JustPaste.it

كتاب: الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في الاسلام

 

مقدمة  

أولا :

 ساد التعصب الدينى معظم العالم المعروف فى القرون الوسطى . مصر كانت استثناء ، إذ قام التدين المصرى على أساسين هما: الصبر والتسامح، الصبر على جور الحاكم والتسامح مع الآخر.صحيح أنه كانت هناك بعض حركات تعصب ضد أهل الكتاب، ولكنها كانت جملة اعتراضية فى التاريخ المصرى الإسلامى، علاوة على أنها كانت فى الأغلب- بفعل عامل خارجى-، مثل حاكم متعصب أو فقيه متعصب زائر، وسرعان ما تمر الأزمة ويعود الوئام، ويعود المصرى لما تعود عليه خلال تاريخه الطويل، إلى الصبر والتسامح والتندر على الظالمين وصراعاتهم وتقلب الزمن بهم صعوداً وهبوطاً.
وهذا التسامح المصرى فى العصور الوسطى كان مبعث الدهشة للرحالة والفقهاء الزائرين، خصوصاً من أتى منهم من مناطق تموج بالتعصب، وكل منهم كان يعبر عن دهشته من انصراف العابد إلى عبادته، والماجن إلى مجونه، وكيف تمتلئ المساجد بروادها والحانات بمرتاديها، ولا ينكر هذا على ذلك، وكل منهم مشغول بما هو فيه، نقرأ هذا الكلام فيما كتبه المقريزى فى الخطط عن شيخه العلامة ابن خلدون، وفيما كتبه الفقيه المغربى ابن الحاج فى "المدخل" عن شيخه العراقى، وفيما كتبه الرحالة المغربى ابن ظهيرة فى كتابه "الفضائل الباهرة فى محاسن مصر والقاهرة". )
ولذلك فإن المصريين فى العصر المملوكى لم يستجيبوا لدعوة ابن تيمية الذى لاقى رواجاً فى الشام حيث تسود الطائفية والتعصب، بل إن المذهب الحنبلى المتشدد الذى كان عالى الصوت فى الشام والعراق اختلف وضعه فى مصر، حيث تأثر بالتسامح المصرى فترك تشدده . ومن العجيب أنه فى الوقت الذى احتدم فيه الصراع المذهبى الفقهى فى الحجاز والشام والعراق فإنه كان من السهل فى مصر أن ينتقل فقيه من مذهب إلى آخر حسب أطماعه الوظيفية. وتلك الحالة عجيبة لم نر مثيلاً لها خارج مصر فى العصور الوسطى.
ولذلك فإن التصوف كان الأقرب إلى طبيعة التدين المصرى، لذا انتشر فيها وساد منذ القرن الخامس الهجرى . فقد احتوى التصوف كل العقائد المصرية القديمة وصاغها فى أشكال تحمل رموزاً إسلامية. واشترك المصريون جميعاً من أقباط ومسلمين فى تأدية نفس الطقوس وفى نفس المناسبات، كالموالد والقبور المقدسة والاعتقاد فى الأولياء والقديسين، وقد فصلنا الحديث فى ذلك فى كتابنا "شخصية مصر بعد الفتح الإسلامى". وفى هذا الإطار كان التسامح مع الآخر، و"التسليم بحالته وطريقته" هو دستور التعامل فى مصر ، بينما كان "تغيير المنكر"بالقوة هو الدستور الآخر خارج مصر، حيث كان تغيير المنكر يتحول إلى ثورات عارمة فيما بين إيران والشام. والعجيب أن يظهر التعصب والتزمت الحنبلى فى مصر فى عصرنا الحديث ، عصر حقوق الانسان والديمقراطية والدعوة للتسامح والإخاء الدينى . والسبب هو دين الوهابية السعودية الذى ظهر فى منطقة نجد فى الجزيرة العربية.
 ثانياً: التدين فى نجد بين الماضى والحاضر:
منطقة "نجد" فى الجزيرة العربية هى نقيض مصر الثرية بمواردها، المنفتحة على العالم بموقعها، المعتدلة بمناخها، المتسامحة بشعبها . منطقة "نجد" متطرفة فى مناخها شحيحة فى مواردها منعزلة فى صحرائها لا يرى أهلها إلا أنفسهم، ولا يرون فى الأغراب إلا مجرد ضحايا للسلب والنهب حين يمرون على صحراء نجد من العراق إلى الحجاز. فى صحراء نجد القاحلة والواسعة عاش الأعراب على قطع الطريق، وكانت تأتيهم الفرصة الكبرى حين تنشأ فيهم أو تنتشر بينهم دعوة دينية تبرر وتبيح لهم القتل والسلب للآخرين على أنه جهاد. ولذلك كان استحلال الأعراب النجديين لدماء المسلمين المسالمين وأموالهم وأعراضهم فى التاريخ الاسلامى مرتبطا بثوراة نجد الدينية، تلك الثورات التى تخصصت فى التدمير وسفك الدماء. وما عدا الثورات ومشروعات الدول الدموية فإن تاريخ نجد العادى مجرد غارات داخلية فيما بينهم أو غارات سنوية عادية على قوافل الحجاج , أى مجرد غارات "علمانية" بدون شعارات دينية. ولكن تلك الغارات المعتادة استلزمت أن تسير قوافل الحجاج فى حماية جيش كامل، ويمكن التأكد من ذلك خلال الحوليات التاريخية العراقية للعصور الوسطى خصوصاً تاريخ المنتظم لابن الجوزى ت 597 هـ. ولقد تأثر ابن خلدون بتاريخهم الدموى فقرر فى مقدمته الشهيرة أن الأعراب هم أسرع الناس للخراب، وأنهم يحتاجون إلى دعوة دينية يستطيعون من خلالها استحلال الدماء والأموال والأعراض وإسباغ الشرعية على ثوراتهم واعتدائهم. ومن نجد (قرن الشيطان ) كما يقال فى بعض الأحاديث نبعت حركة مسيلمة الكذأب ، ثم كانت نجد الرحم الذى خرج منه الخوارج ثم حركة الزنج ثم بعدها القرامطة . وأخيرا الوهابية التى ظهرت فى نفس المنطقة التى ظهر فيها من قبل مسيلمة الكذاب.

ثالثا :

1 ـ قامت الدولة السعودية ثلاث مرات وسقطت مرتين . أسقطها فى المرة الأولى الوالى على مصر محمد على باشا ، وسقطت فى المرة الثانية بسبب الصراع الداخلى فى الأسرة. ثم أعاد عبد العزيز آل سعود إنشاءها . كان إسم الوهابية ممقوتا فى مصر فعمل عبدالعزيز آل سعود على نشر الوهابية فى مصر ـ بعد استيلائه على الحجاز ـ تحت مصطلح السلفية والسّنة . كانت مصر تدين قبلها بالتصوف السّنى المعتدل ، ولكن تمكن عملاء عبد العزيز من تحويل مصر خلال 80 عاما الى التدين السّنى الحنبلى التيمى (ابن تيمية ) الوهابى . كان أخطر عملاء عبد العزيز آل سعود فى مصر : ( حافظ وهبة ( المصرى مستشار عبد العزيز آل سعود )، رشيد رضا ( السورى الذى خان منهج استاذه الامام محمد عبده)، محب الدين الخطيب ( السورى صديق رشيد رضا )، وحامد الفقى، والسبكى ( شيخ الجمعية الشرعية) . بجهدهم وخلال سنوات ( 1926 : 1928 ) : تحولت الجمعية الشرعية الى الوهابية بعد ان كانت قلعة للتصوف ، وأنشا حامد الفقى ( أنصار السّنة ) لتتفرغ للدعوة عبر مجلتها ( الهدى النبوى ) ، وأنشأ رشيد رضا ( الشبان المسلمين ) جمعية حركية تربوية للشباب ، ثم إختار رشيد رضا من بين شباب ( الشبان المسلمين ) الشاب حسن البنا ليقيم جماعة الاخوان المسلمين التى تتفرغ للعمل السياسى وإقامة دولة وهابية فى مصر تكون تابعة للدولة الأم فى الجزيرة العربية والتى حملت اسم السعودية عام 1932.

2 ـ تفرغت الجمعيات السلفية الدعوية للدعوة واخترقت بقية الجمعيات كما اخترقت الازهر ، وبدأت ببطء واصرار فى تغيير التدين المصرى الصوفى المتسامح ليكون ـ وعلى مهل ـ تدينا سنيا متشددا حنبليا وهابيا . فى نفس الوقت نجح حسن البنا فى استغلال مناخ الليبرالية وسخط الشباب خلال ( 1928 : 1949 ) فى  تشكيل 50 الف شعبة فى مصر للاخوان المسلمين ، وإنشاء التنظيم الدولى للاخوان و تكوين الجيش السّرى للاغتيالات . ولم تنتبه له السلطات فى مصر إلا بعد ان نجح فى تفجير ثورة الميثاق فى اليمن عام 1948 وقتل امامها يحيى وسرق كنوزه الذهبية . بالتالى إنتبهت السلطات المصرية للاخوان ظهرت خطورتهم خصوصا بعد اغتيال النقراشى وماهر و القاضى الخازندار .

3 ـ  أخطر ما قام به الاخوان هو تسللهم للجيش وتحالفهم مع الضباط الأحرار وكونهم الشريك الشعبى لانقلاب يولية 1952 .ولأن الاخوان لا يقبلون شريكا ولا يعترفون بالمشاركة بأى حال ـ مهما نافقوا ـ فقد اختلفوا مع عبد الناصر ، فهزمهم عبد الناصر سيياسيا ، ولكنه كحاكم عسكرى أغفل الخطورة الحقيقية للأيدلوجية الوهابية فترك ايدلوجيتهم تعمل فى نشر الوهابية فى مصر ببطء تحت اسم السلفية مكتفيا بالترويج للقومية العربية بديلا سياسيا . لذا كانت الوهابية ممثلة للاسلام فى الضمير الشعبى المصرى بعد سقوط الناصرية فى هزيمة 1967 ، والتى اعتبرها الشعرواى ـ زعيم الدعاة السلفيين ـ انتقاما من مصر وعبد الناصر بسبب سياساته وتعذيبه للاخوان .

4 ـ بمجىء السادات وتحالفه مع أمريكا والسعودية والاخوان أتيح للسلفية بجناحيها الدعوى ( الجماعات السلفية ) والسياسى الحركى ( الاخوان ) السيطرة على العقلية المصرية من خلال الأزهر ، التعليم والمساجد والأوقاف و الاعلام ، بل تسللت الى الثقافة والشرطة والجيش. وانتشرت جمعيات وجماعات دعوية فى القرى والمحافظات ، وتفرع عن الاخوان تنظيمات سرية وعلنية من حزب التحرير والتكفير والهجرة الى الجماعة الاسلامية والجهاد والشوقيين والناجون من النار ..الخ . وحين اختلفوا مع السادات قتلوه .

5 ـ  وجاء مبارك خادما للسعوديين والاسرائيليين والأمريكيين .وحتى يظل فى الحكم فقد استخدم وجود الاخوان وجماعاتهم فى تخويف الغرب وامريكا والعلمانيين والأقباط ، كما استخدم جماعات السلفية فى نشر الدين الوهابى لينتج المزيد من شباب التطرف ، ووضعهم تحت سيطرة أمن الدولة ليستغلهم ضد الأقباط والعلمانيين .

6 ـ وبعد خلع مبارك انتهت سيطرة (أمن الدولة ) على جماعات السلفية فظهرت فجأة  كمارد خرج من قمقم ، وعجّل المجلس العسكرى ـ جنرالات مبارك ـ بالانتخابات النيابية ففاز فيها الاخوان والسلفيون . وهذا يوضح سهولة الاتفاق بين العقليتين المستبدتين : العسكرية والسلفية الدينية .

7ـ  ويلعب الاخوان ببراعة بالمجلس وبالثورة ، يخدعون جنرالات مبارك من خلال صفقة بينهما يخرجون بها آمنين مثقلين بالغنائم ، وبعد تحييد جنرالات مبارك ستتم إحالتهم الى الاستيداع بحكم القانون ، ومعظمهم تجاوز الستين ، وبالتالى يفقدون مراكزهم ونفوذهم ، وعندها سينتقم منهم الاخوان ويقومون بترقية رتب عليا جديدة تدين لهم بالولاء . بعد السيطرة على الجيش سيكون سهلا عليهم احتواء الثورة والثوار وإقامة دولة دينية تستنّ بسنة فرعون أشهر مستبد سياسى دينى وصل به استبداده الى الاعلان بأنه الرب الأعلى .

هذا سيناريو متوقع نرجو ألا يحدث .

8 ـ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من أروع ما جاء فى الاسلام من تشريعات ، ولكنه تحول بالوهابية الحنبلية الى رجس من عمل الشيطان يتم تطبيقه يوميا فى السعودية ، ويأمل السلفيون تطبيقه فى مصر ، وقد أعدوا له عدته مقدما باستيراد العصى الكهربائية لتأديب المصريين والمصريات . ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد بل سيشمل سلسلة من الممنوعات والمحظورات وسلسلة من محاكم التفتيش تحاكم الناس على عقائدهم وأفكارهم وأقوالهم والمباح من أعمالهم ولكن تخالف الدين الوهابى كالتدخين و الزى و التسلية والفنون بمختلف انواعها ، بل سيصل الأمر الى تحريم السياحة والدعوة الى تدمير الآثار الفرعونية لأنها فى عقيدة الوهابية السلفية أصنام وأوثان . بإيجاز مفزع سيتم القضاء على مصر حضاريا وإنسانيا تحت لواء ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) بطريقة الحنابلة السنية ( من رأى منكم منكرا فليغيره ).

9 ـ من أجل هذا نبادر بتقديم هذا الكتاب ، وقد كان بحثا موجزا لم يسبق نشره ، وأعكف الآن على التوسع فيه ليكون بحثا أصوليا تاريخيا تحليليا لموضوع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بين الاسلام والمسلمين .

وهذا هو الجزء الأول منه . وقد تم نشر أجزائه فى موقعنا أهل القرآن خلال الأشهر الأربعة الماضية .

والله جل وعلا هو المستعان  .

أحمد صبحى منصور

28 يونية 2012

 

 

مدخل : الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى لمحة قرآنية عامة

  مقدمة

1 ـ ارتبط ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) فى أذهان المسلمين باستطالة بعض القائمين بهذه الوظيفة على الناس ، وتدخلهم فى حرية الناس الدينية والشخصية فى تناقض مع دين الله جل وعلا . وليس هذا هو التناقض الوحيد ،بل هناك تناقض آخر مضحك ، فأحيانا يطلقون على هذه الوظيفة ( حسبة ) يقوم بها ( محتسب )، وحينا يقال عنهم ( مطوعة ) من التطوّع ، مع إنها ليست من التطوع والاحتساب فى شىء ، لأنها وظيفة سلطوية بأجر فى النظم التى تطبقها . بل تنفرد هذه الوظيفة بأنها تشمل سلطة الشرطة فى التحرى والاعتقال ، وسلطة القاضى فى إصدار العقوبة ، وسلطة الجلّاد فى تنفيذ الحكم . وكان تلك سلطة (المحتسب) فى العصر المملوكى ، وأعادها الوهابيون السعوديون فى عصرنا .

2 ـ وعجيب أن يتم هذا باسم الاسلام وهو دين الحرية المطلقة فى الدين عقيدة وعبادة ودعوة . ولكن من بدّلوا دين الله إستغلوا لفظ ( الأمر ) وأخذوه على أنه سلطة أمر ونهى واستعلاء واستطالة على الناس . ونسوا أن ( الأمر ) الالهى نوعان : أمر الاهى حتمى لا مردّ له ، وهو الأمر بالخلق ، لإنه إذا أراد الله جل وعلا شيئا قال له كن فيكون ، وهذا لا شأن لنا به ،بل هو يسرى علينا فى الحتميات من ميلاد وموت ورزق ومصائب . ثم هناك أمر الاهى بالتشريع ، وليس فيه إلزام الاهى للبشر ، بل هو إختبار لهم ، إن أطاعوه والتزموا به دخلوا الجنة وإن عصوه وأنكروه دخلوا النار . ويدخل ضمن الأوامر التشريعية كل العقائد والعبادات والحلال والحرام فى الاسلام ، كما يدخل فيها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذى يتناوله ويتداوله الناس فيما بينهم .

ونعطى لمحة سريعة عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى الاسلام ، ثم نتوقف مع بعض الملامح بالتفصيل .

الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى لمحة قرآنية عامة

1 :كونه من أسس دين الله جل وعلا قبل نزول القرآن : فالمؤمنون من أهل الكتاب جاء فى وصفهم : (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ )( آل عمران 114  ). والعصاة من أهل الكتاب هم من فرّط فى تحقيق هذه الفضيلة بسبب فساد قياداتهم الدينية : (وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ )(المائدة 62:63 ).

2 ـ وقبل نزول القرآن تحدث رب العزة لموسى عن الرسالة الخاتمة ورسولها وأتباعه فقال:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ ..)  ( الاعراف 157 )

3 ـ وقصّ رب العزة مصير الذين اعتدوا فى السبت ، وكيف نجا الذين نهوا عن المنكر فقط بينما عوقب العصاة والساكتون عن وعظهم : (  وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًاشَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ) ( الاعراف 163 : 165 ). ولقد حذّر رب العزة الصحابة فى بداية إقامتهم فى المدينة من هذا المصير من السلبية وترك فضيلة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فقال لهم : (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ  ) ( الأنفال 25 ).

4 ـ وأكّد رب العزة صفات المفلحين المؤمنين المبشرين بالجنة:( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ )( التوبة 112 )، أى من صفاتهم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ضمن فضائل أخرى . ولهذا فليست  الأفضلية للمؤمنين مطلقة ، بل هى مرتبطة بفضيلة الايمان والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر:(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) ( آل عمران 110 ).

5 ـ تحديد المعروف يأتى مرتبطا بالعدل والاحسان وإقامة الصلاة ، كما يأتى المنكر مرتبطا بالبغى والظلم والفحشاء ووحى الشيطان ، على النحو الآتى :

5/ 1 : يقول جل وعلا فى إيجاز (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ  ) ( النحل 90  ) . فالأمر بالمعروف يعنى المتعارف عليه من العدل والاحسان ، والمنكر المنهى عنههو المتعارف على إنكاره مثل البغى والظلم والفواحش .

والعدل هو المعاملة بالمثل : (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) ، أما الاحسان فهو فوق العدل ، أى الصفح والغفران والعطاء : ( فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ) َ، والله جل وعلا يأمر بالعدل والاحسان :(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ  ) ( الشورى 40 )

5/ 2 :المعروف مرتبط بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة :(يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ  ) ( لقمان 17 ). وإقامة الصلاة لا يعنى مجرد تأدية الصلوات الخمس بالمحافظة عليها بالتقوى ، بل الخشوع أثناء الصلاة والمحافظة عليها بين أوقات تأديتها بالابتعاد عن المعاصى والتمسك بحسن الخلق ،ولهذا فليس كل المؤمنين مفلحين ، فالمفلحون من المؤمنين هم من جاء وصفهم بالمحافظة على الصلاة والخشوع فيها فى قوله جل وعلا : (  قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )(المؤمنون 1 ـ 11 ) . وكما إن إقامة الصلاة تجعل المؤمن ملتزما بالمعروف ، فهى أيضا تنهاه عن المنكر:( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ) ( العنكبوت 45 ). وكذلك إيتاء الزكاة ، فليست مجرد إعطاء الصدقة ولكن تزكية النفس ورقيها بالقيم العليا والأخلاق الحميدة .

5 / 3 : المنكر يأتى مرتبطا بالشيطان ، ووحيه وأحاديثه ، ومن يتبعها  فهو متبع للفحشاء والمنكر ، مدمنا للظلم والفسادوالاستبداد والاستعباد و البغى والعدوان ، يقول جل وعلا يعظ المؤمنين حتى يتزكّوا بالقيم الاسلامية العليا من العدل والاحسان والعطاء : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ  ) ( النور 21 ). لذا كان قوم لوط من ضحايا الشيطان حين أدمنوا الشذوذ الجنسى ، فقال لهم لوط عليه السلام : ( أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (  العنكبوت 29 ).

6 ـ تطبيق فضيلة الأمر بالمعروف له ضوابطه كالآتى :

6/ 1 : التمكين والسيطرة حتى لا يقع المؤمنون دعاة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ضحية الاضطهاد : (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ )  (  الحج 41 ).

6 / 2 : عدم الاكراه فى الدين ، فلا يعنى التمكين الارغام والفرض والاكراه فى الدين ، بمعنى إن الذى يصمم على المنكر نتركه ولا نرغمه لأن لله جل وعلا عاقبة الأمور ، واليه جلّ وعلا مرجعنا يوم القيامة ـ فعلينا التمسك بالهداية والانتظار الى أن يحكم علينا جميعا ربنا يوم القيامة فيخبرنا بمن هو على الصواب ومن هو على الضلال : (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( المائدة 105 ).

هذا لا يعنى إنه إزالة للمنكر باليد بل هو مجرد نصح بالقول فقط ، فاذا اصر الشخص علي رأيه فهذا شأنه طالما ان الضرر لا يمتد الي الغير ، فان امتد ضرره الي الغير اصبح جانيا مستحقا للعقوبة المناسبة لذلك الجرم ، وخرج الامر من دائرة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الي دائرة العقوبات المستحقة علي جريمة ارتكبها مجرم ،والعقوبات المنصوص عليها في الاسلام تخص السرقة ،وقطع الطريق ،والقتل ،والزنا ،وسب النساء العفيفات .

 6/ 3 : والسّنة القرآنية التى طبّقها خاتم النبيين تؤكّد هذا .

قال له ربه عن اصحابه المؤمنين ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ، أي كن لينا مع اصحابك وهينا ، أو كما قال له جل وعلا فيما بعد فى المدينة وهو قائد لها : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر ) ( آل عمران 159 ) فماذا يحدث اذا عصاه اتباعه المؤمنون ؟.هل يضربهم ؟هل يحكم بكفرهم ؟ نقول الاية التالية (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ )( الشعراء 215:216 ). أي فان عصوه فليس عليه إلا ان يتبرأمن عملهم المنكر.  لم يقل فان عصوك وفعلوا منكرا فعاقبهم وقم بتغيير المنكر بيدك أو بعصاك الكهربائية . بل حتي لم يقل له فان عصوك فتبرأمنهم ، ولكن تبرأ فقط من عملهم المنكر ،وليس منهم ،أى فالتطبيق للامر بالمعروف والنهي عن المنكر هو بالنصيحة القولية فان لم تنفع فالاعراض عن العاصي المؤمن والتبرؤمن عمله فقط ، وليس منه شخصيا .

6 / 4 : إن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس وظيفة رسمية او شعبية لطائفة معينة تحتكر لنفسها دون الاخرين رسميا او شعبيا الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولكن المجتمع كله يتواصى بالحق ويتواصى بالحق وبالصبر طبقا لما جاء في سورة العصر التي تصف في ايجاز ملامح المجتمع المسلم (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) . ولذلك فان الله تعالي يهيب بالامة المسلمة كلها ان تأخذ نفسها بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول تعالي (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ  ) (آل عمران 104).

والخطاب السابق لهذه الاية والخطاب التالي بعدها جاء عاما للأمة كلها وليس قصرا علي طائفة من الامة دون الاخرين. ولنقرأ السياق  الذى جاءت فيه تلك الآية الكريمة لنتأكّد من عمومية الأمر لكل أفراد المجتمع : يقول جل وعلا يخاطب عموم المؤمنين : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) .

6/ 5 :والآية الأخيرة هنا تشير الى بنى إسرائيل في بعض عصورهم حين كانوا أمة لا تنهي عن المنكر وتستحق اللعنة علي لسان داود وعيسي ابن مريم : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوايَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )(المائدة 78 :79 ) لذا جاء وعظ المؤمنين فى القرآن بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يشير الى تجربة أهل الكتاب الذين تنكب بعضهم فى تطبيق هذه الفضيلة ، يقول جل وعلا : (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ).

واذا كان بنو ادم خطائين كلهم ،وخير الخطائين التوابون فليس منتظرا ان يحترف بعضهم النصيحة للباقين ويستنكف ان ينصحه احد ،والا كان ممن ينطبق عليه قوله تعالي لبنى اسرائيل :( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ )( البقرة 44). وقالها جل وعلا أيضا للمؤمنين يحذرهم من الاكتفاء بالقول دون عمل للصالحات : (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) ( الصّف  2 : 3)

7 ـ ثم هو فى الاسلام أمر قولي ونهى قولى باللسان فقط ،فاذا اصر الشخص علي رأيه فهذا شأنه طالما ان الضرر لا يمتد الي الغير ،فان امتد ضرره الي الغير اصبح جانيا مستحقا للعقوبة المناسبة لذلك الجرم وخرج الامر من دائرة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الي دائرة العقوبات المستحقة علي جريمة ارتكبها مجرم ، والعقوبات المنصوص عليها في الاسلام تخص السرقة ،وقطع الطريق ،والقتل ،والزنا ، وسب النساء العفيفات . وقد حدث تحوير واضافة الي هذه العقوبات عندما تدخلت السياسة وقام علي اساسها انواع مختلفة من التدين تحولت الى أديان أرضية بالتزوير والتلفيق والكذب على رب العزّة جل وعلا. ونفس الحال حدث مع قضية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد كان امرا ونهيا باللسان ثم اعراض عمن لم يلتزم تطبيقا لقوله تعالي (يا ايها الذين آمنوا عليكم انفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم ،الي الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون :المائدة 105)ثم تحول الى سلطة تتسلط على الناس وتتدخل فى حرياتهم ، بل وتقيم ثورات باسم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وتحول الي دين بشري توضع له الاحاديث والفتاوي .

ونعيش هذه البلوى الآن.

لذا ندخل فى تفصيلات أكثر عن الموضوع.

 

الباب الأول  : تأصيل مصطلحات الأمر والنهى ، والمعروف ، والمنكر قرآنيا :

الفصل الأول  تأصيل مفهوم الأمر قرآنيا :

يأتى معنى (الأمر) فى القرآن فى ثلاثة موضوعات رئيسة : بمعنى الشأن ، وبمعنى الخلق والحتميات وبمعنى الأمر التشريعى.

الأمر الحتمى :

مرتبط بالخلق والحتميات التى يخضع لها البشر ، وليسوا مساءلين عنها يوم القيامة . وفى هذا يقول رب العزّة :(بَدِيعُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (البقرة 117 )( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) ( يس 82 ).

الأمر بمعنى الشأن الخاص بالموضع المراد فى السياق:

فعن موقف المسلمين فى غزوة(أحد)  يقول جل وعلا :(وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ)(آل عمران 152)، ومنه (أولى الأمر) ،أى أصحاب الشأن المتخصصين فى الموضوع المراد. وقد جاء مرتين فى القرآن الكريم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ )(النساء 59)(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ )(النساء 83 ) .

ومنه أيضا فرض الشورى فى كل (أمور المسلمين)،أو كل شئون المسلمين:(وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ )(الشورى 38)(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ )( آل عمران 159 )

ونتوقف بالتفصيل مع الأمر التشريعى :

الأمر التشريعى

1 ـ وهو يشمل الامر والنهى معا ، ويأتى هذا بلا لفظ الأمر والنهى مثل (إتبعوا ولا تتبعوا):فى قوله جل وعلا ( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ )( الأعراف 3 ).

2 ـ  وقد يأتى الأمر والنهى معا بلفظهما كقوله جل وعلا : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ) ( النحل 90 ).

3 ـ وقد يأتى الأمر التشريعى للنبى بلا إستعمال للفظ الأمر كقوله جل وعلا :( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ )( محمد 19).

4 ـ وقد يأتى الأمر التشريعى للمؤمنين بلا إستعمال للفظ الأمر كقوله جل وعلا: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الأحزاب 40 : 43 ) .

5 ـ وقد تأتى أوامر مباشرة للناس باستعمال لفظ الأمر كقوله جل وعلا :(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا )( النساء 58)( ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ )( الطلاق 5 )

6 ـ وقد تأتى أوامر مباشرة للرسل باستعمال لفظ الأمر ويعلنها الرسول مثل (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(النمل 91 )(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ)(الزمر 11 ـ )(قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ )(الانعام 14)(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ َ)(الانعام  162 : 163 ) . أو يذكّره بها ربه : (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)(الشورى 15)

5 ـ ويأتى الأمر والنهى للرسول وقومه معا:( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا) (هود112 )  ويأتى الأمر للرسول وقومه معا (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)(طه 132) ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا )( الاعراف 145)

6 ـ الرسل والصالحون كانوا يأمرون أقوامهم وأهاليهم بالهدى والخير والصلاة، قال رب العزة عن اسماعيل :( وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ )( مريم 55 ) ، وقال جلّ وعلا عن اسحاق ويعقوب وذريتهم :( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا )(الانبياء:73) . والنبى صالح قال لقومه ثمود:(وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ)(الشعراء 151)،وقال جل وعلا عن الصالحين من بنى إسرائيل :( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا)( السجدة 24 ).

7 ـ وتنفيذ شرع الله جل وعلا وأوامر الله جل وعلا وإجتناب نواهيه متروك للبشر إختبارا لهم فى هذه الحياة الدنيا. وعلى أساس حريتهم فى الطاعة أو المعصية فى هذه الدنيا سيلقون يوم الحساب جزاءهم ، إمّا خلودا فى الجنة أو خلودا فى الجحيم .

ومن هنا نتدبر موضوع أمر الأطفال بالصلاة ، فقد كان اسماعيل يأمر أهله بالصلاة والزكاة ( مريم 55 )، وكان محمد مأمورا بذلك أيضا ( طه 132 )، وهو أمر قولى بالنصح والارشاد والتفهيم والشرح باسلوب يحبّب الطفل فى العبادة ، ويجعله يعتاد عليها ويعيش ملتزما بها شأن أى مؤمن يتقى الله جل وعلا ويلتزم بالطاعة ويصلّى خاشعا لله جل وعلا.العبادات بالذات لا مجال فيها للإكراه ، لأنها مبنية على إخلاص القلب لله جل وعلا ومسئولية كل إنسان على عمله إن صالحا وإن فاسدا . ولا يقبل الله جل وعلا الرياء فى الصلاة أو فى العبادة ، كما يعفو عمّن يتعرّض الى الاكراه ليرغموه على الكفر أو العصيان . هذا يخالف الدين السّنى القائم على الاكراه فى الدين وقتل تارك الصلاة ، وضرب الأطفال الصغار حتى يصلّوا .

 8 ـ ومن خلال الأوامر والنواهى يأتى مصطلح الأمر بالمعرو"> 2 ـ يقول جل وعلا محذرا من البداية من إتباع خطوات الشيطان فى تحريم الطعام الحلال خارج المحرمات المنصوص عليها :( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )( البقرة 168 ـ )، كما يقول أيضا محذّرا من خطوات الشيطان الذى يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ )(النور 21 ) .

3 ـ  إن العرف أو المعروف هو الخير الفطرى داخل كل إنسان ، فكل إنسان داخله ضمير يعرف به الخير والشّر ، ومهما حاول ان يبرر لنفسه العصيان والظلم ويقدم لها المعاذير والحجج بالباطل فهو فى داخله ميزان يبصر به الحق والعدل ـ لو أراد . يقول جل وعلا:(بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)(القيامة 14: 15).  ومعرفة العدل غاية فى البساطة، فما يرضاه الانسان لنفسه يرضاه لغيره ، وما يرفض حدوثه لنفسه يرفض حدوثه لغيره ، فكما لا يرضى أن يصفعه أحد على وجهه ظلما وعدوانا فيجب أن يرفض هو أن يصفع أحدا على وجهه ظلما وعدوانا . هذا هو ما ينبغى أن يكون ، وهذا هو المعروف أو العرف ، وفوقه الاحسان أو العفو عن المسىء ـ فالعدل هو جزاء السيئة بمثلها ولكن العفو والاحسان هو العفو عن المسىء ، وفى الاسلام الجانبان معا ، يقول جل وعلا :( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) ولتناقض العرف والعفو والاعراض عن الجاهلين مع شرع الشيطان وخطوات الشيطان فإنّ الله جلّ وعلا يقول فى الآية التالية :(وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ، أى الاستعاذة بالله جل وعلا من نزغ الشيطان والاستعانة على الشيطان ومكائده بربّ العزة ، وهذا هو حال المتقين ، الذين إذا حاول الشيطان التسلل الى قلوبهم تذكروا رب العزة واستعاذوا به من الشيطان فانتبهوا وأبصروا ونجوا من الوقوع فى العصيان ، يقول جل وعلا فى الآية التالية:(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) أما أخوان الشياطين فقد تحكم فيهم الشيطان وذريته فزيّن لهم الحق باطلا والباطل حقا وجعلهم يتطرّفون فى الغىّ بتشريع الغىّ وجعله ليس فقط حلالا بل فريضة مثل جهاد الارهابيين فى عصرنا ، يقول جل وعلا عن إخوان الشياطين: (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ )(الاعراف 199: 202 ).  

الأمر بالمنكر والنهى عن المعروف فى الدين الشيطانى الأرضى

1ـ البداية فى رفض ابليس السجود لآدم فلعنه الله جل وعلا وطرده من الملأ الأعلى : ( قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ )(الأعراف 12 : 13 ). إستكبر ّابليس وأعلن إنه سيضلّ ذرية آدم بكل طريق :( لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ) أى سيحرّف لهم دين الله جل وعلا بأن يوحى لأتباعه دينا أرضيا:( ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)(الأعراف  16: 17) ، وسيقرن لهم الضلال بتمنى الشفاعات ليشجعهم على العصيان وإتّباع أوامرالشيطان(وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ )( النساء 118 : 119 ).

2 ـ لذا حذّرنا رب العزة  من مكائد الشيطان حتى لا ننخدع به كما حدث لآدم وحواء فهبطا الى الأرض:(يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ). ولكن خدع الشيطان بوحيه المزيف أغلبية البشر فأصبحوا أولياءه، فإذا فعلوا فاحشة عللوها بالاقتداء بالسلف أو ما وجدوا عليه آباءهم، أو ينسبونها الى شرع الله ، كما يفعل الارهابيون فى جهادهم المزعوم حين يزعمون أن الله جل وعلا هو الذى أمرهم بهذا ، أو كما كان يفعل صوفية العصرين العباسى والمملوكى حين كانوا يقترفون الزنا والشذوذ ويجعلون الفاحشة دينا ، ولهذا يردّ عليهم مقدما رب العزة فى الآية التالية : (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ). ويوم القيامة ينقسم أبناء آدم الى فريقين :( فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ )(الاعراف 27 : 30 )

أوامر الشيطان بالمنكر

1 ـ إذن هناك أوامر الشيطان ينفّذها أولياؤه ، وقد حذّر رب العزة مقدما من طاعة أوامر الشيطان فقال لنا : (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )( البقرة 268 ) . ولكن يعصى أولياء الشيطان أوامر رب العزة ويتبعون إبليس ، ويجعلون أوامره شرعا يأمرون به الناس ، ينطبق هذا على البخلاء الذين يأمرون الناس بالبخل طاعة منهم للشيطان وولاء له،يقول جل وعلا:(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قَرِينًا)(النساء 37 : 38 ) .ويحدث هذا فى كل زمان ومكان .

2 ـ وبتأثير منافقى الصحابة شاعت النجوى والتناجى مع إن النجوى بالمعصية من الشيطان،   قال جل وعلا : ( إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ) ( أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنْ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ )(المجادلة 8 ،10). وإستثنى رب العزة منها التناجى بالأمر بالمعروف وتقديم الصدقة والسعى فى الاصلاح ابتغاء مرضاة الله جل وعلا:( لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا )(النساء 114 ).

3 ـ ومع أن التحاكم يجب ان يكون لكتاب الله فإن من الصحابة من كان يحتكم الى الطاغوت طاعة للشيطان فقال عنهم رب العزة :(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا)(النساء 60 ).  

4 ـ ولذلك تخصص منافقو المدينة فى الأمر بالمنكر والنهى عن المعروف طاعة للشيطان  : (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ) وعلى النقيض كان مؤمنو الصحابة:(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ )(التوبة 67 ، 71 ).

5 ـ ونفس الحال مع أهل الكتاب . كان منهم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر:(لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ )( آل عمران113 ـ )وبعضهم تطرّف فى الأمر بالمنكر والنهى عن المعروف الى درجة قتل الأنبياء وقتل دعاة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فتوعّدهم رب العزة هم ومن على شاكلتهم بالعذاب الأليم :( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)( أل عمران 21 ).

6 ـ  جاءتهم الكتب السماوية بالبيّنات فاختلفوا وتفرقوا وتناسوا أوامر رب العزة واتبعوا أوامر الشيطان :( وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )( البينة 4: 5). وحدث هذا مبكرا فى عهد موسى بعد أن أخذ الله جل وعلا عليهم العهد والميثاق ورفع فوقهم جبل الطور فما لبث أن عبدوا عجل أبيس الفرعونى :( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ )(البقرة 39 )، ثم تطرف بعضهم فقدسوا المسيح والأحبار والرهبان والأئمة :( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (التوبة 31). وبعد الفتح العربى دخلوا فى الاسلام وهم محمّلون بتراثهم غير المقدس فى تقديس البشر والحجر وفى طاعة الوحى الشيطانى فما لبث أن أعادوا نفس التقديس ونفس التزييف تحت غسم الاسلام وبمجرد تغيير الأسماء والأشكال مع الاختفاظ بالمضمون.

7 ـ وقبلهم أطاع قوم فرعون أوامره فسيكون رائدهم فى الدخول الى النار يوم القيامة :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ )(هود 96ـ ).  وفى لهيب الجحيم وعذاب سقر سيلوم الأتباع المستضعفون كبراءهم الذين كانوا يأمرونهم فى الدنيا بالكفر :( وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا ) (سبأ 33 ) .

8 ـ وشتّان بين الفريقين ، يقول جل وعلا عن الفائزين يوم القيامة :( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)،ويقول عن الخاسرين:( وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ )( الرعد 21 : 25 ). وصدق الله العظيم .!!

أخيرا :

1 ـ الاسلام أوامر ونواهى جاء موجزها فى الوصايا العشر . والبشر أحرار فى الالتزام بها أو فى عصيانها ، وسيحاسبون على حريتهم فى الطاعة أو المعصية. وليس الاسلام مسئولا عما يفعله البشر إن أطاعوا أو إن عصوا، هم إن أطاعوا فلأنفسهم وإن عصوا فعلى أنفسهم .ولكن التخلّف المزمن لدى بعض الناس يجعل الاسلام هو المسلمين ويحمّل الاسلام أوزار المسلمين لأن متخلفين آخرين يرون أنفسهم بتطرفهم وبارهابهم وبأديانهم الأرضية يمثّلون الاسلام .  

2 ـ والتخلّف أنواع ..وكذلك الجنون ..

ولو قمت بزيارة مستشفى المجانين ـ عزيزى القارىء ـ ستجد أقساما متنوعة للجنون ، ولكن ينسون إفتتاح أقسام لأفظع أنواع الجنون : جنون الدين ..الأرضى ..!!

تأصيل مفهوم الأمر بين التحكم والالتزام الطوعى

   أوّلا :الأمر بالمعروف أمر تشريعى لا إكراه فيه ولا تسلط

1 ـ سبق القول بأن الأمر التشريعى يأتى من الله جل وعلا لإختبار للناس ، فلهم الحرية فى الطاعة أو المعصية ، وعليهم تحمل النتيجة يوم القيامة ، فمن مات فى طاعة دخل الجنّة ، ومن مات وقد أحاطت به سيئته فقد حجز لنفسه مقعدا فى الجحيم .والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر جزء من الأوامرالالهية التشريعية،جاء معناه فى أمر مباشر من الله جل وعلا للناس:(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ )(النحل 90) ، وجاء بلفظه أمرا مباشرا للناس أن يقوموا به (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)(آل عمران 104). وبالتالى فلا مجال للتحكم والتسلّط فى تشريع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وليس لأحد من البشر أن يتخذ منه وسيلة للتسيّد وللعلو على الناس يأمرهم وينهاهم، دون أن يتعرض مثلهم لمن يأمره وينهاه .

