JustPaste.it

http://s02.justpaste.it/files/justpaste/d248/a9924511/0027-small.gif

bi1hv2_small.jpg

 

الصفة الثالثة/ الحكمة:

"يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ". [البقرة: ٢٦٩]
الحكمة لغةً: مِنْ حكُمَ يحكُم، حُكْمًا وحِكْمةً، فهو حكيم، وحكُم الشَّخصُ: صار حكيمًا، وهو أن تصدر أعمالُه وأقوالُه عن رويّة ورأي سديد "وأبغضْ بغيضَك بُغْضًا رويدًا.. إذا أنت حاولت أن تَحْكُما: إذا حاولت أن تكون حكيمًا".

أما اصطلاحـــًا: فقد قيل أنها إِصَابَة القَوْل من غير نبوة، وَقيل ذَلِك فِي قَوْله اللَّهُمَّ علمه الْحِكْمَة. وَقيل أنها الْعلم بِالدّينِ، وَقيل الْعلم بِالْقُرْآنِ، وَقيل الْفِقْه فِي الدّين، وَقيل أنها الخشية، وَقيل الْفَهم عَن الله فِي أمره وَنَهْيه، وَهَذَا كُله يَصح فِي معنى قَوْله الْحِكْمَة يَمَانِية وَقَوله علمه الْحِكْمَة لَا سِيمَا مَعَ قَوْله الْفِقْه يمَان.
وهذه كما بَيَّنَ تعالى في الآية الكريمة هِبَةٌ يؤتيها الله تعالى من يشاءُ من عبادِه، ولا يعني كونها كذلك انها ليست بمُكْتَسَبةٍ، ولكن لها أسباب ينبغي السعي في تحصيلها لتُنال أو يُنال نصيبٌ منها بإذن الله تعالى وفَضْلِه، ويتضحُ ذلك إذا عَلِمنا أنَّ لها أركانًا متى ما روعِيَتْ كان المُتَّصِفُ بها أجدرَ بنَيلِها، وهي كما بيَّنها ابنُ القَيِّم، قال: "ولها ثلاثة أركان: العلمُ والحلمُ والأناةُ، وآفاتها وأضدادها: الجهلُ والطيشُ والعجلةُ فلا حكمة لجاهلٍ ولا طائشٍ ولا عجولٍ والله أعلم"، وقَدْ يُضافُ إلى تلك الأركان: كرهُ التصدِّرِ في المواقف؛ فقد يُوَسوِسُ الشيطانُ لأحدٍ ما أنَّه يمتلكُ حِكْمةً لا يَمتَلِكُها غيرُه، وأنه أحقُّ بِتَصَدُّرِ موقِفٍ ما برأيهِ السَّديدِ، وقد يُزَيَّنُ لهُ ذلك بأنَّه على سَبيلِ النُّصْحِ والمَصلَحةِ للمسلمين والأمة وما إلى ذلكَ، فيَغتَرَّ بِرأيِه، فيَعْقِبُ ذلكَ خسرانًا وخُذلانًا؛ فَقَدْ عَلِمْنا أن توفيقَ الله تعالى لا يصيب مغرورًا، وإن الفارَّ من التَصَدُّرِ والدنيا بِصورةٍ عامَّةٍ يَلحَقُهُ توفيقُ الله تعالى لحاقًا -إن صحَّ التعبير-، وقد كان الشافعي (رحمه الله تعالى) يتمنى حين كان يضطر لمناظرة أحدَهُم في مَسألةٍ ما أن يُوَفَّقَ ويُعان ويُسَدَّد -أي المخالف- (حلية الأولياء)، وكان يقول: رأيي صواب يَحتَمِلُ الخطأ، ورأيُ غيري خَطأ يَحتَمِلُ الصواب، وما ذاك إلّا لحاجةٍ كتلكَ التي بيَّنتُ آنِفًا. وكلامي لا يعني أن يَكْتُمَ الإنسانُ رأيَهُ لاسيَّما إن كان قائِدًا معروفًا بِرَجاحَةِ عَقلِهِ، بل إنه يُعابُ عليهِ أن يَكون تبَعًا لآراءٍ لا يرى الحق معها، فالمقصود أن يَكرَه التصدُّر ولا يَغتَرَّ بحكمته.. وإلّا فهو أولى الناس للاتصاف بالحِكْمةِ والعمل بمقتضاها؛ لِشِدَّة حاجتِهِ إليها، لذا فقد كان من الواجبِ علَيهِ أن يَسعى حثيثًا لاكتسابها ليَنزِلَ عليهِ توفيقُ الله تعالى وتَسديدُه في أحوج ما يكون إليه من المواقف، وكما قال ابن القيِّم في تعريفِ الحِكْمَةِ بأنَّها: فعل ما ينبغي كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي ا.هـ، كما ينبغي عليه أن يُدرِّبَ نَفسَهُ أن يزن الأمور ميزانها، وأن يملك بُعدًا للنظر وسعةً للصدر، وَيَجْعَلَ ذلِكَ كُلُّهُ في سبيل أمَّتِهِ ورَعِيَّتِهِ؛ فيفني حياته ووقته من اجل راحتهم ليس له همٌّ إلا ذلك، ليكافأه الله تعالى بأن يؤتيه تلك الحِكْمة.وقد جاء أن عيسى (عليه الصلاة والسلام) قال: "إن الحكمة هي نور كل القلوب"، نعم إنها نور ينير به الله تعالى قلوب عباده المخلصين الذين يصطفيهم ويهديهم إلى صراطه المستقيم، ذلك الصراط المؤدي إلى الجنة التي عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.

