفر بهذه الأمور ثلاثة أقسام :
1-  كفر أصغر غير مخرج من الملة وهو:
أ- مخالفة النواهي كشرب الخمر والسرقة والزنا ونحو ذلك.
ب- مخالفة الأوامر على خلاف في الأركان الأربعة ( الصلاة والزكاة والصيام والحج) واتفاق في باقي شعب الإيمان, بشرط تحقق القبول والإذعان بالضوابط الشرعية.
2-   كفر اكبر لا يحكم على فاعله بالكفر إلا بعد إقامة الحجة وهذا ما أطلق عليه العلماء المتأخرون عن القرون الثلاث الأولى مصطلح كفر المعين وهو متعلق بالمسائل الخبرية كالأسماء والصفات وكخلق القرآن ونحو ذلك ومن قامت عليه الحجة ولم يرجع عن قوله يقام عليه حد الكفر في الدنيا أما في الآخرة فحكمه إلى الله تعالى كما صرح بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن كفر هذا ليس ككفر اليهود والنصارى.
3-  كفر اكبر مخرج من الملة ككفر إبليس عندما رد أمر الله تعالى الصريح المحكم بمجرد الرأي والهوى وهو القياس الفاسد والمعبود من دون الله في هذه الحالة هو النفس.
فهذا هو مناط قاعدة: ليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه، فمناطها مخصوص بهذا فقط.ومن ناحية أخرى فإن من وقع في الكفر أي : قال أو فعل كفرا لا يلزم من ذلك أن يبقى ويموت عليه بل غالب من آمن هم ممن وقعوا في الكفر فعلى هذا المعنى القول صحيح ولكن القوم يريدون شيئا آخر وهو أن من وقع في الكفر ومات عليه لا يلزم منه أن يكون كافرا عند الله تعالى وهذه القاصمة.

وعلى هذا التأصيل الفاسد-التفريق بين الكفر والشرك- فان قاعدة من لم يكفر الكافر فهو كافر تتحدث عن الكفر وليس عن الشرك فلا يصح الاستدلال بها عند من يفرق لأنه ليس كل كفر شرك بينما كل شرك كفر فمن ارتكب شركا فليس هناك قاعدة تقول : من لم يحكم على المشرك بالشرك فهو مشرك,وسيترتب عليه أن يصف إنسان ما شيء بأنه كفر ولا يصفه بالشرك فما كان عند البعض شركا كان عند البعض الآخر كفرا وما كان عند البعض كفرا كان عند البعض الآخر شركا فترتب على ذلك أن تفرق الناس في أصل الدين فليس هناك ضابط وميزان واضح ودقيق يوضح الأمر وهذه بدعة جديدة نتيجة التفريق بين الأمرين والله تعالى يقول : قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران:64), فهذه أمور لا يسع الخلاف فيها ولا تحتمل إلا قولا واحدا ويجب أن تكون موضع اتفاق.
أما بخصوص قياس ما يتعلق بالكفر على ما يتعلق بالإيمان فهذا من أعظم التحريف فهذا القياس مع الفارق وهو قياس فاسد غير معتبر ، فلفظ الإيمان والإسلام فيهما خصوص وعموم من حيث الافتراق والاجتماع ولذلك قال العلماء: إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا, فهل هذا ينطبق على لفظ الكفر والشرك ? كلا وألف كلا:
إن لفظ الكفر إذا اجتمع مع لفظ الشرك فهو من باب تفسير الشيء بمثله أي انه نفس المعنى أو لرفع توهم كأن يظن البعض من وصف معين أنه ليس كفر كمصطلح أهل الكتاب وكذلك فان الأدلة القرآنية نصت بشكل صريح على أن الكفر هو الأصل وأن الشرك سبب له بورود اللفظين معا في نفس السياق بلا خلاف كقوله تعالى: ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (غافر:12) , وكقوله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (آل عمران:151), وقوله تعالى: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً(37) لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً ( 38: الكهف) إلى قوله: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (الكهف:42),وقوله تعالى: تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (غافر:42), فألفاظ الشرك والكفر والظلم والفسق لا تدخل في هذه القاعدة وإنما تدخل في قاعدة: اختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات:
- فالكفر على اعتبار نقض الإيمان بالله تعالى .
- والشرك على اعتبار صرف شيء هو لله تعالى إلى غير الله تعالى أو رد الأمر إلى غير الله سبحانه وغير الرسول عليه الصلاة والسلام.
- والظلم على اعتبار وضع الأمر في غير محله.
- والفسق على اعتبار خروجه عن الحق.
وهذا القول- التفريق بين الأمرين- الكفر والشرك- ترتب عليه عدم ضبط وتحديد لأصل الدين وتأصيل باطل مردود وهو أن الكفر يغفر.
- إنّ التعامل مع لفظ الإيمان والإسلام يترتب عليه أحكام منها أن من أظهر الإسلام لا يلزم منه أن يكون مسلما أو مؤمنا على الحقيقة وكذلك من كان مسلما على الحقيقة لا يلزم منه عدم التعذيب.
وإذا اعتبرنا المعاملة بالمثل مع الكفر والشرك فمن اظهر الكفر والشرك لا يلزم منه أن يكون كافرا أو مشركا على الحقيقة فقد يكون مؤمنا ولذلك قالوا بان من كان مشركا أو كافرا في الدنيا قد يكون معذورا غير معذب في الآخرة بدليل قوله تعالى: مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (الإسراء:15) ,وهذه هي عقيدة الجهمية علما بأن هذه الآية مناطها في الدنيا وليس في الآخرة بأدلة قرآنية منها:
- قوله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (القصص:59), فالإهلاك للقرى متوقف على إرسال رسول وهذا لا يكون إلا في الدنيا فلفظ قرى لا يقال إلا في الدنيا.

وقوله تعالى: وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (الإسراء:58), صريح بلفظ العذاب والإهلاك معا وانه قبل يوم القيامة أي في الدنيا – راجع مبحث الأعذار - وعلى القول بعدم التعذيب يوم القيامة فمعنى ذلك أن من كان حكمه الكفر والشرك في الدنيا فحكمه حكم ظني وليس يقيني ومعنى ذلك أن الأحكام على غير حقيقتها في الشرع وهذا يؤدي إلى التوقف على الأقل بالحكم على فاعل الشرك والكفر أنه مشرك أو كافر إلا إذا اجتمع الكفر الظاهر مع الباطن وهذا هو مذهب غلاة الإرجاء،لأنه بناء على هذا من قال: بأن من فعل الكفر والشرك لا أحكم بكفره ولا شركه لأني قد أكون مخطئا وليس عندي علم يقيني يكون كلامه معتبرا حسب هذا القول والنتيجة إسقاط الأحكام الشرعية عموما كونها تصبح غير حقيقية وإنما حقيقتها باطنة وليست ظاهرة.
- قوله تعالى: مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(النحل:106), دليل على أنه لا عذر إلا الإكراه لمن فعل الكفر وهذا نص عام على جميع أنواع الكفر الأكبر, وعليه فلا يدخل في الآية من أشرك مكرها عند من يفرق بين الكفر والشرك,ولا يوجد نص على أن الإكراه عذر لمن ارتكب الشرك مكرها فإن قيل إن الشرك أعظم من الكفر والشرك يدخل في الآية من باب الأولى قلنا لهم: على هذا الاعتبار يسقط قولكم بالتفريق وان هناك أعذارا غير الإكراه للكفر لان النص ورد بالإكراه فقط ولكن إذا حدث الابتداع انقلبت الشريعة وهذه الآية تبين أيضا معنى الكفر وأنه قسيم الإيمان فقوله: من كفر بالله من بعد إيمانه الآية(), أي: من نقض إيمانه , فالكفر هو نقض الإيمان وبناءً على أنه الشرك فيكون الشرك سببا له أي لا يكون الكفر الأكبر إلا بالشرك الأكبر فالعلاقة بينهما علاقة سبب ومسبب.
و القول:أن المشرك معذب أما الكافر فلا يلزم منه ذلك أ.هـ تأصيل باطل وردا لقوله تعالى: وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ(غافر:6), وكذلك قوله تعالى: وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (الزمر:71) , والآيات أكثر من أن تحصر على هذا.
أما بخصوص الآيات في سورة الكهف وهي: وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً( 36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً(37), فالله تعالى حكم عليه بالكفر بناءا على شكه باليوم الآخر ثم بين تعالى أن هذا الكفر هو الشرك بقوله: لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (الكهف:38), ثم بين تعالى مؤكدا ذلك بقوله: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدا ً(42), فصاحبه قال له في البداية أكفرت ثم اخبر عن نفسه بقوله: يا ليتني لم أشرك بربي ()فالحكم الأصلي هو قوله:(أكفرت) ثم بين انه هو الشرك بقوله: يا ليتني لم أشرك بربي () فالشرك هو الكفر إذ إن العلاقة بين الشرك والكفر هي علاقة بين سبب ومسبب فالشرك سبب للكفر ولا كفر إلا بالشرك.

الأعذار حقيقتها وما يتعلق بها

لقد كثرت الشبهات بحق التوحيد في هذا الزمان والتي أصابته مقتلا في قلوب الناس ومن هذه الشبه مسألة العذر والتعذيب قبل إرسال الرسل لمن فعل كفرا مخرجا من الملة الذي هو الشرك الأكبر والذي لا يعلم كثير من الناس أنه عبادة لغير الله سبحانه وتعالى , مع أن الله تعالى تكفل بتفصيلها وبيانها في كتابه العزيز أوضح بيان فهو سبحانه بعث رسله لإخراج الناس من الكفر إلى الإيمان فمقتضى ذلك أن يأتي البيان حاسما في كل المسائل المتعلقة بهذا الأصل العظيم.

فلا بد من بحث المسألة بحثا شرعيا مبني على ثوابت وأصول شرعية بعيدا عن التقليد والعاطفة الكاذبة والانتصار لغير الحق فلا بد أولا من تحديد العذر كمفهوم واضح محدد من حيث المعنى والكيفية لأن الكيفية هي من المعنى ليكون الانطلاق بناء على قاعدة ثابتة مفهومة وواضحة.

- العـذر: هو تحري الإنسان ما يمحو به ذنوبه، هذا هو معنى العذر في اللغة فالعذر يكون لمحو ذنب، فأصل المسألة ليست إعذارهم من قبل البشر سواء كانوا علماء أو غير ذلك وإنما المسألة هي هل هم معذورون عند الله تعالى وسيقبل عذرهم؟

إن هذا الأمر لا يقبل الظن والقول فيه بغير بينة واضحة صريحة محكمة وإلا كان من القول على الله بغير علم إضلالا للعباد عن سبيل الرشاد قال تعالى:قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (النمل:64). وتحري الإنسان ما يمحو به ذنبه له ثلاث صور:

الأولى: أن يكون الفعل لديه ليس كفرا ( نفي الذنب).

الثانية: أن يقر بالفعل وأنه شرك ولكن فعلته لقصد صحيح( وهو التأويل).

الثالثة: الإقرار بالفعل أنه شرك والتوبة منه (الاعتراف بالذنب والتوبة منه), فكل توبة عذر وليس كل عذر توبة .

وهذه الحالات الثلاث بين الله تعالى أنها لا تنفع الكفار الذين فعلوا الكفر وماتوا عليه يوم القيامة:

الأولى (نفي الذنب وأنه ليس كفرا), قال تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (الأنعام:23), والكفر هو الشرك الذي هو عبادة غير الله سبحانه وتعالى- راجع رسالة الكفر والشرك حقيقتهما والعلاقة بينهما- أي: أنكروا أن يكونوا فعلوا الكفر فالله تعالى يريد أن يبين انه لا عذر لأحد يوم القيامة فقال تعالى رادا عليهم: انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُون (الأنعام:24), فكون الإنسان يفعل الكفر وهو يظن أنه ليس كفرا ليس عذرا له عند الله تعالى.

الثانية: فعل الكفر تأويلا ولأي سبب بحيث يتغير حكمه من الكفر إلى حكم آخر,كمن جعل الضرورة مسوغا لفعل الشرك فينقله من قاعدة الإكراه إلى قاعدة الضرورة قال تعالى : أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ(الزمر:3), فهم فعلوا الكفر تقربا إلى الله تعالى -وهذا أعظم تأويل يحتج به العبد أن يفعله ابتغاء مرضاة الله سبحانه- فإذا كانت هذه الصورة لا يعذر الله تعالى بها أحدا ولا يقبل منه, فكيف بمن فعله من اجل سبب دنيوي؟ قال تعالى رادا عليهم: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّار () ويبين الله تعالى أمرين:

- إن حكم هؤلاء إنما هو لله تعالى وليس للبشر أي: أن الذي يعذر هو الله فليس هذا من اختصاص أحد من البشر سواء كان عالما أو غير عالم.

- إن الله تعالى حكم عليهم بأنهم كفار كونهم فعلوا أو قالوا الكفر وأنهم كاذبون فيما أدعوه بأنهم فعلوا الكفر لأجل الله تعالى, فالكفر إنما يراد به الدنيا وهذا هو سبب الكفر, فهل بعد حكم الله حكم لقوم يوقنون؟!

الثالثة: الاعتراف بأن ما فعلوه كفر ولكن يتوبون منه. قال تعالى حاكيا عنهم: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (المؤمنون:107), الجواب: قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (المؤمنون:108).

لا أعذار لمن مات على فعل الكفر يوم القيامة

لقد حكم الله تعالى انه لا أعذار يوم القيامة للكفار الذين ماتوا على الكفر ولم يتوبوا منه في حياتهم الدنيا وقت التكليف - قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (آل عمران:91), وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(التحريم:7), فالله تعالى مالك يوم الدين يخبر بخبر محكم يقين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أن من مات على قول أو فعل الكفر أنه مؤاخذ به وأنه لا يعذر يوم القيامة للأدلة التالية:

قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (الروم:57).

وقال تعالى: يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (غافر:52), فقوله(يومئذ) أي: يوم القيامة.وقال تعالى: هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ (35 )وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36, المرسلات).

وقال تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (النحل:84).

ومصداقا لما قرره تعالى بأنه لا عذر لهم ولا تنفعهم المعذرة, قال تعالى: وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (الأنعام:27)، الجواب: قوله تعالى: بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (الأنعام:28), والتوبة تقتضي إقلاعا عن الذنب والله تعالى يبين أنهم لو ردوا لعادوا للكفر الذي ماتوا عليه فلا جدوى من قبول توبتهم لأنهم لن يتوبوا أي: يتركوا الكفر,ولأن الجزاء إنما هو على عملهم في الدنيا فلو تيب عليهم وردوا إلى الدنيا ليستأنفوا حياتهم بدون كفر فإنهم سيعودون إلى الكفر لأن مقتضى التوبة الإقلاع عن الكفر والموت على ذلك وأما ما دون الكفر فإنه تحت المشيئة والعبد فيه :

- إما أن يكون له من الحسنات والأحوال ما يمحوا به ذنبه.

- وإما أن يعذب بذنبه فيمحوا به الذنب.

- وإما أن يتجاوز الله عنه بعفوه وكرمه.

ولذلك كان الكفر لا يقبل المغفرة مصداقا لقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً(النساء:116), و كان مقررا في شرع الله تعالى أن الإنسان إذا فعل أو قال كفرا فإنه لا عذر له في فعله وإنما يتوجب عليه ندم وتوبة من هذا الكفر ولو كان يجهله أو لا يقصده لأن أوجب الواجبات بحقه أن يعلم حقيقة وجوده والغاية من وجوده, قال تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ(65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ(66, التوبة) فالله تعالى يقرر أمرين:

الأول: أن العفو عن طائفة بعدم تعذيبهم إنما يكون بتوبتهم في الدنيا.

الثاني: أن الذي لا يتوب من فعل الكفر ومات عليه يعذب في الآخرة وأنه من المجرمين قال تعالى:إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75,الزخرف) فثبت أن لا عذر عند الله تعالى لمن مات على الكفر لأي سبب.

بيان تفصيلي للأعذار وحكم الشرع بأدلة محكمة واضحة بينة:

عذر الغفـلة

- قال تعالى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (الأنبياء:97), قال تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (الأنبياء:98).

- قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ( 172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173،الأعراف), فالله تعالى يبين ويقيم الحجة على بني آدم أن الغفلة والتقليد وكفر الآباء ليس عذرا مقبولا لقوله: أن تقولوا () وهذا تحذير من أن يعتذروا بهذا وانه لن يقبل منهم, فالغفلة وتقليد الآباء ليست عذرا عند الله تعالى لأنه حق عليهم العذاب بدليل قوله تعالى:أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (), ولم يأت نص يبين عذرا لهم فعلمنا يقينا أنهم ليسوا بمعذورين.

عذر الضـعف

قال تعالى: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ (غافر:47), هل الضعف الذي أدى بهم إلى إتباع وطاعة أئمة الكفر عذر ؟

الجواب: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (غافر:48), فبين تعالى أن عذر الضعف غير مقبول فالله تعالى يبين أنهم يتحاجون في النار ومن دخل النار بكفره فقد حل عليه الخلود كما قال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ(البقرة:167), وقال تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ(28,الصافات), فالله تعالى يبين لنا احتجاج آخر لأهل النار بين أصحاب القوة وبين الضعفاء واحتجاج الضعفاء بأنهم فعلوا الكفر بحكم الغلبة عليهم والقهر فهل هذا نافعهم ؟ الجواب: قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ (30) إلى قوله..فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (الصافات:29-33).

عذر الاستـضعاف

وأما المستضعفون فقد قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (سبأ:31), فهل الاستضعاف عذر ؟ الجواب: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ (سبأ: 32 ), لا إنه ليس بعذر.

عذر محبة الإسلام دون العمل به مع الإقرار بأنه الحق

وأما من لم يعمل بالإسلام مع محبته له فهو كافر مشرك بالله العظيم , قال تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78, الزخرف), فهذا حوار بين أهل النار وخازنها مالك عليه السلام وهنا يبين تعالى أن أكثر أهل النار كانوا كارهين للحق والذي يفهم منه أن فريقا من أهل النار كانوا يحبون الحق ولكنهم فعلوا الكفر وهم يكرهونه ويحبون الحق فهل هذا نافعهم ؟ الجواب: لا , لأنهم في النار ومن دخلها بفعل الكفر لا يخرج منها, قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ(36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ (37, فاطر).

الجواب: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ () فلا عذر لكم وقد عمركم الله تعالى حتى بلغتم سن التكليف وكان ينبغي عليكم أن تتذكروا.

عذر الجهـل

قال تعالى: قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (هود:91), فهذا عذر عدم الفهم وهو احد صور الجهل, هل هو مقبول عند الله تعالى؟ الجواب: وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (هود:94), فهؤلاء قد حل عليهم عذاب الدنيا وسيحل عليهم عذاب الآخرة.

وقال تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (الزمر:64), فالله تعالى يصف الكفار بالجهل وأثبته لهم ووبخهم عليه وكذلك أثبت الله تعالى وصف الجهل لأقوام الأنبياء السابقين ولم يعذرهم بذلك

فقد وصف قوم نوح عليه السلام بالجهل ,قال تعالى: وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُوَاْ رَبِّهِمْ وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (هود:29).

ووصف قوم صالح عليه السلام بالجهل, قال تعالى: قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (الأحقاف:23).

ووصف قوم لوط عليه السلام بالجهل, قال تعالى: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (النمل:55).

وأثبت الله تعالى وصف الجهل للمشركين حتى بعد بلوغهم الدعوة وأمر رسوله عليه السلام والمسلمين بالإعراض عنهم, قال تعالى: ُخذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (الأعراف :199), وقال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً(الفرقان:63).

كما جاء النص صريحا على فعل الكفر بغير علم وأثبت الله تعالى لهم العذاب ولم يعذرهم بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (لقمان:6), والعذاب المهين لا يكون إلا جزاء الكفر قال تعالى:أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً (النساء:151), وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ(المجادلة:5), وبين سبحانه وتعالى أن الله يشرك بالله ومن ذلك سب الله تعالى إنما يكون عن جهل بقوله تعالى: وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (الأنعام:108), وقوله تعالى: وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (الأنعام:100).

وبين سبحانه وتعالى أنه لا يتوب على من مات على الكفر وأن التوبة مكانها في الحياة الدنيا أما في الآخرة فلا يعذرهم ولا يتوب عليهم , قال تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (النساء:17), وأكد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر (حديث حسن رواه الإمام أحمد وابن حبان وأبو يعلى وابن أبي شيبة).

إن العذر بالجهل في عبادة غير الله تعالى (عدم اجتناب الطاغوت- الكفر الأكبر-), يخالف أصل الرسالة التي بعث بها الله سبحانه وتعالى خاتم رسله عليه الصلاة والسلام وهي أنه سبحانه جعل هذه الرسالة رحمة للعالمين بقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (الأنبياء:107), فإذا كان العذر ثابتا للمشرك بجهله فإن غالب المشركين جاهلون وعند دعوتهم للإسلام فإن غالبهم يرفضونه لجهلهم ويترتب عليه أن ينتفي العذر بإرسال الرسول عليه الصلاة والسلام ويحق عليهم كلمة ربنا أنهم من أصحاب النار أي المخلدون فيها وهذا مناقض للرحمة إذ الرحمة تقتضي إبقاؤه على جهله رحمة به حتى يكون معذورا عند ربه ولا يكون من المعذبين وابقاء الجاهل على جهله خير له وأرحم من دعوته إن كان سيترتب على دعوته رفضه للدعوة ويتفرع على ذلك التكليف بما لا يطاق في حال ثبات التكليف بالدعوة وهو العلم المسبق بمن يقبل الدعوة ممن يرفضها وهذا علم غيب لا يعلمه إلا الله وإذا علمنا من يقبل الدعوة ومن يرفضها انتفى عموم الرسالة الثابت بقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون (سبأ:28), وقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (الأعراف:158), وهذا كله تناقض وضرب الكتاب بعضه ببعض و نفي لأصل الرسالة هذا إن كان القائلون بالعذر يقصدون العذر عند الله تعالى يوم القيامة, وإن كانوا يقصدون العذر في الدنيا فهذا يستوي فيه المكلفون جميعا ومما لا خلاف فيه ويسقط قولهم بذلك , أما إذا كانوا يتكلمون بالعذر ولا يدرون متعلقه أفي الدنيا أم في الآخرة فهم ممن قال فيهم سبحانه وتعالى:وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (الحج:8), وقوله تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (الإسراء:36), وإذا كانوا يقصدون العذر في الدنيا والآخرة فكفى بذلك افتراءاً على الله تعالى, وإن كانوا يقصدون صورة من صور الجهل فهذا تقييد لا يُقبل إلا بنص محكم من الكتاب والسنة, لأن مسألة العذر هي من مسائل أصل الدين التي يجب أن يرد فيها نص محكم من القرآن والسنة ولا تترك للاجتهاد لأنها تتعلق بإرادة الله تعالى وأفعاله من حيث الثواب والعقاب وهذا لا يملكه إلا الله تعالى ولا يبينه إلا هو سبحانه وليس من اختصاص البشر.

فهذا كتاب الله تعالى ينطق بالحق انه لا عذر لأحد فعل الكفر ومات عليه في الآخرة ولكن من رحمته انه حكم بعذر واحد لا ثاني له وهو الإكراه فمن فعل الكفر مكرها فهذا معذور في الدنيا والآخرة قال تعالى: مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (النحل:106) , ولم يجعل الله سبحانه مطلق الإكراه وإنما قيده في نفس النص بعدم انشراح الصدر. فمن قال بالعذر سوى الإكراه فهو من المتخرصين القائلين على الله تعالى بغير علم ممن حكم الله تعالى عليه بقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (الأنعام:21).

الحجة الرسالية والعذر

فالقائل بالعذر دليله- والدليل هو الشيء الواضح الذي يوضح غيره ويبينه فإذا لم يكن كذلك فهو ليس بدليل ؟ - قوله تعالى: مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ً(الإسراء:15), والحديث الذي ورد في المعتوه والخرف والصبي والمجنون وأهل الفترة.

فأقول وبالله التوفيق جوابا على هذا: إن دعوة الأنبياء إنما هي لعبادة الله وحده وعدم الوقوع في الكفر والرسل تُبعث في واقع غلب وسيطر عليه الكفر والدولة فيه لأهل الكفر فداعي بيان الأعذار في هذه الحالة مما لا يتوافق معه تأخيره فأحوج ما يكون الناس لبيان الأعذار إنما هو في مثل هذا الواقع ولذلك عندما وقع بعض الصحابة في الكفر بسبب الإكراه نزل الوحي مباشرة لبيان حكم الله تعالى في ذلك (إلا من أكره) وأما ما سوى ذلك فإن الله تعالى قد حكم عليه بأنه من أجل الدنيا قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (النحل:107) ، فمن فعل الكفر فقد أستحب الحياة الدنيا أي: قدم محبتها على محبة الله سبحانه وأنه جعلها أحب إليه من الله ورسوله, وفصّل سبحانه وتعالى الحياة الدنيا واستحبابها بقوله: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (التوبة:24).

والإنسان إما أن يفعل الكفر من أجل الآخرة أو من أجل الدنيا -لأجل الآباء أو الأبناء أو الأزواج أو العشيرة أو الأموال أو التجارة أو المساكن - فإن كان لأجل أي سبب دنيوي فالله يقول لا عذر,وإن كان من أجل الآخرة فهذا متناقض في ذاته إذ أن الله سبحانه وتعالى أرسل الرسل لدعوة الناس لترك الكفر وإخراجهم منه وأنه لا يرضى فعل الكفر أو قوله من العبد لقوله تعالى: إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ (الزمر:7),ومسألة العذر مما اختص الله سبحانه ببيانها والتي قرر بالآيات المحكمات قطعية الدلالة والثبوت انه لا عذر إلا للمكره.

فأما بخصوص قوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (الإسراء:15), فالآية مع قطعية ثبوتها ليست قطعية الدلالة فهي معارضة بآيات إثبات العذاب ولو كانت قطعية الدلالة لكان الأمر محكما يعارض محكما والله تعالى قد بين بقوله: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً (النساء:82) , والقرآن يتنـزه عن هذا فما العمل ؟ فلا بد من :

- إما إلغاء النصين، وهذا مستحيل.

- وإما نسخ أحدهما، وفي هذه الحالة النـزاع ما زال قائما.

- وإما التوفيق بينهما.

فلا بد من التوفيق بين الأدلة وإثبات النصين واعتبار أحدهما متشابها والآخر محكما, فمدار البحث هو في العذاب وفي الحجة الرسالية ، فإنه من المقرر في الأصول أن الدليل إذا ورد فيه الاحتمال سقط الاستدلال به, فهل إطلاق عدم العذاب محكم ؟

الجواب: فعند القائلين بها فإنّ احتجاجهم بالإطلاق وأنها غير مقيدة فهي تشمل عذاب الدنيا والآخرة، وعندنا (المخالفين) أنها ليست محكمة ومعارضة بآيات كثيرة منها, قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً (النساء:116), وقوله تعالى: وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (غافر:6), وقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ(فاطر:36), وقال تعالى: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً (الإسراء:39) وغيرها, وهذه الآيات تدل دلالة صريحة وبنص محكم على أمرين:

الأول:أن العذاب بحق عموم الكفار.

الثاني: أن هذا العذاب كائن يوم القيامة.

والمسألة المتنازع فيها هي:أن بعض الكفار غير معذبين يوم القيامة وهم من لم يأتهم رسول، مستدلين بقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ()وهذه الآية ليس فيها دلالة قطعية محكمة على ما ذهبوا إليه:

- فهي لا تدل على تخصيص العذاب بالكفار فقط فهي تحتمل غيرهم وبذلك فهي متشابهة.

- ولا تدل على أن العذاب مقيد بيوم القيامة بل هي مطلقة وتحتمل فهي متشابهة بخلاف الآيات التي تقرر وتنص على أن الكفار معذبون يوم القيامة.

وبناء على هذين الاعتبارين فالآية متشابهة وليست محكمة فلا تصلح معارضة لما ثبت بنص محكم قطعي الدلالة على أن الكافر معذب يوم القيامة, فما حقيقة دلالة الآية:

أولا: فمن ناحية وقت العذاب فهي مقيدة بالعذاب الدنيوي وثبوته في الآخرة للأدلة التالية:

1- قوله تعالى: وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (الإسراء:58).

2- قوله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (القصص:59).

3- قوله تعالى: وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ(208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209,الشعراء).

4- قوله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (الإسراء:16).

5- قوله تعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً (الكهف:59).

6- قوله تعالى: فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ (الحج:45), وقوله تعالى: وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (الحج:48).

فالإهلاك والعذاب بحق القرى إنما يكون قبل يوم القيامة بدليل قوله تعالى الصريح: وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (الإسراء :58), كما أن القرى لا تكون يوم القيامة إذ الناس يأتون في ذلك اليوم فرادى لقوله تعالى: َلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ (الأنعام:94), والبشر يحاسبون كل عن نفسه لقوله تعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(النحل:111) , فهذه الآيات تدل بنص محكم على أن العذاب والإهلاك للقرى يكون قبل يوم القيامة وأما بخصوص قوله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (الإسراء:16) , فهي تدل على معان بحسب القراءات:

- قراءة ( أمرنا) وهو نقيض النهي والأمر لا يكون إلا عن طريق رسول فهنا تدل على أن العذاب للقرى في الدنيا متوقف على بعثة الرسول.

- قراءة ( أمرنا) بتشديد الميم وهنا العذاب متوقف على فساد الفئة الحاكمة.

- قال:( آمرنا) بالمد والتخفيف أي: أكثرنا، وهنا العذاب متوقف على كثرة أهل الفساد ويكون عاما كما أخبر عليه السلام في حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها حين قالت له: أنهلك وفينا الصالح قال: نعم إذا كثر الخبث أ.هـ(رواه الشيخان وغيرهما), وعليه فإن هذه الآية وما بعدها وهو قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً (الإسراء:17), مبينة لما قبلها وهو قوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً () , فظهر بشكل جلي أن العذاب مقيد بعذاب الدنيا فقط مع ثبوت العذاب يوم القيامة، وسياق الآيات فيه دلالات تنظر في كتب التفسير مع التدبر.

ثانيا: من ناحية المُعَذَّب فهي عامة بحق الكفار والمؤمنين:

- أما الكفار فقد ثبت في قصص الأنبياء أن الله تعالى قد أهلك الأقوام الذين كذبوا رسلهم ، قال تعالى وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً (الطلاق:8) وسمّى الله تعالى قتلهم في الدنيا عذابا,: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (التوبة:14).

- أما المؤمنون فإن العقوبة لا تثبت إلا بورود النص بطريق الحجة الرسالية- أي: بإرسال الرسل بذلك- فسمى الله تعالى عقوبة المؤمن على ذنبه في الدنيا عذابا قال تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (النور:2), وقوله تعالى: إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(التوبة:39) ، وقوله تعالى: لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (الأنفال: 68) , وغيرها من الآيات ومن السنة حديث زينب رضي الله عنها: أنهلك وفينا الصالحون قال:نعم إذا كثر الخبث.. الحديث رواه الشيخان وغيرهما.

وبالرد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ثبت العذاب في الآخرة لمن لم يأتهم رسول عن أنس أن رجلا قال يا رسول الله أين أبي ؟ قال في النار فلما قفى دعاه فقال إن أبي وأباك في النارأ.هـ (رواه مسلم), وقال النبي صلى الله عليه وسلم : رأيت عمرو بن عامر بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السوائب أ.هـ ( رواه الشيخان وغيرهما).

وكذلك أبو طالب في النار والذي مات على ملة عبد المطلب فثبت أن عبد المطلب في النار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب : يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله, فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك , فأنزل الله تعالى فيه : ما كان للنبي .. الآية.أ.هـ( رواه البخاري وغيره).

وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم استأذن ربه أن يزور قبر أمه ويستغفر لها فأذن له في الزيارة ولم يأذن له بالاستغفار لها فجلس يبكي على قبر أمه لرقته لها بسب القرابة حتى أبكى من حوله.(أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة), فثبت أنها من أهل النار لقوله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (التوبة:113), فهؤلاء أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبوته لغيرهم أولى فهذه الأحاديث تجري مجرى العموم لا دليل على تخصيصها, فتواطأ القرآن والسنة على أن الكافر بإطلاق معذب في الآخرة.

وأما فيما يتعلق بحديث عذر الأربعة فقد رواه أهل الحديث ولم تسلم رواية واحدة من الطعن:

1- رواه الطبراني في المعجم الكبير والأوسط ومسند الشاميين وأبو نعيم في حلية الأولياء وفي سند الروايات عمرو بن واقد وهو متروك رمي بالكذب.

2- رواه الإمام أحمد وابن حبان والطبراني في المعجم الكبير واسحاق بن راهوية وفي سندها قتادة السدوسي وهو مدلس وقد عنعنه وأسنده إلى الأحنف بن قيس ولم يلقه ولم يسمع منه.

3- أخرجه أبو يعلى وفي سنده ليث ابن أبي سليم وهو ضعيف لا يحتج به..

4- أخرجه ابن الجعد في مسنده وفي سنده عطية بن سعد العوفي وهو ضعيف ومدلس وقد عنعنه.

5- رواه البزار بإسنادين ضعيفين.

6- رواه إسحق بن راهوية وفي سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف لا يحتج به .

7- أخرجه ابن إبي شيبة بسندين موقوفين على التابعي أبي صالح عبد الرحمن بن قيس.

ونص الحديث كما رواه الأسود بن سريع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:أربعة يحتجون يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة( فأما الأصم) فيقول رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا وأما الأحمق فيقول رب قد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر وأما الهرم فيقول رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا وأما الذي مات في الفترة فيقول رب ما أتاني لك رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما أ.هـ روي عن أبي هريرة ومعاذ بن جبل وأنس بن مالك رضي الله عنهم.

فالحديث على ذلك ليس قطعي الثبوت وعلى فرض ثبوته (لتحسين بعض العلماء له), فهو غير قطعي الدلالة فهو متشابه غير محكم حيث أنه لا يدل على أن المقصود بذلك من فعل أو قال كفرا (عبد غير الله تعالى) وهي المسألة المتنازع فيها,ومع ذلك سأبحثه بحثا علميا فأين التشابه الذي فيه ؟ الجواب من وجهين:

الأول: من حيث الفاعل (الأشخاص).

الثاني: من حيث الفعل (عبادة غير الله أو دون ذلك).

فمن ناحية الفاعل فان الله تعالى قرر انه لا عذر للكفار الذين عبدوا غير الله تعالى يوم القيامة وهؤلاء الذين ذكرهم الحديث ثلاثة أقسام:

الأول: من جاءهم الرسول وهم غير مكلفين شرعا وهم الهرم والأحمق والأصم.

الثاني: الخرف وهو من فسد عقله بسبب الكبر ففيه حالتان:

1- ما قبل الخرف أي وهو عاقل فهذا حاله كحال أهل الفترة.

2- عند الخرف وعند عدم السمع حاله كحال المجنون .

الثالث: أهل الفترة.

فالنتيجة انقسام المعذورين إلى قسمين اثنين بدليلين منفصلين:

- غير العقلاء وهم غير المكلفين شرعا في الدنيا وحكمهم إلى الله تعالى والدليل الحديث.

- العقلاء وهم أهل الفترة ومن في حكمهم ودليلهم قوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (الإسراء:15), والحديث.

فغير العقلاء قد يقعوا في الكفر وما دونه ( المعاصي) فهم غير مكلفين وبالتالي غير معذبين على أفعالهم ولا يحاسبون عليها ولا بد لكل نفس من مستقر إما الجنة وإما النار والله تعالى لا يدخل أحدا الجنة أو النار بعلمه سبحانه وإنما بعمل العبد, فمن لم يكلف في الدنيا سيكلف في الآخرة، والتكليف في الدنيا هو الدعوة التي أرسل الله تعالى بها كل رسول وهي قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (النحل:36), أي: عدم عبادة غير الله تعالى,وحجة الله تعالى قائمة على خلقه سواء بالآيات التي على أيدي الرسل أو الآيات الكونية كما هو مقرر في كتاب الله تعالى بقوله: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ(الملك:10) , والحديث يبين مسألة التكليف في الآخرة وهي:

1- أن الله تعالى يأمرهم بإلقاء أنفسهم في النار( وفي أحدى الروايات: في نار ينشئها)، وهو نفس عقد الإيمان في الدنيا وهو قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (التوبة:111) , فالتكليف هو ببيع النفس أي: إهلاكها في سبيل الله وطاعته والأمر بإلقاء النفس يوم القيامة نظير قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتا ً(النساء:66), ونظير قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (النساء:77) والقتال فيه إلقاء النفس للهلاك.

2- أن التكليف في الآخرة يكون بطاعة أمر الله تعالى حيث لا طواغيت (معبودات من دون الله تعالى), إذ أنه في ذلك الموقف يتبرأ المعبود من عابده ويتمنى العابد لو يرد فيتبرأ من المعبود قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ(167:البقرة), فهذا نص واضح يبين أن البراءة النافعة من المعبود إنما هي في الحياة الدنيا وليس في الآخرة فغير العاقل في الدنيا فإنه يرد إليه عقله في الآخرة ويصبح مكلفا ويكون على الفطرة التي خلقه الله عليها والتكليف بالشرائع أي السمع, فمن أطاع الأمر فقد نجى وسبقت له من الله الحسنى ودخل الجنة برحمة الله ثم بطاعته، ومن عصى فقد كفر وحقت عليه كلمة العذاب والخلود في جهنم فهذا قد أبى واستكبر فكفره يكون ككفر إبليس الذي هو من الكفر المتعلق بتفصيلات الشريعة ( أوامر الله تعالى) والإباء والاستكبار هو كفر والطاغوت في هذه الحالة هو هوى النفس كإبليس- إذ لا يوجد ما يعبد من دون الله تعالى إلا النفس - فان الحديث يبين أن الامتحان بالطاعة (فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه ) ، لأن المكلف:

- إما أنه عابد لغير الله تعالى فتكون دعوته إلى ترك عبادة غير الله تعالى.

- وإما السمع والطاعة للأوامر الشرعية لقوله عليه السلام لمعاذ رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن:إنك تأت أهل كتاب فأول ما تدعهم إلى لا إله إلا الله...الحديث (أخرجه الشيخان وغيرهما), فإذا تحقق القبول للإسلام فيدعى كما بين أيضا عليه الصلاة والسلام لمعاذ: فإن هم أجابوك فأعلمهم أن عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة...الحديث, فالحديث إذن متعلق بشق الإثبات وهو عبادة الله ( أعبدوا الله), فالذي يمتحن يوم القيامة لم يفعل شركا شرعا.

فأهل الفترة ومن في حكمهم والذين احتجوا لهم بقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (), حالهم مشتبه وبخصوص الآية فالأمر كما قال تعالى:هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ (آل عمران:7) - على إحدى القراءتين- فأول مسألة يجب الفصل فيها هل هذه الآية من المحكمات أم من المتشابهات ؟وقد سبق بيان أنها من المتشابه عند المعاصرين علما بأنها لم تشكل على السابقين مؤمنين ومشركين:

أولا: ما هي الحجة الرسالية على الكفار في الدنيا فالله عز وجل قص علينا قصص الأنبياء وبين لنا أنهم جاءوا لأقوامهم وقالوا لهم: أعبدوا الله ما لكم من إله غيره () أو: أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت (), فكيف أقام الرسل الحجة على أقوامهم بخصوص هذا الأمر؟ الجواب من ملة أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (الأنعام: 83), وهذه الحجة بينها تعالى في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع قومه بأن معبوداتهم من الأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنطق ولا تأكل ولا تضر ولا تنفع وهذا الأمر يقرون به قال تعالى حاكيا قولهم: ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ (الأنبياء:65), وعندما سألهم هل ينفعونكم أو يضرون أقروا أنها لا تضر ولا تنفع قال تعالى حاكيا عنهم:قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (الشعراء:74), وأما إن كان المعبود من البشر فإن الكفار قد أقاموا الحجة على أنفسهم كما بين سبحانه وتعالى بقوله: وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ (المؤمنون:34), وقوله تعالى: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَر ِ(المدّثر:25), وقوله تعالى:فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا (التغابن:6), واشتراطهم طاعة الرسل بوجود آية مع أنهم يطيعون سادتهم وكبراءهم وهم بشر أيضا بغير دليل ولا برهان دليل على العناد وليس طلبا للحق ،فيا عجبا لهذه العقول المنكوسة التي لا تقبل بشرا رسولا إلا بآية ولكن تقبل بشرا إلها بدون دليل وبرهان قال تعالى: وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (المؤمنون:117).

ثانيا: من حيث تعلقها بالمكلفين فلا بد من تحديد مفهوم ومصطلح الفترة:

1- فان كانوا يقصدون بذلك الذين عاشوا بين بعثة رسولين ولم يدركوهما, قلنا لهم: هذا يقتضي العموم بحق المكلفين فيدخل فيهم كل من عبد غير الله تعالى من اليهود والنصارى والمجوس والهندوس والعرب ولم يدرك أحد الرسولين فهذا القول باطل ومردود لان الله تعالى علق النجاة لهؤلاء بالإيمان بالله واليوم الآخر ( أي:عدم عبادة غير الله تعالى ) بقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة:62), فتخصيص قوم دون قوم لا يكون إلا بدليل قطعي الدلالة والثبوت.

2- وان كانوا يقصدون عدم بلوغ أصل دعوة الأنبياء ( اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ), قلنا لهم: هذا باطل لأن الله تعالى يقول: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ (فاطر:24), فكل أمة من الأمم جاءها رسول بلغهم دعوة الله تعالى ( اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) وكذلك قوله تعالى: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (الزخرف:23).

3- وان كانوا يقصدون أن آحاد الناس لم تبلغهم أصل الدعوة, قلنا لهم: إن حكمة الله تعالى اقتضت إرسال الرسل إلى أم القرى التي تكون حاضرة ما حولها يأوون إليها ومركزهم بحيث إذا حصل فيها شيء انتشر خبره وذاع ومسألة الرسل من أعظم الأمور انتشارا قال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (القصص:59), إلا إذا كان القائلون بهذا يريدون أن يأتي لكل إنسان رسول وهذا باطل ومردود.

4- وان كانوا يقصدون العلم بإرسال الرسل وأن الله تعالى أرسل رسلا يدعون أقوامهم لعبادة الله تعالى وحده واجتناب عبادة غيره, قلنا لهم: فما من أمة أو قوم إلا ولديهم العلم بهذا لقوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (التوبة:70), وقوله تعالى عن شعيب: وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ (هود:89), وقوله تعالى عن مؤمن آل فرعون لقومه: وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (غافر:34), وبين موسى ويوسف عليهما السلام زمان طويل, والعرب يعلمون بإرسال إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام, واليهود يعلمون بإرسال موسى عليه السلام, والنصارى يعلمون بإرسال عيسى وموسى وغيرهم كيحيى وزكريا عليهم السلام, وكذلك كل أمة مصداقا لقوله تعالى: وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ(فاطر:24).

فبمجرد العلم السماعي بان هناك رسلا أرسلت قد قامت الحجة على الخلق عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار أ.هـ (رواه مسلم),فهذا الحديث يبين ما يلي:

- من حيث المنطوق يشمل عموم أهل الكتاب فيما يتعلق بالسماع ببعثته.

- من حيث المفهوم :

1- مفهوم الموافقة فإنه لا يقاس عليه غيره من الأنبياء إذ أن كل رسول أرسل إلى قومه خاصة ورسالته عامة لكافة الناس عربهم وعجمهم.

2- مفهوم المخالفة أن من لم يسمع به فهو ليس من أصحاب النار مقيد بحق من كان على التوحيد منهم بدليل قوله عليه الصلاة والسلام:ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي عليه السلام فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران..الحديث (رواه البخاري ومسلم)وهذا الحديث فيه فوائد منها:

الأولى:أن شرط النجاة هو الإيمان بنبيه الذي بعث له.

الثانية: أن من قال أن عيسى عليه السلام إله أو ابن إله لم يؤمن به نبيا ومن كفر من اليهود فهو لم يؤمن بموسى حيث أن دعوة موسى عليه السلام هي ترك الكفر ومن كان كذلك فليس له أجر الإيمان والإنسان إما مأجور أو موزور وحيث أنه لا أجر فيلزم منه الوزر لأن هذه مسألة متعلقة بأصل الدين.

الثالثة: أن من أدرك النبي ممن آمن بنبيه وآمن به فله أجر إيمانه بنبيه وأجر إيمانه بالرسول عليه الصلاة والسلام.

الرابعة: من لم يؤمن بنبيه وآمن بالرسول عليه السلام له أجر ومن آمن بنبيه ولم يؤمن بالرسول عليه السلام فلا ينفعه إيمانه بنبيه أو بعبارة أصح أن من لم يؤمن بالرسول عليه السلام لم يؤمن بنبيه لأن نبيه بشّر بالرسول عليه السلام وهذا من مقتضى إيمانه بنبوة نبيه..وقال عليه السلام: إن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض قبل أن يبعثني فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظان أ.هـ (رواه مسلم في صحيحه مطولا)، فهؤلاء البقايا هم من كان على التوحيد وهم عند الله غير ممقوتين أما غيرهم فممقوت ,والممقوت هو المبغوض بغضا شديدا لاقترافه أمرا عظيما وهذا الأمر العظيم بينه سبحانه وتعالى بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (غافر:10), وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (لقمان:13),فالممقوت عند الله تعالى هو الكافر المشرك, والحمد لله الذي جعل كتابه مبينا لكل شيء قال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (المائدة:19), والبشير والنذير هو الرسول فهل أهل الكتاب (يهود ونصارى ) لا يعلمون انه قد جاءهم رسل حتى يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير ؟ بلى إنهم يعلمون علم اليقين بإرسال إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى وزكريا ويحيى وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, وهذه الآية هي الفصل ففيها البيان الحقيقي والدقيق لمفهوم الفترة فهي ليست متعلقة بالعلم بإرسال الرسل فهذا معلوم وليس متعلقا بعبادة غير الله تعالى لأن اليهود والنصارى يعلمون أن دعوة الأنبياء هي عبادة الله وحده ويقولون عن أنفسهم أنهم موحدون.

فالفترة : هي من الفتور وهو السكون بعد الحدة, والفترة بالنسبة للرسل: هي إندراس شرائعهم وليس إندراس ذكرهم, فالشرائع السابقة لم يتكفل الله تعالى بحفظها فالفترة إذن هي متعلقة بتفصيلات الشرائع وليست بأصل دعوة الرسل وبدليل قوله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (القصص:59), فالعذاب متعلق بتلاوة الآيات, وتلاوة الآيات هي جمع ولا يكون إلا للشرائع فهي متعددة ومختلفة بينما أصل دعوة الرسل هي أمر واحد غير متعدد ( اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت), فاجتناب الطاغوت متفق عليه بينهم أما كيفية عبادة الله تعالى ( الشرائع وتفصيلاتها) فالله تعالى يقول: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً (),كذلك فان الله تعالى قد جعل الآيات نوعين:

- آيات كونية ثابتة : جعلها دليلا على وحدانيته لا تحتاج إلى رسول ليبينها والله تعالى احتج بها على الكفار المشركين كقوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (البقرة:164), فهذه مظاهر كونية متعددة لا يخلوا إنسان من الوقوف عليها أو بعضها قد سماها الله تعالى آيات وجعلها علامات بينة دالة على توحيده يستدل بها العقلاء فإذا كان الله تعالى قد جعل هذه أدلةً على وحدانيته يهتدي بها العقلاء من غير حاجة إلى رسل فالحجة قائمة عليهم.

- آيات متلوة : وهي الشرائع وتفصيلات عبادة الله تعالى وهذه تحتاج إلى من يتلوها وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام فلا يؤاخذ الناس بتفصيلات عبادة الله تعالى أي كيفية عبادة الله تعالى إلا بإرسال الرسل. وقد أقر الكفار وهم في النار بهذه الحقيقة قال تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (الملك:10), وكذلك فإنّ هلاك وعذاب الأقوام السابقة دليل على أنهم معذبون على كفرهم في الدنيا والآخرة, فعذابهم في الدنيا لتكذيبهم الرسل,وعذابهم في الآخرة لكفرهم بالله تعالى, ولكن عذابهم في الدنيا لا يعفيهم من عذاب الآخرة بخلاف تفصيلات الشرائع والتي لا يعذب الله تعالى بها أحدا إلا بعد بلوغ الرسالة وإذا بلغت فمن خالف مع الإقرار وعذب في الدنيا فلا يعذب في الآخرة, وعليه فان أهل الفترة هم الذين لم تبلغهم الشرائع ولم يتمكنوا من معرفة كيفية عبادة الله تعالى ولكنهم اجتنبوا الطاغوت فما عبدوا غير الله تعالى ولذلك يمتحنون بأن يأمرهم الله تعالى بأمر وهو من الشرائع أي:عبادة الله تعالى وكذلك من هو في حكمهم من غير المكلفين.

خلاصة الأمر: إن قوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (الإسراء:15), وقوله عليه الصلاة والسلام:أربعة يحتجون يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة فيقول رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا وأما الأحمق فيقول رب قد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر وأما الهرم فيقول رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا وأما الذي مات في الفترة فيقول رب ما أتاني لك رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما أ.هـ متعلقان:

بالمكلفين الذين لم يعبدوا غير الله تعالى ولم يعلموا كيفية العبادة ووقعوا بالفواحش والمنكرات ولهذا روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة يقول يا معشر قريش والذي نفسي بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري وكان يحيى الموؤدة يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته لا تقتلها فأنا أكفيك مؤنتها وكان يقول اللهم لو أني أعلم أحب الوجوه إليك لعبدتك به ولكني لا أعلم ثم يسجد على راحلته (أخرجه البخاري تعليقا ووصله النسائي والبغوي وابن إسحاق في السيرة الكبرى).

بغير المكلفين والذين رفع عنهم القلم والذين بينت الشريعة أنهم يمتحنون بالشرائع ( طاعة الله تعالى أي: تنفيذ الأوامر)، حيث أن الرسل جاءت بدعوة تتكون من شقين بينها تعالى بقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (الشعراء:144):

فاتقوا الله: أي: أعبدوا الله مالكم من إله غيره () وهذه لا عذر لمكلف سواء قبل الرسول أو بعده.

وأطيعون,أي : طاعة الرسل في تفصيلات الشرائع ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) وهذه هي التي تتعلق بها الحجة الرسالية ويعذر بها المكلف إذا لم تبلغه, وما تقرر ليس بدعا من القول فقد قرره علماؤنا رحمهم الله تعالى كابن القيم في كتابه طريق دار الهجرتين وغيره فهذا ما يتعلق بالعذر عند الله تعالى في الدنيا والآخرة .

أما فيما يتعلق بالعذر في الدنيا من قبل المسلمين فهذا يكون بحسب الواقع :

ففي الواقع الجاهلي الذي غلب عليه الشرك *عبادة غير الله تعالى- وتحول الناس إلى عبادة العباد بفعل التحريف لدين الله تعالى أو الألفة أو غيرها من الأسباب فيصبح الواقع واقع دعوة مبني على البلاغ ببيان حقيقة الإسلام(التوحيد) للناس وبناءهم على قاعدة الخوف من الله تعالى بناء على قوله: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ (فاطر:24) ويكون الالتزام بالإسلام دافعه ذاتي من قبل الشخص وهؤلاء يشكلون النواة الصلبة والحقيقية التي يقوم عليها الإسلام حتى يحكم الله لعباده ويمكن لدينه إذ في هذه الحالة لا سلطان للإسلام لإقامة الأحكام الشرعية فهو واقع دعوي فمن آمن فله الثواب ومن استنكف فله العذاب في الآخرة وقد يكون هناك عذاب دنيوي أيضا وبيان أنه لا عذر لمن لم يصبح موحدا فمسألة الأعذار تعتبر لاغية .

وأما في دار الإسلام فمن البديهيات أن غالب من فيه من المسلمين الذين آمنوا بالله تعالى عن علم فهم يعلمون حقيقة الشرك ومجتنبون له فهو مبني على التقوى ومراقبة الله تعالى والدافع لاجتناب الشرك الذي هو عبادة غير الله تعالى ذاتي وإن وقع فيه أحد فهو عن علم ولا يقام عليه حكم الكفر إلا بعد الاستتابة سواء كان جاهلا أو متأولا أو مخطئا . وأما العمل الذي لا يكون شركا إلا بعد البيان في الواقع الإسلامي والمتعلق بتفصيلات الشريعة فهذا يخضع لجميع الأعذار سواء الجهل أو التأويل أو الخطأ علما بأن العذر المقصود في هذا الواقع متعلق بعصمة الدم والمال وهو الإستتابة .

وأما غير المسلمين فإنهم يقاتلون على ثلاثة أمور إما أن يدخلوا الإسلام فإن أبوا فالجزية فإن أبوا فالقتال وتستباح دماءهم وأموالهم ونساءهم وذرياتهم.

مفاهيـم يجب أن تصـحح

دار الإسـلام ودار الكـفر

لقد اتفق العلماء من فقهاء وأصوليين على تقسيم البلاد إلى قسمين دار كفر ودار إسلام ولا يوجد دار ثالثة فالأحكام الشرعية إنما هي منوطة بهذين الوصفين وهذه كتب العلماء منذ أربعمائة وألف من السنين لم يذكروا ما أصله بعض المتأخرين من مصطلحات أربكت الأمة والعاملين لدين الله تعالى وضاعت بسببها جهود كبيرة وسنين عديدة وهذه سنة الله تعالى في كل بدعة قال عليه الصلاة والسلام : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (رواه الشيخان), وكما قال بعض السلف ما حصلت بدعة إلا وزالت سنة, إذ أنهم رتبوا على هذه المسميات الحادثة أحكاما تتعارض مع الأحكام والأصول الشرعية فالبدع تأثيرها عظيم على الأمة زادت في تيهها وضياعها ومن هذه المسميات والمصطلحات:

1- قولهم دار كفر طارئة ودار كفر أصلية.

2- قولهم دار الردة ودار أهل ذمة.

