JustPaste.it

http://s02.justpaste.it/files/justpaste/d248/a9924632/0027-small.gif

bi1hv2_small.jpg

 

الصفة السادسة/ الخطابة:

"وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ". [ سورة ص: ٢٠ ]
الخطابة لغة: خَطَبَ خَطَابةً وخُطْبةً، فهو خَطِيب، والمفعول مَخْطُوب.

واصطلاحًا: قطعة من الكلام توجَّه إلى جمهور النَّاس، أو كلامٌ يخاطِب به المتكلِّم جمعًا من النَّاس لإعلامهم وإقناعهم.
إن الخطابة فن عظيم له تأثير مباشر في عقول المُخاطَبين وقلوبهم؛ فإنها السبب الرئيس لإقناع تلك العقول، وكذا في إثارة مشاعر تلك القلوب؛وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين قَدِمَ رجلان من المشرق فخَطَبا حتى عَجِبَ الناسُ لبَيانِهِما: "إنَّ من البيانِ لسِحرًا". رواه البخاري ،لذلك فإنها من الأمور الهامَّةِ في حياة القادة الذين هم أحوج الناس إلى التفافٍ للناس من حولهم، ولا يكون ذلك إلا إذا كان أولئك على بَيِّنةٍ وبَصيرةٍ بما يقومون ويقولون، وعند ذلك فقط سيتمكنون من الانتقال بهم إلى حكمِ الله تعالى كما كان قد انتقل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالصحابة.

لقد بين الله عز وجل أهمية الخطابة في حياة الرسل؛ فقال حاكيًاعن نبيه موسى (صلى الله عليه وسلم) (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ* وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ)،  (وأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ) [ القصص: ٣٤ ]. قال العلامة ابن سعدي (رحمه الله) : " كان في لسانه ثقل لا يكاد يفهم عنه الكلام فسأل الله أن يحل منه عقده يفقه ما يقول فيحصل المقصود التام من المخاطبة والمراجعة والبيان عنه المعاني، فعند ذلك قال تعالى: "قد أوتيت سؤلك يا موسى". فالبيان باللسان هو الوسيلة الأولى في الدعوة إلى الله عز وجل قال تعالى : "وما أرسلنا من رسول إلى بلسان قومه ليبين لهم"، إذ كان الأنبياء يرسلون بلسان أقوامهم ليبين لهم الحق ويقيموا عليهم الحجة بأوضح عبارة وأجمل أسلوب ولا يكون ذلك إلا بالإلقاء الجيد الناجح. لقد أدرك نبي الله موسى (عليه السلام) أهمية الخطاب الديني والسياسي؛ ولذلك طلب من ربه تعالى أن يشرح صدره ويحلل عقدةً من لسانه ثم يجعل معه أخاه هارون لأنه أفصح منه لسانًا، فأعطاه الله تعالى سؤله.

وفي حياة رسولنا (صلى الله عليه وسلم) الكثير من المواقف التي تبين أهمية ذلك الأمر؛ ولعل في قصة قُدوم وفد بني تميم عليه (صلى الله عليه وسلم) صورةٌ واضحةٌ لعِظم أثر الخطابة في الدعوة الإسلامية، وقد ساقها المفسرون والمؤرخون في كتبهم، قالوا: ان بني تميم قدموا المدينة عام الوفود، ثم نادَوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليخرج إليهم -وهم المعنيون بقوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ". [ الحجرات: ٤] ،فلما خرج إليهم قالوا: جئنا نفاخرُك ونشاعرُك بخطيبنا وشاعرنا، فقال (صلى الله عليه وسلم): ما بالشعر بُعِثْت، ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا. فقال الزبرقان بن بدر لشاب: افخر واذكر فضل قومك، فقال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه، وآتانا أموالاً نفعل فيها ما نشاء، فنحن من خير أهل الأرض، من أكثرهم عددًا ومالاً وسلاحًا، فمن أنكر علينا فليأتِ بقولٍ هو أحسن من قولنا، وفعلٍ هو أحسن من فعلنا.فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لثابت بن قيس بن شماس -وكان خطيبه-: قم فأجبه، فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأؤمن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، دعا المهاجرين من بني عمِّه أحسن الناس وجوهًا وأعظمهم أحلامًا فأجابوه، والحمد لله الذي جعلنا أنصارَ دينه، ووزراء رسوله، وعِزًا لدينه؛ فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمدًا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فمَن قالها منع نفسه وماله، ومن أباها قتلناه، وكان غرمه علينا هينًا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات. ثم قام شاعرهم فأنشد، ثم أجابه حسان (رضي عنه)، فقال الأقرع بن حابس -رئيس الوفد-: والله، ما أدري: ما هذا الأمر؟ تكلم خطيبنا فكان خطيبُهم أحسنَ قولاً، وتكلم شاعرنا فكان شاعرُهم أشعرَ وأحسَنَ قولاً، ثم دنا من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقال: أشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأنك رسول الله. فكان لهذه الخطبة أثرها في دخول ذلك الوفد الإسلام.