لقد ذَكَرَ الله تعالى الحِكمةَ في كتابه 20 مرةً لعِظَمِها وأهميَّتِها، إنَّ بالحِكمَةِ ينقل القائد شعبه من ظلمات الجهل والتعاسة إلى نور التآلف والحضارة والعلم متخذًا القرآن والسنة منهاجًا في دعوته متمثلًا في قوله تعالى: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ, وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ, إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ, وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين" [النحل: ١٢٥].
ولَعَلِّي أذكُرُ حِكْمَتَهُ (صلى الله عليه وسلَّم) في عدمِ قَتْلِهِ عبد الله بن أبي ابن سلول -رأس المنافقين- رغم ما قام به هذا من إيذائه (صلى الله عليه وسلم) في أكثَرِ من حادِثةٍ مما قَدْ عُلِمَ في مَوضِعِهِ، ومِن تِلكَ المواضع ما ذكره البخاري عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) أنه قال: "غزونا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا، وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصاريا، فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا وقال الأنصاري: "يا للأنصار"، وقال المهاجري: "يا للمهاجرين"، فخرج النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال: "ما بال دعوى أهل الجاهلية؟ ثم قال ما شأنهم؟" فأُخبر بكسعة المهاجري الأنصاري، قال: فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "دعوها فإنها خبيثة". وقال عبد الله بن أبي سلول: أقد تداعوا علينا لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل". رواه البخاري، أراد من ذلك (لعنه الله) إلقاء الضغينة بين قلوب المهاجرين وإخوتهم الأنصار وبث الفتنة والفرقة بينهما، فلما بلغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما قال وكان عنده عمر (رضي الله عنه)، قال عمر: "ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث؟"، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه" رواه البخاري. وفي رواية: فقال (عليه السلام): (فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ لا ولكن أَذِّنْ بالرحيل" السيرة النبوية لابن هشام ، ولم يقتصر (صلى الله عليه وسلم) على ترك قتله بل تعداه إلى الرفق به، وحسن صحبته، ويظهر ذلك حين طلب ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي سلول (رضي الله عنه) من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يسمح له بقتل أبيه، فقال له (عليه الصلاة والسلام): "بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا". السيرة النبوية لابن هشام
فقد بَيَّنَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المانِعَ من قَتلِهِ وهو "خشية أن يظن من لا علم له بأمره -أي بأمرِ ابن أبَيّ- من الناس أنه (عليه الصلاة والسلام) يَقتُلُ أصحابه وهو ما يُنَفِّرُهم عن الدين.. وأما أمرُه (صلى الله عليه وسلم) عمر (رضي الله عنه) أن يؤذن في الناس بالرحيل في غير وقته، ثم متابعة السير حتى الإعياء، فكان وسيلة لإشغال المسلمين وصرفهم عن الفتنة التي بثها ابن أبي بين المهاجرين والأنصار، والتي كان غرضها إفساد الود والإخاء بين قلوب المهاجرين وإخوتهم الأنصار. ولا يخفى أن حكمته (صلى الله عليه وسلم) تلك قد آتت أكُلها فيما بعد، فقد تلاشى أمر المنافقين وفُضِح أمر ابن أُبي حتى جعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم: "كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله لأرعدت له انف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته"، قال عمر: "قد والله علمت لأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أعظم بركة من أمري" السيرة النبوية لابن هشام ، وفي واقعة أخرى يحدث جابر بن عبد الله فيقول: لما قسم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – غنائم هوازن بين الناس بالجعرانة قام رجل من بني تميم فقال:  اعدل يا محمد!! فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أعدل.. