JustPaste.it

http://s04.justpaste.it/files/justpaste/d239/a9623160/0027-small2.gif

logo-small_small.gif

عام الشهادة والهداية

للشيخ العلامة أبي قتادة الفلسطيني

من أحسن الحديث

 

قال تعالى: {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى. قال يا قوم اتبعوا المرسلين. اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون...}، إلى قوله تعالى: {قيل ادخل الجنة، قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين}.

في ذروة المحنة والاستضعاف، وفي أوج قسوة وبطش الاعداء تبرز معالم الهداية والانحياز لهذا الدين، وهذا من أعجب ما يقع، ومن أقوى الأدلة والبراهين على أنّ للإيمان قوة وحلاوة اذا أصابت بشاشتها القلوب فلا يصدها صادّ ولا يقوى على دفعها دافع، وهي شاهد صدق على أن جمال هذا الدين ذاتي ومن داخله ولا يحتاج إلى محسنات من خارجه، فلو كان يحتاج إلى غيره ليقبل الصادقون عليه لما أتوا إليه وهو أشد ما يكون في أهله عارياً عن القوة والمال والجاه والسلطان، بل هم يقبلون عليه وهم يعلمون أن في التزامه الموت الزؤام، وفي التعلق به البلاء والفتنة، ومع ذلك يأتون إليه فرحين جذلين؛ لما يشدهم فيه من عطاء الكريم الجواد ليذوقوا نعيم الإيمان، وبرد اليقين، والوعد القادم في دخول الجنان، ورؤية مولاهم، والتمتع في نعيم لا ينفد ولا ينقطع.

أقول هذا؛ وأنا مع هذه الآيات الجليلة الشريفة في ذكر رجل كان يكتم إيمانه فأعلنه في وقت يكون ثمن الاعلان نفسه وروحه.

وأقوله؛ وأنا أتذكر حادثة نعيم بن مسعود رضي الله عنه حين أسلم، وليس في عالم الشهادة لهذا الإسلام مستقبل؛ حيث يحيط الأحزاب بالمدينة - المنورة بقدوم الحبيب المصطفى عليها - يريدون استئصاله وإنهاء وجوده.

وأقول هذا؛ وأنا أشهد في زماني هذا عاماً أحببت أن أسميه بيني وبين نفسي عام الهداية والشهادة؛ فهذا العام الهجري المنصرم عام شهادة رضيها الله لأقوام اختصهم الله تعالى بكرامة اراقة دمائهم الطاهرة في سبيله، فيا فوزهم ويا هنيئاً لهم، ختم لهم بالرضوان بأن يموتوا تحت بارقة السيوف، هم خيرة الناس؛ فهم أهل الهجرة في سبيل الله، وهم أهل البلاء والجهاد والامتحان، هذا العام أثخن في أهل الإسلام القتل في كل البلاد وخاصة في أفغانستان وفلسطين، لكنه القتل الحبيب إلى الله تعالى، لأن فيه معنى قوله تعالى: {ويتخذ منكم شهداء}، ولا أريد أن استطرد في الحديث عن هؤلاء إذ فيهم إخوة أحبة حين أذكرهم لا أملك إلا دمعة تفر من عيني، لا أدري والله أهي دمعة فراقهم أم دمعة الاشفاق على نفسي حيث أرى الناس يركضون إلى رضوان الله تعالى وأنا حبيس ذنبي، مقيد بهواي لا أدري أين يصار بي في أودية هذه الدنيا المقفرة، وإلى ما يختم لي فيها، فيا رب العباد أطلقني من ذنوبي وبلغني منازلهم والحقني بهم من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.

أما أنه عام الهداية فإي والله إنه لعام هداية، وهذا من عجيب الصنع بل أعجب من نسج مآقي الدمع، ووالله لولا ما علمناه من سر هذا الدين لذهبت النفوس تتردى في تعليل هذا وتفسيره، إذ كيف يقبل الناس على أمر فيه محنة؟!? وكيف يتسابقون على ما فيه بلاء وعناء؟!