2 ـ هنا يتضح التناقض بين شريعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى تشريع الاسلام وتشريع الشيطان ، هى فى شريعة الاسلام تواصى بالحق وتفاعل بالخير وتناصح بين الأفراد جميعا بحيث لا يعلو أحد على أحد ، وبحيث لا يتعدّى الأمر الى إكراه فى الدين وتدخل فى الحرية الشخصية وتحريم للمباح . أما فى شريعة الشيطان فهى تسلط أقلية أو نظام حكم مستبد بالأمر يأمر الناس وينهاهم ويتدخل فى حريتهم الدينية والشخصية فى نفس الوقت الذى يكمم فيه الأفواه فلا يستطيع أحد نقده ،بل لا يستطيع أن يجأر أو يجهر بالشكوى . ثم تصل الأمور الى الحضيض حين يتم ربط هذا الظلم والاستبداد بالله جل وعلا ورسوله عن طريق تحريف تشريع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ووضع أحاديث ضالة ، وإستبعاد تشريع القرآن بزعم النسخ .

ثانيا :تحريف الأمر والنهى ليصبح تحكما وتسلطا 

1 ـ بدأ (الأمر ) بسيطا بتحريف معنى (الأمر ). فبدلا من أن يكون أمرا تشريعيا كما جاء فى القرآن الكريم أصبح (أمرا سلطويا ) يصدر من (أمير ) يستبد ب( الأمر ). وتحريف معنى ( من ) فى قوله جل وعلا :(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ)، فقد جعلوا (من) تفيد ( التبعيض ) أى لتكن من بعضكم أمة تحترف وتحتكر الأمر وتأمر غيرها ولا يأمرها غيرها . وتناسوا أنّ (من ) هنا هى (البيانية) ، وتعنى هنا ولتكونوا كلكم (أمة تدعو الى الخير فيما بينها ) ويعزز ذلك أن السياق الموضعى المحلى فى الخطاب قبلها وبعدها جاء لجميع الأمة وليس لطائفة منها ؛فقد بدأ السياق فى الآيات واستمر بمخاطبة  المؤمنين جميعا كأمّة واحدة ، فقال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، الى أن يقول جل وعلا عن نفس الأمة جميعها :(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )( آل عمران : ـ 101). كما إن السياق فى القرآن كله فى نفس الموضوع يؤكد على التواصى بالحق والتواصى بالصبر،وعلى المساواة فى الحقوق والواجبات.

2 ـ ويتسق هذا مع تشريع الشورى الذى يجعل إقامة الشورى بين المسلمين جميعا بلا تميز لفرد أو طائفة ، يقول جلّ وعلا يصف مجتمع المؤمنين أو (أمة المؤمنين ) : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)(الشورى 38 )،هنا جاءت لهم أوصاف أربعة مطالب بها كل فرد، وهى الاستجابة لربهم وإقامة الصلاة والانفاق فى سبيل الله جلّ وعلا ، وتداول أمورهم بالشورى فيما بينهم ، لا فارق بين ذكر أوأنثى وغنى أوفقير بحيث لا (يعلو) أحد على أحد .

3 ـ ونفس الحال فى (إقامة القسط ) وهو عصب الدين الالهى ، وقد جعل الله جلّ وعلا من إقامة القسط مسئولية جماعية لأفراد الأمة جميعا ذكورا وإناثا وفقراء وأغنياء:(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ )(الحديد 25 )، فالكلام هنا عن الناس أى المجتمع كله ، يجب أن يتعاون كل الناس فيه فى إقامة القسط والعدل فيما بينهم فى نظام حكم يؤسس للديمقراطية المباشرة والعدل المطلق بين الأفراد ، بحيث لا ( يعلو ) فرد أو طائفة على بقية  الناس.

4 ـ ولذلك لم يأت مصطلح ( الحكم ) فى القرآن فى تعامل البشر فيما بينهم إلا بمعنى التحاكم القضائى وليس الحكم السياسى ،ولم  يتوجه الخطاب لحاكم فى دولة الاسلام بل للمؤمنين ، كقوله جلّ وعلا:(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ً)(النساء 58 )، بل ورد لفظ ( الحكام ) مرة واحدة فى إشارة للنظام المستبد الفاسد القائم على الرشوة فى قوله جل وعلا:(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة 188). ليس فى الدولة الاسلامية حاكم ، ولكن فيها أمة تحكم نفسها بنفسها حتى فى وجود نبى كان قائدا لها،وعندما مات عليه السلام تركهم بنفس الطريقة ليحكموا أنفسهم بأنفسهم ولم يعيّن لهم حاكما ، فبدأ التحريف بعد وفاة النبى محمد عليه السلام بنبذ الشورى الاسلامية (الديمقراطية المباشرة).

5 ـ وهنا نتوقف مع أولى مظاهر التحريف بتعيين أبى بكر حاكما يحمل لقب ( خليفة )، أى خليفة النبى بعد موت النبى ، متناسين أنه عليه السلام كان خاتم النبيين وبالتالى لا خليفة له. ثم تطوّر الأمر فى العصر العباسى ليصبح الخليفة ( خليفة لله ) جلّ وعلا يحكم باسمه طبق ثقافة الدولة الدينية التى تتناقض مع الدولة الاسلامية وديمقراطيتها المباشرة . لقد أعلن أبو جعفر المنصور أنه يحكم باسم الله وأنه أمين الله على مال الله وأنه خليفة الله فى أرضه ، قال فى خطبته يوم عرفة: ( أيها الناس ،إنّما أنا سلطان الله فى أرضه ، أسوسكم بتوفيقه ورشده ، وخازنه على فيئه ، أقسمه بارادته وأعطيه بإذنه ، وقد جعلنى عليه قفلا ؛ أذا شاء أن يفتحنى فتحنى لاعطائكم ، وإذا شاء أن يقفلنى عليه أقفلنى ، فارغبوا الى الله أيها الناس ، وسلوه فى هذا اليوم الشريف الذى وهب لكم فيه من فضله ..أن يوفقنى للصواب ، ويهدينى الى الرشاد ، ويلهمنى الرأفة بكم والاحسان اليكم ويفتحنى لاعطائكم وقسم أرزاقكم بالعدل إنه سميع مجيب) أى جعل الله جل وعلا واسطة بينه وبين الناس ، ولم يكتف بالعلو على الناس بل أعلا من نفسه فوق رب الناس جلّ وعلا.

إن الله جل وعلا لم يعيّن أبا جعفر المنصور خليفة ، ولم  ينزل وحيا يقول( يا أبا جعفر، إنا جعلناك سلطان الله فى أرضه وخليفته على خلقه ). أبوجعفر المنصور كاذب فى هذا الزعم ، ولقد وصل الى السلطة بالسيف والغلبة شأن من سبقه ومن خلفه . والخلافة تعنى أن تخلف ميتا أو غائبا ، ولهذا لا يقال ( خليفة الله ) لأن الله جل وعلا لا يغيب وهو معنا أينما كنا (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )( الحديد 4 )(مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)( المجادلة 7 )، وهو الحىّ الذى لا يموت (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً ) ( الفرقان58 ).

هذا الخليفة مؤسس الدولة الدينية الأول فى تاريخ المسلمين أمر بقتل رجل بسبب كلمة قالها ، ففى أحداث عام 141 إنه زار بيت المقدس بعد أداء فريضة الحج ، ثم زار مدينة الرقة ، وقتل بها منصور بن جعونة ، لأن المنصور خطب فقال : إحمدوا الله يا أهل الشام ، فقد رفع الله عنكم  بولايتنا الطاعون .! فقال منصور : الله أكرم من أن يجمعك علينا والطاعون . !

6 ـ ثم تعاظمت سلطة ( الخليفة ) بعد أبى بكر فأصبح (عمر) (أمير المؤمنين )،الذى(يأمر ) المؤمنين وينهاهم و(يعلو) عليهم ،إذ يمشى وبيده ( الدرة ) يستطيل بها على الناس ضربا. ثم تطور الأمر ليصبح حق (أمير المؤمنين) الأموى ثم العباسى والفاطمى والعثمانى فى قتل من يشاء، والسيّاف ( مسرور) يطيح بالرءوس ،و(امير المؤمنين ) فى غاية ( السّرور).

فى عام 75 هجرية وبعد قتل عبد الله بن الزبير وتوطيد الملك لعبد الملك بن مروان أدى عبد الملك الحج وزار المدينة وهى مقرّ المعارضة فخطب فيهم فقال :( أمّا بعد ، فلست بالخليفة المستضعف ( يعنى عثمان ) ولست بالخليفة المداهن ( يعنى معاوية ) ولست بالخليفة المأفون ( يعنى يزيد بن معاوية ) .زالى أن قال : ألا وإنى لا أداوى أدواء هذه الأمة إلاّ بالسيف حتى تلين لى قناتكم ..فلن تزدادوا إلا عقوبة حتى يحكم السيف بيننا وبينكم . ..والله لا يأمرنى أحد بتقوى الله بعد مقامى هذا إلا ضربت عنقه ). فى ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) كان بعضهم وقتها يعظ الخليفة يقول له ( أتّق الله ) ، ليشعر الخليفة بالحرج حتى لا ينطبق عليه  قوله جل وعلا:( وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ )(البقرة 206)، فجاء عبد الملك الى المدينة التى شهدت نزول هذه الآية لينذر بقتل من يجرؤ على مواجهته بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر قائلا له : إتّق الله. بعدها أطلق عبد الملك يد الحجّاج بن يوسف فى قتل الناس كيف شاء ، وتولى الوليد بن عبد الملك فاتّسع نطاق القتل ليشمل من يتلفّظ بكلمة تأمر الخليفة أو الوالى بالمعروف . ولقد خطب الوليد بن عبد الملك فأطال فى خطبته فاعترض عليه رجل فقال له الخليفة : إن من قال مقالتك لا ينبغى أن يقوم من مقامه . وفهم الحرس مقصد الوليد فبادروا فقتلوا الرجل . ولما تولى الوليد بن عبد الملك قدم المدينة فدخل المسجد فرأى شيخا قد اجتمع الناسعليه فقال : من هذا؟ فقالوا : سعيد بن المسيب . فلما جلس أرسل إلى سعيد أن يأتى اليه ، فجاء رسول الخليفة الى سعيد فقال : أجبأمير المؤمنين.  فقال له سعيد : لعلك أخطأت باسمي أو لعله أرسلك إلى غيري؟ فرجع الرسول الى الخليفة الوليد فأخبره فغضب الوليد وهم أن يأمر بقتل سعيد بن المسيب .يقول الراوى ـ كما جاء فى ( الطبقات الكبرى) لابن سعد : (  وفي الناس يومئذ بقية ) أى كان وقتها بقية من الفضلاء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بلين وترفق ، يقول الراوى : ( فأقبل عليه جلساؤه فقالوا يا أميرالمؤمنين، فقيه أهل المدينة وشيخ قريش وصديق أبيك لم يطمع ملك قبلك أن يأتيه.!! قال فمازالوا به حتى أضرب عنه). أى ترجوا الخليفة حتى أمسك عن قتل سعيد بن المسيب أشهر وأعظم علماء المدينة فى القرن الأول الهجرى . وكل الذنب الذى فعله سعيد هو أنه رفض أن يسعى لمقابلة الخليفة الوليد ، ولقد كان سعيد بن المسيب صديقا من قبل لأب هذا الخليفة ورفيقا له فى طلب العلم ، فلما تولى عبد الملك الخلافة أمر بضرب رفيقه القديم ليخيف الآخرين من أهل المدينة ، ثم جاء إبنه الوليد يهمّ بقتل سعيد لأن سعيد قد ترفّع عن السعى للتملق للخليفة شأن الآخرين ،مع أن سعيد كان مشهورا بالعزلة واعتزال السياسة ولكن كان المفروض هو تذلل سعيد لأولئك الذين يريدون علوا فى الأرض وفسادا .

هم جميعا نسوا اليوم الآخر فى سبيل (العلو) فى الأرض،واستهانوا بقوله جل وعلا:(تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(القصص 83)

ثالثا : تحريف ( المعروف ) بعد تحريف الأمر

7 ـ وطالما إحتكر ( الأمر ) ( أمير ) فلا بد أن يزوّر مسوّغا تشريعيا يستبيح به لنفسه أن يستبد بأمور الناس وأن يأكل أموالهم . وتوالت التحريفات والتأويلات ، ووضع الأحاديث وتأليف الأقاصيص ، ومنها فيما يخصّ موضوعنا تحريف وتأويل معنى المعروف والمنكر ، فلم يعد ( المعروف) هو المتعارف على أنه خير وعدل ، ولم يعد (المنكر) هو الذى يستنكره الناس من الظلم والفواحش . أصبح تحديد المعروف والمنكر فى خدمة إستبداد الحاكم والطامح للوصول الى السلطة، فغاب العدل فى التطبيق ليصبح شعارا لخداع الناس وارتبط ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر) بحق المستبد فى فرض سلطته باسم الاسلام كما يحدث لدى الوهابيين عندما يستحوذون على السلطة أو يقتربون منها .

وتناسى الجميع مفهوم المعروف القيمى الأخلاقى والتشريعى ، بل تناسوا آيات القرآن فى موضوع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لأنها لا تلبى عطشهم للتسلّط والتحكم، وفضّلوا عليها الحديث الذى إخترعوه مسوغا حركيا للتسلط والاكراه فى الدين،وهو ( من رأى منكم من"RTL"> 1 ـ بالاستبداد يتحول الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الى تسلط جهاز الحكم على الناس يخضعهم ويقهرهم ويتدخل فى حرياتهم الشخصية والدينية . والأصل أن الأمر بالمعروف لا يمكن تطبيقه إسلاميا وقرآنيا إلا فى ظل دولة إسلامية حقيقية ، أى دولة مؤسسة على الشورى أو الديمقراطية المباشرة والمساواة بين الناس ، وتفاعل الناس جميعا فى إقامة القسط وفى حضور مجالس الشورى ، وبالتالى يدخل فى تفاعلهم التواصى بالحق والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وحلّ الخلافات سلميا بالتفاهم وبالعدل .

وطالما تتساوى الرءوس ولا يعلو أحد على أحد وطالما يقام العدل والقسط وتتاح الحرية الدينية المطلقة فى الدين وتتاح الحرية المطلقة فى المعارضة السياسية السلمية وحرية الرأى والفكر فلا مجال حينئذ لتفاقم النزاع والاختلاف . ينشأ الخلاف والشقاق عندما يتحكم فرد أو مجموعة فى بقية المجتمع فلا بد أن يعارضه بعض الناس ، فيقابل المستبد هذه المعارضة بالقهرليمنعها القهر من الظهور، ولكن لا يلبث أن تظهر وتتطوّر وقد تستعرّ حربا مسلحة.

2 ـ والمستبد لكى يحمى نفسه مقدما لا يقتصر فقط على إرهاب الناس وتخويفهم بالتعذيب ولكن يوجّه سياسته نحو تقسيم الأمة دينيا ومذهبيا وعنصريا ، ويستأسد بكل قوته على الطائفة الضعيفة ويجعلها عدوة للأكثرية من المجتمع ،ممّا يتيح له إستعداء وتسليط معظم الشعب على أولئك الضعاف،   فيحتاج الجانب الضعيف للاستنجاد بالمستبد ليحميه، ويحتاج اليه الجانب المعتدى لينجو من العقوبة ، وبهذا يشغلهم المستبد بالفتن فيما بينهم،فيعيشون فى رعب ويعيش هو فى أمن متسيدا عليهم جميعا. فرعون استعمل هذه السياسة وعلا بها فى الأرض:(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ )(القصص 4) . وإتّبع المخلوع حسنى مبارك هذه السياسة ، فاضطهد الأقباط والشيعة والبهائيين والقرآنيين ، وسلّط عليهم المتطرفين ، كما سلّط عليهم أجهزته الأمنية والإعلامية والقضائية.

هنا تتحوّل هذه الأقليات الى منكر يجب إزالته أوطرده لو أمكن . وقد تعرض لهذا أهل القرآن والبهائيون وبعض الأقباط . المتطرفون يجعلون المعروف فى إقصاء الآخر المختلف معهم . ويتحدون مع المستبد ضد هذا الآخر ليكتسبوا نفوذا يريدون تطويره،بينما يستخدمهم المستبد فى إرهاب الأقليات وشغلهم عنه مؤقتا بهذه الإجرام . وفى كل هذا يصبح المنكر معروفا والمعروف منكرا بالتطبيق دون حاجة الى تقعيد .

ثانيا : صلة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بوحدة الأمة وعدم تفرقها

1 ـ نتكلم هنا عن الاسلام وفريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فيه ودورها فى منع تفرق الأمة فى دولة الاسلام المدنية الحقوقية الديمقراطية الشورية .

2 ـ يلفت النظر أن الآية (103) من سورة (آل عمران ) تأمر المؤمنين بالاعتصام بحبل الله جميعا وتنهاهم عن التفرق :(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً(103)، بعدها جاءت آية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر:( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104) ثم بعدها جاء أيضا النهى عن التفرق والاختلاف :(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105). أى إن فريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى الاسلام محاطة بالأمر بالاعتصام بحبل الله والنهى عن عدم التفرق ،أى إن الأمر بالمعروف يبدأ بالأمر بالاعتصام بحبل الله جميعا ، وأن النهى عن المنكر يبدأ بالنهى عن التفرق والاختلاف .

3 ـ والسؤال هنا عن موضوع الاعتصام بحبل الله المأمور به ، وموضوع التفرق والاختلاف المنهى عنه؛ هل هو الاتفاق فى العقيدة أى فى (الاسلام) بمعناه العقيدى القلبى (لا إله إلا الله ) أم هو (الاسلام) بمعناه السلوكى الظاهرى وهو السلام ؟ هل هو (الايمان القلبى) بالله وحده لا شريك له أم هو (الايمان )السلوكى بمعنى الأمن والأمان للجميع ؟ هل هو فرض عقيدة ( لا اله إلا الله) على الجميع ؟أم هو (لا إكراه فى الدين)وترك الحكم فى الخلاف فى (الدين) الى الله جل وعلا (يوم الدين ) ليحكم جل وعلا بين الناس فيما هم فيه مختلفون؟، وأن نعيش فى هذه الدنيا مسالمين وأخوة متعاونين ؟.

4 ـ قلنا كثيرا إنّ معنى الاسلام الظاهرى السلوكى هو السلام والمسالمة ، وأى فرد مسالم فهو مسلم بغض النظر عن عقيدته . و لنا ان نحكم عليه لأنه سلوك ظاهر مرئى .أما الاسلام القلبى بمعنى الانقياد واسلام الوجه والجوارح لله جل وعلا وحده فمرجعه الى جل وعلا يحكم فيه بين البشر فيما هم فيه مختلفون ، حيث سيكون الفائز يوم القيامة هو من يجمع بين الاسلام الظاهرى والاسلام الباطنى . وللإيمان نفس المعنيين : إيمان ظاهرى بمعنى أن تكون مأمون الجانب ، وإيمان قلبى بالله جل وعلا وحده لا شريك له كما نصّت عليه آية ( أمن الرسول ) فى  سورة البقرة.والمؤمن الفائز هو من يجمع بين الايمان الظاهرى والايمان القلبى .ولنا الحكم على الظاهر وهو السلوك  المسالم الآمن المأمون .

وقلنا إن الشرك والكفر مترادفان:(التوبة 1 : 3 ، 17)(الزمر1 : 3)(غافر 42).وأنهما معا ينقسمان الى:كفر أوشرك سلوكى بالعدوان:(التوبة:10،12،13)(البقرة 190، 286)(الحج 38 : 40) ولأنه كفر بالسلوك فلو تخلى عن العدوان سقط عنه الاتهام بالكفر:(الأنفال  38 : 39)(البقرة 192 ، 193 )(التوبة 5 ،11 )(الممتحنة 2 ، 9). ثم :شرك أوكفر فى العقيدة:قد يكون صاحبه مسالما لا يعتدى فيجب التعامل معه بالبر والقسط (الممتحنة 8 ). وقد يجتمع الكفر أو الشرك العقيدى بالسلوكى ، وهو الذى ساد فى قريش حين اضطهدت المسلمين واخرجتهم من ديارهم، تكذيبا بالقرآن:( الممتنحنة 1 ). وعلى سنتهم يسير الوهابيون .  

5 ـ وأسّس خاتم المرسلين عليهم جميعا السلام فى المدينة دولة إسلامية تسير بالعدل والقسط والمساواة والشورى والتفاعل فى الخير . وفى الدولة الاسلامية فإن كل الأفراد مؤمنون طبقا للإيمان الظاهرى،وهم مسلمون مسالمون بالاسلام السلوكى الظاهرى ، وهم جميعا مأمورون بالتمسك بالسلام الظاهرى السلوكى:(يَاأَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) (البقرة 208)، أى أنهم مأمورون بالاعتصام بحبل الله الذى هو السلام والقسط وعدم الاكراه فى الدين.  وتحيتهم فى الدنيا (السلام عليكم) وفى الآخرة لو دخلوا الجنة تحيتهم فيها سلام :(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ  دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)( يونس 9 : 10) .

6 ـ أى إن قوله جل وعلا:(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) مقصود به الاسلام الظاهرى أى إلتزام السلام بين أفراد المجتمع ـ أو المواطنين فى داخل الدولة ، بدليل أن بقية الآية تتكلم عن سلوك عدوانى ظاهرى كان موجودا قبل ذلك فانمحى، فقد كانوا من قبل أعداء متشاكسين فأصبحوا داخل دولة الاسلام أخوة متآلفين :(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً(103).

7 ـ أما الاسلام القلبى أو الهداية للحق فليس من مسئولية الدولة إدخال الناس الى الجنة ، فهى مسئولية فردية ، فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فعلى نفسه . إن مسئولية الدولة هى توفير الأمن والسلام والعدل والحرية للأفراد ، ثم كل منهم يكون مسئولا أمام الله جل وعلا يوم الدين عن إختياره الدينى والعقيدى فى الايمان القلبى أو الكفر القلبى والعبادات . والى أن يأتى يوم القيامة فأمامهم متسع فى هذه الحياة الدنيا ليعيشوا فى سلام مع إختلاف عقائدهم .

 8 ـ والحرية فى الدين هى التى تضمن هذا السلام . ومن حرية الدين حرية الدعوة الى الحق أو الى الباطل ، وحرية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وحرية الأمر بالمنكر والنهى عن المعروف . وقد تنافس المؤمنون والمنافقون فى دولة الاسلام فى المدينة فى هذا المجال ، فكان المنافقون والمنافقات يوالى  بعضهم بعضا فى الأمر بالمنكر والنهى عن المعروف، وكان المؤمنون والمؤمنات يوالى بعضهم بعضا فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ  وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ) ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ  وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) َ(التوبة 67 ـ ، 71 ـ ). وكفلت دولة الاسلام للمنافقين الحدّ الأقصى من حرية الدين والمعتقد وحرية المعارضة بالقول والحركة حتى حرية التآمر وحرية التقاضى خارج نطاق الدولة . كل ذلك مسموح به طالما يدور فى إطار العمل السلمى بلا لجوء الى السلاح . ولهذا لم تحدث حركات تمرد داخل دولة الاسلام فى عهد خاتم النبيين . كان الاختلاف الدينى والسياسى قائما ومحتدما ، ولكن جرى ترشيده بالحرية المطلقة فى الدين وفى العبادة وفى المعارضة السياسية ، وبالتزام العدل والاحسان .

9 ـ فى هذا الجو أثمرت دعوة المؤمنين للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وفشلت دعوة المنافقين للأمر بالمنكر والنهى عن المعروف . وهى حقيقة لا جدال فيها : أن الحق يفوز فى وجود الحرية الدينية ولا يحتاج إلّا إلى مجرد التعريف به ، ومجرد التعريف به ينعش العقل ويحفزه للتفكير . أمّا الباطل فهو محتاج الى سلطة تجبر الناس على الايمان به ، وتخيفهم من نقده ومناقشته . ولذلك فقد انتشرت دعوة الاسلام بالقرآن فقط خارج المدينة ، واستطاع القرآن بحجته القوية إقناع العرب بعبثية تقديس الموتى والأصنام والأنصاب فدخلوا فى دين الله أفواجا ، حتى إضطروا قريش والأمويين الى الدخول فى الاسلام حتى لا تسبقهم الأحداث وتتجاوزهم.

10 ـ ومع هذا فلقد تلاشت بالتدريج دولة الاسلام بفعل السياسة . بدأ الأمر ببيعة السقيفة وتعيين حاكم يعلو على الناس يبايعه الناس على السمع والطاعة المطلقة ، ثم دخل الصحابة فى الفتوحات والفتنة الكبرى فتأكّد التناقض بنهم وبين الاسلام ، وتلاشت معالم الشورى والديمقراطية لتتحول الى حكم وراثى استبدادى عسكرى قبلى ( نسبة للقبيلة ) فى الدولة الأموية ، ثم تحولت الى دولة دينية كهنوتية فى الخلافة العباسية. وعلى هامش ذلك كله انتشرت النزاعات والانشقاقات وقامت الأحزاب سياسية فى البداية ، ثم تحولت الى تعزيز موقفها دينيا فتولدت ـ مبكرا ـ أديان أرضية للمسلمين ، وحدث ما حذّر ب العزة منه ، وهو التفرّق فى الدين بعد الصراع الحربى السياسى . لقد قال رب العزة فى الوصية الأخيرة من الوصايا العشر : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)( الأنعام 153 ). أى أمر بالتمسك بالقرآن وحده ونهى عن إتباع الأحاديث لأنها تقوم على التفرق والاختلاف والمذاهب ..وهذا ما حدث فعلا ( شفويا ) فى الفتنة الكبرى والعصر الأموى ، ثم تمت كتابته فى العصرين العباسى والمملوكى حيث ظلّوا يؤلفون الأحاديث وينسبونها للنبى بعد موته بقرون. وقد أعلن رب العزة مقدما براءة خاتم النبيين من هؤلاء الذين سيصنعون أحاديث ينسبونها لخاتم النبيين بعد موته وتجعلهم تلك الأحاديث المصنوعة يختلفون فى دينهم ، فقال جل وعلا فى نفس سورة الأنعام المكية:( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)( الأنعام 159)، وقال جل وعلا أيضا للمؤمنين فى سورة مكية أخرى :( وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )( الروم 30 : 32 ). أى إن الاختلافات السياسية الناتجة عن الاستبداد والفساد تتحول الى أحزاب متصارعة وطوائف متحاربة ، وينتهى بهم الاختلاف السياسى الى كفر وتفرق فى الدين . وهذا هو موجز تاريخ المسلمين . فلا عجب حينئذ تحول الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الى سوط عذاب يتسلط به الظالمون على ظهور الناس.!!

أخيرا

الظالمون نوعان : نوع إيجابى يمارس الظلم أو يؤيد الظالم ويقنّن له الظلم ، ونوع سلبى هو ذلك المظلوم الذى يركع للظالم مستكينا خاضعا فيشجّع الظالم على أن يركبه وأن يعذّبه..

لو إنتفض المظلوم لكرامته إنتهى الظلم . هذا المظلوم الظالم لنفسه هو السبب الأساس فى قيام الظلم واستمرار الظلم . هذا الشعب السّاكت عن الحق الراضى بالظلم العاجز عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو الذى يخلق من داخله فرعونا . وبعونه جل وعلا سننشر حلقات عن (صناعة الفرعون ) بعد هذا الكتاب ، فمصر والمنطقة العربية تتأهب الآن لصناعة فرعون وهابى بعد خيبة الربيع العربى .!!!

 

 

الباب الأول ـ  الفصل الثانى : تأصيل مفهوم المنكر

1 ـ ( المنكر ) نقيض المعروف ، فما يتعارف الناس عليه على أنه خير وعدل هو (المعروف ) وبالتالى فإن ما تنكره الفطرة الانسانية ـ فى حالة صفائها ـ يكون هو المنكر. ولكن يختلف المعروف أو العرف عن المنكر فى أن مفهوم المعروف والمنكر ثابت فى الأغلب لا يتعدد بينما تتعدد وتتداخل مفاهيم المنكر حسب إشتقاقاته .

2 ـ وإشتقاقات ( المنكر ) تتنوع حسب السياق ، ومنها التعبير عن مشاعر متطرفة من الخوف والاستغراب والاستنكار والاستفظاع والاستقباح ..الخ :

2/ 1 : الاستغراب الممزوج بالخوف : يقول جل وعلا :( وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ )( هود 69 : 70 ). جاءت الملائكة لزيارة ابراهيم متجسدة فى شكل بشر فأسرع يقدم لهم عجلا مشويا ، فلما رآهم لا يأكلون إستغرب وخاف منهم ، أو بالتعبير القرآنى ( فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً  )

وبنفس المعنى جاء قوله جل وعلا فى نفس القصّة :( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ )( الذاريات 24 : 25 ). وتكرر الموقف عندما رآهم لوط  :( فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ )( الحجر 61 : 62 )

2/ 2 : :الاستفظاع ، ويأتى هذا فى وصف الاهلاك والتعذيب الذى يصعب التعبير عنه باللسان العادى ، يقول جل وعلا عن إهلاك الأمم السابقة الظالمة:( وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا)( الطلاق 8 ) وفى وصف عذاب الآخرة :( قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا)(الكهف 87 )، وفى وصف هول يوم البعث:( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ )( القمر 6 ). ويلاحظ هنا إستعمال صيغة المبالغة ، فلم يقل ( عذابا منكرا )أو ( شىء منكر) بل قال ( نكر ).

2/ 3 : ونفس الإشتقاق ( نكر ) يفيد أيضا الاستنكار والاحتجاج والتنديد، فموسى عندما رأى الرجل الصالح يقتل الفتى صاح مستنكرا : ( قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا )( الكهف 74 ). (شَيْئًا نُّكْرًا ) أى جريمة نكراء .! والاستعمال هنا أيضا بصيغة المبالغة التى تعكس التنديد والاستنكار الشديد .

2/ 4 :الاستقباح، مثل قوله لقمان لابنه وهو يعظه:( وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)( لقمان 19 ). وهذا بالطبع رأى لقمان ، وقد إستعمل صيغة (أفعل التفضيل ) للتعبير عن المبالغة فقال عن صوت الحمير:( أنكر الأصوات ). ولو سمع بعض مطربى عصرنا ربما كان سيغيّر رأيه ويمتدح صوت الحمير .!

3 ـ ومن إشتقاقات المنكر ما يأتى تعبيرا عن تغيير الشىء المتعارف عليه كقول سليمان عن عرش ملكة سبأ:( قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا )(النمل 41 )، أى تغيير شكله ، ومنه ( التنكر ) أى تغيير الملامح .

4 ـ ويأتى بنقيض المعرفة العادية ، فلو رأيت صديقك متنكرا فلن تعرفه بينما هو يعرفك ، وكان هذا حال إخوة يوسف حين دخلوا عليه وهو عزيز مصر ، ولم يخطر ببالهم إنه أخوهم يوسف ، بينما كان يوسف يعرفهم،يقول جل وعلا:( وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ )( يوسف 58 ).

5 ـ وفى مجال العقيدة والايمان تتعدد استعمالات واشتقاقات ( المنكر ) ليفصح عن مراد العقائد المتناقضة .

5/ 1 : فالكافرون يكذّبون بالحق ، أو ينكرون الحق ،أى يرونه منكرا:

5/ 1/ 1 : فهم ينكرون القرآن الكريم وهو الحق:(وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ) (الانبياء 50 )، بل يعلو الاستنكار على وجوههم حين يتلى عليهم القرآن الكريم : ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا)(  الحج 72 )، ويقول جل وعلا عن نعمة القرآن الكريم وإنكارهم لها :( فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ )( النحل 82 : 83 )  

5/ 1 / 2 : وعن إنكارهم لآيات الله جل وعلا :(وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ)(غافر81 )

5 / 1 / 3 : وهم ينكرون الرسل ويكذبونهم ، حدث هذا من قريش :(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ )( المؤمنون 69 )

5/ 1/ 4 : وفى النهاية هم ينكرون الله الواحد جل وعلا :(إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ)(النحل 22 ).

5/ 1/ 5 : وقد يقترن إنكارهم لله جل وعلا الواحد بإنكارهم القرآن الكريم : ( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ )( الرعد 36 )

5/ 2 : وفى المقابل فهناك إنكار الاهى على المؤمنين حين يقول بعضهم منكرا من القول وزورا ، مثل الظهار : ( الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ الَّلائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ )( المجادلة 2 )

أخيرا

1 ـ  ليس كل إشتقاقات المنكر السابقة داخلة فى التحريم . أى ليس كل منكر محرما . هناك المحرم الذى هو من الكبائر مثل القتل ، وهناك المنكر الواقع فى دائرة الكفر مثل الذى (ينكر ) القرآن وأنه لا اله إلاّ الله . وهناك منكر من أكبر الكبائر كالبغى والظلم وقتل المستبد لأحرار الشعب وسرقة المستبد لأموال شعبه وتهريبها الى الخارج ، ومجهودات كاهنة الفلول فايزة أبو النجا بطلة فضيحة التمويل الأجنبى التى تكاسلت عن مهمتها فى إسترداد بلايين الدولارات التى نهبها أسيادها فى نظام المخلوع مبارك وقاموا بتهريبها الى الخارج  ، ولكنها فى نفس الوقت إستأسدت فى وجه تمويل شرعى قليل يأتى من الخارج ليساعد المصريين المناضلين على نجاحهم فى التخلص من الفساد والاستبداد. ومن المنكر المحرّم والذى هو من أكبر الكبائر إستخدام السلفيين والاخوان المسلمين الوهابيين لاسم الاسلام العظيم فى الوصول للحكم .

ولكن هناك منكرا لا يدخل فى دائرة الحلال والحرام مثل صوت الحمار وأصوات مطربى عصرنا البائس . وهناك منكر ( نص نص ) مثل جهل السلفيين فى السياسة وأكاذيبهم المضحكة . أما ( المنكر ) خفيف الظّل فهو تصريحات المشير طنطاوى ومجلسه العسكرى .

2 ـ ونتأهب لبحث المنكر بين الحلال والحرام والبغى والفواحش .

تأصيل المنكر بين الحلال والحرام والفحشاء والمكروه

 

 

المنكر والحرام والحلال

1 ـ تخيّل إنك رأيت شخصا يأكل الدود أو الحشرات أو الكلاب أو الحمير ، فستتأفف منه ، وهذا (لا غبار عليه) ولا عليك.  ستستنكر وتحتجّ بأن ما يفعله منكر . هنا يكون (الغبار عليك) . ليس من حقك أن تحتج عليه أو أن تتصور عمله منكرا منهيا عنه . فهو يأكل ممّا أحلّ الله جل وعلا ، أو بالتعبير القرآنى من (الطيبات ) ، فالطيبات هى الطعام الحلال الذى هو مذكور إسم الله عليه بالحلّ . أما الحرام فى الطعام فهو الخبائث ، وهو إستثناء محدد :( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )(البقرة  173)، وتكرر تحديدها ، ثم نزل شرحها:(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) (المائدة 3 ). وخارج هذه المحرمات المحددة فهو حلال وطيّب. وقد منع رب العزة تحريمه، واعتبر تحريمه إعتداءا على حق الله جل وعلا فى التشريع: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(المائدة 87 )(فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ )( النحل 114 : 116 )(قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ )(يونس 59 ـ) .

2 ـ إنّ لكل مجتمع عاداته فى الطعام ، وله ما يشتهيه وما يستقذره . وهناك شعوب تأكل الضفادع والكلاب والحمير والدود وانواعا من الحشرات ، وهناك شعوب تستفظع ما نأكله.هذا كله ( لاغبار عليه ). يهطل (الغبار علينا) حين نصدر قرارا بتحريم ما لا نستسيغ أكله . تحريم ما أحلّ الله جل وعلا من أكبر الكبائر لأنه إعتداء على حق الله جل وعلا فى التشريع .بالتالى ليس لك أن تنكر ما يأكله غيرك من الطيبات . أمّا إن أكل لحم الخنزير أو إمتصّ دم حيوان حى أو أكل من حيوان ميت أو من طعام مقدم لوثن أو ضريح فهنا هو ( لا غبار ) من الانكار عليه. والخلاصة أنه لا إنكار على من يفعل المباح الذى لا يتعدى ولا يبغى على حقوق الآخرين .

3 ـ إن التحريم الالهى فى الطعام وفى الفواحش ليس أساسه الضرر. قد يكون الزنا بالتراضى بين ذكر وأنثى مع استعمال موانع الحمل ، وبالتالى لا ضرر هنا . ولا ضرر محققا حتى الآن من أكل الطعام المحرم . بل يوجد من الطعام الحلال ما هو ضار بالصحة . ولم يأت مثلا تحريم المخدرات وهى الأشد ضررا بينما جاء تحريم الخمر ، وهى أخف ضررا من المخدرات المدمرة للجسد والعقل والمجتمع . التحريم الالهى فى الطعام والعلاقات الجنسية خارج الزواج أساسه هو الاختبار فى الطاعة وليس الضرر. وبدأ هذا فى إختبار آدم وحواء بتحريم شجرة واحدة من الجنة مع إباحة الأكل من كل الأشجار غيرها . ورسب الاثنان فى الاختبار ، ثم تابا . وقبلهما كان الاختبار للملائكة بالسجود لآدم ، ليس تقديسا لآدم وإنما هو الطاعة للآمر الخالق جل وعلا. ونجح الملائكة ما عدا ابليس الذى ابى واستكبر فلعنه الله جل وعلا وطرده .ونزلت الرسالات السماوية على بنى آدم فيها تحريم لأشياء محددة فى الطعام وتحريم مطلق للفواحش والظلم، مع حريتهم فى الطاعة أو العصيان إختبارا لهم . وأسهل طريق للعصيان وأفظعه أيضا أن تحرّم الحلال وأن تستحل الحرام ، فبذلك تعتدى على حق ربك فى التشريع . والشيطان ـ الذى خدع أبوينا من قبل ـ يمارس معنا نفس الخداع ، فيجعل بعض الفقهاء يستعمل القياس فى التحريم ، فيبحث عن علّة فى تحريم الطعام ويقول إنه الضرر ، ثم يقيس على ذلك بأن كل ما يضر فحرام أكله، فيضيف محرمات هى من الطعام الحلال الذى منع رب العزة تحريمه. والسائد فى الدين السّنى بالذات هوالاعتداء على حق الله جل وعلا فى التشريع باستحلال الحرام ( كقتل المرتد والزانى المحصن وتارك الصلاة ) وتحريم الحلال ( فى الطعام ) . ولكن من خلال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يمكن التعامل مع ما فيه ضرر، وفى دولة اسلامية حقيقية فإن من حقها حظر ومنع ما فيه ضرر وما هو منكر ،وهنا يكون تشريع فيما يأذن به الله جلّ وعلا طالما لا يستعمل مصطلح الحرام والحلال . أما البغى والظلم والاعتداء فكله محرم ، وعلة التحريم فيه واضحة . وكله منكر يستحق أن نتوقف معه .

المنكر والبغى :

1 ـ تخيل شخصا يدخّن بعيدا على الناس . لا يصحّ لك أن تنكر عليه ، فالتدخين ليس حراما ، ولقد كتبنا فى هذا أبحاثا منشورة، وليس لنا أن نحرّم الحلال المباح ، ثم إنّ هذا المدخّن لم يبغ ولم يعتد على أحد بتدخينه بعيدا عن الناس. ومن حق السلطة المنتخبة انتخابا نزيها وتعبر عن رأى الشعب أن تصدر قوانين للتنظيم وللحماية ، تمنع وتجيز بدون إستعمال مصطلح الحرام والحلال لأنها حق الله وحده .لهذه السلطة أن تمنع التدخين فى وسائل المواصلات وفى المؤسسات والأماكن العامة، ولها أن تضع عقوبة مالية على من لا يلتزم . ولك أن تنكر على من يدخن ويؤذى الناس بتدخينه . ولكن ليس لك أن تنكر على من يدخّن بعيدا عن الناس . وهكذا فى سائر الحريات الشخصية فى المرور وقيادة السيارات وأحوال البناء والسكن والاسكان ..