وما حدث هذا إلا لغياب التأصيل والفهم الصحيح لقواعد وأصول الشرع مع أن كثرة المسميات لا تأثير له على الأحكام الشرعية وعلى حقيقة التقسيم الصحيح إلى دارين لا ثالث لهما فكل المسميات الزائدة على القسمين إنما هو من باب الاعتبارات فمن قال دار ردة لا يعني حدوث دار ثالثة فالردة هي وصف حال حقيقته الكفر, فالأحكام الشرعية لا تتغير سواء كان الكفر طارئا أو أصليا وعلى ذلك فما معنى طارئ وأصلي ؟ فلا يوجد كفر أصلي منذ أن خلق الله تعالى الخلق إلى قيام الساعة لأن أول كفر حصل في الخلق من جهة إبليس, وإبليس قبل كفره كان مؤمنا واليهودي والمجوسي والنصراني وغيرها من الملل كلهم ولدوا على الفطرة ولم يولدوا كفارا وإنما حصل لهم الكفر لاحقا بتهويد آبائهم أو تنصيرهم أو تمجيسهم أو أي ملة أخرى.

والكفر هو من الستر أي جاء ليستر أمرا موجودا وهذا الموجود ليس الكفر فالكفر لا يستر كفرا وإنما يستر إيمانا وعليه فالكفر في أي وقت ليس أصليا على هذا الاعتبار, ثم الأرض أصلها دار إسلام بآدم وذريته عليها ثم ظهر الكفر فغلب على الناس فبعث الله نوحا عليه السلام فآمن القليل وكفرت الغالبية فصارت دار كفر فأهلك الله الكافرين وبقي المؤمنون فأصبحت دار إسلام, وهذه سنة الله تعالى في خلقه فالأرض كبقعة لا حكم لها,ولذلك من الأخطاء الشنيعة في عصر الجهل الذي نعيش فيه أن يجمع أغلب العاملين للإسلام على اختلاف مشاربهم أن البلاد التي كانت محكومة بالإسلام وخاصة ما يسمى العربية والإسلامية أنها بلاد المسلمين وهذا مصطلح غير منضبط ولذلك سنعرض أقوال أهل العلم في ثلاث مسائل:

الأولى: أن البقاع في الأرض ليس لها حكم وإنما حكمها متعلق بمن غلب عليها.

يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: والبقاع تتغير أحكامها بتغير أحوال أهلها فقد تكون البقعة دار كفر إذا كان أهلها كفارا ثم تصير دار إسلام إذا أسلم أهلها كما كانت مكة شرفها الله في أول الأمر دار كفر وحرب وقال الله تعالى فيها: وكأين من قرية هي اشد قوة من قريتك التي أخرجتك...الآية, ثم لما فتحها النبي صارت دار إسلام وهى في نفسها أم القرى وأحب الأرض إلى الله....وقال تعالى لما أنجى موسى وقومه من الغرق: سأريكم دار الفاسقين(), وكانت تلك الديار ديار الفاسقين لما كان يسكنها إذ ذاك الفاسقون ثم لما سكنها الصالحون صارت دار الصالحين وهذا أصل يجب أن يعرف فإن البلد قد تحمد أو تذم في بعض الأوقات لحال أهله ثم يتغير حال أهله فيتغير الحكم فيهم إذا المدح والذم والثواب والعقاب إنما يترتب على الإيمان والعمل الصالح أو على ضد ذلك من الكفر والفسوق والعصيان...وكتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي وكان النبي قد آخى بينهما لما آخى بين المهاجرين والأنصار وكان أبو الدرداء بالشام وسلمان بالعراق نائبا لعمر بن الخطاب أن هلم إلى الأرض المقدسة فكتب إليه سلمان أن الأرض لا تقدس أحدا وإنما يقدس الرجل عمله أ.هـ مجموع الفتاوى27\143, والفتاوى الكبرى2/44.

الثانية: تعريف دار الكفر ودار الإسلام.

قال الكاساني رحمه الله تعالى: أن قولنا دار الإسلام ودار الكفر ,إضافة دار إلى الإسلام وإلى الكفر وإنما تضاف الدار إلى الإسلام أو إلى الكفر لظهور الإسلام أو الكفر فيها كما تسمى الجنة دار السلام والنار دار البوار لوجود السلامة في الجنة والبوار في النار وظهور الإسلام والكفر بظهور أحكامهما فإذا ظهر أحكام الكفر في دار فقد صارت دار كفر فصحت الإضافة ولهذا صارت الدار دار الإسلام بظهور أحكام الإسلام فيها من غير شريطة أخرى فكذا تصير دار الكفر بظهور أحكام الكفر فيها والله أعلم.أ.هـ بدائع الصنائع6/112.

قال الشوكاني رحمه الله تعالى: قول الاعتبار بظهور الكلمة فإن كانت الأوامر والنواهي في الدار لأهل الإسلام بحيث لا يستطيع من فيها من الكفار أن يتظاهر بكفره إلا لكونه مأذونا له بذلك من أهل الإسلام فهذه دار إسلام ولا يضر ظهور الخصال الكفرية فيها لأنها لم تظهر بقوة الكفار ولا بصولتهم كما هو مشاهد في أهل الذمة من اليهود والنصارى والمعاهدين الساكنين في المدائن الإسلامية وإذا كان الأمر العكس فالدار بالعكس أ.هـ السيل الجرار4/575.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: قال الجمهور دار الإسلام هي التي نزلها المسلمون وجرت عليها أحكام الإسلام وما لم تجر عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام وإن لاصقها فهذه الطائف قريبة إلى مكة جدا ولم تصر دار إسلام بفتح مكة وكذلك الساحل أ.هـ أحكام أهل الذمة 2/728.

الثالثة :كيف تصير دار الإسلام دار كفر وكيف تصير دار الكفر دار إسلام ؟

قال الكاساني رحمه الله تعالى: لا خلاف بين أصحابنا في أن دار الكفر تصير دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها واختلفوا في دار الإسلام أنها بماذا تصير دار الكفر ؟ قال أبو حنيفة : إنها لا تصير دار الكفر إلا بثلاث شرائط:

أحدها : ظهور أحكام الكفر فيها.

والثاني: أن تكون متاخمة لدار الكفر.

والثالث: أن لا يبقى فيها مسلم ولا ذمي آمنا بالأمان الأول وهو أمان المسلمين وقال أبو يوسف و محمد رحمهما الله: إنها تصير دار الكفر بظهور أحكام الكفر فيها أ.هـ بدائع الصنائع6/112.

قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: وأما بلد الكفار فضربان أيضا أحدهما : بلد كان للمسلمين فغلب الكفار عليه كالساحل... الثاني: دار لم تكن للمسلمين أصلا كبلاد الهند والروم أ.هـ المغني6/403.

وقال: ومتى ارتد أهل بلد وجرت فيه أحكامهم صاروا دار حرب...ولنا أنها دار كفار فيها أحكامهم فكانت دار حرب كما لو اجتمع فيها هذه الخصال أو دار الكفرة الأصليين أ.هـ المغني10/90.

وأما بخصـوص قـول ابن تيمية في ماردين

فهو رحمه الله تعالى من جمهور العلماء الذين ذكرهم ابن القيم الذين أجمعوا على أن دار الإسلام هي المحكومة بأحكام الإسلام والغلبة فيها للمسلمين ودار الكفر هي الدار المحكومة بأحكام الكفر وغلب عليها الكفار فهذا قوله رحمه الله تعالى وعند ذكر ماردين لم يجزم بأنها دار كفر فمعنى ذلك أنها غير محكومة بأحكام الكفار ولم يجزم أيضا بأنها دار إسلام فمعنى ذلك أنها غير محكومة بأحكام الإسلام فالنتيجة أنها بلدة غير محكومة لا بأحكام الكفار ولا بأحكام المسلمين وهذه صفة نادر وجودها وشاذة ولا حكم للنادر والشاذ ونشأت في ظروف معينة.ولذلك قال رحمه الله تعالى ما نصه: وأما كونها دار حرب أو سلم فهي مركبة فيها المعنيان ليست بمنزلة دار السلم التي تجرى عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه أ.هـ الفتاوى28/240-241.

لقد أشكل على الكثيرين وغرهم قوله رحمه الله :لكون جندها مسلمين أ.هـ فكلمة جند لا تعني ما يتبادر إلى الأذهان في هذا الزمان وهم من يحملون السلاح والمتعارف عليهم بالجيش وإنما يقصد من ذلك سكانها, فكلمة جند تعني الجماعة من الشيء,فماردين دخلها التتار وهم كفار ولم يقيموا حكما فيها بالشكل الذي يخضع معه سكانها وإنما كان لهم نظامهم يسوسون به أنفسهم مع بقاء أهل ماردين مقيمين لدينهم .

وعليه فلا ينطبق قوله هذا على البلاد في هذا الزمان كونها محكومة بأحكام الكفر والغلبة فيها لغير المسلمين,

ولذلك من قال أنها بلاد المسلمين فقد افترى على الدين وخالف إجماع الأمة وصدق عليه قوله تعالى: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً (النساء:115).

فدار الكفر هي الدار التي غلب عليها أهل الكفر المحكومة بأحكام الكفر ودار الإسلام هي الدار التي غلب عليها المسلمون وحكموها بأحكام الإسلام,والأحكام الشرعية تتعلق بهذين الوصفين بحق أهلها ومن فيها بناء على الظاهر , ومراد العلماء من لفظ الكافر الأصلي إنما التفريق بين من عاش على الكفر وبين المرتد الذي آمن ثم كفر -الكفر الطارئ- لهذه الاعتبارات وليست تصنيفا جديدا أو إحداث دار ثالثة أو أكثر.

أما بخصوص دار الذمة فهذا مصطلح لا وجود له في الشرع إذ أن أهل الذمة هم غير المسلمين من يهود ونصارى ومجوس الذين يعيشون في دار الإسلام تحت سلطان المسلمين فليس لهم دار مستقلة فمعنى قولهم هذا هو دار ذمة في دار الإسلام وهذا التناقض بعينه.

الـردة والمرتـدون

إن هذه المصطلحات هي مصطلحات شرعية المراد منها حقائقها الشرعية لأن المصطلحات الشرعية يترتب عليها عمل وحكم فإذا اختل المراد الشرعي من المصطلح اختل العمل والحكم.

فالمرتد في الشرع: هو من تحقق إيمانه ظاهرا ثم رجع عن الإيمان إلى الكفر لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(المائدة:54), فالخطاب لأهل الإيمان خاصة فالله تعالى يحذرهم عن العودة عن إيمانهم إلى الكفر ولذلك قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُم ْ(محمد:25), فالردة لا تنتقل من جيل إلى جيل فمن ارتد عن الإسلام ونشأ أبناؤه على ردته لا يقال عنهم مرتدون بل هم كفار والأصل فيهم الكفر لأنهم لم يؤمنوا ثم رجعوا عن الإيمان, وعليه فإن الردة حصلت في الأمة من أجيال مضت وعاش أجيال ورثوا الكفر - فالردة لا تورث – وحال الحكام كحال عامة الناس من حيث هذا الأمر, ف البلاد التي تسمى إسلامية قد غاب الإسلام عنها منذ عشرات السنين والخلافة الإسلامية سقطت منذ مائة عام تقريبا وبذلك أختفت دار الإسلام حتى اسميا منذ ذلك الوقت ولم يحكم بالإسلام في أي بقعة على الأرض ما عدى أفغانستان أيام حكم طالبان مع ملاحظات عليها.

القوانـين الوضـعية

يتبادر إلى الذهن عند الكثيرين أن هذا اللفظ نسبة للموضوع من الشيء من قبل البشر وهذا المتبادر إلى الذهن وما اعتمده الكثيرون غلط فاحش إذ أن مصطلح الوضعية نسبة إلى الوضع الذي هو أحد نوعي الحكم فالحكم في المصطلح الشرعي: هو خطاب الشارع للمكلفين بالاقتضاء والوضع والتخيير,فالأحكام إما تكليفية وإما وضعية سواء كانت من عند الله عز وجل أو من عند غيره, فالتكليفي هو الواجب والحرام والمباح والمكروه والمندوب,والوضعي ترتب حكم من الأحكام التكليفية لورود سبب أو انتفاء مانع أو تحقق شرط, فالشرائع إما:

1- شعائر يتقرب بها العبد إلى الله تعالى وهذا لا يكون إلا في الشرع الرباني والأصل فيه التوقف أما في الشرائع الطاغوتية فهي مطلقة.

2- الأشياء في الشرع الرباني الأصل فيها الإباحة إلا إذا ورد نص التحريم , وأما في شرع الكفار فإن الأصل في تشريعاتهم وأحكامهم التحريم والمنع ثم يصدروا أحكامهم بالوضع فمثلا قيادة السيارة حلال في شرع الله تعالى أما عندهم فليس الأصل الإباحة وإنما يباح قيادتها بشرط الحصول على تحليل منهم بالكيفية التي وضعوها وهكذا كل ما أحله الله تعالى حرموه ولا يُفعل إلا بتحليل منهم إذا تم تحقيق شرط أو ورد سبب أو انتفى مانع, وأما ما حرمه الله تعالى فالأصل فيه الإباحة عندهم.فلا فرق في الأحكام التكليفية أو الوضعية من حيث الأحكام الشرعية المترتبة عليها فهي سواء.

المنتـسبون للإسـلام

من المقرر والمعلوم بالضرورة عند أهل العلم المعتبرين أن الأحكام الشرعية مترتبة على مصطلحات شرعية بينها الله عز وجل في كتابه أو بينها رسوله عليه الصلاة والسلام أما إذا كان المصطلح لم يرد في القرآن ولا في السنة فلا يقبل ولا يرد حتى يعلم مراد قائله فإن وافق مرادا شرعيا قبلناه وإن كان غير ذلك رددناه ومن هذه المصطلحات مصطلح المنتسبين للإسلام , علما بأن هذا من المصطلحات المتعلقة بالأحكام, والحكم في الإسلام إنما يكون بناءً على الظاهر فالإنسان إما مسلم وإما كافر حتى يتم التعامل معه حسب حكمه فهذا المصطلح (المنتسبون للإسلام) ماذا يقصد منه هل هم مسلمون أم غير مسلمين؟ فإن كانوا مسلمين فقد أبتدع في الدين مصطلحا محدثا بديلا عن المصطلح الشرعي وفي هذا كفاية لرده وإن كانوا غير مسلمين فلا بد من إيراد سبب التسمية .

فبخصوص هذا اللفظ فإن أول من استعمله هو شيخ الإسلام ابن تيمية وتابعه عليه تلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى ويقصد به من يحكمون على أنفسهم بالإسلام ولكنهم تدينوا بالعقائد الفاسدة المناقضة للإسلام أو حرفوا الدين ونسبوه إلى الإسلام فهو هنا قد جمع بين أمرين فكأنه يقول أن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالمسلمين وهم في الحقيقة كفار إنما ينتسبون انتسابا وليسوا من المسلمين وإليك أقوالهم التي تبين حقيقة قولهم – فإذا أراد طالب العلم أن يستخدم مثل هذه المصطلحات فلا بد أن يستخدمها بمعناها الذي قاله واضعه لا أن يأت ويلبس على الناس:

1- والعلماء ينكرون على من يقول أن روح الإنسان قديمة أزلية من المنتسبين إلى الإسلام أ.هـ النبوات 1/63.ومن يقول بذلك فهو كافر,

2- وكذلك الذين يدعون المخلوقين من الأنبياء والملائكة قد يتمثل لأحدهم من يخاطبه فيظنه النبي أو الصالح الذي دعاه وإنما هو شيطان تصور في صورته أو قال أنا هو لمن لم يعرف صورة ذلك المدعو وهذا الشر يجري لمن يدعو المخلوقين من النصارى ومن المنتسبين إلى الإسلام يدعونهم عند قبورهم أو مغيبهم ويستغيثون بهم أ.هـ الحسنة والسيئة 1/56. ودعاء غير الله تعالى شرك.

3- وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون وقد ضاهاهم في ذلك أهل البدع والضلال المشبهون لهم من المنتسبين إلى الإسلام الذين يقولون نحو قولهم من الغلو في الأنبياء وأهل البيت والمشايخ وغيرهم ومن يدعي الوحدة أو الحلول أو الاتحاد الخاص المعين أ.هـ الجواب الصحيح 3/185.وهؤلاء كفار.

4- وقد صنف بعض المنتسبين إلى الإسلام في مذهب المشركين من الصابئة والبراهمة كتبا في عبادة الكواكب توسلا بذلك زعموا إلى مقاصد دنيوية من الرئاسة وغيرها أ.هـ اقتضاء الصراط المستقيم 1/64.وهذا شرك وكفر.

5- المنافقون من هذه الأمة الذين لا يقرون بألفاظ القرآن والسنة المشهورة فإنهم يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون هذه أمثال ضربت لنفهم المعاد الروحاني وهؤلاء مثل القرامطة الباطنية الذين قولهم مؤلف من قول المجوس والصابئة ومثل المتفلسفة الصابئة المنتسبين إلى الإسلام وطائفة ممن ضاهوهم من كاتب أو متطبب أو متكلم أو متصوف كأصحاب رسائل إخوان الصفا وغيرهم أو منافق وهؤلاء كلهم كفار يجب قتلهم باتفاق أهل الإيمان أ.هـ مجموع الفتاوى 4/314.

6- وفي كتب السحر والسر المكتوم من هذا عجائب ولهذا كلما كان الساحر أكفر وأخبث وأشد معاداة لله ولرسوله ولعباده المؤمنين كان سحره أقوى وأنفذ ولهذا كان سحر عباد الأصنام أقوى من سحر أهل الكتاب وسحر اليهود أقوى من سحر المنتسبين إلى الإسلام أ.هـ بدائع الفوائد 2/460.أليس من يتعامل بالسحر حكمه الكفر وأنه كافر؟!

7- وفرقة أنكرت وجودهما بالكلية وقالت لا وجود لنفس الآدمي سوى هذا الهيكل المحسوس وصفاته وأعراضه فقط ولا وجود للجن والشياطين سوى أعراض قائمة به وهذا قول كثير من ملاحدة الطبائعيين وغيرهم من الملاحدة المنتسبين إلى الإسلام وهو قول شذوذ من أهل الكلام الذين ذمهم السلف وشهدوا عليهم بالبدعة والضلالة أ.هـ بدائع الفوائد2/470.أليس الملاحدة كفارا ؟!

فها هم رحمهم الله تعالى يبينون بكل وضوح ولا يلبسون على الناس بأن قولهم المنتسبون للإسلام يعنون به من نسب نفسه للإسلام ولكنه جاء بقول أو فعل مكفر بمعنى عبادة غير الله تعالى وأنه مشرك.

شبــهات وردود

الشبـهة الأولى: كلام ابن تيمية فيما يتعلق بالأحبار والرهبان.
قالوا إن ابن تيمية يرى طاعة الأحبار والرهبان ( وقد عُبدوا من دون الله) مثل طواغيت العصر وأن طاعتهم تنقسم إلى طاعة في الكفر وطاعة في المعصية دون الكفر وطاعة في المباح.

أقول:

أولا: أما إن ابن تيمية يرى أن الأحبار والرهبان عُبدوا من دون الله فهذا هو منطوق الآية فهي ليست رؤية يختص بها ابن تيمية فقوله تعالى : اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (التوبة:31) واضح صريح بل هو من أقوى الدلالات.

ثانيا:أما أنه يقول بتقسيم طاعة الأحبار والرهبان المعبودين من دون الله إلى ثلاثة أقسام :كفر ومعصية ومباح فهذا إفتراء عليه فقوله واضح بين صريح وهو أنهم على قسمين فمعنى ذلك أن طاعة الأحبار والرهبان تتردد بين الكفر والمعصية , وعلى هذا يسقط قولهم الطاعة في المباح , فهل غيرهم من الطواغيت ينطبق عليهم قوله ؟ الجواب قطعا وجزما النفي.
ثالثا: أما أنه يراهم كطواغيت العصر فهذا فهم لم يصرح به أي: أنه لم يعمم ويقول: وهؤلاء الذين أُتُخِذوا معبودين من دون الله على وجهين , وإنما قوله واضح وصريح وأنه متعلق بالأحبار والرهبان خاصة وهذا هو منطوق الآية, فمن أراد أن يكون ما فهمه من كلامه رحمه الله هو المقصود مع أنه لا دلالة عليه فنسأله هل قول ابن تيمية المتعلق بالأحبار والرهبان ينسحب على غيرهم ؟ وما الفرق بين الأحبار والرهبان وغيرهم ,مع أنه قد تم توضيح ذلك في الكلام على أقسام الطواغيت ؟.
أقول :
أ- هناك مقدمات لا بد من التذكير بها وهي :
- إن هذا القرآن بلسان عربي ولا يفهم إلا من خلال ما دلت عليه اللغة العربية من حيث قواعدها وأصولها قال تعالى: وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (الأحقاف:12), وقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ (الرعد:37).

- إن هذا القرآن مشتمل على الإعجاز من حيث الدلالة ففيه النص وفيه الظاهر وفيه المجمل وفيه العام والمقيد إلى آخر ذلك ولا يفهم كله على نحو واحد بل لا بد من التعامل مع ألفاظه ومعانيه بدقة لأن الخلل في ذلك يقلب الحق باطلا وهو من أنواع التحريف ولذلك لا بد من التدبر وبدون التدبر لا يمكن أن تستقيم الأفهام قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (ص:29).

- إن الأدلة الشرعية هي قول الله تعالى وقول رسوله عليه الصلاة والسلام وأما غير ذلك فليس بدليل وإنما تبع يجب أن يكون مستندا إلى دليل شرعي ولا يكون مستقلا أي: من رده ليس بكافر ولا فاسق ويبحث فيه من حيث سبب الرد، قد يقول قائل: لا أستدل بكلام ابن تيمية ولكن للإعتضاد والاستئناس...أ.هـ
أقول: إن هذا القول غير صحيح لأن الاستئناس شيء والإستدلال شيء آخر, فالاستئناس هو إيراد قول العالم للدلالة على أن ما دل عليه الدليل موافق للدليل، وأما الإستدلال فهو التعامل مع قول العالم كالتعامل مع الدليل من حيث أوجه الاستدلال فالقول:أن الأحبار والرهبان قد عُبدوا من دون الله مثل طواغيت العصر أ.هـ هو تعميم لقوله بناء على مفهوم فهمه القائل من قول شيخ الإسلام والمفاهيم هي من الاستدلال وليس من الاستئناس.
والقائلون بهذا القول قاموا بقياس طواغيت العصر على الأحبار والرهبان وجعلوهم نوعا واحدا لا فرق بينهما وهذا وجه استدلال وليس استئناس مع أن أصول القياس هي: الجمع بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات فالقياس يكون على العلة لا على الأشخاص فلو عرفت حقيقة العلة وقيس عليها لاستقام لهم الأمر فلا يعني كونه مُتَّخذ ربا أن يعمم على كل من اتخذه الناس ربا لأن العلة هي كيفية اتخاذه ربا والتعامل معه من منطلق ربوبيته.
ب - إن قول ابن تيمية رحمه الله متعلق بالأحبار والرهبان وهذا نص كلامه وهو موافق لنص الآية لا خلاف في ذلك فإذا كان حديثه عن الأحبار والرهبان فلا يجوز تحريف كلامه وجعله في غيرهم من حيث المنطوق, فهل نقول على هذا: انه يجوز طاعة الأوثان والأصنام و حكم طاعتها تنقسم إلى كفر ومعصية دون الكفر ومباح كما قال ابن تيمية عن القسم الثاني بناء على الاشتراك في الوصف وهو الطاغوتية أو العبادة لهم, فقائل هذا القول إما مجنون وإما كافر إذ أنه أباح طاعة الأوثان .
فكما أنه لا يجوز الاستدلال بالزواج من الوثنيات أو المرتدات قياسا على الزواج من الكتابيات للاشتراك في الحكم وهو الكفر فالعلة هي ليست كونهن كافرات بل كونهن كتابيات وهي مختصة بهن لا عموم لها من حيث الكفر وهذا يسمى تنقيح المناط وعليه:
فالأحبار هم العلماء والرهبان هم العباد من أهل الكتاب الذين عندهم أصل الأفعال والأقوال الشرع الرباني أو يفعلون أفعالهم تقربا إلى الله تعالى بمعنى ينسبون الأقوال والأفعال إلى الشريعة المنزلة من عند الله عز وجل ويقصدون بذلك التدين وعليه فكلمة راهب وحبر لا يفهم منها الرئيس الروسي أو الرئيس الصيني أو الحكام في هذا العصر لأن هذه الكلمة لها معنى مختص بها لا يتعداه إلى غيره , وعليه فإن الآية دلالاتها دلالة منطوق بحق من يتخذ العلماء والعبّاد من أصحاب الكتب السماوية - سواءً توراة أو إنجيل أو قرآن- أربابا, وجاء البيان النبوي تفسيرا لكيفية اتخاذهم أرباب من دون الله تعالى بقوله عليه الصلاة والسلام: أحلوا لكم الحرام وحرموا عليكم الحلال () فهنا الربوبية مقيدة بأمرين:
- أنها مختصة بالأحبار والرهبان
- أنها في التحليل والتحريم المنصوص عليه في الشرع وهو مقيد بتغيير أحكام الله تعالى استنادا إلى أنهم أحبار ورهبان- أي بالرد إلى الشرع - سواء بتأويل فاسد أو هوى أو شهوة أو غير ذلك، ومن المعلوم أن الربوبية غير مقيدة بهذا فقط فربوبية الأحبار والرهبان غير ربوبية الحكام وكل ذلك عبادة لغير الله تعالى وكفر وشرك فالأحبار والرهبان صاروا معبودين من خلال سلطان العلم والتقرب إلى الله والحكام صاروا معبودين من خلال سلطان القوة والمال والرد إليها أو إلى أنفسهم أو الأوثان كما قال تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (البقرة:258)وقال تعالى عن عاد: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ(فصلت:15), وقال عن فرعون : وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (الزخرف:51),فالطاغوتية تنقسم إلى قسمين من حيث التشريع:
الأول: إما بحسب ذات المشرع وهو أن يجعل نفسه مصدر التشريع فعندها لا فرق بين أمر وأمر وهذا متعلق بالحكام والسلاطين ومن ينوب عنه وهنا ينتفي التقسيم وهذا بحسب الآمر.

الثاني: إما بحسب ذات الأمر من حيث الأمر بالكفر والأحبار والرهبان من هذا النوع وهو سلطان العلم أو الشهوة ونحوه.
فعلة العبادة للأحبار هو التأويل الفاسد ردا إلى الشر ع أو الرد إلى غير الشر ع فهم وغيرهم من الطواغيت البشرية يشتركون بعلة واحدة هي الرد إلى غير الشرع, سواء بالتبديل أو الإختراع.
ج - أما بخصوص قول ابن تيمية رحمه الله فإن أي عالم رباني لا يمكن أن يقول قولا بلا دليل أو برهان وأقوالهم مستندها الأدلة الشرعية, بأحد الدلالتين: إما دلالة المنطوق أو دلالة المفهوم.
فالقسم الأول الذي بينه رحمه الله هو من دلالة المنطوق وهو قوله تعالى : اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ () وهذا واضح لا إشكال فيه .
أما القسم الثاني فليس في الآية نص يدل عليه من حيث دلالة المنطوق,لأن دلالة المنطوق إما النص أو الظاهر على تقسيمات تجدها في أصول الأحكام فلا النص ولا ظاهره يدل على المعصية فقوله تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ ()لا يحتمل إلا قسما واحدا حكمه واحد هو الشرك والعياذ بالله فلا أحد ممن يستدل بهذه الآية أو بقول ابن تيمية يقول أن اتخاذ الأرباب من دون الله يكون معصية دون الشرك فهذا القسم منطوق قوله تعالى : أربابا من دون الله (), فيبقى دلالة المفهوم وينقسم إلى قسمين:
- مفهوم موافقة وهو على قسمين:فحوى خطاب ويكون أولى بالحكم من المنطوق ولحن خطاب ويكون مساويا للمنطوق وقطعا هذا القسم غير متعلق بمفهوم الموافقة لقوله تعالى: أربابا من دون الله.
- مفهوم المخالفة: أيضا هذا غير متعلق به لأنه اثبت لهم معصية ومفهوم المخالفة أن لا معصية , فمن أين جاء ابن تيمية رحمه الله بهذا القسم ؟
أقول : فقوله رحمه الله مستنبط من قوله تعالى : أحبارهم ورهبانهم (), وقوله عليه السلام : أحلوا لكم الحرام وحرموا عليكم الحلال, فالحبر والراهب(وهم من يردون أفعالهم وأقوالهم للشر ع الرباني صحة أو فسادا), لهم إحدى حالتين:

الأولى: إما أن يأمر بمخالفة شرعية ويكون مغيرا للحكم فيها فيتبعه ويطيعه الناس على هذا التغيير فيكونوا قد اتخذوه ربا من دون الله.
الثانية: أن يأمر بمخالفة شرعية ولا يكون مغيرا للحكم فيها فيكون من أطاعه فيها قد أطاعه في معصية وهذا هو قوله: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتا, لكن أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصي فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب أ.هـ , فكلامه متعلق بالاعتقاد فقط وهو قطعا وجزما ممن لا يقيدون الكفر بالاعتقاد فقط وإنما هو على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من أن الكفر يكون قولا وعملا ظاهرا وباطنا وبما أن كلامه متعلق بالإعتقاد- وهذا نص كلامه - فمعنى ذلك أنه يتكلم عن شيء مخصوص وهو تفصيلات الشريعة أي:كيفية اتخاذ الأرباب من دون الله تعالى لمن كان الأصل عنده الرد إلى شرع الله تعالى وليس فيمن أصل الرد عنده إلى غير شرع الله تعالى, فحاصل المسألة أن يكون كلام ابن تيمية رحمه الله راجع إلى :

- طاعة الأحبار والرهبان في الأمر تبعا لمخالفة الحكم وهذا هو الكفر.

- طاعة الأحبار والرهبان في الأمر في الفعل دون الحكم وهذا هو المعصية.

فكلامه متعلق بتفصيلات الشريعة بنص واضح صريح وهي المعاصي التي يفعلها المسلم ويبقى على إسلامه وليس بما هو كفر أصلا فأين النص الصريح الذي ينص على أن طاعة الطاغوت معصية دون الكفر أو أن هناك تقسيم لطاعة الطاغوت سواء للأوامر أو الشرائع وأنه كفر ومعصية وحلال.

الشبـهة الثانية: القول أن الأنبياء أطاعوا الكفار في بعض الأوامر وبنص كتاب الله تعالى.

ومن ذلك قوله تعالى: قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى، فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى، قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (طه:57-59), وقوله تعالى: َفلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (يوسف:31), ونحوها. أ.هـ
أقول : غاية ما يستدل به القائل انه يستدل بصيغة طلب الفعل وهذه الصيغة ظنية ولا يترتب الحكم إلا على معناها لأنها تحتمل أكثر من معنى فلصيغة طلب الفعل اثنان وثلاثون معنى فتدخل في اللفظ المجمل ولا يقرر لها معنى إلا بحسب القرينة سواء كانت ذاتية أو خارجية والصيغة المتعلق بها الأحكام الشرعية هي : على سبيل الإلزام أو الاستعلاء وتشتمل على الآمر والأمر والمأمور به, فالحكم عليها لأول وهلة كونها صيغة طلب فعل من الجهل المبين وقائله جاهل بأبسط قواعد التعامل مع النصوص الشرعية, فقول فرعون لموسى: اجعل بيننا وبينك موعدا (), طلب فعل بمعنى التحدي وليس على سبيل الاستعلاء والإلزام, مع أنهم اعتبروا قول يوسف عليه السلام للملك :اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ الآية (يوسف:55), من باب الطلب من أدنى إلى أعلى بمعنى الدعاء ( التوسل) فلماذا لم يفسروا قوله عليه السلام على انه أمر للملك كما فسروا نفس اللفظ الذي قاله فرعون على أنه أمر.

وأما بخصوص يوسف عليه السلام فقد كان معلوم العقيدة وكان يظهر ذلك وكانت امرأة العزيز ومن معه يعلمون ذلك وكل ما في الأمر انه كان ربيبها في بيتها وهم بمثابة الأهل له وهي كافرة وهو مسلم وأنها حادثة فعل لا يقاس عليها إلا صورتها بالاعتبارات الشرعية فليس في الأمر طاعة طواغيت ولا تشريع مستند إلى غير شرع الله ولا تشريع مستند إلى الأوثان .
فلا ادري على أي قاعدة شرعية وفهم صحيح يستندون إليه وكل همهم أن يثبتوا أن الأنبياء أطاعوا الطواغيت ليجعلوا من ذلك دليلا شرعيا محكما على جواز طاعتهم والذي معناه هدم الدين من أصله علما بأن النصوص الشرعية وردت بالنهي عن طاعة الكفار صريحة واضحة من ذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (الأحزاب:1), فالطواغيت من باب الأولى والذي جاء بحقهم نص عام باجتنابهم والبعد عنهم واعتزالهم وهو أشد من النهي وأبلغ وهذا أيضا من طرق أهل الضلال في التعامل مع الشرع بحيث يأخذون من النصوص ما يرونه موافقا لآرائهم وأهواءهم ويضربون بالنصوص المحكمة عرض الحائط ولو كان عندهم أبسط قواعد الفقه لجمعوا بين النصوص وترتب على ذلك الخروج بنتيجة شرعية وهي أن هذه النصوص بحق أفعال مخصوصة لا عموم لها ولا يستدل بها إلا على صورتها هذا إذا لم يفهم حقيقة الصورة علما بأن أفعال الأنبياء قائمة على أمرين:

الأول: اجتناب الطاغوت.
الثاني: أنهم هم المطاعون وليسوا مطيعين, لقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً (النساء: 64), وقوله تعالى عن كل رسول: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (الشعراء:163).
فقائل هذا القول وقع في جهله لأصل الدين وكيفية التعامل مع الأنبياء وفي تحريف الأدلة الشرعية والقاعدة في وصف طلب الفعل انه أمر إنما يكون على اعتبارات :
الأول: الآمر بأن يكون الآمر يطلب الفعل من مصدر الأمر وهو الإلزام أو الاستعلاء.
الثاني: نفس الأمر بانتفاء الأول وهو أن يكون معصية أو كفرا.
الثالث: المأمور به وهو بانتفاء الاعتبارين ويكون مما هو في الأصل مباحا ولكن لاقترانه بمعصية أو كفرا ينتقل حكمه بحسبه.

الشبـهة الثالثة: جعل أصل التوحيـد مجملا
إن الله تعالى جعل التوحيد كما جاءت به الرسل بقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ.. الآية, فالتوحيد عند الله تعالى هو عبادته واجتناب الطاغوت وهذا النص بكل المقاييس الشرعية الأصولية محكم واضح لا لبس فيه غير متشابه بمعنى أنه لا يحتمل معنيين ولكنه عند البعض يحتمل عدة معاني.

- قال البعض عن العمل مع الحكومات الطاغوتية: فالذي قلناه ونقوله: أننا نحب للأخ الموحد أن يكون بعيداً عن هذه الحكومات من باب كمال اجتنابه لها،ولا شك أن منهاج حياة كل موحد هو قوله تعالى: أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت (), فذلك معنى (لا إله إلا الله) لكن منه ما هو شرط للإيمان وتركه ناقض للإيمان كاجتناب عبادة الطاغوت واجتناب التحاكم إليه مختاراً واجتناب حراسة تشريعاته وقوانينه الكفرية أو القسم على احترامها ونحو ذلك..ومنه ما هو من كمال الإيمان وتركه ناقص للإيمان وليس بناقض للإيمان كيسير الركون والمداهنة أو تكثير سواد ظلمهم ونحو ذلك من المعاصي.أ.هـ

أقول :

1- بما أن هذه الحكومات طاغوتية- كونها تأمر بغير أمر الله ورسوله وتحكم بغير حكم الله ورسوله وتتبع غير شرع الله وتعمل على تثبيت غير شرع الله تعالى- فلا بد من التعامل معها بناء على حقيقة وصفها وأن القائمين عليها هم سدنتها فهل في دين الله تعالى إباحة للعمل في بيوت الآلهة المعبودة من دون الله تعالى ؟! فهذا أوضح الواضحات.

من الذي يقرر أن الاجتناب فيه أصل لا يصح الإيمان إلا به, وكمال اجتناب قد يكون حلالا – والكمال متعلق بالمستحبات التي يكون فاعلها ممدوحا وتاركها مذموما – وهنا يرد السؤال إذا كان للاجتناب أصل وكمال فمعنى ذلك أن له واجب الوقوع فيه ذنب لا يخرج من الملة فما هو؟ وكيف نفرق بين الأصل الناقض وبين الواجب الموجب للاثم وبين المكروه الذي من اجتنبه فهو ممدوح ومن وقع فيه ليس بمذموم لأنهم يقولون: ولذلك نكره للموحد العمل في أي وظيفة حكومية.. لكن الكراهة شيء والحرمة أو الكفر شيء آخر.. فلا يجوز لطالب الحق أن يخلط بين هذا وهذا أ.هـ فهم يفرقون بين الكراهة والحرمة والكفر, والتقسيم إلى أصل وواجب وكمال إنما يكون بحق الأفعال (الإثبات, أي: الأوامر), وليس بحق النهي - علما بأن العلماء قالوا عن الإيمان: له أصل وواجب ومستحب ولم يقولوا عن اجتناب الطاغوت أن له ناقض وما يستوجب الذم ومكروها فهذا تقسيم بدعي لا يعرف في الأمة سلف قال به-والاجتناب أشد من النهي مع أن قولهم هذا هو التناقض بعينه إذ أن الاجتناب في الشرع متعلق بما هو كفر وحرام فقط وليس دون ذلك أي: بقسمين لا ثالث لهما فوقعوا في تحريف الكلم من بعد مواضعه إذ أن المصطلح الشرعي لا يحدد المراد منه إلا الله تعالى ورسوله عليه السلام ويقتضي من هذا القول أحد أمرين:

الأول: الكراهة لها صورتان:

- الأفعال التي أقرها الشرع وورد بحقها نهي مقيد وما يتعلق بالطاغوت لا يدخل في ذلك قطعا وجزما.

- النواهي دون الكفر وورد بحقها قرينه تصرفها عن التحريم إلى ما دون التحريم , بينما عدم الاجتناب الأصل فيه أنه كفر أكبر مخرج من الملة ولا يوجد تأصيل شرعي يقرر بأن الكفر المخرج من الملة يمكن أن يرد بحقه نصوص تصرفه عن الكفر إلى الحرمة ناهيك عن الكراهة وهذا يقتضي أن يرد نص يصرف الاجتناب إلى التحريم وأن يرد بعد ذلك نص يصرف التحريم إلى الكراهة وهذه بدعة لم ترد في ملة من الملل مما ترتب على ذلك هدم لأصل الدين مع أن العلماء قالوا بحق الكراهة ما يلي:

1- المكروه ما استحق تاركه الثواب ولم يستحق الفاعل عليه العقاب وهذا الذي يسميه الفقهاء بأنه مكروه تنـزيها ويسمونه خلاف الأولى وأما المكروه كراهة حظر فإنه داخل في قسم الحرام وليس قسما مستقلا أ.هـ إجابة السائل شرح بغية الآمل134- 35.

2- وكذلك إن نسخ التحريم فإن كان نسخه بلفظ افعل انتقل إلى الفرض لأن هذه صيغة الفرض وإن نسخ بلا جناح أو بتخفيف انتقل إلى أقرب المراتب إليه وهي الكراهة وإذا نسخت الكراهة أو الندب بلفظ افعل انتقل إلى أقرب المراتب إليه وهي الكراهة وإذا نسخت الكراهة أو الندب بلفظ افعل انتقلا إلى الفرض فإن نسخا بلفظ لا تفعل انتقلا إلى التحريم فإن نسخا بتخفيف انتقلا إلى الإباحة المطلقة لأن الإباحة أقرب إليهما من الفرض والتحريم لأن المكروه والمندوب إليه مباحان ولكنهما معلقان بشرط أ.هـ الإحكام لابن حزم 4/482.فأين النص الشرعي الذي يأمر بالعمل مع الطاغوت لينتقل حكمه من الحرمة إلى الكراهة ؟

3- وأما في الشرع فقد يطلق ويراد به - أي:المكروه - الحرام وقد يراد به ترك ما مصلحة راجحة وإن لم يكن منهيا عنه كترك المندوبات, وقد يراد به ما نهي عنه نهي تنـزيه لا تحريم كالصلاة في الأوقات والأماكن المخصوصة, وقد يراد به ما في القلب منه حزازة, وإن كان غالب الظن حله كأكل لحم الضبع أ.هـ الإحكام للآمدي1/ 166.

وقال تعالى كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ( الإسراء 38 ) وفي الصحيح إن الله عز وجل كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال فالسلف كانوا يستعملون الكراهة في معناها الذي استعملت فيه في كلام الله تعالى ورسوله ولكن المتأخرون اصطلحوا على تخصيص الكراهة بما ليس بمحرم وتركه أرجح من فعله ثم حمل من حمل كلام الأئمة على الاصطلاح الحادث فغلط وأقبح غلطا منه من حمل لفظ الكراهة أو لفظ لا ينبغي في كلام الله ورسوله على المعنى الاصطلاحي الحادث وقد اطرد في كلام الله ورسوله استعمال لا ينبغي في المحظور شرعا أو قدرا وفي المستحيل الممتنع كقوله تعالى: وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا( مريم 92 ) وقوله: وما علمناه الشعر وما ينبغي له ( يس 69 ) وقوله: وما تنـزلت به الشياطين وما ينبغي لهم (الشعراء 210 -211 ) وقوله على لسان نبيه كذبني ابن آدم وما ينبغي له وشتمني ابن آدم وما ينبغي له وقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام وقوله في لباس الحرير: لا ينبغي هذا للمتقين, وأمثال ذلك والمقصود من ذلك أن المجتهد إذا رأى دليلا قطعيا بحل أو حرمة صرح بلفظ الحل أو التحريم وإذا لم يجد نصا قاطعا فاجتهد واستفرغ وسعه في معرفة الحق فأداه اجتهاده إلى استنباط حكم تحاشى إطلاق لفظ التحريم وأبدله بقوله أكره ونحوه ويقصد بذلك معناه المفهوم من الكتاب والسنة لا معناه الذي اصطلح عليه المتأخرون وكذلك لا يجوز تنـزيل كلام الله ورسوله على الاصطلاحات الحادثة وإنما تنـزل على مقتضى ما كان يفهمه الصحابة من المعنى اللغوي لا غير وعلى الحقيقة الشرعية فافهم هذا فإنه هداية واستبصار وبيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أ.هـ المدخل 1/130-131.

وبهذا جعلوا أصل الدين مبهما لم توضحه النصوص الشرعية ومحل اجتهاد ومعلوم أن الاجتهاد يكون فيما لم يرد به نص مع أن ذكر الكراهة بالمسائل المتعلقة بالطاغوت لا تدخل في التأصيل الوارد في كلام العلماء ولا مخرج من هذا القول إلا وهو:

الثاني: أن القول بالكراهة يجعل الأصل في عدم اجتناب الطاغوت هو الحرمة وليس الكفر وأن هناك نصوص وقرائن تصرفه عن الحرمة إلى الكفر أو إلى الكراهة وهذا هدم لأصل الدين ودعوة المرسلين , والقائل يلزمه - وهو لازم -أحد الأمرين لا محالة إلا أن يرجع عن قوله.

1- ما هو الضابط الذي يعتمدونه حسب قولهم ويحدد أن هذا من كمال الاجتناب جائز فعله وأن ذلك موجب للاثم أو من النواقض وهو كفر, فهذه بدعة جعلت أصل الدين من الألغاز وخاضع للتأويل الباطني وعرضة للآراء والهوى, فمن يحرس هذه القوانين ومن يقسم على احترامها يكفر, وأما من يعمل بها ويطيعها فهو مؤمن ولا شيء عليه؟!!

2- قولهم: واجتناب التحاكم إليه مختارا.ًأ.هـ كلام غير صحيح وغير دقيق لأنه حمال أوجه لأن صور عدم الاختيار متعددة فمنها الإكراه ومنها الاضطرار وهذا الإبهام مسوغا للقول بجواز التحاكم اضطرارا أو غير ذلك مع أن التحاكم صورة من صور عبادة الطاغوت.

3- قولهم : كاجتناب عبادة الطاغوت واجتناب التحاكم إليه مختاراً واجتناب حراسة تشريعاته وقوانينه الكفرية أو القسم على احترامها ونحو ذلك أ.هـ فقائل هذا القول يفرق بين اجتناب عبادة الطاغوت وبين التحاكم إليه وبين حراسة تشريعاته والقسم عليها واحترامها مع أن كل ذلك صور من عبادة الطاغوت وكله داخل في عموم معنى العبادة والظاهر أن قائل هذا القول لا يدري كيف يكون الطاغوت معبودا, مع أنهم يجادلون ويقولون أن المقصود باجتناب الطاغوت والذي هو كفر إنما هو عبادته وعلى هذا فإن التحاكم إلى الطاغوت وحراسة تشريعاته والقسم عليها ليست عبادة له أو أن هناك كفر أكبر ليس بعبادة لغير الله تعالى أو هي ذنب ( إن كانت ذنب عندهم) دون الكفر يحتمل الكفر وغيره مع ما يترتب على هذا القول من تمييع للدين.

4 - قولهم : فكما أن الكفر بالطاغوت يستلزم اجتنابه والكفر به والبراءة من أوليائه وتكفير عابديه وأنصاره أ.هـ. فانظر إلى قولهم الكفر بالطاغوت يستلزم اجتنابه والكفر به فهل يعقل أن الكفر بالطاغوت يستلزم الكفر به وهذا كلامهم بنصه مع أنهم يعتقدون أن لازم المذهب ليس بلازم- وهذا ليس على اطلاقه-فلم يبينوا كيف يكون الإنسان عابدا للطاغوت على شكل قاعدة عامة واضحة يُميز بها ما هو عبادة وما ليس بعبادة لأن الشرك إنما يكون بعبادة غير الله تعالى والإنسان في كل فعل إما أن يكون عابدا لله أو عابدا لغيره وليس ثمة شيء ثالث, يقول ابن تيمية رحمه الله: ولهذا كان كل من لم يعبد الله وحده فلا بد أنه يكون عابدا لغيره يعبد غيره فيكون مشركا وليس في بني آدم قسم ثالث بل إما موحد أو مشرك أو من خلط هذا بهذا كالمبدلين من أهل الملل النصارى ومن أشبههم من الضلال المنتسبين إلى الإسلام أ.هـ الحسنة والسيئة 1/56.

5- أما ما أفتوا به من جواز العمل في الحكومات الطاغوتية فأنقل بعضا من أقوال الأئمة النجديين بينوا فيها أن ذلك كفر مخرج من الملة لأنه دخول تحت طاعة الكفار:

قال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف رحمه الله تعالى: والمقصود بهذا: ما قد شاع وذاع من إعراض المنتسبين إلى الإسلام - وأنهم من أمة الإجابة - عن دينهم وما خلقوا له وقامت عليه الأدلة القرآنية والأحاديث النبوية من لزوم الإسلام ومعرفته، والبراءة من ضده, والقيام بحقوقه، حتى آل الأمر بأكثر الخلق، إلى عدم النفرة من أهل ملل الكفر، وعدم جهادهم، وانتقل الحال حتى دخلوا في طاعتهم، واطمأنوا إليهم، وطلبوا صلاح دنياهم بذهاب دينهم، وتركوا أوامر القرآن ونواهيه، وهم يدرسونه آناء الليل والنهار.وهذا لا شك أنه من أعظم أنواع الردة، والانحياز إلى ملة غير ملة الإسلام ودخول في ملة النصرانية،عياذاً بالله من ذلك- فهو رحمه الله تعالى يتكلم عن مسألة أهون مما نحن فيه راجعها في موضعها- والدخول في طاعتهم، اتباع لملتهم، وانحياز عن ملة الإسلام... والآيات القرآنية في تحريم موالاة الكفار، والدخول في طاعتهم، أكثر من أن تحصر؛ ومن تدبر القرآن، واعتقد أنه كلام الله منـزل غير مخلوق، واقتبس الهدى والنور منه، وتمسك به في أمر دينه، عرف ذلك إجمالاً وتفصيلاً أ.هـ الدرر السنية كتاب الجهاد8/10-14.

6- أما ما اعتبروه من كمال الاجتناب وتركه ناقص للإيمان وليس بناقض للإيمان بقولهم :كيسير الركون والمداهنة أو تكثير سواد ظلمهم ونحو ذلك من المعاصي.أ.هـ فإليك أقوال أهل العلم في ذلك:

أ- أما الركون فقوله تعالى: وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ (هود:113), وهنا الركون عام ومتعلق بالشرك فالقليل حكمه حكم الكثير وهذا ما قرره علماء التفسير قال الطبري رحمه الله تعالى: يقول تعالى ذكره ولا تميلوا أيها الناس إلى قول هؤلاء الذين كفروا بالله فتقبلوا منهم وترضوا أعمالهم{ فتمسكم النار} بفعلكم ذلك وما لكم من دون من ناصر ينصركم وولي يليكم{ثم لا تنصرون}يقول:فإنكم إن فعلتم ذلك لم ينصركم الله بل يخليكم من نصرته ويسلط عليكم عدوكم...عن ابن عباس قوله:{ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}يعني:الركون إلى الشرك...عن أبي العالية في قوله:{ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا }يقول:لا ترضوا أعمالهم يقول: الركون الرضى.....قال ابن زيد في قوله : { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار } قال الركون الإدهان وقرأ : ( ودوا لو تدهن فيدهنون ) قال : تركن إليهم ولا تنكر عليهم الذي قالوا وقد قالوا العظيم من كفرهم بالله وكتابه ورسله قال : وإنما هذا لأهل الكفر وأهل الشرك وليس لأهل الإسلام أما أهل الذنوب من أهل الإسلام فالله أعلم بذنوبهم وأعمالهم ما ينبغي لأحد أن يصالح على شيء من معاصي الله ولا يركن إليه فيها أ.هـ التفسير 7 /123.فالركون إلى أهل الكفر كفر وأما المعصية في الركون فتكون بحق أهل المعاصي من المسلمين فالقائلون بهذا جعلوا المسلمين كالمجرمين والله تعالى يقول:أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ()مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (القلم:35- 36 )

ب- أما المداهنة فقد قال تعالى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (القلم:9).

قال ابن جرير رحمه الله تعالى: وأولى القولين- وهما الأول: ود المكذبون بآيات الله لو تكفر بالله يا محمد فيكفرون, الثاني: ودوا لو ترخص لهم فيرخصون أو تلين في دينك فيلينون في دينهم- في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : ود هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم فيلينون لك في عبادتك إلهك كما قال جل ثناؤه { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا * إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات } وإنما هو مأخوذ من الدهن شبه التليين في القول بتليين الدهن أ.هـ التفسير 12/182.فنجد بكل وضوح وصراحة أن ما ذكروه بأنه ليس بناقض للإيمان غير صحيح وتحريف للكلم من بعد مواضعه فها هم علماء الأمة يقررون بأنه ناقض للإيمان.

ج- أما تكثير سواد ظلم المشركين – وظلم المشرك هو الكفر لقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان :13) فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه: أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب عنقه فيقتل فأنزل الله { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } ورواه الليث عن أبي الأسود وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي حدثنا أبو أحمد يعني الزبيري حدثنا محمد بن شريك المكي حدثنا عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم فأصيب بعضهم بفعل بعض قال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } الآية قال عكرمة : فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الاية لا عذر لهم أ.هـ تفسير ابن كثير1/720. فالقائلون بهذا القول يخالفون إجماع علماء الأمة الذي هو سبيل المؤمنين بأن ما ذكروه ليس من باب المعاصي وإنما من باب الكفر والله تعالى يقول: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرا ً(النساء:115).

 

 

الشبـهة الرابعة: التفريق بين الكـفر والشـرك

لقد سبق بيان حقيقة هذه المسألة ونعلق هنا على بعض أقوالهم إذ أن حكم الشرك هو الكفر, فالكفر حكم وليس وصف لفعل كما يظنه الكثيرون بحيث قد يكون كالشرك مساويا له أو أغلظ منه, فالقائل بهذا لا يدري ما هو الشرك ولا يدري أن كل كفر مخرج من الملة هو عبادة لغير الله تعالى وأنه شرك حتى وصل بهم الأمر إلى تخطئة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى والافتراء عليه واتهامه بالجهل لأصل الدين وهو عدم العلم بحقيقة الكفر وأنه لا يقصد من لفظ الشرك المعنى الاصطلاحي فهلا بينوا لنا المعنى الاصطلاحي والمعنى اللغوي وهل الأحكام الشرعية إلا بناء على المعنى الاصطلاحي أي المعنى الشرعي؟ وهل ذكر أحد من علماء الأمة مصطلح الشرك وقصد به المعنى اللغوي ؟ فقالوا: الراجح أنّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - لا يريد في إطلاقه هذا "الشرك بمعناه الاصطلاحي" وهو: أن يجعل المرء لله نداً أو شريكاً في ألوهيته أو ربوبيته فهذا أخص من الكفر، ولو أراده الشيخ لكان قوله غير جامع لكثير من أنواع الكفر.. فأهل السنة يكفّرون ساب الله أو رسوله، ويكفّرون المستهزئ بشيء من دين الله، ويكفّرون المستهين بالمصحف، ويكفّرون قاتل الأنبياء ويكفّرون المشرّع مع الله ما لم يأذن به الله، ويكفّرون المعرض عن دين الله وغيرهم ممن لم يتخذوا مع الله آلهة أخرى.. أ.هـ

فقولهم : ولو أراده - أي:المعنى الاصطلاحي- لكان قوله غير جامع لكثير من أنواع الشرك.أ.هـ ,فهل يأتي شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ويخالف إجماع الأمة في أهم مصطلح وهو الشرك الذي هو أعظم الظلم ولا يدرك معناه الشرعي ؟!!!وهل كلامه رحمه الله تعالى إلا بموجب الشرع ومصطلحاته؟!!