ففي وقت يضرب خصوم الإسلام هذا الدين وأهله عن قوس واحدة، وفي وقت يُتخطف شباب الاسلام في كل الصعد، والكل يرى هذه الحرب الشرسة الضروس على هذا الدين، ومع ذلك كله يتجدد عطاء هذا الدين، وتفور حكمة الإيمان به في القلوب، وتقبل النفوس العطاش إليه لترتوي من ماء عذقه الطيب الطاهر، فأي دليل يريد الناس أكثر من هذا على صدق منبته؟! وأي برهان يرجونه على أن هذا الدين لن يموت ولن تنطفئ جذوته ولن تخبو أنوار هدايته ولا نار قرع الخصوم على أم رؤوسهم منه؟!

أي والله إنه لدين حق، وإن جذوره في الأرض أمتن من أي تهزها نعيب الغربان أو نفخ الضفادع عليه لتطفئه، بل إن هذه الغربان بنعيبها والضفادع بنقيقها ونفخها هي من عوامل قوة هذا الدين، بهم يشتد ويقوى عوده واملوده.

في غمرة المحنة تبرز الهداية، فتقوى نفوس أهله به، لأن هذا ما وعدهم الله، وهم يعلمون أن أشد الناس بلاءً هم أهل الايمان، وكلما قويت صلة قلوبهم مع الله زاد امتحان الله لهم حتى يأتوا إلى الله وهم أطهر من الثلوج بياضاً ونقاءً، ليستحقوا فتح باب الجنان لهم.

وفي غمرة المحنة يأتي الناس العطاش إليه من كل صوب وحدب، وكأن نفوسهم فطرت على معرفة الحق من خلال محنته ومن خلال صمود أهله معه، إذ كيف بالله عليك يعرف الناس الحق من دون وجود هذا المثل أمامهم؛ وهم يرون الرمح الأشم يخترق صدر الفتى من ظهره حتى يخرج من صدره، فتنبعث الدماء الفوارة كبركان أمام عينيه، فيصرخ الفتى صرخة لو كانت من غيره لكانت صرخة الألم والجزع لكنها منه وهو الذي كان يرجوها صرخة الفرح والابتهاج، وتزغرد الكلمات بين شفتيه كأنه يشهد عرس الزفاف بل هو يشهده والله، وتنطلق الاهزوجة بكل تعابيرها الجميلة، بل هي أجمل من كل جمال يعرفه أهل الأرض ويصرخ الفتى: "فزت ورب الكعبة... فزت ورب الكعبة".

فيا لها من كلمات موقف لا يمكن إلا أن يكون صدقاً وإخلاصاً.

فيقف الجمع حائراً أمامها: "فزت"... "فاز"... فلا يملكون إلا أن يدخلوا معه في موكب الفوز، فتسلم قلوبهم ويقبل أهله وعشيرته وقبيلته على دين الله تعالى، فيكون دمه هو ثمن هدايتهم، وهل مثل هذه البضاعة الغالية الثمينة "بضاعة الهداية" لها ثمن غير الدماء والمهج والأرواح؟

لا والله... ثم لا والله لو عقلنا وطهرت نفوسنا.

في غمرة المحنة التي نعيشها أشهد ويشهد معي الكثير من أهل الإسلام أنهم لم يشهدوا إقبالاً على الله تعالى كالذي نراه اليوم، وأنهم لم يروا فعالية الدين في نفوس أهله في الأزمان المتأخرة كما هو في أيامنا هذه، ووالله لو طلبت الآن ألف ألف بل عشرة أضعافها شباباً يحملون الموت بين جنباتهم، يأتون فلا يرجعون، ويقبلون فلا يرجون غير تفتت أبدانهم في سبيل الله لما عدمت وجودهم، بل لوجدتهم حاضرين بين يديك، وإني لأجزم أن هذه النفوس لا حديث لها في هجيرها، ولا في صباحها ومسائها، ولا أحلام تداعب أجفانهم إلا حديث الشهادة والموت في سبيل الله تعالى، فهل هناك هدياة أعظم من هذه؟!، وهل الهداية إلا هذه ابتداءً؟!

فالحمدلله رب العالمين.

أما إن سألت عن دخول الناس في هذا الدين فوالله لم تشهد الأزمان المتأخرة اقبالاً على الدين كما تشهده أيامنا هذه، ولو ذهبت أذكر الأخبار لطال المقام، وإن موقعاً واحداً فقط أصغر من مدينة شهدت الشهور المنصرمة اسلام أكثر من ثلاثين شخصاً رجلاً وامرأة.

