نظرة جديدة في الجرح والتعديل؛ راشد الغنوشي![](https://jpcdn.it/img/5958983468073252c3f4b09e88b6a98d.gif)
للشيخ العلامة أبي قتادة الفلسطيني
كنت أظنّ زمناً أنّ هذا الرجل يمثّل النموذج الصارخ في فقه الهزيمة، أو كما يعبّر هو عنها بفقه الاستضعاف .
وهذا الظنّ يعني أن الرّجل يفهم الإسلام كما هو، ولكن للظرف الاستثنائي الذي يعيشه الإسلام وأهله فإنه يجعل المسلم المعاصر يفرز فقهاً جديداً يلائم هذا الواقع .
وهو فقه على الجملة موجود في داخل الإسلام ومفاهيمه، فمن الأمثلة الدالّة على هذا الفقه، موضوع الجهاد، فلو أنّ المسلمين غُزو من قبل الأعداء لكان الواجب عليهم ابتداءً هو دفعهم وقتالهم، ولكن لو أن المسلمين أيقنوا أنّهم لا يستطيعون دفعاً ولا منعاً فلا بأس - من باب الجواز - أن يصالحوهم ويسالموهم، فالقتال هو الأصل، والصلح هو الاستثناء، وأنا ضربت هنا مثلاً بجهاد الدفع لاتّفاق النّاس عليه، ولم أضرب مثلا بجهاد الطلب الذي يُنكره الكثير من المشايخ والمفكرين في هذا العصر.
فراشد الغنوشي يكرّر دائما أن هذا الفقه الذي يطرحه هو فقه الاستثناء أو فقه الاستضعاف، وقد أشار إلى ذلك صريحاً في محاضرته التي سجّلها في آخر كتابه "الحريّات العامّة في الدولة الإسلامية" كملحق رقم (7) بعنوان: "مبدأ مشاركة الإسلاميين في حكم غير إسلامي".
قلت: كنت أظنّ أنّ هذا الرجل يفهم الإسلام كما هو، ولكنّه يتعامل مع الواقع بما يلائمه من فقه وأحكام، حتّى طلب منّي بعض الإخوة: أن أكتب عنه في هذه الصفحات، كرجل له وجود على السّاحة الإسلامية وهو قريب الصّلة بالوضع في الجزائر، فكان لا بدّ من القراءة الجديدة، أي أن أقرأ راشد الغنّوشي في فهمه للإسلام كما هو، وأن أقرأ أهداف راشد النّهائية بعد أن يصل إلى أن يكون عزيزاً لا مستضعفاً، فتبيّن لي أمر أذكره هنا في هذه المقدمة وسيكتشفه القارئ معي بعد الانتهاء من قراءة هذه الأوراق والتي تتبعها في الأعداد القادمة - إن شاء الله تعالى - هذه النتيجة هي أن راشد الغنّوشي بكلّ صراحة ووضوح لا يمثّل الرجل السنّي في فهمه لدين الله تعالى، فهو: رجل بدعي العقيدة، منحرف الفهم، وبدعته تصل إلى البدعة المكفّرة.
على كلّ حال: لا تستعجل أخي القارئ، فلا بدّ من التريّث حتى تنتهي معي إلى النهاية، ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن موضوع التبديع والتكفير هو حقٌّ من حقوق الله تعالى، وليس هو حق بشري يمكن للمرء أن يساوم عليه، أو أن يتنازل عنه، وأقول هذا الكلام، لأنّي وجدت أناساً ينتسبون للسنّة والحديث، ثمّ هم حين يُذكر لهم أن هذا الرجل كافر أو مبتدع فإنهم يقلبون الأمر معك على وجه من وجوه سعر البضائع، وكأنّك في محفل مماكسة لا في مجلس علم .
ثمّ إنّ البعض يظنّ أنّ الرجل بمجرّد انتسابه إلى جماعةٍ مسلمة، أو إلى العمل الإسلامي فإنّه لا يحقّ لأحد أن يبدّعه أو يكفّره، وكأنّ هذا الانتساب مانع من موانع التبديع والتكفير .
وبعضهم يرى أن ما هو معروض على السّاحة إنّما هي وجهات نظر، وكلٌّ له دليله، فلا ينبغي أن يدّعي أحدٌ مُلك الحقيقة وكأنّ هو الإسلام، فإذا قلت لهذا الرجل: هذا أمرٌ بدعي أو خطأ، قال لك: هذه وجهة نظرك، وليست هي أحكام الشّرع كما هي في نفسها.