وانظروا إلى دعاة التوحيد في هذا العصر حيث أنهم لا يدرون أن الكفر هو حكم فعل الشرك وليس وصفا للفعل ويقررون أن سب الله والرسول وقتل الأنبياء والتشريع مع الله أنه ليس من باب إتخاذ إله مع الله تعالى!!. فنبين لهم بأن سب الله تعالى والمستهزيء بدين الله تعالى هو إتخاذ إله مع الله تعالى فالاستهزاء شرك وكفر بنص قوله تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (التوبة:65) فحكم الله تعالى عليهم بأنهم كفار: لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ (66: التوبة), وبين تعالى أن المستهزئ مشرك بقوله تعالى:فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ(94) إنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96), ومن استهزأ بالله أو الرسول أو الإسلام فقد جعل مع الله إلها آخر ووصفه أنه مشرك , وقال الله تعالى في الحديث القدسي الذي يرويه عنه صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني ويكذبني وما ينبغي له. أما شتمه فقوله إن لي ولدا وأما تكذيبه فقوله ليس يعيدني كما بدأني أ.هـ فكما ترى أن من قال بأن لله ولد فقد شتم الله تعالى كالنصارى وغيرهم ومعلوم أن هؤلاء في كتاب الله تعالى مشركون.

إن الله تعالى قد حكم بنص محكم مفصل صريح بأن كل كافر قد جعل مع الله إلها آخر بقوله: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ(25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ(26,سورة ق), فمن يجهل حقيقة اتخاذ إله مع الله تعالى كيف يتصدر لدعوة التوحيد ومدار هذه الدعوة على ذلك لقوله تعالى: وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ (النحل: 51). فهم يعارضون الله تعالى ويحسبون أنهم مهتدون فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وبنفس الوقت يتهمون شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى بالقصور وعدم توضيح الأمور في أعظم مسألة في الدين ويدعون لأنفسهم القيام بسد الثغرة التي تركها هذا الإمام, فأصل التوحيد عندهم غير واضح وليس له ضوابط شرعية محددة بل تركوه مميعا مبها يحتمل وجوها عديدة ليكون عرضة للتلاعب به ومن كان هكذا فكيف يفتي في دين الله سبحانه؟!.

الشبـهة الخامسة: التفريق بين التـولي والمـوالاة

إن التفريق بين الموالاة والتولي بدعة منكرة أحدثها بعض من ينتسب إلى التوحيد في هذا العصر بحيث جعلوا التولي من الكفر وأما الموالاة فهي معصية دون الكفر وجعلوا ذلك قاعدة أصولية لا نقاش فيها مما ترتب على ذلك جعل قواعد الشرع في أصل الدين من المعضلات والمبهمات لا حدود له ولا ضوابط تتقاذفها الأهواء .

1- لن أعلق على هذا الموضوع ولكن أنقل كلام ابن تيمية وابن القيم الذي يقررون فيه أن هذين المصطلحين سواء لا فرق بينهما ويوردونهما موردا واحدا وفيهما الكفاية في رد هذه البدعة المنكرة إلا إذا كان الشيخان ليسا من أهل العلم المعتبرين والمعتمدين عند هؤلاء:

أ- وقال تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض () فأثبت الموالاة بينهم وأمر بموالاتهم والرافضة تتبرأ منهم ولا تتولاهم وأصل الموالاة المحبة وأصل المعاداة البغض وهم يبغضونهم ولا يحبونهم. أ.هـ دقائق التفسير 2/206.

ب- وقطع الموالاة بين اليهود والنصارى وبين المؤمنين وأخبر أنه من تولاهم فإنه منهم في حكمه المبين فقال تعالى وهو أصدق القائلين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(المائدة : 51 ).أ.هـ أحكام أهل الذمة 1/487.

ت- وقال زيد بن أسلم ظهيرا أي مواليا والمعني أنه يوالي عدوه علي معصيته والشرك به فيكون مع عدوه معينا له علي مساخط ربه فالمعية الخاصة لتي للمؤمن مع ربه وإلهه قد صارت لهذا الكافر والفاجر مع الشيطان ومع نفسه وهواه وقربانه ولهذا صدر الآية بقوله ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وهذه العبادة هي الموالاة والمحبة والرضا بمعبوديهم المتضمنة لمعيتهم الخاصة فظاهروا أعداء الله على معاداته ومخالفته ومساخطه بخلاف وليه سبحانه فانه معه علي نفسه وشيطانه وهواه وهذا المعنى من كنوز القرآن لمن فهمه وعقله وبالله التوفيق أ,هـ الفوائد 1/80.

هـ ولهذا لما قطع الله الموالاة بين المؤمنين وبين الكافرين قال النبي في الحديث الصحيح لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم واتفق المسلمون على أن اليهودي والنصراني لا يرث مسلما ولو كان ابنه وأباه لأن الله قطع الموالاة بينهما وقد قال تعالى: لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ.الآية(المجادلة:22).أ.هـ الجواب الصحيح2/278.

ح- فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة فكيف بالمشابهة في أمور دينية فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد والمحبةوالموالاة لهم تنافي الإيمان قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ(52)المائدة ).أ.هـ اقتضاء الصراط المستقيم 1/221.

خ- فلولا خلق الأضداد وتسليط أعدائه وامتحان أوليائه لم يستخرج خاص العبودية من عبيده الذين هم عبيده ولم يحصل لهم عبودية الموالاة فيه والمعاداة فيه والحب فيه والبغض فيه والعطاء له والمنع له أ.هـ طريق الهجرتين 1/202.

ذ- وقال في أول السورة: ُقلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.الآية( الأنعام:14) يعني معبودا وناصرا ومعينا وملجأ وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة وقال في وسطها : أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ..الآية(الأنعام:114) ,أي: أفغير الله أبتغي من يحكم بيني وبينكم فنتحاكم إليه فيما اختلفنا فيه وهذا كتابه سيد الحكام فكيف نتحاكم إلى غير كتابه وقد أنزله مفصلا مبينا كافيا شافيا وأنت إذا تأملت هذه الآيات الثلاث حق التأمل رأيتها هي نفس الرضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا ورأيت الحديث يترجم عنها ومشتق منها فكثير من الناس يرضى بالله ربا ولا يبغي ربا سواه لكنه لا يرضى به وحده وليا وناصرا بل يوالي من دونه أولياء ظنا منه أنهم يقربونه إلى الله وأن موالاتهم كموالاة خواص الملك وهذا عين الشرك بل التوحيد أن لا يتخذ من دونه أولياء والقرآن مملوء من وصف المشركين بأنهم اتخذوا من دونه أولياء وهذا غير موالاة أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين فيه فإن هذا من تمام الإيمان ومن تمام موالاته فموالاة أوليائه لون واتخاذ الولي من دونه لون ومن لم يفهم الفرقان بينهما فليطلب التوحيد من أساسه فإن هذه المسألة أصل التوحيد وأساسه وكثير من الناس يبتغي غيره حكما يتحاكم إليه ويخاصم إليه ويرضى بحكمه وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد أن لا يتخذ سواه ربا ولا إلها ولا غيره حكما .أ.هـ مدارج السالكين 2/181.

ر- راجع فصل في الولاية والعداوة في مجموع الفتاوى الجزء 28 من ص190-199.

2- ولذلك كان قولهم: فرق بين أنصارهم الذين يتولونهم على شركهم أو يظاهرونهم على الموحدين وبين غيرهم ممن قد يعينونهم على منكر أو يداهنونهم على باطل لا يصل إلى حد الكفر فلا يكفر أ.هـ بدعا من القول وزورا.

أما تقييد تكفير أنصارهم بمن يتولاهم على شركهم أو بالمظاهرة على الموحدين فهذا باطل لا دليل عليه ولكن هذا ديدن من يكثر التفصيل دون أدلة شرعية فالله عز وجل يقول: وََمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ (المائدة :51) ولم يقيد المولى عز وجل هذا التولي بشيء , فهل نترك كلام ربنا لكلام المبتدعة؟!!وكذلك تقييدهم نصرتهم فقط بالتولي والمظاهرة قصر لعموم المعنى وإخراج صور من العموم دون دليل صريح لأن هذا من أصول الدين التي لا يقبل القول فيها بمجرد كلام سجع منمق.

الشبـهة السادسة: التفريق بين الأمـور الإدارية والشـرعية.

قال البعض: هناك فرق بين النظام الذي يخالف ما شرعه الله، وكذلك الذي يشّرع ويسن أنظمة تخالف أمر الله، وبين الذي لا يخالف شرع الله وإنما لترتيب الأمور وتنظيمها. فالأول هو الكفر ، والثاني من المباحات, قال الشنقيطي رحمه الله على هذا في تفسير سورة الكهف :اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السموات، وبين النظام الذي لا يقتضي ذلك, وإيضاح ذلك أن النظام قسمان: إداري وشرعي .

أما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع ، فهذا لا مانع منه ، ولا مخالف فيه من الصحابة فمن بعدهم ، وقد عمل عمر رضي الله عنه من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن النبي (ككتبه أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط ، ومعرفة من غاب ومن حضر ، كما إيضاح المقصود منه في سورة بني إسرائيل في الكلام على العاقلة التي تحمل دية الخطأ )، مع أن النبي لم يفعل ذلك ، ولم يعلم بتخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك ، إلا بعد أن وصل تبوك، وكاشترائه -أعني عمر رضي الله عنه- دار صفوان بن أمية وجعله إياها سجناً في مكة المكرمة ، مع أنه لم يتخذ سجناً هو ولا أبو بكر. فمثل هذا من الأمور الإدارية التي تفعل لإتقان الأمور مما لا يخالف الشرع لا بأس به ، كتنظيم شؤون الموظفين ، وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع , فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به ، ولا يخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة .

وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالق السموات والأرض فتحكيمه كفر بخالق السموات والأرض ، كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف ، وأنهما يلزم استواؤهما في الميراث . وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم ، وأن الطلاق ظلم للمرأة ، وأن الرجم والقطع ونحوهما أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان ، ونحو ذلك . فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع ، وأموالهم وأعراضهم ، وأنسابهم وعقولهم وأديانهم كفر بخالق السموات والأرض ، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها ، وهو أعلم بمصالحها أ.هـ

أقول :

1- إن كلام الشنقيطي غير متعلق بالشرائع الطاغوتية المستندة إلى القوانين الوضعية أو الأحكام الجاهلية سواء كانت إدارية أو شرعية لإنه لا فرق بين الشرائع الإدارية والنظامية حيث أنها كلها أحكام وضعية وبما أنها أحكام وضعية فحكمها واحد, فهو يقول بنصه: اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السموات،وبين النظام الذي لا يقتضي ذلك ؟ أ.هـ كما أنه يقرر أن ما يتكلم عنه يتعلق بمسألة تحكيم هذه الأنظمة التي يقرر أنها أحكام وضعية فهل يقول رحمه الله تعالى بجواز تحكيم الأنظمة الوضعية الطاغوتية والتحاكم إليها ؟!! فهذه نتيجة القول في دين الله تعالى بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير .

2- إنه يتحدث عن واقع إسلامي وليس واقع كفري طاغوتي لأنه يتكلم عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولا يمكن أن يقاس الحاكم بغير ما أنزل الله تعالى بالخليفة الراشد.

فهل المستدل بكلامه يريد أن يقول أنه يجوز اتباع الشرائع الطاغوتية الإدارية فيقَوِله ما لم يقل وانظر إلى قوله : فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به أ.هـ ومعلوم أن الأحكام الوضعية هي الأحكام الشرعية الخمسة على سبيل الوضع من إيجاب وتحريم وتحليل وكراهة واستحباب فهل يجوز أن يكون من ذلك للطاغوت شيئا على المسلمين, وانظر إلى قوله أيضا: فالأول هو الكفر ، والثاني من المباحات أ.هـ فهل طاعة الكفار ناهيك عن الطاغوت مباح في شرع الله تعالى حتى يتم ضبطه واتقانه وأنه غير مخالف للشرع؟!! سبحانك هذا بهتان عظيم , فالله تعالى يأمرنا بالبعد عن الطاغوت ومن ذلك البعد عن طاعته والبراءة منها مهما كانت وأمر بنص محكم بعدم طاعة الكفار كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ (آل عمران:149) , وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (الأحزاب:1), ونهى عن اتباع أهوائهم مهما كانت فهل يقول الشنقيطي بخلاف ذلك ويجعله مباحا ويكون ممن يحل ما حرم الله تعالى ويدخل في قوله تعالى : اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ الآية (التوبة:31), وقد بين العلماء أن طاعة الكفار والمنافقين المنهي عنها ليس الدخول تحت طاعتهم بحيث يكونوا ولاة أمر المسلمين ومدبرين لشؤون حياتهم وفق شرائعهم فهذا معلوم كفر من يفعله عندهم لقوله تعالى: وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (النساء:141),وهذه الطاعة المنهي عنها إنما هي كما نص العلماء رحمهم الله تعالى:

- فلا تقبل منهم رأيا ولا تستشرهم مستنصحا بهم فإنهم لك أعداء أ.هـ تفسيرالطبري 10/254.

- لا تسمع منهم ولا تستشرهم أ.هـ تفسير ابن كثير 3/614.

فأين استشارتهم من الدخول تحت ولايتهم وطاعتهم وفي أنظمتهم؟!!

3- قوله: أما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع أ.هـ فنقول:ما هي هذه الأمور التي يراد ضبطها ومن أمر بها ؟ الجواب: المقصود بذلك هي الأمور الشرعية التي ورد النص الشرعي من قول الله تعالى أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجوز فعلها فمعنى كلامه:أن هذه الأمور الشرعية التي ورد النص بها يجوز ضبطها وتنظيمها بطريق لا يخالف الشرع كما ذكر بنفسه أمثلة على ذلك, ثم إن هذا الضبط إنما هو متعلق بولي الأمر وليس عاما بحق آحاد المسلمين فمن كان من المسلمين له ولاية على غيره فله ضبط الأمور المتعلقة بولايته بما لا يخالف الشرع, أي:أن هذه الأمور إنما هي لتسهيل وترتيب إدارة شؤون المسلمين, وانظر إلى الأمثلة التي ذكرها وهي:

- ككتبه(عمر بن الخطاب رضي الله عنه) أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط، ومعرفة من غاب ومن حضر.أ.هـ لقد كان الرسول عليه السلام يعلم من غاب ومن حضر فلم يكن بحاجة إلى دواوين, ولم يكن عدد المسلمين بلغ الحد الذي لا يمكن ضبطه بالحفظ كما أن الناس بعد عهد الرسول عليه السلام قد تغيرت أحوالهم حيث أنهم- أي الصحابة- كلهم ثقات بخلاف ما بعد عهد الرسول عليه السلام.فأصل المسألة وهي الضبط ومعرفة من حضر ومن غاب موجود ولم يحدث ابتداع شيء جديد.

- وكاشترائه - أعني عمر رضي الله عنه - دار صفوان بن أمية وجعله إياها سجناً في مكة المكرمة ، مع أنه لم يتخذ سجناً هو ولا أبو بكر أ.هـ, فهذا السجن لم يتخذه لإقامة العقوبات بحيث جعل الحكم بالسجن على مرتكب المخالفات وإنما اتخذه لضبط إقامة الأحكام الشرعية حيث أنه كان في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام يضع من يراد إقامة حد عليه أو حكم في أي مكان يختاره سواء في المسجد أو غيره كما أن المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يأتون للرسول عليه الصلاة والسلام ويقرون على أنفسهم بمخالفة الشرع ويطلبون إقامة الحد عليهم فلم يكن عليه الصلاة والسلام بحاجة إلى سجن , أما على عهد عمر رضي الله عنه فقد اتسعت الدولة الإسلامية وكثر المسلمون وتغيرت النفوس فكان لا بد من هذا الإجراء الموجود أصلا وإنما حدث له ترتيب وضبط آخر فحاصل كلامه أنه يقصد به ولي الأمر المسلم, كما أن هذه الأمور لم يترتب عليها شيئ على المسلمين من أخذ مال أو غيره ولم يقل أحد من علماء المسلمين أن فعله رضي الله عنه يُستدل به على طاعة المشركين وأتباع شرائعهم أو استحداث حكم ينافي البراءة من الطاغوت.

4- إذا كان المستدل بهذا على طاعة القوانين الوضعية الطاغوتية واتباعها فنقول: إن هذا متعلق بأصل الدين (كفر وإيمان) فأين الدليل المحكم من كتاب الله تعالى أو سنة الرسول عليه الصلاة والسلام على إباحة ذلك ؟ وهل المسائل المتعلقة بأصل الدين ( اجتناب الطاغوت) لم يكملها الله تعالى ولا بينها رسوله عليه السلام؟!!! ثم نقول: إن هذا قول بشر قابل للرد والقبول إذا علم دليله –كونه ليس نص في مورد النـزاع ودليل محتمل- فكيف إذا لم يعلم القائل به دليله ويحرم على الإنسان أن يقول بقول عالم لم يعلم دليله؟,إضافة إلى إنه من الأفعال التي لا عموم لها ولا يستدل بها إلا على صورتها.

يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى ما نصه: اعلم أن كل مسلم يجب عليه في هذا الزمان تأمل هذه الآيات من سورة محمد وتدبرها والحذر التام مما تضمنته من الوعيد الشديد, لأن كثيرا ممن ينتسبون للمسلمين داخلون بلا شك فيما تضمنته من الوعيد الشديد لأن عامة الكفار من شرقيين وغربيين كارهون لما نزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو هذا القرآن وما يبينه به صلى الله عليه وسلم من السنن, فكل من قال لهؤلاء الكفار الكارهين لما نزل الله : سنطيعكم في بعض الأمر فهو داخل في وعيد الآية, وأحرى من ذلك من يقول لهم : سنطيعكم في كل الأمر كالذين يتبعون القوانين الوضعيةمطيعين بذلك للذين كرهوا ما نزل الله فإن هؤلاء لا شك أنهم ممن تتوفاهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم, وأنهم أتبعوا ما اسخط الله وكرهوا رضوانه وأنه محبط أعمالهم , فاحذر كل الحذر من الدخول في الذين قالوا: سنطيعكم في بعض الأمر أ.هـ أضواء البيان 7/589-590.

ومن قال بجواز طاعتهم في القوانين المباحة- حسب قولهم- فقد دخل في طاعة بعض الأمر, لأن هذه القوانين الوضعية منافية لأصل الإسلام قال رحمه الله : ولا شك أن النتائج الوخيمة الناشئة عن الإعراض عن الكتاب والسنة من جملتها ما عليه المسلمون في واقعهم الآن من تحكيم القوانين الوضعية المنافي لأصل الإسلام أ.هـ اضواء البيان 7/583.

فكل من اتبع وأطاع القوانين الوضعية مهما كانت فهو معرض عن كتاب الله تعالى وعن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم كما أنه ينص بكلام واضح على أن القوانين الوضعية كلها بلا استثناء منافية لأصل الإسلام فأين قوله الذي يقول فيه أن من هذه القوانين الوضعية التي يضعها المشركون ليس منافيا للإسلام وأنه معصية ناهيك عن المباح وأنها من الأمور الإدارية الني يجوز اتباعها وطاعتها وبما أنه يجوز اتباعها وطاعتها – حسب قولهم – فيجوز التحاكم إليها والحكم بها وأن ذلك من الإسلام الذي يرضاه الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ! سبحانك هذا بهتان عظيم.

يقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى: فانظروا أيها المسلمون في جميع البلاد الإسلامية أو البلاد التي تنتسب إلى الإسلام في أقطار الأرض إلى ما صنع بكم أعداؤكم المبشرون والمستعمرون إذ ضربوا على المسلمين قوانين ضالة مدمرة لأخلاق والآداب والأديان , قوانين إفرنجية وثنية لم تبن على شريعة ولا دين بل بنيت على قواعد وضعها رجل كافر وثني أبى أن يؤمن برسول عصره – عيسى عليه السلام- وأصر على وثنيته إلى ما كان من فسوقه وفجوره وتهتكه فترى الرجل المنتسب للإسلام المتمسك به في ظاهر أمره المشرّب قلبه هذه القوانين الوثنية يتعصب لها ما لا يتعصب لدينه.وصار هذا الدين الجديد هو القواعد الأساسية التي يتحاكم إليها المسلمون في أكثر بلاد الإسلام سواء منها ما وافق في بعض أحكامه شيئا من أحكام الشريعة وما خالفها وكله باطل وخروج , لأن ما وافق الشريعة إنما وافقها مصادفة لا إتباعا لها ولا طاعة لأمر الله وأمر رسوله فالموافق والمخالف كلاهما مرتكس في حمأة الضلالة يقود صاحبه إلى النار لا يجوز لمسلم أن يخضع له أو يرضى به أ.هـ عمدة التفسير 3/213.

وقال أيضا: إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضحة وضوح الشمس هي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداورة ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام –كائنا من كان- في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها فليحذِّر امرؤ نفسه وكل امريء حسيب نفسه ألا فليصدع العلماء بالحق غير هيابين وليبلغوا ما أمروا بتبليغه غير موانين ولا مقصرين أ.هـ عمدة التفسير 4/173-174.

وقال أيضا : نرى في بعض بلاد المسلمين قوانين ضربت عليها نقلت عن أوروبا الوثنية الملحدة وهي قوانين تخالف الإسلام في جوهرية في كثير من أصولها وفروعها بل إن في بعضها ما ينقض الإسلام ويهدمه وذلك أمر واضح وبديهي لا يختلف فيه إلا من يغلط نفسه ويجهل دينه أو يعاديه من حيث لا يشعر وهي في كثير من أحكامها توافق التشريع الإسلامي أو لا تنافيه على الأقل وأن العمل بها في بلاد المسلمين غير جائز حتى في ما وافق التشريع الإسلامي لأن من وضعها حين وضعها لم ينظر إلى موافقتها للإسلام أو مخالفتها , إنما نظر إلى موافقتها إلى قوانين أوروبا أو لمبادئها وقواعدها وجعلها هي الأصل الذي يرجع إليه فهو آثم مرتد بهذا سواءً أوضع حكما موافقا للإسلام أم مخالفا أ.هـ تعليقه على المسند 6/301-316.

وقال أيضا : وانظروا ما فعل بنا أعداؤنا المبشرون والمستعمرون لعبوا بديننا وضربوا علينا قوانين وثنية ملعونة مجرمة نسخوا بها حكم الله وحكم رسوله أ.هـ حكم الجاهلية 36.فها هم العلماء الربانيون ينصون بشكل صريح واضح على أن طاعة واتباع القوانين الوضعية مهما كانت كفر أكبر فماذا بعد الحق إلا الضلال ومن فعل ذلك وأباحه فقد افترى إثما عظيما وجاء ببدعة ما قال بها أحد من المسلمين واتبع غير سبيل المؤمنين.

ونقول لهؤلاء الذين يستدلون بقول الشنقيطي رحمه الله تعالى وغيره من العلماء أنظروا إلى قول الشنقيطي ما نصه: ولكن لما تركوا الوحي ونبذوه وراء ظهورهم واستبدلوا به أقوال الرجال لم تقم لهم أقوال الرجال ومذاهب الأئمة رحمهم الله تعالى مقام كلام الله والاعتصام به وكلام النبي صلى الله عليه وسلم والتحصن بسنته أ.هـ أضواء البيان 7/583.

فهو ينكر على من يقول بقول العلماء ويترك كلام الله تعالى وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف بمن يأخذ بأقوال المشركين , وهل يجوز في دين الله تعالى أن يحتج بأفعال المشركين وأقوالهم؟.

وأخيرا : وأخيرا : فهل أصبح الدين مبنيا على الشبهات المستندة إلى أقوال الرجال التي لا نهاية لها؟ وهل أصبح الهم والشغل الشاغل والقضية الرئيسة في هذا الزمان المجادلة عن الطواغيت واختلاق الأدلة التي تجعل لهم سلطانا وخاصة على الموحدين؟ فلا يسعنا إلا أن نقول ما قاله ابن القيم رحمه الله تعالى: ولا يجب على العالم حل كل شبهة تعرض لكل أحد فإن هذا لا آخر له أ.هـ شفاء العليل ص 151.

الجهـاد ومنـزلته في الأمـة

إن العمل لدين الله تعالى لا يكون مثمرا ويأتي بوعد الله تعالى إلا إذا كان على مراد الله تعالى من خلال النصوص المحكمة الصريحة الواضحة التي لا تحتمل تأويلا والوقوف مع النص وأن ندور معه حيث دار ويكون الأمر أشد خطرا إذا كان يتعلق بالنصوص المتعلقة بأصل الدين حينئذ يؤدي إلى أن تكون العقوبة استئصالا وهزيمة وبلاء قال تعالى:وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (محمد:38), وإذا كان الخلل بالنصوص المحكمة فيما دون أصل الدين فالهزيمة تكون جزئية تأديبية عقابية ولنا في الشرع عبرة: ففي غزوة أحد أمر الرسول عليه الصلاة والسلام الرماة على الجبل أن لا يغادروا مكانهم لأي سبب بقوله: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم, وفي رواية أخرى: لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا. (رواهما البخاري في صحيحه),فلما رأوا هزيمة الكفار أول الأمر قال أغلبهم: يا قوم الغنيمة فخالفوا الأمر الصريح المحكم فحصلت العقوبة, مقابل ذلك موقف أبي بكر رضي الله عنه من أمر الرسول عليه الصلاة والسلام حين حضرته الوفاة يحضهم ويأمرهم بإنفاذ بعث أسامة فلما ارتدت العرب أشار الصحابة عليه أن يؤجل بعث أسامة تأويلا منهم بان وجود الجيش يشكل قوة تمنع من غزو المدينة حفاظا على الإسلام وجماعة المسلمين فرفض رفضا شديدا وحاججهم بأن أمر الرسول عليه الصلاة والسلام محكم واضح لا يقبل التأويل خاصة وأنه كان من آخر ما أوصى به روى ذلك ( الوصية ببعث أسامة رضي الله عنه) الشيخان وغيرهما وإليك الروايات المبينة لموقف أبي بكر رضي الله عنه:

- فعن أبي هريرة رضي الله عنه انه قال والله الذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استخلف ما عبد الله ثم قال الثانية ثم قال الثالثة فقيل له مه يا أبا هريرة فقال: إن رسول الله وجه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام فلما نزل بذي خشب وقبض النبي وارتدت العرب حول المدينة فاجتمع عليه أصحاب رسول الله فقالوا يا أبا بكر رد هؤلاء يتوجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب فقال والله الذي لا إله إلا هو لو جرت الكلاب بأرجل أزواج النبي ما رددت جيشا جهزه رسول الله ولا حللت لواء عقده رسول الله.

- وفي رواية أخرى: والله لو علمت أن السباع تجر برجلي إن لم أرده ما رددته عن وجه وجهه رسول الله وأمر أسامة أن يمضي لوجهه ذلك.

- وفي رواية أخرى:أن عمر هو القائل يا خليفة رسول الله إن العرب قد ارتدت على أعقابها كفارا كما قد علمت وأنت تريد أن تنفذ جيش أسامة وفي جيش أسامة جماعة العرب وأبطال الناس فلو حبسته عندك لتقويت به على من ارتد من هؤلاء العرب فقال أبو بكر لو أني علمت أن السباع تأكلني في هذه المدينة لأنفذن جيش أسامة كما قال امضوا جيش أسامة فلن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا .أ.هـ البداية والنهاية 6/304-306, تاريخ الخلفاء 1/67, تاريخ خليفة بن خياط 1/15, سيرة ابن كثير4/616.

فكان النصر والتأييد للقلة المؤمنة على المرتدين بفضل الله تعالى ثم باتباع أبي بكر رضي الله عنه للنص المحكم القاضي بإنفاذ بعث أسامة ولم يقبل التأويلات التي من نظر إليها بالنسبة لحال المسلمين في ذلك الوقت العصيب لا يخامره أدنى شك بأنه مخاطرة كبيرة, لكن المخاطرة عند الصديق رضي الله عنه بعدم اتباع النصوص المحكمة وتأويلها وهذا التأويل إنما هو إدخال الآراء البشرية في النصوص الشرعية, وانظر إلى موقف الصديق رضي الله عنه عندما طلب منه الصحابة تولية من هو أسن من أسامة رضي الله عنه على الجيش: فوثب أبو بكر وكان جالسا يأخذ بلحية عمر فقال له : ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه أ.هـ تاريخ الطبري2/246, تاريخ دمشق 2/50, أبو بكر الصديق1/28.

وقد روى الإمام أحمد والشيخان رحمهم الله تعالى عن أبي وائل أنه قال: قال سهل بن حنيف: اتهموا رأيكم فلقد رأيتنا يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نرد أمره لرددناه أ.هـ

فالإسلام يتضمن خطوط دفاع يضمن بها تمييز الخبيث من الطيب ويحفظ الفئة المؤمنة من أن تكون مستغفلة ومستغلة فكان فيه سياج حماية لهم سواء كانوا في دار كفر أو دار إسلام وذلك حتى يضمن صفاء الإيمان وتتبين حالة العدالة من حالة الاتهام وحتى لا تكون الجماعة المؤمنة معرضة للاختراق وهذا أمر حتمي لأنه تنزيل من حكيم حميد.

فسياج الحماية في واقع الكفر أو دار الكفر إنما هو بالتوحيد وركنه الرئيس الاجتناب الذي يعني ترك المعبودات من دون الله تعالى أي: ترك طاعتها والحكم بأحكامها والتحاكم إليها واتباع شرعها وترك تعظيمها ومحبتها وترك اللجوء إليها وترك نصرتها ومن ذلك العمل معها.

وأما سياج الحماية في الواقع الإسلامي أو دار الإسلام فهو الجهاد الذي من تركه مع تعينه ومع الاستطاعة فقد وقع في النفاق وخرج من دين الله تعالى مهما كان التأويل في ذلك إذ أن الجهاد المتعين نص محكم غير قابل للتأويل فإذا كان ترك الجهاد المتعين خوف الوقوع في الفتنة نفاق وردة في دين الله تعالى قال تعالى: وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (التوبة:49), وانظر إلى النص القرآني الذي لا تأويل فيه ولا مداهنة وهو قوله: ألا في الفتنة سقطوا (), والله تعالى يبين معنى الفتنة بقوله: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ (البقرة:191), وقوله تعالى: َوالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ (البقرة:217), والفتنة هي الشرك بإجماع المفسرين فمن تعذر عن الجهاد خوف الوقوع في المعصية فقد وقع في الشرك وخرج من الملة فكيف بغيره من التأويلات, وأنقل كلاما نفيسا لابن القيم رحمه الله تعالى يبين حقيقة الجهاد ما نصه: والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب وإما باللسان وإما بالمال وإما باليد فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع.

أما الجهاد بالنفس ففرض كفاية وأما الجهاد بالمال ففي وجوبه قولان والصحيح وجوبه لأن الأمر بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواء كما قال تعالى:انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة:41),وعلق النجاة من النار به ومغفرة الذنب ودخول الجنة فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12:الصف).

وأخبر أنهم إن فعلوا ذلك أعطاهم ما يحبون من النصر والفتح القريب فقال: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا (الصف:12) أي: ولكم خصلة أخرى تحبونها في الجهاد وهي نصر من الله وفتح قريب وأخبر سبحانه أنه: ِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ (التوبة:110), وأعاضهم عليها الجنة وأن هذا العقد والوعد قد أودعه أفضل كتبه المنزلة من السماء وهي التوراة والإنجيل والقرآن ثم أكد ذلك بإعلامهم أنه لا أحدا أوفى بعهده منه تبارك وتعالى ثم أكد ذلك بأن أمرهم بأن يستبشروا ببيعهم الذي عاقدوه عليه ثم أعلمهم أن ذلك هو الفوز العظيم.

فليتأمل العاقد مع ربه عقد هذا التبايع ما أعظم خطره وأجله فإن الله عز وجل هو المشترى والثمن جنات النعيم والفوز برضاه والتمتع برؤيته هناك والذي جرى على يده هذا العقد أشرف رسله وأكرمهم عليه من الملائكة والبشر وإن سلعة هذا شأنها لقد هيئت لأمر عظيم وخطب جسيم:

قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

مهر المحبة والجنة بذل النفس والمال لمالكهما الذي اشتراهما من المؤمنين فما للجبان المعرض المفلس وسوم هذه السلعة بالله ما هزلت فيستامها المفلسون ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون لقد أقيمت للعرض في سوق من يريد فلم يرض ربها لها بثمن دون بذل النفوس فتأخر البطالون وقام المحبون ينتظرون أيهم يصلح أن يكون نفسه الثمن فدارت السلعة بينهم ووقعت في يد:أ َذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ (المائدة 54).لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرفة الشجي فتنوع المدعون في الشهود فقيل لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ( آل عمران 31 ) فتأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الرسول في أفعاله وأقواله وهدية وأخلاقه فطولبوا بعدالة البينة وقيل لا تقبل العدالة إلا بتزكية: ُيجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ (المائدة 54 ), فتأخر أكثر المدعين للمحبة وقام المجاهدون فقيل لهم إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم فسلموا ما وقع عليه العقد فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وعقد التبايع يوجب التسليم من الجانبين فلما رأى التجار عظمة المشترى وقدر الثمن وجلالة قدر من جرى عقد التبايع على يديه ومقدار الكتاب الذي أثبت فيه هذا العقد عرفوا أن للسلعة قدرا وشأنا ليس لغيرها من السلع فرأوا من الخسران البين والغبن الفاحش أن يبيعوها بثمن بخس دراهم معدودة تذهب لذتها وشهوتها وتبقى تبعتها وحسرتها فإن فاعل ذلك معدود في جملة السفهاء فعقدوا مع المشترى بيعة الرضوان رضي واختيارا من غير ثبوت خيار وقالوا:والله لا نقيلك ولا نستقيلك فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل لهم قد صارت أنفسكم وأموالكم لنا والآن فقد رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعاف أموالكم معها: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (آل عمران 69), لم نبتع منكم نفوسكم وأموالكم طلبا للربح عليكم بل ليظهر أثر الجود والكرم في قبول المعيب والإعطاء عليه أجل الأثمان ثم جمعنا لكم بين الثمن والمثمن تأمل قصة جابر بن عبد الله وقد اشترى منه بعيره ثم وفاه الثمن وزاده ورد عليه البعير وكان أبوه قد قتل مع النبي في وقعة أحد فذكره بهذا الفعل حال أبيه مع الله وأخبره أن الله أحياه وكلمه كفاحا وقال يا عبدي تمن علي فسبحان من عظم جوده وكرمه أن يحيط به علم الخلائق فقد أعطى السلعة وأعطى الثمن ووفق لتكميل العقد وقبل المبيع على عيبه وأعاض عليه أجل الأثمان واشترى عبده من نفسه بماله وجمع له بين الثمن والمثمن وأثنى عليه ومدحه بهذا العقد وهو سبحانه الذي وفقه له وشاءه منه أ.هـ زاد المعاد 3/64.

لمـاذا يقـاتل المسـلمون؟

القتال لا ينفك بين الأمم إلى قيام الساعة وهذا القتال وإن كانت له أسباب وأهداف مختلفة فإنه يندرج تحت سنة الله تعالى القدرية التي بينها بقوله: وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (البقرة:251), فالقتال الذي يحصل إنما هو لحفظ الأرض من الفساد – وكل فساد منشأه عدم التقيد بمنهج الله تعالى- وبينه تعالى بقوله: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(الحج:40)، فالله تعالى يريد أن يُذكر ويطاع ولهذا خلق الخلق: َومَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات:56)، والبشرية تميل دوما إلى الانحراف والفساد لأن الإنسان بطبعه ظلوم جهول: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً( الأحزاب:72)، ومصداقا لقوله تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (يوسف:103)، وكما أن القتال سنة قدرية فهو في دين الله تعالى أمر شرعي: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (الأنفال:39)، وهذا القتال كما بينه عليه الصلاة والسلام فعن أبي موسى قال:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما القتال في سبيل الله؟ فإن أحدنا يقاتل غضبا، ويقاتل حمية، فرفع إليه رأسه، قال: وما رفع إليه رأسه إلا أنه كان قائما، فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله عز وجل. وفي رواية أخرى قال أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل ليذكر ويقاتل ليرى مكانه من في سبيل الله ؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله .أ.هـ (رواه الإمام أحمد والشيخان وغيرهم) iوهذا الحديث يشتمل على ثلاثة أمور:

الأول: فعل وهو القتال.

الثاني: النية بأن يكون هذا القتال لإعلاء كلمة الله تعالى.

الثالث: تحقيق هدف محسوس وهو إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى.

فالقتال إنما يسبقه أمران هما:

1- ظهور الكلمة وبيانها ووضوحها.

2- وجود الواقع الذي تتحقق فيه هذه الكلمة.

فالله تعالى بين بأن القتال يسبقه توضيح وإظهار لهذه الكلمة يترتب عليه بقوله: ُأذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(40, الحج)، وأول نصر لكلمة الله تعالى هو إظهارها وتوضيحها وهو صريح قوله تعالى: إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّه ُ(), وهو الجهاد الكبير قال تعالى: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً (الفرقان:52), فأول جهاد إنما هو جهاد الكلمة والذي يترتب عليه نصر من الله تعالى بالتمكين لهذه الكلمة وإيجاد الواقع الذي تتحقق فيه قال تعالى: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(التوبة:40).وهذا التمكين الذي هو من عند الله تعالى لا يخضع للأسباب المادية المحسوسة أو خطة زمنية مرحلية بشرية فالله تعالى قد مكن لبني اسرائيل مع ما كانوا فيه من استضعاف وذلة وقهر من غير تحديد وتخطيط بشري مع أن فيهم رسول يوحى إليه كما بين ذلك سبحانه وتعالى بقوله: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ(5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ(6,القصص), وقوله أيضا: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُون َ(الأعراف:137), وهذا التمكين ليس خاصا بموسى عليه السلام وقومه وإنما هو سنة الله في عباده ولا يكون هذا التمكين إلا بعد تحقيق التوحيد بالتوكل على الله تعالى والصبر على تبعات هذه الكلمة واليقين بوعد الله تعالى فهذا هو شرط التمكين لقوله تعالى: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ (يونس:84), وقرر سبحانه وتعالى ذلك بقوله:وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (السجدة:24), فالتمكين وعد الله تعالى المشروط بقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (النور:55), وتحقق هذا الوعد مكانا وزمانا علم غيب لا يعلمه إلا الله تعالى فلا يشترط أن يكون هذا التمكين في نفس موطن الداعية وقومه وزمانه فالله أعلم بالأرض التي تصلح لإقامة دينه والقوم الذين يقيم الله تعالى بهم دينه, وهذا نبي الله يوسف عليه السلام عندما حقق هذه الكلمة وصبر على أمر الله تعالى جاءه التمكين وهو في غياهب السجون قال تعالى: وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (يوسف:56).

فما هي هذه الكلمة التي لا يتحقق النصر إلا عليها ؟ إنها البراءة من كل معبود سوى الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28,الزخرف ),إنها كلمة التوحيد ولفظ البراءة هو المدلول العملي لهذه الكلمة أي: التخلص من كل معبود دون الله تعالى فلا يبقى لأي طاغوت( المعبود من دون الله تعالى) كلمة في حياة قائلها- كما تم بيانه سابقا - وبينها أيضا سبحانه وتعالى في قوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(آل عمران:64) فقد بين تعالى في هذه الآية أن المراد بهذه الكلمة هو معناها ومدلولها العملي القائم على ركنين عمليين هما:

1- ألا نعبد وهو عمل.

2- ولا نشرك بالله شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله وهذا عمل أيضا.

وهذان الركنان هما الإسلام كما وضح الله تعالى ذلك بقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(النحل:36), فكلمة الله تعالى هي:اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت()، وهي كلمة واضحة بينة فهل هناك كلمة يقاتل المسلم لإعلائها غير هذه الكلمة الربانية؟ فلا يوجد في كتاب الله تعالى ما يزيد عليها, أو ينقص منها أو يستثني منها شيئا,إنها كلمة تامة عامة واضحة لا يتم النصر إلا بتحقيقها, فإذا حصل النقص فيها أو الزيادة عليها أصبحت ليست كلمة الله تعالى وإنما كلمة من يقولها وهذا ما حذر الله منه بقوله: َوأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (الأعراف:33)، فأنى يحصل نصر الله تعالى لغير كلمته ؟ فمدار هذه الكلمة على العبادة وما حصل الخلل إلا بعدم العلم بها سواءً جهلا أو تحريفا وقد لخص ربعي بن عامر رضي الله عنه الغاية من القتال بقوله: لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.

فالعبادة هي الدعاء أي: الطاعة ( امتثال الأمر) والسؤال والاستغاثة وما يتعلق بالأسماء الحسنى.

والعبادة هي الحكم والتحاكم والتشريع.

والعبادة هي الولاء وهي الطاعة والإتباع والمحبة والنصرة.

فكلمة التوحيد بأن يكون هذا كله لله سبحانه وتعالى قولا وعملا ليس لغير الله شيء من ذلك وهذا هو معنى البراءة فهي على هذا كلمة واضحة بينة قولا وعملا.

فأين كلمة الله تعالى التي تجعل للطاغوت شيئا؟!

فيقينا وكلمة أُشهد الله تعالى عليها أن أكثر الناس وممن ينتسبون إلى الإسلام خصوصا لا يعلمونها كمدلول ناهيك عن العمل بها مصداقا لقوله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (يوسف:40) ، وكثير ممن ينتسب إلى الإسلام وخاصة الدعاة قد جهلوا معناها على الواقع فتراه يقول مثلا أن التحاكم عبادة ( وقليل من يقر بذلك) وهو يجهل معنى التحاكم عمليا وكذلك الطاعة وكل ما يتعلق بهذه الكلمة.

فهل تتفق عقيدة الجهاد مع طاعة الطواغيت أو التحاكم إليهم أو اللجوء إليهم لطلب النفع أو دفع ضر دنيويي أو أخروي أو العمل معهم ومعاونتهم أو إتباع شرائعهم ؟

الجواب:لا يمكن الاتفاق, لأن الجهاد هو الحركة العملية لإزالة المعبودات من دون الله تعالى من الواقع وما سبق هو تثبيت لها فكيف نزيل المعبودات من دون الله تعالى بتثبيتها؟!

فلا بد من العلم بمعنى هذه الكلمة علما كاملا والعمل بها كاملة والقتال عليها كاملة وإلا فإن الله تعالى لا يحابي أحدا ولا يعطي الناس بدعواهم.فكما أن الجهل يكون بخلو النفس من الشيء فإنه يكون أيضا بوقوع المرء في خلافه وهو يظن أنه ليس منه أي: إخراج صورة من المعنى العام بدون دليل وبينة.

إن سنة الله تعالى جرت في حال طبق الكفر الأرض أن التمكين لهذه الكلمة بموجب وعده وليس من عمل البشر واجتهادهم من خلال خطط زمنية وإنما متوقف على تحقيق شرط الاستخلاف وهو قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55)، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (محمد:7)، وبين هذه الحقيقة أيضا بقوله:الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (الحج:41), والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون في واقع التمكين وهو الواقع الإسلامي ويصدق عليه قوله عليه الصلاة والسلام: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ومن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان أ.هـ (رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي), وفي عدم وجود التمكين لكلمة الله تعالى فيكون الواقع واقع دعوة للإيمان بهذه الكلمة ليحصل لها التمكين ثم الجهاد لإعلائها بدليل قوله تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (آل عمران:104),فهناك دعوة للخير وهو التوحيد وبعده أمر بالمعروف ونهي عن منكر فعمل البشر هو الحرص على تحقيق الإيمان ظاهرا وباطنا من أن يشوبه مخالفة تحول دون تحقق الوعد الرباني وما أروع ما قاله الإمام الشهيد- والله حسيبه – سيد قطب رحمه الله تعالى : وليس للبشر فيها من شيء إلا أن يؤدوا واجبهم ويفوا ببيعتهم ثم يكون ما يشاؤه الله كيف يكون أ.هـ وأما التمكين للدين فهو من عمل الله تعالى واختصاصه.

إن سنة الله لا تتبدل فعليكم بالوحي فإنكم لن تضلوا ما إن تمسكتم به فإذا حصل تمكين لهذه الكلمة في واقع الأشخاص كأفراد تبعه التمكين لهم في الواقع كجماعة.وهذا التمكين الذي يحصل للفئة المؤمنة مقابل تحقيقهم لكلمة التوحيد والصبر عليها ليس من باب التواكل وترك الأسباب وإنما هو حجة الله على خلقه بأن هذا الدين من عند الله تعالى وإلا كيف نميز الدين الحق من الدين الباطل فعظمة هذا الدين متمثلة بكتابه المعجز والإعجاز في هذا هو تحقيق التوحيد من الفئة القليلة الضعيفة المستضعفة فيصبحوا ممكنين ظاهرين على الكثرة صاحبة القوة والعدد والعدة فهذا وعد الله تعالى غير القابل للتفسير وليس فيه مجال للعقول لتكتمل منة الله تعالى بالهداية والتمكين وليكون الفضل كله لله تعالى ليس لعبد منة على دين الله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (الحديد:29), ويكون الأمر كله لله كما قال تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام : لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (آل عمران:128), وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ الآية (آل عمران:154), فعن جابر بن عبد الله الأنصاري : أن النبي صلى الله عليه و سلم لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في الموسم ومجنة وعكاظ ومنازلهم من منى: من يؤويني من ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي فله الجنة فلا يجد أحدا ينصره و لا يؤويه حتى أن الرجل ليرحل من مصر أو من اليمن إلى ذي رحمه فيأتيه قومه فيقولون له:احذر غلام قريش لا يفتننك و يمشي بين رحالهم يدعوهم إلى الله عز وجل يشيرون إليه بالأصابع حتى بعثنا الله من يثرب فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام وبعثنا الله إليه فائتمرنا واجتمعنا وقلنا:حتى متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم فواعدنا بيعة العقبة فقال له عمه العباس : يا ابن أخي لا أدري ما هؤلاء القوم الذين جاءوك إني ذو معرفة بأهل يثرب فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين فلما نظر العباس في وجوهنا قال:هؤلاء قوم لا نعرفهم هؤلاء أحداث فقلنا:يا رسول الله على ما نبايعك ؟ قال : تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى النفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم لومة لائم وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم وتمنعوني مما تمنعون عنه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة فقمنا نبايعه وأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو أصغر السبعين إلا أنه قال :رويدا يا أهل يثرب إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم وأن يعضكم السيف فإما أنتم قوم تصبرون عليها إذا مستكم وعلى قتل خياركم ومفارقة العرب كافة فخذوه وأجركم على الله وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر عند الله عز وجل فقالوا : يا أسعد أمط عنا يدك فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقبلها قال : فقمنا إليه رجلا رجلا فأخذ ليعطينا بذلك الجنة.أ.هـ حديث صحيح(رواه الإمام أحمد والحاكم في المستدرك والبيهقي), فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بضع عشرة سنة وهو يقول للناس من يؤويني من ينصرني حتى أبلغ دعوة ربي فلم يجبه أحد وبين عشية وضحاها يأتيه الأنصار من غير تخطيط مسبق وخلال عام واحد وإذ بالمدينة المنورة تصبح دار الإسلام التي مكن الله بها للمسلمين: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُو(), وهذا حديث عظيم يبين حقيقة هذا الدين وكيفية التعامل معه وأنه لا يترك للآراء مجالا وأن الله عز وجل إنما ينصر المؤمنين لما يحملونه من إيمان وليست نصرة الله لأشخاص مهما كانوا في معايير وموازين البشر أنهم يستحقون النصر والتمكين فالمعايير والموازين هي ربانية والله يريد أن يظهر دينه ويمكن له وليست إرادته إظهار الأشخاص أو دين الأشخاص وعليه فإن القتال في الإسلام وهو الجهاد ينقسم إلى نوعين:

الأول: جهاد طلب لإعلاء كلمة الله تعالى وهو بنفس الوقت دعوة فعندما يخرج المسلمون مجاهدين فإنهم دعاة إلى الله تعالى ينقسم الناس تجاههم إلى أصناف:

1- منهم من يؤمن فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم.

2- ومنهم من يرفض الدخول في الإسلام ويبقى على دينه ويخضع لحكم الله تعالى.

3- ومنهم من يرفض الدخول في الإسلام ويقاتل المسلمين وهذه الفئة هي التي تُقاتل بموجب الحق الذي أعطاه الله تعالى للمسلمين لأنهم يحولون بين دين الله تعالى وبين عرضه على الناس ليختاروا الهدى أو الضلال فالجهاد في الإسلام إنما هو لإزالة الحواجز والعوائق التي تحول بين الناس وبين الدخول في دين الله عز وجل لإظهار الدين وإعزاز أهله.

الثاني : جهاد دفع لحماية الدين وأهله من ظهور الكفر وأهله عليهم وهو اشد وجوبا من جهاد الطلب لأن جهاد الطلب فتح الأبواب لدعوة الإسلام وفيه مصلحة تكثير المسلمين وزيادة في إظهار الإسلام, وأما جهاد الدفع ففيه دفع مفسدة تقليل المسلمين وظهور الكفار عليهم وطمس معالم الدين والقاعدة الشرعية تقول: درء المفاسد أولى من جلب المصالح.

الجهـاد روح الأمـة

يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (الأنفال:24),فهذه الآية تصور أول مواجهة بين الحق والباطل وتعبر تعبيرا عميقا عن المنهج الذي يجب أن يسلكه المؤمن في تعامله مع الواقع.

إن الإسلام يوضح أعظم توضيح بأن الأمة حياتها في مواجهة الباطل لأنها تحمل الحق الذي فيه الروح التي بعث الله تعالى بها نبيه عليه الصلاة والسلام ليحيي بها الأمم: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (الشورى:52), فهذه الروح الخاصة لكل فرد هي الإيمان الشخصي الذي يقذفه الله في قلوب الذي يريدون الحياة الآخرة مستعلين على الحياة الدنيا ولا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا لأن الإنسان بدون الإسلام الذي أراده الله تعالى ليس بحي وإنما ميت وإن كان متكبرا عنيدا يبطش بطش الجبارين لأن الله تعالى خالق البشر يبين هذه الحقيقة أنصع بيان بقوله: أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (الأنعام:122), ولكن لا يكفي وجود الروح في الإنسان لاستمراره في الحياة فلا بد من مقومات أخرى للحياة تضخ فيه مسبباتها وإذا انقطعت عنه لم تنفعه وجود الروح فيه ألا وهي ذكر الله تعالى قال سبحانه: ِإنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (طه:14) وهكذا يبين العزيز الحكيم أن المؤمن الذي حصل على الروح التي تجعله من الأحياء لا بد لها من مقومات الاستمرار وهذه المقومات هي الأوامر الربانية والنبوية وأعظمها وعلى رأسها الجهاد الذي به تحيى الأمة وإذا فقدته ماتت ومات ذكرها وكما أن الجهاد حياة الأمة في الدنيا فكذلك هو الحياة في الآخرة قال تعالى:وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ (البقرة:154), وقوله تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (آل عمران :169), إنها أعظم حياة إنها الحياة المثالية فأنتم أيها الأحياء مع أنكم تشعرون بالحياة وتمارسونها إلا أنكم لا تستطيعون إدراك حياة الشهيد المثالية التي سمت أن يشعر بها الأحياء.

لقد بين الرسول عليه الصلاة والسلام حقيقة الجهاد للأمة بقوله لمعاذ رضي الله عنه: وإن شئت أنبأتك برأس الأمر و عموده و ذروة سنامه قال : قلت أجل يا رسول الله قال : أما رأس الأمر فالإسلام و أما عموده فالصلاة و أما ذروة سنامه فالجهاد في سبيل الله أ.هـ صحيح (رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم في المستدرك ), ما أعظم هذا التعبير الذي يخرج من نبع جوامع الكلم فالإسلام بالنسبة للأمة كالرأس إذ لا حياة لمن لا رأس له, والسنام هو مخزن الطاقة وأسباب الحياة في الجمل الذي يمده بها ليقطع المسافات الطويلة في الأرض القاحلة وأعظم ما تكون أسباب الحياة في ذروة السنام أي في أعلاه وكذلك التشريعات الإسلامية هي السنام التي تزود المؤمن بأسباب الحياة ليقطع طريقه في الحياة الدنيا الموحشة القاحلة ليصل إلى الجنان والرياض ذوات الأنهار والأكل الدائم ليستريح من عناء خزن أسباب الحياة, وأعظم التشريعات وأعلاها هو الجهاد الذي إذا فُقد فقد دخل الوهن على حياة المسلم كما أن ذروة السنام إذا ذهبت لم ينفع وجود السنام, ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم,وفي رواية أخرى بلفظ: لئن تركتم الجهاد وأخذتم بأذناب البقر وتبايعتم بالعينة ليلزمنكم الله مزلة في رقابكم لا تنفك عنكم حتى تتوبوا إلى الله وترجعوا على ما كنتم عليه, وفي رواية بلفظ: إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة وتبعوا أذناب البقر أرسل الله عليهم ذلا لا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم أ.هـ صحيح (رواه أحمد وأبو داوود والبيهقي والطبراني وأبو نعيم).

وهذا الحديث يبين قاعدة إسلامية عظيمة وحكما ثابتا وتبيينا لحقيقة الواقع فإن الأمة إذا تركت الجهاد تسلط عليها عدوها فأدى ذلك إلى أن تترك دينها ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: لا ينـزعه حتى ترجعوا إلى دينكم- حتى يراجعوا دينهم أ.هـ, فمجرد الرجوع إلى الدين فيه السبيل إلى خلاص الأمة من الذل ولم يقل ترجعوا إلى الجهاد لأن الأمة تكون في حال تركها الجهاد قد خرجت من الإسلام , وعودتها إلى دينها وهو التوحيد يقتضي ممارسة أعظم شعائر الإسلام الذي به تحافظ على حياتها التي دبت بها بمجرد عودتها إلى دينها لأن أعداءها لن يقفوا مكتوفي الأيدي مصداقا لقوله تعالى: َولاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ..الآية (البقرة:217), والجهاد دليل صدق الإيمان قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (الحجرات:15), وقال تعالى: لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(الحشر:8), وأمر الله تعالى أن يكون المؤمنون مع الصادقين وهم المجاهدين بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ (التوبة:119).