فإن قال لك قائل: لكننا خسرنا، مات منا كذا وكذا، سجن منا المئات بل الآلاف، شردت من العائلات والأطفال.

فقل له: بفيك بحجر.

وهل لأهل الإسلام على مدار تاريخنا غير هذا، فمتى استقر بنا الحال؟! ومتى هدأت أرجلنا عن التطواف؟! ومتى توقف مكر المشركين بنا؟! فهذا حالنا، وهذه سبيلنا، رضعنا المحنة من أثداء الحزن المتدفقة من صدور أمهاتنا، وشهدنا الكثير الكثير مما يحصد منا، لكن هل كان هذا الحصد قادراً أن يقلع زرع الله؟ وهل كانت أيديهم وأفواههم قادرة أن تطفئ نور الله؟

فها هي فلسطين تشهد أن زرع الله أقوى من هشيمهم، وأن نور الله أقوى من أفواههم، هم يحصدون والله يمكر بهم، هي دولة اليهود التي يصب عالم الكفر كله فيها من دمه ودعمه لتقوى وتصمد، وتقف وتحيا؛ ناس بالسلاح وناس بالمال، وناس بروح الدعم والتأييد، يأتون لها بكل المقويات، أقاموا لها كل المتاريس والجدر ليحمونها فماذا كان؟ وماذا ترى؟

لا ترى إلا أماً تعودت ركوب الصعاب وخوض الرجال المنايا تقدم ابنها للموت وتشجعه، وتدفع به قبلها لتحتسبه عند ربها.

هذه هي المعادلة يا عبد الله: طالب الموت أمام من يحرص على الحياة فمن ينتصر في النهاية؟

في أفغانستان: صبت كل أنواع القتل والدمار، وبذلوا الأموال لشراء الذمم والنفوس، ووضعوا فوقها أكثر من ثلاثة أقمار لتراقب حركة الطير فيها، ودفعوا بكل جنونهم، وطبعوا ملايين الأوراق القذرة من ورق بنوكهم فماذا كان؟ وماذا ترى اليوم؟

هل استقر لهم قرار؟ وهل هدأت لنعيمها عيونهم؟ أم أن طائر الفينيق انتفض على طريقته الخاصة بما لا يعرفه هؤلاء الكفار، نقرة هنا ونقرة هناك، قطرة هنا وقطرة هناك حتى يجتمع القطر ليكون بحرا هادرا يزيل كل الأوساخ والقاذورات.

ولا تغرك أفانين سحرهم ولا شعوذتهم، فكلها باطل في باطل، أم أنك ظننت أنه بمجرد أن أتوا بمسخ أجرب، جاهل مأفون، ألبسوه قشيب الثياب، وغسلوه بالأشنان والصابون ونصبوه مهرجاً يدير السيرك، وطوفوا به بين البلاد ليسوقوه رئيساً على البلاد قد انتهى كل شيء، لا والله فما هذا بنظر عاقل بله مؤمن يقرأ القرآن ويعرف سيرورة التاريخ.

يا هذا؛ نحن أمة تقرأ قصة يوسف في كتاب عظيم فيها، رأى رؤيا، وهو قد بلغ السعي لتوه، فما تأولت رؤياه إلا وقد قارب الكهولة، فلم ينس، وعندما وقع تأويلها، قال؛ "هذا تأويل رؤياي قد جعلها ربي حقاً"، وكأنها والله وقعت الرؤيا في ليلة يومه هذا.

فلماذا تستعجل الصبح، دعه يأتي على قدره الذي قدره الله وما عليك سوى أن تكون من جنده، وإلا فبالله عليك أما صدمتك الفلبين! ألم تقف منها موقف المعتبر المستبصر، فكر فيها فإن فيها العبر ولن أحدثك شيئاً عنها عسى الله أن يفتح عليك بها.

ثم هذه الشيشان بعد سنين من حكم كافر شيوعي فماذا ترى اليوم؟ وكيف يمكن أن تفسر هذا؟

إنها يا عبد الله منح الإله العظيم في محنة الصبر والابتلاء، وليست الخشية في المحن لكن الخشية من زهرة الدنيا ونعيمها، والحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم).