2 ـ المقياس هنا هو مقدار ( البغى ) . فالبغى كله حرام ومنكر. ولكن فى التعامل بين الناس هناك فرق بين بغى قليل كمن يرفع صوت الراديو أو بوق السيارة فيؤذى الناس ، ومن يهجم على الناس معتديا بسلاح . وهنا مجال الانكار مفتوح لأننا فى مجال محرم كله وهو البغى . وقد أنزل الله جل وعلا عقوبة فى الدنيا لبعض أنواع هذا البغى على الناس ، مثل عقوبات القتل والجروح والسرقة والقذف وقطع الطريق ( أو الارهاب بتعبير عصرنا ). وهذه العقوبات لا تمنع الانكار على الباغى أيضا .

3 ـ وأفظع البغى عقوبته مؤجلة الى يوم القيامة ، وهو البغى على الله جل وعلا بإتخاذ آلهة وأولياء معه وبالاعتداء على حقه فى التشريع ، وبالكذب عليه فى الوحى وتأسيس دين أرضى يرتكب المحرمات ثم ينسب هذا التشريع لله جل وعلا ظلما وعدونا كما كانت تفعل قريش قبل ثم بعد نزول القرآن : (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا )وجاء الرد عليهم : ( قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) وهناك مهتدون مخلصون وهناك ضالون خدعهم الشيطان فجعلهم يحسبون أنفسهم مهتدين:( فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ). وينكر رب العزة على من يحرّم الحلال فى الزينة واللباس والذهب والفضة : (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) ويوضح رب العزة المحرمات ومنها الفواحش والاثم والبغى فيما يخصّ حقوق الناس ، ثم البغى على رب العزة باتخاذ شركاء معه فى ملكه والكذب عليه والاعتداء على حقه فى التشريع :(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ  )( الأعراف 28 :33 ).

4ـ ومن أسف أننا ننكر ما يخصّ حقوق الناس . فلو رأيت شخصا يعتدى على آخر أنكرت عليه ، وهذا شىء محمود. ولكن حق الله جل وعلا ضائع بيننا ، مع إنه هو الأولى بالاهتمام ، فالاعتداء على الخالق جل وعلا تتنفسه القنوات الفضائية فيما تتقيأه من أحاديث مفتراة ، وفيما يجترّه الخطباء والوعاظ من إفك وبهتان فى مساجد الضرار . يسمع الناس هذا الكفر فيهللون مستبشرين ، ثم يشمئزون عندما تنكر على باطلهم وتعطى الله جل وعلا حقه وتذكره وحده مستحقا وحده التقديس:(وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) عليك ـ إن كنت مدافعا عن رب العزّة منكرا على خصومه ـ أن تجهر بالحق ، ثم تعرض عنهم وتنتظر الحكم عليك وعليهم يوم القيامة إمتثالا لقوله جل وعلا :(قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ).يكفيهم ما ينتظرهم من عذاب الآخرة حين يفاجأون بما لم يكونوا يحتسبون :( وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ) ( الزمر  45 : 48)

المنكر والآداب العامة

ليس من البغى وليس من المحرمات المنصوص عليها أن تقطّب جبينك وأنت تتكلم مع الناس، أو أن تشيح بوجهك وتنظر بتعال واستكبار لغيرك ، أو أن تتجاهل ابتسامته لك أو ترحيبه بك .هنا يكون (الغبار عليك ) وتستحق الانكار لأنك أخللت بالآداب والسلوكيات الفاضلة . وهنا أيضا تتدرج الحالات ، تبدأ بالتصرفات السلبية مثل إهمال تحية الناس وإهمال مساعدة المحتاج مثل أن تقع سيدة عجوز فلا تلتفت اليها . ويتعاظم خرق الآداب العامة لتصل الى إرتكاب أفعال سيئة  مثل تناول الطعام بطريقة مقززة أمام الناس والبصق و التبول فى الطريق  العام . هنا لا نتحدث عن حلال وحرام. ولكن نتحدث عن آداب عامة، ميدانها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر . وبعضها يستحق الانكار ،وبعضها من حق الدولة أن تضع له تنظيما وعقوبات مالية . 

المنكر والفواحش

1ـ من أروع ما قاله امير الشعراء أحمد شوقى يصف مراحل الحب والغرام بين الذكر والأنثى :

نظرة فابتسامة فسلام   فكلام فموعد فلقاء

لنا فى هذا البيت قراءتان حسب ضمير الذكر أو الأنثى . إذا كان الجنس هو الذى وراء النظرة فالابتسامة فالسلام فالكلام فالموعد فاللقاء فالمنتظر إكمال بيت الشعر الى القبلة وما بعدها الى الوقوع فى الزنا . والله جل وعلا حرّم مقدمات الزنا وحرّم الاقتراب من الفواحش، وقال ضمن الوصايا العشر (وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ )( الانعام 151)( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً )( الاسراء 32 )، وبالتالى فإن من يقصد الفاحشة ويفعل ما قاله أحمد شوقى فهو يمهّد الطريق للزنا فيكون حراما. وبالتالى يستحق الانكار عليه. وهناك قراءة أخرى لبيت أحمد شوقى ، فليس العلاقة بين الذكر والانثى كلها فى إطار النصف الأسفل . هناك علاقة احترام ومودة وعطف وإحسان بسبب الجيرة والقرابة والزمالة . وهنا تختلف النظرة والابتسامة والسلام والكلام والموعد واللقاء . وينتهى الأمر عند اللقاء فى زيارة أو فى عمل . لو قمت بالانكار هنا يكون الغبار عليك.

2 ـ إن رب العزة يقول لنا مباشرة : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( النحل 90 ) ، فهو جل وعلا يأمرنا بالعدل ولاحسان وإيتاء ذى القربى. يأمرنا جميعا وليس الأمر للسادة الحكام ، فوجود حاكم يعلو على الناس مناقض للعدل فى الأساس . وينهانا جميعا عن الفحشاء والمنكر والبغى . ويعظنا حتى نتذكر هذه الأوامر والنواهى ، وبالتالى نتناصح فيما بيننا ونتواصى بالحق ونتواصى بالصبر ونتناهى عن المنكر . والنهى عن الفحشاء سبق النهى عن المنكر. فالفواحش من أكبر المنكرات .ولارتباطها بغريزة الجنس والتكاثر فهى المدخل المناسب للشيطان ، لذا يكون سهلا عليه أن يأمرنا بالفحشاء والمنكر فنطيع . والشيطان لا يتمثل لنا مباشرة ، بل يتسلل لنا فى وحيه الكاذب لأوليائه من شياطين الإنس الذين يكذبون على الله ورسوله فى أحاديث يجعلونها وحيا مثلما يسير عليه أرباب الدين السّنى . ويبدأ الأمر خطوة خطوة ، لذا يأتى التحذير الالهى من إتباع خطوات الشيطان الذى يأمر بالفحشاء والمنكر:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ )(النور 21 ) وأفظع من الفحشاء هو أن نتقول الكذب على الله جل وعلا:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )( البقرة 168 : 169 ).

3 ـ ولأن الفواحش مرتبطة بغريزة الجنس الذى لا غنى عنه للانسان فإن من رحمة الله جل وعلا أن يغفر لمن يجتنب كبائر الفواحش، ويقع فى ( اللمم ) أى ما يلمّ به الانسان من مقدمات الزنا بخواطره ونظراته وجوارحه دون الغوص فى الفاحشة نفسها. هذا ليس تشجيعا على الوقوع فى مقدمات الزنا ، ولكنه تنبيه على النهى عن إتباع خطوات الشيطان ، فمنها تلك المقدمات ، ومنها تبريرها أو استحلالها الى أن يصل الى استحلال الفاحشة نفسها . لا بد للمؤمن أن يعرف أن تلك المقدمات سيئات وذنوب ،فلا يزكّى نفسه بل يتهمها ، أى أن يدخل مع نفسه فى ( مونولوج داخلى ) أى حوار منفرد مع الذات ، يمارس فيه الانكار على نفسه ، و ينهى النفس عن الهوى كما جاء فى صفات الفائزين يوم القيامة (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) ( النازعات 40 : 41 ). وبهذا نفهم قوله جل وعلا عن المحسنين :( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى )( النجم : 32 ).

4 ـ إن أعظم الإنكار هو أن تنكر على نفسك قبل أن تفكر فى ارتكاب المنكر ، فهذا أفضل من أن تنكر على نفسك وتندم بعد الوقوع فى المنكر. وفى كل الأحوال فمن التدرج فى صفات المتقين أن تجد الدرجة العليا فى منع النفس من الوقوع فى المعصية وأن ينجو مقدما من وسوسة الشيطان : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) ( الأعراف  201). هذا للسابقين المقربين يوم الدين . وهناك درجة أقل للتقوى وهى الندم بعد الوقوع فى المعصية لأصحاب اليمين : (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( آل عمران 133 : 135 ). وفى النهاية فكل المتقين ـ من أنبياء ومؤمنين وسابقين وأصحاب اليمين ـ مصيرهم الى الجنة بعد أن يتقبل الله جل وعلا توبتهم ويكفّر عنهم ( أسوأ ) الذى عملوه فى الدنيا (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( الزمر 33 : 35 )

 المنكر و المكروه

1 ـ مدارات التشريع الاسلام ثلاث فى الأساس : الواجب الفرض كالعبادات ، والحرام ، وهما ( الفرض والحرام إستثناءات قليلة محددة وموضحة ) أما الأغلب الأعم والأصل فهو الحلال المباح . كل من الواجب المفروض والحرام المحظور ينقسم داخليا . فى الفرض الواجب هناك درجات فى العمل الصالح وفق تكافؤ الفرص المتاحة للجميع : (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( النساء 95 : 96). ولهذا فإن أصحاب الجنة فريقان:الفريق الأعلى هم السابقون المقربون ، والدرجة الأقل هم أصحاب اليمين كما جاء فى بداية ونهاية سورة الواقعة. وفى المقابل فهناك السيئات الصغيرة وهناك الكبائر وأكبر الكبائر ، ومن يجتنب الكبائر يغفر الله جل وعلا له السيئات ويدخله الجنة (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا) ( النساء 31 )، ويكون من أصحاب اليمين. ومن الكبائر الاعتداء على حقوق الانسان مثل حق الحياة وحق الملكية والشرف فى جرائم القتل والسرقة والاغتصاب والزنا والقذف . أما أكبر الكبائر فهى الاعتداء على حق الله جل وعلا فى العقيدة( لا اله إلا الله ) وفى التشريع . والجحيم دركات ، والمنافقون فى الدرك الأسفل من النار (النساء 145 ).

2 ـ مؤسسو الدين السّنى إعتدوا على حق الله جل وعلا فى التشريع ، وأسّسوا لهم دينهم بمصطلحاته وقواعده ومدارته التى تخالف الاسلام . وعرضنا لمدارات التشريع فى الاسلام . ونوجز هنا فى لمحة مدارات التشريع السّنى . فقد قسموها الى خمس : الفرض الواجب و الحرام والمباح الحلال . ثم التفتوا الى الحلال المباح فألحقوا جزءا منه بالحرام وسمّوه ( المكروه ) وجعلوه حلالا ولكن مكروها ، وأقتطعوا جزءا آخر من الحلال المباح وألحقوه بالفرض الواجب كدرجة ثانية أو زيادة على الفرض، وأسموه المستحب أو المندوب أو المسنون . هنا وقعوا فى تناقض مع القرآن الكريم الذى يجعل أكبر الكبائر من الكفر والفسوق والعصيان من المكروهات ويجعل الايمان الواجب من المستحب: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ )( الحجرات 7 ).

والله جل وعلا ذكر أوامره ونواهيه بدءا من (لا اله إلا الله ) فى سورة الاسراء :( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) الى إيتاء الحقوق : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) والنهى عن الاسراف والتبذير (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً)والنهى عن قتل الأبرياء وعن الزنا وعن أكل مال اليتيم بالباطل ،والأمر بالوفاء بالعهد والكيل والميزان بالقسط والنهى عن تتبع ما لايعنيك والنهى عن الغرور، ثم قال عن كل تلك الكبائر( كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً )( الاسراء 23 : 38 ).أى إن الكفر والزنا والقتل مكروه . وكل مكروه منكر .!!

الإنكار الجميل

 

1 ـ ولكن يجب أن يكون إنكارا هينا جميلا ، ليس بالشدة ولكن بالنصح والحكمة والموعظة الحسنة كما سبق قوله فى بداية اللمحة عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. فى البداية فالمؤمن مطالب بأن يقول للناس حسنا:(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً )(البقرة  83 ). والدرجة العليا لعباد الرحمن أن يقولوا التى هى أحسن وليس مجرد الحسن :(وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )ُ ( الاسراء 53 ). وبالتاى فإن إنكارهم لا بد أن يكون بالحسنى وبالتى هى أحسن . ولو نصحت أحدهم بالحسنى منكرا على ما يفعله آمرا إياه بالمعروف ناهيا عن المنكر فما كان منه إلا إن تعدّى عليك بالسّب والشتم. هنا يجب عليك أن ترد عليه بالتحية والسلام :( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً ) ( الفرقان 63 )مع الاعراض عنه :( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ )(القصص 55 )والصفح :(وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) ( الزخرف 88 : 89 )والغفران :( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ  مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)( الجاثية 15 ). والقاعدة فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هى عدم التسلط ، فطالما لا فائدة من هداية المرتكب للمنكر فالاعراض عنه فى لطف وصفح هو الأجدى :(  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( المائدة 105 ).

2 ـ هنا الجمال فى الانكار . هذا الانكار يستلزم صبرا. ليس صبرا غاضبا حاقدا مكشرا عن أنيابه متوعدا خصمه ، بل صبر جميل : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً ) ( المعارج 5 ). وهو صبر جميل لأنه مؤسس على صفح جميل :( وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)(الحجر 85 ). وحتى حين الاعراض عنهم وهجرهم فليس هجرا فاحشا فاجرا بل هو هجرباسم رقيق جميل :( وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ) ( المزمل 10 )

أخيرا

هل تريد رؤية القبح فى الأمر بالمنكر والنهى عن المعروف ؟ إذهب الى مملكة آل سعود ..

 

 

الباب الأول ـ الفصل الثالث : تأصيل المعروف قرآنيا

مفهوم المعروف القيمى الأخلاقى

 المعروف والخير

1 ـ مصطلح ( الخير ) فى القرآن متعدد ومتداخل ، ومنه الخير بمعنى الصلاح الذى يشمل إخلاص الدين والعبادات لله جل وعلا وحده وحسن التعامل مع الناس. كقوله جل وعلا فى سورة البقرة : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ (110) (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)  (أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)  (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى  (197 )  (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) .

2 ـ ونتوقف مع صلة المفهوم القيمى الأخلاقى للخير بموضوع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .

 الدعوة للخير هى دعوة للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر

1 ـ يقول جل وعلا يخاطب الأمة الاسلامية بجميع أفرادها:( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ) ( آل عمران104) . فالدعوة للخير ( يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) جاءت سابقة وبعدها : (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ ) وطبقا لبيان القرآن فإن العطف يأتى غالبا فى الشرح والتفصيل ،وبالتالى فإن الدعوة للخير تعنى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر،والأمر بالمعروف يتضمن فى ثناياه النهى عن المنكر ، والعكس صحيح .  

2 ـ ولكن يلفت النظر هنا قوله جل وعلا للأمة الاسلامية :( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ)، فالسياق اللغوى يقتضى ان يقال ( ولتكن منكم أمة تدعو الى الخير ) أى أن يجىء فعل (يدعو ) مفردا مؤنثا ليطابق لفظ ( أمّة ) وهو مفرد مؤنث . على خلاف السياق جاء الخطاب بالجمع المذكر فى مخاطبة الأمة المؤمنة كالشأن فى الأوامر التعبدية مثل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ )(البقرة 183 )(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) (الجمعة 9 ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )(المائدة 1، 87 ، 90 ). فالذين آمنوا يشمل جميع الأفراد ذكورا وإناثا ، وكذلك قوله جل وعلا :( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ)، فهو يشمل جميع الأمة ، بل ويجعل ميدان الدعوة موجها للداخل أساسا. لأنه لو قيل ( ولتكن منكم أمة تدعو الى الخير ) لكان المفهوم أن هذه الأمة تدعو غيرها من الأمم الى الخير ، وليس هذا أساس السياق الذى يخاطب أفراد الأمة من داخل الأمة أن يعتصموا بحبل الله جميعا وألّا يتفرقوا وأن يدعو بعضهم بعضا الى الخير ويتواصون بالأمر بالمعروف ويتناهون عن المنكر.

مجىء لفظ المعروف بمعنى فعل وقول الخير:

1 ـ قول المعروف أو الأمر بالمعروف لا يكون بالتسلط ورفع الصوت ، ولكن بالنصح الهادىء الجميل أى  التناجى بالخير . وقد أشاع منافقو الصحابة فى المدينة التناجى بالسوء ، فقال جل وعلا فى التناجى بالخير : ( لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا )(النساء 114 ).هنا جاء صريحا الأمر بالمعروف ضمن أفعال الخير (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ ).ومثله قوله جلّ وعلا لنساء النبى:(وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا ) ( الاحزاب 32 ) وقوله جلّ!وعلا تعقيبا على بعض الصحابة( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ )( محمد 21 ) فالطاعة وقول المعروف والصدق هو الخير لهم .

2 ـ وقد تأتى بعض ملامح الخير تحت بند فعل المعروف للمستحقين ، كقوله جلّ وعلا :( وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا )(الاحزاب 6 )

معنى المعروف القيمى ( الخير بمعنى العدل والاحسان )

1 ـ يقول جل وعلا :( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )( النحل 90 ). هذا هو الأصل المحكم الذى ينبع منه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.،فقوله جل وعلا (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى ) يعنى : إن الله جل وعلا يأمر بالمعروف . فالعدل والاحسان مع الجميع ومع ذوى القربى هو غاية المعروف ، أو هو المعروف القيمى ، أو المعروف كقيمة عليا تعنى فعل الخير.

2 ـ ويقول جل وعلا فى صفات المجتمع المسلم ودولته الاسلامية :(فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) أى لهذه المجتمع أن يتمتع بنعم الله جل وعلا فى الدنيا ولكن يدرك أن ما عند الله من نعيم الجنة خير ، أى أفضل .وهنا تأتى كلمة خير بمعنى التفضيل ، وهو الأكثر فى ورودها فى القرآن الكريم . ويوصف هذا المجتمع بالايمان وبالتوكل على الله ، وفى الآية التالية يوصف أفلراده باجتناب كبائر الاثم وكبائر الفواحش ،وإذا غضبوا فهم يغفرون :( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) وتأتى بقية صفاتهم ؛ من الطاعة والاستجابة لأوامر رب العزة جل وعلا وإقامة الصلاة و إقامة الشورى بينهم والتصدق والانفاق فى سبيل الله  : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ )،ومع أنهم مسالمون لا يعتدون على أحد إلّا إن باستطاعتهم رد البغى ومواجهة العدوان والانتصار عليه (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ) . وأمامهم خياران فى التعامل مع من يعتدى عليهم أو يسىء اليهم : إمّا بالعدل فالنفس بالنفس والسيئة بمثلها ، وإمّا بالاحسان وهو العفو عند المقدرة إبتغاء مرضاة الله جل وعلا : (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)(الشورى 36 ـ ). فالإحسان أعلى قيمة من العدل . العدل أن تنتقم بالمثل ، أمّا الاحسان فهو العفو عن المسىء والعطاء للمحتاج دون أن تنتظر منه أجرا .

3 ـ ويقول رب العزة للداعية المؤمن والذى يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) فالدعوة بالحكمة والموعظة ( الحسنة ) وبالتالى فالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا بد أن يكون بالحكمة والموعظة ( الحسنة ). ويقول رب العزّة فى الآية التالية للمجتمع المؤمن : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ )، هنا أيضا التخيير بين العدل ( المعاقبة بالمثل ) أو الصفح والصبر وهو الأفضل أو الخير. ويؤكد رب العزّة فى الآية التالية على خيار الصبر (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ)، والله جل وعلا مع الصابرين ومع المتقين ومع المحسنين كما جاء فى الاية التالية ( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ )(النحل 125 : 128 )

4 ـ بل يأتى الأمر بمقابلة السيئة ليس فقط بالحسنة ولكن بالتى هى أحسن ، يقول جلّ وعلا : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ )( المؤمنون 96 )،وفى مجال الدعوة والوعظ بالذات لا بد أن يتم التعامل بالتى هى أحسن فى الجدال مع أهل الكتاب لنزع فتيل التعصب :(  وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ  ) (العنكبوت  46  ). وما أروع قوله جل وعلا :( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) ( فصلت 33 : 35 ).

أخيرا

وكان عليه السلام أروع مثال بشرى فى الاحسان وفى العفو والصفح عمّن كان يؤذيه من المنافقين . كان رحمة للمؤمنين ( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ). كان بالمؤمنين رءوفا رحيما (  لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ  ) ( التوبة 61، 128). كان لينّا سهلا (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)( آل عمران 159 ).

 وهذه هى سنته الحقيقية القرآنية ، وليست السّنة الحنبلية الوهابية السعودية حيث الغلظة والفظاظة .

المعروف فى التشريع الاسلامى

  لمحة عن المعروف بين التشريع الاسلامى والتشريع الغربى  

1 ـ  قلنا إن العرف أو المعروف يعنى المتعارف على أنه خير وحق وعدل . أى أنه القيم العليا فى الاسلام من العدل والاحسان والحرية وحفظ الحقوق. هذه القيم العليا ( وخصوصا العدل والقسط ) كانت الهدف من ارسال الرسل والأنبياء والكتب السماوية . وبالتالى فيجب ـ أؤكد : يجب ـ أن تكون تلك القيم العليا هى المرجعية الحاكمة لأى تشريع بشرى فى الدستور والقوانين . ولو روعى ذلك فى نّ القوانين فهو تشريع الاهى يرضى عنه رب العزة .

2 ـ وأوربا فى نهضتها قامت بسنّ قوانين تستلهم العدل والحرية وكرامة الانسان ، ووضعت فى بنود محددة معدة للتطبيق القضائى . وليس مثلما إعتاد فقهاء المسلمين فى ثرثرتهم الفقهية النظرية التى تدخلت فى كل شىء ،بل حتى إفترضت وقائع خيالية وجعلت لها أحكاما ، ثم اختلفوا فى كل شىء وجعلوا إختلافهم رحمة . وابتعد هذا الفقه النظرى التصورى التخيلى عن الواقع القضائى بحيث كان لا يلتزم به القاضى مع تبعيته لمذهب ما من المذاهب الفقهية .

3 ـ الأهم من هذا هو إتفاق التشريع الغربى مع التشريع الاسلامى القرآنى فى مبنى التشريع ومصدره . لم تجعل القوانين الغربية مما هو كائن فى المجتمع مصدر التشريع ، بل جعلت مصدر التشريع هو ما ينبغى أن يكون . وهى نفس المبنى الذى يقوم عليه التشريع القرآنى . وهذا يحتاج توضيحا . هناك عادات سيئة فى المجتمع وأمراض إجتماعية ، وهناك أيضا قيم عليا متعارف عليها . لم تستلهم القوانين الغربية قوانينها مما هو سائد من عادات وتقاليد بل استلهمتها من كتابات الفلاسفة الباحثين عن المدينة الفاضلة والقيم العليا . القرآن الكريم له الدرجة العليا فى هذا المضمار . فمن ناحية يؤكد أن أكثرية البشر ضالة مضلّة ، ومن ناحية أخرى يوجّه لهم رسالته الاصلاحية الداعية الى القسط والحرية والسلام والاحسان والعطاء والرحمة ..الخ . لم يجعل التشريع الاسلامى من واقع العرب مصدرا للتشريع ، بل على العكس ندّد به ونقده وقام باصلاحه .

4 ـ لقد نزل القرآن الكريم فى مجتمع ( جاهلى ) يحترف التقاتل والسلب والنهب ويفخر بالظلم ، وكان إصلاحه عسيرا . ولكن نجح الاصلاح القرآنى ، بل أقام دولة اسلامية ديمقراطية حقوقية كانت جملة إعتراضية فى ثقافة العالم وقتها . وكان من الطبيعى وهى دولة تخرج عن المألوف فى محيطها العربى والعالمى أن تتآكل وتتوارى شيئا فشيئا . وتوارت وغابت الدولة الاسلامية ولكن أسسها التشريعية لا تزال محفوظة فى القرآن الكريم المحفوظ من لدن الله جل وعلا . ومن أسسها التشريعية المعروف أو القيم العليا المتعارف عليها من العدل والاحسان والحرية وكرامة الانسان .

ومنهج القرأن فى التربية بدأ بالفترة المكية بالتركيز على الاصلاح الدينى والاخلاقى معا ، هذا الجانب الأخلاقى الذى أهمله أئمة الأديان الأرضية المسلمين . فى الفترة المكية نزل التوجيه الأخلاقى ليس فقط فى قصص الأنبياء ولكن ايضا فى الوصايا العشر ( الأنعام 151 : 153 ) وفى سور  النحل 90 ـ 97 )و( الاسراء 22 : 39 )و ( المؤمنون 1 : 11 ) و( الفرقان  63 : 76 )و( لقمان 12 : 19 ) و ( الشورى 36 : 43 ) والمعارج ( 19 : 35 )، وفى عشرات الآيات الأخرى . مع إشارات مجملة لمبادىء وعموميات التشريع كما فى سورة (الأعراف 28 : 33 ). ثم جاءت تفصيلات التشريع فى المدينة تبنى على أساس خلقى سبق توضيحه ، وتواصل إنتقاد المجتمع داخل الدولة الاسلامية من منافقين ومؤمنين ، بل كان خاتم النبيين يتعرض للوم والتأنيب والعتاب .

5 ـ أوربا فى نهضتها بدأت بالكتابات الاصلاحية فى مواجهة ثقافة مختلّة تعاون فيها الدين الأرضى السائد ( البابوية ) مع الاستبداد والفساد . بدأ الاصلاح الدينى محتجا على فساد الكنيسة وتطور معه إصلاح مدنى وتعانق معه فى رفض الواقع واستلهام القيم العليا بدرجات مختلفة . الى أن وصل التشريع الغربى فى أوربا وأمريكا الى المواثيق الدولية لحقوق الانسان ، وهى أقرب كتابة بشرية للتشريع الاسلامى الحق الذى أضاعه أئمة الأديان الأرضية من المسلمين فى العصور الوسطى .

6 ـ وحين أراد مصلحو المسلمين السير على الطريق الأوربة للتخلص من تخلف الأديان الأرضية إذا بالوهابية تعيد أشد نوعيات التدين الأرضى تخلفا وتزمتا وتحجرا وتعصبا ودموية ، وهى السنية الحنبلية التيمية الوهابية السعودية . ثم بقطار النفط السريع وفى ظروف مواتية محلية واقليمية وعالمية نجحت الوهابية فى تسميم العقل العربى والمسلم ، وهى الآن على وشك اختطاف الربيع العربى .

7 ـ ولقد نجحت الوهابية المصرية من خلال الاخوان المسلمين والسلفيين فى مشاركة العسكر فى السلطة ، وهم يتطلعون الى تأليف دستور مصرى يؤسس التشريع الوهابى . والمستشار طارق البشرى المفكّر الوهابى يتبنى رأيا مخالفا للقرآن والتشريع الغربى ، وهو أن ما تقوم عليه ثقافة الأكثرية من المجتمع يكون هو المصدر للتشريع . إن أكثرية المجتمع المصرى جرى تغييبها وتسميمها بالثقافة الوهابية وبالتعصب ضد الأقباط وبالنفاق الدينى والتدين السطحى المظهرى وتبرير الفساد وتعلية قيمة المال والثروة بغض النظر عن مصدرها ..حدث هذا التجريف الأخلاقى فى العقلية المصرية ، فلم يعد الناس هم الناس بعد جيلين . وحتى على فرض أن أكثرية المصريين لا تزال فيهم الشهامة والنخوة والطيبة التى كانت من أربعين عاما فإن الثابت والذى لا خلاف فيه أن الأغلبية الصامتة من الناس هى الأقل حظا فى التعليم والثقافة ، وهى التى تحتاج الى التعليم والتثقيف والتحضر .. فكيف تكون هذه الأغلبية الصامتة مصدرا للتشريع ؟ .

إن المستبد دائما يحلو له ركوب هذه الأغلبية الصامتة ، ويحلو له أن يزعم إنه الذى يعبّر عنها . فعل هذا عبد الناصر فى تخصيص نصف مقاعد البرلمان للعمال والفلاحين ، ولا يزال هذا ساريا . ثم يأتى المستشار البشرى ويجعل من الأغلبية مصدرا للتشريع . وبالتالى فلا بد للدستور والتشريع أن يعبّر عن حال الأغلبية المصرية التى تتبنى الحجاب والنقاب وترفض بناء الكنائس وترفض مساواة القبطى بالمسلم ومساواة المرأة بالرجل . بسبب سيطرة الوهابية على الاعلام والتعليم والأزهر والمساجد تراجعت القيم العليا وحلّ محلها الفساد الخلقى والدينى . ويأتى طارق البشرى ليجعل هذه المرض مصدرا للتشريع . هو يقف ضد مفكرى النهضة الأوربية الذين رفضوا فساد عصرهم وفساد كنيستهم ونادوا بالاصلاح واستلهام القيم العليا للانسانية . لم يكن لديهم القرآن يستلهمون قيمه العليا وتشريعاته . ولكن المستشار طارق البشرى الذى بلا شكّ يعرف بوجود القرآن يهجر القرآن وينادى باستلهام التشريع الدستورى من (قاع المجتمع ).

8 ـ صلة هذا الكلام أنه للردّ مقدما على من يقول إن ما يدور فى المجتمع المصرى الآن هو العرف أوهو المعروف السائد ، وبالتالى يكون مصدرا للتشريع . ونؤكد مجددا على ان العرف والمعروف هو القيم العليا كمبادىء للتشريع وكمعيار للتطبيق، وكل إنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره وتباريره ( القيامة 14 : 15 ). تلك القيم العليا ضمن الفطرة داخل كل إنسان . ولو كنت تدخّن السجائر عزيزى القارىء فإنك ستفزع حين ترى إبنك الصغير يقلدك ويدخّن السجائر . هنا الفارق بين ما هو كائن وما ينبغى أن يكون . الكائن أنك تدخّن ، والذى ينبغى أن يكون هو ما تتمناه لابنك ؛أن يكون خيرا منك ، لذا تفزع إذا وقع فى الخطأ الذى تقع فيه أنت . والتشريع يجب إستمداده مما ينبغى أن يكون وإلا كان تقنينا لسيئات المجتمع وفساده ، فإذا كانت الرشوة هى السائدة فلا باس أن تصبح قانونا ، وإذا كان الغشّ فى الامتحان هو الأصل فى النجاح وإذا كانت الواسطة هى أساس الحصول على الوظائف والخدمات فلتكن هذه المفاسد تشريعا ، وإذا كان الاكراه فى الدين وحجر الرأى وتجريم الفكر أساس الدين السّنى الوهابى لتحصينه من النقد فلا بد أن يتصدّر هذا التشريع .. هذا ما يريده الوهابيون المصريون ..وغيرهم .!!

 لمحة عن التشريع الاسلامى وتطبيقه

‏1 ـ  ‏آيات‏ ‏التشريع‏ المدنى ‏فى ‏القرآن‏ ‏حوالى ‏مائتى ‏أية‏ ‏بما‏ ‏فيها‏ ‏من‏ ‏تكرار‏ ‏وتفصيل‏ ‏وتأكيد‏.. ‏ومعنى ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏قدرا‏ ‏هائلا‏ ‏قد‏ ‏تركه‏ ‏القرآن‏ ‏لاجتهاد‏ ‏البشر‏ ‏فيما‏ ‏يقع‏ ‏فيه‏ ‏التطور‏ ‏واختلاف‏ ‏الظروف‏، ‏وبذلك‏ ‏يكون‏ ‏تشريع‏ ‏القرآن‏ ‏صالحا‏ ‏لكل‏ ‏زمان‏ ‏ومكان‏.‏

2 ـ ونعطى لمحة سريعة عن ‏تشريعات‏ ‏القرآن‏ ‏والمواضع‏ المتروكة لاجتهاد البشر فى التقنين والتطبيق ‏:

‏* ‏فهناك‏ ‏تشريعات‏ ‏قرآنية‏ ‏خاصة‏ ‏بزمانها‏ ‏ومكانها‏ ‏ولا‏ ‏مجال‏ ‏لتطبيقها‏ ‏فى ‏عصرنا‏، ‏مثل‏ ‏حديث‏ ‏القرآن‏ ‏عن‏ ‏التشريعات‏ ‏الخاصة‏ ‏بالنبى ‏وبيوته‏ ‏وزوجاته‏ ‏وعلاقاته‏ ‏بأصحابه‏.‏

‏* ‏وهناك‏ ‏تشريعات‏ ‏قرآنية‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏تطبيقها‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏توفرت‏ ‏ظروفها‏. ‏فإذا‏ ‏لم‏ ‏تتوفر‏ ‏ظروفها‏ ‏فلا‏ ‏حاجة‏ ‏بنا‏ ‏لتطبيقها‏، ‏مثل‏ ‏احكام‏ ‏الرقيق‏، ‏اذ‏ ‏لا‏ ‏ضير‏ ‏فى ‏أن‏ ‏يذكرها‏ ‏القرآن‏، ‏فشأن‏ ‏التشريع‏ ‏أن‏ ‏يذكر‏ ‏كل‏ ‏حالة‏، ‏أما‏ ‏التطبيق‏ ‏فلا‏ ‏يكون‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏وجدت‏ ‏حالات‏ ‏صالحة‏ ‏للتطبيق‏، ‏وعلى ‏سبيل‏ ‏المثال‏ ‏فالقانون‏ ‏يتحدث‏ ‏عن‏ ‏نفقة‏ ‏الزوجة‏ ‏المطلقة‏ ‏ولكن‏ ‏ذلك‏ ‏لا‏ ‏يتم‏ ‏تطبيقه‏ ‏على ‏الأعزب‏ ‏الذى ‏لم‏ ‏يتزوج‏ ‏ولم‏ ‏يطلق‏.. ‏فإذا‏ ‏تزوج‏ ‏وطلق‏ ‏زوجته‏ ‏أصبح‏ ‏خاضعا‏ ‏بحالته‏ ‏تلك‏ ‏للقانون‏. ‏وهكذا‏ ‏فتشريع‏ ‏القرآن‏ ‏عن‏ ‏الرق‏ ‏لا‏ ‏تسرى ‏إلا‏ ‏فى ‏عصر‏ يكون ‏فيه‏ ‏الاسترقاق‏ ‏شائعا‏ ‏اجتماعيا‏. ‏مع‏ ‏ملاحظة‏ ‏إنه‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏القضاء‏ ‏تماما‏ ‏على ‏ظاهرة‏ ‏الرق‏، ‏وإن‏ ‏تشريعات‏ ‏القرآن‏ ‏قد‏ ‏قصدت‏ ‏فى ‏المقام‏ ‏الأول‏ ‏تحرير‏ ‏الرقيق‏.. ‏وتلك‏ ‏قضية‏ ‏أخرى‏.‏

* وهناك الثابت والمتغير فى تشريعات الجهاد، وهو موضوع شرحه يطول، يدخل فيه التدرج فى التشريع فى العلاقات بين المسلمين المسالمين و المشركين المعتدين، وعلى المسلمين مراعاة ذلك التدرج فى التشريع أو التقنين، وأيضا فى التطبيق. وقد تحدثنا عن ذلك فى بحث (النسخ فى القرآن الكريم يعنى الاثبات والكتابة وليس الحذف والالغاء)

* وهناك تشريعات قرآنية لا تحتاج الى تقنين بشرى لأنه لا دخل لسلطة الدولة فيها لأن مناط تطبيقها موكول للفرد وتعامله مع ربه جل وعلا، ويدخل فى هذا الاطار الأخلاقى للقرآن الكريم فى تعامل الفرد مع نفسه وأسرته ومن حوله، ومنها بعض الوصايا الأخلاقية المذكورة فى السور المكية (الاسراء 22: 39) (الفرقان 63) (الأنعام151 : 153) (النحل 90: 95) وفى السور المدنية (البقرة 44: 46، 83، 109، 153، 177، 261 : 274) (النساء 36).. مجرد أمثلة..

‏* ‏وهناك‏ ‏تشريعات‏ ‏قرآنية‏ ‏جامعة‏ ‏مانعة‏، ‏والاجتهاد‏ ‏يكون‏ ‏فى ‏تطبيقها‏ ‏كما‏ ‏هى ‏دون‏ ‏زيادة‏ ‏أو‏ ‏نقصان‏، ‏والمثال‏ ‏الواضح‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏هو‏ ‏المحرمات‏ ‏فى ‏الزواج‏ (‏النساء‏ 22: 24) ‏مع‏ ‏ملاحظة‏ ‏أن‏ ‏تشريع‏ ‏الفقهاء‏ ‏لم‏ ‏يلتزم‏ ‏بهذا‏ ‏التحريم‏ ‏الجامع‏ ‏المانع‏، ‏فأضاف‏ ‏للمحرمات‏ ‏فى ‏الزواج‏ ‏ما‏ ‏أحله‏ ‏الله‏ ‏تعالى، ‏مثل‏ ‏قولهم‏: ‏يحرم‏ ‏من‏ ‏الرضاع‏ ‏ما‏ ‏يحرم‏ ‏من‏ ‏النسب‏، ‏وقولهم‏: ‏يحرم‏ ‏الجمع‏ ‏بين‏ ‏المرأة‏ ‏وعمتها‏ ‏والمرأة‏ ‏وخالتها‏. ‏فالقرآن‏ ‏يجيز‏ ‏ذلك‏، ‏والفقهاء‏ ‏يحرمونه‏ ‏أى ‏يحرمون‏ ‏ما‏ ‏أحل‏ ‏الله‏. ‏

وهناك‏ ‏مثال‏ ‏آخر‏ ‏للمحرمات‏ ‏الجامعة‏ ‏المانعة‏، ‏كتحريم‏ ‏أكل‏ ‏الميتة‏ ‏والدم‏ ‏ولحم‏ ‏الخنزير‏ ‏وما‏ ‏أهل‏ ‏لغير‏ ‏الله‏ ‏به‏، ‏وقد‏ ‏فصل‏ ‏القرآن‏ ‏القول‏ ‏فيها‏ ‏وحذر‏ ‏من‏ ‏تحريم‏ ‏ما‏ ‏أحل‏ ‏الله‏، ‏ولكن‏ ‏الفقهاء‏ ‏حرموا‏ ‏الكثير‏ ‏من‏ ‏الحلال‏ ‏بالمخالفة‏ ‏لتشريع‏ ‏القرآن‏.

‏وينطبق‏ ‏ذلك‏ ‏أيضا‏ ‏على ‏القواعد‏ ‏التشريعية‏ ‏الجامعة‏ ‏المانعة‏، ‏مثل‏ ‏تحريم‏ ‏قتل‏ ‏النفس‏ ‏إلا‏ ‏بالحق‏ ‏أى ‏بالقصاص‏، ‏وقد‏ ‏خالف‏ ‏الفقهاء‏ ‏هذه‏ ‏القاعدة‏ ‏التشريعية‏ ‏فحكموا‏ ‏بالقتل‏ ‏للمرتد‏ ‏والزانى ‏المحصن‏ ‏وأسباب‏ ‏أخرى ‏كثيرة‏ ‏أى ‏أحلوا‏ ‏ما‏ ‏حرم‏ ‏الله‏.‏أى ‏أن‏ ‏الفقهاء‏ ‏اجتهدوا‏ ‏فى ‏الحكم‏ ‏بغير‏ ‏ما‏ ‏أنزل‏ ‏الله‏ ‏تعالى ‏فى ‏تشريعاته‏ ‏الجامعة‏ ‏المانعة‏ ‏الملزمة‏، ‏والتى ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏الاجتهاد‏ ‏فيها‏ ‏إلا‏ ‏بتطبيقها‏ ‏كما‏ ‏هي‏.‏

‏* ‏وهناك‏ ‏تفصيلات‏ ‏تشريعية‏ ‏احتكم‏ ‏فيها‏ ‏القرآن‏ ‏للعرف‏ ‏أو‏ ‏المعروف‏، ‏وهنا‏ ‏نحتاج‏ ‏إلى ‏قوانين‏ ‏وتشريعات‏ ‏لتقنين‏ ‏ذلك‏ ‏العرف‏ ‏حسب‏ ‏أحوال‏ ‏العصر‏. ‏ومثلا‏ ‏يقول‏ ‏تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ) "‏البقرة‏ 233" ‏فالتشريع‏ ‏البشرى ‏يتدخل‏ ‏هنا‏ ‏فى ‏تقنين‏ ‏نفقة‏ ‏الرضيع‏ ‏على ‏أبيه‏ ‏بحسب‏ ‏العملة‏ ‏السائدة‏ ‏وظروف‏ ‏العصر‏، ‏والقاضى ‏يقوم‏ ‏بتقدير‏ ‏تلك‏ ‏النفقة‏ ‏على ‏الحالة‏ ‏المعروضة‏ ‏أمامه‏ ‏حسب‏ ‏فقر‏ ‏الأب‏ ‏وغناه‏.‏ ونحو ذلك قوله جل وعلا فى التعامل مع الزوجة المطلقة وحقها فى العيش فى سكن ملائم ونفقة ملائمة واجبة على الزوج (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) (الطلاق 6). هنا نجد المعروف هو المعوّل عليه فى سن القانون بمعرفة الهيئة التشريعية، وفى تطبيقه على يد القاضى.