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ألا أقوم فأقتل هذا المنافق؟ قال:  معاذ الله أن تتسامع الأمم أن محمداً يقتل أصحابه، ثم قال النبي – صلى الله عليه وسلم-: إن هذا وأصحاباً له يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم" رواه أحمد، فحاصل الأمر أن قتل المنافق أو حده غير مشروع لأسبابٍ لخصها ابن تيمية (رحمه الله) بــــ: (عدم ظهوره -أي الحد أو القتل- بالحجة الشرعية التي يعلمه بها الخاص والعام، أو لعدم إمكان إقامته إلا مع تنفير أقوام عن الدخول في الإسلام وارتداد آخرين عنه وإظهار قوم من الحرب والفتنة ما يربي فساده على فساد ترك قتل منافق)، ثم قال رحمه الله: (وهذان المعنيان حكمهما باقٍ إلى يومنا هذا إلا في شيء واحد وهو أنه (صلى الله عليه وسلم) ربما خاف أن يظن الظان أنه يقتل أصحابه لغرض آخر مثل أغراض الملوك فهذا منتف اليوم). وليس كما يَفْعَلُ جهلاءُ اليوم -ولا حول ولا قوَّةَ إلَّا بالله-، الذين جَعَلوا عامَّةَ المُسلِمينَ منافقين وكُفَّار بتأويلاتٍ لم يُنْزِل اللهُ بِها من سُلطانٍ، فنفَّروا الناس بل وحتى المسلمين عن الدين وشَرعِ الله تعالى، فَهلّا اقتَدَوا بنَبِيِّهم وتَفَكَّروا في حِكْمَتِهِ في عدم قَتْلِ ابن أبَي وقد عُلِمَ نفاقُه في أوساطِ المسلمين؛ ألَم يُدْرِكوا أنه مادام عامة غير المسلمين "ولا سيما من هم خارج ديار الإسلام" لا يعلمون عن النفاق والمنافقين شيئًا، ويعتقدون الإسلام الحق في كل من ينتسب إليه، فلا ينبغي قتل المنافق -وإن عُلِم نفاقه في أوساط المسلمين- حتى يُظْهَرَ أمرُهُ ويُعلَنَ نفاقُه على الملأ من جميع الخلق، فإن كان في منَعَةٍ من قومه ولم يُعلَم نفاقه فيهم وفي المسلمين فحينئذ يُصبَر عليه حتى يُفتَضَح أمره تلقائيًا ويظهَر نفاقه عندهم ثم عند بقية الخلق؛ حينذاك فقط ستُزالُ الشُّبُهاتُ التي تُلقيها النفوس بشأنِ الدين الجديد فتَدْخُلُهُ بمِلئِ القلوب والعقول، وإن الأمر ليس بِهَيِّنٍ فإن رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) عانى أذى المنافقين وتعامَلَ مَعَهُم بحِكمَتِه كما بيَّنتُ فوَفَّر بذلك المناخ المُناسِبِ لِمُعظَمِ الأعداء أئِمَّةِ الكُفْرِ أن يتحوَّلوا إلى أئِمَّةٍ للإيمان... ولكن لا حياةَ لمن تنادي –إلّا أن يشاء الله-، فإن هؤلاء يقتُلون مسلمين لا منافقين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن حِكْمَتِه (عليه الصلاة والسلام) في دعوَةِ المُسلِمين إلى الفضائِل، ما رواه الإمام أحمد في مسندِه عن أبي أُمامة انَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ قَالُوا مَهْ مَهْ فَقَالَ أدْنُهْ فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا قَالَ فَجَلَسَ قَالَ أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ قَالَ لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ قَالَ أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ قَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ قَالَ أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ قَالَ لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ قَالَ أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ قَالَ لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ قَالَ أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ قَالَ لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ قَالَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ" .رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح.