واللفظ صريح قاطع وهو( ترجعوا ) والرجوع إلى الدين لا يكون إلا بعد مفارقته فهي الردة والخروج من الملة والدين هو توحيد الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(النحل:36), فقتال على غير توحيد إضاعة للمال والجهود والنفوس لغير قصد صحيح وتزداد حيرة الأمة وتيهها وبدل أن نصلح نفسد من حيث لا نشعر.

العمـليات الاستشـهاديـة

لقد سبق بيان وتوضيح أن العمل للإسلام ليس كغيره لأنه وضع الأمور في يد الرحمن لينـزل نصره بغض النظر عن حقيقة الأسباب فما قد يحصل بعدة خطوات مما جعله الله تعالى من خلال سنة الأسباب في حال عدم الإيمان فإن الإيمان مع الأخذ بالأسباب لا يخضع للخطوات التي تتحقق بها النتائج كغيره بل تؤخذ من باب الأمر الشرعي والتوفيق على الله تعالى.

فالعمل بخلاف الشرع يؤدي إلى نتيجة عكسية وإن كان العقل البشري ضمن المعطيات البشرية يظن أن فيه الخير فكل الخير باتباع الأمر الشرعي وكل الشر بخلاف الأمر الشرعي مهما كان, ومن هذا الباب العمل الجهادي الذي هو من أعظم الأعمال في دين الله تعالى ولذلك يجب أن تكون الخطوات المتبعة فيه وخطة العمل قائمة على الشرع المحكم وان لا يصار إلى الاجتهاد بالنصوص وإنما يكون الاجتهاد في كيفية التحرك بالأمر الشرعي ضمن الضوابط الشرعية ومن الأمور التي وقع فيها خلل في العمل الجهادي مسألة العمليات الاستشهادية بمعنى تفجير النفس لقتل الأعداء ولقد اطلعت على غالب الفتاوى والدراسات المتعلقة بهذا الأمر – ما وقع منها تحت يدي – وهي: دراسة للشيخ أبي سعد العاملي وفتوى للشيخ حامد العلي وفتوى للشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي وفتوى للشيخ ناصر العلوان وفتوى للشيخ على الخضير وفتوى رابطة علماء فلسطين ودراسة للشيخ يوسف العييري وهي أوسعها وأشملها.

1- هذه الدراسات والفتاوى تستند إلى أدلة قولية وعملية لكن قبل الخوض في المسألة لا بد من بيان قاعدة أصولية شرعية مهمة وهي أن الأدلة تنقسم إلى قسمين قولية وعملية:

- فالقولية : قول الله تعالى وقول رسوله يدخله العموم والإطلاق والخصوص والتقييد والأصل أن النص العام والمطلق يعمل به مباشرة إذا جاء وقت العمل به وعلى ظاهره وأما تخصيصه وتقييده فيعتبر فرعا عليه فإذا كان هناك وقت للبحث عن مخصص أو مقيد فله ذلك ولكن البحث بهذه الكيفية قد يفوت وقت العمل بالعام والمطلق كما أن ثبوت المخصص أو المقيد مسألة ظنية والعموم والإطلاق مع وجود النص مسألة يقينية فيعمل باليقيني وهو الأصل فإن الظن لا يغني من الحق شيئا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: وأهل الباطل من جهة إخراج الألفاظ عن حقائقها وفتح أبواب الاحتمالات والتجويزات عليها وتغليب الخصوص على العموم وادعائهم أن الأغلب في ألفاظ العموم إنما هو الخصوص دون العموم ذهابا منهم في ذلك إلى أن البيان الشافي إنما هو في المعنى الخاص دون العام وأنه المتيقن من اللفظ...إلى قوله: إن القدح في دلالة العام باحتمال الخصوص وفي الحقيقة باحتمال المجاز والنقل والاشتراك وسائر ما ذكر يبطل حجج الله على خلقه بآياته ويبطل أوامره ونواهيه وفائدة أخباره أ.هـ الصواعق المرسلة 2/682-683.

- أما العملية سواء كانت عمل الرسول عليه الصلاة والسلام أو عمل الصحابة الذي أقره الرسول عليه الصلاة والسلام أو أجمعوا عليه أو عدم وجود المخالف لا يدخله العموم فالقاعدة الأصولية أن الأعمال لا عموم لها ولا يستدل بها إلا على صورتها وهذا ما أصله جمهور الأصوليين كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله تعالى بقوله: وإذا كان فعله( المقتدى به) جائزا أو مستحبا أو أفضل فانه لا عموم له في جميع الصور بل لا يتعدى حكمه إلا إلى ما هو مثله فان هذا شأن جميع الأفعال لا عموم لها حتى فعل النبي لا عموم له أ.هـ الفتاوى 19/153, وكذلك الشوكاني بقوله: والأفعال لا عموم لها قال القاضي أبو عبد الله الصيمري الحنفي في كتابه مسائل الخلاف في أصول الفقه: دعوى العموم في الأفعال لا تصح عند أصحابنا ودليلنا أن العموم ما اشتمل على أشياء متغايرة والفعل لا يقع إلا على درجة واحدة وقال الشيخ أبو إسحاق لا يصح العموم إلا في الألفاظ وأما في الأفعال فلا يصح لأنها تقع على صفة واحدة.أ.هـ إرشاد الفحول 1/171.

2- هذه العمليات لا تدخل تحت الأصل الشرعي العام الأصل في الأشياء الإباحة لأنه عبادة والعبادة الأصل فيها التوقف حتى يرد الدليل عليها وإذا فعلت بغير دليل فهي بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

3- هذه العمليات لا تجوز شرعا للأدلة الثابتة التالية:

أ- قوله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (النساء:29), وهذا نص عام بتحريم قتل النفس سواء بمباشرة القتل أو تعريض النفس للقتل وعموم النص هو الأصل ولم يثبت تخصيص لهذا النص إلا في حالة تعريض النفس للقتل بقوله تعالى: وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (التوبة:36) , فقتال الكفار يقتضي تعريض النفس للقتل وكون هذا الأمر الإلهي من الكتاب فقد قال تعالى: ّمَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ(الأنعام:8), وبين سبحانه هذه الكيفية بقوله : فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً (النساء:84), فيشمل مباشرة القتال بالنفس وتحريض المؤمنين على القتال, وبما أن القتال في سبيل الله هو الجهاد فقد بين الرسول عليه الصلاة والسلام خلال مسيرته الجهادية التي استمرت عشر سنوات كيفية الجهاد بالنفس لأنه المبين لما في الكتاب فلم يثبت خلال هذه الفترة الطويلة من الجهاد نص يقول بجواز مباشرة قتل النفس لقتل أعداء الله تعالى كما لم يثبت أنه أمر مسلما بمباشرة قتل نفسه لقتل أعداء الله تعالى ولم يحدث أمامه أن باشر صحابي قتل نفسه بنية قتل أعداء الله تعالى وأقر ذلك, وعليه فليس على هذه العمليات دليل من الكتاب والسنة لا قولا ولا عملا فأدلة الكتاب دلت على القتال في سبيل الله تعالى المبين كيفيته بالنصوص القرآنية والنبوية بتعريض النفس للقتل من قبل الأعداء وهو الجهاد في سبيل الله تعالى ويثبت المنع للصورة الأخرى وهي مباشرة قتل النفس أو قتل نفس مؤمنة أخرى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً (النساء:92), وهنا سؤال مهم يوضح هذا الأمر جليا وهو: هل يجوز أن يدخل مسلم عملية من هذه العمليات ويقوم مسلم آخر بتفجيره؟ الجواب قطعا وجزما بالنفي,فكما أنه لا يجوز أن يباشر مؤمن قتل مؤمن آخر لقتل أعداء الله تعالى فكذلك لا يجوز مباشرة قتل النفس لقتل أعداء الله تعالى سواء بسواء,لأن الأصل في الدماء الحرمة ولا تستباح بالشبهة وعليه فأين الدليل على التفريق بين تفجير المسلم نفسه وبين تفجير المسلم من قبل مسلم آخر ما دامت العلة والهدف واحدا ؟ وإلا فحكم الجواز للحالتين سيان وهو ما لم يقل به القائلون بالجواز وإذا ثبت المنع لحالة لزم ثبوتها للأخرى بطريق الأولى.

ب- قوله تعالى: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (آل عمران:140), وهذا نص صريح على أن اختيار الشهداء فضل الله يؤتيه من يشاء ليس للعبد فيه اختيار فهو سبحانه يعلم ويقرر من يستحق الشهادة ممن لا يستحقها وهو الذي يقرر من يقتل شهيدا ومن يموت حتف أنفه فهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه نعى نفسه بأنه يموت على الفراش كما يموت البعير وقد طلب الشهادة منذ إسلامه ولم تتفق له لحكمة ربانية , فإن أقصى ما يفعله العبد هو أن يطلب الشهادة بصدق بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: من طلب الشهادة أعطيها وإن لم تصبه.أ.هـ ( أخرجه مسلم), وقال عليه الصلاة والسلام: من سأل الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه أ.هـ(رواه مسلم), وقال عليه السلام أيضا: من قاتل في سبيل الله فواق ناقة ( الفواق ما بين الحلبتين ) فقد وجبت له الجنة ومن سأل الله القتل من نفسه صادقا ثم مات أو قتل فإن له أجر شهيد " زاد ابن المصفى من هنا " ومن جرح جرحا في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها لون الزعفران وريحها ريح المسك ومن خرج به خراج ( الخراج القروح والدماميل تخرج من البدن ) في سبيل الله فإن عليه طابع الشهداء.أ.هـ صحيح(رواه أبو داود والنسائي والترمذي).

فرسول الله صلى الله عليه وسلم يبين بنص واضح صريح أن غاية فعل العبد هو طلب الشهادة ليس له غير ذلك وأما مسألة إزهاق روحه فهذا من اختصاص الله تعالى وحده لأنه هو المحيي والمميت وهو الذي يتوفى الأنفس , فمن جعل لنفسه الاختيار في إزهاق روحه كيفا ووقتا فقد تعدى على الله تعالى وكان من المعتدين بدليل قوله تعالى في الآية نفسها: وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (), ويزيده تأكيدا قوله عليه الصلاة والسلام: كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح، فجزع، فأخذ سكينا فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة أ.هـ (صحيح البخاري). فقوله:(بادرني) أي سبقني بمعنى أنه أختار الموت من تلقاء نفسه وبيده - وهذا نص عام ليس هناك ما يخصصه ويشمل جميع الكيفيات - ولم يترك الأمر لقدر الله تعالى لأنه لا يعلم العبد ساعة موته ولا مكانه لقوله تعالى: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (لقمان:34), قال ابن حجر رحمه الله تعالى: قوله: قال الله عز وجل بادرني عبدي بنفسه هو كناية عن استعجال المذكور الموت وسيأتي البحث فيه وقوله :حرمت عليه الجنة, جار مجرى التعليل للعقوبة لأنه لما استعجل الموت بتعاطي سببه من إنفاذ مقاتله فجعل له فيه اختيارا عصى الله به فناسب أن يعاقبه ودل ذلك على أنه حزها لإرادة الموت لا لقصد المداواة التي يغلب على الظن الانتفاع بها وقد استشكل قوله: بادرني بنفسه , وقوله: حرمت عليه الجنة, لأن الأول يقتضي أن يكون من قتل فقد مات قبل أجله لما يوهمه سياق الحديث من أنه لو لم يقتل نفسه كان قد تأخر عن ذلك الوقت وعاش لكنه بادر فتقدم والثاني: يقتضي تخليد الموحد في النار والجواب عن الأول:أن المبادرة من حيث التسبب في ذلك والقصد له والاختيار وأطلق عليه المبادرة لوجود صورتها وإنما استحق المعاقبة لأن الله لم يطلعه على انقضاء أجله فاختار هو قتل نفسه فاستحق المعاقبة لعصيانه... وفي الحديث تحريم قتل النفس سواء كانت نفس القاتل أم غيره وقتل الغير يؤخذ تحريمه من هذا الحديث بطريق الأولى وفيه الوقوف عند حقوق الله ورحمته بخلقه حيث حرم عليهم قتل نفوسهم وأن الأنفس ملك الله... وفيه تحريم تعاطي الأسباب المفضية إلى قتل النفس أ.هـ فتح الباري 6/500.

وقد بوب النحاس رحمه الله تعالى في كتابه مشارع الأشواق وهو الباب الثامن والعشرون بعنوان: في الترغيب في سؤال الشهادة والحرص عليها ومن تعرض لها فنالها.

ت- قوله عليه الصلاة والسلام: لا يتمن أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه إنه إذا مات انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا أ.هـ (رواه مسلم) , فالحديث ينص على النهى عن مجرد تمني الموت وأن بقاء المسلم خير له وأقصى ما يفعله المسلم هو ما بينه عليه الصلاة والسلام بقوله: لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه فإن كان لا بد فاعلا فليقل: اللهم أحييني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي (رواه البخاري ومسلم وغيرهم), فهذا أمر واضح وصريح أن على المسلم أن يفوض أمر الموت إلى الله تعالى ولا يتمناه - فمباشرته بنفسه أشد نهيا- في حال أصابه الضر فكيف بما دون ذلك مع أن العلماء ذكروا خلافا في قضية التخصيص وأنه يجوز تمني الموت خوفا من الفتن كما فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعن سعيد بن المسيب قال: لما صدر عمر بن الخطاب من منى أناخ بالأبطح ثم كوم كومة بطحاء ثم طرح عليها رداءه واستلقى ثم مد يديه إلى السماء فقال اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط أ.هـ (أخرجه الإمام مالك في الموطأ), مع أن هذا الأمر يحتمل فقد يكون رضي الله عنه لم يسمع بالنهي وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال ويؤيد ذلك ما ورد عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قوله لأصحابه:ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعوا بالموت لدعوت به أ.هـ ( صحيح البخاري).وطلب الشهادة وتمنيها ليس من هذا الباب وإنما هو طلب للحياة.

ث- في ظل الواقع العصيب والمتضمن تكالب الأعداء على الأمة وإعراضها عن كتاب ربها وتفشي الجاهلية يبين عليه الصلاة والسلام الخير لأمته وكيفية النجاة بقوله: من خير معاش الناس رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل أو الموت مظانه.أ.هـ (رواه الشيخان), وفي رواية ابن عباس قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء أو خرج عليهم وهم جلوس فقال: ألا أحدثكم بخير الناس منـزلا قال: قلنا بلى يا رسول الله قال: رجل ممسك برأس فرس في سبيل الله حتى يموت أو يقتل ثم قال: ألا أخبركم بالذي يليه قلنا بلى يا رسول الله قال:امرؤ معتزل في شعب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعتزل شرور الناس, ثم قال: ألا أخبركم بشر الناس منـزلا قال قلنا بلى يا رسول الله قال الذي يسأل بالله ولا يعطي به أ.هـ(أخرجها الإمام أحمد والدارمي وابن أبي شيبة), فهنا يبين عليه الصلاة والسلام أمرين:

- أن العبد يطلب القتل أو الموت طلبا ولا يوجده من نفسه وذكر الموت والقتل يشعر باختلاف الحال وأن الموت حتف الأنف وأن القتل يكون بيد الأعداء.

- أن القتل يطلب من مظانه أي:من المواقف التي يغلب فيها وقوعه كالانغماس في العدو.

فهذه أدلة ثابتة محكمة لا يدخلها التخصيص تحرم على المسلم مباشرة قتل نفسه باختيار الزمان والمكان لأي سبب فإن بقاء مسلم خير من قتل ألف كافر لما في ذلك من المصالح لدين الله عز وجل والحكم التي لا يعلمها ولا يحيط بها إلا الله سبحانه وتعالى وقد صرح بذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو ممن أمرنا الرسول عليه الصلاة والسلام بالإقتداء به بقوله: أوصيكم بتقوى الله عز وجل, والسمع والطاعة وإن تأمر عليك عبد, فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين عضوا عليها بالنواجذ, وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة أ.هـ صحيح (رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والطبراني والحاكم في المستدرك وغيرهم), فكان يوصي قادة الجيش إذا سيرهم للجهاد بالمحافظة على أرواح المسلمين ولا يدخلونهم في مهالك تؤدي إلى هلاكهم وأن حياة مسلم عنده خير من قتل ألف مشرك ومن ذلك وصيته لقادة الجيوش التي يكون فيها البراء بن مالك رضي الله عنه بعدم توليته لئلا يخاطر بالمسلمين كما ذكر ذلك الحاكم في المستدرك 3/330.

ج- عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر يا عامر ألا تسمعنا من هنيهاتك ؟ وكان عامر رجلا شاعرا حداء فنـزل يحدو بالقوم يقول:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا

فاغفر فداء لك ما اتقينا * وثبت الأقدام إن لاقينا

وألقين سكينة علينا * إنا إذا صيح بنا أبينا

وبالصياح عولوا علينا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا السائق, قالوا: عامر بن الأكوع, قال: يرحمه الله. قال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله لولا أمتعتنا به ؟ فأتينا خيبر فحاصرناهم حتى أصابتنا مخمصة شديدة ثم إن الله تعالى فتحها عليهم فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم أوقدوا نيرانا كثيرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم :ما هذه النيران ؟ على أي شيء توقدون. قالوا: على لحم, قال:على أي لحم. قالوا:لحم حمر الإنسية, قال النبي صلى الله عليه وسلم:أهريقوها واكسروها. قال رجل:يا رسول الله أو نهريقها ونغسلها ؟ قال: أو ذاك. فلما تصاف القوم كان سيف عامر قصيرا فتناول به ساق يهودي ليضربه ويرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمات منه قال: فلما قفلوا, قال سلمة: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي قال: مالك.قلت له:فداك أبي وأمي زعموا أن عامرا حبط عمله ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم:كذب من قاله إن له لأجرين - وجمع بين إصبعيه - إنه لجاهد مجاهد قل عربي مشى بها مثله أ.هـ (رواه البخاري ومسلم).وفي الحديث:

1- أن الصحابي عامر بن الأكوع رضي الله عنه كان في حالة قتال لأعداء الله تعالى.

2- أنه لم يُقتل بيد أعداء الله تعالى وإنما كان هو المتسبب بقتل نفسه بغير قصد ولم يكن قاصدا قتل نفسه لقتل أعداء الله تعالى.

3- أن الصحابة رضي الله عنهم أخذوا بعموم قوله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (النساء:29), وأن من قتل نفسه فقد حبط عمله سواء في الجهاد لقتل أعداء الله تعالى كما حصل مع الصحابي عامر رضي الله عنه أو غيره بقصد أو بغير قصد وأنه يحرم مباشرة قتل النفس بأي طريقة.قال ابن حجر رحمه الله تعالى: قوله: زعموا أن عامرا حبط عمله في رواية إياس بطل عمل عامر قتل نفسه وسمى من القائلين أسيد بن حضير في رواية قتيبة الآتية في الأدب وعند بن إسحاق فكان المسلمون شكوا فيه وقالوا إنما قتله سلاحه أ.هـ فتح الباري 7/467.

قال بدر الدين العيني رحمه الله تعالى: قوله حبط عمله أي عمل عامر لأنه قتل نفسه قوله أن له لأجرين وهما أجر الجهد في الطاعة وأجر المجاهدة في سبيل الله أ.هـ عمدة القاري 17/236.

4- إقرار الرسول عليه الصلاة والسلام لفهم الصحابة ولكن خرج الصحابي عامر رضي الله عنه من العموم لأنه لم يقصد قتل نفسه وإنما حصل ذلك بالخطأ- والخطأ المعفو عنه هو: أن يقصد المكلف أمرا مشروعا بنية صحيحة واتفاق أمر غير مشروع - بالأدلة التالية قوله تعالى: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَو ْأَخْطَأْنَا (البقرة:286), وقد ورد في الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس أن الله تعالى قال:قد فعلت , وفي رواية أخرى: قال : نعم.ولقوله عليه الصلاة والسلام: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه أ.هـ قال ابن حجر رحمه الله تعالى: قال النووي في الطلاق من الروضة في تعليق الطلاق حديث حسن وكذا قال في اواخر الأربعين له انتهى أ.هـ تلخيص الحبير1/281, ولو كان قتل النفس لقتل أعداء الله تعالى مشروعا لبين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن هذا مقام بيان والموقف يحتمله ولقال بأن من قتل نفسه لقتال أعداء الله تعالى لا حرج فيه حسب القاعدة الشرعية: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

5- قوله عليه الصلاة والسلام: كذب من قاله إن له لأجرين - وجمع بين إصبعيه - إنه لجاهد مجاهد قل عربي مشى بها مثله أ.هـ, خاص بالصحابي عامر رضي الله عنه إذ أنه لا يُحكم لأحد بالجنة إلا عن طريق الوحي,كما أن في هذا تزكية لا تجوز إلا للنبي عليه الصلاة والسلام.

ح - إن غاية ما في العمليات الاستشهادية من حيث العلة أنها مباشرة قتل النفس طاعة لله سبحانه وهذا لا يجوز أيضا فعن علي رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فاستعمل عليها رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه فغضب فقال: أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لي حطبا، فجمعوا، فقال: أوقدوا نارا، فأوقدوها، فقال: ادخلوها، فهموا وجعل بعضهم يمسك بعضا، ويقولون: فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف أ.هـ (صحيح البخاري), فالصحابة كانوا يعلمون قوله عليه الصلاة والسلام: من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني أ.هـ (رواه الشيخان والإمام أحمد وغيرهم), وكانوا يعلمون قوله تعالى: مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (النساء:80), فمجال التأويل هنا موجود وهو أن يلقوا أنفسهم بالنار طاعة لأميرهم ومعنى ذلك أنه طاعة لله سبحانه وطاعة لرسوله عليه الصلاة والسلام ولكن لا يقبل التأويل بوجود النصوص المحكمة التي فصلت دائرة عمل العبد عن الأفعال المختصة بالله تعالى حيث أن الإحياء والإماتة لله تعالى وإزهاق الروح إنما هو بأمر الله تعالى لأنه المالك لها وحده ولذلك كان الحكم واضحا صريحا بقوله: لو دخلوها ما خرجوا منها (), واختصاص الله تعالى بالإحياء والإماتة من ملة إبراهيم عليه السلام التي بينها في محاجته للنمرود وأنها من مسائل التوحيد كما أخبر تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (البقرة:258),فهذا من البديهيات ومن المعلوم من الدين بالضرورة لا مجال للاجتهاد فيه.

خ- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: انتدب الله عز وجل لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل .أ.هـ (صحيح البخاري), ولفظ الحديث عند النسائي وابن أبي شيبة: تضمن الله عز وجل لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا الجهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نال ما نال من أجر أو غنيمة أ.هـ

فالحديث يدل دلالة صريحة واضحة أن الله هو الضامن أن يرجعه إلى بيته أو يرزقه الشهادة ليس العبد من يختار ذلك فالله تعالى يقدر بعلمه وحكمته من يقتل شهيدا ومن يموت حتف أنفه.

د- أن هذه العمليات تقوم على مخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة وهي عدم الحكم لأحد من أهل القبلة بجنة أو نار ومن يقوم بهذه العملية يعتقد جازما أنه شهيد وأنه ذاهب إلى الجنة بقتله نفسه ولو لم يكن جازما لخشي الخروج إلى عالم البرزخ حيث لا توبة ولا عمل وأنه لا يدري أيذهب إلى جنة أم إلى نار لأنه يعتقد أنه شهيد والشهيد له خصال سبعة منها أنه يغفر له ويؤمن من عذاب القبر وروحه في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت.

ذ- إن هذا العمل يدخل في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) سورة الصف), إذ من أجازها- بل أن البعض يوجبها- يجب عليه أن يفعل ما يعتقده قدوة لغيره في ذلك وإلا دخل في الذم فإن قيل وجود البعض فيه خير, نقول: وما يدريك أن وجود الذي يقوم بالعملية خير من وجود الذي لم يقم بها وهنا دخول في أمر مخالف للشرع أيضا وهو علم الغيب ومعرفة الأصلح فليس غير الأنبياء بقاؤهم للأمة خير من وفاتهم فعن أنس قال: قال أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها فلما انتهينا إليها بكت فقالا لها ما يبكيك ؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم فقالت ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها.أ.هـ( رواه مسلم).

ر- إن في إباحة هذا العمل جعله شرعا معتبرا لجميع المسلمين ولو قام به الجميع لجاز ذلك وفي ذلك هلاك لعصبة المؤمنين بأيديهم وهذا لا يقول به أحد.

4- أما ما استدلوا به من أفعال للصحابة أو ممن ورد ذكرهم بالسنة النبوية أو أقوال العلماء فليس فيها شيء يدل على خلاف ما ذكرناه بل يجب أن تؤول تأويلا يتفق مع النصوص المحكمة وهي المنع ومن باب التبيين للحق نتعرض إلى أهم النصوص التي استدلوا بها:

أ - الاستدلال بقوله تعالى: يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ (التوبة:111), ووجه الاستدلال قراءة حمزة والكسائي بتقديم المفعول على الفاعل على اعتبار أنها تدل على اجتماع القتل في الفريقين وإليك أقوال علماء التفسير بالرد على هذه الشبهة:

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون(), أي: سواء قَتلوا أو قُتلوا أو اجتمع لهم هذا وهذا فقد وجبت لهم الجنة أ.هـ التفسير2/515, ومعنى اجتمع لهم هذا وهذا أي: قتلوا أعدائهم وحصل لهم القتل من أعدائهم..

وقال البيضاوي رحمه الله تعالى: وقرأ حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول وقد عرفت أن الواو لا توجب الترتيب وأن فعل البعض قد يسند إلى الكل.أ.هـ التفسير1/174.

وقال جلال الدين الحلي رحمه الله تعالى: وفي قراءة بتقديم المبني للمفعول أي فيقتل بعضهم ويقاتل الباقي.أ.هـ تفسير الجلالين1/261.

وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: وقرأ حمزة والكسائي فيقتلون ويقتلون مفعول وفاعل قال أبو علي القراءة الأولى بمعنى أنهم يقتلون أولا ويقتلون والأخرى يجوز أن تكون في المعنى كالأولى لأن المعطوف بالواو يجوز أن يراد به التقديم فان لم يقدر فيه التقديم فالمعنى يقتل من بقي منهم بعد قتل من قتل كما أن قوله : فما وهنوا لما أصابهم () ما وهن من بقي بقتل من قتل أ.هـ زاد المسير 1/503.

قال الألوسي رحمه الله تعالى: وقوله سبحانه : فيقتلون ويقتلون(), بيان لكون القتال في سبيل الله تعالى بذلا للنفس وأن المقاتل في سبيله تعالى باذل لها وإن كانت سالمة غانمة فإن الإسناد في الفعلين ليس بطريق اشتراط الجمع بينهما ولا اشتراط الاتصاف بأحدهما البتة بل بطريق وصف الكل بحال البعض فإنه يتحقق القتال من الكل سواء وجد الفعلان أو أحدهما منهم أو من بعضهم أ.هـ روح المعاني 11/ 28.

وقرأ الجمهور ( فيقتلون ) بصيغة المبني للفاعل وما بعده بصيغة المبني للمفعول, وقرأ حمزة والكسائي بالعكس, وفي قراءة الجمهور اهتمام بجهادهم بقتل العدو وفي القراءة الأخرى اهتمام بسبب الشهادة التي هي أدخل في استحقاق الجنة أ.هـ التحرير والتنوير 1/1913.

فالقول بأنه على قراءة حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول دليل على اجتماع القتل في الفريقين سويا وهو ما تدل عليه العمليات الاستشهادية بعيد جدا فإن ذلك ليس من أساليب اللغة لأن الواو لا تقتضي التداخل أو الترتيب وإنما تفيد التغاير وغاية ما فيها الاحتمال-إن صح الاستدلال - وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال خاصة في قضية الدماء لأن الأصل فيها الحرمة ولا تباح بالشبهة, فيكون هذا الدليل من المتشابه على أحسن أحواله يجب أن يرد إلى المحكم ويؤول بما يوافقه.

ب - أمر الغلام للملك بقتله ومحل الاستدلال قوله : فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، قال : وما هو ؟ قال تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ، ثم خذ سهماً من كنانتي ، ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: بسم الله رب الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع ، ثم أخذ سهماً من كنانته ، ثم وضع السهم في كبد القوس ، ثم قال بسم الله رب الغلام ، ثم رماه ، فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات ، فقال الناس آمنّا برب الغلام ، آمنّا برب الغلام ، آمنّا برب الغلام ، فأتي الملك فقيل له : أرأيت ما كنت تحذر ، قد والله نزل بك حذرك ، قد آمن الناس ، فأمر بالأخدود في أفواه السكك ، فخدت وأضرمت النيران ، وقال : من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها ، أو قيل له اقتحم ، ففعلوا حتى أتوا على امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها ، فقال لها الغلام يا أمّه اصبري إنك على الحق (رواه مسلم), فنقول:

1‌- هذا الأمر لم يكن اجتهاديا وإنما وحي من الله تعالى لأنه جزم بذلك وتحقق منه وهذا بحكم علم المغيبات أنظر إلى قوله: فإنك إذا فعلت قتلتني أ.هـ, فما أدرى الغلام أن لا يحصل مثل ما حصل في المرتين الأوليين لأن الملك قام بمحاولة قتله بأمرين محققين ولم يقدر الله تعالى ذلك فأمر الموت والحياة هو لله تعالى فهو الذي يحيي ويميت وليس للعبد من ذلك شيء إلا أن يعرض نفسه لمظان القتل في سبيل الله وهذا لو لم يرد به الدليل الشرعي لما جاز فعله لأن قتل النفس هو إماتة لها ولا تتم إلا بطريقين:الطريق الكوني والشرعي وهو حكم الله تعالى وهذا كالكوني أمره إلى الله تعالى.

2‌- هناك فرق شاسع بين من دل عدوه على طريقة قتله مع إرادة ذلك من العدو حيث لا اختيار له في القتل وعدمه وكل ما هنالك هو تخييره بكيفية القتل من قبل القاتل ويبقى تحققه متوقف على إرادة الله ومشيئته والقائم بالعملية الاستشهادية ليس له خيار من قبل عدوه فالقياس غير صحيح, ولو خير مسلم من قبل عدو له بأن يقتل أو يطلق سراحه لما جاز أن يختار القتل لأنه قتل نفس بغير حق.

3 ‌- فعل الغلام لم يكن مقيدا بشيء سواء هلاك الملك أو الإثخان في العدو أو إيمان الناس وإنما كان فعله لأمر محقق وهو إقرار الملك برب الغلام وهذا أمر كان ينكره الملك مع تحقق إرادته قتل الغلام وتوقف حصول القتل على إقرار الملك برب الغلام دليل صريح على أنه وحي خاص.

4‌- غاية ما يستدل به من فعل الغلام أن تكون هذه العملية تحقق نصرا نهائيا للمسلمين أو ظهورا نهائيا للدين من مرة واحدة وشخص واحد كحادثة الغلام مثلا بمثل وليس شرعا متبعا بناءً على قاعدة الاستدلال بالأفعال بأنها لا عموم لها, علما بأن النصر للمسلمين أو التمكين أو الإثخان في العدو في حادثة الغلام لم يتحقق فقد قتل المؤمنون جميعا فلا تصلح للاستدلال لأن علة حكم جواز هذه العمليات الإثخان في العدو أو ظهور الدين وليس أن يقتل المجاهد فقط وهو ما لم يحصل في حادثة الغلام فيسقط الاستدلال بها.

ت - قصة ماشطة ابنة فرعون والمرأة من أصحاب الأخدود متماثلتان من حيث:

1- أن إنطاق الرضيعين كرامة وبمثابة وحي الله تعالى واختياره لهاتين المرأتين وهو الدليل الصريح الذي لا يحتمل غيره.

2 – أن القتل لهاتين المرأتين لم يكن اختياريا منهما فأما المرأة في قصة أصحاب الأخدود فمثلها مثل قومها الذين آمنوا حيث حفرت لهم الأخاديد وقذفوا بها عن غير اختيار منهم فكان حرص الملك وجنوده على قتلهم متحققا, قال صاحب مختار الصحاح ما نصه : وفي الحديث: إن الجنة للمحكمين(), وهم قوم من أصحاب الأخدود حُكموا وخُيروا بين القتل والكفر فاختاروا الثبات على الإسلام مع القتل أ.هـ1/167, وحيث أنها قاومت إلقائها في الأخدود فقد يعني ذلك لجلاديها بأنها رجعت عن دينها فكان إنطاق الغلام تثبيتا لها وإزالة ما قد يتوهم ولذلك ورد في الحديث ما نصه: وقال( الملك) : من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها ، أو قيل له اقتحم أ.هـ.

وأما ماشطة ابنة فرعون مثلها مثل امرأة فرعون حيث قتلتا بغير اختيار وإرادة منهما وإنما هذا فعل فرعون.

ـ أما حديث ماشطة ابنة فرعون ففيه ثلاثة علل: أبا عمر الضرير قال فيه الذهبي وأبو حاتم الرازي هو صدوق وقد وثقه ابن حبان والثانية: أنه من رواية حماد بن سلمة عن عطاء وقد روى عنه بعد وقبل الاختلاط عند جمع من أهل العلم , والثالثة: فيه عطاء بن السائب يرويه عن سعيد بن جبير قال الإمام أحمد : كان يرفع عن سعيد بن جبير أشياء لم يكن يرفعها.

- أما امرأة فرعون فقد أخرج أبو يعلى والبيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة أن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد في يديها ورجليها فكانوا إذا تفرقوا عنها أظلتها الملائكة عليهم السلام فقالت : رب ابن لي عندك بيتا في الجنة فكشف لها عن بيتها في الجنة.أ.هـ فهي سألت الله تعالى أن ينجيها من فرعون وعمله وأن ينجيها من القوم الظالمين, قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: أحدهما: أن عمله جماعه, والثاني: أنه دينه رويا عن ابن عباس, ونجني من القوم الظالمين يعني أهل دين المشركين أ.هـ 8/315.

فهي رضي الله عنها عندما أسلمت بمعنى تبرأت من فرعون وعمله قام بقتلها كما قتل السحرة لما أسلموا بخلاف العمليات, فالعموم منتف بحق هذه الحوادث لأنها أفعال ولا يستدل بها إلا على مثلها . فهذه النصوص ليس فيها دلالة على جواز مباشرة قتل النفس لقتل أعداء الله تعالى إذ أنها تدل على الأخذ بالعزيمة واختيار القتل على الكفر.

ث- الانغماس في صفوف العدو وحقيقة هذه الصورة:

1- أن القتل فيها ظني حيث وردت الآثار بانغماس كثير من المسلمين المجاهدين في صفوف العدو وعادوا سالمين كالبراء بن مالك رضي الله عنه حين قذفه المسلمون داخل الحديقة والزبير بن العوام رضي الله عنه حين أقتحم جيش الروم في معركة اليرموك وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما حين اقتحم صفوف جيش البربر وكانوا مائة وعشرين ألفا أحاطوا بالمسلمين ووصل إلى ملكهم فقتله بخلاف القتل في العمليات المسماة الاستشهادية فهو متحقق حيث أن نتيجة التفجير الحاصل يقيني - قتل المنفذ- حسب ما جرت به العادة والفرق بين الظن واليقين كبير, فليست مسألتنا في غلبة الظن وإنما في تحقق القتل فإن كان التفجير إذا وقع وجرت به العادة أن يسلم المنفذ من القتل مع تحقق الانفجار كان من باب غلبة الظن وجاز الاستدلال به فانتفى القياس.

2‌- أن القتل في الانغماس بالعدو إن حصل فهو بيد الغير وليس بيد المنغمس بخلاف العمليات المسماة استشهادية فهي مباشرة القتل بيد المنفذ نفسه فانتفى القياس, فمسألة الانغماس في العدو ليست دليلا في محل النـزاع فهو فعل لا عموم له ولا يستدل به إلا على صورته.

ج- الإستدلال بأمور ليست في محل الاستدلال من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: إنما الأعمال بالنيات () ومعلوم أن هذا بحق الثواب للعمل الصحيح فالثواب لله تعالى ليس من اختصاصنا وهو مشروط بصحة العمل أي أن يكون الدليل ورد بمشروعيته وبما أنه لم يثبت شرعا جواز مباشرة قتل النفس فالنية الصحيحة لا تصلح العمل غير الصحيح.

ح- وذكروا استنتاجات وقياسات واشترطوا شروط يطول الكلام فيها لا تصلح في مقابل الأدلة الصريحة التي ذكرت ومعلوم انه لا يجوز القياس بوجود النص فلا اجتهاد مع النص.كالاستدلال بفداء الصحابة للرسول عليه السلام بأجسادهم في غزوة أحد فجواب ذلك أن هذا خاص بالنبي عليه السلام لقوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ الآية (الأحزاب:6), فحياة الرسول عليه السلام أولى بالمحافظة عليها من حياتنا ففداه أباؤنا وأمهاتنا عليه الصلاة والسلام.

إن التسبب بقتل النفس بمباشرته بفعل الذات عمل غير مشروع بأي حال ولا يجوز التهاون به ويجب التحرز منه بشدة وفعله أو التساهل فيه يعرض العبد للعقوبة من الله تعالى لأن من أعظم الذنوب عند الله تعالى قتل النفس المحرمة فالدماء الأصل فيها الحرمة ولا تباح إلا بنص واضح صريح ولا تحل بالشبهة دليل ذلك عن جابر رضي الله عنه أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هل لك في حصن حصين ومنعة ؟قال ( حصن كان لدوس في الجاهلية ) فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم للذي ذخر الله للأنصار فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص له فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتى مات فرآه الطفيل ابن عمرو في منامه فرآه وهيئته حسنة ورآه مغطيا يديه فقال له:ما صنع بك ربك ؟ فقال غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: ما لي أراك مغطيا يديك ؟ قال قيل لي لن نصلح منك ما أفسدت فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم وليديه فاغفر أ.هـ (رواه مسلم).

فهذا الصحابي رضي الله عنه لم يقصد قتل نفسه وإنما فعل ما رآه أنه يريحه من الألم دون تثبت لحقيقة ما يؤول إليه فعله وما أفسده لم يغفر له إلا بشفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام وتسببه بقتل نفسه لم يغقر له إلا بأعظم عمل بعد التوحيد ألا وهو الهجرة إلى الله ورسوله ولذلك نص العلماء الربانيون من هذه الأمة على مسألة التسبب بقتل النفس من ذلك قول ابن قدامة المقدسي ما نصه: وإذا ألقى الكفار نارا في سفينة فيها مسلمون فاشتعلت فيها فما غلب على ظنهم السلامة فيه من بقائهم في مركبهم أو إلقاء نفوسهم في الماء فالأولى لهم فعله وان استوى عندهم الأمران فقال أحمد : كيف شاء يصنع قال الأوزاعي : هما موتتان فاختر أيسرهما وقال أبو الخطاب فيه رواية أخرى أنهم يلزمهم المقام لأنهم إذا رموا نفوسهم في الماء كان موتهم بفعلهم- وهذا بحق من لا يحسن السباحة - وإن أقاموا فموتهم بفعل غيرهم أ.هـ المغنى (10/545).

وعلى هذا نستطيع أن نفهم قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (محمد:7), إن نصرة الله تعالى هو بإقامة شرعه كما يريد هو لا كما يريده البشر وبذلك تكتمل العروة الإلهية من الله وعلى مراد الله ولله وإذا اختل منها شيء فأنى يأت نصر وتمكين من الله عز وجل ولنعلم أنه لا يؤثر اختلاف وسائل القتال وتغيرها في تغير الأحكام شيئا فإن الدين قد أتمه الله تعالى ولا نُخضع الأحكام للمتغيرات بل المتغيرات هي التي تخضع للأحكام وليس كل وسيلة مستحدثة يجيزها الشرع أو يجيز استخدامها بكل الوجوه , فإن المقصد من الشريعة هو تحقق التقوى قال الله تعالى: لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (الحج:37), والوقوف عند حدود الله تعالى وتعظيم الحرمات التي ثبتت بنصوص واضحة صريحة خير من تجاوزها بالاجتهاد والتأويل وإن كان الواقع والأحداث تشعر بغير ذلك قال تعالى: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ (الحج:30), وقال تعالى: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (الحج:32).

يقول سيد قطب رحمه الله تعالى كلاما يخط بماء الذهب يصور حقيقة هذا الدين ومكانة المسلم فيه ما نصه: وتقرير الحقيقة فيما يتساءلون فيه ويرد على قولتهم هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله فلا أمر لأحد لا لهم ولا لغيرهم ومن قبل قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:ليس لك من الأمر شيء (), فأمر هذا الدين والجهاد لإقامته وتقرير نظامه في الأرض وهداية القلوب له كلها من أمر الله وليس للبشر فيها من شيء إلا أن يؤدوا واجبهم ويفوا ببيعتهم ثم يكون ما يشاؤه الله كيف يكون.أ.هـ.

قال الشيخ يوسف العييري في نهاية بحثه في العمليات الاستشهادية ما نصه: وفي الختام نقول إن مثل هذه العمليات تحتاج إلى بسط أكثر من هذا، ولكن نسأل الله أن نكون وفقنا من خلال هذا البحث لبيان الحكم الشرعي في هذه العمليات ، فإن أصبنا فمن الله وإن أخطأنا فكل ابن آدم خطاء، وما منا إلا راد ومردود عليه ، فمن كان لديه من العلم ما يفيدنا به ويسدد به طريقنا فلا يبخل به علينا ، فإن لم يكن له عذر بحرماننا من علمه فإننا لا نبيحه أمام الله وقد ناشدناه عوننا، فنحن أحوج الناس لاجتهادات العلماء وأكثرهم فائدة بها ، وما أكثر النوازل المعضلة عندنا التي تحتاج إلى جمع من المجتهدين ليفتوا بها لنا ، ويعطونا آراءهم لنسلك بها طريق الهدى، وإننا بحاجة لمثل هذا الدعم ، فإذا بخل علينا المسلمون بالدعاء فإن دعاء المظلومين في الشيشان يكفينا بإذن الله، وإذا بخل علينا المسلمون بالمال فإن الله يرزقنا السلاح والمال من بين أيدي عدونا ، ولكن العلماء وطلبة العلم إذا بخلوا علينا بعلمهم وإرشادهم وتسديدهم لنا وآراءهم ، فإننا حرمنا خيراً عظيماً ولا مظان لما بخلوا به علينا لنحصله منها ، فالعلم سلعة نادرة إن بخل بها أهلها علينا فلا خير فينا بلا رأيهم ، فاتقوا الله فإننا علقنا في رقابكم اللهم هل بلغنا اللهم فاشهد أ.هـ .

فالشيخ يوسف العييري صاحب أشمل دراسة لهذه العمليات يصرح أن ما وصل إليه في هذه المسألة ظني وفيه قصور لأن المسألة في ظل المعطيات المعاصرة من جهل وضغط على العاملين للإسلام تعتبر شائكة حتى أن البعض يقول أنه إذا لم نقل بجواز هذه العمليان فإن هذا سيؤثر على مسيرة الجهاد ووصل الحال بالبعض القول أنه بدون هذه العمليات لا يمكن الاستمرار بالجهاد.

وأخيراً أقول: لا يظنن ظان أنني أقول هذا نصرة للطاغوت وأعداء الله تعالى من الصليبيين واليهود وأعوانهم أو رياء وتزلفا أو ضعفا وخورا , كلا والذي يحق الحق بكلماته ما قلت هذا إلا نصرة لدين الله تعالى ولن يعدم المجاهدون وسائل نكاية في العدو وأعظمها طاعة الله تعالى وطاعة رسوله فإنما يقاتل المسلم أعداء الله تعالى بإيمانه وطاعته فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال:إنما تقاتلون بأعمالكم أ.هـ (صحيح البخاري), وما استطاع إعداده من عدة وسلاح والله يتكفل بهم وينصرهم لقوله تعالى: َفلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُواْ اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (البقرة:249), وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(محمد:7), وقال تعالى: وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (يوسف:21), فإن أعظم سلاح هو ما بينه تعالى بقوله: إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ (آل عمران:160).

الحروب الصـليبية نشأتـها وامتداداتـها

مصطلح الحروب الصليبية يراد به الحروب التي قام بها النصارى ضد الإسلام والمسلمين وقد يبدو للوهلة الأولى أنها بدأت من خلال الحملات التي جاءت من أوروبا واحتلالها لبيت المقدس وتأسيس الممالك الصليبية في بلاد الشام وما أعقبها من حملات ولكن الحق أن جذور هذه الحروب هي أعمق من ذلك ولها منظرون سبقوا هذه الحملات وضعوا أسسها والتي تمثل العقلية النصرانية الصليبية على مر التاريخ.

فمؤسس هذه الحروب وواضع أساسها هو ملك اليمن الحبشي أبرهة الأشرم حينما أراد السيطرة على الجزيرة العربية حيث كان متدينا تحمله دوافعه الدينية على نشر مذهبه وكان داهية ذو عقلية سياسية قوية تظهر معالمها من خلال حادثتين:

الأولى: عندما نازع قائده أرياط الذي كانت تصرفاته تدل على أنه ذو طموح محدود كونه عسكريا أكثر منه زعيما حيث اكتفى بحكم اليمن حكما عسكريا وترك الشؤون الأخرى على ما هي عليه فلم يعجب ذلك أبرهة ذي الطموح السياسي الكبير فنازع أرياط وانقسم الحبشة إلى طائفتين ثم سار أحدهما إلى الآخر فلما تقابل الجيشان أرسل أبرهة إلى أرياط وكان ذو بـأس شديد يعرض عليه تجنيب الحبشة القتال وجعل الصراع بينهما فقط فمن قتل صاحبه انفرد بحكم اليمن فوافقه على ذلك مما يدل على عقليته المحدودة لما يعلم من التفاوت بين قوته وقوة أبرهة دون أن يقوم بحسابات أخرى ولم يتنبه لمكيدة أبرهة الذي أمر خادمه بقتل أرياط إذا ما تشاغل بالقتال.

الثانية: عندما علم النجاشي بقتل قائده أرياط اقسم أن يطأ ارض اليمن ويجز ناصية أبرهة فقام بحلق شعر رأسه وملأ جرابا من تراب اليمن وأرسله إلى النجاشي وكتب له: أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك فاختلفنا في أمرك وكل طاعته لك إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة لها وأسوس منه أ.هـ.

في ذلك الوقت لم يكن للعرب في نجد والحجاز دولة تجمعهم أو كيان سياسي يمثلهم بل كانوا مجتمعين على زعامة روحية ممثلة بأهل مكة لمكانة الكعبة منهم فهم سدنته والقائمون عليه وكانت زيارة الكعبة أعظم شعائرهم الدينية فكان لا يتخلف عنها قادر ومكانتها في قلوبهم لا يعدلها شيء وكانت خطة أبرهة تقضي بصرف العرب عن دينهم والذي شعاره باستبدالها ببيت آخر بناه في اليمن– فالسيطرة على البشر إنما تتم من خلال اعتناقهم للمناهج وهو عين التبشير هذه الأيام– وكان الوصول إلى هذا الهدف يعتمد على خطة محكمة ذات مراحل وجوانب متعددة , إلا أن ردة فعل العرب الفطرية بتدنيس بناء أبرهة أخرجه عن طوره وسعة أفقه ودهائه إلى أن يتصرف بموجب ردة الفعل الآنية والعاطفة فاعتمد البطش فجهز جيشه وخرج إلى الكعبة يريد هدمها فاعترضته القبائل العربية– وكانت كل قبيلة تقف بمفردها- فهزمها حتى وصل إلى الطائف فتكفل له أحد رجالها واسمه أبو رغال فدله على مكة فمات في الطريق فرجمت العرب قبره لشناعة فعله وعندما وصل إلى مكة وسيدها آنذاك عبد المطلب الذي نظر إلى الواقع فرأى أن موازين القوى المادية غير متكافئة فجيش أبرهة يبلغ الستين ألفا وأهل مكة بضع آلاف في ظل هذه المعادلة الصعبة لم يجد عبد المطلب الذي رسخ في قلبه أن هذا البيت ليس من اختيار البشر وإنما هو بيت الله تعالى الذي يمثل دينه في الأرض إلا القوة الإيمانية فقال لأبرهة إن للبيت رب يحميه فدمر الله تعالى جيش أبرهة بالطيور الأبابيل – وما يعلم جنود ربك إلا هو- وتزامن هذا الحدث مع ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ليكون إعلانا بانتصار وظهور دين الله تعالى رب البيت وبعد هذه الحادثة التي أصبحت حديث الناس وانتشرت انتشارا واسعا ألقت بظلالها على المجتمع العربي حيث أكد الزعامة لأهل مكة على العرب وازداد نفوذها وأنحسر الهدف الصليبي بغزو جزيرة العرب والتعرض لدينها.

وقفـات مع عام الفيـل

1- إن الفكر الصليبي التوسعي على حساب الديانات الأخرى ممتد الجذور وليس وليد لحظة فهو متأصل في العقلية النصرانية.

2- إن الصراع السياسي في الدول النصرانية إنما هو متعلق بمن يحقق الطموحات العقدية.

3- إن القوى الصليبية لا تدخر جهدا في حشد الإمكانيات الهائلة في سبيل تحقيق أهدافها.

4- إن الإيمان هو أساس المواجهة مع قلة الإمكانيات فإذا فقد هذا الوازع فقد أصاب الأمة في مقتل لأنه حلقة الوصل التي تنهض بالأمة من ضعفها.

5- إن التعرض للمقدسات يتولد عنه حدوث انقلاب في الأمة.

6- إن نقطة ضعف الأمة من نفسها وأعداؤها لا يصلون إليها إلا عبر من خانوها وتنصلوا من ثوابتها.

7- إن الأمة لا تعدم مع ضعفها المادي من الوقوف بوجه من يتعرض لمقدساتها.

8- إن الزعامة في الأمة لمن ينهض مدافعا عن ثوابتها الشرعية.

الثوابت الإسـلامية في المواجهـة

بعد بعثة الرسول عليه السلام والتمكين للمسلمين في الجزيرة العربية بدأ الصراع الدعوي مع الديانات الأخرى على اختلافها فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام الدين الحق انطلاقا من شموليته وعالميته وأنه الدين الذي ارتضاه الله عز وجل للبشرية جميعا وأنه لا محالة ظاهر على غيره من الأديان وأن عليهم أن يخضعوا لإرادة الله تعالى وهذا كله من خلال إقامة الحجة والبيان وأن على الناس جميعا وخاصة أصحاب الكتب السماوية أن يجتمعوا على قاسم مشترك فيه العدل من خلال حوار وجدال هادف معلوم المقدمات والأهداف والأسس منضبط بقواعد لا يختلف عليها اثنان إلا من عاند وكابر وقد بين سبحانه وتعالى معالمه الواضحة بقوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران:64),هذه الدعوة الواضحة التي تدعوا إلى أن يتساوى الجميع في مقام العبودية تجاه معبود واحد هو الله تعالى من خلال ثلاث معالم هي:

1- عبادة الله وحده.

2- عدم الإشراك بالله تعالى.

3- عدم اتخاذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله.

كان قتل الرسول الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الرد الذي واجه به نصارى الشام هذه الدعوة معلنين بذلك رفضهم لحوار الكلمة التي يجب أن تكون موضع اتفاق وأعلنوا لغة القتل والقتال فوجه الرسول عليه الصلاة والسلام حملة عسكرية لإحقاق الحق وإبطال الباطل لتعلوا كلمة الله الجميع وإعلان عملي بأن المسلمين هم حماة كلمة الله تعالى القائمون عليها وعلى نشرها وأنهم هم الذين يجب عليهم فرض النظام العالمي الرباني الذي ارتضاه الله تعالى وأنهم أصحاب الراية ماضون في تحقيق الأهداف التي كلفهم بها ربهم سبحانه وتعالى وأنه لا حدود معلنة لسلطان الإسلام إلا أن يعم الأرض جميعها .

إن هذا الأمر ليس تسلطا وهضما لحقوق الآخرين إنما هو وضع الأمور في نصابها فالإسلام هو دين الله تعالى خالق هذا الكون وخالق البشر والغاية منه إصلاح الأرض ومن عليها فمن رفض الإسلام فإنه يبغي الفساد في الأرض فمن حق أصحاب الدين الحق أن يأخذوا على يده ليعيش الناس في سلام وأمان وعدل وهذا لا يمكن أن يحدث في غير الخضوع للإسلام.

هذا الإجراء أعقبه حشود رومية لغزو المسلمين في عقر دارهم تناهت أخباره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنا يعلن النصارى أن الهدف هو المدينة- أي: القضاء على الإسلام -ولعظم هذا الأمر وخطره أعلن عليه الصلاة والسلام النفير العام في الأمة جميعا وان القتال وغزو الروم هو واجب على كل مسلم ومن تخلف عنه مع كونه مستطيعا له فقد حكم على نفسه بالنفاق وكان الوقت صيفا والمشقة كبيرة والإمكانيات شحيحة ومع ذلك فقد خرج بثلاثين ألفا فدخل بلاد الشام الخاضعة للدولة النصرانية ولم يحصل قتال لاستنكاف النصارى عن المواجهة, فثوابت الإسلام في المواجهة هي:

1- أنه يعرض أمرا غير قابل للاعتراض والنقد ودواعي قبوله هي ما تقر به العقول الصريحة وهو التمايز بين الخالق والمخلوق.

2- أن الجانب المحق يبدأ في تحرير العقول من الباطل ليضع الأمور في نصابها وأن جانب الباطل يفر من المواجهة ويلجأ إلى الصراع المسلح لفرض باطله.

3- أن التعرض لمدينة الرسول عليه الصلاة والسلام واستهداف الإسلام يوجب النفير العام في الأمة بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى سواء كانت وطنية أو قومية إذ أن هذا كله في الإسلام من الجاهلية المقيتة..