* * *


أعود إلى الآيات الجليلة الشريفة التي بين أيدينا، وأظن أنني لن أستطيع أن أذكر كل ما في نفسي حولها، فالحال الذي نعيشه أخذنا وطوف بنا حتى أخذ منا سعة ما يقدَّر للتفسير من هذه المجلة لكن لا بأس من نقرات سريعة كحسو الطائر عسى أن يكون فيها بل الصدى إن شاء الله تعالى.

هذا رجل من أقصى المدينة... والقرآن بجلاله لم يشأ أن يخبرنا اسمه ولا شيئاً عنه إلا أنه رجل وكفى، لكن علمنا أنه من أقصى المدينة، وفي هذا كفاية لنا فيما يلزمنا، فالرجل ليس من علية القوم وإلا لكان من أوسط المدينة، فإن مدن القوم يومئذ هو أن يكون بيوت الشرفاء منها في قلبها، وكلما ابتعد البناء عن وسطها كان أبعد في الشرف والمنزلة أهله، وبهذا يكون تقسيم الأرباع في المدن حين تختط وتبنى، فصاحبنا هذا من أقصاها، فهو من غمار الناس لا من عليتهم، ولذلك هو رجل وكفى في هذه الدنيا، وأما كفايته في المعرفة فأهل السماء أولى بها، وقد قدم الله تعالى في هذه الآية الوصف على اسمه (رجل)? فقال: وجاء من أقصى المدينة ثم عقب بعدها ذكره، وأما في سورة القصص حين ذكر الرجل الذي نبه موسى عليه السلام على مؤامرة الملأ ضده فقدم ذكر الرجل على وصفه فقال: {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك}.

وعندي أن سبب هذا يعود إلى أمور، منها:

أن من شرف الرجل ومكانته أن يقدم وصفه على اسمه تنويهاًً بشأنه وتنبيهاً لمقامه، ومقام صاحب الخبر ولا شك أشرف وأجل من مقام صاحب موسى عليه السلام، فصاحب موسى يحمل تحذيراً لموسى عليه السلام في قضية مؤامرة على حياته، وأما هذا الرجل صاحبنا فرسالته أجل وأعظم وأشرف إذ يحمل النذارة في قضية هي أجل قضايا الوجود ألا وهي قضية الهداية واتباع المرسلين، فكان من سبب هذا أن قدم الله تعالى وصفه على ذكره ليكون رفعة لشأنه وتنويهاً بشرفه.

ثانياً: أن ذكر أقصى المدينة هنا مع هذا الرجل الجليل أكثر فائدة من ذكرها في قصة موسى عليه السلام، فهنا كان في وسع الرجل وهو في أقصى المدينة أن يستتر، فيختفي ولا يعلن أمره، ولكن هذا لم يحدث، فلم يكن بعده عن مكان الحدث مانعاً له أن يأتي ساعياً جاداً لينذر قومه نذارة الحق، وأما صاحب موسى عليه السلام فإن الأمر أمر سري من بدايته لنهايته، فليس ذكر كونه من أقصى المدينة بنفس درجة الأهمية في قصة هذا الرجل الجليل فكان ذكرها مقدماً على ذكره.

ويظهر لي أمور أخرى لكنها ليست بدرجة الأهمية لما قدمت، والله تعالى أعلم.

وإن من عجيب هذا الرجل أن يظهر في وقت شدة الأمر وخطورته، فبعد تهديد القرية للمرسلين وقولهم لهم: {إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم...}، حينها يظهر أمره ويرفع دعوته وفي هذا دليل صدق اتباعه وقوة إيمانه.

وتبدأ دعوته لهم:

  • {اتبعوا المرسلين}...

    وهي تقتضي التسليم لما جاء به الرسل، وقد فصلت الآيات بعد ذلك من قوله هذه الدعوة حين قال: {ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون}، وهو بيان لحقيقة الخلق والمآل، فالرب هو فاطر كل شيء، وأولية كل شيء منه ومن خلقه جل في علاه، ونهاية كل أمر إليه لا مهرب منه.

{أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغني عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون}...