ولقد كان خاتم المرسلين نفسه مأمورا باتباع المعروف أو العرف (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف 199). وبالتالى فان التزام العرف يكون فى جانبين: سنّ قوانين فى المباحات المسكوت عنها، وفى تطبيق الأوامر التشريعية فى القرآن الكريم.

‏* ‏وقد‏ ‏جاءت‏ ‏تشريعات‏ ‏القرآن‏ ‏فى ‏رعاية‏ ‏الأسرة‏ ‏وحقوق‏ ‏الإنسان‏ ‏أو‏ ‏حقوق‏ ‏العباد‏ ‏وتنمية‏ ‏الأخلاق‏ ‏وركزت‏ ‏على ‏تفصيل‏ ‏المحرمات‏ ‏بينما‏ ‏تركت‏ ‏المباح‏ ‏الحلال‏ ‏مفتوحة‏ ‏أبوابه‏ ‏لأنه‏ ‏هو‏ ‏الأصل‏. ‏وهذا‏ ‏المباح‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏اجتهاد‏ ‏تشريعى ‏فى ‏تنظيمه‏ ‏فى ‏إطار‏ ‏المقاصد‏ ‏التشريعية‏ ‏العامة‏ ‏وهى ‏العدل‏ ‏والتيسير‏ ‏ورفع‏ ‏الحرج‏ ‏ورعاية‏ ‏المصالح‏ ‏والإحسان‏ ‏وعدم‏ ‏إيقاع‏ ‏الضرر‏ ‏وحفظ‏ ‏حقوق‏ ‏العباد‏، ‏وكل‏ ‏القوانين‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الإطار‏ ‏تكون‏ ‏تشريعا‏ ‏إسلاميا‏، ‏وهذا‏ ‏حق‏ ‏البشر‏ ‏فى ‏التشريع‏ ‏وفق‏ ‏ما‏ ‏أنزل‏ ‏الله‏ ‏تعالى‏.‏

وكل‏ ‏ما‏ ‏يدور‏ ‏فى ‏إطار‏ ‏القوانين‏ ‏المستحدثة‏ ‏فى ‏المرور‏ ‏والمساكن‏ ‏والتنظيم‏ ‏والإدارة‏ ‏والصحة‏ ‏والتعليم‏ ‏والخدمات‏.. ‏إلخ‏.. ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏إطار‏ ‏التشريع‏ ‏البشري ‏المسموح‏ ‏به‏ ‏إسلاميا‏ ‏لأنه‏ ‏متروك‏ ‏لاجتهاد‏ ‏البشر‏ ‏فيما‏ ‏سكت‏ ‏عنه‏ ‏القرآن‏ ‏وتركه‏ ‏للعرف‏ ‏والمعروف‏، ‏والمهم‏ ‏أن‏ ‏يراعى ‏المقاصد‏ ‏التشريعية‏ ‏الكبرى ‏مثل‏ ‏العدل‏ ‏والتيسير‏ ‏ورعاية‏ ‏المصالح‏ ‏وحفظ‏ ‏الحقوق‏ ‏بالنسبة‏ ‏للعباد‏.

*حقوق‏ ‏الله‏ ‏تعالى ‏فى ‏العقيدة‏ ‏وفى ‏العبادات‏ ‏فليس‏ ‏لأحد‏ ‏أن‏ ‏يتدخل‏ ‏فيها‏ ‏لأن‏ ‏مرجع‏ ‏الحكم‏ ‏فيها‏ ‏لله‏ ‏تعالى ‏يوم‏ ‏القيامة‏، ‏وهى ‏مسألة‏ ‏هداية‏ ‏يتوقف‏ ‏الأمر‏ ‏فيها‏ ‏على ‏كل‏ ‏إنسان‏ ‏إذا‏ ‏اهتدى ‏فلنفسه‏ ‏وإن‏ ‏ضل‏ ‏فعلى ‏نفسه‏.

أما‏ ‏حقوق‏ ‏العباد‏ ‏أو‏ ‏حقوق‏ ‏الإنسان‏ ‏فهى ‏مسئولية‏ ‏المجتمع‏ ‏لحفظ‏ ‏حقوق‏ ‏الأفراد‏، ‏ولذلك‏ ‏فإن‏ ‏العقوبات‏ ‏المدنية‏ ‏إنما‏ ‏تكون‏ ‏فيما‏ ‏يخص‏ ‏حقوق‏ ‏العباد‏ ‏فقط‏. ‏حقهم‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏والأموال‏ ‏والأعراض‏ ‏وحق‏ ‏المجتمع‏ ‏كله‏ ‏فى ‏الأمن‏، ‏وتتحدد‏ ‏العقوبات‏ ‏هنا‏ ‏فى ‏جرائم‏ ‏الزنا‏ ‏والقذف‏ ‏والقتل‏ ‏وقطع‏ ‏الطريق‏ ‏والسرقة‏. ‏ولسنا‏ ‏فى ‏موضع‏ ‏التفصيل‏ ‏للشروط‏ ‏الموضوعية‏ ‏لتطبيق‏ ‏هذه‏ ‏العقوبات‏، ‏ولكن‏ ‏نشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏تشريعات‏ ‏الفقهاء‏، ‏غيرت‏ ‏المصطلح‏ ‏إلى ‏الحدود‏، ‏وكلمة‏ ‏الحدود‏ ‏تعنى ‏الحق‏ ‏والشرع‏ ‏فى ‏القرآن‏، ‏وبعد‏ ‏تغيير‏ ‏المصطلح‏ ‏أضافوا‏ ‏عقوبات‏ ‏جديدة‏ ‏كالرجم‏ ‏والردة‏ ‏وعقوبة‏ ‏شرب‏ ‏الخمر‏ ‏وغيرها‏. ‏وبهذا‏ ‏اتسع‏ ‏التناقض‏ ‏بين‏ ‏تشريع‏ ‏القرآن‏ ‏وتشريع‏ ‏الفقهاء‏.‏

نؤكد ثانيا أنه ليس للتشريع المصرح به للمسلمين أن يتدخل فى العقائد والعبادات من واجبات مفروضة ومن محرمات محظورة، وأمامه الباب واسعا في المباح المسكوت عنه وفق القيم العليا للاسلام المشار اليها، والتى تحمل مصطلح (العرف) و (المعروف).   

والنظام القضائى فى الاسلام يستلزم أولى الأمر أو أصحاب الشأن والاختصاص من الراسخين فى العلم بالقرآن وتشريعاته، وما يمكن منها تشريعه وتطبيقه سواء كانت تفصيلاته منصوصا عليها فى القرآن، أو كانت مرجعيتها القرآنية للعرف والمعروف، أى القيم العليا فى الاسلام.

والتقنين هنا يكون تحت مناقشة واقرار الشورى الاسلامية وديمقراطيتها المباشرة، فاذا تم إقرار القانون فعلى الجميع الالتزام به باعتتباره تشريعا اسلاميا إذن به الله جل وعلا. وهذا الالتزام مرده الى العقد أو العهد الذى تبايع به الناس على السمع والطاعة لأولى الأمر، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء 59) لاحظ أنهم (أولي الأمر) أى ليس (ولي الأمر) أى تشكيلات ومجموعات من العاملين فى الخدمة العامة المختارين بحكم التخصص والخبرة، وليس مجرد ولى أمر حاكم فرد مستبد.

ومن بنود العقد الذى تقوم على اساسه دولة الاسلام عدم العصيان للمعروف، وهذا ما جاء فى عصر النبي محمد فى بيعة النساء المهاجرات للدولة الاسلامية ليكنّ مشاركات أصلاء فيها (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الممتحنة 12).  

 المعروف فى تفصيل التشريعات الاسلامية :

هناك أوامر تشريعية تعلوها مقاصد التشريع . والمعروف من مقاصد التشريع كمبدأ عام وقيمة عليا فى التعامل مع الناس ، يقول جلّ وعلا :( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) ( الأعراف 199 ). والمعروف كقيمة عليا هو حاضر دائما فى كل أوامر التشريع الاسلامى  مقصدا من مقاصد التشريع من العدل والاحسان ، والتى تعلو على أوامر التشريع . والمعروف كاساس فى تطبيق الأوامر التشريعية ورد ذكره ضمنيا ، وورد ذكره باللفظ فى التفصيلات التالية :

1 ـ فى الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وخلافه :

فى الصداق لملك اليمين : أى يجب إعطاؤها مهرا بالمتعارف عليه وعلى أنه عدل : ( فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ )( النساء 25 )

وفى معاشرة الزوجة بالمعروف ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا )( النساء 19 )

فى الطلاق والانفصال وحق الزوج فى إعادة زوجته خلال مدة العدة :( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ )( البقرة 228 )

وبانتهاء عدتها وهى فى بيت الزوجية إمّا أن يمسكها الزوج بالمعروف وإمّا ان يفارقها نهائيا بالمعروف :( الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ  )  ( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ   )( البقرة 229 ، 231 ) ( فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ )( الطلاق 2 )

وأثناء بقاء المطلقة فى بيت الزوجية لها كل حقوق الزوجة فى السكن والنفقة ورضاعة المولود بالمعروف : ( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى )( الطلاق 6 ) ويجب مراعاة المعروف فى الرضاعة :( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )( البقرة 233 ).

ولها حق المتعة ، ويمكن تقديرها بالمعروف بالعدل وبما يوافق حال الزوج : ( وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ).  ( لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ )( البقرة 241 ، 236 ).ولو طلقها قبل الدخول بها ولها مؤخر صداق فلها نصف المؤخر إلّا أن تتنازل عنه هى أو ولى أمرها فى عقد النكاح . والعفو هو الاحسان وهو الأقرب للتقوى : (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )( البقرة237 )

وبعد خروجها من بيتها وانفصالها عن زوجها السابق فمن حقها أن تتزوج بمن تشاء ، بالمعروف :( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ )(البقرة 232.)

 ونفس الحق للأرملة فى المتعة بالبقاء عاما داخل بيت زوجها المتوفى ، مع حقها فى الخروج وفى الزواج بعد انتهاء عدتها : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ).وعن حقها فى الزواج بالمعروف يقول جل وعلا :( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ )، وقبل الزواج حقها فى الخطبة وحديثها مع خطيبها بالمعروف فى خلوة :( وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ )(البقرة 240 ، 234 : 235 )

 المعروف فى حقوق الناس :

فى تقدير دية القتيل بدلا عن القصاص :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )( البقرة 178 )

فى الوصية عند الموت للوالدين والأقربين بالمعروف :( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة 180 : 182 )

و حق اليتيم فى الأكل وفى النفقة من ماله بالمعروف إذا وصل مرحلة البلوغ وكان سفيها:(وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ). أما إذا بلغ النضج وتبين صلاحيته للتصرف فى ماله فمن حقه التصرف ، وأثناء مرحلة صباه وقبل النضج يرعاه وصى عليه الذى يأخذ أجرا بالمعروف لو كان فقيرا : ( وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا )

وحق الأقارب واليتامى والمساكين فى أخذ جزء من التركة ـ بالمعروف ـ لو حضروا القسمة :( لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ) (النساء 5 : 9 ).

ولسنا هنا فى معرض التفصيل لهذه التشريعات . فهذا خارج موضوعنا .

 

 

الباب الثانى: التطبيق الفصل الأول : تطبيق الأمر بعمل المعروف والنهى عن عمل المنكر

 

1 ـ عذاب أهل النار مؤبد خالد ، لا يريحهم الموت ، ولا مجال فيه للتخفيف، يقول جلّ وعلا :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ. ) فى هذه الأبدية فى العذاب يعلو صراخهم بطريقة لا يمكن تخيلها ، ويأتى التعبير القرآنى عن صراخهم بتعبير هائل ، يقول جل وعلا ( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا ) وفى هذا ( الاصطراخ ) يرجون ربهم إعطاءهم فرصة أخرى : ( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) ويأتيهم الجواب بأن الله جل وعلا أعطاهم فرصة العمر فى حياتهم الدنيوية ، وكانت كفيلة لمن أراد ىأن يتذكر ويتعظ ، ففى كل أمة من الناس خلا فيها نذير (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ )( فاطر 24)، والنذير كل واعظ بالحق من الرسل والأنبياء وغيرهم . وربما يكون النذير موقف شدّة يجعل الانسان يتذكر ربه ، ولا يخلو كل إنسان من مواقف شدّة وفواجع ومصائب تجعله يجأر لله جل وعلا يطلب النجدة ، فكل إنسان يأتى له نذير لعله يتذكّر . ويتذكّر ثم يلهو وينسى ويعود الى غفلته ، الى أن يفاجأ بالموت فيطلب ـ دون جدوى ـ من ملائكة الموت فرصة أخرى ليعود للحياة ليصلح من أمره : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ )(المؤمنون 99 : 100 )(وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )( المنافقون 10 : 11 ). ثم فى النار يظل فيها خالدا مخلدا ( يصطرخ ) يطلب فرصة أخرى : ( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) ، ويأتيهم الرفض الحاسم بسؤال إستنكارى مؤلم :(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْالنَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) ( فاطر 36 : 37 ).

الشاهد هنا هو قولهم وهم يصطرخون فى النار (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ). لم يقولوا ( ربنا أخرجنا نؤمن ) بل (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ). القضية ليست فى مجرد الايمان بل فى العمل .!.

2 ـ لا عبرة بإيمان يعجز عن دفع صاحبه للعمل الصالح والكف عن العمل السىء . فأكبر طاغية مذكور فى القرآن وهو فرعون موسى كان يؤمن بالله وأنّ لله جل وعلا ملائكة ، ولم يمنعه هذا الايمان من التندر على موسى فى مؤتمره :( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ )(الزخرف 51 : 53 )، فرعون كان يؤمن بالله جل وعلا وملائكته ومع ذلك أعلن نفسه الرب الأعلى فى مؤتمر صحفى آخر (فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى )(النازعات  23 : 26)، ( والسؤال للمستبد العربى البائس : هل قرأ قوله جل وعلا عن مصير فرعون :(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى )؟

فرعون هذا حين أدركه الغرق أعلن إيمانه فى الوقت الضائع (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ )( يونس 90 : 92 ). ( نفس السؤال للمستبد العربى البائس : هل إتّخذ من مصير فرعون آية وعبرة ؟ أم هو ضمن أكثرية الناس الذين هم عن آيات الرحمن غافلون ؟ . أولئك الغافلون سيكون لديهم متسع من الوقت ، ففى خلود أبدى سيصطرخون :( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ). ونعيد القول بأنّ القضية ليست فى مجرد الايمان بل العمل .!.عجز أيمان فرعون عن جعله يعمل عملا صالحا غير الذى كان يعمل .! 

 الكفر يحوى إيمانا ، ولكنه إيمان قليل عاجز عن إصلاح صاحبه ودفعه للإكثار من العمل الصالح والتوبة من الكبائر . يقول جل وعلا عن إيمان أولئك الكافرين القليل :(وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ )( البقرة 88)( وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155)( النساء 46 ، 155 )( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ )( الحاقة 41)، لذا لا بد فى دخول الجنة من الايمان والعمل الصالحات ، ولذا فأهل الجنة هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

3 ـ لقد خلق الله جل وعلا النفس البشرية على أساس قابليتها للفجور والتقوى،والفجور مقدم فيها على التقوى، لهذا تحتاج النفس لجهد فى تزكيتها بالتقوى،ولو تم تركها لغرائزها فستهبط الى قاع الرذيلة : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) ( الشمس 8 : 10) . ومن السهل وبدون جهد أن تفسد النفس وأن يفسد المجتمع ويعيش الناس على غرائزهم ، ومن الصعب إصلاح الناس وتزكيتهم بالتقوى والضمير الحىّ . ومن هنا لا بد أن يتعاون الناس جميعا معا فى التواصى بالحق وبالتواصى بالصبر وفى التناهى عن المنكر وفى أن يأتمروا بالمعروف. وكل الأفراد سواء فى حاجتهم للنصح ، وقد قال جل وعلا مستنكرا من ينصح الناس ولا ينصح نفسه :( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ )( البقرة 44 )( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ )( الصّف 2 : 3 )ّ. أى إن الموضوع ليس مجرد الأمر بالمعروف بل الأمر بفعل المعروف والنهى عن فعل المنكر. ليس مجرد القول ولكن التطبيق .

4 ـ والتطبيق الجماعى للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يستلزم وعيا أجتماعيا عاما كما يستلزم حيوية حركية نشطة فى المجتمع بحيث يتفاعل المجتمع وتتكون منه كله (أمّة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فتفلح : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ) ( آل عمران 104 ). العدو الأكبر هنا هو وجود تلك الأغلبية الصامتة التى يفسد بها المجتمع لأنها البيئة المناسبة التى ينبت فيها الاستبداد ، ويتشجع فيها أى مجرم ليركب مستبدا تلك الأغلبية الخانعة الخاضعة .

وفى الاستبداد يسود الظلم والفساد ويجد أفراد المجتمع فى الانحلال الخلقى مجالا للتنفيس عن أحلامهم الموءودة و رغباتهم المكبوتة، وتدفع المرأة الثمن فيتحكّم فيها الرجل الخانع ليعوّض خضوعه للمستبد ، ويصبح الشرف مرتبطا بحجاب المرأة ونقابها وليس بالنخوة والشجاعة وقول كلمة الحق ومواجهة الظلم وحفظ العهد والوعد ونجدة الملهوف. كما يدفع الثمن المصلحون طبقا لثقافة الاستعباد السائدة والتى تجعل الأغلبية الصامتة ضحية لثقافة السماع فتصدق كل ما يقال لها فى أجهزة دعاية المستبد ، وتتقبل كل ما يتبوله فقهاء السلطة فى آذانها . وهكذا تسود فى هذا المجتمع عاهات أخلاقية واجتماعية تصبح بمرور الزمن عادات وتقاليد ‘ بل قد يقوم فقهاء الاستبداد والفساد بتسويغ وتبرير وتشريع تلك الكبائر لتصبح معالم أساس فى الدين الأرضى السائد . ومثلا ساد فى العصر العباسى الثانى تطرف الحنابلة وأكتسب مسحة دينية تحت شعار الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ثم جاء العصر المملوكى بالتصوف بشعار نقيض وهو ( عدم الاعتراض ) واكتسب هو الآخر مسحة دينية . وفى هذين العصرين ساد الشذوذ الجنسى والانحلال الخلقى تحت النقاب والحجاب واللحية والجلباب . ليس هذا بالتأكيد العرف أو المعروف الذى يجب أن نأمر به . المعروف هو القيم العليا الفطرية التى تكمن داخل كل ضمير بشرى ، ولا يختلف عليها إنسان ، من الكرم والشجاعة والرحمة و العدل والاحسان والحرية .

5 ـ ثم إن هذا التطبيق للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يستلزم التمكين،وهذا التمكين يحتاج وقفة ..

 

 

الباب الثاني الفصل الاول التمكين وتطبيق الأمر بعمل المعروف والنهى عن عمل المنكر

 

التمكين للشعب وليس للمستبد بالشعب

 1 ـ إقامة الأمر بفعل المعروف والنهى عن فعل المنكر تستوجب سلطة شعبية تصدر عن وعى عقلى وحركة نشطة متفاعلة فى البيت وفى الشارع . بالوعى العقلى يعرف الفرد إن حركته فى الدفاع عن مظلوم تعنى دفاعا مسبقا عن نفسه ، لأنه لو ترك الظالم يفترس مظلوما وسمع صراخ المظلوم وتكاسل عن نصرته فسيأتى سريعا اليوم الذى يكون هو فريسة للظالم يلتهمه الظالم دون أن يدافع عنه أحد . كما إن الظالم لا يلبث أن يرتدع عن ظلمه لأنّه سيواجه بغضب شعبى ووقوف الأفراد ضده يضربون على يده ، فيتحول من صاحب نفوذ الى مجرم خارج عن القانون يتمتع باحتقار الناس . بالوعى العقلى الايمانى يعرف الفرد أن الفلاح فى الدنيا والآخرة للفرد والمجتمع معا هو أن ينبض هذا المجتمع بالتحرك الايجابى فى الخير ضد الظلم والاستبداد والاكراه فى الدين . بهذا الوعى ( الجمعى ) يتخلص المجتمع من سرطان مزمن هو الأغلبية الصامتة المقهورة،وهى الرحم الذى ينجب المستبد. بهذا الوعى الجمعى أو ثقافة الديمقراطية وحقوق الانسان يصبح كل فرد مستعدا للتضحية بحياته دفاعا عن فرد آخر مظلوم ، بل يتبارى المختلفون فى الرأى فى الدفاع عن خصم لهم فى الرأى أو فى الدين لو تعرض لإضطهاد بسبب رأيه أو دينه ، يحققون مقالة فولتير : إننى أختلف معك فى الراى ولكننى مستعد  للموت دفاعا عن حريتك فى الرأى . وكنا نتمنى أن يقول هذه المقالة الاسلامية أحد فقهاء ( المسلمين ). بهذا الوعى الجمعى تتكوّن للمجتمع سلطة لا مجال فيها مطلقا لحاكم ،لأن المجتمع ممثلا فى أفراده سيكون هو الحاكم ، ومن يتولى المناصب من المتخصصين لن يكونوا سوى خدم للشعب ، وهذا هو وصفهم فى أمريكا والغرب.

2 ـ بدون هذا الوعى الجمعى والاستعداد الفردى والجمعى للدفاع عن الحرية السياسية والدينية وحقوق الأفراد لا يمكن إقامة ديمقراطية حتى لو تم إنتخاب برلمان ورئيس طبق دستور رائع ومثالى . كل ذلك لا يجدى مع وجود أغلبية صامتة خانعة مقهورة لا تنهض للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. فى وجود هذه الأغلبية الذليلة ستتحول الديمقراطية الى صراع بين لاعبين محترفين مختلفين يتداولون بينهم السلطة وركوب الشعب ؛ تأتى الانتخابات بحكومة مدنية من اولئك اللاعبين  فيسرقون ما استطاعوا فيقوم إنقلاب يحكم فيه العسكر بالاستبداد ، ويسرق العسكر ما استطاعوا ، فيثور عليهم اللاعبون فيتوارى العسكر وتتولى حكومة مدنية أخرى من لاعبين جدد ، وتتوالى القصة من ديمقراطية فاسدة الى انقلاب فاسد ، وفساد مستمر الى أن تتأهل التربة الملوثة لانتاج سرطان مدمر هو الحكم الدينى القادم من حمأة الأغلبية الصامتة ومن قاع الحرمان فيها. يأتى تحت شعارات برّاقة تخدع الأغلبية الصامتة وتبشرها بالمهدى المنتظر أو بغيره أى فارس يركب حصانا أبيض يأتى من عالم الغيب لنصرة القاعدين الخاملين . يأتى ( التتار ) متنكرين تحت راية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتطبيق الشريعة وإقامة الحدود ، وتكون المؤهلات غاية فى البساطة ومغرية لأفراد الأغلبية الصامتة المطحونة؛ لا يشترط ان تكون ثريا أو من عائلة محترمة ، كما لا يشترط أن تكون مثقفا أو عالما أو مؤهلا ..كل هذه رتوش لا تقدّم ولا تؤخر . المهم أن تطلق على الناس لحيتك وأن ترفع لهم ( السّواك ) وأن تتبنّى الجلباب والزبيبة والنقاب. وسرعان ما يتحول المسجد الى معقل للتخطيط للوثوب على الحكم بحشد الصامتين ليكونوا وقود المعركة ، ثم بعد الوصول للحكم يتم ركوبهم كالعادة فليسوا مؤهلين إلا للركوب . حدث هذا فى السودان وفى ايران وفى باكستان ، ويجرى الاستعداد لوقوعه فى مصر واليمن وتونس وليبيا والاردن والعراق ..

3 ـ ولتفادى هذا لا بد من (تمكين ) الشعب . لا بد من سلطة الشعب ؛ سلطة حقيقية وليس مثل شعار أراجوز ليبيا السابق فى كتابه الأخضر . تمكين الشعب ليس خيالا مستحيل التحقيق ، فهو نظام حياة فى الغرب فى عصرنا الراهن . وقد حدث فعلا فى القرن السابع الميلادى فى الدولة الاسلامية . حين حدث ( التمكين ) فمارس شعب المدينة فى عهد النبى محمد عليه السلام الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كما ينبغى أن يكون.

 التمكين إخوانيا وسلفيا :

1 ـ على عادتهم فى التلاعب بالقرآن الكريم يقوم الاخوان المسلمون والسلفيون بتحريف معنى قوله جل وعلا :( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) (الحج  41 )، ويحتلّ التمكين معلما أساسا من ( جهادهم ) للوصول الى الحكم . الوصول للحكم هو أملهم وجنتهم وحياتهم وموتهم وولعهم وحلمهم فى نومهم ويقظتهم .فى سبيل الوصول للحكم يتظاهرون بالتقوى والخشوع لله جلّ وعلا والخنوع والخضوع ـ أحيانا ـ للناس. لا يتورعون عن التحالف مع الشيطان أو خيانة الأوطان . كل شىء عندهم يهون للوصول الى الى الحكم . وهم يعتمدون سياسة التمهل والصبر والنفس الطويل ، ولكن لا يترددون فى ركوب أى موجة تنقلهم الى كرسى العرش ، ثم بكل بساطة يضحّون بمن أوصلهم الى كرسى العرش .

2 ـ فى سياستهم المتمهلة للوصول للعرش توجد لهم مرحلتان : التربية والتمكين . فى مرحلة التربية يقومون بغسل مخ الجماهير باستغلال المساجد والتعليم والاعلام حتى يقتنع الناس بأنهم هم المختارون من لدن الله لحكم الناس بالشريعة ، أو الحاكمية الالهية . وتحت شعارات مطاطة وفضفاضة و(مقدسة ) يعملون بكل جهدهم فى توجيه عاطفة الناس الدينية نحو إقامة وتطبيق شرع الله أو ( حاكمية الله ) بحيث يصبح كافرا مرتدا مهدور الدم كل من يناقشهم فى مدلول تلك الشعارات وكيفية تطبيقها ، ومهما أعلن إسلامه فلا ينجيه من غضبهم . وبهذه الطريقة دفع الراحل فرج فودة حياته لمجرد أنه تساءل وناقشهم فلم يستطيعوا الردّ عليه إلّا بالرصاص. يحلو لهم القول بالحاكمية بدلا من حكم البشر وتطبيق شرع الله بدلا من شرع البشر، ويتناسون أنهم هم البشر الذين سيحكمون وأن شريعتهم هى أقوال فقهاء من البشر . ولكن إيّاك أن تواجههم بهذا فسيكون مصيرك مثل فرج فودة .!. وبعد أن يقتنع أغلبية الناس بالحاكمية على أنها الاسلام وبالاخوان والسلفية على أنهم المختارون من الله لحكم الناس بالاسلام ، يتمهد الطريق سلميا لهم للوصول للعرش وبدء المرحلة الأخرى والأخيرة وهى ( التمكين ) . وبالتمكين لا مجال للرجوع الى الوراء .

3 ـ حدث الربيع العربى مبكرا بالنسبة لهم إذ كانوا ولا يزالون فى مرحلة التربية ، فترددوا بين الرفض والتأييد ، فلما لاح إنتصار الثورة سارعوا بركوبها ؛ إستخدموا ما حققوه من سيطرة ونفوذ فى القفز على الثورة المصرية والتلاعب بها وبالمجلس العسكرى أملا فى الوصول للتمكين . وهم الآن بصدد وضع دستور ( يمكنهم ) من ركوب المصريين باسم الاسلام .! ..وما يحدث فى مصر ستكون له إنعكاساته على العرب أجمعين ، ومن يناهضهم فمصيره التكفير والتخوين.

4 ـ بوصولهم للتمكين سترتفع فى المساجد وتتصدر الخطب الآية الكريمة : (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ). بل بدأ مبكرا استيرادهم للعصى الكهربائية لفرض الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتأديب المصريين وفرض السيطرة والتمكين والتحكم فى الناس حتى يركعوا لهم ويسجدوا باعتبارهم ممثلى رب العزّة فى الأرض .!

 التمكين قرآنيا وحصانة الكنائس والمعابد والمساجد

 1 ـ قوله جل وعلا : (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) جاء فى سياق لا يمكن فهم الآية بدونه ، ولذا فإن من العادات السيئة لمن فى قلبه زيغ أن يقتطع الآية من سياقها ويحرّف معناها ليتماشى مع هدفه . فما هو سياق الآية الكريمة ؟

2 ـ يقول جل وعلا : ( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ  ) ( الحج 38 ـ   41 ).

2 ـ السياق الخاص للآية مع ما قبلها وما بعدها جاء فى حق الدفاع المشروع ضد إعتداء ظالم . ويبدأ بحقيقة الاهية تؤكّد إن الله جل وعلا يدافع عن الذين آمنوا ، أى الذين إختاروا الأمن والسلام طريقا فى تعاملهم السلوكى مع الناس ، وإختاروا الايمان بالله جل وعلا وحده الاها لا شريك له فى تعاملهم القلبى والتعبدى مع رب الناس. هؤلاء يدافع عنهم رب العزة، وهو جل وعلا فى المقابل لا يحبّ كلّ خوّان كفور:( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)، أى كل ظالم معتد بسلوكه مع الناس وبعقيدته فى الشرك وتقديس البشر والحجر .

3 ـ ثم يأتى الإذن بالقتال الدفاعى للمؤمنين عندما يقع عليهم هجوم باغ.: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) أى إذن لهم بالقتال . وهو ليس خاصّا بالمؤمنين فى المدينة فى عهد النبوة بل هو اذن صريح لكل من يتعرض للظلم والقتل بأن يدافع عن نفسه بغض النظر عن عقيدته ودينه، اذ يكفي ان يكون مظلوما ومعرضا لاحتمال الابادة بالقتل حينئذ يأتيه نصر الله اذا قاتل دفاعا عن حقه في الحياة. وقد غفل علماء التراث عن عمومية الآية في تشريعها الالهي لكل مظلوم يفرض الاخرون عليه الحرب ، أى كان من حق الشعوب التى فتحها المسلمون عنوة ان يدافعوا عن انفسهم و ان يردوا الاعتداء بمثلة. وغفل علماء التراث عن معني آخر أهم ، وهو أن الايذاء الذي اوقعه مشركو قريش بالمؤمنين وصل الي درجة القتل، وحين يقاتل المشركون المعتدون قوما مسالمين لا يردون علي انفسهم القتل فان إبادة أولئك المستضعفين حتمية . أي ان القرآن يشير الي حقيقة تاريخية اغفلتها عنجهية الرواة في العصر العباسي الامبراطورى وهي ان المشركين قاموا بغارات علي المدينة وحدث قتل وقتال للمسلمين ، وسكت المسلمون عن الدفاع عن أنفسهم لأن الاذن بالقتال لم يكن نزل بعد , فلما نزل التشريع اصبح من حقهم الدفاع عن النفس . وجاءهم الإذن بالقتال مع وعد الاهى بالنّصر (وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).

4 ـ وغفل علماء التراث ايضا عن التدبر في الاية التالية لتشريع الاذن بالقتال والتى تقول (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) . الآية هنا تعطي حيثيات الاذن بالقتال لرد العدوان ،الاول ان اولئك المظلومين تعرضوا للقتل والقتال، والثاني انهم تعرضوا للطرد من بيوتهم ووطنهم لمجرد انهم كانوا يقولون ربنا الله ، وهذا ما اشار اليه علماء التراث لكنهم غفلوا بسبب التعصب الديني في القرون الوسطي عن التدبر في الفقرة الثانية من الآية والتي تؤكد انه لولا حق المظلوم في الدفاع عن نفسه وحريته العقيدية لتهدمت بيوت العبادة للنصاري واليهود والمسلمين وغيرهم حيث يذكر العابدون فيها اسم الله كثيرا. والاهمية القصوي هنا في تأكيد القرآن علي حصانة بيوت العبادة لليهود والنصاري والمسلمين حيث ذكر الصوامع والبيع والصلوات ،أي كل ما يعتكف فيه الناس للعبادة من اديرة وكنائس وغيرها ثم جاء بالمساجد في النهاية ، وقال عن الجميع انهم يذكرون فيها اسم الله كثيرا ولم يقل طبقا لعقيدة الاسلام في الالوهية (يذكر فيها اسم الله وحده) حتي يجعل الحصانة من الاعتداء لكل بيوت العبادة لكل الملل والنحل .

والاهمية القصوى هنا ايضا ان تشريع الاذن بالقتال ليس فقط لرد الاعتداء وانما ايضا لتقرير حرية العبادة لكل انسان في بيت عبادته ،مهما كانت العقيدة والعبادة ،فلكل انسان فكرته عن الله وعقيدته في الله وهو يقيم بيوتا لعبادة الله و لابد ان تكون هذه البيوت واحة آمنة تتمتع هي ومن فيها بالامن والسلام ، وتلك هي حقيقة الاسلام الذي غفل عنها علماء التراث .

5 ـ ولأولئك المؤمنين المدافعين عن الحرية الدينية ولغيرهم جاء الوعد الالهى بالنصر: ( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)، أى إن ما يفعلونه من قتال دفاعى فى سبيل الحرية الدينية وحصانة بيوت العبادة لليهود والنسيحيين والمسلمين وغيرهم هو نصرة لله جل وعلا ، وأكّد رب العزة  جل وعلا لينصرنّ من ينصره ، كما أكّد من قبل إنه يدافع عن الذين آمنوا لأنه جل وعلا لا يحب كل خوّان كفور . وهذا وعد الاهى ينطبق ويتحقق لكل من يقوم بشروطه ، أى كل من يدافع عن الحرية الدينية ويقف ضد الاكراه فى الدين ويستميت فى الدفاع عن حصانة بيوت العبادة لكل الناس يعده رب العزة القوى العزيز بالنصرة .

6 ـ وهذا الدفاع عن رب العزّة يستلزم التمكين ، أى أن يكون لك جيش قوى ، ولكى يكون لك جيش قوى لا بد أن تكون لك دولة ، ولكى تكون لك دولة لا بد أن تكون شعبا مستقرا على أرض يملكها ويقيم عليها وله نظام حكم ونظام إدارة ، تنشىء هذا الجيش وتوفر موارده المالية ، ولا بد لهذه الدولة من كيان قانونى تشريعى يحفظ حقوق الأفراد وينظّم التعامل بينهم . ولكى تكون دولة اسلامية لا بد أن تتأسس على الحرية الدينية وقيام الناس بالقسط  والعدل وممارسة الشورى بينهم فى كل أمورهم ، وحتى يتعلم الناس تطبيق كل تلك القيم العليا المتعارف عليها لا بد من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر . لذا تقول الآية التالية عن مجتمع المؤمنين ودولتهم وتمكينهم : ( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج 38 ـ 41). هذا هو السياق الخاص لقوله جل وعلا : ( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ )( الحج 41).

 التمكين النفسى بتغيير الأغلبية الصامتة لتكون أمة متفاعلة بالخير

 1 ـ السياق العام للآية الكريمة فى القرآن كله يبدأ بمصطلح (الذين آمنوا ) فى قوله جل وعلا : ( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا )، وكيف انه يعني اساسا وفى التعامل السلوكى والظاهرى الذين اختاروا الامن والامان في تعاملهم مع الناس حتي لو كان هؤلاء الناس يعتدون عليهم ويضطهدونهم بسبب الدين.

وكى نفهم المعني المراد بالذين آمنوا في خطاب القرآن لأتباع النبي واصحابه نقرأ قوله تعالي لهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) ( النساء 136) فالله تعالي يدعو هنا الذين امنوا الي الايمان بالله ورسله وكتبه السماوية . أي يدعوا الذين اختاروا الايمان بمعني الأمن والأمان ان يضيفوا الي ذلك الايمان السلوكى إيمانا قلبيا بالله وكتبه ورسله .وعلى هذا النسق فالخطاب للذين آمنوا مقصود به الذين اختاروا السلم و الامن طريقا ،ويأتي الخطاب يدعوهم للايمان القلبي والطاعة واقامة الفرائض , أي يدعوهم الي الايمان القلبي ولوازمه من الطاعات ليتحقق الايمان القلبي مع الايمان السلوكى الظاهري، او ليتحقق الامن والسلام مع الايمان بالاله وكتبه ورسله , ويتحقق اخيرا في الاخرة نعيم الجنة حيث السلام والامان.

2 ـ وعلى هذا النسق نفهم دعوة الذين آمنوا ظاهريا وسلوكيا لأن يكملوا إيمانهم الظاهرى بإيمان قلبى بالله جل وعلا وحده يقوم على التقوى وإسلام القلب والجوارح لله جل وعلا وحده حتى الممات ، نقرا معا قوله جل وعلا فى حثّهم على التقوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) ( آل عمران 102 )،وحتى لا يكونوا فى الاخرة من أهل النار يقول جل وعلا للمؤمنين سلوكيا وظاهريا  يخوّفهم  من النار ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) وحتى لا يستمروا فى ارتكاب الكبائر يقول لهم جلّ وعلا فى حثّهم على التوبة :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)(التحريم 6 ، 8) ، بل كانوا يؤذون النبى .! وفى نهيهم عن إيذاء النبى قال لهم جلّ وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً )( الأحزاب  69 : 70) .
4- وهؤلاء المؤمنون المسالمون الذين اجتمعوا حول النبي في مكة ثم في المدينة كانوا فى معظمهم من المستضعقين الذين تعودوا إيثار المسالمة وحب السلم وتحمل الأذى عجزا ، أى كانوا ممّن نطلق عليهم فى عصرنا ( الأغلبية الصامتة ) الراضية بالخنوع والخضوع ، فأعطوا للملأ القرشى ـ من الأمويين بالذات  ـ فرصة التحكم فيهم . ثم دخل أولئك المستضعفون فى الاسلام فتعرضوا للإضطهاد ، ولم يحاول احدهم الدفاع عن نفسه ، وتحملوا التعذيب في مكة وهاجروا منها الي الحبشة مرتين ثم هاجروا الي المدينة ، فاستمر مشركو قريش فى الغارة عليهم يريدون ارغامهم علي العودة لدين الآباء .كان ممكنا ان يستأصلهم المشركون بالاضطهاد والقتل لولا ان نزل تشريع القرآن يبيح لهم الدفاع عن النفس .

5 ـ الخطوة الإيجابية الهائلة التى إتخذوها هى الهجرة . ولم تكن بالشىء الهين عليهم . فمع أنهم ذاقوا الهوان فى مكة قبل وبعد إسلامهم إلا إن الحنين للوطن والأهل المشركين كان يؤرقهم فى بداية عهدهم فى المدينة مستقرهم الجديد . لذا سرعان ما نسوا ذكريات التعذيب بل ونسوا ملاحقة قريش لهم بالاعتداءات عليهم فى المدينة ، وبدلا من مواجهة الاعتداء بالسخط والاحتجاج ـ قبل الإذن لهم بالقتال ـ إذا هم يلقون بالمودة للمعتدى ويوالونه .!.. فنزل قوله جل وعلا يذكّرهم بجرائم قريش فى طردهم النبى والمؤمنين وعداء أولئك الكفار لله تعالى وللمؤمنين : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )(الممتحنة 1 : 3 )

6 ـ وكان منتظرا من المؤمنين المسلمين حول النبي ان يبتهجوا بتشريع الاذن بالقتال ورد الاعتداء والدفاع عن النفس ،ولكن حدث العكس اذ انهم تعودوا الصبر السلبي وتحمل الاذى ،ولذلك كرهوا تشريع الجهاد برد الاعتداء وغفلوا انه ضرورى لحمايتهم من خطر الابادة لأنه اذا عرف العدو انهم سيدافعون عن أنفسهم ولن يسكتوا فسيتوقف عن الاعتداء عليهم ،وبذلك يتم حقن الدماء للطرفين، وهو خير للطرفين ، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالي للمؤمنين : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )( البقرة 216 )، لقد كرهوا القتال دفاعا عن النفس وهو خير لهم واحبوا الاستكانة والخضوع لمن يحاربهم وهو شر لهم، والسبب انهم تعودوا السلام والصبر الي درجة اصبحت خطرا علي وجودهم ودينهم .