4- أن بذل الجهد المستطاع وحشد الإمكانيات المتوفرة يعتبر أصلا في إعداد الأمة التي عرفت حقيقة دينها كما يريده منها سبحانه وتعالى يترتب عليه النصر وكلما كان الجهد المبذول أعظم ودواعي النفير أقل كلما كان النصر محققا حتى تصل درجة النصر إلى انهزام الجيوش مهما عظمت دون حصول قتال مباشر.

5- أنه إذا تعين النفير في الأمة إذا استهدفت لاستئصالها مع قدرتها عليه من حيث وجود الفئة المسلمة الحقة فإنه يترتب حكم الردة على المستنكفين عن النفير.

بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام واستقرار الشرع على مواجهة الباطل واستئصاله وبيان حقيقة الصراع والنوايا وأنه لا هدنة ولا أنصاف حلول مع الباطل حصلت الردة في أرجاء الجزيرة العربية حيث قام الخليفة أبو بكر رضي الله عنه بواجب الجهاد وإعادة الأمور إلى نصابها ومع قلة عددهم وعُدَدِهم وتكالب الأعداء عليهم إلا أن تمسكهم بدين الله تعالى ووقوفهم خلف قيادتهم المؤمنة كان أعظم سبب للنصر فنصرهم الله تعالى نصرا مؤزرا قاموا على أثرها بجهاد أقوى إمبراطوريتين وهما فارس والروم مؤمنين بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده.أ.هـ(البخاري ومسلم), فكان النصر على هاتين الدولتين وخضوعها لحكم الإسلام فساد الأمن والعدل والرخاء ونزلت البركات من السماء.

وعلى مر التاريخ كانت قوة المسلمين المتمثلة بتمسكهم بدينهم وعدم إخضاعه للتأويلات والآراء واستعدادهم للجهاد حاجزا يحول دون ظهور قوة أخرى مهما كانت ولكن عندما وهنوا بإدخال الآراء والتأويلات في دين الله تعالى وعدم إعمال موازين الموالاة التي تعتبر سياجا للأمة آل الأمر إلى سقوط حواضر الإسلام بيد أعدائهم حتى أصبح المسلم غريبا طريدا.

أهم المتغيرات في العالم الإسلامي والحرب الصليبية الأولى

لقد حاولت الإمبراطورية النصرانية منذ عودة بيت المقدس إلى أهله الشرعيين في زمن خلافة الفاروق رضي الله عنه استعادته إلا أن قوة المسلمين المتمثلة بتوحيد خالص ورسوخ عقيدة الجهاد حالت بينهم وبين ذلك لعدة قرون وكان سقوطها دليلا على التراجع في الأمة ولم يكن هذا طفرة وإنما له أسبابه التي أدت إليه بدءا من الصراعات في أواخر الدولة الأموية واستلام العباسيين الذين قام حكمهم على أمور أوهنت الأمـة:

1- اعتمادهم على العنصر غير العربي الذي هو مادة الإسلام ودعامته ودخول العناصر غير العربية ذات الثقافة العجمية بقوة إلى أعلى المستويات في إدارات الدولة وفي البداية كانوا أهل فارس ذوي نزعة التشيع ووصل رجالاتهم إلى منصب الوزارة مما كان السبب المباشر في سقوط الخلافة العباسيةفيما بعد على يد الوزير ابن العلقمي إضافة إلى إدخال العناصر التركية في زمن المعتصم مما زاد الوهن في جسم الدولة الإسلامية..

2- إدخال كتب التراث والثقافة وعلوم الكلام اليونانية بعد ترجمتها إلى العربية وهي العلوم التي حذر الرسول عليه الصلاة والسلام منها فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما موقوفا وله حكم الرفع: إن من أشراط الساعة أن ترفع الأشرار وتوضع الأخيار وأن يخزن الفعل والعمل ويظهر القول وأن يقرأ بالمثناة في القوم ليس فيهم من يغيرها أو ينكرها فقيل : وما المثناة ؟ قال : ما اكتتبت سوى كتاب الله عز و جل أ.هـ (حديث صحيح رواه الحاكم في المستدرك والدارمي والطبراني في مسند الشاميين وتمام الرازي في الفوائد), وهذه الكتب لا تستمد أصولها من القرآن والسنة مما أدخل الوهن في عقائد المسلمين وأدى إلى نشوء الفرق الكلامية والعقائد الفاسدة وقد قال حكيم نصراني آنذاك عندما راع قومه ذهاب كتبهم: ما دخلت هذه الكتب على قوم إلا أصابهم الوهن.

3- تخلي الخلفاء العباسيون عن مسؤولياتهم في مباشرة إدارة الدولة بأنفسهم وتفويض ذلك إلى الوزراء ذوي الاتجاهات المختلفة واعتمادهم على قوة القيادات العسكرية بعد إفساح المجال لها بالتعاظم مما أدى إلى نشوء دول داخل الدولة العباسية خاضعة اسميا للخلافة ونشوء النزاعات بينها مما أفقد هيبة الخلافة وأضعف ترابط الأمة.

4- الانشغال بالدنيا واتساع دائرة الترف في الأمة مما أوهن القلوب وتقاعس الأمة عن الجهاد ونشر الدين مما حعلها عرضة لاستنزاف طاقاتها في دفع المعتدين.

وأستمر الوضع يزداد سوءاً والنخر يتعاظم في جسم الأمة حتى تمكن العبيديون من تأسيس دولتهم التي شملت النصف الغربي من الدولة الإسلامية حيث كان الغرب يراقب عن كثب الأحداث في الأمة الإسلامية فقام ملك الروم أرمانوس عام 463هـ بحملة كبيرة جدا بلغ تعدادها قريب المليونين على أكثر الروايات وستمائة ألف على أقلها وقد عزم على إبادة الإسلام وأهله وكانت خطته تقوم على احتلال ممالك العراق وخراسان ثم التوجه إلى بلاد الشام واستعادتها وكان مغترا جدا بقوته تلك حتى أنه خرج بقياداته وقد قسم بينهم أرض المسلمين فتصدى له السلطان السلجوقي ألب أرسلان رحمه الله تعالى في جيش قريب من عشرين ألفا وأسفرت المعركة عن انتصار حاسم للمسلمين وإبادة معظم الجيش النصراني ووقوع ملكهم في الأسر ومع ذلك لم تخمد النار المتأججة في صدور الصليبيين حقدا على الإسلام وأهله حتى قامت الدعوة إلى الحروب الصليبية الثانية في القرون الوسطى ولكن هذه المرة عن طريق الكنيسة الغربية الكاثوليكية بزعامة البابا أوريانوس الثاني عام 488هـ 1095م واستمرت الاستعدادات والدعوة إليها سنة كاملة وقد حدد البابا معالمها في خطابه في مجمع كليرمون فيران في فرنسا وكان مما قاله: إن هذه الحرب ليست تشن لاكتساب مدينة واحدة بل لامتلاك أقاليم آسيا بأجمعها مع غناها وخزائنها التي لا تحصى فانتهزوا هذه الفرصة وخلصوا الأراضي المقدسة كلها من أيدي مختلسيها وامتلكوها أنتم خالصة لكم من دون أولئك الكفار فهذه الأرض كما قالت التوراة تفيض لبنا وعسلا.

وقال مخاطبا جنود أوروبا: لقد كنتم تحاولون من غير جدوى إثارة نيران الحروب والفتن فيما بينكم فاستيقظوا الآن لأنكم وجدتم داعيا حقيقيا إليها لقد كنتم سبب إزعاج مواطنيكم وقتا ما فاذهبوا الآن وأزعجوا البرابرة اذهبوا وخلصوا البلاد المقدسة من أيدي الكفار.

أيها الجند أنتم الذين كنتم سلع الشر والفتن هبوا اليوم وقدموا قواكم وسواعدكم ثمنا لإيمانكم وتسلحوا بسلاح الدين والتقوى فإنكم بذلك تنالون الجزاء الأوفى والنعيم الدائم أ.هـ

ولم يترك البابا وسيلة إلا اتبعها لإذكاء هذه الحرب فكان الجندي عندما يلبس الصليب معفيا من الضرائب والديون وكان شخصه محميا من قبل الكنيسة التي كانت تغفر ذنوبه وآثامه وتضمن له الخلود الأبدي فمن هذه المقدمات والاستعدادات نلاحظ ما يلي:

1- أن التعاليم التوراتية هي من أهم الدوافع لهذه الحروب.

2- أن هذه الحروب انطلقت من مبدأ تكفيري.

3- أن مجهودات العمل الحربي إنما هي ثمن للإيمان الذي يؤدي إلى نعيم دائم.

4- أن رجال الدين هم الذين أججوا نارها وألهبوا حماس الأوروبيين بشتى الوسائل فبالإضافة إلى البابا كان هناك بطرس الناسك الذي قام بمجهود كبير جاب أوروبا سيرا على قدميه داعيا إلى هذه الحرب.

انطلقت هذه الحملة عام 490هـ 1096م تقودها المبشرات التوراتية والوعود البابوية الكنسية تتكون من فرقتين:

الأولى: الأمراء وجيوشهم بقيادة غودفرا دي بويون دوق اللورين وأربعة أمراء فرنسيين وخامس صقلي.

الثانية: أتباع بطرس الناسك ووليم النجار من عامة الناس.

كان تعداد هذه الحملة يتجاوز النصف مليون وقد تلاحقت إليها الإمدادات والنجدات من جيوش الفرنجة من الغرب ومن الأساطيل الإيطالية واستمرت ثلاث سنوات احتلوا خلالها الساحل الشامي حتى وصلوا إلى القدس واقتحموها عام 492هـ 1099م وقتلوا معظم سكانها من الرجال والنساء والأطفال حتى سالت الدماء في طرقات المدينة.

العوامل التي أدت إلى هذه الفاجعة:

1- ضعف الوازع الديني عموما عند الأمراء والعامة حتى خضع كثير من المسلمين إلى سلطة الصليبيين والانشغال بطلب الدنيا.

2- ترك الجهاد والإعداد له.

3- حالة التفرق والتمزق في الأمة.

4- عدم تمكن الخلفاء من السلطة وانشغال أمراء الدولة بالقتال فيما بينهم مما أدى على استنزاف قوة الأمة واستقرارها.

5- وجود الدولة الشيعية واستيلائها على بلاد الشام التي زادت.

6- تضامن نصارى المشرق الخاضعين للحكم الإسلامي مع نصارى الغرب مما كان له أكبر الأثر في تجنب هذه الحملات الانهيار والفشل.

بعد احتلال القدس سيطر الصليبيون على قلب العالم الإسلامي حتى باتوا يهددون الخلافة في بغداد والأماكن المقدسة في الحجاز فتضافرت الدعوات إلى الوقوف في وجه الصليبين وبعث روح الجهاد في الأمة وقام بعض الأمراء بالتصدي للحملة الصليبية وحالوا بين توسعها وكانت المعارك بينهم سجالا ولم يتم توجيه حملة منظمة لانشغال الأمراء بالقتال فيما بينهم.

الحروب الصليبية ومراحل التحول في الأمـة

كانت بوادر التحول إزاء الحوادث المفجعة في الأمة والتي لم يسبق لها مثيل تدل دلالة واضحة على التخاذل والانهزامية نتيجة الركون إلى الدنيا فكانت الانطلاقة العظيمة على يد السلطان غياث الدين الذي أذكى الروح الإسلامية ومهد الطريق لعمل إسلامي حقيقي من خلال الجهاد فسير حملة عسكرية كثيفة بقيادة أمير الموصل الأمير مودود عام 505هـ 1110م لقتال الصليبيين بالشام فانتزعوا من أيديهم حصونا كثيرة وقتلوا منهم خلقا كثيرا ودخل دمشق وتحالف مع أميرها وعندما شعر الصليبيون بخطر هذا التحالف قاموا باغتياله بوساطة الشيعة الإسماعيلية مما أدى إلى الحيلولة دون ظهور قوة موحدة للمسلمين.

لم تتوقف الصحوة الإسلامية ولم تخل الأمة من رجال حملوا هم الإسلام ليكونوا لبنات في صرحه الشامخ فقاد الأمير نجم الدين إيلغازي صاحب ماردين تحالفا إسلاميا آخر ثم من بعده نور الدولة بلك بن أرتق صاحب قلعة خربوط التي أدت أعماله الجهادية إلى أسر أمير الرها الصليبي جوسلين وملك بيت المقدس بلدوين الثاني ثم توقف المد الإسلامي بعد استشهاد الأمير بلك بن أرتق.

المرحلة الزنكية مآثر وعبر

عادت الموصل إلى الأحداث مرة أخرى ففي عام 515هـ عين السلطان محمود الأمير آقسنقر البرسقي أميرا عليها لقيادة الحملات ضد الصليبيين في الشام فقام بجهود كبيرة محاولا إنشاء محور لمواجهة الخطر الصليبي فتم قتله عن طريق الشيعة الإسماعيلية أيضا سنة 519هـ 1126م مما مهد الطريق أمام عماد الدين زنكي لاستلام قيادة الحركة الجهادية الإسلامية وكان رحمه الله ثاقب النظر قوي العزيمة صادق النية قائدا عسكريا وسياسيا محنكا وكان من خيار ملوك الإسلام وأحسنهم سيرة وشكلا وكان شجاعا مقداما حازما خضعت له ملوك الأطراف و من أشد الناس غيرة على نساء الرعية وأجود الملوك معاملة وأرفقهم بالعامة وكانت أبرز ملامح حركته:

1- احتلال إمارة الرها سنة 539هـ وإعادتها إلى جسم الأمة الإسلامية كقاعدة خلفية متصلة مع الإمارات الشرقية والجنوبية للدولة الإسلامية بعد سقوطها بيد الصليبيين مدة 46 سنة وكان احتلالها ضربة قاصمة للصليبيين لا يقل عن سقوط بيت المقدس بيد صلاح الدين فيما بعد وسببا في الحملة الصليبية الثانية التي دعا إليها البابا أوجاتيوس الثالث وقام بنفس الدور الذي لعبه أوريانوس الثاني ووجد في القديس برناردوس داعية له يطوف أوروبا محرضا الغرب فلبى النداء ملكان هما:

- كونراد الثالث امبرطور ألمانيا.

- لويس السابع ملك فرنسا.

كان الهدف من هذه الحملة القضاء على القوة الإسلامية التي يقودها عماد الدين زنكي حيث باتت تهدد الوجود الصليبي واحتلال دمشق إلا أنها فشلت وعاد قادتها إلى بلادهم.

2- احتلال دمشق لتكون تحت القيادة الجهادية المباشرة لضمان الولاء المطلق كونها بوابة بيت المقدس وإنهاء مسلسل التحالفات التي كان يعقدها أمراؤها مع الصليبيين ومنع سقوطها بيد الصليبيين.

3- تهيئة الأمة لعمل جهادي مستمر يهدف إلى القضاء على الوجود الصليبي واستعادة بيت المقدس والبلاد التي سقطت بأيدي الصليبيين.

بعد مقتل عماد الدين زنكي على يد أحد خدمه سنة 541هـ - وهكذا عملت يد الخيانة والحظوظ الشخصية إنهاء مسيرة قائد من أعظم قادة المسلمين - بدأت مسيرة قائد عظيم هو نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي الذي تابع مسيرة والده وتمخضت أعماله عن:

1- إحكام السيطرة على الرها وما حولها بعد تمرد أهلها.

2- انتزاع دمشق من يد ملكها نور الدين أرتق وذلك لسوء سيرته وتحالفه مع الصليبيين حيث كانت دمشق تحول بينه وبين الصليبيين.

3- فتح بعلبك والحصون المحيطة بها وإصلاح الممالك وفتح الحصون في بلاد الروم.

4- فتح مصر واليمن على يد أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين فاكتملت حلقة دمشق القاهرة فانتهت مرحلة الاستعداد وتأسس محور الشام مصر فوقع الصليبيون بين فكي الكماشة وبدأت مرحلة تحرير بيت المقدس.

في سنة 569هـ توفي الملك نور الدين محمود زنكي بعد مسيرة حافلة بالجهاد استمرت طيلة حياته وقف نفسه على تطهير بلاد المسلمين من الصليبيين وخاصة بيت المقدس التي جهز لمسجدها الأقصى منبرا عنوانا على عزمه الأكيد على تحريرها.

القائد العظيم نور الدين محمود زنكي

إن هذا القائد العظيم الذي يعتبر مفخرة من مفاخر الإسلام الخالدة واضع أسس تحرير بيت المقدس والذي سار على خطى قدوته رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاتح بيت المقدس يعتبر النموذج الحي الحقيقي لمن يريد أن يسير على خطاه لاستعادة بيت المقدس الذي هو يقين بالنسبة للمسلمين وأن هذا الشرف العظيم لا يناله إلا العظماء الذين نشأوا النشأة الإسلامية الحقيقية وتربوا على موائد القرآن العظيم بهدي سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام الذين صنعوا على عين الله تعالى وليس من خلال زبالات الأذهان من ديمقراطية ووطنية وقومية نشأ أصحابها في أحضان اليهود والصليبين فأنى لهؤلاء أن ينصروا الدين ويحرروا مقدسات المسلمين فكان دينا علينا أن نرى صورة هؤلاء العظام ورثة القادة الفاتحين فهلم إلى مائدة سيرة نور الدين لنعلم صفات الفاتحين الناصرين للدين :

ولد رحمه الله سنة 511 هـ وكان مهيبا متواضعا عليه جلالة ونور يعظم الإسلام وقواعد الدين ويعظم الشرع, فقد أسقط جميع المكوس (الضرائب)والعشور من بلاده ولم يسْتبْقِ سوى الخراج والجزية، على كثرة ما كان يجمع منها, وكان يريد للناس صفاء العقيدة، والإيمان الحقيقي، لا يضللهم مضلل أو يفسدهم مبتدع, فكان يضرب على يد كل مبتدع يعمل على إفساد عقائد الناس، وينفيه بعيداً يلقى جزاء ضلاله, ومنع عن رعاياه ظلم قواده وأمرائه فكانت أوامره لرجال جيشه صارمة بوجوب احترام حقوق الناس في أموالهم وأرواحهم وأعراضهم وعدم التعدي عليها.

وأنشأ المستشفيات في بلاده، وأشهرها البيمارستان النوري بدمشق، وجعله للناس كافة فقراء وأغنياء، وزودها بالأدوية والعقاقير والأطباء والخدم، وأوقف عليها الأوقاف الكثيرة للإنفاق عليها.

أما اهتمامه بالتعليم ونشره ، فقد سار فيه شوطاً بعيداً، فأكثر من إنشاء المدارس في جميع أنحاء مملكته، وأحضر إليها كبار المدرسين، واهتم بدمشق بصفة خاصة , واهتم اهتماماً كبيراً بالجوامع والمساجد التي كانت مراكز هامة لبث روح الجهاد في الأمة وتصحيح عقائد الناس.

واعتنى بتأمين المسافرين والتجار على أرواحهم وأموالهم من اللصوص وقطاع الطريق، فبنى الخانات الكثيرة في الطرق "فأمن الناس وحفظت أموالهم وباتوا في الشتاء في كن من البرد والمطر". كذلك أمّن الطرق التي بين بلاده والبلاد التي في يد الصليبيين، فبنى فيها الأبراج وشحنها بالحراس والمقاتلة، وزوّدهم بالطيور الهوادي، "فإذا رأوا من العدو أحداً، أرسلوا الطيور، فأخذ الناس حذرهم واحتاطوا لأنفهسم، فلا يبلغ العدو منهم غرضاً".

أما مناقب نور الدين الشخصية فهي بارزة وعديدة,فقد اهتم نور الدين بتعليم نفسه ، فدرس الفقه على مذهب أبي حنيفة، وسمع الحديث حتى أجاده، فأخذ يسمعه بدوره للناس طلباً للأجر، وكان يعقد حلقات الدرس والبحث، فيجمع حوله العلماء يتدارسون ويبحثون وكان يشاركهم الدراسة والبحث عن علم وفهم, وكان رحمه الله معظما للعلم ، فكان يفعل بالعلماء من التعظيم والتوقير والاحترام ويجمعهم عنده للبحث والنظر مما جعلهم يقصدونه من البلاد الشاسعة وكان أهل الدين عنده في أعلا المنازل وأعظمها".

سلك نور الدين في حياته الخاصة سبيل الزهد والعبادة، فقد زهد في الدنيا فلم يتمتع بمباهجها، وزهد في أموال الدولة وبما في أيدي الناس، فلم يمد يده إليها بنهب، وإنما كان ينفق من ماله الخاص، وهو نصيبه من غنائم الحرب وما يخصه من بيت المال. وقد استفتى الفقهاء في المقدار الذي يحل له أخذه من بيت المال، فلم يتعد هذا المقدار طيلة حياته. وقد حدث أن شكت زوجتُه قلة النفقة عليها، وطلبت منه الزيادة في النفقة فغضب منها، وقال لها:إن المال مال المسلمين وأنه خازنهم عليها فلا يخونهم ويدخل جهنم بسببها أ.هـ وكان له بمدينة حمص ثلاث دكاكين وهبها لها. ودخل يوماً خزانة الأموال فرأى فيها مالاً أنكره، فسأل عنه الخازن، فأخبره أن القاضي كمال الدين الشهرزوري أرسله من جهة سماها له، فقال نور الدين إنه ليس في هذه الجهة مال له أو لبيت المال، وأمر بردّه...وأرسل إلى القاضي يقول له: أنت تقدر على حمل هذا، وأما أنا فرقبتي رقيقة، لا أطيق حمله والمخاصمة عليه بين يدي الله تعالى.

وبعد كل هذا، يبرز نور الدين كمحارب شجاع، يخوض المعارك بنفسه، ويتقدم على الجند أثناء القتال متواضعا لا يبطره انتصار ولا ينسبه لنفسه أو لمهارته وشجاعته، وإنما ينسبه إلى الله، وكان يشغل وقت فراغه، أو وقت راحته من مهام الدولة، إما بين العلماء باحثاً ودارساً، وإما في ميدان الفروسية.

المرحلة الصلاحية نتائج وتضحيات

بعد وفاة الملك نور الدين زنكي سنة 569هـ عهده بالملك من بعده لابنه الصالح وكان صغيرا فاختلف الأمراء وحادت الآراء وظهرت الشرور وكثرت الخمور وانتشرت الفواحش وطمعت الأعداء من كل جانب في المسلمين وعزم الصليبيون على التوجه إلى دمشق وانتزاعها من أيدي المسلمين فجبن الوصي على الملك الصالح - وهو شمس الدين بن مقدم - عن مواجهتهم ودفع إليهم أموالا جزيلة لثنيهم عن دخول دمشق وعندما بلغ صلاح الدين خبر وفاة الملك نور الدين زنكي وكان نائبه على مصر عزم على دخول بلاد الشام وحفظها من الصليبيين وليكون قريبا من بيت المقدس واستكمال الاستعدادات اللازمة لتحريرها والتي تعتبر الهدف الرئيس فقام بالتحركات التالية:

1- تمهيد أمر مصر بالقضاء على الوجود العبيدي فيها نهائيا حتى لم يبق رأسا منهم وبذلك تم تأمين مصر ولم يعد هناك خطر من منازعته على ملكها.

2- بناء قلعة الجبل في القاهرة وبناء السور حولها وحول الفسطاط وتحصين سور الإسكندرية وعمارة أبراجها وذلك تأمينا لها وحماية من خطر الغزو الصليبي الذي حدث عام 570 هـ وأسفر عن هزيمة ساحقة للحملة واستحوذ المسلمون على أموالهم وخيولهم وخيامهم.

3- التوجه إلى دمشق وحلب وحماة وفتح الحصون التي حولها حتى استقرت أمورهما.

4- لقاء الصليبيين في معركة مرج عيون والتي تكبد فيها الصليبيون خسائر كبيرة في الأرواح ووقع في الأسر جملة من ملوكهم وما يقارب ثلاثمائة من أشرافهم مما أضعف شوكتهم.

5- تأمين الجبهة الشمالية بالإصلاح بين ملوكها ومهاجمة بلاد الأرمن وفتح بعض حصونها حتى أقروا بالصلح.

6- تأمين الجبهة الداخلية بحل النزاعات وتصفية الأمور مع الأمراء من أبناء زنكي.

7- محاولة احتلال الكرك لأن في ذلك تخفيف على المسلمين وأنفع لهم.

معركة حطين وفتح بيت المقدس

بعد هذه السلسلة من الإجراءات وفي سنة583هـ خرج السلطان صلاح الدين بجيشه إلى بصرى ثم إلى الكرك وأمر بالعساكر المصرية والجيوش الشرقية فجاءت إليه مجتمعة فرتبها ثم سار قاصدا بلاد الساحل ففتح طبرية وحاز البحيرة وانحاز إلى قرية حطين حيث التقى بالجيوش الصليبية التي كانت تضم معظم ملوكهم فأشعل النار تحت أقدام خيولهم ومنعهم الماء فاشتد بهم العطش ثم حمل عليهم حملة صادقة فقتل منهم ثلاثين ألفا وأسر ثلاثين ألفا من جملتهم جميع ملوكهم واستدعى بأرياط صاحب الكرك فدعاه إلى الإسلام فامتنع فقال له: نعم أنا أنوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانتصار لأمته ثم قتله وأرسل برأسه إلى الملوك وهم في الخيمة وقال: إن هذا تعرض لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أ.هـ فهكذا تكون نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذب عن عرضه.

بعد هذا الانتصار الكبير توجه إلى قلعة طبرية فأخذها وتسلم إقليم الأردن وفتح عكا وحرر الأسرى ثم سار إلى بيروت وصيدا ثم رجع إلى غزة وعسقلان ونابلس وبيسان وأراضي الغور فملك ذلك كله.

بعد الإنتصار في حطين أمر صلاح الدين جيوشه أن ترتع في هذه الأماكن عدة شهور ليستريحوا وتحموا أنفسهم وخيولهم لفتح بيت المقدس ولما انتشر الخبر بعزمه على فتح بيت المقدس قصده العلماء والصالحون تطوعا ووصل أخوه العادل ففتح حصونا كثير فاجتمع من عبَّاد الله ومن الجيوش عدد كبير جدا ثم سار بهم فنزل غربي بيت المقدس حيث حصنها الصليبيون غاية التحصين وسلم كل طائفة من الجيش ناحية من السور ثم تحول إلى ناحية الشام كونها أوسع مجالا للقتال والمناورة وقاتل الطرفان قتالا هائلا وكان بدء محاصرته لها في الخامس عشر من رجب سنة 583هـ وتم تحريرها في السابع والعشرين من رجب من نفس السنة وتم إعادتها إلى جسم الأمة الإسلامية كما كانت عليه قبل سقوطها بيد الصليبيين قبل تسعين عاما.

الحملة الصليبية الثالثة

كان تحرير بيت المقدس صدمة وصاعقة مدوية في أوروبا لأن قرنا من السنين لم تستطع القوات الصليبية خلالها من بناء كيان لها في قلب العالم الإسلامي فبينما كان الصليبيون في المشرق يتجمعون ويلملمون جراحاتهم ويستعيدون قواهم كانت أوروبا تضج لسقوط بيت المقدس في يد المسلمين وتتنادى إلى حملة صليبية ثالثة مثلما ضجت يوم سقطت الرها بيد عماد الدين زنكي قبل أربعين سنة فقاموا بما يلي:

1- عمد كونراد(القائد الصليبي) إلى إرسال جوسياس رئيس أساقفة صور إلى أوروبة مستنجدا بملوكها ومستصرخا البابا أوريان الثالث وخلفه غريغوري الثامن.

2- خروج رهبان وقسيسي بيت المقدس الذين أطلقهم صلاح الدين وعلى رأسهم بطريركها يطوفون بلدان النصارى البحرية يحرضونهم على الانتصار لبيت المقدس وقد صوروا صورة المسيح وصورة عربي يضربه فإذا سألوهم من هذا الذي يضرب المسيح ؟ قالوا هذا نبي العرب يضربه وقد جرحه ومات فينـزعجون لذلك ويحمون ويبكون فعند ذلك خرجوا من بلادهم لنصرة دينهم.

3- تناسى ملوك أوروبة أحقادهم وخصوماتهم من شدة اهتمامهم بهذه الحملة التي أعلنوها على الشرق الإسلامي.

4- فرض ضريبة عامة تعتبر الأولى من نوعها تسمى العشور الصلاحية رمزا لانتصار صلاح الدين على كل من لم يشأ التطوع أو تعذر عليه ذلك وقيمتها عشر دخله وعشر ثمن أملاكه المنقولة وحرم رؤساء الكنائس كل من يتأخر عن دفعها.

5- بلغ من شدة تأثر أوروبا بهذا الحدث أن خرجت النساء للقتال ومن لم يستطع الخروج استأجر عوضا عنه أو أعطى معونة.

اتحدت أوروبة على هدف محاربة المسلمين في الشرق واسترداد بيت المقدس وكان أول من لبى الدعوة الصليبية الجديدة ملك صقلية وليم الثاني الذي أنجد طرابلس بستين سفينة عزز مقاومتها وحال بين صلاح الدين وبين الاستيلاء عليها, وكانت هذه الحملة أضخم حملة عرفتها أوروبة ضد الشرق الإسلامي وقد اشترك فيها:

1- امبرطور ألمانيا فردريك الأول والذي غرق في نهر كيليكية فخلفه ابنه وكان جيشه يتألف من ثلاثمائة ألف جرماني وقد هلك معظم جيشه ولم يصل منهم إلا بضعة آلاف.

2- الكونت هنري دي شمبانيا الكيدهري ومعه مدد عظيم من البحر.

3- فيليب أوغست ملك فرنسا ومعه جيش كثيف.

4- ريتشارد ملك الإنجليز ومعه أسطول كبير.

5- جيش حاكم طرابلس وجيش حاكم صور.

كان من نتائج هذه الحملة سقوط عكا بأيدي الصليبيين بعد معارك استمرت ثلاث سنوات متواصلة وذلك سنة 587هـ 1190م والذي أدى بدوره إلى استمرار التواجد الصليبي في عكا وصور وطرابلس ومحرضا على الحملات الصليبية المتلاحقة مدة مائة وعشرين عاما وكانت بداية مرحلة جديدة للصليبيين لاستعادة بيت المقدس, ومع أن المسلمين كانوا يمتازون بوحدة القيادة وسهولة التحرك وطرق الإمداد وانفتاح الجبهة الإسلامية على العالم الإسلامي إلا أن أسباب سقوط عكا كان درسا قاسيا كان أعظمها ما ذكره القاضي الفاضل مستشار صلاح الدين ووزيره فمنها كتاب يذكر فيه أن سبب هذا التطويل في الحصار كثرة الذنوب وارتكاب المحارم بين الناس فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته ولا يفرج الشدائد إلا بالرجوع إليه وامتثال أمره فكيف لا يطول الحصار والمعاصي في كل مكان فاشية وقد صعد إلى الله منها ما يتوقع بعده الاستعاذة منه وفيه أنه قد بلغه أن بيت المقدس قد ظهر فيه المنكرات والفواحش والظلم في بلاده ما لا يمكن تلافيه إلا بكلفة كثيرة ومنها كتاب يقول فيه:إنما أتينا من قبل أنفسنا ولو صدقنا لعجل الله لنا عواقب صدقنا ولو أطعناه لما عاقبنا بعدونا ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره لفعل لنا ما لا نقدر عليه إلا به فلا يختصم أحد إلا نفسه وعمله ولا يرج إلا ربه ولا يغتر بكثرة العساكر والأعوان ولا فلان الذي يعتمد عليه أن يقاتل ولا فلان فكل هذه مشاغل عن الله ليس النصر بها وإنما النصر من عند الله ولا نأمن أن يكلنا الله إليها والنصر به واللطف منه ونستغفر الله تعالى من ذنوبنا فلولا أنها تسد طريق دعائنا لكان جواب دعائنا قد نزل وفيض دموع الخاشعين قد غسل ولكن في الطريق عائق خار الله لمولانا في القضاء السابق واللاحق.أ.هـ , بالإضافة إلى الأسباب التالية:

1- التسامح المفرط الذي أبداه السلطان صلاح الدين مع الصليبيين بعد فتح بيت المقدس حيث سمح لهم بالذهاب إلى مناطقهم - صور وطرابلس – حيث أعادوا ترتيب صفوفهم وإقامة التحصينات القوية للمدينتين تحسبا لهجوم المسلمين حيث فشل الجيش الإسلامي في حصار المدينتين وتحولتا إلى قاعدتي انطلاق لمهاجمة المسلمين برا وبحرا وخاصة عكا.

2- تغيير القوة الموجودة داخل عكا والتي أصبحت مدربة على الحصار وذات خبرة بمداخل البلد ومخارجها بقوة جديدة مما أضعف حاميتها .

3- كثرة التذمر من قادة الجيش الإسلامي وضعف الروح المعنوية عندهم وكثرة اختلافهم على قائدهم حيث كان من رأي صلاح الدين متابعة القتال والبقاء قريبا من المدينة قبل أن ينفتح البحر وتصل الإمدادات إلى الصليبيين ولكن أمراءه خالفوه واضطروه إلى التراجع مما أعطى الفرصة للصليبيين بحفر خندق من البحر إلى البحر حال بين الجيش الإسلامي والمدينة وقتالهم وأصبحت المدينة محاصرة برا وبحرا.

4- الانشغال بجمع الغنائم والتقاعس عن مواصلة القتال مما أنقذ الصليبيين من هزيمة قاصمة.

5- مقابل تزايد أعداد الصليبيين وتعاظم قوتهم البحرية بدأ أمراء الأجناد من المسلمين بالانسحاب حتى بلغ عدد المنسحبين عشرين أميرا بعساكرهم نتيجة الضجر وكثرة القتال.

6- عدم نجدة ملك المغرب يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن للمسلمين بعد أن استنجدوه بسبب غضبه لنفسه كونهم لم يلقبوه بأمير المؤمنين.

ومع ذلك فقد قتل المسلمون من الصليبيين أعدادا كبيرة مما أدى إلى عدم قدرتهم على مواصلة القتال فطلبوا الصلح على بقاء ما بأيديهم ووضع الحرب بينهم ثلاثين سنة وستة أشهر وذلك سنة 588هـ وعاد ملوك أوروبة إلى بلادهم ولم يتمكنوا من تحقيق هدفهم المتمثل بإعادة احتلال بيت المقدس.

القائد المظفر صلاح الدين الأيوبي مرعب الصليبيين ومحطم آمالهم

في السابع والعشرين من صفر سنة 589هـ الموافق 4آذار سنة 1193 غادر السلطان صلاح الدين الدنيا وبرحيله انتهت ملحمة من ملاحم الإسلام الخالدة أعز الله به الإسلام وأهله ولم يترك في خزانته من الذهب سوى دينارا صوريا واحدا وستة وثلاثين درهما ولم يترك دارا ولا عقارا ولا مزرعة ولا بستانا ولا شيئا من أنواع الأملاك هذا وله من الأولاد سبعة عشر ذكرا وابنة واحدة وتوفي له في حياته غيرهم, وإنما لم يخلف أموالا ولا أملاكا لجوده وكرمه وإحسانه إلى أمرائه وغيرهم حتى إلى أعدائه وقد كان متقللا في ملبسه ومأكله ومركبه وكان لا يلبس إلا القطن والكتان والصوف ولا يعرف أنه تخطى إلى مكروه ولا سيما بعد أن أنعم الله عليه بالملك بل كان همه الأكبر ومقصده الأعظم نصرة الإسلام وكسر أعدائه اللئام وكان يعمل رأيه في ذلك وحده ومع من يثق به ليلا ونهارا هذا مع ما لديه من الفضائل والفواضل والفوائد الفرائد في اللغة والأدب وأيام الناس حتى قيل إنه كان يحفظ الحماسة بتمامها,وكان مواظبا على الصلوات في أوقاتها في الجماعة يقال إنه لم تفته الجماعة في صلاة قبل وفاته بدهر طويل حتى ولا في مرض موته فكان يتجشم القيام مع ضعفه وكان يفهم ما يقال بين يديه من البحث والمناظرة ويشارك في ذلك مشاركة قريبة حسنة وإن لم يكن بالعبارة المصطلح عليها وكان قد جمع له القطب النيسابوري عقيدة فكان يحفظها ويحفظها من عقل من أولاده وكان يحب سماع القرآن والحديث والعلم ويواظب على سماع الحديث حتى أنه يسمع في بعض مصافه جزء وهو بين الصفين فكان يتبحبح بذلك ويقول هذا موقف لم يسمع احد في مثله حديثا.

كان رقيق القلب سريع الدمعة عند سماع الحديث وكان كثير التعظيم لشرائع الدين من ذلك كان ولده الظاهر وهو بحلب قد صحب شابا يقال له الشهاب السهروردي وكان يعرف الكيميا وشيئا من الشعوذة فافتتن به ولده الظاهر وقربه وخالف فيه حملة الشرع فكتب إليه أن يقتله لا محالة فصلبه عن أمر والده وشهره ويقال بل حبسه بين حيطين حتى مات كمدا وذلك في سنة ست وثمانين وخمسمائة.

كان السلطان صلاح الدين من أشجع الناس وأقواهم بدنا وقلبا مع ما كان يعترى جسمه من الأمراض والأسقام ولا سيما في حصار عكا فانه كان مع كثرة جموعهم وأمدادهم لا يزيده ذلك إلا قوة وشجاعة وقد بلغت جموعهم خمسمائة ألف مقاتل ويقال ستمائة ألف فقتل منهم مائة ألف مقاتل ولما انفصل الحرب وتسلموا عكا وقتلوا من كان بها من المسلمين وساروا برمتهم إلى القدس جعل يسايرهم منزلة منزلة وجيوشهم أضعاف أضعاف من معه ومع هذا نصره الله وخذلهم وسبقهم إلى القدس فصانه وحماه منهم ولم يزل بجيشه مقيما به يرهبهم ويرعبهم ويغلبهم ويسلبهم حتى تضرعوا إليه وخضعوا لديه ودخلوا عليه في الصلح وان تضع الحرب أوزارها بينهم وبينه فأجابهم إلى ما سألوا على الوجه الذي أراده لا على ما يريدونه وكان ذلك من جملة الرحمة التي رحم الله بها المؤمنين فإنه ما انقضت تلك السنون حتى ملك البلاد أخوه العادل فعز به المسلمون وذل به الكافرون.

وكان سخيا ضحوك الوجه كثير البشر لا يتضجر من خير يفعله شديد المصابرة على الخيرات والطاعات فرحمه الله فهذا هو النموذج الذي حرر الله تعالى على يديه بيت المقدس فلتعتبر الأمة والعاملون للإسلام بهذا فإن معركة الأمة هي استعادة بيت المقدس.

الدولـة الأيوبيـة

تميزت هذه المرحلة بكثرة الخلافات في البيت الأيوبي على الملك بعد وفاة الملك صلاح الدين رحمه الله تعالى وكثرت المنازعات والتحالفات على بعضهم البعض ولم ينتظم عقد الدولة الأيوبية فترة طويلة مما أدى إلى طمع الصليبيين الذين مازالت لهم دولة في بلاد الشام ولو كانت صغيرة كانوا من خلالها يتابعون الأحداث بين المسلمين ويعملون على استغلال الفرص السانحة لاستعادة ممالكهم المفقودة فنظموا عدة حملات كادت تؤدي إلى إنهاء الدولة الأيوبية وإعادة السيطرة على بيت المقدس التي بذل المسلمون جهدا شاقا وأعدادا كبيرة من الشهداء في سبيل تحريرها من الصليبيين.

الحملة الصليبيـة الرابعـة

بعد فشل الحملة الصليبية الثالثة ووفاة صلاح الدين تحولت الإستراتيجية الصليبية من الغزو المباشر لبيت المقدس إلى احتلال مصر التي تعتبر خط الإمداد للجيوش الإسلامية في الشام فبعد تولى أنوسنت الثالث سدة البابوية سنة595هـ 1198م ,كان من المشاريع التي أعدها وسعى إليها استعادة ما انتزعه صلاح الدين الأيوبي من أملاك الدولة اللاتينية في فلسطين ولا سيما بيت المقدس وقد بعث برسله إلى دول أوروبة يدعو ملوكها إلى المشاركة في حملة صليبية جديدة وأرسل الدعاة لإثارة الحماسة لهذه الحملة في الأوساط الشعبية فاجتذبت معظم الأمراء والفرسان البارزين من فرنسا وانجلترا وألمانية وهولندا وصقلية ورأى قادة الحملة أن تكون وجهتهم مصر حتى إذا ما استولوا عليها توجهوا إلى بيت المقدس فاحتلوها.

لم يتم لهذه الحملة السير في خطتها فقررت التوجه إلى القسطنطينية في سنة 600هـ 1203م فاحتلوها وأزالوا عنها ملك الروم البيزنطي وأصبحت إمبراطورية لاتينية ثم توجهوا إلى عكا فحصل بينهم وبين المسلمين قتال شديد ثم حصل الصلح بينهم وأطلق لهم العادل شيئا من البلاد.

لقد كانت الخلافات التي حصلت بين ورثة صلاح الدين الذين ورثوا البلاد السبب في تراجع قوة المسلمين وامتداد سلطان الصليبيين في بلاد المسلمين وأعظم الأسباب التي أغرت أوروبة بمعاودة احتلال البلاد الإسلامية.

الحملة الصليبيـة الخامسـة

انتهت الحشود العسكرية في الغرب والغارات التي يشنها الصليبيون في بلاد الشام إلى تنظيم حملة صليبية جديدة عرفت بالحملة الصليبية الخامسة كان هدفها مصر تبعا للإستراتيجية الجديدة للصليبيين حيث أصبحت مصر تمثل الثقل السياسي والعسكري في المنطقة وقد ترأس هذه الحملة حنا دي برين ملك عكا ووصلت سفنها إلى دمياط سنة 615 هـ 1218م فاستولوا على برج السلسلة الذي يعتبر بوابة مصر من النيل ثم تتابعت الإمدادات الأوروبية في نفس السنة بقيادة الكاردينال بلاجيوس مندوبا عن البابا وقائدا أعلى للحملة ونظرا لاختلال الأوضاع أستطاع الصليبيون من ضرب الحصار على دمياط ولم تفلح محاولات الملك الكامل في تغيير الموقف

في الوقت الذي كانت تتعرض فيه البلاد الإسلامية لخطر غزو التتار مما أدى إلى وقوع البلاد الإسلامية بين خطرين عظيمين فلم تأت الاستغاثات بشيء كون الشرق الإسلامي منشغل بالتتار والغرب الإسلامي منشغل بالصليبيين ومما خفف الضغط على مصر وصول الملك المعظم اخو الملك العادل من بلاد الشام نجدة لأخيه وحاول الصليبيون التقدم من خلال شنهم هجوما واسعا على الجيش المصري إلا أن محاولتهم باءت بالفشل وكبدتهم كثيرا من القتلى والأسرى , وحاول الملك الكامل ثني الصليبيين عن مصر بعرض سخي يتضمن التنازل عن مملكة بيت المقدس كما كانت عليه سنة 583هـ 1187م أي قبل فتحها من قبل صلاح الدين إلا أن قائد الحملة رفض ذلك مصرا على احتلال مصر.

إزاء إصرار الصليبيين لم تتمكن دمياط من الصمود لشدة الحصار فاستسلمت في 25 شعبان سنة 616هـ 5 تشرين الثاني سنة 1219م مقابل الأمان فغدر الصليبيون بأهلها وقتلوا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها وفجروا بالنساء وجعلوا الجامع كنيسة, على أثر هذه الكارثة كرر الملك العادل عرضه بالتنازل عن بيت المقدس وما يتبعها عدة مرات كل ذلك يقابل بالرفض من قبل الصليبيين حيث كان يقوي من موقفهم أنباء النجدات الكبيرة التي تحشد في الغرب بقيادة الإمبراطور الألماني فريدريك الثاني وبعد وصول حملة لويس دوق بافاريا اشتد ساعد الكاردينال وقرر الزحف على القاهرة وأرسل إلى حنا دي برين الذي ترك دمياط للعودة إلى مصر فعاد مرة أخرى وهكذا توافدت أمم الصليب فوافى دمياط منهم طوائف لا يحصى لهم عدد فلما تكامل جمعهم بدمياط خرجوا منها في حدهم وحديدهم وقد زين لهم الشيطان سوء عملهم أن يملكوا أرض مصر فجدد الملك الكامل طلب الصلح فاشترطوا شروطا لم يقبلها الكامل فقدر الله تعالى أن ضاقت عليهم الأقوات بعد استيلاء الأسطول الإسلامي على سفن الميرة التي قدمت إليهم وأرسلت المياه على أراضي دمياط من كل ناحية فلم يتمكنوا من التصرف وحصرهم المسلمون من الجهة الأخرى حتى اضطروهم إلى أضيق الأماكن فعند ذلك أنابوا إلى الصلح بلا مقابل وبدون شرط, ففشلت هذه الحملة وتراجع الصليبيون إلى عكا ومواطنهم وانكشف الكرب عن المسلمين بعد أن قضوا ثلاث سنوات في دمياط وعلى شاطئها الغربي والشرقي.

الحملة الصليبيـة السادسـة

ظهر في هذه الفترة الإمبراطور فردريك الثاني( الأمبرور) إمبراطور ألمانيا وكان أقوى ملوك أوروبة حيث وقفت معه البابوية في القضاء على خصومه فتمكن من ضم صقلية وجنوبي ايطاليا إلى مملكته وعمل على ضم شمال ايطاليا إلى مملكته الواسعة مقابل تنظيم حملة صليبية جديدة تعيد للصليبيين في المشرق معنوياتهم التي انهارت بعد سلسلة الهزائم والنكسات المتكررة وعدم تحقيق أي شيء من أهدافهم وقد تكررت وعوده للبابا غريغوري التاسع فماطل , فقام البابا بتأييد فكرة زواج الإمبراطور بوريثة عرش بيت المقدس لإيجاد مصلحة حقيقية ومباشرة في الحروب الصليبية فقام هذا الإمبراطور بحملته ووصل إلى عكا سنة 626هـ 1228م وكانت الأسباب التي دعته إلى هذا:

1- إعلان الحرمان عليه من قبل البابا بعد أن استمال أشراف روما الذين ثاروا على البابا وأكرهوه على الفرار منها.

2- استنجاد الكامل به على أخيه الملك المعظم مقابل إعادة بيت المقدس له.

3- إظهار نفسه بغير الصورة التي أرادتها البابوية من الجحود وعدم نصرته لدينهم.

بعد مفاوضات استمرت شهرين عقدت اتفاقية بين الملك الكامل والإمبراطور فردريك الثاني في سنة 627هـ 1229م تنص على ما يلي:

1- إقرار هدنة لمدة عشر سنوات.

2- منح الصليبيين القدس وبيت لحم والناصرة وتبنين وصيدا.

3- بقاء القدس على ما هي عليه لا يجدد سورها وان يبقى الحرم بما حواه من الصخرة والمسجد الأقصى بأيدي المسلمين وأن سائر قرى القدس لا حكم فيها للصليبيين.

4- عدم دخول الصليبيين الأقصى إلا للزيارة وأن يتولاه قوّام من المسلمين لإقامة شعائر المسلمين من الأذان والإقامة.

بعد عقد الصلح – وهكذا يعيد التاريخ نفسه - نودي بالمسلمين للخروج من بيت المقدس فاشتد البكاء وعظم الصراخ والعويل وحضر الأئمة والمؤذنون من القدس إلى مخيم الكامل وأذنوا على بابه في غير وقت الأذان وعظم على أهل الإسلام هذا البلاء واشتد الإنكار على الكامل بن الملك العادل وكثرت الشناعات عليه في سائر الأقطار إذ أن هذا التنازل عن قسم كبير من فلسطين لم يحصل نتيجة ضعف قوة المسلمين عددا وعدة أو قتال حصل بين الطرفين وإنما نتيجة سوء تدبير من الكامل وبسبب الاختلاف والتنازع الذي حصل في البيت الأيوبي على الملك وحرص كل ملك على تحقيق مصالحه الشخصية دون اعتبار للمصلحة العامة للأمة.

لم يمكث ملك الألمان إلا عدة شهور بعد الاتفاقية عاد بعدها على مملكته لورود الأنباء بمصادرة أملاكه في ايطاليا من قبل الجيش البابوي فانشغل بملكه في الغرب ولم يعد إلى الشرق بعدها.

وهناك حملتان لم يعدهما المؤرخون من الحملات الصليبية

الأولى: وصلت إلى عكا سنة 637هـ 1239م بقيادة كل من:

1- تيبوت الرابع أمير شمبانيا.

2- ملك النافار.

كانت هذه الحملة تهدف إلى إحكام السيطرة على بيت المقدس وتوسيع ممتلكات الصليبيين نظرا لتفاقم الخلافات في البيت الأيوبي وحالة التمزق التي أدت إلى تضعضع قوة المسلمين ولما وصلت الأخبار بنزول الصليبيين في عكا خرج الناصر داوود صاحب الأردن بجيش صغير متوجها إلى القدس فاستولى عليها لنقض الصليبيين شروط الهدنة بأن لا يعمروا القدس ولا يجددوا أسوارها وتحصيناتها وتحالف مع ملك مصر الصالح أيوب الذي وعد الناصر داوود بدمشق فتحالف الصالح إسماعيل ملك دمشق مع الصليبيين ضد الناصر داوود والصالح أيوب مقابل تعهده بإعادة مملكة الصليبيين على ما كانت عليه قديما بما فيها الأردن وبذلك حطم جهود آل زنكي وصلاح الدين التي استمرت عشرات السنين وتعبيرا عن صدقه قام فورا بتسليمهم القدس وطبرية وعسقلان وقلعة شقيف ارنون وأعمالها وقلعة صفد وأعمالها ومناصفة صيدا وسائر بلاد الساحل, مقابل هذه المكاسب غير المتوقعة اشترك الصليبيون مع الصالح إسماعيل في الزحف على مصر وقد أدت أفعال الصالح إسماعيل هذه إلى أن نقم عليه المسلمون في العالم الإسلامي وخاصة العلماء وعلى رأسهم العز بن عبد السلام الذي نفي إلى مصر.

قام جيش التحالف المكون من جيش الشام بقيادة الملك الصالح والجيش الصليبي بالتحرك نحو مصر فما كاد هذا الجيش يلتقي بجيش الصالح أيوب قرب غزة حتى تخلى الجيش الشامي بقادته وأمرائه عن الملك الصالح وانضموا إلى الجيش المصري فمالوا على الصليبيين فهزموهم وأسروا خلقا لا يحصون منهم , وأدت هذه الهزيمة غير المتوقعة بالصليبيين إلى الانسحاب إلى عسقلان وعقد صلح مع الصالح أيوب وعادت هذه الحملة إلى بلادها سنة 638هـ1240م بمكسب رئيس وهو استعادة القدس إضافة إلى صفد وعسقلان وبعض الحصون.

الثانية: بعد شهر من مغادرة الحملة الفرنسية وصلت الحملة الإنجليزية إلى عكا بقيادة ريتشارد كورنول شقيق ملك انجلترا فقام بتقوية حصون عسقلان وتجديد الصلح مع الملك الصالح أيوب وفي هذه الفترة كانت الدولة الأيوبية منقسمة إلى ثلاث دول متناحرة فيما بينها هي:

1- دمشق وملكها الصالح إسماعيل عم الملك الصالح أيوب.

2- مصر وملكها الصالح أيوب عم الملك الناصر داوود.

3- الأردن وملكها الناصر داوود.

في سنة 642هـ تحالف الناصر داود والصالح إسماعيل مع الصليبيين وتوجهوا إلى مصر فاستنجد الصالح أيوب بالخوارزمية فجاءوا في عشرة آلاف إلى بلاد الشام فاستولوا على طبرية ونابلس واحتلوا بيت المقدس ثم التقوا بجيش الصالح أيوب في غزة فتصدوا للجيش الصليبي والجيش الشامي اللذان يقاتلان تحت راية واحدة - راية الصليب- حتى قال أمير منهم: قد علمت أنا لما وقفنا تحت صلبان الفرنج أنا لا نفلح . فاستطاع الجيش المصري وحلفاءه من الخوارزمية أن ينـزلوا بالصليبيين والجيش الشامي هزيمة منكرة, قتلوا من الفرنج في يوم واحد ثلاثين ألفا وأسروا جماعة من ملوكهم وقساوستهم وأساقفتهم وخلقا من أمراء المسلمين وبعثوا بالأسرى إلى الصالح أيوب في مصر , هذه المعركة أدت إلى نتائج عظيمة هي:

1- سقوط دمشق بيد الصالح أيوب فيما بعد.

2- انتزع الصالح أيوب من الناصر داوود القدس والخليل وبيت جبريل والأغوار.

3- سنة 642هـ تابع الجيش المصري بقيادة فخر الدين بن شيخ الشيوخ معاركه مع الصليبيين فتمكن من الاستيلاء على قلعة طبرية سنة واحتلال عسقلان بعد محاصرتها برا وبحرا وقام بتدميرها حتى لا تتخذ مرة أخرى قاعدة لمهاجمة مصر وبنفس الوقت فهي تعتبر بوابة القدس من البحر.

4- تقلصت دولة الصليبيين وانحسرت حدودها عند يافا.

5- توحيد المملكة الأيوبية بكاملها.

6- تجديد حصون القدس وتقوية دفاعاتها.

بعد هذه الأحداث التي لا تقل أهمية عن معركة حطين وفتح بيت المقدس والتي أدت فيما بعد إلى إنهاء الوجود الصليبي في بلاد الشام فالحملات المتواصلة على مدى مائة وستين عاما قد استنـزفت قوى الصليبيين وسببت لهم مشاكل داخلية سياسية واقتصادية إضافة إلى اليأس الذي دب في نفوسهم فلم يعودوا قادرين على تنظيم حملات كبيرة على مستوى أوروبة فلم تجد استغاثة بقايا الصليبيين في بعض مناطق الساحل الشامي نفعا حيث لم يستجب لهم إلا ملك فرنسا وبات وجودهم مهددا بالزوال.