وهذا فيه بيان الضد ما لو وقعت منه عبودية لغير الله تعالى، وتأمل كلمة الرحمن في موطن البلاء: "إن يردن الرحمن بضر"، وهذا من حسن أدبه مع الله تعالى، فمع موطن البلاء والضر لا يخطر على باله إلا رحمة الله تعالى.

وقبل تفصيل أمر الدعوة قدم حال الداعين من الرسل فقال: {اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون}! وهذا أمر مضطرد نراه في دعوة الرسل؛ وهو رد أوهام المدعوين في أمر الداعين، أو تنبيههم لخاصية في الداعي يستلزمها الحال. فهذا ابراهيم عليه السلام بعد أن دعا والده إلى العبودية في قوله: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا" عقبها فوراً قبل التفصيل بقوله: {يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً}.

وهذا يوسف عليه السلام قبل أن يفصل لصاحبه في السجن أمر الدعوة يقول لهم: {لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي...}.

وهذا عمل الكثير من الأنبياء حين يقدمون قولهم: {ما نسألكم عليه من أجر} وغير ذلك.

وفي هذا تنبيه إلى أن رد أوهام النفوس وخيالاتها ووساوسها في أمر الدعوة أمر شرعي وطريقة نبوية سديدة، ولا بأس للداعي أن يبدأ كلامه بفضل الله تعالى عليه خاصة حين يعلم أن من يدعوهم قد حفرت في نفوسهم بعض العوارض المتعلقة بشخصه، ومن ذلك قصة موسى عليه السلام مع فرعون، فإن فرعون ذكَّر موسى بقتله المصري، وكأنه يقول له: كيف من يأتي هذا الفعل الشنيع يأتينا اليوم ليحمل هذه الدعوة، فلا يكن من موسى إلا أن يعلن خروجه عن ذنبه وأنه فعلها وهو من الضالين، بل يتابع أنه ما هرب منهم إلا بسبب الخوف منهم، {ففرت منكم لما خفتكم}! وليس هذا بعيب في الداعي، ولا بمانع له أن يحمل الهداية إلى الخلق، وأما الخصوم فهم خصوم، فلن يعدموا أن ينسبوا لك ما يبرر لهم إعراضهم عن الحق، حتى لو اختلقوه من كيسهم وجيوبهم، فليس هناك أسهل من الدعاوى واطلاق الشبه عند الخلق.

القصد أن تقديم حال الداعي إن اقتضى الأمر هو سبيل نبوي لا حرج فيه، فهذا الرجل يخبر قومه أن هؤلاء الرسل لا يسألونكم شيئاً من أموالكم، وفي هذا عندي لأمرين:

اولهما: أن الناس يعلمون من خبرتهم الاجتماعية أن أعين الجميع على جيوب الجميع، ومن هنا فهم يتخوفون من أي حركة أمامهم حتى لو كان ظاهرها الحسن، إذ يفسرونها بأسوأ التفاسير، وأسوؤها عندهم هو صيد أموالهم واستخراج ما في جيوبهم، إذ قلما يكون أمر ما خالصاً دون شبهة الصيد، فلذلك هم يطمئنونهم على أموالهم وجيوبهم فلا تبقى أعصابهم متوترة بالشد عليها فلا يعقلون ما يقال لهم، فليس ما نريد منكم هذا الذي تخافون ذهابه.

ثانيهما: أن الأنبياء الكذبة - وهم كثر - ومثلهم الدعاة الكذبة لا يكون نظرهم إلا إلى المال وجيوب أتباعهم، وقد عانت الشعوب من هؤلاء الكثير، يأتون وهم يزمزمون بالوعظ وعيونهم على جيوب الخلق، وكم رأينا من هؤلاء العجب العجاب، دعاة يختلفون مع أتباعهم على المال، وشيوخ يرضيهم من غضبهم على إخوانهم بعض المال وكان قول الله تعالى قد نزل فيهم: {ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون}، فحسبنا الله تعالى ونعم الوكيل.

* * *

  • عودة إلى رجل الإيمان والدعوة:

  • قوله: {لا تغن عني شفاعتهم}...