7 ـ  إلّا إن هذا التوضيح القرآني للمؤمنين المسالمين لم يكن كافيا لبعضهم لكي يخرجهم من حالة الخضوع الي حالة الاستعداد لرد العدوان. ولذلك فان فريقا منهم احتج على تشريع القتال، ورفع صوته لله بالدعاء طالبا تأجيل هذا التشريع , وفي ذلك يقول الله تعالي :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) ( النساء 77 ). كانوا في مكة مأمورين بكف اليد عن الدفاع عن النفس اكتفاء باقامة الصلاة وايتاء الزكاة ، واستمر هذا بعض الوقت فى المدينة حين كانت قريش تلاحقهم بالغارات ، فلما فرض عليهم القتال الدفاعي إحتج فريق منهم وطلب التأجيل . وهذا يدل علي عمق شعورهم بالمسالمة وكراهية الدماء . وهى هنا حالة (مرضية ) من المرض ، ولا بد من علاجها بالمواجهة مع النفس حتى يحدث التمكين .

8 ـ فالتمكين بيدأ نفسيا بأن يقوم الفرد بتغيير ما فى نفسه من خنوع وخضوع وسلبية ورضى بالهوان الى أن يكون أيجابيا فى الخير حرّا أبيا شريفا مستعدا للتضحية بنفسه فى سبيل القيم العليا من الحق والخير والعدل والحرية . ولو بدأ كل الأفراد فى الأغلبية الصامتة فى تغيير النفس جاءهم من الله جل وعلا الاستجابة ، أى يأتى التغيير الالهى للناس إستجابة لقيامهم هم بتغيير أنفسهم : (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ  )(الرعد 11 )  .

9 ـ وفى عهد النبوة لم يكن حصول هذا التغيير فى الأغلبية الصامتة للمسلمين المسالمين سهلا أو هينا ، إذ إستلزم أن يلاحقهم رب العزة بالتحريض والتأنيب والتشجيع . وكانت معركة بدر هى أكبر تحدّ واجهوه فى التغلب على مخاوفهم ورعبهم من القتال ، فقد كانت مواجهة حقيقية لنفسية المؤمنين من أهل بدر ، وهم يرفعون السلاح فى وجه من اعتادوا الخضوع لهم وتربوا على الرعب منهم . لذا استلزمت هذه المواجهة بين المؤمنين ومشركى قريش مواجهة أخرى نفسية ، واحتاجت هذه المواجهة النفسية الى أن يستغيثوا بالله بسبب رعبهم من مواجهة الطغاة ، فجاء تبشير الله جل وعلا لهم بآلاف الملائكة لتطمئن قلوبهم . ولا نجد احسن من وصف القرآن لهذا الفريق الخائف من اهل بدر، يقول تعالي :( ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُون إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال 5 : ـ  ) أي انهم كانوا كارهين للحرب واعلنوا عن موقفهم بالجدال في الحق الذي اصبح واضحا, وعندما تحتم عليهم القتال الفعلي كانوا كأنما يواجهون الموت وينظرون اليه . وبالمناسبة نذكر ان حديث القرآن عن غزوة بدر يناقض روايات السيرة التي تؤكد خلافا للحقيقة ان جميع المسلمين في بدر تحمسوا للقتال ولم يرتفع صوت واحدبالتردد . ولولا ما ذكره القرآن ما عرفنا حقيقة الموضوع  . وفي غزوة الاحزاب حاصر المشركون المدينة فبلغ الخوف من المؤمنين غايته: (الاحزاب 10،11)وادي الخوف ببعضهم الي الهرب وتعويق المقاتلين ونشر الاشاعات (الاحزاب 18،19  ،60)وفي المقابل ظهر المعدن الاصيل لبعض المؤمنين فازدادوا ايمانا وتسليما :ا(الاحزاب 22،33) . وفي غزوة ذات العسرة آخر الغزوات ظل المسلمون حتي ذلك العهد غير متحمسين للقتال ورد الاعتداء مما جعل آيات القرآن اكثر تأنيبا لهم (التوبة 13،16 ، 38).  ، هذا بخلاف المنافقين , فنحن نتحدث عن الذين آمنوا لنعرف كيف انهم آمنوا بمعني احبوا الامن والامان وكرهوا الحرب والقتال حتي لوكان الحرب والقتال دفاعا ضد عدوان لا ينتهي .
 10 ـ واحتاج ( التمكين النفسى ) ممارسة عملية للحرب ووعظا ووعودا الاهية ، وكلها ليست لمؤمنى عهد النبوة فقط ـ بل لكل مجتمع مؤمن يريد الفلاح فى الدنيا والآخرة . وهذا ما جاء به وعد التمكين للمؤمنين .  ففى السنة الأولى للهجرة كان أول ما نزل هو وعد الاستخلاف والتمكين للمؤمنين ، وهو وعد مشروط باخلاص الدين لله جل وعلا : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ( النور 55 ). الاستخلاف هنا فى الأرض بينما التمكين فهو للدين . وبهما معا ( الاستخلاف والتمكين ) سيزول خوف المؤمنين من عدوهم القرشى الذى كان يتابعهم بالغارات . وانتصر المؤمنون الخائفون فى بدر على عدوهم المرعب نفسيا لهم. وبدأ تحقيق الوعد الالهى سالف الذكر فى سورة التور (55 ). وهو وعد مشروط باخلاص الدين لله ،أى بالايمان القلبى وليس مجرد الايمان السلوكى الظاهرى . وحتى يتحقق الوعد كاملا لهم بالتمكين والاستخلاف فلا بد من نجاح التمكين النفسى بأن يغيروا ما بأنفسهم من خضوع وخنوع وشرور ، لذا قال لهم جلّ وعلا يذكّرهم بوضعهم قبل بدر وقد كانوا أذلّة فنصرهم الله جل وعلا على أنفسهم أولا ثم على عدوهم ثانيا : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )(آل عمران  123). من المنتظر من الضعيف المهان حين يحصل مرة واحدة على القوة أن يغتر ويكفر بالنعمة . وهذا ما وقع فيه المؤمنون بعد انتصار بدر . وهذا الغرور والكفران بالنعمة وعدم شكرها كفيل بحرمانهم من تحقيق وعد التمكين والاستخلاف المشار اليه فى سورة النوى ( آية 55 ) . لذا قال جل وعلا لهم يذكّرهم بما تحقق لهم من تمكين جزئى أزال عنهم رعبهم الذى كان من قبل :( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )( الأنفال 26 ) .

هذه الآية الكريمة جاءت فى سياقها الخاص تسبقها وتتلوها آيات تؤنب المؤمنين وتلومهم وتعظهم وتحذرهم وتأمرهم وتنهاهم حتى يكونوا أهلا لأن يتحقق فيهم وعد التمكين ، يقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ )( الأحزاب 20 : 28 )

 الخلاصة

إن التمكين هو أيضا تمكين للحرية الدينية للجميع داخل الدولة الاسلامية ، وهذا بالتناقض مع التمكين فى دين الوهابي السلفية .

 

الباب الثاني  الفصل الثالث  مفهوم دولة الاسلام التى تطبق الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر

 

 

مفهوم دولة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

  مفهوم الدولة الاسلامية.

1 ـ  التمكين هنا يعنى قيام دولة بعقد وعهد بين الأفراد فى إطار هيكل قانونى يؤكد على الحقوق الأساسية للفرد ودور نظام الحكم بضمان هذه الحقوق . هى دولة تضمن العدل والأمن والحرية الدينية لجميع الأفراد، وكل فرد يتحمل  مسئوليته فى إختيار عقيدته ودينه أمام الله جل وعلا يوم القيامة.هى دولة تعبر عن جميع افرادها بالتساوى فى اطار الحرية الدينية والعدل السياسى والاجتماعى ، لا مجال فيها للإستنابة فى العمل السياسى، أو أن يمثّل مجموعة أشخاص الشعب كما يحدث فى الديمقراطية النيابية أو التمثيلية ، حين يتم إنتخاب ممثلين عن الشعب ينوبون عن الشعب فى مجلس النواب.بل ديمقراطية مباشرة يتعين فيها على كل فرد فى المجتمع حضور الجلسات وليس مسموحا لأحد بالتغيب إلا لعذر قهرى.(الشورى 38 )(النور62 ـ ).

2 ـ والحاكم هنا ليس شخصا بل هو المجتمع المسلم نفسه وفق معالم الديمقراطية المباشرة أو الشورى فى مصطلح القرآن الكريم .وأولو الأمر هم خدم الشعب فى تنفيذ سلطته في حدود تخصصه من قاضٍ أو ولى أمر. والقاضى بالذات هو مدار الحكم بين الناس ، وهو أساس إقامة العدل والقسط.

3 ـ ومن القرآن نتعرف على بعض أولى الأمر الذين يقيمون شرع الله، وطاعتهم مشروطة بأن تكون فى إطار طاعة الله جل وعلا إذ لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق.( النساء  95.). ومن أعوان الحاكم في إقامة شرع الله الشهود والكتبه ، ولهم حصانة فاذا ضاعت حصانتهما كان ذلك دليلا على فساد المجتمع ، وعليهما تأدية الواجب المفروض عليهما بالعدل و الحضور عند الاستدعاء (  البقرة 282.).

وهناك الخبراء ومنهم الذين يقدرون عوض الصيد في الحرم ( 5/95) ، ومنهم الذين يقيمون باختبار اليتيم عند البلوغ (النساء 6.) ثم  هناك الحراس ومن يقوم بتنفيذ العقوبة والعاملون على جمع الزكاة ولهم أجر من داخلها يقرره الحاكم. والمجال مفتوح أمام الشعب المسلم فى التوظيف و التقنين فى (المباح ) وهو مجال واسع تركه القرآن الكريم للتشريع البشرى.

 لمحة عن مدارات التشريع البشرى فى الدولة الاسلامية.

 1 ـ تدور التشريعات فى القرآن الكريم حول ثلاث درجات : الفرض المكتوب او الاوامر ، ثم النواهى أو المحرمات ، ثم ما بينهما وهو المباح ، ومنهج القرآن فى التشريعات فى هذه الدرجات ان يحدد الفروض والمحرمات ثم يترك المباح مفتوحا للاستعمال والتنظيم والتقعيد والتقنين البشرى. أى لا مجال لتحريم المباح الحلال وهو الأصل والشائع  ، ولا مجال لاباحة الحرام ، وهو استثناء محدد وقواعد محددة .

على سبيل المثال هناك المحرمات فى الطعام التى تكررت كثيرا فى القرآن الكريم " البقرة 173" ، " المائدة 3" ، " الانعام 145" ، " النحل 115" وهى الميتة والدم ولحم الخنزير وما يقدم للأوثان . وقد جعل القرآن الكريم ما عداها حلالا طيبا ، وحذر رب العزة من تحريم أى من هذا الحلال الذى هو الأصل. وجعل تحريمه شركا بالله تعالى واعتداءا على حقه فى التشريع.  ( المائدة 87، يونس 59:60 ، النحل 116: 117، التحريم 1 الشورى 21) . وفرض النقاب الذى يخفى الوجه إعتداء على حق الله جل وعلا فى التشريع ، فقد جعل الله تعالى ظهور وجه المرأة مباحا ـ مهما بلغ جمال المرأة ـ ( الأحزاب 52 ) ولكن من ترتدى النقاب على انه من معالم الزى الاسلامى تزايد على الله تعالى فى شرعه: (الحجرات 1 ) .

النوع الآخر هو تحليل الحرام خصوصا كبائر المعاصى ، ويقع فى المقدمة منها قتل النفس البشرية ظلما وعدوانا ، وقد جعلها الله تعالى قاعدة تشريعية قرآنية مؤكدة باسلوب القصر والحصر مثل قوله تعالى ( ولا تقتلوا النفس التى حرم الله الا بالحق )( الاسراء 33، الانعام 151 ) (والذين لا يدعون مع الله الها اخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله الا بالحق)( الفرقان 68) اى فلا يجوز القتل فى الاسلام الا بالتشريع القرآنى الحق وهو طبقا للنصوص القرآنية يأتى فى صورة القصاص ، سواء كان ذلك فى الجرائم ( البقرة 178) او فى الحروب ( البقرة 194).  وأى تشريع يحل قتل النفس خارج القصاص فهو ممنوع ومحظور.

وفى التعامل التجارى حرّم الله تعالى التطفيف فى الكيل والميزان والرشوة والحلف كذبا بالله تعالى ، وأباح كل تعامل تجارى يتم على أساس التراضى الحر ، بل أباح ربا التجارة اذا كان عن تراض وبدون أرباح مركبة ( المطففين  1 ـ الرحمن 9 النحل 94 ـ البقرة 188 آل عمران 130 النساء 29 ).

2 ـ والفقه السنى خالف هذا كله. فأباح ما حرم الله بل أوجبه أحيانا مثل القتل خارج القصاص كقتل المرتد وتارك الصلاة والزانى المحصن. بل جعل من ضمن العقوبات ( التعزير ) وهى عقوبة جعلوها أقل من العقوبات المعروفة، ولكن توسع بعضهم فيها فأوصلوها الى درجة القتل .وحرم الفقه السنى ما أحل الله مثل الجمع بين الزوجة وعمتها وخالتها فى الزواج و تحريم أطعمة كثيرة خارج المحرمات فى الطعام.

دور التشريع البشرى فى الدولة الاسلامية

وقلنا إنّه لا يجوز فى الاسلام تحليل حرام أو تحريم حلال ، ولأن دائرة المحرمات ضيقة ومحددة وتدخل ضمن الاستثناء فان الأصل هو الحلال المباح الذى لا يجوز تحريمه وحظره وإن كان يجوز تنظيمه وتقنينه. وهنا يأتى دور التشريع البشرى فى تقنين الجانب الأعظم من أمور الحياة التى تغطى كل شىء فى المرافق والصحة والتعمير والمرور والتجارة وسائر التفصيلات فى العلاقات البشرية .

على أن هناك بعض الملاحظات فى مجال تقنين المباح ، هى :

1 ـ ان يكون التقنين البشرى خاضعا للمقاصد التشريعية الكبرى فى الاسلام التى تهدف لحفظ كرامة الانسان وتكريمه ( الاسراء 70 ) وحفظ حقوقه الاساسية ، ومنها العدل والتيسير واحترام الحرية الشخصية و منع الضرر والظلم,

2 ـ لا يجوز فرض ذلك التشريع البشرى على الناس إلا بعد اصداره قانونا من جانب الدولة القائمة على الشورى أو الديمقراطية المباشرة. هنا يكون القانون الذى أصدره الناس باختيارهم عقدا ملزما للجميع وساريا على الجميع بلا استثناء . ولأنه قانون صدر بارادة الجميع فهو عقد لازم ولا بد من الوفاء بالعقود. أما القانون الذى يصدره الحاكم المستبد بالقهر فلا يسرى عليه صفة العقد الملزم، ولا يجوز شرعا الالتزام به لأنه لا التزام فى الاكراه والقهر. لذا تصدر قوانين المستبد بالظلم ويتم تطبيقها بالظلم والقهر والفساد.

3 ـ يجوز فى خارج العقوبات الشرعية اصدار قوانين عقابية تعادل الجريمة المرتكبة فى اطار العدل ، ولكن لا تصل الى المساس بالحياة أو العقوبات المقررة شرعا. مثلا يجوز تقنين عقوبات بالسجن والغرامة و الطرد من العمل.. الخ .

4 ـ كما يجوز فى إطار والدفاع والحماية الصحية و الاقتصادية والاجتماعية سن قوانين للضرائب والزام الاباء بتطعيم الأبناء وتعليمهم وقوانين لتنظيم البناء والمرور والعمل ..الخ ..وقوانين تمنع التدخين مثلا ـ دون تطرق لتحريمه لأنه ليس حراما شرعاـ أو تجرم التجارة فى المخدرات أو تناولها ـ مع انها لا تدخل فى إطار الخمر المحرم شرعا.

بهذه القوانين تتمكن الدولة ممثلة فى جهازها التشريعى من سن القوانين التى تكفيها كما تتمكن الدولة ممثلة فى جهازها التنفيذى من فرض القانون لخدمة المواطنين.  وبهذا التشريع البشرى فيما أذن الله جل وعلا به يكون تطبيق شرع الاسلام صالحا لكل مجتمع فى كل زمان ومكان ، خصوصا وأن مقاصده العليا تقوم على العدل والحرية وحفظ الحقوق وكرامة الانسان وحرية الدين وكرامة الانسان والتيسير والتسهيل والمرونة فى التطبيق ورفع الحرج.

حرية الدين وحرية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ..والعكس

 1 ـ مجالات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ـ والعكس ـ واسعة ، ومنها ما يدخل ضمن التقنين الذى هو حق للدولة الاسلامية ضمن ضوابط أشرنا اليها . ويكون التقنين بالحظر والعقوبة أو بالتنظيم والتقعيد .  

2 ـ ولكن يمتنع تماما المساس بحرية الدين والرأى والفكر ، فليس ذلك محلا للتجريم فى الدنيا ، فالحق هنا هو حق الله جلّ وعلا ، والله جلّ وعلا لم يوكّل أحدا لأن يتقمّص دوره فى الدنيا ويحاكم الناس على آرائهم الدينية وعقيدتهم وعبادتهم . الله جل وعلا جعل الدين حرية مطلقة للبشر فى هذه الدنيا ، ثم جعل للدين يوما هو يوم الدين أو يوم الحساب ، وهو وحده الذى سيتولى حساب البشر فيه ، وهو وحده الذى سيحكم بين البشر فيما كانوا فيه يختلفون . وبالتالى فالبشر مختلفون دينيا ، أو هم خصوم فى الدين وفى المذاهب الدينية ، وكل فريق يرى نفسه على الحق ويرى الآخرين على الباطل ، وعليه فلا يصح أن يكون أحد الفرقاء حكما على خصومه ، لا يصح أن تكون خصما وحكما فى نفس الوقت ، أى لا بد أن يلجأ جميع الخصوم الى القاضى الأعظم جل وعلا ليحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون ، خصوصا وأنهم مختلفون فى ذات الله وصفاته وهل هو الاله وحده ليس له ابن ولا زوجة ولا شريك ولا ولى ولا شفيع ؟ أم له ابن وصاحبة وله شركاء وشفعاء وأولياء يشاركونه فى الألوهية والتحكم فى الملكوت .  هذه قضايا يحسمها رب العزة يوم الدين ، وهو جلّ وعلا قد أرسل الرسل وأنزل الكتب فى هذا (اليوم الدنيوى ) وخلق الناس أحرارا فى الإيمان أو الكفر وفى الطاعة أو المعصية ليحاسبهم فى (اليوم الآخر ) على إختيارهم الدينى .   3 ـ وحتى تتحقق الحرية كاملة للبشر فى هذا اليوم الدنيوى فقد منع رب العزة الإكراه فى الدين ، وجعل المقصد الأعلى للقتال فى سبيل الله أن يكون الدين كله لله جل وعلا يحكم فيه وحده يوم الدين ، أى لا مجال لبشر أن يضطهد الآخرين فى دينهم أو أن يملى عليهم رأيه الدينى أو دينه الأرضى أو حتى لو كان الدين السماوى الحق . يقول جل وعلا فى المقصد الأعلى للقتال فى الاسلام : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ  ) ( البقرة 193 ) (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ( الأنفال 39). الفتنة هنا تعنى الاضطهاد الدينى والإكراه فى الدين .فإن إمتنع الاضطهاد الدينى أصبح الدين كله لله ، وأصبح البشر أحرارا فى دينهم ومسئوليتهم على إختيارهم الدينى أمام الله مباشرة ودون واسطة وبلا تدخل من بعض البشر الذين هم خصوم لبعضهم البعض فى الدين . وطالما يستمر المشركون الكافرون فى إضطهاد غيرهم فى الدين فقتالهم واجب على الدولة الاسلامية لتقرير حرية الدين ومنع الاكراه فى الدين .فإذا أنتهى أولئك المشركون الكافرون عن إضطهاد المستضعفين فى دينهم إنتهى القتال ، فالقتال مستمر باستمرار سببه وهو الاضطهاد الدينى .

4 ـ حتى فى الجانب العملى يستحيل تحقيق العدل فى مجال الفكر والمعتقد لو كانت محلا للتقاضى والتجريم . فالقاضى هنا بشر ، وهو صاحب رأى فى القضية المعروضة أمامه ، إمّا أن يكون مخالفا للمتهم أو أن يكون متفقا معه فى الرأى ، وقد لا يكون متفقا أو مختلفا ـ أى من ديانة أخرى مختلفة ، ولكن لا بد له أن يقتنع برأى المتهم أو برأى خصومه ، وفى كل الأحوال فالقاضى يفقد حياده لأنها مسألة رأى واعتقاد ، ومسائل الرأى والاعتقاد خلافية وحقوق المختلفين فيها متساوية ، والقاضى أحدهم .

5 ـ من الطبع أن هذا لا ينطبق على موضوع السّب والقذف للمحصنات . فلو سبّ أحدهم أحدا بأمّه أو سبّ إمرأة ، فهنا قضية شرف ، وفيها عقوبة القذف إن لم يثبت إتهامه بأربعة شهداء . أمّا لو إتهم أحدهم خصمه بالكفر فليس هذا محلا للتقاضى لأن كل فريق يرى فى الآخر كافرا ، فهنا تساوى فى الكفر . فأنت تؤمن بعقيدة تجعل المخالف لك كافرا ، وأنت تؤمن بما يكفر هو به ، وأنت تكفر بما هو مؤمن به ، وهو يحتفظ لك بنفس الاعتقاد . فالمسيحى الذى يؤمن بأن المسيح ابن لله جلّ وعلا يؤمن أن من لا يشاركه هذا الاعتقاد هو كافر . والمسلم الذى لا يؤمن بألوهية المسيح يكفر بهذه العقيدة ،وكلاهما (المسلم والمسيحى ) سعيد وراض بعقيدته وبرأيه فى الآخر المختلف معه . وأذن ليست هنا جريمة ولا جناية حتى لو تم التعبير عنها بالكلام .

6 ـ بل إن من حق كل فرد ليس فقط ممارسة عقيدته وعبادته وطقوس دينه ، بل ومن حقّه أيضا الدعوة الى دينه والتبشير به وسط الآخر المختلف معه ، يعنى من حق المسيحى أن يدعو المسلمين لاعتناق دينه ، ومن حق المسلم أن يدعو المسيحيين لاعتناق الاسلام ، ومن حق البوذى أن يدعو المسلم والمسيحى للبوذية ، وهذا الحق فى التبشير والدعوة الدينية يتساوى فيه الجميع بلا أى مميزات لأحد على الآخر. ومناخ الحرية يعطى حرية التنافس بين الدعاة ، ويجعل الفوز للأصلح ويضمن حرية كل إنسان فى أن يعتنق ما يشاء من دين أو مذهب . وفى هذا المناخ الحرّ تخسر الأديان الأرضية المسيطرة على الناس  لأنها لا تعيش إلّا متكأة على سلطة ترغم الناس على إعتناقها . وتخيل لو كانت هناك حرية دينية فى الخليج والسعودية أو إيران أو مصر ..عندها ستتغير ثوابت كثيرة . المهم إن وظيفة الدولة الاسلامية أن تضمن وأن تحمى هذه الحرية للجميع . ولكل فرد أو مجموعة أن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر وفق رؤية دينها  وفى إطار القول والنصح بعيدا عن الاكراه فى الدين.

أى فى هذا إطار هذه الحرية يقع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وعكسه وهو الأمر بالمنكر و النهى عن المعروف .

تطبيقات  الحرية والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى دولة الرسول عليه السلام

  1 ـ من المسكوت عنه من حقائق القرآن أن بعض المسلمين المسالمين المؤمنين بالاسلام الظاهرى السلوكى والايمان الظاهرى السلوكى ظلوا على كفرهم العقيدى ، وظلوا أيضا مواطنين فى الدولة على قاعدة المساواة ، وسبق إيراد وعظ رب العزة لهم بأن يؤمنوا إيمانا قلبيا بالله جل وعلا وحده وبلا كفر عقيدى.  ومن بعض هذا الوعظ نعرف أنه حتى قبيل موت النبى كان بعض أولئك المؤمنين يعبدون الأنصاب أى القبور المقدسة ويشربون الخمر ويلعبون الميسر ، ولقد وعظهم رب العزة فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )( المائدة 90 : 91 ). ولنتدبر قوله جل وعلا لهم : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ ).!

2 ـ وأغنياء المسلمين كانوا يتعاملون مع الفقراء بالربا المحرّم شرعا ، وهو ربا الصدقة . فللفقير المحتاج حقّ فى الصدقة ، ولكن بدلا من أن يأخذ حقه فى الصدقة فإنّه حين يلجأ للاستدانة ليأكل فيعطيه الغنى قرضا بربا . هذا هو ربا الصدقة الذى حرّمه رب العزة فى مكة فقال يقارن بين الصدقة وذلك الربا المحرم البديل عنها : (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ   وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ  ) ( الروم  38 : 39). ومع هذا التحريم لربا الصدقة ظلّ بعض المؤمنين فى المدينة لا يعطى الفقراء حقهم فى الصدقة ، ويعطيهم بدلا منها ديونا بربا مضاعف الفائدة ، فنزلت آيات كثيرة تحث على إعطاء الصدقة وتشرّع آدابها ( البقرة 261 : 274 )، ثم تؤكد على تحريم ربا الصدقة ، وتحذّر منه بشدة . ( البقرة 275 ـ  281). ونفهم منه أن بعضهم ظلّ يأكل اموال الفقراء بالربا المحرم ، وجاءهم هذا التحذير  : (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ   فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ  ) ووعظهم رب العزة وحثّهم على التنازل عن الديون أو بعضها (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ   وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ).

3ـ أما المنافقون فكانوا أسوأ سبيلا ، وتمتعوا بحرية الأمر بالمنكر والنهى عن المعروف تحديا للنبى والاسلام :(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ   وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ)..( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ   وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )( التوبة 76ـ ، 71 ـ  ).

4 ـ ولقد كان خاتم النبيين عليه وعليهم السلام آية فى الرحمة البشرية فى تعامله مع الناس حتى كان فى حرصه على هدايتهم يتعرّض للّوم من رب العزة . فى مكة كان يحزن على تصميم الكافرين على الضلال ، ويصل به الحزن الى أن تذهب نفسه عليهم حسرات فيقول له ربه جلّ وعلا يخفّف عنه :( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ  )( فاطر 8 ) (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً  )( الكهف 6 ). وكانوا يتهمونه ويتقولون عليه بالباطل فيضيق صدره ، ويأمره رب العزة بالصبر : ( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ )( النحل 127 ، 128 ).( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ  ) ( الأنعام 33 )( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ  )( الحجر 97 : 99 )

كان فى مكة مضطهدا لا يملك سوى الحسرة والصبر . تغيّر الحال فى المدينة وقد أصبح فيها قائدا ومعلما ، ولكنه ظلّ أيضا لا يملك سوى قلبه الكبير يتعامل به مع المنافقين ومكائدهم ،وهم يمارسون حريتهم فى الكيد والتآمر ، فيعفو ويصفح ويصدّق أكاذيبهم ، فإذا حلفوا له كذبا ليتخلفوا عن الخروج للقتال الدفاعى صدقهم فيأذن لهم :( لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) وينزل العتاب الرقيق له من رب العزة بالعفو عنه : (عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ )(التوبة 42 : 43 ). بل يستغفر لهم ويأتيه الردّ من رب العزّة : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )(التوبة 80 ).

فى مكة إحترف بعضهم الدخول فى الاسلام ثم الخروج منه فكان عليه السلام يحزن عليهم فيقول له ربه جلّ وعلا :( وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )( لقمان 23 )، وأصبح هذا ظاهرة فى المدينة ؛ أن يؤمن بعضهم ثم ( يسارع ) فى الكفر كيدا للنبى ، فلم يكن يملك عليه السلام سوى الحزن أيضا فيقول له ربه:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ) ( المائدة 41 )، ( وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )( آل عمران 176) . هذه هى دولة الاسلام فى عهد رسول الاسلام عليه السلام . هى دولة الحرية المطلقة فى الدين.

5 ـ وهى أيضا دولة العدل والقسط . فالقسط شعار الاسلام ، وآية التشهد فى الصلاة تقول :( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) وبعدها يقول جل وعلا :(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) ( الأعراف 18 : 19 ). ومجتمع المؤمنين فى دولتهم الاسلامية مأمورون بأن يكونوا ( قوّامين بالقسط ) وهى صيغة مبالغة فى القيام بالقسط والمحافظة عليه بدرجة مائة فى المائة ، وأن يكونوا فى إقامة القسط شهداء لله جل وعلا ، أى يراعون الله فى تطبيقهم العدل والقسط فى تعاملهم فيما بينهم دون أدنى درجة من إتّباع الهوى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) (النساء 135) . ونفس الحال فى تطبيق القسط فى التعامل مع العدو :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المائدة 8 )   

 6 ـ دولة العدل والحرية هذه تفتح أبوابها للهجرة أمام كل من يعانى من الاضطهاد الدينى بغض النظر عن دينه ومذهبه طالما كان مسالما ملتزما بالاسلام السلوكى والايمان السلوكى أى بالسلام والأمن فى التعامل مع الناس ،وعدم الاكراه فى الدين ليكون الدين كله لله جل وعلا وحده يحكم فيه يوم الدين بين الناس أجمعين : ( النساء 97 : 100 ) ( الأنفال 72 : 75 ) (النساء 88 :91).

أخيرا

أين توجد ملامح هذه الدولة فى عصرنا ؟ هل توجد فى أمريكا والغرب ؟ أم توجد فيما يسمى بالعالم الاسلامى ؟ 

 

الباب الثالث  حدود الإلزام في تشريعات الاسلام:

الفصل الأول :حدود الإلزام في تشريعات الاسلام: ( 1) فى العقيدة

 

 مقدمة

1 ـ فى دولة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الاسلامية : لا بد من أجهزة إدارة وسلطة حكم ـ ليست سلطة تحكم ، وليس حاكما بالمعنى المعروف والمألوف ـ ولكن سلطة من أولى الأمر يختارهم المجتمع لادارة شئونه تتولى التشريع والقضاء بين الناس و التنفيذ والتطبيق وشئون الأمن والدفاع . وهى سلطة مسئولة أمام الناس من مستوى القرية والحى الى المدينة والوطن . والناس هنا متفاعلون إيجابيون نشطون قائمون بالقسط يأتمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر ويتواصون بالخير والحق والصبر.

سلطة المجتمع هذه فى إلزام الفرد ما هو مداها ؟  وإذا كانت محددة فما هى حدود إلزام الفرد لنفسه ؟ هذا هو موضوعنا اليوم . ونبدأ بمدى الإلزام فى حقوق الله جل وعلا فى العقيدة  .  

2 ـ إنّ آيات التشريع فى القرآن حوالى المائتى آية بما فيها من تفصيلات ، وتتناول فى معظمها الأحوال الشخصية والعلاقات الاجتماعية والأسرية كالميراث والوصية والتعاملات التجارية والعقوبات ، ويبقى المجال واسعا للتشريع البشرى فى إطار العدل والتيسير وحقوق الانسان . ولكن حتى تلك التفصيلات التشريعية فى القرآن الكريم موكول معظمها فى التنفيذ الى الفرد نفسه ، فى ضوء مسئوليته الشخصية أمام ربه جل وعلا ، وليس فيها إلزام من نظام الحكم ، والذي يقوم على تنفيذ أوامر الله يجب أن يعرف حدود الإلزام التي جاءت في تشريع القرآن.

3 ـ والأصل أن الله هو الذي خلق البشر أحراراً في الطاعة والمعصية وهو الذي سمح لهم بحرية الإرادة ، وحرية الايمان وحرية الكفر ، بل وحرية الإلحاد فى القرآن (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )( فصلت 40 ). وعلى أساس هذه الحرية سيكون حسابهم يوم القيامة  . فالمسألة الحقيقية هي يوم القيامة، والقاضي الحقيقي والوحيد هو الله يوم الدين.. هذا فيما يخصّ حق الله جلّ وعلا فى الاعتقاد والعبادة .

4 ـ الإلزام يكون أساسا فى حفظ حقوق العباد أو حقوق الانسان ، فحتى لا تكون الحرية مفسدة للمجتمع  فقد وازن القرآن الكريم بين حرية الفرد وسلامة المجتمع. فجاءت قوانين العقوبات للتطبيق ، ولكن معها إمكانية التوبة فى إسقاط العقوبة الدنيوية . والتوبة هنا تحت رقابة المجتمع ، ثم الرقابة الالهية . والتوبة المقبولة من المجتمع تسقط العقوبة وتمنح المدان فرصة أخرى لينصلح عمله  . أما قبول التوبة من الله جل وعلا فموعدها يوم القيامة .وهى التى تنقذه من الخلود فى النار :( وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( التوبة 105 ).

ويوم القيامة آت لا ريب فيه وهناك سيكون الفصل حيث لا ظلم ولا محاباة:(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ  )( الأنبياء 47.)

حدود تدخل الحاكم في حياة المحكوم وفق تشريع القرآن:

1 ـ نتجاوز هنا ونستعمل مصطلح الحاكم ليكون كلامنا مفهوما ، ونعيد التأكيد على أنه لا وجود لحاكم فرد فى الدولة الاسلامية بالمعنى المتعارف عليه ، ولكنهم أولو الأمر اصحاب الاختصاص ، والذين يختارهم الناس فى كل مستوى ، ويكونون محاسبين أمام الناس.

2 ـ الله تعالى وحده هو الذي يبتلى الإنسان بالأوامر والنواهى وهو وحده الذي سيحاسبه يوم القيامة ولكى يكون الإنسان كامل المسئولية لابد أن يكون حراً، ولذلك فإنه ليس على المجنون والمكره مسئولية، ذلك هو المبدأ العام الذي يحدد إطار العلاقة بين السلطة التي تخدم المجتمع وبين الفرد يعيش داخل المجتمع.

 

ليس للحاكم أن يتدخل في عقائد المحكومين:

1 ـ لم يشأ المولى العظيم أن يتدخل في حرية الإنسان واختياره لعقيدته. وذلك أعظم ما في الاختبار الذي وضع الإنسان فيه، خلقه حراً في التفكير وفي الاختيار ثم أرسل له الرسل وأنزل الكتب ودعاه للهداية ، وفي دعوته للهداية حرص على تأكيد حرية الإنسان ومقدرته على الطاعة وعلى المعصية وعلى مسئوليته عن اختياره وعلى ما ينتظره من جنة أو نار.( وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا   )( الكهف 29  )( قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ  ) ( الاسراء 107). فهنا تأكيد للمشيئة الإنسانية في العمل  . وليس للنبى محمد إلا التذكير والوعظ  دون السيطرة ، فلا سيطرة للنبي على الناس ، لأن مرجعهم لله جلّ وعلا يوم القيامة (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍإِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ )( الغاشية 21 ـ ) (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) ( يونس 99 )

نزلت هذه الآيات والرسول في مكة، ثم بعد أن صار قائدا  للدولة الإسلامية في المدينة لم يختلف الوضع.

بل نزل التاكيد قاعدة قرآنية تقول (لا إكراه في الدين) (البقرة 256).أي ليس من حق النبي إكراه أحد على الإيمان الصحيح.ولم يمنع ضجيج المعارك بين المؤمنين والمشركين من تقرير حرية العقيدة ،  فالجهاد هو  لتقرير هذه الحرية ومنع المشركين من الاضطهاد الدينى : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ  ) ( البقرة 193 ) (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )(الانفال   39).

 

أرجاء الحكم في الخلاف العقيدى إلى الله يوم القيامة:

هذا ما ينبغى أن يعول عليه المؤمن إذا جادله من يتمسك بالباطل ليصدَّ عن سبيل الله، فبذلك يأمره القرآن الكريم (قُل لّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ  )(سبأ  25: 26.)المؤمن دائماً في حواره لا يحولها إلى قضية شخصية، ولكن الدين لله وهو يرجئ الحكم إلى الله حين يحكم بين الجميع يوم القيامة: (  قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( الزمر  46)، فهو "يوم الدين" والمؤمن يعلم أن الله لم يعط سلطته في الحكم على عقائد الناس- إلى النبي نفسه، (وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ )( الحج 68: 69.) أما أصحاب الدين الأرضى فهم الذين صنعوه وهم الذين يملكونه لذا يريدون فرضه على الناس لمصلحتهم الدنيوية ، ومن يناقش دينهم أو من يكفر به فقد كفر بهم واعتدى على شأن شخصى ملك لهم..

ليس من حق الحاكم المسلم هدم الأوثان:

استخدم القرآن الأسلوب العقلى في إظهار حقيقة تلك الأوثان وتوضيح أنها مجرد حجارة صنعها من يعبدها: (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ )( الصافات  95. : 96) وأنها أساطير وإفك (  أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ) ( الصافات /86.)( إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا )( العنكبوت  17). وينطبق ذلك على الأصنام كما ينطبق على الأنصاب وهى القبور المقدسة. وقد ناقش القرن أولئك الذين يعبدون الأولياء الموتى فأكد انهم مجرد موتى لا تشعر بما حولها ولم تخلق شيئا بل هى مخلوقة ولا تشعر متى ستبعث يوم القيامة (  وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)( النحل : 20. 21) وفى مواجهة الأساطير التى تزعم خوارق لتلك الالهة المعبودة الميتة فقد أمر الله تعالى رسوله محمدا أن يتحدى تلك الآلهة والأولياء الميتة فى قبورها مؤكدا أنها لا تنفع ولا تضر ، وأن الولى الوحيد للمؤمن لا يكون سوى الله تعالى وحده (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ  )( الاعراف 194: ـ ) وأوضح القرآن أن الولى المقصود بالعبادة والتقديس لا يكون إلا لله تعالى (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ  )(الشورى9.) (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ  ) ( الأنعام 14 ) وأوضح القرآن أن أحداً من المخلوقات لا يشاركه تعالى  في الحكم في الدنيا وفي الآخرة (مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا  ) ( الكهف 26.) وأنه وحده الخالق والآمر (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)( الاعراف : 54.).

وعلى هذا الأساس العقلى حاور الله تعالى المشركين ممن يعبد الأولياء والآلهة (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ ) ( فاطر  40.) (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ  ) ( الاحقاف /4: 6.) (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ  ) ( فاطر  13: 14 )

واستخدم القرن إيمانهم بالله الخالق حجة عليهم، فكيف يتركون رب السماوات والأرض ويطلبون المدد من غيره الذى لم يخلق شيئاً والذي لا يملك شيئاً(  قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ )( الرعد 16.) وكل هذه الآيات موجهة للمسلمين وغيرهم ممن يقدسون القبور في عصرنا.

لقد أوضح القرآن الكريم حقيقة الأصنام والأنصاب والقبور المقدسة في موضعها الحقيقي وأثبت أنها خرافة لا تستقيم مع العقل السليم، وأنها مجرد أحجار لا تختلف عن أية أحجار أخرى وإن ما يدور حولها أساطير تستحق السخرية لا التقديس.. بعدها أمر المؤمنين باجتنابها والابتعاد عنها(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ  )(الحج  /30 .) والأوثان كل ما هو مقدس من بشر وحجر ومواد طبيعية، والزور هو كل الأكاذيب وأقطعها ما كان منسوباً للهافتراءً على الله.