الحملة الصليبيـة السـابعة

تكونت هذه الحملة من الفرنسيين بقيادة ملكهم لويس التاسع ترافقه زوجته وأخواه روبير دي آرتوا وشارل دي أنجو وعدد من الفرسان, بالإضافة إلى جيش إنجليزي بقيادة حاكم مقاطعة سالسبوري وليم طويل السيف, وقد أيد هذه الحملة فردريك الثاني امبرطور الدولة الرومانية في الغرب .

أبحر لويس التاسع من فرنسا وكان يسمى الملك القديس في 4 جمادى الأولى 646هـ 25آب 1248م فقضى فصل الشتاء في قبرص التقى خلالها بقادة الصليبيين في الشام لتحديد خطة التحرك والعمليات العسكرية لهذه الحملة وبعد أن ضبط أمورهم توجه إلى دمياط فوصلها في ربيع الأول 647هـ حزيران 1249م بأسطوله المكون من:

1- ألف وثمانمائة قطعة بحرية وقد بلغ من كثرتها أنها كست البحر حتى لم يعد يرى سوى الساريات وهي تعلوا وتهبط فوق سطح الماء.

2- خمسون ألف مقاتل من المشاة والفرسان بكامل معداتهم وسلاحهم ومؤنهم وخيولهم.

لما وصل لويس التاسع بجيشه دمياط أرسل إلى الصالح أيوب يهدده بكثرة الجيوش وما فعلوه بأهل الأندلس وانه لا بد من قتاله وأخذ البلاد المصرية, فرد عليه الصالح أيوب ردا ذكره فيه بما حل بأسلافه من الصليبيين وان عاقبته ستكون مثلهم بإذن الله تعالى.

نتيجة لهذه التطورات وتفاديا لما حصل في دمياط خلال الحملة الصليبية الخامسة تم إخلاء دمياط فدخلها الصليبيون واحتاطوا على ما فيها بعد هزيمة الجيش الإسلامي في الضفة الغربية للنيل المواجهة لها وأثناء المعارك توفي الصالح أيوب وتولت زوجته شجرة الدر القيادة فقادت المعركة بحزم بعد أن أخفت خبر موته.

تتابعت الأحداث وقامت فرقة من الفرسان الصليبيين بمهاجمة الجيش الإسلامي فانهزم المسلمون وتراجعوا إلى المنصورة فحدثت معركة داخل المدينة بين الفرقة الصليبية وفلول الجيش الأيوبي ومن انضم لهم وقد اشترك سكان المدينة في هذه المعركة بوضع الحواجز في الطرقات وقذف الصليبيين من كل اتجاه حتى تمكن المسلمون من هزيمتهم وقتل قائدهم وفقدهم ألف وخمسمائة فارس.

قام الملك توران شاه بن الملك الصالح أيوب بعد حضوره بإعادة تنظيم صفوف الجيش وتمت محاصرة الجيش الصليبي وإلحاق الضربات المتلاحقة به حتى بدأ بالانسحاب مساء الثاني من محرم سنة 648هـ نيسان 1250م والمسلمون يطاردونهم ويضيقون الخناق على فلولهم الهاربة ويهاجمونهم من كل ناحية فتبعثرت الحملة الصليبية رمما وأشلاء ممزقة وكان الناجون من سهام المسلمين وسيوفهم يتساقطون على حنايا الطريق عناء ومرضا وجوعا, وتابع لويس التاسع الانسحاب الكبير فقام المسلمون بهجوم عام ولما كان الصليبيون أضعف من أن يقاوموا ويصمدوا وقع الجيش الصليبي بأسره بين قتيل وأسير وقدر المؤرخون عدد القتلى بثلاثين ألفا وأما الأسرى فحدث ولا حرج وكان من بينهم الملك لويس التاسع وشقيقيه وحصلت المفاوضات مع الملك الأسير حيث تم الاتفاق على إطلاق سراحه مقابل ثمانمائة ألف دينار وترك معدات القتال والأسلحة والذخائر والمؤن غنيمة للمصريين وذهب إلى عكا حيث مكث فيها أربع سنوات أعاد فيها تنظيم الصليبين في الشام ثم عاد إلى فرنسا ليعود بحملة صليبية أخرى ولكنه اتجه إلى تونس فهزم كما هزم في حملته السابقة على مصر ولقي مصرعه مع معظم جيشه.

خلال عقدين من الزمان لم يستطع الصليبيون أن يوجدوا موطيء قدم لهم في قلب العالم الإسلامي ولم يتمكنوا من تأسيس قاعدة انطلاق ثابتة أو كيان صليبي مع ما بذلوه من مجهود حربي هائل مستمر طوال هذه الفترة الزمنية الطويلة ولم تشفع لهم التكاليف والنفقات الباهظة في الأرواح والأموال التي لا تحصى أو عوامل التفرق بين الكيانات الإسلامية واتفاقات الصلح من إيجاد بؤرة في هذه المنطقة من العالم.

المرحلة المملوكيـة تاريخ وأمجـاد

بدأت هذه المرحلة مع نهاية الحملات الصليبية وبتولي شجرة الدر الحكم على أثر مقتل تورانشاه ابن الصالح أيوب الذي لم يستمر في الحكم أكثر من عدة شهور ولم تستقر في الحكم للتذمر والسخط الذي حصل في البلاد من تولي السلطة امرأة حتى بعث الخليفة العباسي في بغداد إلى مصر يقول: إن كانت الرجال قد عدمت عندكم فأعلمونا حتى نسير لكم رجالا, ورفض نائب السلطنة في الشام وكثير من الأمراء تقديم الطاعة لها فما لبثت أن تنازلت لعز الدين أيبك بعد زواجها منه إلا أنها قامت بقتله فقتلت بعد ذلك وتولى ملك مصر الملك المنصور علي بن الملك عز الدين أيبك وكان صغيرا في الوقت الذي اجتاحت فيه الجيوش المغولية الشرق الإسلامي واستولت على عاصمة الخلافة بغداد وحدث فيها أفظع مجزرة عرفتها البشرية ثم استولوا على بلاد الشام بما فيها دمشق وفعلوا بالمدن ما فعلوه ببغداد.

أمام هذا الخطر الداهم والتهديد المغولي لمصر لم يكن إلا العمل على تنحية الملك المنصور لصغره وعدم كفاءته لقيادة الأمة في ظروف تحدق بها الأخطار فاتفق الأمراء على مبايعة سيف الدين قطز بالملك وقيادة البلاد فقام بالتحريض على الجهاد والوقوف في وجه الخطر المغولي فتجمعت له الجيوش وانطلق لملاقاة المغول المعسكرين في غزة ولم يكونوا قادرين على ملاقاة الجيش الإسلامي فبعث قائدهم إلى كتبغا القائد العام لجيش المغول وانسحب بالجيش حتى وصل عين جالوت فدارت معركة من أكبر المعارك في التاريخ الإسلامي وذلك سنة 658هـ 1259م تمخضت عن هزيمة ساحقة للمغول قتل فيها قائدهم كتبغا وتم تمزيقهم والقضاء عليهم واستعاد المسلمون بلاد الشام.

كان لهذه الانتصارات أثر حاسم في ظهور قوة المماليك في المنطقة كقوة عظيمة وفاعلة استطاعوا من بسط سيطرتهم على الإمارات الأيوبية في الشام وأصبحت تابعة للدولة المصرية التي تابعت انتصاراتها على الصليبيين حتى أجلتهم عن بلاد المسلمين.

لم يمكث الملك المظفر قطز في السلطة سوى سنة واحدة قام عليه الأمير بيبرس البندقداري لخلاف نشب بينهم فقتله في طريق عودته إلى مصر وتولى الملك بعده وتسمى بالظاهر بيبرس وذلك سنة 658هـ 1259م.

الملك الظـاهر بيبـرس

بدأ الظاهر بيبرس عهده بتوطيد أمر مصر والشام وتولية الأمراء حتى استتبت له الأمور وصار الأمر له بلا منازع عمل بعد ذلك على إعادة الخلافة العباسية وبذلك أعطى حكمه الصفة الشرعية ثم اتجه إلى الصليبيين الذين رغبوا في عقد الصلح معه إلا انه رفض ذلك وبين لهم نقضهم للعهود أكثر من مرة وقال لهم: ردوا ما أخذتموه من البلاد وفكوا أسرى المسلمين جميعهم فإني لا أقبل غير ذلك. وبدأ حملة على الصليبيين لتطهير البلاد منهم على النحو التالي:

1- القيام بمناوشات وغارات كحركة جس نبض ومعرفة مواطن القوة والضعف وذلك سنة 662هـ

2- سنة 664هـ بدأت الحرب الشاملة فزحف بجيشه على الحصون والقلاع والمدن الصليبية فسقطت بيده يافا وأرسوف.

3- في سنة 665هـ تابع حملته الشاملة فاستولى على الرملة وتبنبن وهونين وصف في فلسطين, واستولى كذلك على القليعات وحلباء وعرفة في ساحل الشام.

4- إرسال الأمير قلاوون والملك المنصور الثاني إلى أرمينية الصغرى وذلك لأن ملك أرمينية هيثوم الثالث تحالف مع المغول وبطش بالمسلمين في حلب وغيرها فحلت بمملكته الكارثة ولم تقم لها قائمة وعاد قادة الحملة بأربعين ألف أسير وغنائم لا تحصى كانت هذه العملية صدمة لـ هيثوم الثالث الذي تنازل عن الملك إلى ابنه ليو الثالث.

5- في 3 رمضان سنة 666هـ, تم استعادة إنطاكية بعد حصار لم يدم إلا خمسة أيام وكان حدثا يوازي فتح الرها وحطين حيث كانت القلعة الكبرى للصليبيين في بلاد الشام استسلمت على أثرها بعض القوى الصليبية المجاورة حيث لم تفلح استغاثتهم بأوروبة.

6- بعد توطيد الحكم في إنطاكية تابع حملته إلى طرابلس فاستولى على صافيتا وحصن عكار ثم حاصر حصن الأكراد وهو أهم معاقل الفرسان الصليبيين وبعد حصار شديد نجح المسلمون من اقتحامه وعلى أثر ذلك استسلم الصليبيون وطلبوا عقد الصلح فدخله المسلمون وذلك سنة669هـ, ثم استولى على حصن القرين.

7- الاستيلاء على حصون الإسماعيلية وإجلائهم إلى مصر بعد أن كانت قوتهم شاغلا للمسلمين خلال السنوات ما بين 669هـ-672هـ , وفي سنة675هـ انتصر على التتار في معركة البلستين التي من نتائجها فتح مدينة قيسارية.

بعد وفاة الظاهر بيبرس في 7محرم سنة 676هـ اضطربت الدولة وتنازع على الحكم كل من السعيد بركة والعادل سلامش أبنا الظاهر بيبرس والأمير سنقر الأشقر والأمير قلاوون الألفي فاستطاع الأمير قلاوون حسم الموقف الذي لم تستقر له البلاد إلا سنة679هـ وحصل في عهده:

1- استغل التتار الخلاف بين المماليك والاضطرابات في البلاد فهاجموا بلاد الشام حتى وصلوا حلب فقتلوا خلقا كثيرا ونهبوا الجيش ثم رجعوا منهزمين بعد اجتماع كلمة المماليك ثم عاود التتار الهجوم على بلاد الشام في السنة التي تليها بجيش قوامه مائة ألف فارس فتصدى لهم السلطان قلاوون بجيشه وذلك في وقعة حمص فانهزم معظم جيشه أول النهار فثبت في ألف فارس فكانت الدائرة على التتار في آخر النهار فأوسعوهم قتلا وتشريدا وحصرتهم فرق الجيش الإسلامي حتى حصلت فيهم مقتلة عظيمة فخرجت العساكر الإسلامية في آثارهم حتى أخرجوهم من البلاد.

2- توجه الملك المنصور قلاوون بالجيوش المصرية والشامية فنزل حصن المرقب ففتحه وكان هذا الحصن مضرة على المسلمين لم يتفق فتحه إلا للناصر صلاح الدين وفتح حوله بانياس وبلدة مرقب واستنقذ خلقا كثيرا من الأسرى وذلك سنة 684هـ.

3- الاستيلاء على مدينة اللاذقية سنة 686هـ.

4- توجه بالجيوش المصرية والشامية سنة 688هـ إلى طرابلس التي سقطت بيد الصليبيين منذ سنة 503 هـ فحاصرها ونصب عليها المنجنيقات وضيق على أهلها تضييقا عظيما حتى فتحها عنوة فأمر بهدم المدينة بما فيها من الحصون والعمائر وان يبنى على بعد ميل بلدة غيرها وذلك حتى لا يتم سقوطها بيد الأعداء ويصعب فتحها لاتصالها بالبحر.

5- في سنة 689هـ توفي الملك المنصور قلاوون وكان قد عمل التجهيزات والاستعدادات العسكرية لفتح عكا وبويع ابنه الأشرف خليل الذي سار على خطة والده فأمر بالنفير إلى عكا فاجتمع الناس على جميع أصنافهم من العلماء والفقهاء والصلحاء والتجار وخرجت الجيوش الشامية والمصرية وخرج الناس من كل صوب حتى وصلوا عكا في الرابع من ربيع الآخرة من نفس السنة فحاصرتها الجيوش الإسلامية وشددوا الحصار عليها وفي يوم الجمعة السابع عشر من جمادى الأولى اقتحم المسلمون الأسوار مع طلوع الشمس فولى الصليبيون الأدبار وركبوا البحر هاربين في مراكب التجار وقتل منهم عدد لا يعلمه إلا الله تعالى وغنم المسلمون من الأمتعة والرقيق والبضائع شيئا كثيرا جدا وأمر السلطان بهدمها وتخريبها حتى لا ينتفع بها بعد ذلك وكان سقوطها في يوم جمعة وتحريرها في يوم جمعة ثم سلّمت صور وصيدا قيادها للمسلمين فدمروا قلعة صيدا لئلا يحتلها الصليبيون ثم احتل الجيش الإسلامي حيفا وطرطوس وعتليت وهما آخر معقلين من معاقل الصليبيين وتم تطهير الساحل الشامي جميعه من الصليبيين وعادت البلاد إلى جسم الأمة الإسلامية.

6- في السنة التي تليها 691هـ توجه السلطان الأشرف قلاوون بالجيوش الإسلامية إلى قلعة الروم فحاصرها حصارا شديدا ونصب عليها ثلاثين منجنيقا حتى فتحت بعد ثلاثين يوما وقتل منها خلقا كثيرا وغنم المسلمون منها الشيء الكثير ووقع ملكها ورؤوس أصحابه بالأسر, ثم وجه السلطان الأشرف طائفة من الجيش إلى جبل كسروان والجزر لتصفية الحسابات معهم بسبب ممالأتهم للصليبيين ولم يتفق فتحه.

العوامل التي أدت إلى انحسار المد الصليبي

بعد أن تم إخراج الصليبيين نهائيا من آخر معقل لهم من بلاد المسلمين وهو جزيرة أرواد عام 703هـ 1303 م انطوت بذلك الصفحة الأخيرة من ملحمة الحروب الصليبية في بلاد الشام ولم تستطع أوروبا أن تفعل شيئا لمملكة بيت المقدس الصليبية فقد استنزفت قوتها العسكرية والمادية وتوقفت الحملات الصليبية من أوروبا ولم يكن هذا التوقف بناء على الشعور باليأس أو أن العقلية الصليبية تغيرت أو لنسيان الماضي أو لتغير الأهداف والطموحات بل لعوامل قوية داخلية وخارجية أذن الله تعالى بها لتكون سببا لإنقاذ الأمة.

أما العوامل الداخلية فهي:

1- اشتعال الحروب فيما بينهم مما شغلهم عن التحرك خارج بلادهم أشهرها حرب المائة عام بين فرنسا وبريطانيا التي بدأت سنة 1338م.

2- حركة الإصلاح الديني في أوروبا فيما بين القرن الخامس عشر والسابع عشر والتي تعتبر أعنف حركة دينية فقد أدت الخلافات الدينية إلى مشاحنات ومطاحنات واضطهادات كانت أشد ما عرف من نوعها في التاريخ وأهم مظاهرها:

(أ)- حرب الثلاثين عاماً من سنة 1618م إلى سنة1648م وكان تأثيرها في ألمانيا تأثيراً سيئاً حيث ظلت ميداناً للحرب وفريسة للنهب مدة ثلاثين سنة هلك فيها نصف سكانها تقريباً واندثرت فيها معالم الصناعة والتجارة.

(ب)- اضطهاد هيجونوت فرنسا:كان بروتستانت فرنسا يدعون الهيجونوت وكانوا أقلية ضئيلة في وسط أغلبية كاثوليكية ولذلك كان تاريخهم فيها حافلاً بالإضطهادات والحروب والمذابح التي من أشهرها ( سان برثلميوا) في 24 أغسطس سنة 1572 فبينما كان (كوليني ) زعيم الهيحونوت وأحد وزراء الملك شارل التاسع في ذلك الوقت ماراً أطلق عليه رجل الرصاص فأصابه إصابة غير قاتلة فعزم الملك على الانتقام فخاف الكاثوليك عاقبة التحقيق وانفضاح أمرهم فبيتوا يوم عيد القديس ثلميو مذبحة هائلة ووضعوا علامات على بيوت الهيحونوت وانتقل الخبر من باريس إلى الأقاليم فقلدوها وكانت النتيجة أن قتل من الهيحونوت ألفا نفس في باريس وثمانية آلاف في الأقاليم وحينما تولى رشيليو مقاليد الأمور في فرنسا عمل على إخضاع الهيحونوت فاستلزم ذلك حروباً طويلة الأمد حيث كانوا يقيمون في مدن محصنة.

(ت)- محاكم التفتيش: لم ير التاريخ لها مثيلاً كان شعارها القسوة التي لا رحمة فيها والاضطهاد الذي لا هوادة فيه لأعداء الكاثوليك وكانت تستمد سلطتها من البابا مباشرة ولا دخل للحكومات في تصرفاتها وكانت جسامتها سرية وتتجسس بكل الطرق وتقبض على من تشاء وتعذب المقبوض عليهم بما تراه حتى تكرههم على الاعتراف بإلالحاد وحينئذ توقع عليهم عقوبة الإحراق أو السجن المؤبد ومصادرة الأملاك حتى التائبون منهم يسجنون طول حياتهم تطهيراً لهم من جريمة الإلحاد وكانت هذه المحاكم تراقب المطبوعات وتحرق ما لا يتفق منها مع المذهب الكاثوليكي ويذكر التاريخ هذه المحاكم كأعظم نقطة سوداء في تاريخ النصرانية لما أجرته على الشعوب البريئة من الويلات.

(ث)- مجلس الدم: لما كثر في سكان الأرض المنخفضة مذهب كلفن أشتد شارل في معاملتهم وأقام محاكم التفتيش بها فأحرقت عدداً من البروتستانت ولما خلفه ابنه فيليب الثاني ملك أسبانيا استمر في سياسته وأخذت الجنود تتحرش بالأهالي فقامت الثورة وأنقض الناس على الكنائس الكاثوليكية وكسروا ما فيها من تماثيل وصور فما كان من فيليب إلا أن أرسل الدوق ألفا على رأس جيش عظيم من الأسبان لمعاقبة الثوار فكون مجلسا عرف بمجلس الدم لكثرة ما أهرقه من الدماء واقترف (ألفا) من الفظائع ما يندر وجود مثله في التاريخ.

إن حركات الإصلاح الديني في الغرب كانت حركة احتجاج عملي على سياسة الكنيسة الغربية ممثلة بالبابوية للنتائج الكارثية التي نتجت عن قيادتها للعالم الغربي ولا أدل على ذلك من الفشل الذريع الذي منيت به الحملات الصليبية فكانت الحركة البروتستانتية أول رد فعل على هذه السياسات إنكارا على اختصاص رجال الكنيسة بتفسير كتابهم المقدس. ثم كانت حركة الإصلاح ممثلة بالثورة الفرنسية والتي قامت على رجال الدين وليس على الدين كما يتصور كثير من الناس لأن رجال الدين أعطوا سلطتهم هالة مقدسة من خلال مرجعيتها الدينية أدت إلى خلل اجتماعي وعلمي وسياسي ذو اثر مدمر على الحياة الغربية فكانت الثورة عبارة عن سياسة منفتحة تقتضي نقل التطبيق العملي للنصوص الدينية من خلال منهج علمي واقعي يتوافق مع المتغيرات في العالم لتحقيق الأهداف الدينية التي هي أساس السياسة الغربية.

أما العوامـل الخارجيـة:

1- تنامي القوة الإسلامية في المنطقة وتولي القيادة فيها من قبل أناس تربوا على الجهاد .

2- النهضة العلمية الدعوية التي قام بها علماء أفذاذ كالعز بن عبد السلام وابن تيمية رحمهم الله تعالى الذين كانوا نبراسا للأمة قولا وعملا وعودتهم إلى ساحة التأثير بقوة كلمتهم التي أعادت حقيقة الدين في نفوس الأمة.

3- ظهور قوة جديدة على الساحة باتت تهدد أوروبا وجعلتها مركزا لعملياتها الحربية وهذه القوة زاد من خطورتها أنها إسلامية ممثلة بالسلطنة العثمانية الناشئة فانشغل الأوروبيون عن الحملات إلى الشرق الإسلامي لمقاومة المد العثماني المتزايد والذي بات خطرا حقيقيا يهدد عاصمتي النصارى القسطنطينية وروما.

الحرب الصليبيـة الثانيـة

الإستراتيجية الغربية التي قامت عليها هذه الحروب

بعد توقف استمر أربعة قرون تقريبا ظهرت الحروب الصليبية من جديد بتخطيط آخر وأهداف أكثر جرأة وصراحة لأن الإخفاق والفشل الذريع الذي منيت به الحملات الصليبية السابقة كانت درسا قاسيا للأوروبيين جعلهم يعيدون النظر بالمخططات والأهداف والإستراتيجيات لهذه الحملات ودراستها وتحليل نتائجها وكانت أهم قاعدة بنوا عليها حملاتهم ما أصله لويس التاسع قائد الحملة الصليبية السابعة بعد أن رأى بأم عينيه هزيمة جيشه الذي كان كالبحر مقابل الجيش الإسلامي فقد كتب في مذكراته خلاصة تجربة استمرت ثلاث سنوات بقوله: إنه لا سبيل إلى السيطرة على المسلمين عن طريق الحرب والقوة وذلك بسبب عامل الجهاد في سبيل الله... وأن المعركة مع المسلمين يجب أن تبدأ أولاً من تزييف عقيدتهم الراسخة التي تحمل طابع الجهاد والمقاومة... ولا بد من التفرقة بين العقيدة و الشريعة أ.هـ فهذه خلاصة الإستراتيجية الجديدة للسيطرة على المسلمين والتي تحدد ثلاثة أمور لا بد من تحقيقها ليصلوا إلى أهدافهم:

1- تزييف العقيدة أي: تحريف عقيدة التوحيد وإدخال الخلل عليها بحيث تكون غير واضحة ومكتملة يشوبها الغموض والنقص ومعنى ذلك أن يصبح الإسلام دينا محرفا قابلا للنقد- لفقده خاصيته المميزة بأنه مبني على الوحي- عن طريق إدخال الآراء البشرية وخاصة من العلماء الذين هم الجهة التي يأخذ الناس الدين عنهم ويتمتعون بالثقة والقبول.

2- فصل العقيدة عن الشريعة أي : فصل الدين عن السياسة , بمعنى العمل على إنشاء دول في المنطقة تقوم على أساس دنيوي لا علاقة لها بالشريعة تستمد أنظمتها وتعاملاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية من غير الإسلام أو بعبارة أخرى إدخال النظم والثقافة الغربية على المسلمين وصبغ حياتهم بها وهو ما يعرف بسياسة التغريب.

3- القضاء على عقيدة الجهاد - وهي القتال في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا- بمعنى إخراج عقيدة القتال من كونها دافع ذاتي يستند إلى النصوص الشرعية إلى قتال يمارس من خلال وظيفة لتحقيق أهداف غير إسلامية سواء لحماية حدود مرسومة أو وطنية أو قومية جاهلية.

العوامل التي تحول دون تحقيق الأهداف الصليبية وكيفية التعامل معها

تقوم الإستراتيجية الصليبية على أن السيطرة على العالم الإسلامي بالقوة العسكرية أو من خلال عمل واحد أو جهد فردي أو من ضربة واحدة لا يمكن تحقيقه فكان لا بد من وضع خطة مرحلية للوصول إلى هذه النتائج تبدأ بتحديد عوامل القوة والعمل على هدمها و هي:

1- وجود الخلافة الإسلامية كمظلة ينضوي تحتها جميع المسلمين على اختلاف لغاتهم وبلدانهم والولاء لها واعتبارها البيت الشرعي لهم والذي يتم من خلاله ممارسة شؤون الحياة.

- يقول القس سيمون‏:‏ إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب الإسلامية، وتساعد التملص من السيطرة الأوربية، والتبشير عامل مهم في كسر شوكة هذه الحركة، من أجل ذلك يجب أن نحوّل بالتبشير اتجاه المسلمين عن الوحدة الإسلامية.أ.هـ

- ولما وقف كرزون وزير خارجية إنكلترا في مجلس العموم البريطاني يستعرض ما جرى مع تركيا، احتج بعض النواب الإنكليز بعنف على كرزون، واستغربوا كيف اعترفت إنكلترا باستقلال تركيا، التي يمكن أن تجمع حولها الدول الإسلامية مرة أخرى وتهجم على الغرب‏ فأجاب كرزون‏:‏ لقد قضينا على تركيا، التي لن تقوم لها قائمة بعد اليوم ‏.‏‏.‏ لأننا قضينا على قوتها المتمثلة في أمرين‏:‏ الإسلام والخلافة‏.أ.هـ‏

2- وجود إمارات إسلامية ذات قيادة إسلامية مستقلة غير مرتبطة بالصليبيين قد يؤدي وجودها إلى قيام وحدة وتجمع إسلامي يشكل جدار حماية للمسلمين يدافع عن وجودهم وبنفس الوقت ملاذا للمسلمين وأن عامل الدين هو الأساس في الالتفاف حول قادتهم مهما كان لونهم ولغتهم.

- يقول المستشرق البريطاني مونتجومري في جريدة التايمز اللندنية، في آذار 1968‏:إذا وجد القائد المناسب، الذي يتكلم الكلام المناسب عن الإسلام، فإن من الممكن لهذا الدين أن يظهر كإحدى القوى السياسية العظمى في العالم مرة أخرى ‏.‏أ.هـ‏

- ويقول جب‏:‏ إن الحركات الإسلامية تتطور عادة بصورة مذهلة، تدعو إلى الدهشة، فهي تنفجر انفجاراً مفاجئاً قبل أن يتبين المراقبون من أماراتها ما يدعوهم إلى الاسترابة في أمرها، فالحركات الإسلامية لا ينقصها إلا وجود الزعامة، لا ينقصها إلا ظهور صلاح الدين جديد‏.أ.هـ.

- يقول بن غوريون رئيس وزراء إسرائيل السابق‏:‏ "‏ إن أخشى ما نخشاه أن يظهر في العالم العربي محمد جديد‏"‏‏.أ.هـ

- يقول سالازار ديكتاتور البرتغال السابق‏:‏ أخشى أن يظهر من بينهم رجل يوجه خلافاتهم إلينا‏.أ.هـ

3- سلامة اللغة العربية وقوتها في نفوس الأمة مما يعني الحفاظ على هويتها وصيانة عقيدتها والتي مصدرها القرآن بحيث يؤدي إلى سهولة الوصول على معرفة الدين وعدم اعتماد بيان العقيدة الإسلامية على غير المصدر الإلهي.

- يقول غلادستون‏:‏ ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين، فلن تستطع أوربة السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان‏.‏أ.هـ

- نشيد جيوش الاستعمار كان يقول‏:‏ أنا ذاهب لسحق الأمة الملعونة، لأحارب الديانة الإسلامية، ولأمحو القرآن بكل قوتي‏.‏

- يقول المبشر تاكلي:يجب أن نستخدم القرآن، وهو أمضى سلاح في الإسلام، ضد الإسلام نفسه، حتى نقضى عليه تماماً، يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديداً، وأن الجديد فيه ليس صحيحاً‏.‏أ.هـ

4- تحرر وسائل التعليم وعدم تبعيتها لمؤسسات ذات توجه غير إسلامي بحيث يتم الحصول على العلم من مصدر مستقل لا يتأثر بالعوامل السياسية.

- يقول زويمر‏:‏ مادام المسلمون ينفرون من المدارس المسيحية فلا بد أن ننشئ لهم المدارس العلمانية، ونسهل التحاقهم بها، هذه المدارس التي تساعدنا على القضاء على الروح الإسلامية عند الطلاب‏.‏أ.هـ

- ويقولون إن أهم الأساليب للوصول إلى تدمير أخلاق المسلم وشخصيته يمكن أن يتم بنشر التعليم العلماني‏, يقول المبشر تكلى‏:‏ يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني، لأن كثيراً من المسلمين قد زعزع اعتقادهم بالإسلام والقرآن حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية وتعلموا اللغات الأجنبية‏.‏أ.هـ

5- ارتباط الولاء للقادة بصحة دينهم بحيث تكون ردة الفعل في حال مخالفته على نطاق واسع من المسلمين بمعنى آخر أن يكون الناس عامل بناء أو هدم للقيادات الإسلامية وعدم التهاون بذلك لوجود اليقين بخطورة مخالفته وهو ما يعرف بقوة العقيدة الدينية وهيمنتها على غيرها.

6- استقلال العلماء عن الطبقة الحاكمة لكونهم درع الأمة ومصدر التوجيه لها والسير بها في الطريق الصحيح وتنمية الشعور في عقول وقلوب الأمة أن الصالحين هم القدوة التي يجب أن يتطلع الناس إليها والوصول إلى مستوياتهم.

7- سرعة توحد المسلمين بفعل قوة العوامل التي تجمعهم مقابل عوامل التفرق ممثلة بالنصوص القرآنية والنبوية الصريحة للقناعة برسوخها وثبوتها وأنها الأصل الذي يجب الرجوع إليه.

ألقى أحد كبار المستشرقين محاضرة في مدريد بعد استقلال الجزائر عنوانها لماذا كنا نحاول البقاء في الجزائر فأجاب على هذا السؤال بشرح مستفيض ملخصه: إننا لم نكن نسخر نصف مليون جندي من أجل نبيذ الجزائر أو صحاريها أو زيتونها , إننا كنا نعتبر أنفسنا سور أوروبا الذي يقف في وجه زحف إسلامي محتمل يقوم به الجزائريون وإخوانهم من المسلمين عبر المتوسط ليدخلوا معنا في قلب فرنسا بمعركة بواتيه جديدة ينتصرون فيها ليستعيدوا الأندلس التي فقدوها ويكتسحون أوروبا الواهنة ويكملون ما كانوا قد عزموا عليه أثناء حكم الأمويين بتحويل المتوسط إلى بحيرة إسلامية خالصة من أجل ذلك كنا نحارب في الجزائر‏.‏أ.هـ.

8- عدم تقبل المسلمين لكيان خارجي أو الاندماج معه ووجود الحاجز الديني الذي يشكل الحاجز النفسي بينهم وبين أتباع الملل الأخرى.

هذه أبرز النتائج التي وصل إليها الصليبيون من خلال دراسة متأنية ومستفيضة وعميقة قامت بها جيوش من المستشرقين الذين جابوا العالم الإسلامي وخالطوا المسلمين وعاينوا قيام دول وسقوطها لسنوات عديدة سواء كانوا من السياسيين أو رجال الدين لوضع خطة تقوم على أساس واقعي لموازين القوى والضعف كأساس للحملات الصليبية المستقبلية.

أسـس بناء الشخصيـة الإسلاميـة

بناء على هذه الحقائق حدد الصليبيون هدفهم الجديد ألا وهو تحطيم أسس وعوامل البناء في الشخصية الإسلامية فتحولت الإستراتيجية الصليبية من هدف القضاء على المسلمين عسكريا والذي يعتبر في ظل المعطيات الواقعية وأحداث التاريخ مستحيلا إلى إستراتيجية القضاء على الإسلام في نفوس المسلمين فيفقدوا هويتهم وتصبح السيطرة عليهم تحصيل حاصل ويصبحوا محاربين للإسلام وعدم سهولة هذا الأمر يرتبط بعوامل هي:

1- عدم اعتماد الإسلام في تعاليمه العقائدية والتشريعية على أشخاص معينين أو جهة رسمية فهو ليس دينا كهنوتيا وإنما يعتمد على القرآن الكريم وشخصية الرسول عليه الصلاة والسلام فالقرآن محفوظ بالمصاحف كما نزل لم يدخله نقص ولا زيادة والرسول عليه الصلاة والسلام موجود بآثاره النبوية القولية والفعلية المدونة في دواوين الإسلام بضوابط دقيقة ومحددة لا يمكن التلاعب بها.

2- أن القرآن يوضح ويفصل الأسس التي يقوم عليها الإسلام بعبارة سهلة واضحة باللسان العربي المتعارف عليه وأن اللغة محفوظة وعليه فإن قواعد وأصول الدين ليس من الصعب الوصول إليها والاهتداء بها , وأن المسلمين مرتبطون ارتباطا اقتضائيا به بمعنى أنه لا يمكن أن يكون المرء مسلما إذا فصل نفسه عن القرآن.

3- أن الدولة الإسلامية في عهد النبوة والخلافة الراشدة هي التطبيق العملي للإسلام وتعتبر المثال الذي يجب أن تكون عليه حياة المسلم وشكل الدولة.

4- أن الصحابة يمثلون الجيل القرآني الذي قام بالإسلام كما يجب كل حسب استعداداته وبذلك يمثل كل منهم القدوة البشرية والحالة التي تناسب كل شخص حسب قدراته.

5- وجود الأماكن المقدسة وهي الكعبة المشرفة والمدينة المنورة كمنارات تشكل عامل اتفاق بين أبناء الأمة مما يجعلها ذات اثر لقيام بعث إسلامي حقيقي.

فالمعطيات السابقة حاصلها حصر الإسلام في مصدرين هما القرآن والسنة سواء للحاكم أو المحكوم وعليه فإن نجاح خطتهم بتدمير الإسلام في نفوس المسلمين يظهر بثلاث علامات مجتمعة والتي تعتبر الأهداف النهائية للحرب الصليبية وهي:

الأولى: إقصاء القرآن على مستوى الحكام أولا كمدخل إلى إقصائه على المستوى العام.

الثانية: احتلال مكة وتحويلها إلى كنيسة.

الثالثة:احتلال المدينة المنورة وإزالة القبر النبوي الشريف وتحويلها إلى كنيسة.

لقد حاول الصليبيون تحقيق هذه الأهداف بشكل متسرع لا يقوم على خطة مرحلية تتناسب مع طبيعة الدين الإسلامي من مصادره أو في نفوس المسلمين ففشلت وكانت دروسا مهمة قامت عليها الحروب الصليبية الحديثة وهذه المحاولات هي:

1- محاولة أبرهة الأشرم هدم الكعبة والتي تمثل الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام والتي جاء بها رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام ولم تكن هناك قوة عسكرية تستطيع منعه إلا أن تدميره بفعل إلهي أعطى دلالة على أن الإسلام دين الله تعالى الذي تكفل بظهوره على الأديان جميعها وأن من أراد تدمير الإسلام دمره الله تعالى.

2- في سنة 463هـ أقبل ملك الروم أرمانوس بجيش كثيف لإبادة الإسلام وأهله وتقسيم البلاد على بطارقته إلا أن الله تعالى هزمهم ومزقهم على يد السلطان السلجوقي ألب أرسلان.

3- محاولة الصليبين الوصول إلى الجسد النبوي الشريف إبان الاحتلال الصليبي لبلاد الشام زمن نور الدين زنكي واكتشفت المحاولة وتم قتل المشتركين فيها.

4- محاولة احتلال المدينة المنورة والانطلاق إلى مكة من قبل أمير الكرك الصليبي في صيف سنة 577هـ 1181م فتوغل في الصحراء حتى وصل تيماء ثم رجع عن ذلك بسبب إغارة أحد قادة صلاح الدين على إمارة الكرك وتخريب قراها .

5- محاولة أمير الكرك ثانية عن طريق البحر فتصدى له الأسطول الإسلامي فأبادوا أسطوله.

6- في سنة 586هـ أقبل ملك الألمان فردريك الأول في جيش قوامه ثلاثمائة ألف مقاتل ونيته الانتصار لبيت المقدس واحتلال بلاد المسلمين حتى مكة والمدينة فهلك جيشه في الطريق وأغرقه الله في أحد الأنهار وخلفه ابنه فما وصل عكا إلا ببضعة آلاف ثم مات بعد ذلك.

7- ثم تكررت المحاولة زمن السلطان سليم الثاني ففشلت.

8- حاول الأسطول البرتغالي الصليبي سنة 1517م احتلال جدة للوصول إلى مكة والمدينة فباءت بالفشل ثم كانت المحاولة الثانية سنة 1520م وأخفق الصليبيون فيها.

هذا الهدف أصبح الشغل الشاغل للحركة الصليبية بكل صراحة ووضوح فكانت أول محطة صليبية أقيمت في الخليج العربي في البحرين عام 1894على يد شيخ المنصرين القس الأمريكي صموئيل زويمر حيث اعتمدتها الصليبية العالمية بدلا من البصرة في العراق للبدء في غزو منطقة الخليج والانطلاق إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة وقد صرح زويمر في عام 1905م بذلك حين قال: إن الطريق إلى مكة يبدأ من الخليج وإن نجاحنا في الخليج سيفتح أمامنا آفاقا جديدة في الشرق.أ.هـ

وقبل زويمر بعام واحد كانت عبارة المنصر الصليبي الخطير وليم جيفورد بالكلاف حين قال ما نصه: متى يتوارى القرآن ومدينة مكة من بلاد العرب يمكننا أن نرى العربي يندرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه.أ.هـ

وفي عام 1910 وأثناء انعقاد مؤتمر أدنبرة التنصيري نادى المنصر تيسدال: بضرورة تقوية حركة التبشير في مصر وفارس والشام ليتمكن التبشير من فتح البلاد الصعبة مثل جزيرة العرب وبلاد الأفغان.أ.هـ , وفي ذات المؤتمر تحدث زويمر عن المشكلة المحمدية التي تواجه المبشرين وحبذا لو تفتح مراكز للتبشير على طول ساحل الجزيرة العربية وخاصة في جدة التي تعتبر ميناء مكة وبطبيعة الحال من أجل الوصول والزحف إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة.

ومن الوثائق السرية تلك الوثيقة الموجودة في المركز العام للوثائق التاريخية بمدينة لندن وهي وثيقة خطيرة جدا تذكر صراحة مكة المكرمة والمدينة المنورة وقد كتبها أحد وزراء المستعمرات السابقين ويدعى أورمسبي جو وتعود إلى عام 1925م حيث تشير إلى رغبة الصليبية العالمية كانت وما تزال تتجه إلى غزو الحرمين الشريفين وهذا نص الوثيقة: إن الحرب علمتنا أن الوحدة الإسلامية هي الخطر الأعظم الذي ينبغي على الإمبراطورية أن تحذره وتحاربه.. وأننا في السودان ونيجيريا ومصر ودول إسلامية أخرى شجعنا- وكنا على صواب- نمو القوميات المحلية فهي أقل خطرا من الوحدة الإسلامية أو التضامن الإسلامي وإن سياستنا الموالية للعرب في الحرب العظمى ( الحرب العالمية الأولى 1914م ) لم تكن نتيجة متطلبات تكتيكية ضد القوات التركية بل كانت مخططة لغرض أهم وهو إبعاد سيطرة الخلافة على المدينتين المقدستين (مكة والمدينة) فإن العثمانيين كانوا يمدون سلطانهم إليها لمعان مهمة أ.هـ.

ثم يأتي بعد ذلك المنصر الأمريكي الصليبي روبرت ماكس قائلا: لن تتوقف جهودنا وسعينا في تنصير المسلمين حتى يرتفع الصليب في سماء مكة ويقام قداس الأحد في المدينة.

يقول المستشرق الفرنسي كيمون في كتابه ‏"‏باثولوجيا الإسلام‏"‏‏:‏اعتقد أن من الواجب إبادة خُمس المسلمين، والحكم على الباقين بالأشغال الشاقة، وتدمير الكعبة،ووضع قبر محمد وجثته في متحف اللوفر.

وفي نكبة حزيران 1967 أتم اليهود احتلال المدينة المقدسة «القدس» باستيلائهم على القدس الشرقية، ولم يدخلها وزير دفاعهم آنذاك «موشي دايان» إلا في أعقاب دخول الحاخام الأكبر للجيش الإسرائيلي «شلومو غورين» حيث أدوا صلاة الشكر عند حائط البراق الشريف «حائط المبكى» وكانت الهتافات المسجلة وقتها: «يا لثارات خيبر..» تشق عنان السماء.. وهنا قال دايان: لقد استولينا على أورشليم، ونحن في طريقنا إلى يثرب وخيبر »، وفي آب من العام نفسه قال: «إذا كنا نملك التوراة، وإذا كنا نعتبر أنفسنا شعب التوراة فيجب أن تكون لنا أرض التوراة بلاد القضاة، أرض أورشليم –القدس- وحبرون –الخليل- وأريحا وأماكن أخرى..أ.هـ

حاول اليهود بعد عام 1967 انتزاع الزاوية الفخرية (دار أبو السعود) وهي ملاصقة للجهة الغربية لسور الحرم القدسي لكي يهدموها للبحث عن أساس هيكلهم، وطلبوا ذلك من أرملة الشيخ حسن أبو السعود، ولكنها رفضت، وأخيراً أخرجت السيدة بالقوة وهدمت الدار، وسافرت إلى السعودية عند أولادها، فقال لها (هرتسوك) حاكم القدس: "إذا رأيت الملك فيصل فقولي له إننا قادمون إليه، فإن لنا أملاكاً عنده، إن جدنا إبراهيم هو الذي بنى الكعبة، وإن الكعبة ملكنا وسنسترجعها بالتأكيد".أ.هـ

مراحل الحرب الصليبيـة الحديثـة

مرت هذه الحرب بمرحلتين:

المرحلة الأولى: الحرب الصليبية في القرن التاسع عشر بزعامة أوروبة الصليبية بقيادة كل من فرنسا الكاثوليكية وبريطانيا البروتستنتية حيث قامت فرنسا بزعامة نابليون بحملة على الشرق الإسلامي في عام 1779م حيث أصدر إعلاناً دعا فيه جميع يهود آسيا وأفريقيا للانضواء تحت لوائه من أجل إعادة تأسيس أورشليم ولكنها لم تحقق أهدافها بفعل المقاومة العنيفة والقوية في فلسطين وخاصة عكا التي تحطمت على أسوارها حملته العسكرية وكذلك التنافس مع بريطانيا التي عملت على احتلال مصر فيما بعد وبذلك تحقق حلم الحملات الصليبية السابقة بالسيطرة على مصر والتي تعتبر مفتاحا للشرق الإسلامي وكان من نتائجها:

- احتلال القدس من قبل بريطانيا: في 11/كانون الأول/1917 بعد أن حافظت عليها الخلافة العثمانية وسلمت لليهود بتآمر عربي واضح صريح ونشرت الصحف البريطانية صور أللنبي وكتبت تحتها عبارته المشهورة التي قالها عندما دخول القدس‏:‏ اليوم انتهت الحروب الصليبية أ.هـ , ونشرت هذه الصحف خبراً آخر يبين أن هذا الموقف ليس موقف أللنبي وحده بل موقف السياسة الإنكليزية كلها، قالت الصحف‏:‏ هنأ لويد جورج وزير الخارجية البريطاني الجنرال أللنبي في البرلمان البريطاني، لإحرازه النصر في آخر حملة من الحروب الصليبية، التي سماها لويد جورج الحرب الصليبية الثامنة‏.‏وقد بلغ من تجلي معنى الصليبية أن أجراس الكنائس في برلين قد دقت فرحاً يوم دخول الجنرال ألنبي القدس، كما يذكر الأمير شكيب أرسلان وكان يومها في برلين، عاصمة الدولة الحليفة لتركيا.ويذكر كذلك الأستاذ محمد كرد علي أن الكنائس جميعها في القدس قد أعلنت ابتهاجها بما في ذلك كنائس الألمان، كما أن بابا روما كان قد دعا أتباعه في العالم وكثير منهم ألمان ونمساويون، أن يقدموا الشكر لله بمناسبة احتلال أللنبي القدس وينهاهم عن السعي لإعادتها إلى المسلمين. يقول باترسون سمث في كتابه ‏"‏حياة المسيح الشعبية‏"‏ باءت الحروب الصليبية بالفشل، لكن حادثاً خطيراً وقع بعد ذلك، حينما بعثت إنكلترا بحملتها الصليبية الثامنة، ففازت هذه المرة، إن حملة أللنبي على القدس أثناء الحرب العالمية الأولى هي الحملة الصليبية الثامنة، والأخيرة‏.أ.هـ

  • - احتلال دمشق من قبل فرنسا: فالجنرال غورو عندما تغلب على جيش ميسلون خارج دمشق توجه فوراً إلى قبر صلاح الدين الأيوبي عند الجامع الأموي، وركله بقدمه وقال له: ها قد عدنا يا صلاح الدين وضرب الضريح بالسيف وقال: "أنا من أحفاد الصليبيين، فأين أحفادُك يا صلاح الدين؟".أ.هـ

ويؤكد صليبية الفرنسيين ما قاله مسيو بيدو وزير خارجية فرنسا عندما زاره بعض البرلمانيين الفرنسيين وطلبوا منه وضع حد للمعركة الدائرة في مراكش أجابهم : "‏إنها معركة بين الهلال والصليب‏"‏‏.أ.هـ وهكذا نرى التلازم في كل الحملات الصليبية بين تحقيق أهداف النصرانية مع الأهداف اليهودية ذلك لأن النصرانية مرتبطة ارتباطا وثيقا وروحيا باليهودية من خلال العهد القديم وتجلت النتائج الصليبية لهذه الحروب بـ :

أولا: إنهاء الخلافة الإسلامية عن طريق:

1- إنهاك الدولة العثمانية بالحروب والثورات الداخلية مما أدى إلى إضعافها واستنزافها.

2- احتلال مصر بوابة الشرق للعالم الإسلامي كهدف استراتيجي أصله قادة الحروب الصليبية في القرون الوسطي واتخاذها قاعدة انطلاق لتصدير سياسة التغريب إلى باقي دول المنطقة من خلال محمد على باشا حاكم مصر وخلفائه من بعده والذين قاموا بالإجراءات التالية:

- إنهاء النفوذ المملوكي الذي يحمل السمات الإسلامية والولاء للإسلام والذي خاض مسيرة تحرير بلاد الشام من التواجد الصليبي كمصدر قوة يلجأ إليها المسلمون.

- إضعاف الخلافة الإسلامية العثمانية بسلخ مصر وبلاد الشام عن جسم الأمة ولم يبق إلا التبعية الاسمية للخلافة ذرا للرماد في عيون الأمة وإعطاء المبررات اللازمة والضرورية للتدخل البريطاني الفرنسي في المنطقة مما مهد فيما بعد إلى احتلال بلاد الشام وتأسيس الكيان اليهودي.

- ربط مناهج التعليم الشرعي بالدولة وإنشاء نظام التعليم الغربي بمناهجه وفتح الباب للبعثات العلمية إلى أوروبا لمد الجسور الثقافية بين العالمين الإسلامي والغربي وبروز تيار إسلامي متغرب يعرف بالتيار الإصلاحي أهم قادته محمد عبده.

- إدخال أسلوب الحياة الغربية إلى مصر والشام.

- إدخال المباديء والقوانين الغربية في الحكم.

- مقاومة المد الإسلامي القوي القائم على التوحيد الخالص بقياده الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

1- شق قناة السويس لتكون نافذة أوروبا إلى جزيرة العرب.

2- إنشاء الروابط القومية والوطنية لتحل محل الرابطة الإسلامية كمباديء مقدسة تجتمع عليها الشعوب واذكاء عوامل الصراع بينها لتقويضها وتجييرها لصالح المجهود الصليبي.

3- إنشاء أحزاب وتيارات منحرفة تنتسب إلى الإسلام وتشجع التصوف المنحرف والعلمانية تعمل على هدم عقيدة الجهاد من منطلق إسلامي.

لقد بين السلطان عبد الحميد الثاني حقيقة الواقع بقوله: ولا أمل لنا بالمستقبل إلا بالوحدة، فإن بقاء الوحدة الإسلامية يعني بقاء إنجلترا وفرنسا وروسيا وهولندا تحت نفوذنا حيث أن كلمة واحدة من الخليفة تكفي لإعلان الجهاد في البلدان الإسلامية الواقعة تحت سيطرة هذه الدول مما يؤدي إلى وقوع الكارثة بالنصارى، ولا بد أن يأتي يوم يقوم فيه المؤمنون قومة رجل واحد ويحطمون أغلالهم.هـ

من أجل ذلك حطموا الخلافة العثمانية ووقف معهم كل العرب الذين غرهم الغرب فأصبحت بلادهم مرتعا للصليبيين ينهبون ثرواتها ويتحكمون في مقدراتها وسياساتها ويسوسون أبناءها.

ثانيا: تمزيق رقعة الخلافة الإسلامية إلى دويلات على أساس اتفاقية سايكس بيكو تقوم على ترسيخ الوطنيات المحلية والخلاف الدائم بينها لتقويض الروابط القومية والإسلامية على حد سواء.

ثالثا: إنشاء قيادات من الأمة بتوجهات غربية ودوافع شخصية تلقى قبولا من الشعوب الإسلامية بفعل عمليات التلميع مستغلين حالة الجهل والاستغفال في الأمة لتنفيذ المخططات الصليبية على غرار مصطفى كمال أتاتورك وهي السياسة التي حققت أهدافها بسهولة لم تحلم بها أوروبا وتلتزم بالشروط التي قامت عليها دولة أتاتورك وهي:

1- إلغاء الخلافة الإسلامية، وطرد الخليفة من تركيا ومصادرة أمواله‏.

‏2- أن تتعهد تركيا بإخماد كل حركة يقوم بها أنصار الخلافة‏.‏

3- أن تقطع تركيا صلتها بالإسلام‏.‏

4- أن تختار لها دستوراً مدنياً بدلاً من دستورها المستمد من أحكام الإسلام.

ولذلك لم يتبن أي زعيم دولة عربية منذ سقوط الخلافة الإسلامية العمل بالشريعة الإسلامية أو المناداة لإعادة الخلافة الإسلامية مع حرصهم على ترسيخ الديمقراطية القائمة على الدساتير والقوانين الوثنية ومقاومة أي صحوة إسلامية واحتوائها تحت مظلتها الدستورية والقانونية.

رابعا: إنشاء كيان غريب بالتعاون مع الدويلات العربية التي أنشأها الاستعمار وهو الكيان اليهودي لسلخ بيت المقدس عن جسم الأمة بغفلة من الشعوب الإسلامية وإقامة صراع دائم يؤدي إلى خلخلة الأوضاع في المنطقة لتستقر نهائيا بيد اليهود تتوافق أهدافه مع الأهداف الصليبية والعمل تدريجيا على تحويل قضية بيت المقدس من قضية إسلامية تخص المسلمين عامة إلى قضية قومية عربية ثم إلى قضية وطنية فلسطينية داخلية تؤدي إلى تسليمها لليهود بصفة شرعية دائمة.

المرحلة الثانية: لقد وضعت الصليبية العالمية أهدافها بالتعاون مع اليهودية العالمية وعملت على تحقيقها من خلال خطة مرحلية دقيقة مستفيدة من الأخطاء والثغرات التي حصلت في الحروب الصليبية السابقة وتتلخص هذه الأخطاء فيما يلي:

1-التوسع والمبالغة بإراقة الدماء مما أثار حفيظة المسلمين وحميتهم مما أدى إلى قيام حركة جهادية واسعة أدت إلى فشل المخططات الصليبية آنذاك.

2- محاولة الاحتلال العسكري الكامل والمباشر للمنطقة بأكملها وبسط سلطانهم عليها مما يتنافى مع غريزة مقاومة المحتل الغريب وعدم مراعاة الفارق في الثقافة الإسلامية مع الثقافة الصليبية التي يستحيل اندماجهما أو التقائهما.

3- عدم وجود خطة واضحة المعالم والاكتفاء بالحمية الصليبية والعاطفة الدينية في احتلال البلاد الإسلامية وعدم وجود خطة لمرحلة ما بعد احتلال بيت المقدس.

4- عدم اعتماد الأسلوب السياسي التفاوضي في الحصول على المكتسبات المطلوبة بحماية المسلمين أنفسهم مما يشكل غطاء شرعي لوجودهم.

تعد هذه المرحلة هي الأخطر بعد أن تم استبدال الاحتلال الصليبي للبلاد الإسلامية المباشر المعرض للخطر والزوال بأي لحظة بفعل عوامل الاختلاف اللغوية والدينية وأسلوب الحياة بين المحتلين وبين أبناء الأمة الإسلامية باحتلال صليبي غير مباشر عن طريق القيادات التي تم تنصيبها ودعمها من قبل الاحتلال الغربي وتم تكريس هذا الاحتلال عن طريق ترسيخ نظام الحكم الديمقراطي الدستوري الذي جعل أبناء الأمة مشاركين في تأصيل وديمومة الاحتلال عن علم أو غفلة أو جهل وهذا النوع من أشكال الحكم يتميز بما يلي:

أ - أنه غريب عن الأمة فهو نظام غربي مستورد تم زرعه وتشريبه للأمة تدريجيا عن طريق الاحتلال.

ب - لا يمكن أن تقوم من خلاله حركة إسلامية فهو مقفل بضوابط غير إسلامية وينطلق من منطلقات علمانية بحتة.

ت – أنه لا يتأثر بتغير الأشخاص بحيث أنه يصبغ شخصية الحاكم بما يتفق مع مبادئه فهو يمثل حلقة متكاملة.

ث – يعمل على ترسيخ الاحتلال الصليبي فقياداته تم بناؤها بناء غربيا بما يتوافق مع التبعية للصليبية العالمية.

