]من آخر ما كتبه الإمام العلامة شهيد المنبر والمحراب السعيد في العقيدة الإسلامية مبسطاا للمسلمين الجدد[
]التزكية: حقيقتها، ثمراتها، سلوكها، مراتبها، الفناء والبقاء وعلاقتهما بالتزكية، أوراد ينصح بها [
سؤال وجه للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: أرجو من سماحتكم إعطائي نبذة موجزة عن مراحل تزكية النفس والأحوال والمقامات التي يُر بها الإنسان الذي يريد تزكية النفس عن طريق الأقدمين
الجواب: بسم الله الرحن الرحيم أحد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي وأسلم على رسوله محم د وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فإن "التزكية"، وهي كلمة قرآنية، تعي السعي إلى تطهير النفس من الشوائب التي قل ما تنفك منها، والتي إ ن بقيت عالقة ا بها تورد صاحبها المهالك، وتحيل إيُانه بالله إلى مظهر لا حقيقة له ولا فائدة منه، وأخطر هذه الشوائب الكبر، ثم العجب والحق د وحب الدنيا ومظاهرها من المال والجاه والرئاسة.. إلخ.
ويتلخص سبيل التزكية باستحواذ التوحيد يقين اا راسخ اا على العقل، أي أن يتحول التوحيد من كلمة "لا إله إلا الله"! إذ يرددها اللسان إلى يقين عقلي جازم بأن الله واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، لا يشركه في شيء منها أحد. فهو وحده القائم بأمر هذا الكو ن كله، ومن ثم فهو الموج د والمعدم، وهو الضار والنافع، وهو المعطي والمانع..
غير أ ن التوحي د لا يتحول من شعار على اللسا ن إلى يقين راس: في العقل، ثم تأثير على الوجدان، إلا بالإكثار من مراقبة الله، ولا يكو ن ذلك، إلا بالإكثار من ذكره، أي تذكره، واللسان ليس إلا أداة ا لهذا التذكر. وخير سبيل لهذا الذكر والتذكر أن يرب الإنسان دائم اا النعم التي تف د إليه بالمنعم، فكلما أقبلت إليه نعمة تذ كر بها المنعم وأيقن أنَّا
واف دة إليه منه، ومن المعلوم أن نعم الله كثيرة لا تحصى. ولق د كانت هذه طريقة سيدنا رسول الله في ذكر الله عز وجل.
فإذا استمر العبد على هذا العلاج من الذكر والتذكر ترسخت عقيدة التوحيد في عقله، وغابت الفاعلية المزيفة لأغيار عن عقله وتفكيره. ثم إن هذا اليقين الاعتقادي ينعكس إلى قلبه حب اا ومهابة ا وخوف اا.. إذ يعلم بعقله ويشعر بفؤاده أ ن المحسن الأوح د في الكون هو الله، والمتصرف بالعباد والمخلوقات هو الله. فتذوب في ضرام هذه المشاعر المهيمنة تل ك الشوائب التي كانت عالقة بالنفس. فلا يرى لنفسه قيمة ذاتية حتى يتكبر بها. ولا يرى الدنيا بكل معانيها وما فيها إلا جند اا بيد الله عز وجل.
أما ما تسألي عنه من الأحوال المتمثلة فيما يسمونه الفناء والبقاء ونحوهما، فقد دأب المتصوفة المتأخرو ن ومن جاء على غرارهم في هذا العصر، على اعتبار هذه الأحوال مراحل على الطريق يجب على السالك أن يضع نصب عينيه الوصول إلى كل منها، ثم اجتيازها إلى التي تليها
.
غير أن هذا التصور مع السلوك الذي على أساسه مخالف لما كا ن عليه السلف الصالح، بل هو مخالف لما كا ن - - عليه أئمة السالكين في هذا الطريق ومنهم رجال الرسالة القشيرية.
إن المطلوب من السالك أن يسعى بالوسيلة التي ذكرتها إلى الاصطبا التام بحقيقة التوحيد، والغاية الوحيدة التي ينبغي أن يتمثلها في ذهنه هي أن يرقى إلى حالة يتعامل فيها مع الأسباب الكونية مع رؤية المسبب وحده، وعند هذه الغاية يصطب السالك بحقيقة العبودية لله عز وجل. وهي قصارى ما كان السلف الصالح يطمحو ن إليه. وفي الطريق إلى هذه الغاية ق د يعاي بع السالكين مما يسمى الفناء، فيفنى أي يذهل ويغيب عن الأكوا ن بالمكون، فلا يرى لها وجوداا، وق د ينطق في هذه الحال بما يعبر عن شعوره هذا
ويخالف الواق ع والشرع.
فلنتعلم أن هذه حالة طارئة ما ينبغي أ ن يع دها السالك مرحلة لا ب د من المرور بها أو الوقوف عندها. بل عليه أن يعمل على تجنبها جهد استطاعته، فإن غملب على أمره، فليعلم أنه ضعف ابتلي به من حيث عوفي منه أصحاب رسول الله ومن سلكوا نَّجهم من التابعين وخيرة السلف الصالح. وليفعل كل ما يُلك لتجاوز هذه الحالة إلى ما يسمى بالبقاء، وه والوضع الذي يرى فيه الأسباب ويتعامل معها طبق موازين الشرع، ولكنه لا يرى لها أ ي فاعلية، ولا ينسب أي تأثير إليها.
وهذا الذي قلته عن الأحوال يقال أيض اا عما يسمونه المقامات، كمقام الصبر، ثم الشكر، ثم الرضا، ثم اليقين. إن من الخطأ أ ن يضع السالك نصب عينيه التنقل في هذه المقامات ليصل أخير اا إلى مقام اليقين. بل عليه منذ بدء سلوكه أ ن يبذل كل ما في وسعه لبلو أعلى مراتب اليقين. فالصبر ليس منفك اا عن اليقين، والرضا ما ينبغي أن ينفك عن الصبر، بل المطلوب ممن قرر أن يجاهد نفسه الأمارة بالسوء أن يضع نصب عينيه أن يتحل ى في وقت واحد بالصبر والرضا والشكر والتوكل واليقين. وسبيل ذلك هو الإكثار من ذكر الله الذي لا يراد منه فرقعة السبحة في اليد، وإنما المراد منه بعبارة مختصرة تذكر المك وِ ن كلما رئيت الأكوان، وتذكر المنعم كلما رئيت النعم.
نعم، قد يملجِئ نظام السلوك بع السالكين إلى التدرج في بع هذه المقامات، ولكنها حالات اضطرارية لأصحابها، وليست منهج اا تربويا ا لعامة السالكين.
ثم اعلم يا أخي أن هذا الذي تسألي عنه، أيا ا كان اسمه، ذوق بل شعور وسلوك يهيمن عليه نظام الشرع، وليس علم اا يمروى أو فن اا يُث ل أو مهنة يستد ر بها رزق أو تمنال بها رتبة !.
وقد قال أحد الربانيين من السلف الصالح: "كا ن التصوف في صدر الإسلام مسمى لا اسم له، ثم أصبح اليوم اسماا لا مسمى له".