وبعيداً عن مناقشة هؤلاء القوم من وجهة نظرٍ أصولية، إلا أنّ هذا الباب هو الذي فتح لكل مدَّع أن يتكلّم في دين الله تعالى كما يريد، حتّى لو أدّى الأمر به أن يفسر الإسلام تفسيراً كُفريّاً ظاهر الكفر والضلال، والأمثلة في هذا الأمر كثيرة، ولعلّ أصرخ مثال هو ما يفعله فهمي هويدي الكاتب المصري وبلديّه محمد عمارة، فإن هذا الثّاني يدعو إلى إحياء فكر المعـتزلة كما يصرّح، لكنّ الأطمّ عنده أنّه يحاول أن يفسّر الإسلام تفسيراً مادّياً تصل به إلى تفسير الشيوعيين والماركسيين.
ولعل من شعور الهزيمة عند المسلم المعاصر أنّه بمجرّد أن يرى رجلاً يرفع شعار الإسلام فإنّه يواليه ويحبّه ويدافع عنه بغضّ النظر عن نوع هذا الإسلام الذي يدعو إليه، فمثلاً روجيه جارودي (رجا جارودي) فإن المحافل والجماعات الإسلامية لا تستنكف أبداً في دعوته ليحدثّهم عن الإسلام، أو ليتحدّث باسم الإسلام، بالرّغم أنّ رجا جارودي هذا لم يُسلم أبداً لا في تصوّره للألوهيّة ولا في فهمه للشريعة، فهو دخل الإسلام على مذهب وحدة الوجود، إذ يصرّح في كتابه "وعود الإسلام" أنّه لا فرق بين الخالق والمخلوق، فهو آمن بالمذهب الصّوفي الغنوصي تحـت شعار الإسلام، وعلى ذلك فهو لا يرى خطأ في النظرية الاشتراكية سوى أنّها ترتكز على قاعدة عقائدية باطلة، وليست هي خطأ في السّلوك والعمل .
ولا أريد أن استطرد بالأمثلة فهي كثيرة جداً، وكلّها تدعونا إلى أن نبتعد عن ترديد الشعارات كالببّغاوات، لأنه للأسف صار المسلم المعاصر أسيراً للشّعار من غير إدراكه للمضامين والمفاهيم، فبمجرد رفع شعار الإسلام ترى السذّج من المسلمين - التنظيمات والشيوخ والقواعد - تتحرّك نحو هذا الشّعار من غير فهمٍ ولا تمييز، ولعلّ تجربة المسلمين مع الطّغاة هي أكبر دليلٍ على ما نقول، فالسعوديّة ترفع شعار التّوحيد والعقيدة الصحيحة، وصدّام يرفع شعار "الله أكبر"، والقذّافي يرفع شعار الثورة الإسلامية، والخميني كذلك، وهكذا، وكلّها تحمل مضامين الشرك والكفر، فمتى يصحو المسلمون من غفلتهم؟ نرجو أن يكون ذلك قريبا.
عودة إلى راشد الغنوشي:
لعلّ من التنبيه المتكرّر وغير الممل، هو أن الحكم على الرجل بأنّه سنّي أو بدعي هو في فهمه لتوحيديْ الشّرع والقدر، وبكونه أرائتيّاً أو سنّيّاً باتّباعه للسنّة والحديث .
وفهم راشد لتوحيد القدر هو فهم منتكس باطل، ففي كتيّبه الذي يحمل عنوان: "القضاء والقدر عند ابن تيمية"، يصرّح الرجل أن فهم المعتزلة لتوحيد القدر هو الفهم الصحيح السليم، وأن ابن تيمـية وقبله الحفيد ابن رشد ما هما إلا محاولات مستنيرة لإحياء فكر المعتزلة، الفكر الإنساني السّامق، في فهمه لتوحيد القدر .
وقبل أن نغادر من هذه النقطة فإنّه من المهمّ التنبيه إلى الأمر الآتي وهو أنّ عامّة الباحثين قديماً وحديثاً حين يدرسون عقائد المسلمين في مفهوم الحريّة - القضاء والقدر - فإنّهم يظنّون أنّه لا يوجد لأهل السنّة إلا قولٌ واحدٌ وهو مفهوم الأشاعرة للقضاء والقدر، والأشاعرة في الحقيقـة هم جبرية في هذا الباب، إذ أنّهم يقولون بمذهب الكسب، وهو يعني عندهم الاعتراف بوجـود إرادة للحيوان في فعله وحركته، ولكن هذه الإرادة لا قيمة لها، وإنّما هي دليل على وجود الثّواب والعقاب الإلهي للإنسان، والاعتراف بوجود إرادة بشريّة لكنّها غير مؤثّرة هي التي جعلت هذا المذهب ظاهره الكسب وباطنه الجبر، وصار هذا المذهب علماً على عدم الفهم والوضوح حتى قال الشّاعر:
ممّا يـُقال ولا حـقيـقة عنـده |
معقــولة تــدنو مـن الأفهام |
|
الكسب عنـد الأشـعري والحال |
عنـد البهـشمي وطفـرة النظـام |