وقال تعالى: " (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )( المائدة 90. ) الشيطان لا يقوم بنفسه بتصنيع الأنصاب أو ما يعرف الآن باسم الأضرحة، ولكنه هو الذييوهم الناس بأن مواد البناء في الضريح مقدسة وتختلف عن أى مواد أخرى تبنى بها البيوت والمساكن والمصانع، وهو الذي يوهم الناس بأن المقبور تحت الرماد لا يزال حياً ولكنه معتقل تحت الأرض يري ويحس بمن يطوفون بالضريح من فوقه، وطبعاً فلا يشكو من طول فترة اعتقاله في زنزانة انفرادية تحت الأرض ولا يتضرر من آلاف الأقدام التى تسير دائماً فق رأسه.الشيطان يحجب العقل عن التفكير السليم ويجعل الناس يؤمنون بأن  هناك إلاها محبوسا تحت الرماد يستجيب لهم ويرفع عنهم الضرر.. والشيطان هو الذي يقنع الناس بأن مملكة الأموات هى التى تتحكم في مملكة الأحياء. كل هذه المعانى وغيرها تندرج تحت قوله تعالى عن الأضرحة "( رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ).أمر القرآن باجتناب الأوثان والأضرحة، ويلاحظ أن اجتناب الأضرحة جاء صراحة للمؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )(المائدة 90. ) .

أمر رب العزّة جلّ وعلا باجتناب الأوثان والأضرحة ولم يأمر بهدمها أو تدميرها ولكن أمر فقط بالابتعاد عنها و اجتنابها وأن تتطهر منها بيوت الله والمساجد لكى تكون العبادة لله خالصة : (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)(  الجن /18.)

قام القرآن بهدم الأضرحة والأثان في عقول الناس واعتقادهم واكتفي بذلك، وهى نظرية صائبة. فالضريح مثلاً يتكون من مواد بناء معروفة: أسمنت وطوب وأخشاب ومسامير وزجاج ورخام وأجهزة كهربائية وستائر وأقمشة وهذه المواد توجد في كل مكان ولا تختلف أحجار الضريح عن أى أحجار أخرى، وكلها تأتى من نفس المصدر، والذي جعل لأحجار الضريح قدسية إنما هو الاعتقاد فيها الذى أوهم الشيطان به جموع الناس . فإذا تهدم ذلك الاعتقاد الخرافى من قلوب الناس تصبح هذه الأضرحة مجرد أبنية وتتحول الأصنام إلى مجرد تماثيل صخرية، يتندر بها الناس على قلة عقولهم حين قدسوها.

أما إذا بادر حاكم مسلم إلى تدمير أحجار الأضرحة وتسويتها بالأرض فإن من يعبد الأضرحة ويعتقد فيها سيقيم في قلبه ألف ضريح وضريح، ولا تلبث أن تعود أضرحة أخرى وتتكاثر الأساطير والكرامات الخرافية التى تدعى أن الأولياء قد انتقموا من ذلك الذى هدم قبورهم ، وكل ما يمكن أن يحدث له من أمور عادية ،  حتى لو كانت مجرد زكام سيتحول تفسيرها إلى أنه غضب الآلهة المزعومة عليه !!

وهناك مثل أكثر روعة ، هو مسجد الضرار الذى أقامه المنافقون فى المدينة للتآمر على الاسلام والنبى محمد عليه السلام والمسلمين. وكشف الله تعالى فى الوحى القرآنى دور هذا المسجد ونهى النبى عن الاقامة فيه : (لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ). لم يأمره بتدميره أو حرقه أو اعتقال المتآمرين أصحابه والدليل ضدهم ثابت لاجدال فيه وهو كلام رب العزة جل وعلا.  فقط أمر النبى والمسلمين بعدم الذهاب اليه. وظل هذا المسجد مقاما بدليل كلام الله تعالى عنه (لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)( التوبة  107: 110 ).

الخلاصة أنه ليس للدولة الاسلامية أن تتدخل فى العقائد حتى لو تكاثرت فيها ملايين الأصنام وملايين العابدين لها. ليس من وظيفة الدولة هداية الناس أو ادخالهم الجنة، ولكن وظيفتها اقامة العدل بين الناس وتوفير الأمن لهم وتوفير أقصى قدر متاح لهم فى حرية العقيدة والعبادة حتى يكون كل فرد مسئولا مسئولية مباشرة أمام الله تعالى يوم الدين عن اختياره العقيدى.

ماذا إذا أصدرت الدولة الاسلامية قانونا يبيح الخمر والميسر والبغاء ؟

هنا يقع الإثم على من يسنّ هذا القانون ، وعلى من يعمل به . وليست هناك عقوبة دنيوية على ذلك . ولا يعد هذا القانون اسلاميا .

ماذا إذا أصدرت الدولة الاسلامية قانونا يحرّم إقامة الأصنام والأنصاب والأوثان ؟

طالما صدر هذا القانون معبرا عى رأى الجميع فقد أصبح عقدا ملزما للجميع. إن صدر بالأغلبية فليس من حق الأغلبية فرض هيمنتها فى أمور العقيدة على فرد واحد .

 

الباب الثالث :حدود الإلزام في تشريعات الاسلام:

الفصل الثانى : حدود الإلزام في تشريعات الاسلام: فى العبادة

 

1 ـ إنّ  حقوق الله  التعبدية على عباده لا مجال فيها لأحد الناس التدخل فيها وإلا كان مدعيا للالوهية وجاعلا نفسه واسطة بين الناس ورب الناس ، وهذا يناقض عقيدة الاسلام فى أنه ليس لله تعالى شريك أو معين أو واسطة. ليس من حق الحاكم أن يلزم أحداً بالصلاة والزكاة والصدقات والصيام والحج وقيام الليل وذكر الله وتلاوة القرآن الكريم ، أو أن يعاقب أحدا على التهاون فيها أو تركها ، فهذه الفرائض تعامل خاص ومباشر بين العبد المسلم وربه، ولا مجال فيها لأحد الناس أن يتدخل بين الله وعباده أو أن يغتصب لنفسه حق الله في مراقبة عباده في تأدية فرائضه وفى حسابهم عليها .

2ـ إن جوهر العبادة هو الإخلاص وبدونه تكون تأدية العبادة مجرد حركات بدنية ساخرة.. والله تعالى يأمر عباده بالإخلاص في عبادته (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ )( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ) (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي )(الزمر 2، 3، 11، 14.)ومن إخلاص العبادة لله جلّ وعلا اجتناب الرياء( فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ)(الماعون /4: 7.) . وقد كان المنافقون يؤدون الصلاة بدون إخلاص بل لمجرد المراءاة والنفاق فاعتبرها رب العزة خداعاً لله تعالى:( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً  ) ( النساء142.) . والله وحده هو الذي يعلم حقيقة الإخلاص أو الرياء في القلوب. والله وحده هو الذي يجازى على الإخلاص أو الرياء وذلك يوم القيامة الذى يختبر فيه رب العزة سرائر الناس: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) ( الطارق 9.) وليس فى إمكان البشر العلم بغيب السرائر وخطرات القلوب، ولا يستطيع البشر اختراع جهاز لكشف الكذب يتمكن من الغوص فى أعماق القلوب ، وحتى لو استطاعوا لأمكن للانسان نفسه خداع ذلك الجهاز. ولأن معرفة السرائر فوق طاقة البشر فليس من مهام إنسان أن يلزم الآخرين بما ليس في إمكانه السيطرة عليه.

3 ـ ولكن محصّلة الصلاة تدخل ظاهريا فى نطاق مراقبة المجتمع . فالله جل وعلا لم يأمر بتأدية الصلاة ، ولكن أمر بإقامة الصلاة . وإقامة الصلاة تعنى شيئين متلازمين : الخشوع والاخلاص أثناء أداء الصلاة فى القيام والركوع والسجود والقنوت والتسبيح وقراءة القرآن . وهذا الخشوع وذلك الاخلاص فى الصلاة تعامل خاص بين المؤمن وربّه لا دخل لبشر فيه . الجانب الآخر من إقامة الصلاة هو أن تثمر سلوكا ساميا فى التعامل اليومى مع الناس ورب الناس فيما بين أوقات الصلاة طيلة النهار واليقظة ، يقول جل وعلا فى إقامة الصلاة فى كل أوقات يقظة الانسان (وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) ( هود 114 )، فالحسنات بالمدوامة عليها تشغل الانسان عن الوقوع فى السيئات ، وبذلك تكون إقامة الصلاة ، وفى ذلك  ذكرى للذاكرين كما قال رب العالمين ، أى لا تصلّى الظهر ثم تزنى ، أو تصلّى العصر ثم تكذب وتسرق وتعصى وتفسق .إقامة الصلاة تعنى المحافظة عليها بالابتعاد عن الفحشاء والمنكر: (وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)(العنكبوت  45 ) . والابتعاد عن الفحشاء والمنكر يعنى أيضا التفاعل الايجابى بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والتواصى بالخير. بهذا تتم إقامة الصلاة وليس مجرد تأدية صلاة مظهرية سطحية من حركات سجود وركوع وقراءة مع قلب غافل وسلوك فاسق وعقيدة ضالة ، فهكذا كانت تفعل قريش المشركة ، تصلى وتفسق فوصف رب العزة صلاتهم بالمكاء والتصدية ووصفهم بالكفر: (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُون  ) ( الأنفال  35)

وعكس المحافظة على الصلاة أن تؤدى الصلاة مرائيا ومخادعا للناس مع محافظتك على الفحشاء والمنكر . أنت هنا تضيّع الصلاة ، أى تضيّع ثمرتها ، يقول جلّ وعلا عمّن يضيّع صلاته بالعصيان : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً  ) ( مريم 59 ). إنطبق هذا على مشركى قريش الذين توارثوا الصلاة والصيام والحج والزكاة من ملة ابراهيم ، وكانوا يؤدون الصلاة بنفس ما نعرفه اليوم من مواقيت وركعات ، ولكنهم عبدوا الأولياء وأقاموا لهم القبور المقدسة فى المساجد ورفعوا لهم الأذان فيها تعظيما لأوليائهم ( الجن 18 ) واقترفوا الفحشاء والمنكر ، أى لم يقيموا الصلاة ـ بنفس ما  نفعل اليوم . ولهذا قال جل وعلا لهم ولنا فى صفات المؤمنين المفلحين : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ   إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) ( المؤمنون 1 : 11  ). أى ليس كل المؤمنين مفلحين . لا يفلح ذلك المؤمن الذى لا يقيم الصلاة بالخشوع أثنائها وبالتقوى والخلق الرائع فيما بين أوقاتها .

لايفلح المؤمن ( المؤدى للصلاة ) المدمن للفحشاء واللغو وخيانة الأمانة والعهد . هنا يكون المجتمع شاهدا على عدم فلاحه وعلى عدم إقامته الصلاة ، لأن المجتمع شاهد عليه وهو واقع فى اللغو والفواحش ونقض العهد وخيانة الأمانة. المجنمع هنا شاهد على سلوكيات مادية محسوسة ، ويحكم بالظاهر المرئى على أن صاحبنا قد أفلح فقط فى تضييع صلاته ، أى تضييع ثمرتها فى التقوى ، كما سبق الاستشهاد بقوله جل وعلا : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً ) ( مريم 59 : 60  ). أى يستطيع أن ينجو لو تاب وآمن وعمل عملا صالحا يعوّض به سيئاته السابقة .

4 ـ وهنا ندخل على التوبة ولها أيضا جانبان مثل إقامة الصلاة .

جانب الاخلاص والصدق القلبى فى التوبة ، وهذا يحكم عليه فقط رب العزّة يوم القيامة ، فيقبل توبته ويدخله الجنة . وهناك جانب سلوكى مظهرى يحكم به المجتمع ظاهريا على صدق توبة التائب ، هو تأدية الحقوق لمن أذنب فى حقهم وردّ المظالم والاعتذار لمن ظلمهم والتعهد بالاستقامة وعدم الرجوع للجريمة التى وقع فيها . هنا يكون المجتمع شاهدا على قبول توبته . ولو تاب مجرم وقع فى جريمة تستحق عقوبة كالزنا والسرقة وقطع الطريق وقذف المحصنات فإن توبته السلوكية هذه تسقط عنه العقوبة:(النور 2: 5 ) ( المائدة 33 : 34 ، 38 : 39) ( البقرة  178 )( النساء  15 : 16).ولسنا الآن فى تفصيل هذا الموضوع عن تطبيق العقوبات فى الدولة الاسلامية، ولكن نؤكد على أن المجتمع يكون شاهدا على هذه التوبة مراقبا لعمل ذلك التائب ، يقول جلّ وعلا للعصاة التائبين فى المدينة ولكل العصاة بعدهم : (وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( التوبة  105)

5 ـ وبعد دخول مكة  سلميا فى الاسلام بقيت فيها عصابات إعتدت و نقضت العهود والمواثيق وهددت سلامة الحجاج وانتهكت حرمة البيت الحرام ، وكان يتزعمها بعض من بقى من رموز النظام القديم الحريصين على استمرار بقائهم، وقد جمعوا بين عيوب النفاق وعناد الكفر، وقد أعطاهم الله جل وعلا في سورة براءة مهلة أربعة أشهر للتوبة الظاهرية بعدها تعلن عليهم الحرب بكل قوة حتى يتوبوا . والتوبة تعنى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، فإن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة انتهت الحرب واصبحوا إخواناً للمسلمين (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ  )( لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ )( التوبة 5، 10: 11.). أى كان من علامة التوبة أن (يقيموا الصلاة )وأن (يؤتوا الزكاة ) أى تزكية وتطهير النفس عملا وسلوكا بالمسالمة والصلاح الظاهرى ،  وبذلك يكونون أخوة للمؤمنين. فإقامة الصلاة وايتاء الزكاة تعنى هنا فى هذا السياق التزام السلام والأمن وحفظ العهود والمواثيق شأن المؤمنين المفلحين الموصوفين فى سورة ( المؤمنون )بقوله جلّ وعلا : ( وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ  ). وهذا من الصفات التى تدخل فى السلوك الذى يمكن للبشر الحكم عليه . وفى حالة أولئك المعتدين تعنى أن يتركوا العدوان ويستبدلوه بالسلم وكف اليد عن الأذى. هنا دليل على طاعة أولئك الثائرين ودخولهم في إطار الدولة. أما إذا تركوا الخشوع فىالصلاة أو تكاسلوا فيها أو سهوا عنها أو أهملوها تماما فلا  يملك المجتمع عقابهم ، فذلك مرجعه لله جل وعلا يوم الحساب ، وإنما يكون عقابهم حسبما جاء في الآية التالية إن نكثوا  العهود وطعنوا فى الدين واستحلوا حرمة البيت الحرام . عندها يحل العقاب برؤوس الفتنة من أئمة الكفر وليس من الأتباع الرعاع المخدوعين (وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ  ) ( التوبة 12.). وهذا القتال له هدف وله نهاية هو رجوع أولئك المتآمرين عن نكثهم العهد وطعنهم في الدين "لعلهم ينتهون" فإن انتهوا توقفت هذه الحرب الدفاعية.

6 ـ ليس في القرآن آية واحدة تبيح للحاكم أن يعاقب تارك العبادات ، وإن كان من واجب الأفراد أن يأمر بعضهم بعضا بالمعروف وبالصلاة والزكاة أمرا قوليا وبالنصح (قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلالٌ  ) ( ابراهيم 31.) كما أن واجب كل إنسان أن يأمر أهله بالصلاة (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (  طه 132.).

 لقد تحدث القرآن عمن أضاع الصلاة فجعل عقابهم يوم القيامة إلّا من تاب منهم: (  فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا  )( مريم  59: 60) ، وهو نفس العقاب لمن سها عن الصلاة او صلاها مرائيا .

7 ـ و لا إلزام فى تقديم الصدقة الرسمية التى تجمعها الدولة. والله جل وعلا عاقب المنافقين بمنع أخذ الصدقة منهم : (قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ) ( التوبة 53 : 54). تقديم الصدقة إلتزام شخصى من المؤمن ، سواء كانت صدقة رسمية عامة أو صدقة خاصة فردية . ثم نأتى على فريضة الصدقة أو زكاة المال ، وفيها التزام داخلى للمؤمن بأن يؤديها رسمياً للدولة ،  وهنا يكون التسابق في الخير : (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )(البقرة 274.). وهناك بيت للمال لتجميع الصدقات وتوزيعها على مستحقيها المذكورين فى قوله جلّ وعلا : (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة 60 ). الصدقة الرسمية فريضة من الله ، ولكن لا يتدخّل الحاكم فى إلزام الناس بها لأنها علاقة بين المؤمن وربّه . النفقات التى تحتاجها الدولة تجمعها بالضرائب التى تفرضها ، وهذا يتم بتشريعات تسنها الدولة بالاتفاق العام بين الأفراد طبقا للشورى . ومتى صدر قانون أصبح ملزما .  

8 ـ المؤمن هو الذي يلتزم  بالصلاة والصيام والحج وذكر الله وقراءة القرآن وذلك بدافع ذاتى قوامه الحرص على ابتغاء مرضاة الله وفضله.ولذلك كان خطاب الله تعالى مباشرة للمؤمنين باقامة الصلاة وايتاء الزكاة والحج والصيام والتسبيح وذكر الله تعالى (فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً )( النساء / 103 )( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة 183. ) (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ )( آل عمران  97.) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً  ) ( الأحزاب 33/41: 42.). فمن اختار الإيمان الصحيح كانت الصلاة عليه كتاباً موقوتاً في خمسة أوقات وكان عليه صيام رمضان وحج رمضان إذا استطاع وذكر الله بكرة وأصيلا وتلاوة كتاب الله والإنفاق في سبيل الله سراً وعلانية ليربح في تجارة لن تبور..وذلك التعامل المباشر بين الله وعبادة ـ خارج سلطة المجتمع ـ له جزاء في الدنيا والآخرة مثل البيع والشراء..

9 ـ والبيع والشراء له طرفان . ينطبق هذا في التعامل بين البشر كما ينطبق ذلك على التعامل بين الناس ورب الناس. والله جلّ وعلا يصف هذه العلاقة بينه وبين عباده بالتجارة والبيع والشراء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ  تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ )( الصف   10: 11.)( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ) ( فاطر  29.) (  إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة 111) .فهنا يرغّب الله المؤمنين فى الجهاد بعقد صفقة معهم تكون لهم الجنة مقابل التضحية فى سبيل الله تعالى بالنفس والمال دفاعا عن أنفسهم وحريتهم فى العقيدة ضد عدو يعتدى عليهم .

10 ـ بل يجعل الله تعالى إعطاء الصدقة بمثابة تقديم قرض لله تعالى وهو جل وعلا سيضاعف رد القرض أضعافا كثيرة (  مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ )( الحديد 11 )( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً  )( البقرة 245) . وحيث تكون الأوامر بالفرائض بهذه الصيغة من التعامل المباشر وبصيغة البيع والتجارة والإقراض فلا مجال حينئذٍ لأن يقوم الحاكم بإلزام أحد. والمؤمن حين يؤدى الفرائض لله يرجو (قبض الثمن ) أو الأجر في الدنيا قبل الآخرة والقرآن يبيح له ذلك، فإذا جاءته شدة أو عسرة أقام الصلاة واستعان بالصبر والصلاة على كل شىء ، وحينئذٍ يأتيه الفرج (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ  ) ( البقرة 153.). وفى آيات الصيام قال سبحانه وتعالى:( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ )( البقرة 186)  . فثمرة الصوم في الدنيا أن يستجيب الله دعوة الداع.

11 ـ  ويلاحظ حرص الآية الكريمة على أن تكون العلاقة مباشرة بين الله وعباده.أى أنه حتى النبي لم يكن واسطة أو طرفاً في ذلك الخط المباشر بين الناس ورب الناس ، فلم يقل :( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فقل : إِنِّي قَرِيبٌ). حذف كلمة ( قل ) هنا لها دلالة هائلة فى عقيدة الاسلام لأنّ الله جل وعلا قريب من عباده بدرجة لايتصورونها ، أقرب اليهم فى حياتهم : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ( ق 16 ) وأقرب اليهم عند الاحتضار: (فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ   وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ   وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ ) ( الواقعة 83 : 85 ). وفى كل الأحوال هو الأقرب اليهم من سلطة المجتمع ، وأقرب اليهم من أقرب الأقربين اليهم ، فالأقارب يغيبون ولكنه جل وعلا هو القيوم القائم على كل نفس بما كسبت :(أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ )(الرعد 33) وهو مع نجوى المتهامسين : (أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِوَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ) ( المجادلة 7 ) لايغيب عنه شىء فى ملكه : (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) ( النمل 75 ). سلطة المجتمع غائبة فى أكثر الأحوال ويمكن الهرب منها وخداعها والالتفاف حولها . ولكن هل يستطيع البشر الفرار من رب العزة وهو على كل شىء شهيد ؟

12 ـ وفي فريضة الحج يقول سبحانه وتعالى:( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ )( آل عمران 97) ، ومعناه أن الناس مدينون لله بالحج لبيته الحرام في حالة الاستطاعة.. وتقدير الاستطاعة يرجع للشخص نفسه، ولا رقيب عليه إلا الله. فهو تعامل خاص بين الله وبين المؤمن . والمؤمن يعلم تماماً أنه إن كان مستطيعاً وتكاسل عن الحج فإنه يدخل في التحذير الوارد في قوله تعالى :( وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ )، والمؤمن يحس بمدي الإلزام المعنوي في الآية حيث جاء الأمر ليس بالصيغة الفعلية ( حجوا ) وإنما بالصيغة الاسمية Lوَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ...)

13 ـ وشرع الله التسابق والتنافس والتسارع فى تأدية الفرائض، وحيث يكون تنافس فلا مجال للإلزام والإكراه والعقوبة. فهناك تسابق بين المسلمين وأهل الكتاب فى عمل الخير (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ )( المائدة 48. ) (  وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( البقرة/148.). وهناك تسابق في داخل دائرة أهل الكتاب كان يحدث بين الأنبياء السابقين والصالحين من أتباعهم ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) ( الأنبياء /90.) (  لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ  يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) 3/114.)وشرع الله التسابق بين المؤمنين جميعا فى عمل الخير وتأدية العبادات ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ )(آل عمران 133 ـ  ) ( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ( الحديد 21.) (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ) (المؤمنون57 : 61.). والتنافس قائم بين المؤمنين فى الخير طمعا فى الجنة وايمانا بالآخرة .وهناك تنافس أيضا بين المتصارعين على متاع الحياة الدنيا وفى سبيله يرتكبون العصيان والجرائم.

ويترتب على ذلك أن ينقسم الناس إلى ثلاثة أقسام حسب التسابق فى الخير أو فى الشر. على القمة يقف السابقون ثم يليهم المقتصدون أى من توسط وخلط عملا صالحا وآخر سيئا ثم تاب قبل أن ينام على فراش الموت، ثم فى الحضيض يأتى الخاسرون الذين تنافسوا فى حياتهم فى الشر والعصيان  (  ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ  )( فاطر /32.)( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )( التوبة 100.) (  يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ )( المجادلة 11) والتنافس لا يعنى الالزام وإنما الاختيار.

14 ـ والقتال فى سبيل الله هو أصعب الفرائض وأثقلها على الناس ، لذا كرهه المسلمون : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ( البقرة  216) ، ومع ذلك فلا إلزام في فريضة الجهاد من الحاكم حتى ولو كان الرسول محمد عليه السلام. والأمر بالجهاد يأتى مباشرة للمؤمنين، حتى إذا تكاسلوا يأتيهم التقريع من الله (  أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ )( التوبة 13.)وحين تثاقل المؤمنون عن القتال جاءهم التهديد من الله بأن يستخلف قوماً غيرهم (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( التوبة 38: 39.)إذا فالعقوبة لهم إذا تثاقلوا عن الجهاد تأتى من الله لا من الرسول الذى كان قائدا لهم ً. وإذا بخلوا بالإنفاق في سبيل الله وفي الجهاد يأتيهم نفس التهديد من الله بأن يستخلف قوماً غيرهم (هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ )(محمد 38 )   

القتال فى الاسلام للدفاع ضد المشركين المعتدين الساعين لفتنة المسلمين وإكراههم فى الدين  ( وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )( البقرة 217) أما من يتثاقل عن الجهاد فقد أعطي المشركين فرصة الإجهاز عليه وهم لا يرقبون في مؤمن إلاَّ ولا ذمة. وبذلك خرج من الساحة بتقاعسه عن حماية نفسه وبسيوف المشركين المعتدين ، وهنا يأتى مجاهدون آخرون يستفيدون من الدرس ويحرصون على حماية أنفسهم والدفاع عنها.:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( المائدة 54.)

إذن فالعقوبة من الله للمؤمنين إذا تقاعسوا عن الجهاد، أما الحاكم المسلم فليس له أن يلزمهم بالجهاد أو ان يعاقبهم عليه. عقوبتهم إذا تكاسلوا عن الجهاد هو منعهم مستقبلا من الخروج للجهاد .!!(فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ  )( التوبة:  83 ) وهذا ما أكّده الله تعالى فى الحديث عن منافقي المدينة وعذابهم الدنيوى بتسليط اموالهم واولادهم لتكون عذابا لهم وهى أحب ما لديهم (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُون  )(وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ )(التوبة/55، 85.) والله وحده هو الذى يستطيع أن يحول نعمة المال والأولاد إلى عذاب دنيوى.

 

الباب الثالث الإلزام في تشريعات الاسلام :الفصل الثالث

  الإلتزام الفردى أساس تطبيق التشريع

 

 الزام الفرد المؤمن لنفسه

1 ـ المؤمن بالله وحده هو الذي يقوم بإلزام نفسه في تأدية الفرائض والعبادات وسائر الحقوق والالتزامات ، وذلك بدافع ذاتى ولا رقيب عليه إلا الله الذى يعلم السر وأخفي ، وهو يعلم أن الله قريب منه برحمته في الدنيا والآخرة وإنه إذا عصى وتكاسل فلن يجيره أحد من عذاب الله في الدنيا والآخرة. وقد يقوم العذاب الدنيوى بتقويم بعض الناس فيرجعون للصواب ( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )( السجدة 21 )   

2 ـ ولأن الطاعة والإيمان موقف اختيارى في الأساس لا شأن لسلطة بشر فيهما، فقد يختار المؤمن الفقير التركيز على الصلاة في ركعاتها وخشوعها وأن يحافظ عل قيام الليل، لأن ظروفه لا تساعده على الصدقة ، قد يتمنى أن يتصدق وأن يكون قادرا على الاحسان المالى ولكن لا يملك إلّا نيته الطيبة. هذا الفقير فى المال الغنى بالرغبة فى العطاء يعتبره رب العزة محسنا حسب نيتّه، طالما ينصح بالخير ويأمر بالمعروف . وحدث فى غزوة ذات العسرة أن جاء فقراء للخروج للجهاد ولكن ليس لديهم دواب يركبونها ويأملون فى أن يجد النبى لهم ما يركبونه ، ولم يتحقق طلبهم فرجعوا باكين حزنا على فقرهم ، فاعتبرهم رب العزة محسنين حسب نيتهم وإخلاصهم : (  لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ  وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ ) ( التوبة 91 : 92)،  فالمؤمن يقدر ظروفه ويتحرك على أساسها وهو يعلم أن الله مطلع على سريرته.

وهذا في الطاعات، أما في المعاصى فهو يتقى الله الذي يعلم خائنة الأعين ما تخفي الصدور، وهو يخشى الله في سريرته وفي خلوته حيث لا تدركه سلطة حاكم  من البشر (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ  ) ( يس 11) ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى  )( النازعات 40 : 41.)

3 ـ هذا المؤمن يجعله رب العزّة حكماً على نفسه إذا أقسم ثم لم يف باليمين الذى أقسم به ، وعندها يجب عليه دفع الكفارة، و هو الذى يوجب على نفسه الكفّارة ويدفعها: ( لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )( المائدة 89.) ، قوله جل وعلا : (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ ) يرجع تحديدها للمؤمن نفسه وليس لسلطة المجتمع ، ويقول جل وعلا فى نفس الموضوع : ( لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ  )( البقرة / 225 )  فالمؤمن هنا هو الذى يعلم ويقدّر قوله جلّ وعلا : (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ )، فهو يعلم سريرة نفسه وما يدور فى قلبه ، وهو الذى يحاسب سريرته ونيته إذا كان يمينه لغواً أو غير لغو، وهو أدرى بإمكاناته في أداء كفارة اليمين وهو في كل ذلك يعلم أن الله مطلع على خبايا نفسه وإنه إذا خدع الناس  فلن يستطيع ن يخدع رب الناس وإلا كان من المنافقين الذين يخادعون الله وهو خادعهم.

هنا لا تتدخل سلطة المجتمع فى تلك العلاقة الخاصة بين المؤمن وربه ، ولا تستطيع .!

وعلى نفس النسق تأتنى الغرامة عقوبة لمن يقتل الصيد ـ متعمد ا ـ فى الحرم وهو يحج الى البيت الحرام (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ   )( المائدة 95.) هل يستطيع حاكم أن يقرر ما إذا كان فلان من الناس قد قتل الصيد في الحرم عمداً أم خطأ؟ لا يعرف خبايا القلوب إلى الله. والله تعالى أوكل الحكم في تحديد العمد من عدمه إلى نفس الجانى وإذا كان قد قتل الصيد عمداً فعليه أن يدفع الفدية إذا كان يخشى الله وإلا فالله عزيز ذو انتقام وهو الذي ينتقم لحرمة بيته الحرام  والأشهر الحرم.

4 ـ وهكذا تنتقل سلطة الإلزام في تأدية الفرائض من الحاكم إلى شخص المؤمن نفسه هو الذى يلزم نفسه وهو الذي يقدم الإيمان الخالص والطاعة الخاشعة لله رجاء الثواب في الدنيا والآخرة، وهذا يذكرنا بالمقصد الأسمى للتشريع القرآني وهو إيجاد المؤمن التقي وتعليم المؤمنين أن يعيشوا متقين.

5 ـ ولذلك فإن آيات التشريع غالبا ما يتم تزييلها بالتقوى ، أى دعوة المؤمن لكى يتقى الله ويطبق التشريع خوفا من الله الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور . يقول جل وعلا : (وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( البقرة  231) . الآية الكريمة تنقسم الى : الأمر التشريعى والمقصد التشريعى الذى لا بد من توافره لتطبيق الأمر التشريعى بكل دقة واخلاص ودون تدخل من سلطة المجتمع. الأمر التشريعى هو قوله جل وعلا : (وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا ) أى إذا طلقت زوجتك وانتهت عدتها وهى فى بيتك فلك الخيار إما أن تبقيها بالمعروف وتعود زوجة لك وتصبح عليكما طلقة ، وإمّا أن تخرج من بيتك وتنتهى علاقتك بها ويتم الانفصال التام بينكما بحيث  لو أردت استرجاعها فلا بد أن يكون ذلك بزواج جديد ، وبحيث يمكن أن تتزوج بعد خروجها مباشرة من تشاء .هنا أمر تشريعى بالأمر والنهى :( فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا ). وقد يحدث أن يرفض الزوج الانفصال النهائى ويقرر أن تظل زوجة له كى يضطهدها ، أى يمسكها وفى نيته وفى قلبه الاضرار بها. هذه نيّة و سريرة لا تعلمها السلطة الاجتماعية ، ولكن يعلمها رب العزة الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ، لذلك، فإنه بعد الأمر التشريعى يأتى المقصد التشريعى فى التحذير والوعظ من رب العزة الى قلب الزوج مباشرة يقول جل وعلا له فى خطاب مباشر : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ). كل هذا لحثّ المؤمن على تنفيذ الشرع باخلاص ، وحتى تكون تقوى الله هى المقصد الأعلى فى التشريع . وحيث توجد تقوى الله فلا خوف من بشر ولا مراعاة لبشر .ويتكرر هذا فى قوله جل وعلا فى نفس الموضوع : (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) ( الطلاق  2 : 3)

 الالتزام بالنذور والعهود والعقود

وهناك نوعية أخرى من الإلزام الفردى. جزء منها يدخل فى اطار العبادات فى العلاقة مع الله تعالى ، وجزء آخر يدخل فى اطار التعاملات مع البشر. تتمثل هذه النوعية فى العهود والمواثيق والنذور. وكلها تقوم على المبادرة الفردية الحرة ولكن يلتزم الفرد المؤمن بالوفاء بها . من نذر لله تعالى نذرا على شكل صدقة أو صلاة أو صيام لا بد من الوفاء به : (وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ )( البقرة / 270 ) (  يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) ( الانسان 7 )ومن عاهد عهدا أو عقد ميثاقا فلا بد من الوفاء به ، وتلك إحدى الوصايا العشر فى القرآن الكريم (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( الانعام  152 ) وتكرر الأمر بالوفاء بالعهد والميثاق ضمن صفات المؤمنين الأبرار المفلحين (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ )( الرعد 20 ) (وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ )(المؤمنون/ 8 )(وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً  ) (الاسراء  34 ).

وقد يعقد المؤمن عقدا فى معاملات مالية أو اقتصادية فلا بد من الوفاء بالشروط والنصوص المكتوبة فى العقد ، لأن الله تعالى يقول ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) ( 5 / 1 ) وهذا يشمل عقد الزواج وسائر العقود الأخرى بين الأفراد أو بين الدولة والفرد أو بين المؤسسات وبعضها أو بينها وبين الأفراد.

ومن الممكن فى ضوء عدم قدرة الدولة الاسلامية على الزام الفرد بالجهاد أن تجعله احترافا و مقابل أجر وبعقد . وعندها يتعين على الفرد المتعاقد مع الدولة أن يلتزم بالشروط التى وقّع عليها.

ويدخل فى ذلك عقد الدولة مع من يخدم الناس من الموظفين وأصحاب الخبرة ـ أى أولو الأمر ـ بالمفهوم القرآنى. كل منهم يخدم الناس بعقد محدد لا بد من الالتزام به وبشروطه وعلى أساسه يستمر أو يتعرض للفصل أو للشروط الجزائية وفقا لبنود العقد.

هنا الفرد المؤمن فى دولته الاسلامية يكون كامل الأهلية ومسئولا عما التزم به من عقد أو عهد من واقع حريته فى القبول والرفض. والحرية أساسها المسئولية وليس الفوضى.

وإذا كان الفرد هو اللبنة الأولى للمجتمع والدولة فإن الفرد الحرّ المسئول الناشط الفعّال ذا الضمير اليقظ هو تعبير عن أمة ودولة حرّة مسئولة نشطة قائمة بالخير والعدل والقسط وحرية الأفراد والشعوب .  وليس هذا حديث وعظ و( ينبغيات ): أى ( ما ينبغى أن يكون ) ، بل حقائق كانت موجودة فى دولة النبى محمد عليه السلام فى المدينة ، وتوجد ما يقاربها فى دول العالم المتحضر فى الغرب وأمريكا واليابان ، ويتم هذا بدون علمهم بالقرآن ، ولكن باتباعهم الفطرة داخل ضمير الانسان ..

بل يمكن تحقيقها بكل سهولة فى عالم المسلمين ـ فى أحلام  اليقظة.!!

 

 

الباب الثالث حدود الإلزام في تشريعات الاسلام :الفصل الرابع

 مدى إلزام السلطة الاجتماعية

تعريف السلطة الاجتماعية فى الدولة الاسلامية:

1ـ  هى التى تتولى الادارة ، وليس الحكم ، لأن الحاكم هو الشعب الذى يعين موظفين ينفذون ما يريده الناس. والدولة الاسلامية طبقا للمعايير القرآنية ليست دولة دينية كهنوتية مثل السعودية وايران ، وليست دولة استبدادية عسكرية أو حزبية ، وليست دولة شمولية مركزية تتدخل فى كل شىء وتتحكم فى الاقتصاد والبيع والشراء والانتاج والاستهلاك والاستيراد والتصدير مثل النظم الشيوعية . نظام الحكم فى الدولة الاسلامية حقوقى ، يضمن فى الأساس تحقيق العدل المطلق بأعلى مستوى بشرى ممكن بين الأفراد ، وضمان الحرية المطلقة فى الدين لجميع الأفراد : ( عقيدة وعبادة ودعوة ) وضمان العدل السياسى بالديمقراطية المباشرة بدءا من القرى الى المدن الكبرى ، وتحقيق الأمن الداخلى لكل فرد والدفاع عن الشعب والوطن . والوطن هنا ليس مجرد الأرض بل كل المواطنين على قاعدة المساواة الكاملة والتامة. والدولة ممثلة فى نظام الحكم والشعب هى التى تملك الأرض ومواردها الاقتصادية وما فيها من ثورات، ولكنها لا تقوم بالانتاج ، فالانتاج هو مهمة الفرد والأفراد ، من المشغل الى المصنع، فلكل فرد حق السعى فى الارض والتملك والانتاج طبقا لتكافؤ الفرص ، وللورثة حق طالما يحسن الوريث إستغلال حقه ، فلو تبين سفهه وعجزه تعود ثروتهم للسلطة لتديرها له وتعطيه ما يكفيه . وعلى الدولة ممثلة فى نظام الحكم تيسير الاستثمار وسبل التملك وضمان الحقوق الاقتصادية وضبط المكاييل والموازين ومنع كل وسائل الفساد ، ولها أن تسنّ القوانين التى تؤكد الشفافية وتطارد الفساد ، وتضمن بالضرائب كفالة العدل الاجتماعى بإعطاء حقوق الفقراء والمساكين وابناء السبيل واليتامى والارامل والسائلين والمحتاجين . ولذلك فان جهاز الدولة الادارى ضئيل ، ومسئوليته فى الاشراف والتيسير والأمن والعدل ومكافحة الفساد ، وسلطته فى الالزام هى فيما يخص حماية الناس وحقوقهم ويخدم مصالحهم الشرعية. ويقوم بهذه السلطة مسئولو الأمن والقضاء والهيئات التنفيذية ..وغيرها .

2 ـ وسبق القول بأن حقوق الله لا يتدخل فيها الحاكم بالإلزام او العقاب ،أما حقوق البشر فلابد من مراعاتها لتستقيم أمور المجتمع. والذى يقوم بذلك هو الهيئات التى يختارها المسلمون وفق  نظام الشورى.

وحقوق البشر التى يقيمها الحاكم وأعوانه تندرج تحت نوعين: إجراءات عقابية وإجراءات اجتماعية اقتصادية.وحين نقول ( الحاكم ) نقصد الموظف المعين من أهل الاختصاص ، قاضيا أو ناظرا أو مديرا أو مفتشا فى الاسواق أو جنديا أو قائدا ..كل فى مجال تخصصه باصدار المر أو بتنفيذه ، وهو مساءل أمام الشعب فى الجمعية العمومية التى تم أفراد  القرية أو المدينة أو الحى . هذا بالاضافة الى المسئولين على مستوى الأمّة والمجتمع كله فى الدفاع والأمن العام والعلاقات الخارجية والاجراءات المالية والاقتصادبة العامة والقومية والوطنية مثل سك العملة والتعليم ومواجهة الأخطار والرى والصرف على مستوى الوطن.

إلزام السلطة الاجتماعية ( الحاكمة ) بالإجراءات العقابية الايجابية :

وهذه تشمل عقوبة الزنا وقذف المحصنات وعقوبة قتل النفس وقطع الطريق والسرقة والشذوذ الجنسي. وتسقط العقوبة بتوبة الجانى ، وبالاضافة الى التوبة تستلزم جريمة القتل تقديم الدية بديلا عن القصاص . ومن لوازم التوبة إرجاع المظالم والاعتذار للمظلوم ودفع الغرامات المترتبة على جريمته. وذلك ما يدخل في إطار التقدير البشري، أما صدق التوبة والعزم على عدم العودة للمعصية وتصحيح الإيمان فهي أمور قلبية تخرج عن تقدير البشر ، ويترتب عليها الغفران يوم القيامة أو الخلود فى النار.

إلزامه بالعقاب السلبي بالمنع والتفريق:

قد يشاع عن امراة بأنها سيئة السلوك ولكن يتعذر ضبطها متلبسة، ولكن القرائن والشواهد تؤكد احترافها أو إدمانها للفاحشة ، هنا يكون للحاكم المسلم أن يطلب شهادة أربعة شهود على سوء سلوكها فإذا شهد الأربعة قام بالتحفظ عليها في مكان أمين لمنعها من إشاعة الفاحشة وتظل كذلك إلى أن تتوب و تتزوج أو تموت (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً  ) ( النساء 15). وقد يرمى الزوج زوجته بالزنا ولم يكن معه شهود يثبتون عليها التهمة، وحينئذٍ يكون التلاعن بين الزوجين وبعده يتم التفريق بينهما وتسقط عقوبة القذف عن الزوج وعقوبة الزنا عن الزوجة : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ  وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ )(النور 6: 9.)