    هذا من أقوى الأدلة علىأن اتخاذ شفعاء عند الله تعالى هو عين اتخاذهم آلهة، فتأمل قوله: {أأتخذ من دونه آلهة}... وقوله: {لا تغن عني شفاعتهم}! حينها تعلم ما هو الشرك الذي كان يقع فيه قومه، وما هو الشرك الذي تقع فيه الأمم، فربنا سبحانه لم يجعل بينه وبين الناس شفعاء في عبادته، ولم يتخذ بينه وبينهم وسائط، بل كل هذا مما أحدثه الناس وتلعب الشيطان بهم فيه، مع ما فيه من إرهاق هذه الوسائط والشفعاء لهؤلاء العابدين، ومع ما في توحيد الله تعالى من التحرر واليسر، لكن أنى لهذا الانسان الضعيف أن يعرف ما ينفعه ويضره دون هداية الله تعالى له.

  • قوله تعالى على لسان الداعي: {إني آمنت بربكم فاسمعون}...

    الحق أني أتصور هذا القائم فيهم في لحظة غليان نفسي يحمل كل قوة الاندفاع نحو ما يؤمن به وهو ينطق هذه الكلمات، وهي كلمات قوة وشجاعة، وفيها طعن بكل آلهتهم الباطلة التي يعبدونها، ووالله إن أكثر ما يستوقفني في شخصيات القصص القرآني هو محاولة النفاذ إلى نفسياتهم لحظة حديثهم وكلامهم، فأنا ككل أبناء عصري نعيش وعشنا في فترة انقطاع عن شخصيات الإيمان وزخمها، فكانت هدايتنا عن طريق الورق المعلق، منها نستهدي، وبها نسترشد، وهذا أشد ما يعانيه أحدنا، فأين نحن من عصور زخم الرجال الذين كانوا يشرفون على الناس بسمتهم قبل كلامهم، وبآدابهم قبل علمهم؟... ذهبوا ولم يبق إلا ثمالة في قاع الكأس ربما الوصول إلى أحدهم اليوم دونه القتل أو السجن، فاللهم رحمتك، ولذلك أكثر ما أتأمله وأحاول فهمه حين أخلو مع كتاب الله أن أعرف شخصية هذا المتكلم (في القصة القرآنية)وكذا عندما أقرأ حياة الصحابة رضي الله عنهم وقصصهم فكم في ذلك من فوائد هي من العلم عندي تعادل فقه الأحكام والشريعة، وسبب ذلك أن معنى التقوى والصلاح قد غابت عن أذهاننا كصور حية تعيش وتأكل وتشرب وتغضب وترضى، وربما فسدت هذه المعاني بسبب ما دخل عليها من تشويهات أهل البدع وقصص الخرافيين.

    هذا الرجل أتصوره صارخاً بهذه الكلمات، متحدياً باطل قومه، نعم هو لم يسب آلهتهم بهذه الكلمات، لكنها والله تحمل كل معنى البراءة منها، ومضمخة بكل معنى النفور والاستعلاء عليها، بل وتحمل كل معنى التصغير لعابديها.

    فانظر إلى قوله لقومه: {آمنت بربكم}! فما أنتم إلا عبيد لله تعالى فهو الذي خلقكم وهو الذي صوركم وهو الذي يرزقكم، وهو صاحب الأمر فيكم، يحييكم ويميتكم، فأنا آمنت بربكم يا من أنتم عبيد له.

  • {فاسمعون}...

    هي والله صرخة لا تلجلج فيها ولا خفاء، ولا زمزمة ولا التواء، بل هي قذيفة حق نحو وجوههم لعلها ترجعهم عن باطلهم وغيهم.

    هي والله كلمة تحدٍ لهم، فلم يرد إخبارهم فقط، ولا إعلامهم فحسب، بل يريد أن يوجعهم بها {فاسمعون}! فإن سماع الحق لأهل الباطل موجع مؤلم ولا شك.

    وأنا كما ترى أعتقد أن خطابه هذا {إني آمنت بربكم فاسمعون} هو ضمن السياق السابق في خطابه مع قومه، ولا ضرورة لجعله التفاتاً ليكون حديثاً مع المرسلين، فإن هذا الالتفات عندي لا ضرورة له، وليس له ما يشهد له، وأما جعل كلمة {بربكم} سبباً ليكون الخطاب للرسل فليس بشيء، فإن الله رب العالمين، مؤمنهم وكافرهم، فهو الذي خلقهم وهو رازقهم وهو يحييهم وهو مميتهم، فهم مربوبون له تحت حكمه الكوني القدري شاؤوا أم أبوا.