هذه الحرب أصبح هدفها الشعوب الإسلامية وليست الأنظمة الحاكمة بعد السيطرة المباشرة على هذه الأنظمة وبطريق غير مباشر على الشعوب التي أصبحت تدور في فلك الصليبيين بما يخدم مصالحهم بعد أن رسخت في النفوس النـزعة الفردية والحظوظ الدنيوية وخطط لهذه الحرب أن تحقق هدفين :

الهدف الأول: سلخ الأمة إلا من رحم الله تعالى عن دينها على مستوى الأمة وليس جماعة أو طبقة معينة من خلال خضوعها ورضاها بالأنظمة الحاكمة والعمل على بنائها وتقويتها واتباع شرائعها وأحكامها وتنفيذ مخططاتها التي تهدف إلى تحقيق نتائج غير شرعية والتي ليس فيها شيء من الإسلام إذ أن الشيء لا يكون إسلاميا إلا إذا استند إلى نص شرعي من القرآن أو السنة يتوافق مع الأصول العامة للشريعة الإسلامية.

هذه المرحلة هي مرحلة ترسيخ الوثنية في قلوب العباد من خلال زرع آلهة - مطاعين وحاكمين ومشرعين تعبد من دون الله تعالى - وهي الدساتير والقوانين, في قلوب الأمة عقديا وعمليا بدواعي التقليد والألفة نشأ عليها الصغير وشاب عليها الكبير وورثته أجيال عن مثلها منذ قرنين من الزمان.

بعد أن تم لهم هذا الأمر بنجاح منقطع النظير بدرجة لم يتوقعوها وما هذا إلا لأنهم تمكنوا من نوعية من الأمة أطلقوا لآرائهم العنان واعتمدوا على أهواءهم وسياساتهم ظنا منهم أنهم سيصلون إلى ما يريدونه ووضعوا أيديهم بأيدي اليهود والنصارى واطمأنوا لهم وغفلوا عن قول الله تعالى: َودَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ( آل عمران:69), وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ (آل عمران:149) وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (آل عمران:118), وقوله تعالى: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ(البقرة:120).

لقد رفع الله تعالى عن الأمة ولايته ونصرته وإن بقيت لأفراد لم ينساقوا وراء هذا المد المخرج من الإسلام ولا يزال في الأمة مؤمنون يرفع الله بسببهم العذاب عن الأمة.

الهدف الثاني: سلخ الغيرة والتي هي أساس الأخلاق في الشخصية العربية التي حملت الإسلام وهدم العاطفة الإسلامية عند الأمة ومقوماتها عن طريق الخطوات التالية:

1- إنشاء كيانات وأنظمة ذات قيادة دكتاتورية سواء كانت ملكية أو جمهورية تقوم على البطش والإرهاب تتبنى صيغ جاهلية قومية ووطنية تنسب نفسها للإسلام مما يرسخ شعورا قويا في النفوس على التمرد على الواقع العربي والإسلامي ممثلا بهذه الأنظمة وبنفس الوقت يرسخ القناعات بالأنظمة الغربية القائمة على الديموقراطية والتعددية وحرية الرأي مما دفع كثيرا من أبناء الحركات الإسلامية والقومية إلى الفرار من بلادهم واللجوء إلى الدول الغربية وبذلك يزول الحاجز النفسي للثقافة وأسلوب الحياة الغربية مما يجعل الغرب قدوة ومثلا للحياة الكريمة.

2- مد جسور الثقافة بين أبناء الأمة والغرب عن طريق البعثات العلمية واستقدام الصناعات الغربية أشبه ما يكون بمهرجان لإثارة الدهشة في قلوب الأمة.

1- العمل على سحق التقدم العلمي والاقتصادي بتبني سياسات تدميرية يمليها الغرب مقابل المعونات والقروض الممنوحة لهذه الأنظمة.

2- بناء المجتمعات بناء استهلاكيا لتكون سوقا استهلاكيا للغرب.

3- فتح أبواب الفساد وتشجيع الاستثمارات السياحية والثقافية الغربية لتدمير البنية الأخلاقية للشعوب من خلال إفساد المرأة كأهم عامل لذلك.

4- سحق روح القتال والجهاد في الأمة وخاصة في بلاد الشام ومصر من خلال نظام التجنيد الإجباري الذي يعمل على إذلال الشباب وقتل نفسيتهم كون الأنظمة العسكرية غربية خالصة.

فالقيام بمجهود فكري ومادي كبير للوصول إلى أهدافهم مهما كان كبيرا بالنسبة لهم فإنه يمثل الحد المثالي ولأن التعرض للمقدسات وخاصة مكة المكرمة والمدينة المنورة وقبر الرسول عليه الصلاة والسلام أمرا ليس باليسير مما يمثل مساسا بالعاطفة الدينية والانتماء للإسلام الذي ورثته شعوب المنطقة عن آبائهم من خلال الإرث الإسلامي الهائل ثقافةً وجهادا وتاريخا لا يمكن سلخ الأمة عنه نهائيا فإنه سيؤدي إلى ردة فعل على مستوى الشعوب عامة وتتنوع ردة الفعل هذه إلى:

1- ردة فعل مسلحة انتقامية ولاتساع رقعة العالم الإسلامي والكثافة السكانية فإن هذه العمليات ستؤدي إلى مقاومة شعبية عنيفة وواسعة ربما تؤدي إلى قلب أنظمة الحكم كون هذه الأنظمة تبعيتها غربية وستقف موقفا سلبيا لأن أي موقف سوى الرد العسكري لن يقبل منها نهائيا, ردة الفعل هذه ستكون عفوية من أناس حملوا عقيدة الجهاد ومستعدون لبذل أرواحهم في سبيل حماية مقدساتهم.

2- ردة فعل احتجاجية استنكارية ستقودها الحركات الإسلامية المدجنة والتي ترتبط مصالحها بالأنظمة لأن غير هذا الموقف سيؤلب عليها إما الأنظمة نفسها إذا قامت بحركة تؤدي إلى عمل مادي وإما الغالبية من الشعب كونها وقفت موقفا سلبيا ومعنى ذلك سقوط هذه الحركات وستكون في موقف حرج في النهاية ستغلب مصالحها وارتباطاتها سواء المحلية أو الدولية.

3- ردة فعل مختزنة بمعنى التردد والانتظار بما تسفر عنه ردود الفعل السابقة.

4- ردة فعل اللامبالاة وستكون عند شريحة كبيرة من الناس وهي الشريحة المنتفعة التي تم تدجينها لتكون في فلك الأنظمة والتي لم يعد لها قرار وإنما رؤيتها للأمور من خلال قادتها سواء على نطاق الأنظمة أو نطاق مجموعتها البشرية من قبيلة أو حزب أو غير ذلك.

إن ما يقلق الصليبيين هو الصنف الأول وهو ردة الفعل الجهادية والتي عمل الغرب للقضاء عليها من خلال سلسلة سياسات متداخلة طبعا بأيد ما يسمى بالدول الإسلامية تبلور هذا الدور بعد الانسحاب الروسي من أفغانستان وانتشار ظاهرة الجهاد بين الشباب في العالم وخاصة الدول العربية بشكل لم يكن متوقعا تجاوز كل الحسابات مما حدى بما يسمى بمنظمة المؤتمر الإسلامية في خطوة استباقية في مؤتمرها عام 1988م في دكا بكل جرأة على تبني قرار يقضي بإلغاء الجهاد.

لقد كانت مرحلة الغزو الروسي لأفغانستان منعطفا مهما في قلب المعادلة الصليبية الدولية حيث كان الإيحاء الغربي للإتحاد السوفيتي سابقا بتمرير هذا الغزو مما دفعه بكل قوة إلى الدخول في هذه المغامرة اعتمادا على آلته العسكرية لتحقيق الأهداف التالية:

1- تدمير الشعب الأفغاني الذي لم يخضع للاحتلال الصليبي وتهيئته لخطوة التنصير وكونه يعتبر عاملا أساسيا في مسيرة المد الإسلامي.

2- ضرب الإتحاد السوفيتي وتمزيقه مما يعني إنهائه من الساحة الدولية كقوة عظمى والتفرد الغربي وعلى الأخص الأمريكي من خلال استنـزافه في معركة طويلة تؤدي إلى إنهاكه اقتصاديا مما يعني خضوعه للغرب وهذا ما حصل.

3- ضرب الطاقات الجهادية في الأمة من خلال فتح باب الجهاد في أفغانستان مما يعني أن الفارق في التسليح بين المجاهدين وبين الإتحاد السوفيتي سيعمل على إنهاء هذه الفئة من الأمة التي هي سبب قلق للصليبيين لتفريغ الأمة من عناصر المقاومة مستقبلا ولذلك عمل الغرب على تشجيع خروج المجاهدين إلى أفغانستان وخاصة من الجزيرة العربية والتي سهلت خروج الشباب وقامت دعوة واسعة للجهاد فيها بالإضافة إلى حملات جمع التبـرعات الواسعة والكبيرة وانطلقت المؤسسات الإغاثية من هذه الدول للعمل في أفغانستان سواء بين المجاهدين أو اللاجئين على نطاق واسع وأقيمت علاقات رسمية مع قادة المجاهدين وفتح المجال لعلماء الجهاد للعمل بكل حرية.

لم يقتصر وجود الشباب المسلم في أفغانستان على الدخول إلى جبهات القتال والتعرض للشهادة وإنما اتسع الأمر لتكون أفغانستان المكان المناسب والملائم للإعداد لحركات جهادية في كافة بقاع الأرض ثم اخذ الجهاد بعدا أوسع من ذلك عندما بدأ تسييس هذا الجهاد ووضعه في مسار اشمل من كونه مسألة أفغانية ليأخذ بعدا إسلاميا من خلال طرح قضية تحكيم الشريعة التي أصبحت أثرا بعد عين في كافة الدول التي تسمي نفسها إسلامية وإعادة قضية القدس خصوصا وفلسطين عموما إلى الواجهة من ضمن الأهداف الجهادية لقادة الجهاد العرب الذين رأوا في أفغانستان الفرصة التي لا تعوض لإعادة الصحوة الحقيقية في الأمة وعلى رأسهم الشيخ عبد الله عزام الذي جعل نصب عينيه أن أفغانستان هي مرحلة بداية الطريق إلى القدس.

بدأت الطروحات التي يبثها الشيخ عبد الله عزام في المجاهدين القادمين إلى الساحة الأفغانية مصدر قلق للصليبيين ورأوا أن هذه الطروحات ما هي إلا دعوات لمقاومة الحروب الصليبية مما يعني أن مرحلة صلاح دين أخرى ستصبح أمرا واقعا ومع انتشار عقيدة الجهاد في العالم الإسلامي وخاصة بين الشباب دق الصليبيون ناقوس الخطر وبدأوا بالعمل على حل المسألة الأفغانية حلا سياسيا فاتفقت الولايات المتحدة الأمريكية مع الاتحاد السوفيتي على خروج الجيش الأحمر من أفغانستان وتسوية المسألة الأفغانية وعدم تسليم السلطة للمجاهدين الذين إن تسلموها سيكون دافعا لهم ولغيرهم بتكرار العملية الجهادية في أماكن أخرى وقد أجمع المجتمع الدولي على إنهائها من خلال الخطوات التالية:

1- اغتيال الجنرال ضياء الحق الذي رأى أن روح الجهاد في الأمة قوة عظيمة يجب عدم التفريط بها فوقف بكل قوة مع المجاهدين وفتح بلاده لجميع المساعدات القادمة لهم وتسهيل وصولها إليهم مع فتح الباب لدخول المجاهدين من كافة الدول ولما خرج عن نطاق الدائرة الصليبية المرسومة له تم تفجير طائرته حيث كان يصطحب السفير الأمريكي معه في جولاته الجوية لأنه كان يعلم بأنه أصبح هدفا للتصفية في أي وقت.

2- الحيلولة دون السماح للراغبين بالجهاد وخاصة الشباب بالخروج إلى أفغانستان من قبل دولهم إضافة إلى التضييق من قبل الحكومة الباكستانية الجديدة.

3- التضييق على الأحزاب الجهادية لخلق توازن قوى مع النظام الشيوعي وبذلك يصبح الحل التوافقي بين الحكومة الشيوعية والمجاهدين أمرا ضروريا لإنهاء القضية.

4- إنهاء مسألة اللاجئين الأفغان بإعادتهم إلى مناطقهم التي خرجوا منها لتوسيع الحالة المدنية في البلاد وبذلك الحد من التحرك الجهادي للأحزاب الجهادية مما يترتب على ذلك مطالبة شعبية بإنهاء حالة القتال للحصول على الاستقرار والأمان.

5- التضييق على المجاهدين الذين من خارج أفغانستان عموما والعرب خاصة لدفعهم إلى مغادرة الساحة الجهادية والذين يعتبرون عاملا مهما في إذكاء حالة القتال ورفض الطرح السلمي من خلال سلسلة إجراءات تصل إلى الاعتقال والتسفير القسري.

6- تفريغ الساحة من العلماء ودعاة الجهاد وتصفية ذوي التأثير على الساحة الجهادية وعلى رأسهم الشيخ عبد الله عزام والشيخ تميم العدناني.

7- تشجيع بعض الأحزاب الجهادية في الدخول في مفاوضات العملية السلمية.

8- استقطاب القادة الميدانيين في جبهات القتال من قبل الأطراف الدولية ودفعهم إلى الاستقلال عن أحزابهم والمناداة بالحل السياسي مما يعمل على إضعاف الأحزاب الرئيسة.

9- استقطاب المجاهدين العرب وخاصة المطاردين من حكومات بلادهم للحصول على اللجوء السياسي حتى خرج عدد كبير منهم إلى أوروبا وخاصة بريطانيا وفرنسا وألمانيا مما جعلهم لقمة سائغة لهذه الدول فتم إلقاء القبض عليهم وتسليمهم لبلادهم أو سجنهم أو تصفيتهم جسديا بحجة محاربة الإرهاب.

أدت هذه الإجراءات إلى الوصول لمرحلة متقدمة في الطريق إلى إنهاء القضية الأفغانية على الطريقة الدولية ساعد في ذلك الاتفاق الأحادي من قبل أحد الأحزاب الرئيسة - الجمعية الإسلامية بقيادة برهان الدين رباني والقائد القوي أحمد شاه مسعود- مع نجيب الله رئيس النظام الشيوعي الأفغاني وقائد المليشيات الشمالية رشيد دوستم على دخول كابل وتشكيل تحالف جديد كخطوة أساسية لإنهاء القضية إلا أن رفض بعض القادة المؤثرين على الساحة مثل حكمتيار ويونس خالص وجلال الدين حقاني ومجموعة كبيرة من المجاهدين العرب حال دون إتمام ونجاح هذه الصفقة.

لقد كان لرجوع نسبة كبيرة من المجاهدين العرب إلى بلادهم حاملين عقيدة الجهاد مصدر إزعاج على حد سواء لدولهم وللقوى الصليبية العالمية ولذلك قامت هذه القوى بإثارة النـزاع الصربي البوسني لتحقيق هدفين:

الأول: تفكيك الإتحاد اليوغسلافي الذي أصبح يشكل قوة أوروبية كبيرة مرشحة للعب الدور الروسي لدول أوروبا الشرقية وإخضاع الصرب أصحاب المذهب الأرثوذكسي العدو اللدود للكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية من طرف خارجي لتبدوا محايدة.

الثاني: خلق ساحة جهادية محاصرة ومراقبة من قبل الصليبيين لاستقطاب المجاهدين العرب وخاصة من دول الشرق الأوسط والتي لعبت دولهم دورا كبيرا في تحريضهم وفتح السبل أمامهم للوصول إلى البوسنة مما أدى خلال سنوات الصراع إلى تصفية معظمهم وبعد أن تحقق للصليبيين غرضهم عملوا على إنهاء المسألة البوسنية بشكل ديمقراطي على منوال الوضع في دول العالم النائم( الثالث).

لقد كانت المناداة للجهاد البوسني لإقامة دولة إسلامية في قلب أوروبا أم الحروب الصليبية من المفارقات وأمرا متناقضا مع مقتضيات المعادلات والأهداف الدولية فهل يعقل أن تفتح أوروبا أبوابها لتسهيل وصول المجاهدين والمساعدات إلى البوسنة من أجل إقامة دولة إسلامية في قلبها وهي التي عملت بكل قوتها على إنهاء الخلافة الإسلامية قبل ذلك بسبعين عاما على الأقل ومزقت العالم الإسلامي وأنشأت فيه أنظمة حكم لا يمكن الوصول إلى الإسلام عن طريقها وهل يعقل أن تسمح الدول الصليبية أن تجعل من نفسها قاعدة انطلاق جهاد إسلامي من أهدافه أوروبا نفسها؟؟!!.

وهكذا نرى إن الغارة الصليبية الاستعمارية مستمرة على العالم الإسلامي لكنها اليوم بدون صلبان، لأن الصلبان عندما رفعت استثارت المسلمين ووحدت كلمتهم تحت راية الإسلام، فكانت حطين وغيرها من الأيام الناصعة، لذا كان لا بد من إعادة النظر بصورة هذه الحرب وتغيير هذه الصورة والاحتفاظ بالحقيقة، لذا نجد من حين لآخر سقوط بعض الأقنعة وظهور هذا الأمر على حقيقته والله تعالى يبين لنا بكل وضوح : وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ (لبقرة:217), ويقول : قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ (آل عمران:118).

الدور الأمريكي في الحروب الصليبية الحديثـة

الحرب الصليبية الحديثة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا أصحاب المذهب البروتستنتي وهو ما يسمى بالمحور الانجلوسكسوني والذي تبلور فيه الدور الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية بقوة على الساحة الدولية يعتبر بداية لمرحلة جديدة من الحروب الصليبية وامتدادا طبيعيا للدور البريطاني فالولايات المتحدة الأمريكية ورثت المستعمرات البريطانية السابقة بموجب الشروط التي أملتها القيادة الأمريكية مقابل الدخول في الحرب العالمية الثانية لإنقاذ أوروبا عموما وبريطانيا خصوصا من الاجتياح النازي..

إن الدور الأمريكي يعتبر الأخطر على مر التاريخ ليس من حيث طموحاته وأهدافه التوسعية إذ أن هذا هو خط السير الطبيعي في الأمم فما من أمة وصلت إلى درجة الاستعداد االديني والعسكري القادر على التحرك خارج إطار حدودها إلا ومارست هذا الدور الذي يتوافق مع المعطيات السياسية إذ أن الروابط التي تقوم بين الدول إنما هي مرتبطة بالمصالح التي تحقق لها نفوذا أكبر وتمتلك من العوامل التي تؤدي إلى تحقيق أهدافها, فلا يوجد في العلاقات الدولية شيء اسمه معاهدات تقوم على الاحترام المتبادل والصداقة المجردة أو حتى على الأواصر العاطفية والمحبة إذ أن السلطة هي الرحم العاق التي تقطع كل الوشائج بين المجتمعات البشرية فلا حرج في أن يقتل الأب ابنه أو الابن أباه أو الأخ أخاه ناهيك عن غير أولى القربى الذين لا تجمعهم رحم واحدة فهذا أمر معلوم لطبقات الحكم, فخطورة الدور الأمريكي ليس نابعا من كونه يسعى للسيطرة على العالم وإنما خطورته متعلق بالخطوات والسياسات التي يمارسها لتحقيق هذا الهدف, فالسياسة الأمريكية تقوم على خطة متكاملة تشمل السيطرة على العالم سيطرة مادية وروحية من خلال:

1- القوة الاقتصادية.

2- القوة الإعلامية التي تشمل جميع مجالات التربية.

3- القوة السياسية.

4- القوة العسكرية.

إن منطلق السياسة الأمريكية يقوم على مبدأ كلفاني الذي يقول: إنه إن سمح الله أن يجتمع في الأرض الأمريكية شعب من رجال ونساء اختيروا من قبل الله، ذلك لأنه مناط به- أي بهذا الشعب- مهمة حكم العالم ذات يوم أ.هـ .

هذا هو الأساس الذي قام عليه المجتمع الأمريكي من بداية تأسيسه سواء على صعيد رجال السياسة أو الفكر أو الاقتصاد وحتى على مستوى عامة الشعب فهذا مغروس في عقولهم ويجري في دمائهم مما يشكل انسجاما بين مختلف طبقات المجتمع الأمريكي بهذا الخصوص ولذلك لا عجب أن نرى التأييد الشعبي الواسع للسياسات التوسعية التدميرية للحكومات الأمريكية والسخط الذي يبديه الشارع العام إنما هو لعدم تحقيق هذه الأهداف بالطريقة التي يتخيلها العقل الأمريكي القائم على التفوق والعنجهية التي يجب أن تثمر سريعا وبأقل التضحيات.

الإستراتيجية الاقتصادية كمدخل لتحقيق الأهداف الأمريكية

تفضل الولايات المتحدة بشكل عام الهيمنة الاقتصادية على الاحتلال العسكري، وقد ضمنت بوساطتها ولاء الحكومات, فمن خلال السيطرة التجارية والمالية تعمل على جعل مناطق النفوذ استمراراً لاقتصاد الولايات المتحدة، ومن حكامها أتباعا طيعين لها ولذلك يرى الموجهون للسياسة الأمريكية أن على الولايات المتحدة مد تأثيرها التجاري على كامل الكرة الأرضية لأن السوق الداخلية لم تعد تكفي, فالطاقة الواسعة لإنتاج للولايات المتحدة التي هي إحدى المكونات الثلاث لكل توسع مع وجود الأسواق ووسائل النقل الجديدة هي بحاجة ماسة للمنافذ، فالهيمنة الاقتصادية تتمثل بـ:

1- بسط وتوسيع العلاقات التجارية، مع المحافظة على اقل قدر ممكن من العلاقات السياسية وعدم اعتماد علاقة دائمة مع أي جهة في العالم.

2- تغلغل الشركات الأمريكية في اقتصاديات الدول وسيطرتها على الإنتاج الاستراتيجي لها فالمجموعات الاقتصادية والمالية القوية وعن طريق المعاهدات حصلت على الحصة الكبرى لرأس المال والسيطرة الكاملة على الدائرة الاقتصادية القومية والإقليمية.

3- العمل على تشجيع أحادية الإنتاج بحيث تؤدي السياسات المختلفة بدفع الدول إلى الاعتماد على أنواع محصورة من الإنتاج وخنق وتدمير باقي أنواع الإنتاج لتصبح سوقا مفتوحة للسلع والإنتاج الأمريكي خاصة فيما يتعلق بالسلع الغذائية الإستراتيجية كالقمح وغيره.

4- السيطرة على المؤسسات الاقتصادية الدولية كصندوق النقد والبنك الدوليان واللذان بدورهما يعملان على إرباك الحياة الاجتماعية والسياسية من خلال الشروط المفروضة على الدول مقابل منحها القروض والإعانات التي تؤدي إلى أسرها كونها مجبرة للجوء إليها وفرض سياسات مهما كانت نتائجها مما يسبب آثارا تدميرية للبلاد مثل:

- تحرير الأسعار والذي يؤدي لصعودها جاعلة السلع الأكثر ضرورة صعبة المنال أمام جزء كبير من عامة الشعب وتسمح بإثراء أقلية منه.

- تخفيض الموازنة العامة والتي تؤدي إلى خفض الإنفاق العام بحيث أن معظم فئات الشعب ترى نفسها مجبرة على التأقلم مع ما يقدم لها من مؤسسات عاجزة.

- خصخصة شركات القطاع العام الكبرى والتي تؤدي إلى تجريد الدول من وسائل السياسة الاقتصادية الحقيقية وهذه تعمل على سقوط المجموعة الكاملة للثروة القومية في جعبة المجموعات الأجنبية حيث المجموعات الأمريكية هي المسيطرة.

1- عمل الشراكات التجارية التي تخضع للأنظمة الأمريكية التي تفرض على الآخرين تقييدا وبالمقابل تمنح لنفسها تحررا من تلك القيود كمنظمة ألغات وغيرها.

2- السيطرة على المراكز التجارية الحيوية في العالم ولو بالقوة العسكرية لضمان الحرية التجارية للقطاعات التجارية الأمريكية كما حصل في بنما .

3- فرض المعاهدات التجارية بما يحقق المردود الاقتصادي لها على حساب الطرف الآخر.

فسيطرة الولايات المتحدة على النظام الاقتصادي لم تُمثِّل إلا مرحلة من التقدم الأمريكي نحو التفوق العالمي, فأوروبا فُرغّت بعد عام 1945 عملياً من مقوماتها فرأت الولايات المتحدة أن الوقت قد حان أخيراً من أجل إقامة هيمنتها السياسية والعسكرية والثقافية في آن واحد.

إن هدف الولايات المتحدة الأساسي لم يتغير والمتمثل ببناء عالم الغد على طريقتها وتحريك مصالح رجال الأعمال الأمريكيين والاطمئنان إلى أن الهياكل الاقتصادية ستكون في كل مكان وبشكل أساسي في صالح الآلة الأمريكية وأصبحت دول المنطقة تحكمها الأقليات أو حكومات تابعة مباشرة لواشنطن حيث تتواجد الشركات الأمريكية بشكل قوي والرأسمال الأمريكي يشرف بطريقة ضمنية على الاقتصاد الوطني.فالعقيدة الاقتصادية تنبع من القيم البروتستانتية التي تقول أن النجاح المالي الذي تحققه السياسة الأمريكية إنما هو دليل موافقة من الله على صواب سياستهم ومكافأة على جهودهم فالسياسة الاقتصادية تنطلق من تصورات دينية لا يمكن للعقلية الأمريكية أن تتراجع عنها.

الإسـتراتيجيـة الإعلاميـة

إن اللغة والتاريخ والتي ينتج عنها خصوصية النهضة الثقافية والعلمية والتقاليد والقيم والمبادئ هي مقومات الشعوب التي تعطيها الهوية التي تتحدد من خلالها أسلوب الحياة والتي تظهر من خلال طريقة اللباس والغذاء والممارسات الطبيعية الأخرى.فكل شعب يتميز بتصوراته ونمط تفكيره ومفهومه وتعامله مع الأحداث وتحديد نوعية الفعل الذي يقوم به لأدق التفصيلات من خلال هذه المقومات , فلا تتم السيطرة على الشعوب إلا بإخراجها من ثقافتها وإرثها التاريخي الحضاري وقيمها ومبادئها , وهذا بينه عليه الصلاة والسلام بدقة متناهية عندما أخبر أن الأمة ستنسلخ من هويتها بقوله:لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه , قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال:فمن أ.هـ (رواه الشيخان)فالرسول عليه السلام يبين بوحي مبين أن التحول إنما يكون تدريجيا وعندها تصبح الأمة بلا روح وتتحول إلى غثاء كغثاء السيل لا قيمة لها, فالسيطرة على مصادر التوجيه الإعلامية والتربوية والثقافية والعلمية للأمة تعمل على :

1- إزالة الحواجز التي تحافظ على استقلالية القيم والمبادئ وتحول دون التبادل مع الآخرين على أن يكون الطرف الآخر مستقبلا ومستهلكا لا مؤثرا. .

2- إحلال المبادئ والقيم الغريبة محل الأصيلة بتفسيرات تقوم على قواعد مخالفة تضمن المحافظة على خلق حالة هلامية تتمثل بالتبعية اللامبالية.

فعند تحقق هذين الأمرين تخرج الأمة من القدرة وتصبح مشلولة الحركة موجهة من الطرف الخارجي كونها بلا هوية ولا ثقافة.ثم تبدأ عملية تحقيق الأهداف إما التصفية لهذه الشعوب أو إدخالها في حضارة الآخرين ليصبحوا عنصرا ثالثا مميعا بلا شخصية.

فالسيطرة الأمريكية تقوم على إستراتيجية إعلامية من خلال شبكة الاتصالات العالمية المحتكرة من قبلها والتي ضمنت لها التوجيه للأمة فلوسائل الاتصال ميزة حاسمة لأنها تمثل كامل الوظائف الذهنية للشعوب والتي من خلالها تحدد هويتها فهي روح الأمم وهذه الوسائل تتكون من وكالات أنباء ودعاية وسينما وتلفزيون ومن مؤسسات استفتاء واتصالات.

لقد سمحت لهم السيطرة على وسائل الإعلام الأساسية أن يمارسوا تأثيراً حاسماً على العناصر العظمى التي تشكل الدائرة الروحية للشعوب: التقاليد والتربية واللغة هذه العناصر تشكل مجموع كل النشاطات التي يستطيع من خلالها شعب ما أن يتميز عن الشعوب الأخرى ويؤكد ذاته وتميزه فالأمريكيون كانوا من أوائل من مارس الهيمنة على وسائل الإعلام الأساسية التي بفضلها لم يتوانوا عن أن يفرضوا في كل مكان صورة وهمية عدائية للحضارات والثقافات الأخرى.

هذه السيطرة حققت أهدافها كما هو مشاهد اليوم بحيث أصبحت الشعوب العربية عبارة عن مجموعات بشرية مكدسة غير قادرة على إحداث ردة فعل جماعية تجاه الأحداث وبلا هوية ومشلولة الحركة لأن القيادات فيها قد تم إنشاؤها نشأة غربية من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ولكن قلوبهم قلوب اليهود والنصارى خاضعة للسياسات الأمريكية عملت على التوجه بتفكير الشعوب إلى الأهداف الاقتصادية التي تسلبهم القدرة على الاستقلالية ولا يملكون من مقوماتها شيئا فتمت السيطرة عليها وهذا ما يسمى في الإسلام إرادة الحياة الدنيا والتي تتناقض كليا مع أصل الدين الإسلامي فاستطاعت السياسة الإعلامية الأمريكية من النجاح بفعل:

1- السيطرة الطويلة على الدعاية واحتكار وكالات الأنباء الدولية الكبرى وقوتهم المالية .

2- سلبية مؤسسات الإعلام والتربية والحكومات في مجمل البلاد وسلبية القاعدة الجماهيرية.

3- التحالف الوثيق بين الوسائل الإعلامية وسلاح النشر الجماهيري سيطر على مصادر المعلومات وإيصالها بالقنوات المختلفة بتحيز منهجي للروايات الأمريكية مرفقة بحملة من تسميم العقول.

إن الخطورة الكامنة في الوسائل الإعلامية والتربوية كونها تظهر بمظهر ناعم ولطيف بالنسبة لعدد كبير من الناس لأنها أصبحت جزءاً من حياتهم اليومية استهانوا بها فكان تأثيرها قاتلا ومدمرا.

الإستراتيجيـة السياسـية

إن السياسة الأمريكية تقوم على المؤسسية والمرحلية لتحقيق أهداف ثابتة بحيث أن تغير القيادات الحزبية لا يؤثر في تغيرها فالحزبين الجمهوري والديمقراطي يكمل كل منهم الآخر تبعا للأحداث والمتغيرات العالمية ومعالم هذه السياسة حددها الرئيس الأمريكي ترومان بشكل واضح وصريح بقوله: لقد سمح الله تعالى لنا أن نبني دولتنا من أجل أن نعطي للعالم وبالقوة الأعمال وكل وسيلة أخرى ونحمل له الرسالة,هذه الرسالة هي أن على العالم أن يتطور حسب معاييرنا لأنها معايير مباركة من القدرة الإلهية سنساعد عملياً في القتال من أجل السلام ولكنه سيكون السلام الأمريكي سنطور موارد العالم ولكن سيكون ذلك لمصلحتنا ولمصلحة النخبة التي تفكر مثلنا والتي تدعمنا.أ.هـ فالخطوط العريضة لسياسة الولايات المتحدة كما يحددها ترومان هي:

1- أن تأسيس الولايات المتحدة إنما حصل بإرادة الله فهي دولة مقدسة.

2- أن فرض السيطرة الأمريكية على العالم أمر حتمي لا تراجع عنه.

3- أن الوسائل العسكرية هي الأداة التي يتم بها فرض هذه السيطرة وليست الدبلوماسية والتي قد تكون وسيلة للسيطرة العسكرية.

4- أن السيطرة الأمريكية إنما هي لفرض الحضارة الأمريكية على العالم كونها مقدسة ذات معايير إلهية.

5- أن السلام الأمريكي هو خضوع العالم للحضارة الأمريكية.

6- أن التعاون الأمريكي مع دول العالم إنما هو حسب المعايير الأمريكية التي تصب في مصلحتها.

7- بناء نخب قيادية تعمل على تحقيق الأهداف الأمريكية.

لقد حاولت الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الأولى من خلال رئيسها ويلسون السيطرة السياسية على العالم من خلال ما اقترحه من إنشاء عصبة الأمم المتحدة إلا أن الكونجرس في ذلك الوقت لم يوافق على الهيكلية لهذه المنظمة وأهدافها فنشأت هذه المنظمة ضعيفة مما أدى إلى سقوطها, وفي عام 1941م أطلق الرئيس الأمريكي مشروع منظمة دولية لحفظ السلام في العالم فكانت هيئة الأمم المتحدة أساس المنظمة الدولية التي ضمنت الولايات المتحدة الأمريكية التفوق السياسي من خلالها فمقرها في أرض الولايات المتحدة وتحت تصرفها وتشرف من خلالها على الدول الأعضاء ففي 26 حزيران 1945 أسس ميثاق 111 الذي يشكل منظمة الأمم المتحدة وفي 24 تشرين الأول 1945 بدأ العمل فعلياً بهذه المنظمة,ومن خلال هذه المنظمة تعمل الحكومات الأمريكية على تمرير وجهة نظرها دون تنازل، وبكل تعنت ومن دون أي تأثر بوجهات نظر حلفائها مع تمسكها بسلوك يبدو لها أنه الوحيد القادر على إيصالها للهدف غير آبهة بالمعارضة والانتقادات, وقد ساهمت القناعة المشتركة الموجودة لديهم بأنهم يشكلون شعباً مميزاً، بدعم شعور الشعب الأمريكي المستقبلي بأنه شعب مختار من قبل الإرادة السماوية، ومن هنا شعر أنه مُخَوَّلٌ بأن يفرض وجهة نظره على العالم أجمع فتدرجت بعد ذلك الولايات المتحدة بشكل طبيعي حتى وصلت إلى لعب حامي النظام العالمي الجديد الذي هو قيام مملكة الرب دون منازع وهو هدف توراتي خالص.‏

الإسـتراتيجيـة العسـكريـة

الإستراتيجية العسكرية قائمة على التفوق العسكري والذي تفرض به الولايات المتحدة الأمريكية سيطرتها وتقوم على:

1- استخدام كل التقنيات العسكرية مهما كانت دون مراعاة لأي معايير ما دامت تضمن لها التفوق المنشود فامتلاك القنبلة الذرية شكّل الورقة الرابحة الحاسمة لصالحها ، فبوساطة هذه القوة التدميرية استطاعت تأكيد تفوقها العسكري، كما أنها وفرت لها تفوقاً علمياً قادراً على أن يتحول إلى تقدم تكنولوجي حاسم مما يؤمن إيجاد سلاح اقتصادي رئيس، لقد أدت عملية ضرب اليابان بالقنابل الذرية مهمة مضاعفة فرضت على كل منافس محتمل شبح التدمير الشامل وخلقت لدى الأوروبيين فكرة التهديد وأن المظلة الأمريكية هي القادرة فقط على حمايتهم ففي هذا الإطار المحدد فرضت الحرب الباردة نفسها فالحرب الفيتنامية في الستينات والحرب الصليبية الحالية على العالم الإسلامي (أفغانستان والعراق) وغيرها راح ضحيتها مئات الآلاف من الأطفال والشيوخ والنساء من جراء استخدام أسلحة الدمار الشامل سواء الكيماوية أو النووية دون مراعاة لأي اعتبارات إنسانية تتشدق بها الإدارة الأمريكية وتتخذها ذريعة لتدمير الشعوب باسم السلام والإصلاح والديمقراطية .

2- إعتماد مبدأ "قصف المنطقة" والذي يقوم على إحداث دمار واسع مما يعني استهداف كامل للكيان البشري هذا المبدأ تحمس له الأمريكيون بشكل كبير واعتمدوه عندما عرضه السير أرثور ترافرس هاريس (1892-1984) مدير إدارة المدفعية البريطانية في الحرب العالمية الثانية حيث تم قصف ستين مدينة من أكبر المدن الألمانية مما أحدث الرعب الذي استمر حتى نهاية الحرب ولم يتم فقط استهداف ألمانيا بل أيضاً فرنسا وبلجيكا حيث قصفت حتى الدمار مراكز اقتصادية عصبية.

بعد انتهاء الحرب الباردة عملت الولايات المتحدة الأمريكية على المحافظة على عدم التوازن لمنع أية قوة منافسة من أن ترى النور، والتقريران اللذانقُدّما إلى الرئيس بوش من قبل البنتاغون عام 1992 وهما تقرير بول ولفووتيز وتقرير الأميرال جيرميا كانا واضحين بشكل كامل فيما يخص الهدف المنشود ألا وهو بسط هيمنة الولايات المتحدة على كامل الكرة الأرضية بكل الوسائل العسكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية الضرورية والاستنتاج العام للتقريرين يدعو الجيش الأمريكي أن يحتوي من الآن وصاعداً على ما يلي:‏

1- قوة نووية إستراتيجية قادرة على التدخل ضد كل منافس يملك قوة شبيهة.

2- قوة في المحيط الهادي تتمركز في اليابان وفي كوريا الجنوبية قادرة على مواجهة القوى النووية والتقليدية الصينية و تنفيذ مهام مراقبة الشرق الأقصى لروسيا وكوريا الشمالية.‏

3- قوة في المحيط الأطلسي تتمركز في قواعد نورفولك.‏

4- قوة طوارئ جاهزة للتدخل السريع في كل مكان حيث تفرض ذلك مصلحة الولايات المتحدة.‏

لقد تم تبني التوجيهات التي أوصت بها التقارير وبعض أعضاء الكونجرس من قبل الرئيس كلينتون الذي أعاد تنظيم حلف شمال الأطلسي بإنشاء قوة للتدخل السريع قوامها 100 ألف جندي أمريكي وقوة أساسية للدفاع مؤلفة من سبع وحدات مدرعة قوامها500 ألف رجل من الجيوش الأوروبية والتعزيزات الأمريكية الاحتياطية.‏

الديـن في السياسـة الأمريكيـة

إن العقيدة النصرانية التوراتية هي المحرك الرئيس للعقلية السياسية الأمريكية على جميع المستويات مما يعطيها قوة وتصميم على تحقيق أهدافها لأنه لا يوجد مثل العقائد في دفع الأمم للانتشار والسيطرة فعدم وجود العقائد يعطي ضعفا قاتلا ومدخلا للآخرين لاحتواء هذه المنظومات الضعيفة ولما كان المسلمون يؤمنون إيمانا راسخا بعقائدهم تمكنوا من بسط نفوذهم والسيطرة على معظم الأرض في ذلك الزمان, وعندما فقدت الأمة عقيدتها أصبحت في ذيل القافلة وكما قال عليه الصلاة والسلام: يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها قالوا: من قلة بنا يومئذ قال :أنتم ذلك اليوم كثير ولكن غثاء كغثاء السيل تنتزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن قالوا وما الوهن قال حب الدنيا وكراهية الموت أ.هـ صحيح (سنن ابي داود والنسائي وابن ماجة ومسند احمد وأبي يعلى).

لقد تم تفريغ الأمة من عقيدتها وقام الصليبيون بعقائدهم يحاربون الأمة فسيطروا عليها والولايات المتحدة الأمريكية هي من أكثر الدول إيمانا بعقيدتها ويظهر هذا من خلال أصحاب النفوذ فيها, يقول جورج واشنطن من أشهر الرؤساء الأمريكيين:لم يوجد شعب سوى الولايات المتحدة أعترف وعبد اليد غير المرئية والتي تدير قضايا البشرية.

يقول ترومان أحد رؤساء أمريكا: أن "أمتنا قد قامت بفضل رجال آمنوا بالله".

كان دالاس وزير خارجية أمريكا السابق- والذي يؤمن بشكل قوي بالدور الإلهي للأمة الأمريكية على اقتناع بأن مهمة بلاده هي قيادة العالم - نشيطاً في عدة مؤتمرات دولية مهمة لدعم نشر الديانة النصرانية , ومستشارا للرئيس ويلسون في مؤتمر فرساي.

فهذه المنطلقات تعطي انطباعا حقيقيا وتصورا واضحا عن نشأت الولايات المتحدة وأنها قامت على أساس ديني محض تشكل الآلة الاقتصادية فيه الدلالة الصادقة على اختيار العناية الإلهية لهم وعلى صحة منهجهم وسياساتهم وأنهم يحملون مهمة مقدسة لنشر ملك الله حتى تخوم كامل الكرة الأرضية ولذلك تعتبر جميع المؤسسات الدولية وغير الدولية التي تسيطر عليها أمريكا مشرفة على التطبيق الصحيح للمبادئ الإنجيلية البروتستانتية,فهم على قناعة بأنهم يجسدون قدراً سماوياً مرجعهم المطلق في ذلك التوراة ومنه يستمدون رؤية الواقع بشكل مشوه وأن الشعب الأمريكي هو شعبالله، وكل خصم كائن من كان يختلف معهم حول هذا النموذج يعتبر عدواً لله، وتتم معاملته على هذا الأساس.

هذا ما تريـده أمريـكا

إن الهدف النهائي للإستراتيجيات الأمريكية على المدى البعيد هو توحيد العالم وتخليصه من كل آثار للثقافة الأصلية المستندة إلى التاريخ والعمل على توحيد الأذواق والتقاليد والمواقف الفكرية وفق الحضارة الأمريكية لأنهم يعتقدون أنهم ينوبون عن الرب في تحقيق إرادته ومعنى هذا إطلاق يدهم في شؤون العالم بالكيفية التي يرونها تحقق هذه الأهداف وبما أنها إرادة السماء عندهم فلا يحق لأحد معارضتها وأن ما يقومون به هو عمل شرعي وما نسمعه بين حين وآخر من استنكار لبعض الإجراءات التي يقوم بها الأمريكيون على مختلف المستويات إنما هو لإسكات الرأي العام الذي لم يتشرب السياسة الأمريكية.‏

أمريكا وما يسمى بالشـرق الأوسـط

إن الثوابت والمرتكزات التي تنطلق منها الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط هي نفسها التي تتبعها في كافة أقطار الأرض ولكن الشرق الأوسط له خصوصية لم تجتمع في غيره وهي:

1- أن العقائد الدينية التي قامت عليها أمريكا تفرض عليها بشكل حتمي أن يكون الشرق الأوسط محور أهدافها للنبوءات التوراتية فعندما أسست دولتها في القارة الجديدة على أساس إنشاء قدس جديدة تكون منطلقا للوصول إلى القدس الحقيقية وبذلك تتقاطع الأهداف الأمريكية التوراتية مع الأهداف اليهودية ولذلك لا نعجب من التدخل الأمريكي الصارخ العلني لإقامة الكيان اليهودي في فلسطين فقد قام السفير الأمريكي في الآستانة عاصمة الدولة العثمانية، عام 1882م، بمراجعة الخارجية العثمانية زمن السلطان عبد الحميد الثاني ، وبذل الجهود لدى المسئولين العثمانيين بشأن إسكان اليهود في فلسطين وسوريا، ولكن الباب العالي رفض السماح لهم بسكنى فلسطين، وتدخلت بريطانيا عام 1887م ولم يسفر هذا التدخل عن نتيجة إيجابيةوعندما وافق البريطانيون ممثلين بـ ليولد جورج وارتور بلفور واللورد ميلز على دعم مشروع جيم وايزمن بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين رأت الحكومة الأمريكية بذلك فرصة لتعميق الانقسامات في العالم العربي ولتقسيم الإمبراطورية العثمانية، وكانت أول دولة اعترفت بالكيان الصهيوني والراعي الرئيس له ومده بأسباب القوة حتى كانت حرب حزيران 1967 والتي كانت حربا خاطفة بدعم أمريكي مباشر ضد الدول العربية ذات التحالفات والعلاقات القوية بنفس الوقت معها وما تلا ذلك من دعم غير محدود على الصعيد السياسي والعسكري والاقتصادي.

2- إ ن الشرق الأوسط يمثل للأمريكيين الشريان الحيوي لوجود البترول فيه والذي يعتبر العامل الإستراتيجي للعجلة الاقتصادية العالمية ومن يسيطر عليه يسيطر على العالم ولذلك انغرست شركاتها النفطية في كل أنحاء الشرق الأوسط وشكلت رؤوس أموالها موارد للمداخيل المرتفعة وعن طريق سيطرتها على منابع التموين النفطية أمسكت ستندر أويل وسكوني بمقبض السكين بقوة وبذلك أصبحت أوروبا تحت السيطرة الأمريكية لأن ربع احتياجاتها البترولية شرق أوسطية, حول هذا يقول أندريه كاسبي:"بدون شك استفادت الشركات الكبرى من دعم وزارة الخارجية الأمريكية للتوسع المالي فقد كتب مساعد وزير الخارجية يقول:"على الولايات المتحدة أن تضمن قيادة العالم وبسرعة لأنه من الضروري المحافظة على السيطرة الأمريكية على اليونان وتركيا ومن خلالهما على منطقة الشرق الأوسط وبتروله أ.هـ.‏ولذلك نرى أن السياسة الخارجية الأمريكية تقوم على عقول بترولية فجون فوستر دالاس كان مستشاراً قانونياً لشركة Standard Oil ومدير مؤسسة روكفلر. كريستان هرتر(1959-1961) كان مرتبطاً بروكفلر بواسطة مؤسسة السلام العالمي التي كان يديرها راسك 1961-1969).

هنري كيسنجر (1973-1977) كان مقره في مجلس العلاقات الخارجية لمؤسسة روكفلر وأخوته.

سايروس فانس (1977-1980) كان إداري ثم مدير لروكفلر وعضو في المؤسسة الثلاثية من عام 1981 حتى عام 1982و كان ألكسندر هيغ مديرمصرف مانهاتن.

جورج شولتز(1982-1989) كان مدير شركة برشتل المرتبطة بـ شفرن وجولف وايل.

أما جيمس بيكر وزير خارجية جورج بوش فكان يمثل شركة من القضاة في هيوستن بخدمة الشركات البترولية الكبرى وكانت عائلته تملك حصصاً مهمة في شركة أكسون - موبيل - ستندر وايل... وأخريات وكذلك ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي..

3- يعتبر الشرق الأوسط أكثر المناطق في العالم عرضة للتفلت من القبضة الأمريكية مما يشكل عامل اضطراب للسياسة الأمريكية والحيلولة دون تحقيق أهدافها أو على الأقل عرقلة جهودها وسياستها لأن الشرق الوسط على مر التاريخ كان يشكل حلقة صراع دائم يعمل على زعزعة الاستقرار في المنطقة ومصدر تصدير له إلى المناطق المجاورة فهو مركز الحضارة الإسلامية الأشد خطرا على حضارة أمريكا والتاريخ يقول بأن هذه المنطقة لم تخضع وتستقر إلا أثناء الحكم الإسلامي وكون أمريكا تعلم يقينا – وهي التي عملت على تأسيس وتأييد الأنظمة في المنطقة – أنه لا يوجد حكم إسلامي في المنطقة وسط غالبية ترى أن الحكم الإسلامي ضرورة ملحة إن لم يكن من دوافع دينية فهو من دوافع اقتصادية واجتماعية تؤمن لهم العيش الكريم والحرية والاستقلال لذلك كانت السياسة الأمريكية تخشى أن تعود للمنطقة روحها الإسلامية مما يعني بداية صراع يعتبر في كل الموازيين صراعا خاسرا لها فالتاريخ يشهد وما التاريخ إلا حركة لمشاهد متطابقة لا يؤثر فيها تغير الأدوار والوجوه فضمانة السيطرة الأمريكية هي استقرار هيمنتها المباشرة وغير المباشرة ولذلك فإن العقيدة السياسية الأمريكية القائمة على التحالفات الاقتصادية دون السياسية تبرهن بشكل قاطع على أن الأنظمة في الشرق الأوسط معرضة للزوال بأي لحظة فالأمريكيون لا يريدون وجود إرث غير أمريكي مهما كان في المنطقة وعلى رأس ذلك أنظمة الحكم التي بجميع المقاييس الأمريكية لا تتناسب مع الهدف النهائي للسياسة الأمريكية وما هذه الأنظمة إلا خطوة أملتها الظروف كمتطلب عملي لتحقيق ما تصبوا إليه أمريكا, يقول أيوجين روستو رئيس قسم التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية ومساعد وزير الخارجية الأمريكية، ومستشار الرئيس جونسون لشؤون الشرق الأوسط حتى عام 1967م :"يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية‏"‏‏.‏ لقد كان الصراع محتدماً ما بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطي، وهو مستمر حتى هذه اللحظة، بصور مختلفة‏., ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب، وخضع التراث الإسلامي للتراث المسيحي‏.‏ إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي، فلسفته، وعقيدته، ونظامه، وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي، بفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي، ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية، لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها.‏أ.هـ إن روستو يحدد أن هدف أمريكا في الشرق الأوسط هو تدمير الحضارة الإسلامية، وأن قيام إسرائيل، هو جزء من هذا المخطط، وأن ذلك ليس إلا استمراراً للحروب الصليبية, وما تصريحات الرئيس بوش الابن ووزير دفاعه رامسفيلد بأن هذه الحرب حرب صليبية إلا استكمالا لحلقة الماضي مع الحاضر لبيان حقيقة الغرب وأمريكا التي تؤكد الحقائق القرآنية حقيقتها ودوافعها وأساليبها.

وخلاصة القول: إن الولايات المتحدة الأمريكية ممثلة بحكومتها اليمينية المتطرفة والتي تتبنى النهج الصهيوصليبي، قارئة جيدة للتاريخ، بارعة في تحليل وتكييف فلسفته وما يتفق مع غاياتها الطموحة في التوسع وإقناع الآخرين بمزاياه، وما الديمقراطية الأمريكية التي بدأت بتطبيقها في المنطقة إلاَّ جزء من هذه الغايات التي لن تقف عند هذا الحد. كما إن صُنّاع القرار الأمريكي لم ينسوا قط أن أجدادهم الأُول الذين وفدوا إلى الولايات المتحدة كانوا يحملون معهم الإرث الأوروبي من عِشقٍ لسياسة التوسع واستعمار الآخرين، وما كانت الجملة العابرة التي ظهرت عرضاً في خطاب الرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش بعد أحداث 11 سبتمبر، بأن الحروب الصليبية قد عادت، إلاَّ تنفيس لهذه الروح المحتقنة داخله، وإن حاول المطبخ السياسي الأمريكي التخفيف فيما بعد من غلواء هذه الجملة والتقليل من شأنها، لكنها دون شك تُعبّر بجلاءٍ متناهٍ وصادق عن الإرث الذي بقي دفين أجيالٍ من الأمريكيين، وعلى الأخص ذوي الأصول الأنجلوسكسونية.

تحقيق الأهداف الصليبيـة بالأيـد الأمريكية

بعد أن تمت السيطرة السياسية الأمريكية على الدول من خلال هيئة الأمم المتحدة والتي أصبحت مؤسسة أمريكية تخدم مصالحهم وتحقق أهدافهم وضربت بمساعدة الأنظمة في دول العالم جميع القادة المحليين إذ أن من الأهداف الرئيسة التي عملت لتحقيقها بوساطة هذه الأنظمة هو عدم السماح لظهور قيادات شعبية علمية أو دينية أو سياسية تعمل على تحقيق تطلعات شعوبهم كما وتم القضاء على الزعامة العشائرية التي أصبحت تدور في فلك الأنظمة وفقدت هيبتها واستقلاليتها في المجتمعات فأصبحت الشعوب معرضة للتمزق وأن تفتك فئات الشعب بعضها ببعض كما حصل في العراق على أثر إسقاط نظام البعث بقيادة صدام حسين , وأصبح الوضع في المنطقة على الصورة التالية:

1- على الصعيد الإقتصادي:

1- قسم انهار إنتاجه الذاتي وأصبح لا يملك بنية اقتصادية تسد حاجات شعبه فلجأ إلى المنظمات الاقتصادية الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ليحصل على القروض الربوية والتي منحت له مقابل الالتزام بشروط غايتها تدمير البقية الباقية من الاقتصاد للدولة وتحطيم منتجات الشعوب وتدمير البنية الاجتماعية مما يجعل هذه الشعوب عرضة للمجاعات والاختلالات الاجتماعية والمعيشية التي لن تستطيع هذه الدول تفاديها وبذلك ستؤول إلى كارثة اجتماعية واقتصادية محققة.

2- قسم سيطرت الشركات الأمريكية على موارده الحيوية وتعمل على استنـزافه وأصبحت المشاريع الاقتصادية الأساسية والبنية التحتية عبارة عن مشاريع استهلاكية تلبي المتطلبات السياسية الأمريكية التي تضمن التفوق الأمريكي وتصب في سلة المصالح الأمريكية.

3- على الصعيد الأخلاقي فقد تمكنت أمريكا من فرض سياسات تعليمية تعمل على مسخ البقية الباقية في نفوس الشعوب من الإرث والحضارة الإسلامية كما أنها استطاعت أن تصبغ حياة شعوب المنطقة بالثقافة الأمريكية تدريجيا من خلال الضخ الإعلامي المكثف سواء عبر أجهزة الإعلام الرسمية في هذه الدول أو عبر أساطيل المحطات الفضائية حتى أصبحت الشعوب أمريكية الباطن والظاهر بأسلوب حياتها ومعاشها وأكثر عادتها ولم تبق إلا بقية من عادات موروثة في طريقها إلى الزوال.

2- على الصعيد العسكري أصبحت دول المنطقة تحت الحماية الأمريكية من خلال منظومة القواعد العسكرية المنتشرة في طول البلاد وعرضها والتي لا سبيل لهذه الدول عليها وإنما هي أمريكية خالصة تحتوي على عتاد عسكري ضخم ومتطور, وأصبحت جيوش دول المنطقة وأجهزتها الأمنية سياج حماية للوجود الأمريكي في هذه الدول وسيف مسلط على رقاب شعوبها وجدار حماية لليهود يقاتلون الشعوب من ورائها وتم نزع السلاح من الشعوب حتى لا تستطيع المقاومة في حال وقوع ظرف يحتم ذلك وهو واقع لا محالة ولذلك فإن هذه الدول تعمل على تسليم شعوبها لقمة سائغة لليهود والصليبين يذبحونها كالشياه..