وما رواه مسلم عن معاوية بن الحكم السُّلَمي، قال: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ؟ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللهِ، مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ».

ومن صور حِكْمَتِهِ (صلى الله عليه وسلَّم) ما كانَ منهُ (عليه الصلاة والسلام) في صلح الحديبية، وما كان لذلك من الأثر العظيم في تأسيس مرحلة جديدة للدعوة ودُخول الناس في دين الله تعالى أفواجًا وفتح البلاد وتعبيد العباد لرب العباد فمتى سيتعلم القادة من حكمته صلى الله عليه وسلم؟ ومتى سيسيروا على هديه؟
يقول سبحانه وتعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا" [الأحزاب: ٢١ ]، والله أنّا في أشَدِّ الحاجة لقادةٍ تكون هذه الصفة مُتأصِّلة في أفكارِهم، يَكفينا تهوُّرًا وجُرأةً في أفعالٍ أساءَت لدين الله تعالى! أعلَمُ أن هناك مسلمينَ يعدُّون بعضَ المواقف الليِّنة ضَعفًا وتنازُلًا، وهؤلاء قد يكونون صادقين غَيورين على دينِهم، كما كان صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؛ روى البخاري أنَّه صلى الله عليه وسلم حين كان يملي على علي بن ابي طالب رضي الله عنه في صلح الحديبية، ويقول له اكتب: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم. قال سهيل: أما الرَّحمن، فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهمَّ. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرَّحمن الرَّحيم. فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: اكتب: باسمك اللهمَّ. ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمَّد رسول الله. فقال سهيل: والله لو كنَّا نعلم أنَّك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمَّد بن عبد الله. فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: والله إنِّي لرسول الله، وإن كذَّبتموني، اكتب: محمَّد بن عبد الله.

ولكن تلك الحكمة هي التي عجلت مجيء فتح الله تعالى فكم نحن اليوم بحاجة لمن يتأسى بنبيه (صلى الله عليه وسلم) في ذلك فتكون له بصيرة وبعد نظر وعدم استعجال, فمن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.

إن قيادة المُسْلِمين ليس بالأمر السهل؛ فهو لا يكون بالجاه أو بكثرة المال، ولكن برجال حُكَماء يعلمون مآلات أقوالهم وأفعالهم، يعرفون متى يتخذون القرار المناسب في الوقت المناسب بالشكل المناسب.
كم تجلت حكمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين مات النبي صلى الله عليه فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنَّ أبا بكر رضي الله عنه خرج، وعمر رضي الله عنه يكلِّم النَّاس، فقال: اجلس. فأبى، فقال: اجلس. فأبى، فتشهَّد أبو بكر رضي الله عنه، فمال إليه النَّاس، وتركوا عمر، فقال: أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فإن محمَّدًا صلى الله عليه وسلم قد مات، ومن كان يعبد الله، فإنَّ الله حيٌّ لا يموت. قال الله تعالى: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ".
والله لكأنَّ النَّاس لم يكونوا يعلمون أنَّ الله أنزلها حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه، فتلقاها منه النَّاس، فما يُسْمَع بَشَرٌ إلَّا يتلوها.

إن حكمة أبي بكر رضي الله عنه في هذا الموقف العظيم الذي هز أركان الدولة الإسلامية و المسلمين والتي هي من أعظم المصائب التي مرت على البشرية منذ أن خلق الله ادم عليه السلام إلى قيام الساعة أن قوة أبي بكر الصديق وحكمته في تدارك أمر المسلمين وجمع كلمتهم كان لها الأثر الكبير في الحفاظ على الدولة الإسلامية ووصول الإسلام إلينا في هذا الزمان.

إن القائد الحكيم هو الذي يخرج للأمة في الوقت المناسب ويظهر قيادته الحكيمة التي تساعد في حل إشكاليات المجتمع وجمع شمله وتوحيد كلمته ورص صفوفه في مواجهة أعاده المتربصين الذين ينتظرون الفرصة المناسبة لينقضوا على الأمة للخلاص منها ومن دينها الذي هو عصمة أمرها، ومن المواقف الحكيمة للنبي صلى الله عليه وسلم وسياسته الراشدة أن تحمل أذى رأس النفاق عبد الله ابن سلول ولم يقتله ومن حكمة عمر رض الله عنه انه كان مع أهله قويًّا، فكان إذا أراد أن يأمر المسلمين بشيء أو ينهاهم عن شيء مما فيه صلاحهم ونجاحهم وفلاحهم، بدأ بأهله، وتقدم إليهم بالوعظ لهم، والوعيد على خلافهم أمره، فعن سالم بن عبد اللّه بن عمر، قال: " كان عمر إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء جمع أهله، فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم باللّه لا أجد أحدًا منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة".

وهذا من أعظم مواقف الحكمة؛ لأن الناس ينظرون إلى القائد والإمام والى سلوكه ومعاملته مع أهله قبل الرعية ومدى تطبيقه العملي والقولي لما يدعو إليه، كما ينظرون إلى تطبيقه ذلك على أهله ومن تحت يده .

الصفات المهمة لقيادة الأمة

 جمعهُ ورتبه

الشيخ/ إسماعيل بن عبد الرحيم حميد
"أبو حفص المقدسي " حفظه الله