    وبكلمته هذه تجاوز الرجل عند أتباع الشياطين حدوده، فقد صغرهم، وحقر آلهتهم، وقذف الكلمات الحرى في وجوههم فلم يشعروا إلا أنهم قتلوه، وكذا مر الحدث سريعاً لشدة الغضب، وكذا غاب الخبر وكأنه شيء لا ضرورة للحديث عنه لأنه لن يقع سواه، ولن تتصور النفوس غيره وهي تسمع هذه القصة الرائعة، فكان هذا الانتقال الجميل الرائع الممتع إلى مكان آخر ليكون فاصلاً بين مشاهد هذه الدنيا من خبر أهل قريته مع الرسل ومعه، وما حدث لهم بعد ذلك في قوله: {إن كانت إلا صيحة واحدة}، فكان أن {قيل ادخل الجنة}.

    ماذا أقول في هذه الكلمات الجوامع؟

    أأقول إن فيها دليلاً أن الجنة مخلوقة اليوم كما هو معتقد أهل السنة؟

    أأقول إن الشهيد تدخل روحه الجنة بعد موته مباشرة فهي في حواصل طير خضر تأوي إلى قناديل معلقة في العرش؟!

    أأقول فيها إن الله جعل دخول الجنة للرجل بفعله {ادخل الجنة} ليكون في دخوله نعمة التمتع وزيادة النعيم؟

    أأقول فيها إن خبر الجسم قد غاب وكأنه لا وجود له فما زال هو هو كأنه لم يتغير عليه شيء حتى لو فارقت روحه جسده؟!

    أأقول أن فيها دليلا على أن القبر حق وأن المرء منعم فيه ومعذب وليس هو رقدة لا حياة فيه الا عند البعث كما هو القول الحق لا قول أهل البدع من نفاة عذاب القبر؟!

    أأقول ماذا أمام هذه الكلمة الشريفة؟

    فيا الله أنعم علينا بما أنعمت على القتلى في سبيلك ومن أجل مرضاتك.

  • {قال يا ليت قومي يعلمون، بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين}...

    أي شفقة هذه في قلوب هؤلاء الدعاة على أقوامهم؟! {يا ليت قومي يعلمون}، وهكذا لا يتمنى أحد العودة إلى الدنيا إلا الشهداء والحال واحد ولا شك.

    ثم انظر إلى أن جعل أكبر نعم الله عليه قبل ذكر نعمة الجزاء بأن غفر الله له، وهي والله أجل النعم وأعلاها، وهي ما تذكره السحرة بعد أن آمنوا برب موسى عليه السلام حين قالوا: {إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين}.

    والمغفرة يا عباد الله هي مطالب الأنبياء والصديقين، فإن أبا بكر رضي الله عنه وهو من هو في الايمان والتقوى. يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمه دعاءً يدعو به ربه في صلاته؟ فيعلمه أن يقول: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)، والحديث في الصحيحين.

    ويجتمع ثلاثة في ظل الكعبة هم عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وعبد الله بن الزبير وأخوه مصعب رضي الله عنهم فيقولون: (ليسأل كل واحد ربه مسألة)، فيسأله عبد الله بن الزبير الخلافة، ويسأله مصعب إمارة العراقين وأن يجمع عنده سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، ويسكت عبد الله بن عمر قليلاً ثم يقول: (وأنا أسأل الله أن يغفر لي)، فينال عبد الله ابن الزبير الخلافة وينال مصعب كما سأل، ونسأل الله أن يعطينا مغفرته لما نرجو أن يصيب ابن عمر سؤاله.

    فيا عباد الله:

    تأملوا هذه الكلمات في هذاالخبر، وسرحوا فيها النظر، فوالله إن فيها من العبر ما تعجز عن ادراكه العقول والفطر، فإنها كلمات الله التي يربو فضلها على كلام الخلق كفضل الله على البشر.

    والحمد لله رب العالمين

tealscrollroses_small.gif

جمع وتنسيق النخبة للإعلام (تويتر)