ولعل في الخطابة بعض الشروط أو المستحبات التي ينبغي أن يراعيها القائد، ومنها:

أن يختارَ كلماتها بعناية، ويُحاوِلُ ما استطاع أن يجعلها طبقًا للمعاني التي يَجِدُها تزاحم خلده، ويا حبذا أن تكون مصحوبة بقوة صدق القائل وإخلاصه؛ فما خَرَجَ من القلب يَصِلُ إلى القلب.. وإنها لَمَكرُمَة من الله تعالى له على ذلك. حتى إنه عز وجل قد يفتح عليه "فتأتيه المعاني إرسالاً وتنهال عليه الألفاظ انتهالاً" كما قال الجاحظ.
أن يجعلها قصيرة ما استطاع فإنَّ الناس تَمَلُّ كَثرَة الكلام، وقد روى مسلم عَنْ وَاصِلِ بْنِ حَيَّانَ، قَالَ: قَالَ أَبُو وَائِلٍ: خَطَبَنَا عَمَّارٌ، فَأَوْجَزَ وَأَبْلَغَ، فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ، فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: "إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ، مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ، وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا" (رواه في كتاب صلاة المسافرين وقصرها).

أن يتجنَّبَ ما يَجْهَلُه الناس في أمور الغيبيات، قال علي (رضي الله عنه): (حَدِّثُوا النَّاسَ، بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ، اللَّهُ وَرَسُولُهُ" رواه البخاري ).وقال ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: (مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً). رواه مسلم

أن يختار كلماته بعناية فائقة حتى لا تؤخذ كلماته بأكثر من معنى، فيفسرها كلٌّ بما يناسبه وهواه.
وهناك أمران مهمان ينبغي للقائد أن يراعيهما في خطابته، وهما العقدي والسياسي، والعسكري الجهادي.
الأول: الخطاب العقدي والسياسي المنزل ( الراشدي )
إن أهم ما يميز القائد في خطابه هذا، العودة به إلى القرنِ الأولِ، خطابِ النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء الراشدين المهديين (رضي الله عنهم) في إظهار ما جاء به الأنبياء والرسل من حقيقة التوحيد وإفراد الله تعالى في الخالقية والربوبية والإلوهية وصفات الكمال وأسماء الجلال والملك والحكم والطاعة والرهبة والخشية والخوف والأمر والولاية على خلقه والعبادة.. لشيوع الشرك في هذا المجال في المجتمعات الإنسانية كافة.
إن الإسلام جاء ليبطل ربوبية الملوك ورجال الدين ويقيم للناس الحنيفة السمحة, توحيد الله في الخلق, وفي الملك, وفي الربوبية والسيادة والحكم والطاعة والعبادة.