في ظل هذا الواقع المرير والمظلم والمسيطر عليه أمريكيا تحركت الصليبية العالمية لتحقيق آخر هدف لها وهو السيطرة الفعلية على المقدسات الإسلامية وإعلان دولة إسرائيل الكبرى فبدأ المخطط بأفغانستان وهي القلعة التي استعصت على الاستعمار الصليبي قديما وحديثا حتى أصبحت شوكة في حلوق الصليبين وعقبة كؤود لا يمكن أن ينعموا بالاستقرار ما دامت بعيدة عن الأيد الصليبية والتي تعتبر بوابة المد الإسلامي من الشرق الذي يؤمن الحماية للمقدسات الإسلامية - مكة والمدينة والقدس- ولذلك كانت الخطوة الأولى هو استنـزاف القدرات والموارد البشرية والعسكرية والاقتصادية بالاحتلال السوفياتي لها ثم العمل على استنـزاف طاقات الأفغان وخاصة القيادات العاملة والصادقة وأثناء ذلك كان الصليبيون ينشئون قيادات بديلة جاهزة للتدخل السريع فكانت الخطوة الثانية وهي الاحتلال الصليبي لأفغانستان بقيادة حلف شمال الأطلسي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية ثم أعقبها احتلال العراق بعد أن تم استنـزافه بحرب طويلة مع إيران ودفعه إلى حرب خليجية عملت على تدمير البنية التحتية العسكرية والمدنية على جميع الأصعدة بالضربات العسكرية والحصار الطويل حتى أصبح عاجزا عن تلبية احتياجات شعبه .

كل هذه الخطوات إنما هي مقدمات استعداداً للهدف النهائي بالسيطرة على المقدسات الإسلامية في الحجاز وتحقيق الحلم اليهودي الصليبي وتبدوا ملامح هذه السيطرة واضحة على خريطة الأوضاع في المنطقة مع يقيننا أنها لن تتحقق لهم رغم أنوفهم وأنوف أعوانهم ما دام هناك قرآنا يتلى.

حقيقـة الواقع المعاصـر في التصـور الإسلامي

قال الله تعالى:إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (الإسراء:9), فهذه الهداية إنما هي هداية البيان والإرشاد للناس كافة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ومن هداية القرآن بيانه الوصف الحقيقي للانحراف والخلل لكل واقع مهما كان شدته ويتضمن الحل الإلهي لهذا الانحراف إلى يوم القيامة مهما تغيرت الأشكال وتعددت الصور فالحياة في الإسلام إنما تستند على الوحي الرباني في كل مراحلها وجزئياتها ولذلك لا يوجد واقع إلا وفي القرآن وصفه وبيانه وكيفية التعامل معه, من أجل ذلك نتبين الحكمة من تعدد قصص الأنبياء وتكرارها مع أنهم جاؤوا بدعوة واحدة,كما ونلاحظ أيضا التركيز على قصتين بتفصيل وإسهاب هما قصة موسى وقصة إبراهيم عليهما الصلاة والسلام, فقصص الأنبياء تبين لنا أربعة أمور هامة جدا تتوقف عليها فهم حقيقة الدعوة:

الأول: طبيعة وشكل النظام صاحب السلطان في البيئة التي جاءها الرسول عليه الصلاة والسلام. الثاني: حقيقة الانحراف الموجود في البيئة وتوصيفه الوصف الشرعي.

الثالث: رد القوم المبعوث إليهم الرسول تجاه الدعوة والدعاة.

الرابع: كيفية تعامل الرسول مع قومه.

هذه هي المقومات التي يجب أن يستند إليها العامل للإسلام ليحدد المنهج الذي سيسلكه فالدعوة إلى دين الله تعالى توقيفية غير خاضعة للاجتهادات والاستنباطات فما على الداعية إلا أن يشخص واقعه وبيئته تشخيصا صحيحا حقيقيا حسب المعايير الربانية ثم ينظر أي من الأنبياء واقعه مطابق للواقع الذي يعاصره وما عليه إلا ان يعالجه بالكيفية التي قام بها رسول ذلك الواقع لأنها الطريقة الوحيدة للتمكين والاستخلاف في الأرض فهو وحي الله تعالى.

فبخصوص الشكل السياسي نجد أن قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب كان نظاما قبليا عشائريا فلكل عشيرة كيانها وسلطانها المستقل بينما نجد أن الشكل السياسي زمن إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام ملكي ديكتاتوري بحيث أن الملك هو الأول والأخير وأن ما دونه يعملون من أجل تحقيق سياساته وتطلعاته ورغباته مع اختلاف بين الواقعين من حيث الرعية فإبراهيم عليه السلام من قوم النمرود وعشيرته وأما موسى عليه الصلاة والسلام وقومه -وهم بنوا إسرائيل- ليسوا من قوم فرعون وورثوا عن آبائهم دينا غير دين فرعون وقومه وكانوا تحت الاستضعاف المتمثل بتقتيل الأبناء واستحياء النساء .

وأما من ناحية الانحراف فقد بين سبحانه وتعالى انحراف كل قوم وإن اشتركوا فيما بينهم جميعا بعبادة غير الله تعالى إلا أن كل قوم قد تميزوا بمظهر من مظاهر الحياة يستند إلى تصوراتهم التي ينسبونها إلى آلهتهم فقوم نوح كان يسيطر عليهم الأنفة من الضعفاء ويسمونهم الأراذل وهذا هو الخلل في النظام الاجتماعي, بينما قوم هود كانوا متجبرين بقوتهم وهذا هو الخلل في النظام السياسي وأما قوم صالح فكانوا أهل مكر وخديعة وإفساد, وأما قوم لوط فكانوا قطاع طرق ويأتون الذكران ويعلنون بذلك وهذا الخلل في النظام الأخلاقي وأما قوم شعيب فقد كانوا من المطففين وهذا الخلل في النظام الاقتصادي.

وأما من ناحية الرد فكان واحدا وهو الرفض والاستهزاء والسخرية والعداوة والتهديد للرسول والفئة القليلة المؤمنة, وكل رسول خاطب قومه خطاب المشفق الحريص على دعوتهم وهدايتهم وذلك ببيان حقيقة التوحيد والخلل الموجود عندهم وتفنيده مع إنذارهم بعقوبة الله تعالى إن لم يؤمنوا.

ففي الحالة الدكتاتورية النمرودية لم يؤمن إلا لوط وهو ابن أخ إبراهيم عليهما السلام وزوجه سارة رضي الله عنها فالحل الأمثل في الواقع النمرودي شرعا وعقلا هو الخروج والبعد.

وأما في الحالة الفرعونية فلم يؤمن إلا السحرة ورجل من آل(قوم) فرعون وامرأة فرعون وذرية من قوم موسى عليه السلام ولم يكن الإيمان متمكنا من جميع بني إسرائيل بسبب الخضوع لحالة الاستضعاف ودليل ذلك عبادتهم للعجل وطلبهم رؤية الله تعالى وتحريفهم للأوامر فكانت دعوة فرعون وقومه إلى :

أولا: التوحيد : فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى(18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى(19,النازعات).

الثاني: في حال عدم إيمانهم واستجابتهم لدعوة الله فيجب عليهم الاستجابة للشق الآخر من الدعوة وهي عدم التعرض لبني إسرائيل للخروج مع موسى عليه السلام: أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (الشعراء:17) ,وهذا كان يتضمن أمره لبني إسرائيل بالخروج من تحت ظل الواقع المتسلط والمتجبر فقوم مستضعفون يسامون سوء العذاب وتمارس بحقهم سياسة التفرقة فحقوقهم مهضومة ويعاملون على أساس انهم من الدرجة الدنيا فلا يوجد سبب يجعلهم يتمسكون بهذا الواقع والعيش في ظله ناهيك عن الفئة المؤمنة فالحل شرعا وعقلا لهم هو الخروج من البيئة الخاضعة للهيمنة الفرعونية التي تشمل جميع مناحي الحياة والتي لا يمكن معها العيش عيشة كريمة حرة بله بناء بيئة إيمانية قابلة لتطبيق الشرائع الربانية لذلك لم تنـزل التوراة إلا بعد خروجهم من مصر.

أما في حالة يوسف عليه الصلاة والسلام فإن القرآن يبين لنا واقعا مختلفا فالنظام السياسي ملكي غير ديكتاتوري فيه حرية التدين ولم يكن قائما على العداء لدعوة التوحيد بل خضع لها ومَكَّن لها واستمر يوسف عليه السلام بدعوته إلى أن آل إليه ملك مصر.

كما بين لنا القرآن أيضا واقعا كاملا قد استجاب لدعوة التوحيد وهم قوم يونس عليه السلام كما أخبر بذلك سبحانه وتعالى بقوله: فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (يونس:98).

أما الواقع الذي جاءه عيسى عليه السلام فهو واقع أهل الكتاب وهم الذين حرفوا الكتاب السماوي فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض وهذا التحريف إنما هو بحق أصل الدين بحيث يصبح الدين ألعوبة بيد الملوك والحكام ليوافق رغباتهم بمعنى آخر يصبح الدين وسيلة لتحقيق الأهداف الدنيوية مما يؤدي إلى قلب الحقائق الشرعية فيصبح الكفر إيمانا ويصبح الحلال حراما وهذا الأمر إنما يتم على يد علماء الدين فتدخل الأمة في المرحلة التي أخبر عنها سبحانه وتعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (التوبة:31),وهذه المرحلة أخطر المراحل وأشدها تعنتا بحيث يجتمع فيها النظام السياسي الديكتاتوري التسلطي والخلل في جميع مناحي الحياة ونسبة ذلك إلى الشرع الرباني: َويَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (آل عمران:78) , وذلك بفعل التحريف الذي يحدثه رجال الدين الذين رباهم الحكام لتثبيت عروشهم وتصبح الدعوة من الصعوبة بمكان لاعتماد الغالبية من الناس في تلقي الدين وأخذه عنهم لعدم تمكنهم من تمحيص الحقائق وتغيبيها وبسبب إعراضهم عن تدبر كتاب ربهم وأنه مصدر التلقي ومعرفة حقيقة الدين الذي يرضي رب العالمين وظنهم أنهم غير مطالبين بالتوصل إلى الحق بأنفسهم وأن الشيوخ هم الذي عليهم هذه المهمة فإن كذبوا وحرفوا فإنهم يتحملون أوزارهم وأنهم غير مؤاخذين وما ترسخ هذا في عقولهم وقلوبهم إلا لانشغالهم بتحصيل دنياهم التي لا يحصلونها إلا بالاعتماد على ملوكهم وحكامهم ولذلك قال علماؤنا رحمة الله عليهم تبيينا لهذا الواقع:

وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها

وبين الحكيم الخبير العالم بعباده شدة هذه المرحلة بأبلغ بيان بقوله: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قبلتك (), وبين للدعاة طريقهم فقال: وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ () وبين حقيقة التفرق فيهم بقوله: وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ () ثم حكم حكما تقشعر منه الأبدان: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (البقرة:145), وهذا الواقع الخطير الذي يختلط فيه الحق بالباطل لضغط السياسات من الأنظمة الحاكمة والتفلت من الشرع والذي حصل أول ما حصل في بني إسرائيل كانت معالجته لا تتم إلا بالوحي المحكم ولذلك نرى كثرة أنبياء بني إسرائيل فعن ابن مسعود قال : كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة نبي ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهارأ.هـ (أخرجه أبو داود الطيالسي وابن أبي حاتم), وآل أمرهم أن اجتمع ثلاثة أنبياء عظام هم زكريا ويحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام في وقت واحد إلا أن القلوب إذا أشربت الباطل بلباس الحق تصبح في ظلمات بعضها فوق بعض لا تستطيع تمييز الحقائق فنشروا زكريا بالمنشار وقتلوا يحيى مقابل شهوة وحاولوا قتل عيسى عليهم السلام.

والأمة في هذا الوقت تعيش أحلك الظروف وفي قمة التحريف للدين فنحن أصبحنا في واقع أهل الكتاب المتضمن جميع الانحرافات في الأقوام السابقة مع اشتمالها على جميع النظم السياسية في خليط عجيب وهذا الوصف- أهل الكتاب- ليس قاصرا على اليهود والنصارى كما يظن كثير من أهل التحريف وإنما هو وصف معلل إذا وجدت أركانه فقد صار الواقع واقع أهل كتاب, فالدين محرف فأصبح من يعرف حقيقة التوحيد معنى وكيفية كما يريدها الله تعالى غريبا, فالأحبار والرهبان يحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله تعالى وأباحوا عبادة الأوثان وقلبوا الحقائق لأنهم يفتون بآرائهم ويقيسون الأمور برأيهم فثلموا الدين وهدموه, والحكام اتخذوا الدين لتثبيت عروشهم وترسيخ سياساتهم وتحقيق رغباتهم, والناس لا يتدبرون كتاب الله تعالى ليأخذوا منه دينهم فهجروه وأصبحت قبلتهم في تلقي الدين من علماء السلاطين المحرفين للدين وأصبحت الأمة كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم بها الكبير ويربوا فيها الصغير ويتخذها الناس سنة فإذا غيرت قالوا: غيرت السنة قيل متى ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال: إذا كثرت قراؤكم وقلت فقهاؤكم وكثرت أموالكم وقلت أمناؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة.أهـ صحيح (أخرجه الدارمي في سننه والبيهقي في شعب الإيمان وابن أبي شيبة ونعيم بن حماد في الفتن والملاحم).ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: سيأتي على أمتي زمان تكثر فيه القراء وتقل الفقهاء ويقبض العلم ويكثر الهرج قالوا: وما الهرج يا رسول الله ؟ قال: القتل بينكم ثم يأتي بعد ذلك زمان يقرأ القرآن رجال لا يجاوز تراقيهم ثم يأتي من بعد ذلك زمان يجادل المنافق الكافر المشرك بالله المؤمن بمثل ما يقول.أ.هـ صحيح (أخرجه الحاكم في المستدرك والطبراني في المعجم الأوسط).

ثم بين عليه الصلاة والسلام أن الأمة تدخل مرحلة أهل الكتاب فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيهلك من أمتي أهل الكتاب وأهل اللبن. قال عقبة: ما أهل الكتاب يا رسول الله ؟ قال: قوم يتعلمون كتاب الله يجادلون به الذين آمنوا, قال: فقلت ما أهل اللبن يا رسول الله ؟ قال: قوم يتبعون الشهوات ويضيعون الصلوات.أ.هـ صحيح( أخرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي في شعب الإيمان والطبراني في المعجم الكبير), فقد اشتمل هذا الواقع على جميع مقومات المجتمع الجاهلي وهي:

1- جاهلية الحكم والتي تمثل المستوى العام يقول الله تعالى : أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50). يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: إن معنى الجاهلية يتحدد بهذا النص فالجاهلية كما يصفها الله ويحددها قرآنه هي حكم البشر للبشر لأنها هي عبودية البشر للبشر والخروج من عبودية الله ورفض ألوهية الله والاعتراف في مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون الله إن الجاهلية في ضوء هذا النص ليست فترة من الزمان ; ولكنها وضع من الأوضاع هذا الوضع يوجد بالأمس ويوجد اليوم ويوجد غدا فيأخذ صفة الجاهلية المقابلة للإسلام والمناقضة للإسلام والناس في أي زمان وفي أي مكان إما أنهم يحكمون بشريعة الله دون فتنة عن بعض منها ويقبلونها ويسلمون بها تسليما فهم إذن في دين الله وإما إنهم يحكمون بشريعة من صنع البشر في أي صورة من الصور ويقبلونها فهم إذن في جاهلية أ.هـ.

2- جاهلية القاعدة التربوية وهي الأسرة المكونة للمجتمع العام يقول تعالى: وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً(الأحزاب:33). يقول سيد قطب رحمه الله تعالى:

أ- وقرن في بيوتكن من وقر يقر أي ثقل واستقر وليس معنى هذا الأمر ملازمة البيوت فلا يبرحنها إطلاقا إنما هي إيماءة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن وهو المقر وما عداه استثناء طارئا لا يثقلن فيه ولا يستقررن إنما هي الحاجة تقضى وبقدرها والبيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله تعالى غير مشوهة ولا منحرفة ولا ملوثة ولا مكدودة في غير وظيفتها التي هيأها الله لها بالفطرة... وإن خروج المرأة لتعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول في عصور الانتكاس والشرور والضلال فأما خروج المرأة لغير العمل خروجها للاختلاط ومزاولة الملاهي والتسكع في النوادي والمجتمعات فذلك هو الارتكاس في الحمأة الذي يرد البشر إلى مراتع الحيوان.

ب - ولقد كانت المرأة في الجاهلية تتبرج ولكن جميع الصور التي تروى عن تبرج الجاهلية الأولى تبدو ساذجة أو محتشمة حين تقاس إلى تبرج أيامنا هذه في جاهليتنا الحاضرة قال مجاهد :كانت المرأة تخرج تمشي بين الرجال فذلك تبرج الجاهلية ,وقال قتادة :وكانت لهن مشية تكسر وتغنج فنهى الله تعالى عن ذلك, وقال مقاتل بن حيان: والتبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيداري قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله منها وذلك التبرج وقال ابن كثير في التفسير :كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء ; وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن هذه هي صور التبرج في الجاهلية التي عالجها القرآن الكريم ليطهر المجتمع الإسلامي من آثارها ويبعد عنه عوامل الفتنة ودواعي الغواية ; ويرفع آدابه وتصوراته ومشاعره وذوقه كذلك. والجاهلية ليست فترة معينة من الزمان إنما هي حالة اجتماعية معينة ذات تصورات معينة للحياة ويمكن أن توجد هذه الحالة وأن يوجد هذا التصور في أي زمان وفي أي مكان فيكون دليلا على الجاهلية حيث كان وبهذا المقياس نجد أننا نعيش الآن في فترة جاهلية عمياء غليظة الحس حيوانية التصور هابطة في درك البشرية إلى حضيض مهين وندرك أنه لا طهارة ولا زكاة ولا بركة في مجتمع يحيا هذه الحياة ; ولا يأخذ بوسائل التطهر والنظافة التي جعلها الله سبيل البشرية إلى التطهر من الرجس والتخلص من الجاهلية الأولى أ.هـ, وبين عليه الصلاة والسلام أنها ستأتي جاهلية أعظم من هذه الجاهلية التي كانت في زمانه بقوله : صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا. أ.هـ.(متفق عليه), فحال نساء الأمة الآن في جاهلية أعظم مما كانت عليه الجاهلية الأولى.

3-جاهلية العلاقة مع الخالق يقول تعالى : ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(آل عمران:154). يحدد سيد رحمه الله خطوط هذه الجاهلية بقوله:

1- فأما الذين تهمهم أنفسهم وتصبح محور تفكيرهم وتقديرهم ومحور اهتمامهم وانشغالهم فهؤلاء لم تكتمل في نفوسهم حقيقة الإيمان ومن هؤلاء كانت تلك الطائفة الأخرى التي يتحدث عنها القرآن.

2- فهم يظنون بالله غير الحق كما تظن الجاهلية ومن الظن غير الحق بالله أن يتصوروا أنه سبحانه مضيعهم في هذه المعركة التي ليس لهم من أمرها شيء وإنما دفعوا إليها دفعا ليموتوا ويجرحوا والله لا ينصرهم ولا ينقذهم ; إنما يدعهم فريسة لأعدائهم.

3- وقبل أن يكمل السياق عرض وساوسهم وظنونهم يبادر بتصحيح الأمر وتقرير الحقيقة فيما يتساءلون فيه ويرد على قولتهم هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله فلا أمر لأحد لا لهم ولا لغيرهم ومن قبل قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:ليس لك من الأمر شيء(), فأمر هذا الدين والجهاد لإقامته وتقرير نظامه في الأرض وهداية القلوب له كلها من أمر الله وليس للبشر فيها من شيء إلا أن يؤدوا واجبهم ويفوا ببيعتهم ثم يكون ما يشاؤه الله كيف يكون.

4- جاهلية التعامل مع الخلق يقول تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (الفتح:26), ويحدد سيد رحمه الله تعالى أسس هذه الجاهلية بقوله:

1- إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية حمية لا لعقيدة ولا لمنهج إنما هي حمية الكبر والفخر والبطر والتعنت.

2- الحمية التي جعلتهم يقفون في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه يمنعونهم من المسجد الحرام ويحبسون الهدي الذي ساقوه أن يبلغ محله الذي ينحر فيه مخالفين بذلك عن كل عرف وعن كل عقيدة كي لا تقول العرب إنه دخلها عليهم عنوة ففي سبيل هذه النعرة الجاهلية يرتكبون هذه الكبيرة الكريهة في كل عرف ودين ; وينتهكون حرمة البيت الحرام الذي يعيشون على حساب قداسته ; وينتهكون حرمة الأشهر الحرم التي لم تنتهك في جاهلية ولا إسلام.

إن هذه الجاهلية ليست وضعا منفصلا عن أفراد الأمة وأن وجود بعض الشعائر التعبدية لا يخرجهم من الجاهلية بل لا بد من التبرؤ من هذه الجاهلية من أحكامها وسلوكها وأوضاعها مما يعني انقلاب على الحياة واستئناف دعوة جديدة لإخراج الناس من هذه الجاهلية كما حصل في بداية الدعوة.أ.هـ عن الظلال بتصرف.

بناء على المعطيات والحقائق السابقة فإن واقع المجتمعات واقع دعوة لتبيين الحقائق وإزالة التحريف عن الدين ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي على بينة والأمر ليس سهلا ومفروشا بالورود ولكنه شاق فمعالجة العقول وما ألفته القلوب هي قاصمة الظهور هذا في حال بقي الأمر بين الأمة نفسها وهذا ما يجب القيام به انطلاقا من تقييم حقيقي للواقع ولكن تم تجاوز مراحل كثيرة في حقيقة التقييم ترتب عليه تجاوز متطلبات أساسية للنهوض بالأمة والقيام بعمل إسلامي صحيح يعرض بشكل واضح وصريح حقيقة الدين الذي يريده الله تعالى, فلما لم يتم تشخيص الواقع تشخيصا صحيحا والتعامل معه بالوحي الرباني بقيت الجاهلية راسخة في حياة المجتمعات وازدادت هذه الجاهلية بمرور الوقت مع ما أنضاف إلى ذلك من تكالب الأعداء على الأمة تقتيلا واستباحة للديار فأصبح الأمر أثقل وأشق حتى أصبحت الأمة بلا هوية وبلا هدف تعمل له تتلاطمها أمواج القومية والوطنية والديمقراطية ومسميات ما أنزل الله بها من سلطان واتخذت وسائلها بحسب المصالح التي وضعت لها وهي لا تدري أن هذه المصالح إنما هي لتحقيق المصالح اليهودية والصليبية وصدق عليها قوله عليه الصلاة والسلام: لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم قلنا يا رسول الله آليهود والنصارى ؟ قال فمن ؟ أ.هـ(أخرجه الشيخان وغيرهم).

فعلى العاملين للإسلام أن يحددوا قبل كل شيء الدين الذي ارتضاه الله تعالى مراعين حجم التحريف والخلل الحاصل في الأمة ومراعاة الجهل المركب الضخم الذي يعيشه الأفراد ليكونوا على بينة من ربهم لأنه : وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (آل عمران:126), ولكنه: يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (الروم:5), وقد شاء الله تعالى ذلك ولكن لصنف عزيز وجوده هو: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ(غافر:51) .

لقد آل حال الأمة إلى المرحلة التي أخبر عنها صلى الله عليه وسلم فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله إنا كنا في الجاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال نعم وفيه دخن. قلت: وما دخنه ؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال:نعم دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله صفهم لنا ؟ فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك أ.هـ (رواه الشيخان وغيرهما).

فنحن في زمان الدعاة إلى أبواب جهنم وهؤلاء يمثلون صفوة المجتمع فما بالك بغيرهم ولا يوجد فيه إمام للمسلمين ولا جماعة تتبنى الإسلام الذي يريده الله تعالى ووصل الحال إلى ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم : فإذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة ورأيت أمرا لا بد لك من طلبه فعليك نفسك ودعهم وعوامهم فإن وراءكم أيام الصبر صبر فيهن كقبض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين يعمل مثل عمله. وفي رواية أخرى: فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر القوم. وزاد في روايات أخرى: قالوا يا رسول الله أجر خمسين منهم قال أجر خمسين منكم.هـ صحيح( رواه أبو داوود والترمذي وابن حبان والبيهقي والحاكم في المستدرك).

فكيف للحق أن يدخل قلوبا آثرت الحياة الدنيا على الآخرة؟

وكيف يبيع قوم نفوسهم وأموالهم لله تعالى وقد أشربوا الشح فأصبح إمامهم المطاع الذي يصدرون عن أمره ويسلمون إليه قيادهم ؟ قال عليه الصلاة والسلام : وإياكم والشح فإنه دعا من قبلكم فاستحلوا محارمهم وسفكوا دماءهم وقطعوا أرحامهم أ.هـ رواه الإمام أحمد بسند صحيح.

وكيف يهدي الله قوما جعلوا الهوى عمدتهم والجهل مركبهم ؟

وكيف تنهض الأمة وقد صارت إلى قوله عليه الصلاة والسلام: إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويفشو الزنى ويشرب الخمر ويذهب الرجال وتبقى النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد أ.هـ (رواه الشيخان), وحالها كما أخبر عليه الصلاة والسلام: إن من أشراط الساعة أن يظهر الفحش والتفحش وسوء الجوار وقطع الأرحام ويخون الأمين ويؤتمن الخائن أ.هـ حسن (رواه ابن المبارك في الزهد وابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما والبزار ), فإذا كان هذا حال المجتمعات التي تنتسب إلى الإسلام فكيف بحال أهل الصليب في بلادهم وغيرهم من الأديان ؟

فالنتيجة أن المجتمعات في واقعها المعاصر غير قابلة لإقامة الدين فيها والبقاء في هذه المجتمعات ضرب من الخسران والبوار المبين والحل كما بين الوحي المبين : من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف أو بطن واد من هذه الأودية يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين ليس من الناس إلا في خير.أ.هـ(رواه مسلم), فمن أراد النجاة فعليه بالشعاب يعبد ربه حتى يأتيه اليقين أو يطير إلى ساحات القتال يطلب الشهادة في سبيل الله تعالى فالمجتمعات هيمن عليها جهل مطبق وهوى متبع وشح مطاع لا يمكن بناء جيل النصر في ظلها ومن خلالها فنحن الآن في زمان مخاض لا يمكن أن تخرج فيه الفئة المؤمنة التي يقيم الله تعالى عليها الدين إلا من البيئات الطاهرة وليست إلا الشعاب وساحات الجهاد فمن لم يجد حيلة ولم يهتد سبيلا في ظل الاستضعاف المطبق على الأمة فلا أقل من اللجوء إلى الله تعالى وعدم الركون والاستكانة كما بين سبحانه وتعالى: وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً(النساء:75).

وخلاصة الأمر: أن الأنظمة في ما يسمى بالعالم الإسلامي والعربي هي أنظمة فرعونية (ديكتاتورية تسلطية الهدف من وجودها الإخلاص لحكامها والمحافظة على أوثانها من قوانين ودساتير), تتمثل فيها مظاهر الفرعونية الثلاث التي بينها سبحانه في كتابه وهي:

1- قوله تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (القصص:38), أي : ما علمت لكم من أحد تعظمونه وتعملون من أجله وتخلصون له سواي.

2- قوله تعالى عن فرعون: فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (النازعات:24),أي:أن مجتمعنا قائم على أرباب متعددة يشرعون لكم ويصرفون أمور حياكم إلا أنني أنا رأس السلطة التشريعية فهؤلاء الأرباب أنا من يصرف شؤونهم ويقر تشريعاتهم.

3- قوله تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَاد (غافر :29) , أي:أن الأمور يجب أن تنظروا إليها برؤيتي كما أراها لا كما ترونها فليس لكم رؤيا مستقلة فالأمر أمري والإرادة إرادتي فما أفعله وأقوله هو الرشاد النابع من السياسة الحكيمة والرؤية الملهمة.

هذه المقومات ما كان لها أن تستقر في حياة المجتمعات إلا بوجود رافدها الرئيس وهم الأحبار والرهبان-المشايخ, السماحات, هيئات كبار العلماء,أصحاب الفضيلة , إلى غير ذلك من المسميات والألقاب- حيث اتخذهم المعبود من دون الله تعالى( الطاغوت) سحرة يخدعون الناس ويلبسون عليهم دينهم فحرفوا الدين وألفت الشعوب ذلك وودت لو ينتصر هؤلاء السحرة على كل موحد ليستمروا على حالهم وأصبح الدين غريبا والمسلمون على مراد الله تعالى غرباء, وتكالبت النصارى واليهود على الأمة كما تداعى الأكلة على قصعتها حتى سيطروا على بيت الله تعالى المقدس( الأقصى), وهاجموا البلاد الواحدة تلو الأخرى, ففي ظل هذا الواقع وهذه المعطيات فلا حل إلا الحل الذي جاء به رسول هذا الواقع وهو موسى عليه السلام وهذا الحل يتكون من شقين:

الأول: الدعوة إلى اجتناب الطاغوت وعبادة الله وحدة على مراد الله تعالى كما سبق بيانه بتفصيل تام – ترك للحكام وأوثانهم من قوانين ودساتير وغيرها- والنتيجة المقدمة أن هؤلاء الحكام سيرفضون ذلك كونهم لا يملكون استقلالية القرار فهم تبع لفرعون العصر ممثلا بالولايات المتحدة الأمريكية.

الثاني: كون المجتمعات ورثت دينا محرفا وينسب أفرادها أنفسهم إلى الإسلام- كحال بني إسرائيل تحت حكم فرعون- وكثير منهم عاطفته مع الإسلام فيجب بيان التوحيد لهم ودعوتهم إليه ونشره بكل قوة وتصميم وحيث أن دعوة موسى عليه السلام كانت لهم بالخروج من تحت ظل واقع الاستضعاف الذي يرزخون تحته إلا أنه في واقعنا لا يوجد مكان للخروج إليه كما حصل مع موسى عليه السلام وقومه فتكون دعوتهم إلى الخروج من تحت هذا الواقع الإنهزامي بالتزام التوحيد الذي يترافق معه بعث روح الجهاد في الأمة كمقتضى لهذا التوحيد : يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (المائد:21),إذن فهو جهاد اليهود الذين في الأرض المقدسة التي وعدها الله تعالى في كتابه للأمة المحمدية بقوله: فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً (الإسراء:7), ومجرد الدخول عليهم كما ورد النص(ادْخُلُوا),فإن ذلك مفتاح النصر وعدم فتح صراعات تشغل الأمة بعضها ببعض وتستنزف طاقاتها ودمائها وتزيد من تمكن الأنظمة وهذه الخطوة ضرورية لتعرية هذه الأنظمة وإقامة الحجة الواضحة الصريحة على الناس ليتميز أهل الحق من أهل الباطل وإن ترافق مع هذه الخطوة بعض النتائج التي تبدوا ضد المسلمين إلا أنها ضرورية, فلا بد من المعركة الإيمانية التي يثبت من خلالها أن هذه الدعوة هي دين الله الحق: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (غافر:51),لقد عملت الآلة الإعلامية والسياسات المختلفة إلى ترسيخ الوهن والمهانة في قلوب أفراد الأمة وإيهامها أن القوة العسكرية اليهودية لا تقهر ولا طاقة لنا بها لما تملكه من ترسانة نووية وجوية ومدفعية وأنها مدعومة من قبل الغرب حتى أصبحوا كبني إسرائيل عندما طلب منهم موسى عليه السلام دخول بيت الأرض المقدسة :قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (المائدة:22) , إن الانتصار على اليهود وعد الله تعالى فما على الفئة المؤمنة إلا ان يفعلوا كما بين تعالى بقوله على اثر رفض قوم موسى من دخول الأرض المقدسة: قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(المائدة :23) , فنحن على موعد مع من ينقذ الله به الأمة وعصبته المؤمنة التي لن يكون جوابها كما قال تعالى عن الأمة المخذولة: قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (المائدة :24), وإنما سيكون جوابها جواب الأمة المنصورة : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون أبناء القردة والخنازير وعبدة الصلبان, فهذا وحي الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ومن أصدق من الله حديثا ؟ فالنصر والغلبة محققة فهذا الوعد تأكد على لسان عبد الله ورسوله محمد عليه الصلاة والسلام بوحي مبين بقوله: لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهود من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود.أ.هـ (رواه الشيخان وأهل السنن), فهذا الحيث يبين أمورا غاية في الأهمية:

1- أن قتال اليهود حاصل لا محالة وأن الدعوات التي ملأت الأرض بسلام شامل مع اليهود ضرب من الخيال لا يمكن أن يتحقق ما دام القرآن وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام على الأرض.

2- أن الذي يقاتل اليهود هم المسلمون بتسمية الله لهم , وليس أي جماعة تسمت بغير هذا الإسم.

3- أن هؤلاء المسلمون هم من حققوا الإسلام كما يريده الله تعالى خالصا صافيا .

4- أن هزيمة اليهود محققة بلا قتال مهما كان عددهم وعتادهم ولن ينفعهم لا سلاح جو ولا نووي ولا أي سلاح حيث وردت رواية أخرى بلفظ: تقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم ثم يقول الحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله أ.هـ

5- أن اليهود ليسوا أهل قتال في حال واجهوا الفئة المؤمنة ولذلك سيلجئون إلى الهرب والاختباء.

6- علامة صدق إسلام الأمة تتحقق بقتال اليهود وأن الدين الحق تحمله الفئة المسلمة التي ينطق لها الحجر والشجر بمكان اليهود الفارين ويصفهم بوصف العبودية ( يا عبد الله) أي: من حقق التوحيد الخالص , وهذه كرامة من الله تعالى وبرهان منه على صحة إيمان تلك الفئة.

فلا بد من دعوة إلى التوحيد الذي يريده الله تعالى وبه يحصل التمكين للفئة المؤمنة وأعظم سبب تزول به هذه الأنظمة التي جعلت من محافظتها على الكيان اليهودي خيارا استراتيجيا لبقائها والعمل على المشروع الجهادي القائم على توحيد حقيقي موجه ضد اليهود لحشد إمكانيات الأمة لاستعادة الأقصى بيت الله الذي يجب أن لا يكون أولياؤه إلا المتقون كخطوة أساسية لإعادة الأمة إلى طريق الحق الذي ضلت عنه ومواجهة المشروع الصليبي الأمريكي الأوروبي في كل منطقة تعمل براثنها فيها وسوى ذلك ضرب من الخيال وعبث بمقدرات ودماء الأمة وتلاعب من الشيطان, وعندما تخلت الأمة عن ذلك في حينه حصل لها التيه كما حصل لبني إسرائيل ولن تخرج من هذا التيه إلا بالعودة إلى الدين الحق ومواجهة اليهود وإن بقاء اليهود علامة على أن الأمة قد أستنكفت عن دين الله تعالى فلا ينجينا مما وقعنا به من ذنوب وتفريط إلا شهادة تٌغسل بها الذنوب.

كلمـة لا بـد منـها

إن المعركة قبل أن تكون معركة سلاح هي معركة عقيدة وما تجرأ الصليبيون على البلاد التي كانت محكومة بالإسلام إلا بعد أن تأكدوا أن معركة العقيدة قد انتهت وأن الأمة قد أصبحت بلا عقيدة فهذه توصيات قادتهم وتجربتهم التي تجرعوا مرارتها وذاقوا ويلاتها إذ خسروا مئات الآلاف من القتلى وما لا يحصى من الأموال وتبعثرت جهود عشرات السنين وفقدوا مئات القادة.

لقد قامت مخططات اليهود والصليبيين على أساس محاربة الإسلام وإبعاد المسلمين عن دينهم وتشكيكهم بعقيدتهم، لأنهم يعتقدون أن استيلائهم على بلاد المسلمين لا يتم ما دام المسلمون متمسكون بإسلامهم، فهذا (جلادستون) رئيس مجلس العموم البريطاني في أواخر القرن التاسع عشر يقول: "إن العقبة الكؤود أمام استقرارنا بمستعمراتنا في بلاد الإسلام شيئان، لا بد من القضاء عليهما مهما كلف الأمر، أولهما: هذا الكتاب –يعني القرآن الكريم-، ثم اتجه نحو الشرق مشيراً بيده قائلاً: وهذه الكعبة".أ.هـ

وهذا (زويمر) رئيس المبشرين في الشرق الأوسط يقول: "إن جزيرة العرب هي جزيرة الإسلام، لم تزل نذير خطر للمسيحية، ومتى توارى القرآن ومدينة مكة من حياة العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه!"أ.هـ.

يقول مومنتجمري: كان العرب يندفعون نحو القتال تحركهم أقوى دوافع الحرب ألا وهو الإيمان والعقيدة.. كانوا يؤمنون إيمانا راسخا بالدعوة الإسلامية ويتحمسون لها ويغارون عليها, ويعتنقون مبدءاً صلبا هو الجهاد في سبيل الله وقد تغلغل في قلوبهم أ.هـ.

ولهذا لا يخشى اليهود على دولتهم أي شيء سوى الإسلام، يقول بن غوريون: "نحن لا نخشى الاشتراكيات ولا الثوريات ولا الديمقراطيات في المنطقة، ولكننا نخشى الإسلام فقط، هذا المارد الذي نام طويلاً، وبدأ يتململ من جديد". أ.هـ, وهذا شمعون بيريز يقول: "أنه لا يمكن أن يتحقق السلام في المنطقة ما دام الإسلام شاهراً سيفه، ولن نطمئن على مستقبلنا حتى يغمد الإسلام سيفه إلى الأبد".أ.هـ , وأما أبا إيبان فيقول: "إن التيار الإسلامي في المنطقة يقلب الموازين الإسرائيلية رأساً على عقب، فعلى الغرب أن يدرك مدى قوة الإسلام إذا تمسك به المسلمون، وأتيحت له القيادة الملهمة.إن خطر البعث الإسلامي هو الخطر الحقيقي الذي نحذر منه الغرب على الدوام".أ.هـ

وفي تعليق للإذاعة اليهودية بتاريخ 5/9/1978 قالت فيه: إن عودة الروح الدينية للظهور من جديد في المنطقة تشكل تهديداً مباشراً لمستقبل إسرائيل ولمستقبل الحضارة الغربية بأسرها.. إن على اليهود وأصدقائهم أن يدركوا أن الخطر الحقيقي الذي تواجهه إسرائيل هو خطر عودة الروح الإسلامية إلى الاستيقاظ من جديد.. وإن على المحبين لإسرائيل أن يبذلوا جهدهم كله لإبقاء الروح الإسلامية خامدة، لأنها إذا اشتعلت من جديد فلن تكون إسرائيل وحدها في خطر، ولكن الحضارة الغربية كلها ستكون في خطر.أ.هـ

فمن كان يظن أن الإسلام في حياة الناس لم يدخله خلل في أصله فهو واهم لا يدرك طبيعة الأمور فإن الإسلام في حياة البشر في نقص مستمر منذ وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ورضي الله عن عمر فإنه لما نزل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً (المائدة:3) بكى , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبكيك قال يا رسول الله أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا كمل فانه لم يكمل قط شيء إلا نقص قال صدقت.أ.هـ (مصنف ابن أبي شيبة 7/88).

ومن ناحية أخرى فإن الأمة تعيش في واقع جاهلية منسلخ عن الإسلام منذ عقود عديدة وورث الكفر أجيالا متعاقبة لسببين:

الأول: إن الردة حصلت في الطبقة الحاكمة منذ عقود بإقامة الدساتير والقوانين والشرائع الجاهلية وتابعتهم الشعوب على ردتهم فأطاعوهم وأطاعوا أوثانهم من قوانين ودساتير واتبعوا شرائعهم وأصبح التحاكم من خلالهم ومن خلال قوانينهم وألف الناس ذلك حتى صارت هي الأصل ومنكرها مبتدعا.

الثاني: أن الصليبين قد احتلوا البلاد وقعدت الشعوب عن جهادها وإذا احتل الأعداء بلدا إسلاميا فقد تعين الجهاد على الأمة حتى تعود الأرض إلى المسلمين فترك الجهاد المتعين مع الاستطاعة ردة لأنه يقتضي رضى بالواقع الجديد وسكوت على الكفر ومتابعة له للأدلة التالية:

يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (المائدة:54), ثم يبين الله تعالى أن سنة الاستبدال إنما هي بحق من لم يجاهد الجهاد المتعين بقوله تعالى: إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(التوبة:39), وبين سبحانه وتعالى هذه هي الردة بقوله: هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (محمد:38).

قال ابن حزم رحمه الله: ما تقولون في سلطان جعل اليهود أصحاب أمره والنصارى جنده وحمل السيف على كل من وجد من المسلمين وأعلن العبث به وأباح المسلمات للزنا وهو في كل ذلك مقر للإسلام معلن به لا يدع الصلاة؟ فإن أجازوا الصبر على هذا خالفوا الإسلام جملة وانسلخوا منه وإن قالوا: بل يقام عليه ويقاتل فقد رجعوا إلى الحق. أ.هـ.

وقال أيضا: ولو أن كافرا مجاهرا غلب على دار من دور الإسلام وأقر المسلمين بها على حالهم إلا أنه المالك لها المنفرد بنفسه في ضبطها وهو معلن بدين غير الإسلام لكفر بالبقاء معه من عاونه وأقام معه وإن ادعى أنه مسلم.أ.هـ المحلى11/200.

وللأسف الشديد فإن الناس وعلى رأسهم الدعاة إلا من رحم ربك وقليل ما هم لا يدركون هذا ويعونه ومسحورون ويسحرون غيرهم فتراهم يترنمون بمقولة المليار( ألف مليون) مسلم وأنا أقول لهم: رويدا فانظروا إلى حقيقة غفلتم وتتغافلون عنها:

150 مليون شيعي إمامي لا علاقة لهم بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد.

150 مليون قادياني وبهائي وإسماعيلي وأحباش ودروز ونصيريين وغيرهم وهؤلاء الإسلام بريء منهم.

100 مليون بعثي وشيوعي ويساري.

500مليون يؤمن بالديمقراطية والوطنية والقومية دعوات جاهلية والإسلام بريء منها.

وكل هذا تقريبي وإلا فالمخفي أعظم، والباقي إلا من رحم ربك رعاع إمعات أتباع كل ناعق صوفية هالكة وقبورية تالفة وأنعام بهيئة بشر لا هم لهم إلا الأكل والنوم وملايين من جلدتنا ويتكلمون بألستنا لكن قلوبهم قلوب يهود ونصارى, فهذه حقائق يغفلون عنها ثم يقولون أمة إسلامية وهناك صحوة دينية,أفيقوا يا قوم قبل أن تندموا حين لا ينفع الندم فإن كنتم لا تدرون فمصيبة وإن كنتم تدرون فالمصيبة أعظم .

قال تعالى: فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (الأنعام : 125), فهذا الميزان الذي يقيس حقائق النفوس بخصوص الهداية والضلال فمن انشرح صدره لهذا فهو من أهل الهدى إن شاء الله تعالى ومن ضاق صدره وتململ وتبرم وتخرص فهو من أهل الضلال.

والعلم ليس بنافع أربابه إن لم يفد نظرا وحسن تبصر

((هَـذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (إبراهيم:52))
اللهم أني بلغت اللهم فاشهد

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى صحابته أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفهرس

المقدمة-------------------------------------------------------

المدخل إلى الإسلام-----------------------------------------------

صفات وخصائص الإسلام العامة--------------------------------------

العوائق التي تحول دون قبول الإسلام -----------------------------------

حقيقة دعوة التوحيد----------------------------------------------

أولا: العبـــادة-----------------------------------------------

العبادة في القرآن------------------------------------------------

العبـادة في اللغة------------------------------------------------

أقوال المفســـرين في العبادة---------------------------------------

كلام جامع في العبودية---------------------------------------------

معاني العبادة ومظاهرها التفصيلية--------------------------------------

1-:الدعاء----------------------------------------------------

الدعاء في كتاب الله تعالى------------------------------------------

الدعاء في اللغة-------------------------------------------------

أقوال المفسرين في الدعاء-------------------------------------------

2- الحكــــــم------------------------------------------

الحكم في القرآن---------------------------------------------

الحكم في اللغة--------------------------------------------------

الحكم عند علماء الأصول-------------------------------------------

تفصيل شامل لمعاني الحكم------------------------------------------

أ‌-تشريع الأحكام التكليفية والوضعية-------------------------------------

أقوال المفسرين وأهل العلم في التشريع-----------------------------------

الحكم بالأحكام ( تكليفية أو وضعية)-------------------------------------

التشابه والإحكام في آية الحكم----------------------------------------

حالات الحكم بغير ما أنزل الله----------------------------------------

مصطلح الكفر حقيقته ومعناه الشرعي------------------------------------

مصطلح الكفر عموما وفي الحكم خاصة عند الصحابة رضي الله عنهم----------------

الاستدلال الفاسد والجهل بقواعد التعامل مع النصوص الشرعية---------------------

اتخاذ الأحبار أرباب من دون الله تعالى في الأمة-----------------------------

الافتراء على الله تعالى وعلى علماء الأمة---------------------------------

دراسة لمسألة الحكم نقلا عن منتدى الفوائد---------------------------------

الحاكمية عبادة--------------------------------------------------

الألوهية والحكم-------------------------------------------------

الربوبية والحكم-------------------------------------------------

توحيد الأسماء والصفات والحكم---------------------------------------

الحكم شرط في الإيمان---------------------------------------------

نقولات سلفية--------------------------------------------------

إشكاليات والرد عليها----------------------------------------------

الإشكال الأول: قالوا لا بد من الاستحلال----------------------------------

الإشكال الثاني: وهو أثر ابن عباس رضي الله عنه----------------------------

الإشكال الثالث رضيت بإجماعهم في التنزيل فارض بإجماعهم في التأويل--------------

الإشكال الرابع النجاشي كان مسلماً وكان ملكاً حاكماً يحكم شعباً بالنصرانية-------------

التحاكم إلى الأحكام-----------------------------------------------

معنى التحاكم--------------------------------------------------

أقوال العلماء في التحاكم--------------------------------------------

3- الـولاء -----------------------------------------------

معنى الولاء في القرآن---------------------------------------------

معنى الولاء في اللغة----------------------------------------------

تفصيل شامل لمعاني الولاء------------------------------------------

أ‌-الطــاعة--------------------------------------------------

معنى الطاعة وحقيقتها---------------------------------------------

الأمر عند علماء الأمة---------------------------------------------

أقوال أهل العلم في الطاعة------------------------------------------

ب - الإتبـاع--------------------------------------------------

ت – النصرة--------------------------------------------------

ث- المحبة ---------------------------------------------------

ثانيا: الله سبحانه وتعالى-------------------------------------------

ثالثا: الاجتناب ( اجتنبوا)-------------------------------------------

رد الأقوام على دعوة الرسل-----------------------------------------

مصطلح الاجتناب في اللغة------------------------------------------

مصطلح الاجتناب ودلالالته في القرآن -----------------------------------

آيات الاجتناب المتعلقة بأصل الدين-------------------------------------

آيات الاجتناب المتعلقة بتفصيلات الشريعة---------------------------------

مصطلح الاجتناب في السنة------------------------------------------

معنى الاجتناب عند علماء الحديث--------------------------------------

مصطلح الترك -------------------------------------------------

مصطلح نذر في اللغة---------------------------------------------

مصطلح نذر عند علماء التفسير---------------------------------------

مصطلح نذر في السنة---------------------------------------------

مصطلحي أتنهانا وتلفتنا--------------------------------------------

مصطلح الاعتزال فيما يتعلق بأصل التوحيد--------------------------------

مصطلح الإعتزال في اللغة------------------------------------------

مصطلح الإعتزال عند علماء التفسير------------------------------------

مصطلح الاعتزال في السنة وعند علماء الحديث-----------------------------

مصطلح البراءة فيما يتعلق بأصل التوحيد---------------------------------

مصطلح البراءة في اللغة -------------------------------------------

مصطلح البراءة عند علماء التفسير-------------------------------------

مصطلح البراءة في السنة وعند علماء الحديث-------------------------------

رابعا: الطاغوت ( المعبود من دون الله )---------------------------------

دلالات مصطلح الطاغوت في القرآن-----------------------------------

معنى الطاغوت------------------------------------------------

أنواع الطاغوت وأقسامه-------------------------------------------

الطاغوت من غير العقلاء-----------------------------------------

الطاغوت من العقلاء--------------------------------------------

الأصول الشرعية الدالة على عموم اجتناب الطاغوت والمطلق -------------------

ملة إبراهيم عليه السلام -----------------------------------------

الإسلام والديمقراطية---------------------------------------------

ملة إبراهيم عليه السلام دين العقل والفطرة--------------------------------

حقيقة ملة إبراهيم عليه السلام---------------------------------------

الركن الأول: بيان حقيقة المعبود--------------------------------------

الأوثان ----------------------------------------------------

كيفية معرفة الواقع الوثني------------------------------------------

صور الأوثان العصرية-------------------------------------------

الركن الثاني : ما يتوجب فعله تجاه المعبود من دون الله تعالى وعابديه---------------

الإسلام إعلان ظاهر يصدقه عمل ظاهر ---------------------------------

وجوه بيان التوحيد في القرآن---------------------------------------

بيان التوحيد من خلال مصطلح لا إله إلا الله-------------------------------

بيان التوحيد من خلال قاعدة النفي والإثبات-------------------------------

بيان التوحيد من خلال مصطلح الاتخاذ----------------------------------

بيان التوحيد من خلال مصطلح الإحسان---------------------------------

الكفر والشرك والعلاقة بينهما---------------------------------------

تأصيل القائلين بالفرق بين الكفر والشرك---------------------------------

من الأدلة على أن الكفر هو الشرك والعكس صحيح--------------------------

الآيات التي تنص صراحة على أن الكافر مشرك----------------------------

الآيات التي تدل على أن الكفر هو الشرك بدلالة المطابقة-----------------------

الاستدلال بقاعدة ليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه----------------------

الأعذار حقيقتها وما يتعلق بها---------------------------------------

معنى العذر--------------------------------------------------

صور العذر وحكمها--------------------------------------------

لا عذر لمن مات على الكفر يوم القيامة----------------------------------

بيان تفصيلي للأعذار وحكم الشرع بأدلة محكمة واضحة بينة--------------------

الحجة الرسالية والعذر-------------------------------------------

مفاهيم يجب أن تصحح-------------------------------------------

دار الاسلام ودار الكفر-------------------------------------------

الردة والمرتدون------------------------------------------------

القوانين الوضعية-----------------------------------------------

مصطلح المنتسبين إلى الإسلام---------------------------------------

شبهات وردود ------------------------------------------------

الشبهة الأولى: كلام ابن تيمية فيما يتعلق بالأحبار والرهبان----------------------

الشبهة الثانية: القول أن الأنبياء أطاعوا الكفار في بعض الأوامر وبنص كتاب الله تعالى-----

الشبهة الثالثة: جعل اصل التوحيد مجملا ---------------------------------

الشبهة الرابعة: شبهة التفريق بين الكفر والشرك ----------------------------

الشبهة الخامسة: التفريق بين التولي والموالاة ------------------------------

الشبهة السادسة: التفريق بين الأمور الإدارية والشرعية ------------------------

الجهاد ومنزلته في الأمة------------------------------------------

لماذا يقاتل المسلمون؟--------------------------------------------

الجهاد روح الأمة-----------------------------------------------

العمليات الاستشهادية---------------------------------------------

الحروب الصليبية نشأتها وامتداداتها-----------------------------------

وقفات مع عام الفيل---------------------------------------------

الثوابت الإسلامية في المواجهة---------------------------------------

أهم المتغيرات في العالم الإسلامي والحرب الصليبية الأولى----------------------

العوامل التي أدت إلى سقوط بيت المقدس---------------------------------

مراحل التحول في الأمة ------------------------------------------

المرحلة الزنكية مآثر وعبر-----------------------------------------

القائد العظيم--------------------------------------------------

المرحلة الصلاحية نتائج وتضحيات------------------------------------

معركة حطين وفتح بيت المقدس--------------------------------------

الحملة الصليبية الثالثة--------------------------------------------

مرعب الصليبيين ومحطم آمالهم--------------------------------------

الدولة الأيوبية-------------------------------------------------

الحملة الصليبية الرابعة-------------------------------------------

الحملة الصليبية الخامسة-------------------------------------------

الحملة الصليبية السادسة-------------------------------------------

الحملة الصليبية السابعة-------------------------------------------

المرحلة المملوكية تاريخ وأمجاد--------------------------------------

الملك الظاهر بيبرس وإنهاء الوجود الصليبي-------------------------------

العوامل التي أدت إلى انحسار المد الصليبي-------------------------------

العوامل الداخلية------------------------------------------------

العوامل الخارجية-----------------------------------------------

الحرب الصليبية الثانية-------------------------------------------

الاستراتيجية الغربية التي قامت عليها هذه الحروب---------------------------

العوامل التي تحول دون تحقيق الأهداف الصليبية وكيف تعاملوا معها----------------

أسس بناء الشخصية الإسلامية---------------------------------------

مراحل الحرب الصليبية الحديثة--------------------------------------

المرحلة الأولى أهدافها ونتائجها--------------------------------------

المرحلة الثانية أهدافها ونتائجها---------------------------------------

الدور الأمريكي في الحروب الصليبية الحديثة------------------------------

الإستراتيجية الاقتصادية كمدخل لتحقيق الأهداف الأمريكية----------------------

الإستراتيجية الإعلامية-------------------------------------------

الاستراتيجية السياسية--------------------------------------------

الإستراتيجية العسكرية--------------------------------------------

الدين في السياسة الأمريكية ----------------------------------------

هذا ما تريده أمريكا----------------------------------------------

أمريكا وما يسمى الشرق الأوسط--------------------------------------

تحقيق الأهداف الصليبية بالأيد الأمريكية --------------------------------

حقيقة الواقع المعاصر--------------------------------------------

كلمة لا بد منها ------------------------------------------------

الفهرس-----------------------------------------------------