إلزام الحاكم بالإجراءات الاقتصادية:

 1 ـفي حالة الحجر على السفيه ومنعه من التصرف في ماله لأن المال حينئذٍ يكون حقاً للمجتمع، ويعين الحاكم وصياً على مال السفيه ويكون للسفيه حق الربح من تشغيل المال، نستفيد هذا من قوله تعالى: "وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً  )( النساء 5 )،  قال "وارزقوهم فيها" أى من ربحها وريعها، ولم يقل ارزقوهم منها لأن (من) تعنى رأس المال نفسه. وعن قسمة الميراث يقول تعالى فيما بعد: " وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً )( النساء 8 ) فقال عن التركة (منه) لأنها تقسم كلها.وهكذا تتضح الفروق الدقيقة بين (في) و (من).

2 ـويعين الحاكم وصياً على مال اليتيم فإذا بلغ اليتم سن البلوغ أجرى له اختباراً لكفاءته فإن ظهر رشده صارت له الولاية على ماله، وإلا عاد المال للوصى، ويقرر الحاكم محاسبة الوصى وتقدير أجره عن الوصاية إذا كان محتاجاً للأجر، وإذا تم تسليم اليتيم ماله كان ذلك على يد شهود، تفهم ذلك من قوله تعالى: " وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً)( النساء /6) 

3 ـ ويستلزم الحاكم بإقامة المكاييل والموازين بالقسط(  وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ) ( الانعام 152). (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) ( الاسراء 35 )(أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) ( الشعراء  181 ـ )(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ )(المطففين 1 ـ )( أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ )( الرحمن 8: 9.)

إلزام الحاكم بالتدخل في الحالات الزوجية الشخصية:

إذا خيف حدوث شقاق بين الزوجين تدخل الحاكم لمنع ذلك الشقاق وذلك باختيار حكم من أهل الزوج وحكم آخر من أهل الزوجة ليتعاونا في تقريب وجهات النظر والصلح بين الزوجين يقول تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً ) ( النساء  35.). والمطلقة في فترة العدة يتدخل الحاكم في تقدير حقها فى النفقة والسكن بالمعروف : (   أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى   لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ) ( الطلاق 6 : 7 )

هل للحاكم أن يُلزم الناس باجتناب الخمر:

مالم يصدر قانون يعبر عن رأى الجميع ويكون تنفيذه ملزما للجميع فليس من حق الحاكم إلزام الناس باجتناب الخمر. ولكن يبقى العلاج القرآنى هو الأمثل. ليس في القرآن عقوبة على تناول الخمر وإن كان تحريمها جاء في صورة التغليظ والأمر بالاجتناب  (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ ) ( المائدة 90: 91.) . والأمر بالاجتناب  والنهى عن الاقتراب هما أشد أنواع التحريم. لقد قرن تشريع القرآن والخمر والميسر بلوازم الشرك من الأنصاب والأزلام واعتبر الجميع رجساً من عمل الشيطان وأمر المؤمنين باجتنابه والابتعاد عنه إذا أرادوا الفلاح، وأوضح أن هدف الشيطان من نشر إدمان الخمر والميسر هو إيقاع العداوة بين المؤمنين وصدهم عن ذكر الله والصلاة .ومن  المتوقع أن يكون علاج القرآن لإدمان الخمر والميسر بنفس المنطلق العقلى الذي أرساه في موضوع اتخاذ القبور المقدسة، ليس بإلزام السلطة وعقابها ولكن بتوضيح خطورتها لينأى الإنسان عنها بدافع ذاتى.

والواقع ان التربية السليمة هى الأسلوب الأمثل في إبعاد النشء عن هذا الرجس ، وسياسة الردع  والانتقام والحظر والتخويف لا تسهم الا في انتشاره خلسة بين الناس . وطالما تتعلق الخمر والميسر بصناعة الشيطان فهو الذى يزين للناس تناولها في غيبة القوانين التى تعاقب عليها، ولكن إذا تربي المؤمن على تقوى الله وطاعته في السر والعلن كان في مأمن من غاية الشيطان وصناعته، وهكذا فمهما تكاثرت  قوانين العقوبات في موضوع الخمر وملحقاتها فلن تزيدها إلا انتشاراً طالما غفل الناس عن حكمة القرآن في ترك قضية التحريم في إطار علاقة الإنسان بربه  وإذا كان يخشى الله حقاً فيكفيه أن الخمر والميسر من عمل الشيطان شأنهما شأن الأنصاب والأزلام، وإن فلاح المؤمن في الدنيا والآخرة مرتبط  باجتنابه هذه الصناعة الشيطانية . والاجتناب من أشد تعبيرات التحريم إذ يعنى الابتعاد عن كل ما له صلة بالخمر والميسر لقطع الطريق بينها وبين حواس المؤمن، ويبدأ اجتناب الخمر والميسر بقطع الطريق على الشيطان  حين يوسوس للإنسان أن يذوق التجربة الأولى أو أن يحضر مجالس الأنس، وغالباً ما يبدأ  الإدمان بهذه الخطوة البسيطة ويظل الإنسان يدفع الثمن من صحته وكرامته وأمواله وسعادة أسرته طيلة حياته. إن الخمر والميسر والأنصب والأزلام من أشد أعداء العقل. وكل منها يحاول تغييب العقل وتدميره بطريقة مختلفة وبنفس القدر يحاول القرآن حماية العقل ويوجه المؤمن لاحترامه.. ومن هذا المنطلق  كان تحريم الخمر والميسر بتلك الصورة التى تحترم الإنسان وعقله، إذ نجعله حارساً على عقله دون إلزام من حاكم قد يكون هو نفسه من السكارى في غير وقات العمل الرسمية.

وفى إطار مقاصد التشريع فى حفظ الحقوق والتيسير والتسهيل يمكن للهيئة التشريعية أن تسنّ القوانين ، مثل منع التدخين فى بعض المناطق ومنع المخدرات ، وتنظيم تعاطيها للعلاج مثلا .. كما يمكن أن تنشىء وتستحدث وظائف لتتمكن من خدمة الفرد والأفراد .

 

 

الباب الرابع :  دور الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى قوة الدولة الاسلامية 

الفصل الأول :الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر و طبيعة الدولة (إسلامية أو إستبدادية)

 أولا

 1 ـ الدولة إختراع بشرى أقيم لتنظيم شئون المجتمع وحمايته والدفاع عنه. وتنقسم الدول الى نوعين حسب المستفيد ، هل هو الشعب بكل أفراده أم المستبد بجنده وأعوانه . أى لدينا نوعان : دولة يقيمها زعيم عصابة لصالحه ودولة يقيمها أفراد المجتمع نفسه لصالح الشعب.

2 ـ دولة زعيم العصابة وقطاع الطرق تعنى أن عصابة ما تتكون من زعيم وقادته ومعه جنده وأتباعه يسيطرون على مجتمع ما ، إما أن يكونوا من داخل المجتمع أو جاءوا غزاة له وتحكموا فيه . هذه العصابة تحمى المجتمع وترعاه من منافسين لهم ، إمّا غزو لصوص آخرين من الخارج ، أو من لصوص آخرين من الداخل . تقوم زعيم العصابة الحاكمة بتنمية موارد الأرض وببعض العناية بالمجتمع شأن من يملك مزرعة وحيواناتها ، ولا بد له من رعاية المزرعة وحيواناتها ليزداد دخله . زعيم العصابة قد ينشىء الطرق ويقيم الجسور وينشىء المدن ويشق الترع ويرفع العمائر وعليها إسمه ، ويقوم بتسخير أفرد الشعب فيما يفعل ، وهو فى كل ما يفعل إنما ليزيد موارده ويعظم ثروته ويرفع إسمه وشهرته.  وهو فى كل ما يفعل يؤمن أنه يملك الأرض ومن عليها من بشر وحيوانات ومزارع وعقارات . هذه هى دولة المستبد البدائى .

3ـ التطور البشرى أجبر المستبد على إجراء بعض التعديل والتعليل والتبرير ليقنع شعبه بقبول الإستبداد ، وليأمن ما استطاع  تمرد المنافسين ، فأصبح زعيم العصابة يتحجج بالدين فيقيم دولة دينية يزعم أنه هو الممثل لرب العزة جل وعلا والمختار من لدنه لحكم المجتمع، وبالتالى فإن أى إهانة له فهى إهانة للدين فقد تقمّص هو وأتباعه الدين ، ومن ينتقده فهو كافر يستحق القتل ودخول جهنم وبئس المصير . وقد يتستر زعيم العصابة بالقومية ، فيزعم أن أفراد المجتمع كلهم متميزون عن بقية الخلق ، وهو يمثلهم ولا بد أن ينصهروا فيه طاعة له ، ومن ينتقده فهو خائن للقوم . وقد يزعم ( الزعيم ) أنه ممثل الوطن ، وان الوطن قد حلّ به وأنه إتحد بالوطن ، ومن ينتقده فهو خائن للوطن .

4 ـ تحررت أوربا والغرب وأقامت دساتير تحفظ الحقوق ، وعلى أساسها قامت دولة القانون بديلا عن دولة الفرد المستبد ، ونشأت ديمقراطيات نيابية بانتخابات ومجالس تمثل الشعب ونواب يتحدثون باسمه ، وسلطة تنفيذية تراقبها السلطتان التشريعية والقضائية واعلام حر يتابع ويفضح ويناقش .وبدأت شعوب الشرق التعس تتطلّع وتتحسّر وتحلم وتتحرّك وتستنكف فاضطر المستبد الشرقى لاخفاء عورة استبداده ببعض الديكور الديمقراطى ، من دستور هزلى وقوانين استثنائية وطوارىء مستمرة وانتخابات مزورة ومجالس نيابية من الراقصين والمصفقين ، واعلام يسيطر عليه البهلوانات والحواة ، ومجتمع يتحكم فيه رجال الدين ورجال الأمن .

5 ـ هذا المستبد الشرقى يواجه الآن تحديا من شباب الانترنت ومن زخم ثقافة حقوق الانسان والديمقراطية ، وسينتهى إن عاجلا أو آجلا فلم يعد العصر عصره . بل سيشهد المستقبل القريب تطور الديمقراطية النيابية لتصبح ديمقراطية مباشرة وكاملة ، وهى نظام الشورى الاسلامية . وندخل بهذا على النوعية الثانية من الدول : الدولة التى يقيمها المجتمع نفسه .

6 ـ دولة الناس (We People)يقيمها الناس جميعا وفق عقد وعهد ودستور يحفظ الحقوق وينظم العلاقات بين أفراد المجتمع . الأغلب السائد الآن هو الديمقراطية النيابية بمجالس تشريعية يمثل فيها النوّاب المواطنين حسب مناطقهم . وعيبها تركز الحكم فى الطبقات الثرية التى تستطيع التبرع للمرشحين فى حملاتهم الانتخابية ، ومن ثم السيطرة عليهم وتوجيه القرار السياسى لصالح المؤسسات الكبرى التى تملك معظم الثروة ، وبالتالى تتحالف الثروة مع السلطة تحت واجهة الديمقراطية المنقوصة أو الديمقراطية غير المباشرة أو الديمقراطية النيابية التمثلية التى ( يمثل ) فيها (الأقلية) الغنية القادرة على الترشيح يخدعون فيها ( الأغلبية ) التى لا تملك سوى التصويت . هى  (ديمقراطية الملأ القرشى الحاكم ). ولكن تظل بما فيها من حرية وليبرالية وتمسك بالقيم العليا أفضل ملايين المرات من الاستبداد بكل أنواعه.

7 ـ الأفضل ـ وهوالأقل حاليا ـ  أن تكون ديمقراطية مباشرة بلا مجالس نيابية بل بجمعيات عمومية يحضرها أفراد الشعب فى نظام لا مركزى فى كل قرية وكل حى وكل مدينة ، ويختارون أولى الأمر أو اصحاب الاختصاص ليباشروا الادارة وخدمة المواطنين تحت رقابة ومحاسبة الشعب فى كل مستوى من القرية الى الحى الى المدينة. مع تقسيم للمهام وتنسيق بين العاصمة والشئون القومية العامة للدولة من علاقات خارجية ودفاع وأمن ..الخ من ناحية وشئون محلية داخلية تخص كل قرية وحى ومدينة .

8 ـ وهذه هى الديمقراطية الاسلامية أو الشورى كما جاءت فى القرآن الكريم .ولنا فى هذا بحث بالعربية سننشره لاحقا بعون الله جلّ وعلا ، مع بحث آخر بالانجليزية منشور فى موقعنا . على أن هذه الدولة الشورية الديمقراطية ليست بدعا من الدول . فقد أقيمت قديما فى اليونان ، وتأخذ بها محليا بعض المناطق فى سويسرا ودول اسكندنافيا وبعض مناطق فى الولايات المتحدة الأمريكية . ولكن الذى يهمنا إنه تم إقامتها فى دولة الاسلام الأولى ،والاخيرة ـ فى المدينة فى عهد خاتم النبيين عليه وعليهم السلام.

9 ـ إقامة دولة الشورى ( الديمقراطية المباشرة ) فى عصرنا أيسر كثيرا من العصور الماضية التى أقيمت فيها فى اليونان وفى المدينة . بوسائل الاتصالات الحديثة المباشرة وبالانترنت يمكن بكل سهولة عقد الجمعيات العمومية العلنية لكل بلد وقرية وحى ومدينة حيث يحضرها كل أفراد البلد أو القرية أو الحى أو المدينة ، وفيها يتم اختيار الخبراء (أولى الأمر ) وتتم مناقشتهم ومحاسبتهم . ويكون ذلك علنا أمام الجميع داخل البلد والقرية والحى والمدينة وخارجها على مستوى الوطن والمجتمع كله .

10 ـ التحدى الوحيد هنا هو موضوعنا ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) ، بمعنى آخر هل المجتمع حىّ ومتفاعل ونشط بكل أفراده ، يتواصى فيه الجميع بالخير ويتناصح فيه الجميع بالمعروف المتعارف عليه من عدل وقسط وحرية وخير وحق ، ويتناهى فيه الجميع عن الظلم والكذب والبغى والخيانة والفسق والشرور ؟  أم هو مجتمع خامل نائم ؟ مجتمع ( وأنا مالى ؟ ) مجتمع ( إذا جاءك الطوفان فضع ابنك تحت رجليك ) مجتمع ( ضرب الحاكم شرف ) مجتمع ( علقة تفوت ولا حد يموت ) مجتمع ( إذا كانت البلد بتعبد عجل قم حشّ له البرسيم ) مجتمع ( إذا كان لك عند  الكلب حاجة قل له يا سيدى ) مجتمع ( اللى يتزوج أمى أقول له ياعمّى ) مجتمع ( ن.. الحكومة ولا توريها ز..) مجتمع الأغلبية الصامتة الساكنة الساكتة المقهورة .

11 ـ فى وجود هذه الأغلبية الصامتة يصل للحكم أى معتوه مثل القذافى وأى بليد مثل مبارك وأى جاهل أمى مثل عبد الله آل سعود . بل من مضحكات عصرنا أن بعضهم ابتدع للقذافى ( الكتاب الأخضر ) ونظرية عصر الجماهيرية وحكم الجماهير ، والمجالس الشعبية التى تحكم محليا من القرية الى المدينة . هو كلام رائع وجميل ، ولكن كان التطبيق على العكس تماما ، وبه اصبح القذافى هو القائد المتحكم فى كل شىء حتى فى تفكير الناس وفى نفس الوقت ليس له منصب رسمى .! . الذى ساعد القذافى ليس فقط سياسة الارهاب الأمنية ولكن صمت الأغلبية وخنوعها . فلما تحركت الأغلبية إهتز عرش القذافى ، ثم زاد تحركها وغليانها فانهار القذافى وصار إضحوكة فى مماته كما كان فى حياته . الآن تتحرك عناصر من الأغلبية الصامتة يمثلون الشباب الثائر ، بينما تختار معظم الأغلبية الجلوس على الارائك ينظرون يشاهدون الأخبار ويعلقون متكاسلين .

12 ـ فى موضوعنا عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لدينا طوائف ثلاث : شباب الثورة ، وهم بما يفعلون ـ وحتى وهم لا يدركون ـ يقومون بواجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر . ثم هناك الحكام الطغاة والساعون الى وراثتهم من الوهابيين السنيين وأمثالهم ، وأولئك باستبدادهم وظلمهم وفسادهم ـ أى بافعالهم ـ يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ثم هناك الصامتون الساكتون عن الحق ( حزب الكنبة ).

 13 ـ نجاح الثوار مرتبط بصمودهم وبانضمام معظم الأغلبية الصامتة اليهم.. استمرار وجود الأغلبية الصامتة معناه وقوع البلاد فى حمامات دم ، وسيكون الضحايا هم الأغلبية الصامتة نفسها وابناؤها ، أى إن الأغلبية الصامتة ستدفع الثمن من أبنائها ومن حاضرها ومستقبلها . ففى حالة عدم الحسم واستمرار القلاقل والفتن والاعتصامات والمظاهرات والمحاكمات والشائعات والمناورات والمؤامرات سينهار الاقتصاد وستستشرى المجاعات والكوارث الاقتصادية وينعدم الأمن ، وتتجهز البلاد لحروب أهلية وحمامات دم . يمكن تقصير أمد المعاناة لو تحركت الأغلبية الصامتة وكسرت حاجز الخوف وودعت الصمت والسلبية والخمول والذل والاستكانة ووقفت الى جانب حقوقها مع أبنائها شباب الثورة . عندها سيقف العالم بكل قوة الى جانب الثورة الحقوقية بلا خوف من سيطرة السنيين والارهابيين ، وسينهار معسكر الظلم من المستبد القائم فى الحكم والمستبد الساعى الى الحكم.

14  ـ لو نجح الثوار فى سعيهم لاقامة الأمر بالمعروف وفى التصدى للمنكر فربما تقام دولة الاسلام الحقيقية القائمة على الديمقراطية المباشرة والقسط والحرية الدينية والسياسية وحقوق الانسان .

 أخيرا :

ندخل بهذا على القسم الرابع من الفصل الأول وهو عن دور الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى قوة الدولة الاسلامية  فى لمحة قرآنية تاريخية . ونبدأ فى المقال القادم بالحديث عن أهمية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى إقامة مقاصد الشرع الاسلامى ، حيث يتأسس هيكل الدولة الاسلامية على مقاصد الشرع الالهى وهى الحرية والعدل والتقوى .

 

 

الباب الرابع :   دور الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى قوة الدولة الاسلامية 

الفصل الثانى : أهمية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى إقامة مقاصد الشرع الاسلامى 

تأسيس الدولة الاسلامية على الحرية والعدل و التقوى  

1 ـ خلق الله جل وعلا السماوات والأرض والكون الذى بينهما من كواكب ونجوم ومجرات لكى يختبر الانسان فى هذا اليوم الدنيوى (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً )(هود 7 ). وبعد أن تأخذ كل نفس فرصتها فى الاختبار الدنيوى يتدمر هذا العالم ويؤتى بكل نفس للحساب : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ )( ابراهيم 48 ). أساس الحساب يوم الدين هو حرية البشر التى أعطاها رب العزة فى هذه الدنيا ليكونوا مسئولين عن إختيارهم الدينى يوم الحساب. مصادرة الحرية الدينية فى هذه الدنيا هو بمثابة تضييع لمساءلة البشر يوم الحساب ، لأنه سيعطى عذرا بالاكراه فى الدين ، وليس على مكره مجبور مؤاخذة، أى لا بد أن تكون حرا فى أختيارك الدينى حتى تكون مسئولا ومساءلا يوم القيامة ، حيث الخلود فى الجنة أو الخلود فى النار. وليست هذه الدنيا المؤقتة القصيرة سوى مرحلة أختبار لهذا اليوم الآخر الخالد. والاختبار يستلزم الاختيار ، لذا فالحرية الدينية أساس خلقنا وأساس محاسبتنا يوم الدين .ومن يعتمد الإكراه فى الدين فهو عدو لرب العالمين . وبالتالى فإن أى دولة تقوم على الإكراه فى الدين هى دولة تعادى رب العالمين ، وكل دولة تضمن حرية الدين المطلقة بلا أى إستثناء فهى دولة اسلامية من هذه الناحية . ويتبقى لها جانب آخر لتكتمل إسلاميتها وهو قيامها على القسط والعدل.

2 ـ فالعدل أو القسط هو الهدف من ارسال الرسل وانزال الكتب السماوية للعالم كله : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ  )( الحديد 25 )، وأى نظام حكم مستبد ظالم مناقض للقسط والعدل هو خصم لله جل وعلا ، خصوصا إذا تستّر بالاسلام ، لأنه بذلك يظلم رب العزّة ذاته ، ويرتكب جرائمه وظلمه باستغلال إسم الله ودينه ، ويجعل دين الله هو المتهم ظلما وعدوانا .

3 ـ وبالحرية والعدل تقوم الدولة الاسلامية ، وهما من مقاصد التشريع الكبرى فى الاسلام . ولكن لكى تستمر ويتم تفعيل شرع الله فلا بد من التقوى ، وهى المقصد الأكبر والثالث من مقاصد التشريع . والتقوى هى الخوف من الله جل وعلا ومحاسبة الفرد لنفسه فى الدنيا قبل أن يحاسبه الله جل وعلا يوم الحساب . التقوى أن يخلص الفرد لربه فى العقيدة وفى العبادة ـ وهذا شىء خاص بين كل فرد وربه ، ولكن ثمرة التقوى تتجلى فى تعامل الفرد مع مجتمعه بدءا من الأسرة والعائلة والجيران الى الزملاء والاصدقاء والغرباء وكل الناس. بالتقوى يكون الفرد فاعلا للخير آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ، ولا يستنكف أن يعظه الناس كما يعظ الناس . بالتقوى والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يمكن إقامة وإستدامة الدولة الاسلامية القائمة على القسط والحرية المطلقة فى الدين .

 دور الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى استدامة العدل والحرية  

1 ـ لقد خلقنا الله جل وعلا  فرادى، وكل منهم متميز ببصمته الوراثية جسديا والنفسية برزخيا ، ولكل منا مسئوليته الشخصية نحو نفسه ومجتمعه ، وكل منا سيؤتى به يوم القيامة للحساب فردا. (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)(الانعام 94 )،يسرى هذا أيضا على الملائكة والجن والشياطين:( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ) (مريم 93 ـ ) ، وكل منا سيدافع عن نفسه يوم الحساب :(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) ( النحل 111) .

2 ـ وقد عرفنا أن جانب الإلزام القانونى من المجتمع للفرد ضئيل حسب التشريع الاسلامى ،وهو لا يتعدى بعض الالتزامات التى يفرضها المجتمع فى الحقوق للأفراد الآخرين أو لحق المجتمع . والمساحة واسعة للإلتزام الفردى الطوعى فى العقيدة وفى العبادة وفى التمسك بالقيم العليا والمعروف وعمل الصالحات ، أوعكسها . هذه المساحة المتروكة للحرية الفردية دون تدخل من سلطة المجتمع هى المجال الأساس للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وفيها يأتمر الجميع بالمعروف ويتناهى الجميع عن المنكر ، ويكون الفيصل هو الفطرة السليمة التى تتعارف على القيم العليا من القسط والحرية والرحمة والاحسان والكرم والشجاعة والمروءة والصدق والشهامة والنبل وسائر الأخلاق الزكية ، وتتعارف أيضا على رفض الظلم والفساد والبغى والطغيان والفواحش والكذب والخداع . لايهم إن كانت هى ( التقوى ) أو ( النفس اللوامة ) أو (الفطرة ) فى المفهوم القرآنى ، أو ( الأنا العليا ) أو ( الضمير ) فى ثقافتنا الراهنة . تتعدد الأسماء ولكنها تعنى (وجود طاقة حية متفاعلة بالخير فى مجتمع الدولة الاسلامية ، حيث تتحرك فى داخل كل فرد تدفعه للخير ، وتجعله ينصاع للحق لو ظلم أو إعتدى) .

3 ـ وقد يكون صعبا قيام دولة الاسلام على القسط والحرية فى الدين والسياسة، ولكن إستمرارها هو الأصعب . فالاستمرار هنا يستلزم (وجود طاقة حية متفاعلة بالخير فى مجتمع الدولة الاسلامية ، حيث تتحرك فى داخل كل فرد تدفعه للخير ، وتجعله ينصاع للحق لو ظلم أو إعتدى ). أى وجود فرد يتعامل بالتقوى مع الله جل وعلا ومع الناس ، أو على الأقل مع الناس . وبالتالى يتفاعل إيجابيا بالخير مع نفسه ومجتمعه بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر . يعزّز من ذلك مسئولية الفرد الذاتية والطوعية أمام الله جل وعلا يوم الحساب ـ ليس فقط عن نفسه ، ولكن أيضا نحو بيته وأسرته ومجتمعه وبلده ودولته باعتبار أنه لا بد أن يتفاعل ـ بالخير .بدون تفاعل أفراد المجتمع بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تصبح هذه الدولة شيطانية بسبب اعتماد معظم تشريعاتها على الفرد دون إلزام من سلطة المجتمع ، ولهذا فلو فسد هذا الفرد سيتحول المجتمع الى غابة ، إذ لا يكفى أن تتأسس دولة ما على القسط والحرية ، فلا بد أن يكون شعبها حيّا متفاعلا نشطا آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر حتى يحافظ على الحرية والعدل . بوجود أغلبية صامتة ساكنة ساكتة لاهية سيتحكم فى الأمر أقلية متحركة تتداول بينها السلطة والثروة ، ويتأسس الاستبداد والظلم والفساد ويضيع القسط والعدل .

4 ـ وإقامة القسط ليس مجرد بداية وبعدها نضمن إستمرار القسط  اوتوماتيكيا وذاتيا ، وإقامة القسط ليس جهد فرد أو طائفة ، وإقامة القسط ليس مجرد الدعوة للقسط. التدبر فى ألاية الكريمة يعطى معانى مختلفة : برغم الايجاز فى الجملة القرآنية (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) فهى تعنى الآتى : قيام الناس بالقسط بمعنى تطبيق القسط ، وتطبيق القسط يستلزم فى البداية دعوة يقتنع بها الناس ووعيا بأهمية القسط فى حفظ الحقوق وفى أمن ورفاهية الفرد والدولة والمجتمع ، وبناء على هذه الدعوة وذلك الوعى يقوم ( الناس ) بتفعيل وتطبيق القسط .و( الناس ) ليس مجرد حاكم فرد ولا طائفة أو مجموعة ، ولكن ( كل الناس ) من ذكور وإناث وأغنياء وفقراء وشباب وكهول ؛ كل الأفراد على قاعدة المساواة عليهم المشاركة فى إقامة القسط .وتعبير(ليقوم ) أى ليس مجرد التفعيل ولكن الحفاظ على الشىء المقام ومتابعته بالصيانة والاستمرار والاستدامة خصوصا مع استعمال الفعل المضارع المستمر ( ليقوم ) . وطالما يقوم المجتمع كله بالقسط ليل نهار فردا فردا فلابد من التناصح والتشاور لا فارق بين فرد وآخر ، وهنا تتجلى فضيلة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر صمام أمن للعدل وضمانا ضد الظلم والبغى . وهذا يستلزم النقاش والحوار والحجة والاقناع والعلم والتعليم ممّا يسهم فى  تطوير الوعى لدى الأفراد.  وهذا التفاعل الايجابى بالمشاركة فى صنع القرار وفى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يجعل الفرد معتزّا بذاته ، وعلى مستوى الأفراد جميعا يزداد إنتماؤهم لمجتمعهم الذى يضمن لهم حريتهم وكرامتهم ، ويحسّون أنهم يمتلكون دولتهم وأنهم شركاء متساوون فى المواطنة . مجتمع بهذا يجعل الفرد مستعدا للتضحية بنفسه دفاعا عنه . وليس كما يحدث فى دول الاستبداد حين يضحى الأفراد دفاعا عن وطن لا يملكونه وعن مستبد يقهرهم وعن دولة يملكها مستبد خائن لشعبه ووطنه وقومه .

 بين سلطة ( التقوى ) فى التشريع الاسلامى وسلطة القانون فى المجتمع الغربى

1 ـ  لا بد من وجود سلطة من الناس تقوم بالضبط والاثبات وبالحكم على الجانى وتنفيذ العقاب، ولكن إنفرادها فى ظلّ غيبة الناس يؤدى الى فسادها ، فالمجتمع الآمر بالمعروف والناهى عن المنكر هو ضمان أمن يحفظ الحقوق ويقى الناس من تغول السلطة و يجعلها تحت رقابة الناس وفى خدمتهم وفى خدمة المعروف المتعارف على أنه عدل وحق وخير.  السلطة الحقيقية هنا ليست لحاكم مستبد وليست حتى لحاكم غير مستبد ، بل ليست مطلقة للمجتمع . إذ يشاركها سلطة أعلى هى سلطة ( التقوى ) أى الضمير الفردى اليقظ  لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.  وهذه التقوى تسطع فى السلوك فى التعامل مع الناس وقوفا الى جانب الحق ودفاعا عن المظلوم وإيثارا وإحسانا وكرما ومروءة وحلما وصفحا ورحمة وغفرانا .

2 ـ فى الديمقراطية الغربية النيابية توجد سلطة القانون والضبطية القضائية ، ويكون نموذج العدل فيها أن المتهم برىء حتى تثبت إدانته . فارق هائل بين هذا المبدأ الغربى فى الديمقراطية الغربية وبين نظام حكم الاستبداد الشرقى حيث يكون الفرد المستبد فوق القانون وحيث يكون الفرد العادى المقهور متهما مهما تثبت براءته . ومع ذلك فإن روعة النظام الغربى فى (إن المتهم برىء حتى تثبت إدانته ) ليست بشىء بالمقارنة بنظيرها فى التشريع الاسلامى . فالسلطة الأولى والكبرى ليست للقانون ـ مع الاحترام للقانون ـ ولكنها فى التشريع الاسلامى للضمير الفردى أو التقوى ، وهنا يبادر المتهم ـ بل قبل أن يكون متهما بالاعتراف والندم . ليست الضبطية القضائية هى المحكّ كما فى المجتمع الغربى ، وحيث يتحايل المحامون بإجراءات شكلية وحيل قانونية تجعل أعتى المجرمين بريئا طاهر الذيل . الوضع هنا مختلف لأن المؤمن هو الذى يراقبه ضميره ، ويجعله يخشى الله جل وعلا قبل أن يخشى القانون ، ويجعله يؤدى الفرض بدافع ذاتى ، ويجعله يتورع عن الخطأ والخطيئة وهو فى خلوته لا يراه القائمون على الضبطية القانونية القضائية ، ولكنه يعلم أن الله جل وعلا يراه وشاهد عليه .(  يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ ) ( النساء 108 ) (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ) ( القلم 14 ) المؤمن يعلم أن القانون الالهى حاسم وجازم وأن من يعمل سوءا يجز به: (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ) ( النساء 123) ، وأن الله جل وعلا يعذّب فى الدنيا قبل الآخرة :( فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) (وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ )(التوبة55 ، 85 ) (لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ) ( الرعد 34)  (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ( السجدة 21 ). لاتستطيع أن تهرب من الله جل وعلا فى الدنيا أو فى الآخرة . لا مهرب ولا مفر من السلطة الالهية بينما هناك ألف الف مهرب من السلطة البشرية . ومن هنا يحتاج المجتمع الى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر حفظا للفرد والمجتمع . وهناك آلاف الآيات القرآنية فى الوعظ والتذكير .

3 ـ والملاحظ فى المجتمع الغربى والأمريكى تغليب جانب الحرية على جانب المسئولية فى تربية الأطفال ، لذا يعانى المجتمع الغربى من انفلات الشباب وطيشهم فى مرحلة المراهقة . وهو طيش يعتبر النصح تعديا وتدخلا فى حرية الشاب ، إذ يعتبر الشاب من الاهانة ان تنصحه بما يفعل . ويؤمن أن من حقه أن يختار حياته كما يحلو له ، وأن يتصرف فى جسده كما يريد . وكل هذا حقيقى ولكن تظل الصورة غير مكتملة بغياب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لتكون فرضا يسرى على الجميع ويعمل به الجميع ويتقبله الجميع ولا يعتبر تدخلا فى الحرية الشخصية ، بل هو تذكير بالمعادل الموضوعى للحرية وهو المسئولية. ومن أدبيات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر التذكير بالمسئولية والتواصى بها .

4 ـ وللإنصاف نذكر ـ كما نلمس هنا فى المجتمع الأمريكى ـ حرص المدرسة ومؤسسات الرعاية الاجتماعية على النصيحة والتقويم ، ولا ينافسها فى ذلك إلا الدراما الأمريكية والاعلام الامريكى وما تظهره من عورات المجتمع وتناقشها دون خجل أو حرج . ولكنه جهد لا يكفى فى تعويض الغياب لسلطة المجتمع فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، خصوصا مع الغياب الواضح للكنيسة ورجال الدين فى امريكا فى هذا الشأن . بل إن بعض الكنائس تعانى من فضائح القائمين عليها ووقوعهم فى الفواحش مع الأطفال والنساء بما يجعلهم أحوج الناس للوعظ والتقويم .

أخيرا

1 ـ الحرية الدينية المطلقة هى فى صالح الحق ، لأن الباطل لا يصمد أمام نقاش حرّ . الأديان الأرضية لكى تتسلط على مجتمع ما لا بد لها من نظام حكم غاشم يرغم الناس على قبولها ويمنعهم من مناقشتها .

2 ـ الحرية الدينية التى تساوى بين ( الأمر بالعروف والنهى عن المنكر ) و ( الأمر بالمنكر والنهى عن المعروف ) ليست عائقا فى الرقى الأخلاقى والتمسك بالقيم العليا المتعارف عليها. لأن هذه الحرية هى التى ستجعل دعاة المنكر يخجلون من أنفسهم ، وستشجع الساكتين على التصدى لهم بالحجة والنقاش ـ وبالتالى سيخسرون ..ويسمو المجتمع ويفلح فقد تم دحض دعاوى السوء والتردى الأخلاقى والظلم ، واستراح الناس الى العدل والأمن واحترام الحرية باعتبارها تتطلب المسئولية ولا تصادرها. بهذا يتحول المجتمع كله الى أمة تدعو الى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ) ( آل عمران 104 ) ، وعندها تكون هذه الأمة مستحقة لوسام يقول أنها خير أمّة أخرجت للناس : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) ( آل عمران 110 ).

3 ـ من التزوير والكذب على الله جل وعلا أن يقال أن الآية الكريمة السابقة تنطبق على مسلمى اليوم .!! لذا وجب التنويه والتحذير

 

 

الباب الرابع  : دور الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى قوة الدولة الاسلامية 

 الفصل الثالث :  التقوى أساس القيام بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر

أهمية التقوى كمقصد تشريعى مهيمن على الأوامر التشريعية 

1 ـ إنّ كل العبادات فى الاسلام ـ سواء كانت فردية أو جماعية ـ إنّما هى مجرد وسائل للتقوى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ  ) ( البقرة 21 ) والتقوى هى السمو بالنفس وتزكيتها سواء فى التعامل مع الله جل وعلا بتقديسه وحده وعبادته وحده واخلاص الدين له وحده ، وفى التعامل مع الناس بالتى هى أحسن وبالتفاعل معهم بالخير والتواصى بالحق والصبر والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

 2 ـ حين يقول جل وعلا فى تشريع الصوم :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة 183)، فهنا أمر تشريعى بالصوم ، أما المقصد التشريعى فهو التقوى . وبعدها بعدة آيات يقول جل وعلا ردا على سؤال : (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ( البقرة 189) فهنا تأكيد على أن التقوى مقصد تشريعى . وفى تشريع القتال الدفاعى يقول جل وعلا :( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) ( البقرة  194 )،فالله جلّ وعلا مع المتقين وهو جل وعلا لا يحب المعتدين ((وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )( البقرة 190 ) فالتقوى مقصد تشريعى يهيمن على الأمر بالقتال ويحصره فى الدفاع فقط ، ويوقف القتال الدفاعى حين ينتهى الهجوم (فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ )( البقرة 192ـ ). وفى فريضة الحج  يتكرر التأكيد على أن الحج مناسبة للتزود بالتقوى ، يقول جلّ وعلا :( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ) (البقرة 197 )، فالمقصد التشريعى وهو التقوى أساس ومهيمن على الأمر التشريعى بالحج .  

بدون التقوى يكون الفساد فى تطبيق أوامر الشرع

1 ـ هذه أمثلة متتابعة من سورة البقرة فى سياق بعض تشريعات الاسلام يتضح منها أن الأمر التشريعى يخضع لمقصد تشريعى أعظم ، وتنفيذ الأمر التشريعى بمعزل عن المقصد التشريعى يعنى الفساد ،  فلو صام المؤمن دون تقوى أصبح الصوم مجرد جوع وعطش ،بل أصبح كما هو الحال فى عصرنا وسيلة لتبرير سوق الخلق والغضب بلا داع ، والسهر بالليل لملء البطون والتسلية والمجون ثم نوم بالنهار لتمضية الصيام كيفما كان . وفى الحج بلا تقوى يصبح حامل لقب ( عمك الحاج ) يشجع على الرياء وووسيلة للنصب والخداع ، ولا ريب فى ذلك فقد رجع من الحج عريانا كيوم ولدته أمّه .!. والقتال ( وقاتلوا ) فقط بدون تقوى يعنى الهجوم بالاعتداء ليس فى سبيل الله جل وعلا ولكن فى سبيل المال والثروة والجاه والغلبة والاحتلال والسيطرة ، أى فى سبيل الشيطان كما كان فيما يسمى بالفتوحات الاسلامية ، والاسلام منها برىء .!

2 ـ إذن لدينا مشكلة التطبيق فى أوامر الشرع هنا ، وهى أن الأوامر يتم التركيز عليها وتطبيقها بمعزل عن الغاية منها وهى المقصد التشريعى المهيمن عليها والحاكم فيها . وبالتالى يتحول التطبيق الى عصيان وحرب لله جل وعلا لأنه يتم تطبيق ( شرع الله ) بما يخالف شرع الله ، ومن ثمّ يتوجّه الاتهام لرب العزة وللإسلام بأنه دين الارهاب والتزمت والتخلف .

3 ـ تتطور الخطورة فى أن غياب التقوى لا يعنى فقط  سوء التطبيق وتحويل العبادات الى رياء و فسوق وعصيان ، بل هناك ما هو أفظع ، وهو تبرير هذا بأحاديث زائفة توجب وتفرض الحرام وتستحل الحرمات وتنشىء أديانا أرضية ، وهذا ما حدث فى تاريخ المسلمين . فقد بدأ بالصحابة سوء التطبيق مبكرا بعد موت خاتم المرسلين فى تشريع القتال الذى يقول فيه رب العزّة : (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )( البقرة 190 )، جاء سوء التطبيق هنا بالتركيز على الأمر (وَقَاتِلُواْ ) ونسوا القاعدة التشريعية المذكورة فى صلب الآية بعد الأمر مباشرة : ( فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ )، ونسوا المقصد التشريعى وهو التقوى الذى جاء ضمنيا فى قوله جلّ وعلا:(إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) وجاء صريحا فى الآية الأخرى:(الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(البقرة :194).والتقوى  مقصد عام فى كل التشريعات ومنها القتال فى سبيل الله جلّ وعلا ، ولكن للقتال فى سبيل الله مقصد خاص به وهو منع الاضطهاد الدينى أو الفتنة : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ )( البقرة 193 ). وهذا أيضا تم تجاهله . وكان لا بد من ملء الفراغ بعد تضييع شرع الله جل وعلا فى القتال الدفاعى ، ولا بد من ملء الفراغ بما يسوّغ الاعتداء ويبيح الاكراه فى الدين ، وهنا يتولد الدين الأرضى بالافتراء على الله جل وعلا وصياغة الوحى الشيطانى، ومنه هذا الحديث الذى أنجبه وافتراه البخارى القائل : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ...).