ولعلَّ من صور الشرك المشهورة في عصرِنا: شرك الحاكمية – شرك الطاعة – شرك التشريع – شرك العبادة – شرك الملك.
إن على القائد أن يُبَيِّن لرعيَّتِهِ بحسن خطابه ذلك الأمر العقدي؛ فإن الأمة قد توارثت أمورًا حَسِبَتْها ثوابت فأقعدَتْ بها عن مصالحها الدينية والدنيوية. وإن من أهم تلك الأمور اعتقادها أن للسلطة الحق المطلق في التصرف بمصالحها وإن كان على حساب دينها، إن هناك قاعدة شرعية بهذا الخصوص هي: إن "الأصل في الإنسان الحرية"، وحق الحريَّة السياسية مكفول في شريعة الإسلام، وهناك حق يُدعى: حق الأمة في الرقابة على السلطة؛ وهو أصل من أصول الخطاب السياسي النبوي، فقد تضمن عقد البيعة (وأن نقوم بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم)، فالأمة هي الرقيب والحسيب على السلطة، فالطاعة للسلطة ليست مطلقة، وليست لذات السلطة، بل الغاية من إقامة السلطة تحقيق العدل والقسط. ومهمة السلطة هو العمل على تحقيق تلك الغاية وفق قواعد شرعية وأصول مرعية ليس هنا مجال ذكرها، وإن على القائد كما بيَّنت أن يتفقه فيها جيِّدًا ثم يضمنها في خطابه ذاك.

الثاني: الخطاب العسكري (الجهادي)

وعلى القائد أن يراعي في هذا الخطاب، الغاية من الجهاد، وأنه لا يكون من اجل القتال فقط، أو الحصول على الغنائم، أو السبايا من النساء، أو استرقاق الناس، وإنما تعبيد العباد لرب العباد وإخراجهم من الظلمات إلى النور ظلمات الشرك والكفر إلى نور التوحيد، وعليه أن يُبَّيِّن مقاصده -مقاصد الجهاد- في خطابه ذاك، وهي : رد العدوان عن النفس والأرض، القتال لنصر المستضعفين في الأرض، والقتال حتى يكون الدين كله لله. وعليه أن يضمنه معنى أنَّ الجهاد مع ما فيه من مشقة على النفس وجهد وبذل -مما تكرهه النفوس بطبيعتها البشرية-، فهو خير كله لما فيه من المصالح الكلية، والأسباب الضرورية لحياة المجتمعات الإنسانية، التي لا تخلو في أي عصر من أعداء للدِّين وأئمة للطغيان يسومون الشعوب سوء العذاب ويفتنون المؤمنين.
وعلى القائد أن يُتْبِعَ تنظيرَهُ هذا عملًا، فيكون في مقدمة صفوف المجاهدين، وهو ما تواترت به الروايات من فعلِ رسول الله وصحابته رضي الله عنهم.

إن هذا الخطاب له اثر كبير في نفوس الرعية والجند، وهو من الأهمية بمكان ، ولا سيما في زمن المعركة وقت لقاء العدوِّ؛ وأذكر مثالًا لذلك خطبة عبد الله بن رواحه في يوم مؤتة، فقد كان المسلمون ثلاثة آلاف رجل، وقد بلغهم أن هرقل نزل في مائة ألف جندي من الروم، وانضم إليه من نصارى العرب مائة ألف آخرون، فقال بعض المسلمين: نكتب إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ نخبره بعدد عدونا، فإما أن يأمرنا بأمره، فنمضي له، فقام عبد الله بن رواحه ـ رضي الله عنه ـ وخطب فقال: يا قوم : والله إن كان الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون، إنها الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، إنها إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة، فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحه. تاريخ الطبري
إن الفراغ القيادي الذي سببه أعداء الأمة جراء ملاحقتهم القادة وتشويههم سمعتهم –بغض النظر عن ما جلبه بعض أولئك القادة لأنفسهم من حُجَّةٍ للعدو لتشويه سمعتهم ونعتهم بالإرهابيين بسبب بعض الأخطاء كَبُرَت أو صَغُرَت، فليس هنا المجال لذكر ذلك- وقتلهم أو زجهم في السجون قد أعطى المجال للكثير من الجهلة لتقدم الصفوف وإفراغ الجهاد من حقيقته التي بعث عليها محمد (صلى الله عليه وسلم)، وقد بيَّنتُ ذلك في أكثر من موضع.

الصفات المهمة لقيادة الأمة

 جمعهُ ورتبه

الشيخ/ إسماعيل بن عبد الرحيم حميد
"أبو حفص المقدسي " حفظه الله