أهمية التقوى لسلامة الفرد والمجتمع

وتشريعات الاسلام ـ التى تهيمن عليها التقوى ـ تحتاج فى التطبيق لمجتمع يعرف التقوى فيتفاعل بالخير على مستوى الفرد والمجموع . وتشريعات الاسلام ـ التى تهيمن عليها التقوى ـ تؤكد هذا التفاعل بين الفرد ومجتمعه . ولنتدبر قوله جل وعلا :(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً )( النساء 58 )، فنلاحظ  الآتى :

 1ـ :إنّ الله جل وعلا يخاطب المؤمنين مباشرة وبلا واسطة موجها لهم الأمر المباشر فردا فردا.  وهذا يعنى أن المفترض أن يتقوا الله جلّ وعلا ، وأن ينفذوا أوامره باخلاص ودقّة .

 2 : ـ  مجىء الأوامر بتأدية الأمانات الى أهلها والحكم القضائى بين الناس بالعدل قد يعنى وجود دولة لها نظامها القضائى فى الحكم بين الناس، وقد يعنى وجود مجتمع شبه دولة كالقبيلة والجماعة المنظمة . وفى كل الأحوال فإن النظام القضائى فى الفصل فى النزاعات بين  الأفراد والجماعات هو من أوائل مهام نظام الحكم حتى فى دولة الاستبداد الفردى ، وحتى فى عدم وجود دولة بالمفهوم الحديث .

 3  ـ  والخطاب هنا أيضا ليس فقط لنظام الحكم والسلطة القضائية ولكن أيضا للمجتمع وتشكيلاته الشعبية وأفراده بتأدية الأمانات  ـ أى الحقوق ـ الى أهلها . وهنا التفاعل بين الفرد والمجتمع .

 4 : وهذا التطبيق للأوامر التشريعية فى تأدية الأمانات ـ اى الحقوق ـ يخضع للمقصد وهو التقوى . ولم يأت لفظ التقوى صريحا، ولكن جاء معناه بالتذكير بأن الله جل وعلا سميع وبصير ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ) ، أى على كل شىء شهيد ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور : (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) ( غافر19 )، ويعلم السّر وأخفى :(وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى )( طه 7 ) . وبالتالى فإذا كنتم تحتالون على القانون وتستخفون من الناس فلا يمكنكم الهرب من رب الناس،وهو جل وعلا معكم أينما كنتم ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( المجادلة 7 )

 5 ـ وهذا التشريع وتطبيقه بتقوى الله جل وعلا وبأفضل ما يكون هو نعم التشريع ونعم التطبيق ، وهو نعم الوعظ الالهى : (إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ). أى هو الخير كل الخير للفرد وللمجتمع . وتخيل مجتمعا يضمن الحقوق لأصحابها ويقيم العدل بين أفراده بأقصى طاقة بشرية ، هنا يتحقق حلم الفلاسفة فى اليوتوبيا ، وينام جون ملتون مؤلف قصيدة ( الفردوس المفقود ) فى قبره قرير العين . 

الأغلبية الصامتة ظالمة بعيدة عن التقوى الاسلامية

1 ـ هذا المجتمع المتقى الناشط بالحق والناطق بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا بد أن يتكون من أفراد قاموا بتغير ما بأنفسهم من سلبية وخنوع ومن أنانية وشحّ الى ( تقوى ) وهى (أم الفضائل ).

2 ـ بدون هذه التقوى يكون المجتمع فاسدا مؤهلا للهلاك ، ويعايش الظلم ليل نهار . ويتنوع الظالمون فيه الى أقلية تحتكر الثروة والسلطة ، وأغلبية مقهورة مغلوبة على أمرها ساكنة ساكتة ، ولكنها ظالمة لنفسها أكثر من ظلم المستبد وأعوانه لها . السبب الحقيقى فى الظلم هو وجود قوم لديهم الاستعداد للرضى بالظلم والتعود عليه . إذا كان هناك من يركع يهيىء ظهره لمن يركب فلا تلومنّ الراكب ، بل اللوم للمركوب أولا إذ لولا أنه جعل ظهره ذلولا للراكبين فلن يركبه أحد . لو وقف شامخا برأسه مثل الآخر فلن يركبه الآخر . هو الذى بدأ يطأطىء رأسه ثم يركع ليدعو الآخر لركوبه .

3 ـ لا يمكن لهذا أن يكون متقيا لله جلّ وعلا ، لأسباب كثيرة منها : لأن الركوع والسجود والخضوع لا يكون إلا للخالق جل وعلا وهم يخضعون للبشر الحاكم أكثر من خضوعهم لله جل وعلا ، ويخشونه ويخافونه أكثر من خيفتهم وخشيتهم من الله جلّ وعلا ، ولأن المستبد سواء كان مستبدا عاديا أم مستبدا مستغلا بالدين لا بد أن يزعم الالوهية لنفسه صراحة أو ضمنا ويجعل تلك الأغلبية تقدسه . وفى أغلب الأحوال يعتمد المستبد على دين أرضى يفرضه على الناس ويجعل لرجاله السيطرة ، ويزعمون لأنفسهم سلطة دينية فى التحكم فى الناس ، وبنفوذهم  الدينى يتأكّد نفوذ المستبد السياسى . وبالتالى فإن هذه الأغلبية الساكتة عن الظلم والمتعايشة معه تظلم رب العزة حين تجعل من المستبد وأعوانه شركاء لله جلّ وعلا فى الالوهية .

4 ـ بالاضافة الى هذا الظلم العقيدى الذى يجعلها تتقى الحاكم ولا تتقى الله تراها بخضوعها هى المشجّع الأكبر للمستبد الحالى ، فإذا ثار عليه منافس له وغلبه واغتصب منه العرش تجد ظهر تلك الأغلبية عرشا جاهزا للمستبد الجديد . ولا يكون سهلا ذلك الانتقال من نظام حكم مسنبد لآخر مستبد ، بل يتم هذا بحروب ومذابح وسلب ونهب فوق ظهر المركوب ، أى تدفع الأغلبية فاتورة الصراع على السلطة من دمائها وأموالها وحياتها . وهى بذلك ما كسبت الدنيا وما ربحت الآخرة .

5 ـ والله جلّ وعلا أوضح فى القرآن أن الظالمين فى السلوك ليسوا فقط  من يرتكب الظلم والاعتداء ، بل أيضا ذلك المستضعف الذى يرضى بالظلم ويعايشه الى أن يموت عليه . عندما يموت تبشره ملائكة الموت بجهنم :( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا )(النساء 97 : 99 ) . وهنا نلاحظ  انه لم يرد وصفهم بالايمان بل بوصفين : الاستضعاف وانهم ظالمو أنفسهم حين عاشوا فى قهر الظالم لهم ولم يهاجروا فى أرض الله الواسعة . وأنه ليس عذرا لهم هذا الضعف والتكاسل عن الهجرة إلّا إذا كانوا فعلا غير قادرين عليها . ولقد كان الاضطهاد الدينى والسياسى والظلم ـ ولا يزال ـ من أهم أسباب الهجرة .

6 ـ  ومن عجب أن تجد الأغلبية الصامتة عن الحق تخرج عن صمتها وتصرخ أحيانا بالهتاف والتأييد للظلم ، تهتف للمستبد الظالم : ( بالروح والدم نفديك يا عبّاس ) فإذا رحل عباس وجاء عبّاس آخر هتفت له الغلبية ( الصامتة ) بنفس الهتاف لعباس . أى هى أغلبية صامتة عن إنصاف نفسها ، وهى أغلبية صارخة هاتفة زاعقة فى تمجيد المستبد الذى يقهرها ويعذبها ويستنزف دماءها ويقتل أبناءها . لا وجود للمستبد بدون رعيته كما لا وجود للراكب بدون دابته . كلاهما يوالى الآخر . يقول جل وعلا بايجاز وإعجاز فى الظلم السلوكى الذى يكسبونه بأعمالهم : ( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ )( الانعام129 ).

7 ـ والله جل وعلا يقول : ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ )( النحل 61 ). وهذا يعنى أن كل الناس ظالمون مستحقون للهلاك لولا رحمة الله جل وعلا . فكيف يكون البشر جميعا ظالمين ؟ الاجابة هى أنهم نوعان : نوع يقوم بالظلم وآخر يتحمل الظلم . أو نوع يظلم غيره ، ونوع يظلم نفسه بالخنوع والرضى بالظلم . وبالنوعين معا يكون البشر كلهم ظالمين مستحقين للمؤاخذة والهلاك العام والتام لولا رحمة الله جلّ وعلا.

أخيرا

إن عاقبة المجتمع الظالم هى الهلاك إذا استمر على ظلمه وإن لم ينقذ نفسه بفضيلة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

 

 

الباب الرابع  : دور الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى قوة الدولة الاسلامية 

الفصل الرابع    التقوى أساس تنفيذ أوامر الشرع فى المجتمع المتفاعل بالخير

مقدمة

حتى لا يحل الهلاك بالمجتمع لا بد من تفعيل واصلاح الأغلبية الصامتة لأنها أغلبية ظالمة لنفسها ولا تتقى الله عزّ وجل ّ واستمرار وجودها نذير شؤم على المجتمع . وقلنا إن التقوى كمقصد للتشريع الاسلامى هى التى تهيمن على الأوامر التشريعية ، وبها يمكن تنشيط المجتمع ليكون آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ، وإلّا فالهلاك قادم . نتوقف هنا مع أثر التقوى فى تطبيق الأوامر التشريعية التفصيلية، بضرب بعض الأمثلة فى الحقوق وفى العقوبات. وجود التقوى يضمن تنفيذ تلك الأوامر ها على أتمّ وجه ، وغيابها يضيع تلك التشريعات و يغيّبها ، بل أحيانا ينشىء الدين الأرضى بدائل لها ظالمة بالتزييف والتلفيق. هو موضوع طويل نقتصر منه على بعض الأمثلة، وندعو الباحثين المسلمين لاستكماله .

أولا : فى حقوق الميراث

المفهوم أن الميراث شأن خاص بالورثة وحقوقهم في التركة التي لا يشاركهم فيها غيرهم ، إلا إن التدبر القرآنى يؤكد الصلة العضوية بين الأسرة والمجتمع فى تنفيذ هذا التشريع إطار التقوى :ـ     

1ـ فالمجتمع من خلال السلطة القضائية هو الذي يتولى رعاية اليتيم الوارث ، وهو الذي يعين وصيا علي حراسة أمواله واستثمارها من أجله ويحاسب ذلك الوصي ، والمجتمع هو الذي يختبر كفاءة اليتيم إذا بلغ الرشد فإذا تحقق من رشده وكفاءته أعطاه تركته وإذا ظهر أنه سفيه استمر في الحجر عليه واستثمار المال مع إعطائه حقوقه في ريع التركة في جميع احتياجاته.( وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ) ( النساء 5 : 6 )

 2ـ والقرآن يعطي اليتيم غير الوارث حقا في تركة الآخرين لمجرد حضوره تقسيم التركة ، ويشاركه في ذلك الحق عند الحضور المسكين الذي لا يجد القوت والأقارب من غير الورثة ، أي أن هناك جانبا من التركة يذهب لغير الورثة إذا حضروا قسمة التركة يقول تعالي : ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا )  (النساء 8). أي يأخذون المال ويتمتعون أيضا بالمعاملة الطيبة وقول المعروف . والمعني المقصود أن يكون التسامح والإيثار هو أساس التعامل إلي درجة الإحسان من التركة علي غير المستحقين إذا حضروا القسمة.

 3ـ وقبل توزيع التركة لابد من سداد الديون وتنفيذ الوصية بلا ضرر لأحد ، وبذلك تكرر التأكيد فى القرآن : (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ) (مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ )( مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) ( النساء 11 ).  ثم إنه من غير المقبول أن يتقاسم الورثة التركة دون أن يسددوا ما عليها من ديون ولذلك أوجب القرآن سداد الديون قبل توزيع التركة.

 4 وهناك أثر اجتماعي واضح في الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا علي المتقين، والوصية للوالدين وهما من مستحقي الميراث أيضا فيه دلالة واضحة علي رعايتهما ، إذ يعني ذلك بلوغهما أو أحدهما أرذل العمر ولذا يستحقان مع الميراث وصية خاصة بهما وهي في النهاية ستعود سريعا بعد موتهما  إلي نفس الورثة ، ولكنهما يتمتعان بالوصية والميراث فيما تبقي لهما من عمر . وهنا يقدم القرآن حلا تشريعيا مهما لمشكلة المسنين وكبار السن . وحين يكون معهم المال سيجدون الكثيرين ممن يقدمون لهم الخدمة والرعاية أملا في الاستفادة الآجلة والعاجلة منهم ..

5 : والمجتمع الإسلامي يقوم علي العدل .وتفصيلات تشريع الميراث يتضح منها ميزان العدل في التوزيع والقسمة..فالقاعدة العامة في القسمة أن للذكر مثل حظ الأنثيين وينطبق هذا علي الأبناء ، فالابن يرث ضعف ميراث البنت ، وينطبق علي الأخوة في حالة عدم وجود الأبناء ، فالأخ له ضعف نصيب أخته ، كما أن للزوج ضعف الزوجة . ولكن هذه القاعدة لا تسري علي الوالدين ، فلكل واحد منهما الثلث إذا لم يكن للميت أولاد وأخوة . وكلاهما له السدس إذا كان له أولاد أو أخوة. وتلك ميزة تضاف إلي مميزات الوالدين في  الميراث والوصية ، حتي لا يقهرهما أحد في أرذل العمر وحتى يتمتعا بالرعاية في الشيخوخة.

والمعني المقصود أن الرجل ـ  بسبب مسئولياته نحو المرأة وطبقا للعدل  ـ يحوز علي ضعف نصيب المرأة إذا كان ابنا أو زوجا أو أخا ولكن يتساوى في نهاية العمر مع المرأة حيث أن المرأة قد بذلت عمرها في تربية ابنها ورعايته مع زوجها وبذلك تستحق المساواة بالرجل .

إن الرجل في بداية حياته هو الذي يدفع الصداق ليتزوج وهو الذي يعمل ويتعب لينفق عي زوجته ولذلك فمن حقه أن يحصل علي ضعف المرأة إذا كان ابنا أو أخا أو زوجا ..والمرأة لها نصف الرجل بالإضافة إلي التزامه بالإنفاق عليها ورعايتها ، وهكذا يتحقق العدل فيما فرضه الله تعالي لها في الميراث . ولكن المرأة والرجل يتساويان في نهاية العمر في حقوقهما في ميراث الأبناء إذا لم تعد علي الرجل (الأب وكذلك الجد ) التزامات الرعاية للأبناء ، بل العكس أصبحت رعايتهما واجبة على الأبناء .

يتعزّز هذا بالأمر بالإحسان للوالدين الذى يأتي تاليا للأمر بعبادة الله وحده وعدم الإشراك به :( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا )(الإسراء 23، 24 ). ولنتأمّل موقع ومغزى ومعنى كلمة (ِ عِندَكَ ) فى قوله جلّ وعلا (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا )، فهو خطاب للإبن والإبنة عن الأب والأم أو أحدهما عند بلوغ الشيخوخة فيضطر لأن يكون ( عندك ) أيها الابن وايتها البنت . أى فى رعايتك . من قبل كان الأب والأم فى عنفوانهما وكانا أرباب البيت والمسئولين عليه ، وكنت أنت أيها الابن وأيتها البنت ( عندهما ) فى الصغر تعتمدان عليهما فى الأكل والشرب واللبس والنظافة والنوم والرعاية . الآن إنقلب الحال ووصل الأب والأم الى أرذل العمر ( بما فى كلمة ( أرذل ) من معان )، يعانيان من الضعف والمرض  ، وهى مرحلة من مراحل العمر يمر بها البشر : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا )( الحج 5 )(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ) ( الروم 54 )( وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ ) ( يس 68). يعود الانسان فى شيخوخته الى نوع آخر من الطفولة، طفولة مقترنة بالضعف والمرض والعجز والنسيان والشعور بالوحدة والعزلة مع الحاجة الشديدة للغير. تتعقد المأساة فى أن الطفولة الأولى تنعم بحب الناس ورعايتهم ، فالطفل يحتفل به الجميع بدءا من الوالدين الى الأقارب والغرباء . أما الشيخوخة فإن الابن الذى كان طفلا ولقى العناية من الأبوين سرعان ما يضيق بالأبوين عند سيخوختهما وينظر اليهما كعبء ثقيل ومصدر متاعب له مع زوجته .

من هنا نفهم لماذا أوصى الله جل وعلا بالوالدين عند الكبر ، ولم يوص بالأطفال عند الصغر ، فالغريزة قوية فى رعاية الطفل لا تحتاج الى توصية ، ولكن ليس فى الغريزة إهتمام بالوالدين فى أرذل العمر . ونفهم المبالغة فى رعاية الوالدين العجوزين وعدم الضيق بهما  مهما بلغ الضيق منهما . وليس هناك أروع من قوله جل وعلا فى وصف حالهما وضرورة الرفق بهما : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ). فعندما ربياك صغيرا لم يقولا لك (أف ) ولم يتبرما بصراخك ولم يدخرا وسعا فى تدليلك ..الله جل وعلا أمر المؤمن التقى بحفظ حقوق الوالدين فى الميراث وفى الوصية وفى حسن المعاملة لهما بأقصى درجة ممكنة . والمجتمع شاهد على التنفيذ ، والمجتمع المسلم يقوم على الأسرة التى تشمل الوالدين والجد والجدة والأبناء والأحفاد ، ويحفظ حقوق الجميع.

6 : ولقد تعود البشر علي هضم حقوق اليتيم وأنصفه تشريع الميراث . كما أن المرأة كانت ولا تزال مهضومة الحق ولكن صان القرآن حقوقها ويكفي أن أول آية في تفصيلات الميراث تقول :( لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا )( النساء 7 ). وفي نهاية تفصيلات الميراث يحذر رب العزة من تعدي حدوده التشريعية في الميراث ويعتبرها حدود الله ،  وينذر من يتعدى حدود الله فى الميراث بالخلود فى النار حنى لو كان شيخا للأزهر: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) (النساء 13، 14 ).

ثانيا : أدعو الباحثين المسلمين المستنيرين لمتابعة هذا البحث فى وجوب الوصية عند الموت للوارث وغيره ووجوب الوصية للوالدين خلافا للتشريع السّنى ، ودور المجتمع فى الاشراف على تنفيذ الوصية دون تبديل ودوره فى تعديلها بالمعروف لو كان فيها إجحاف وظلم ، بما يعنى حضور المجتمع الى فراش المريض عند الاحتضار وشهادته على الوصية ، فالمجتمع هنا حاضر حتى وقت وفاة أحد أفراده . ليس القصد المجتمع كله ، ولكن من يمثلهم ، ونفهم هذا من قوله جل وعلا : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة 180 : 182 ).

ثم دوعوة الباحثين لمتابعة البحث فى موضوعات الأحوال الشخصية ودور المجتمع فى حلّ الخلافات الشخصية بين الزوجين بالتدبر فى هذه الآيات الكريمة :(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً ) ( النساء 35 )وفى الطلاق فى وجوب الشهادة عليه أى إشراك المجتمع عليه حفظا لحقوق المرأة ـ خلافا للتشريع السّنى ـ فى قوله جلّ وعلا : ( يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً )( الطلاق 1 : 2 )، وفى حقوق المطلقة حيث يقوم المجتمع بعقد ( مؤتمر) يأتمر فيه المجتمعون فى صيانة حقوق المطلقة فى السكن والنفقة وفى حالة حملها ورضاعة الوليد ( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ) ( الطلاق 6 ).

 ثالثا :  فى عقوبات الزنا و إتيان الفواحش

1 : يقول جلّ وعلا :( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ) ( النساء 15 ) ، الشهادة هنا عن وصفهن باللاتى يأتين بالفاحشة . أى (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ) الاستشهاد هنا يعنى أن تطلب السلطة من نشطاء متفاعلين مع مجتمعهم فى القرية أو الحى أو المدينة لكى يشهد أربعة منهم بأنها تأتى الفاحشة (فَإِنْ شَهِدُوا ) على هذا ( فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ). أى يتم حبسها فى بيت تتوفر فيه كل الرعاية والارشاد والتعليم ، وتظل هكذا الى أن تتتوب أو تموت ، وبالتالى فلا بد لها أن تتوب وتخرج ، وبتوبتها يمكن لها الزواج .

وهنا فارق بين هذه الشهادة وشهادة الزنا المثبتة ( للزانية والزانى)، والتى يصفها رب العزة بأنها (مبينة ) فى قوله جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) ( النساء 19 )( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ) ( الاحزاب 30 )( يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) ( الطلاق 1 ). الفاحشة المبينة يعنى المثبتة بالوصف العيانى والتفصيلى من الشهود بأنهم رأوا الاثنين ـ الذكر والانثى ـ يفعلان كذا وكذا بالتفصيل . وهنا تكون العقوبة إيجابية .أما هنا فنحن بصدد إنثى فقط محترفة ومشهورة ومعروفة ومقصودة للزنا ، ولكن مع عدم الاثبات ، أو وجود أدلة ثبوتية لا تكفى ، أو أقل من أربعة أشخاص ولكن معهم كثيرون على استعداد للشهادة بأنها معروفة باتيان الفاحشة أو محترفة ـ كل هذا يخضع لنقدير الجهات المختصة فى إيقاع العقاب السلبى بعزلها الى أن تتوب أو تموت ، وبالتالى فالمنتظر أن تعلن توبتها . دور المجتمع هنا هو الرقابة الأخلاقية بالتواصى بالحق والخير ووعظ المنحرفين ، واصلاح المتهمة بالفاحشة حتى تتوب وتتزوج، وتحمى أخرى من الاتهام بالزنا إلا بالاثبات . بدون مجتمع  نابض بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا يمكن تطبيق هذا التشريع . بوجود مجتمع فاسد بأغلبية صامتة ساكنة ساكتة ومقهورة ، تتحكم فيه أقلية مستبدة بالحكم متحكمة فى الثروة ، كالسعودية ـ فإن المعروف يصبح منكرا والمنكر يصبح معروفا، ويمكن استخدام هذا التشريع وغيره للفتك بالمعارضين معنويا وماديا.

 2 : ويقول جلّ وعلا :(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ الزَّانِي لا يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )(النور 2 : 5). هنا تشريع يتحرك وسط مجتمع متفاعل بالعدل والحق والخير . فالخطاب هنا للمجتمع وليس لحاكم فرد . هذا المجتمع المتفاعل النشط هو الذى يقع عليه عبء الاثبات المبيّن بأن هذه زانية وأن هذا زان  (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي )، إن إعترفا إختيارا فهذا يعنى التوبة ، والتوبة الظاهرية تسقط العقوبة ، والمجتمع هو الذى يراقب هذه التوبة ،فإن ثبت بالدليل وقوع الزنا مجددا وجبت العقوبة واستحق الجانى لقب الزانى واستحقت الجانية وصف الزانية . فإن لم تكن هناك أدلة كافية وجب العقاب السلبة بامساكهن فى البيوت . وهنا العقوبة لأنثى وليس الذكر ، لأن الاثبات الفعلى يستلزم وجود الذكر فى حالة وقاع فعلى مع الانثى .والعادة ان التى تحترف الفاحشة تمارس الزنا بدون تمييز مع كل من يأتى اليها ، اى مع رجال غير معروفين يتسربون اليها . وهنا الفارق بين الزنا المثبت فى حالة محددة بذكر وأنثى واللاتى يأتين الفاحشة مع من يعرفن ومن لا يعرفن من الرجال. طبقا لمصطلحات القانون هو ( زنا بلا تمييز ) وطبقا لمصطلحات القرآن فهناك فرق بين التى يزنى بها خليلها والتى تزنى مع كل من يأتيها ، يقول جل وعلا (  مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ )(النساء 25 ). (المحصنة ) الصالحة للزواج هى العفيفة الشريفة التى لا تقع فى الزنا. ( المسافحة ) هى التى تزنى بلا تمييز مع كل من يأتيها. ( متخذات أخدان ) يعنى العشيقة التى لا تزنى إلا بشخص واحد .  المجتمع المتفاعل النشط هو المطالب بالاثبات وهو القادر عليه بالعدل والحق وبلا تلفيق أو ظلم. وهو المطالب بتوقيع العقوبة السلبية باستشهاد أربعة شهود ،والايجابية بالجلد  أيضا بأربعة شهود مع اختلاف صيغة الشهادة . وهذا  المجتمع هو المطالب بحضور بعض المواطنين ليشهدوا العقوبة الايجابية بالجلد للزانى والزانية:(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ). ثم هذا المجتمع هو المكلف بتطبيق الآية التالية فى تحريم الزواج من زانية أو زان : (الزَّانِي لا يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) الزانية هنا تعنى الرافضة للتوبة المصصمة على الزنا و( الزانى ) هو الرافض للتوبة المصمم على الزنا . والمشرك  هنا بمعنى الشرك السلوكى ، أى هو الذى يتعدّى على الناس بسلاحه يستحلّ الدماء والأعراض والأموال كما هو حال الارهابيين فى عصرنا. والاعتداء بهذا الشكل الذى يبيح انتهاك الأعراض وسلب المال وقتل النفوس هو قريب من الزناة ، وبالتالى فهم أولياء لبعضهم البعض ، ولا محلّ لهم فى الزواج الاسلامى . ولكى تتزوج الزانية إسلاميا فلا بد أن تزول عنها صفة ( الزانية )، وكذا الزانى ، ويكتسب كلاهما وصفا جديدا هو التائب والتائبة : (وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) ( الفرقان 68 : 70 ) أى لا بد من التوبة ، ولا بد أن تمكث التائبة حتى براءة رحمها لتصلح للزواج ، مع ملاحظة أن الله جل وعلا لا يذكر لفظ ( الزواج ) ولكن ( النكاح ) أى عقد الزواج ، وبالتالى فإن عقد النكاح محرم إبتداءا للزانية أو الزانى. وبالتالى فليس لها سوى خيارين : أما التوبة و الزواج ، وإما أن تظل فى متاهة العقوبات الايجابية بالجلد أو بالحبس . الذى يقوم على منع زواج الزاتنية والزانى والذى يقوم على تحديد التائبة أو المصرّة على الزنا هو ذلك المجتمع الناشط المتفاعل فى الخير.

رابعا : أدعو الباحثين المسلمين المستنيرين لمتابعة بحث هذا الموضوع فى العقوبات ، مثل عقوبة القتل بالقصاص وحق ولى الدم فى القصاص بيده وسلطة المجتمع عليه حتى لا يسرف فى القتل  (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا   ) ( الاسراء )وحقه فى أخذ الدية ودور المجتمع فى تقديرها وتنظيم تسليمها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ  ) ( البقرة 178 : 179) وفى عقوبة السرقة فى دور المجتمع فى إقرار العدل أولا وكفاية ورعاية المحتاج وإعطاء ( المستحقين حقوقهم ) فى الصدقة والفىء وغيرها وكفالة كل المحتاجين ، وفى تحديد معنى السرقة المعاقب عليها ، وتطبيق قطع اليد على السارق بعدها مهما بلغ جاهه حيث لا وجود لحاكم بالطريقة المعروفة ، ثم سقوط العقوبة عند التوبة ودور المجتمع فى جدية التوبة : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ   ) ( المائدة 38 : 39 ).

ونفس الحال فى مواجهة الارهابيين الذين يستحلون قتل الأبرياء وسلب أموالهم ، وتنفيذ أقصى العقوبات عليهم طبقا لجرمهم هل هو قتل وسلب واغتصاب وسبى أم قتل فقط ام سلب فقط ام ترويع فقط ، للمجتمع تقدير العقوبة وتقدير العفو عند توبة المجرم وتسليم نفسه طوعا : وفق قوله جل وعلا فى أمر مباشر موجّه للمجتمع التقىّ : (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ  ) ( المائدة 33 : 35 ). ومن أسف أن قطّاع الطرق هم الذين يحكمون المسلمين اليوم ، وأن الذين يسعون للوصول للسلطة محلهم هم أولئك الارهابيون الذين يحاربون الله جل وعلا ورسوله ودينه .

وهذا المجتمع التقى مفروض فيه أنه قد تربى على حفظ الوصايا العشر التى جاءت فى هذه السورة المكية : (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ  ) ( الانعام 151 : 153 ) . وهنا أيضا ندعو الباحثين المسلمين لتدبر هذه الوصايا العشر القرآنية فى ضوء سلطة المجتمع  التقىّ وتنفيذه لفضيلة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

أخيرا : عند غياب التقوى .. لا يمكن تطبيق تلك التشريعات :

1 ـ  إنظروا الى واقع المسلمين ، وخصوصا حين تحكمهم شريعة الدول الدينية سنية وشيعية .. من الرجم الى تشريع الزنا تحت مسوغ ( زواج المتعة ) فتتزوج المرأة عدة مرات يوميا زواج متعة بأجر . ومن أكل مال اليتيم البالغ الناضج العاقل غير السفيه الى تسليم  ثروة الأمة الى حاكم مستبد سفيه ، ينفقها هو وأولاده وأتباعه فى المجون وإفتتاح المزيد من السجون وفى إعلام مزيف دجّال للضحك على الذقون ، وهذا ما يسير عليه السعوديون والمستبدون وسيتبعهم الاخوان المسلمون فى حكممهم الميمون .! فالمجتمع  فى الاسلام هو الذى يملك الموارد الاقتصادية والثروة ، وهو الذى يقوم عليها يستثمرها للصالح العام ، ولا يرث الفرد ثروته ويملكها إلا بمعيار الكفاءة فى استثمارها ، ولكن المستبد الشرقى يملك الثروة والارض ومن عليها. خلافا لقوله جل وعلا للمجتمع القوى المتفاعل بالخير:( وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) . ثم انظر الى تحقير المرأة وتعليبها فى حجاب ونقاب الى حرمانها من حقوقها فى الزواج والطلاق . عشرات الآيات القرآنية التى جاءت بتفصيلات بعضها تم تكراره والتغليظ عليه والتحذير من عصيانه ، ولكن بكل جرأة تم عصيانها وتجاهلها فى شريعة السلفيين .

2 ـ وأولئك المعتدون على شرع الله جلّ وعلا  تناصرهم الأغلبية الصامتة بصمتها حينا وبصراخها حينا وبتصويتها لصالحهم دائما . حتى المرأة التى صارت ضحية لتلك الأديان الأرضية من سنية وشيعية تنازلت عن حقوقها فى القرآن وارتضت أن يعبئها أعداء الرحمن بضاعة رخيصة للذكور من شيوخ وصبيان .

3 ـ هذا هو حال الأغلبية الصامتة الكارهة للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، بل إنها حين تتخلى عن صمتها وتنطق تراها تصرخ بالأمر بالمنكر والنهى عن المنكر . هذه الأغلبية الصامتة الظالمة لنفسها هى نذير شؤم على مجتمعها .. كيف . ؟ أنتظرونا

 

 

الباب الخامس  :  غياب الأمر بالمعروف والنهى يعنى الاهلاك 

 الفصل الأول : الأغلبية الصامتة نذير هلاك للمجتمع

 المترفون وهلاك المجتمع : قراءة للأحداث المعاصرة

1 ـ بالظلم والاستبداد والفساد السياسى والاجتماعى مع تحكم الأديان الأرضية تتركز الثروة والسلطة فى أيدى أقلية مترفة فى مقابل أغلبية مقهورة فقيرة صامتة تناضل من أجل الحصول على الضرورى من متطلبات الحياة ، وطبقة وسطى هزيلة تحاول أن توازن بين دورها التنويرى ولقمة العيش . وجود هذه الطبقة المترفة يعنى أن ثرواتهم زادت عن الحد فتحول الأغنياء الأثرياء الى الترف . الغنى الثرى العادى منشغل بتنمية ثروته بالمنافسة الشريفة وغير الشريفة ، أما الثرى المترف فهو منشغل بكيفية الانفاق من ثروته فى الفساد والمجون ، بينما ثروته تتزايد بنسب فلكية دون أن يتعب لأنه بنفوذه وأعوانه ينهب ثروة الشعب بالأمر المباشر . العادة أنه كلما زاد تركّز الثروة لدى المترفين قلّ عددهم ، وفى المقابل تناقص عدد الطبقة الوسطى التى تقود المجتمع ثقافيا وفكريا وأخلاقيا ، وتضخّم عدد الفقراء والمعدمين مما يؤهّل المجتمع للتدمير بسبب وجود واستمرار هذه الطبقة المترفة الحاكمة ، وهذا التدمير قد يأتى من الداخل أومن الخارج .

2 ـ يأتى التدمير من الخارج بتعرض الدولة المستبدة لغزو خارجى من قوة طامعة خارجية تنتهز عزلة المستبد وأعوانه المترفين عن المجتمع وقهرهم للمجتمع وكراهية الناس لهم وعدم استعداد جند المستبد للتضحية بأنفسهم دفاعا عن مستبد ظالم لهم ولأهاليهم ولا يأبه حتى بجنده.  والمترفون من قادة العسكر هم على سنّة سيدهم المستبد فى الفساد والتجبر وفى معاملة الجند كالرقيق والعبيد . وفى عصرنا لا يمكن للمستبد أن ينتصر على جيش آخر إلّا إذا كان الجيش الأخر مملوكا لمستبد مثله ، عندها ينهزم الجيشان.!! المستبد لا ينتصر إلا على شعبه المسالم الأعزل المنزوع السلاح . ولكن هذا لا يدوم لأنّ المستبد لو نجا من الغزو الخارجى فلن ينجو من عاصفة التمرد الداخلى والثورة الشعبية عليه .

3 ـ يحدث الانفجار الداخلى عندما تصل الأغلبية الصامتة الفقيرة الى النقطة الحرجة التى تتخير فيها بين نوعين من الموت : الموت جوعا أو الموت على أيدى جند المستبد ، وحين تصل أعراض الجوع والتذمر لجند المستبد الذين يبذلون دماءهم فى سبيله ، ومن أجله يقتلون أهاليهم المساكين .إنّ النّهم فى السلب والنهب من خصال المستبد الفاسد ليستأثر بالثروة كما يستأثر بالسلطة . وهو لا يعطى منها إلّا لأتباعه الذين يشبهونه فى الطمع والجشع وعدم الشبع . وبالتالى كلما زادت ثروات المستبد وأعوانه كان هذا على حساب بقية الشعب من الطبقتين المتوسطة والفقيرة، وبازدياد النهب لثروة الشعب تتضاءل ثروة الطبقة المتوسطة ويتحول معظمها الى طبقة الفقراء ، بينما يزداد الفقراء عددا وفقرا ويزداد المعدمون جوعا ، وبدخول الطبقة الوسطى بفكرها ووعيها وثقافتها الى عالم الفقر والفقراء فإنها تسهم فى وعى الفقراء وتنفث فيهم روح التمرد .

4 ـ معاناة الفقر والجوع وحدها لا تؤدى الى ثورة الفقراء والجوعى. ربما تؤدى الى هبّة وانتفاضة وقتية يمكن إجهاضها والسيطرة عليها ، ولكن لا يمكن أن تؤدى المعاناة فقط الى ثورة مستمرة إلّا فى حالتين : الأولى : أذا وصلت المعاناة الى حد الجوع الحقيقى والخيار بين الموت جوعا أو الموت قتلا فى الثورة الدموية ، والثانية : إذا زاد الوعى لدى الفقراء بحقوقهم المسلوبة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وضرورة القيام بالثورة ، أى إذا تخلص الفقراء من ثقافة العبيد .

5 ـ ثقافة العبيد تتحول الى ثقافة سامة إذا وجدت لها مسوغا دينيا ، بالاعتقاد بأن إرادة الله هى التى سلّطت عليهم الظالم بسبب ذنوبهم ، وأن الاعتراض على الظالم والظلم هو اعتراض على المشيئة الالهية ، وأن إنتقاد الظلم هو إعتراض على القدر الالهى. إنها الجبرية التى برع فيها الأمويون وكل المستبدين ، والتى وقف ضدها أحرار المسلمين الذين أسموهم ( القدرية ) لأن أولئك الأحرار قالوا ( لا قدر والأمر أنف ) ،أى إن الظلم ليس بقدر الله ولكن رغم أنوف الناس ،أى بقهر الناس . ، هذه هى ( القدرية ) أو مذهب الارادة الانسانية الحرة الذى يوجب مقاومة الظلم لأنه فعل بشرى وليس إرادة الاهية ،ولأن 9الله جل وعلا لا يريد ظلما للعالمين وقد حرّم الظلم وفرض مقاومته واعتبره كفرا فى السلوك ، وإذا تم تسويغه بمبرر دينى أصبح أيضا كفرا فى العقيدة.  ولكن عمل فقهاء الدين السّنى بالذات على تقعيد الاستكانة والرضى بالظلم ، وصنعوا الأحاديث التى توجب السمع والطاعة للحاكم حتى لو ( كان عبدا حبشيا ) وأن طاعة سلطان غشوم خير من فتنة تدوم ، وانه لا يجوز الخروج على الحاكم مهما فعل  . لو إعتنق المجتمع ثقافة العبيد واعتبر البؤس الذى يعيش فيه قدرالاهيا لا فكاك منه ، وأنه من سنن الحياة فلا يمكن أن يثور . سيثور إذا تم تنويره وتحريره من ثقافة العبيد التى ينشرها خدم المستبد من  رجال الدين والاعلام . 

6 ـ والعادة أن يظلّ المستبد فى السلطة الى الموت أو العزل . ليس هناك تداول سلطة وحاكم سابق يعود الى صفوف الشعب كما يحدث فى الدول الديمقراطية. فى عصرنا شاخ المستبدون العرب فى مقاعدهم ، ومن مات منهم على عرشه ورثه ولى العهد متمسكا بنفس الفساد والاستبداد والنخبة المترفة وسلب ونهب وإفقار الشعب . جاء فى مناخ الاستبداد العتيد هذا جيل جديد تعامل مع الانترنت ووسائل الاتصالات التى حطّمت السور الحديدى الذى يصنعه المستبد حول شعبه . رأى الجيل الجديد أنه صاحب الحاضر والمستقبل وأنه لا يصحّ أن يترك حاضره ومستقبله لنخبة مترفة فاسدة شاخت فى الفساد والاستبداد ولا تلد إلّا فاجرا كفّارا . من ناحية أخرى تاح فضاء الانترنت لهذا الشباب التواصل أ  أتاح الانترنت لهذا الشباب التواصل ومطالعة الكتابات الاصلاحية وعرف تعدد الآراء ، وأتيح له أن يكشف عوار السلطة وجهل شيوخها ومثقفيها وخبرائها وأرباب الاعلام والعلم فيها ، وكشف الانترنت بعض مظاهر الفساد . بالمعرفة والاستنارة وبالتواصل أمكن للشباب حشد أنفسهم فى العالم الافتراضى ، ثم تطور الحشد ليصبح واقعا فى الشارع والعالم الحقيقى الواقعى. وبهذا الوعى  بدأ تحرك الشباب للمطالبة سلميا بحقوق الشعب المهدرة ، وقابلها المستبد بقواته المسلحة من الأمن و الجيش ، واشتعلت المواجهة بين شباب أعزل يحلم بمستقبله ونخبة فاسدة تحتمى بقواتها المسلحة تقاوم من أجل بقائها جاثمة فوق جثة الشعب . ولم يتم حسم الحرب بعد . النتيجة النهائية تتوقف على إنضمام الأغلبية الصامتة . إن وقفت بشجاعة مع الثورة حسمت المعركة لصالحها ولصالح دولتها وحاضرها ومستقبلها . إن استمرت فى سلبيتها وأجّلت الصدام الحتمى الى مرحلة لاحقة ستكون الكارثة التى ربما تؤدى لحرب أهلية وحمامات دم ،أى إلى الهلاك الجزئى أو الكلى . كل هذا بسبب استمرار الأغلبية الصامتة فى سكوتها عن نصرة حقوقها. هى تساند الظالم بهذا السكوت . بل أحيانا تخرج عن صمتها لتؤيد الظالم . لا تدرى أنها تحفر قبرها بيديها ، وأن هذا القبر سيكون بمساحة الوطن كله ؟!. تعالوا بنا للقرآن الكريم نبحث عن التوصيف والعلاج .  

ثانيا : ردّ على بعض أعداء القرآن

سبق فى مقال أن رددت على بعض من يتهم القرآن بالتناقض ،إذ كيف ينهى عن الفسق ثم يأتى الأمر بالفسق فى قوله جل وعلا فى تدمير الأمم الظالمة : (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) ( الاسراء 16 ) . وقلت فى الرد الآتى وهو داخل فى موضوعنا عن الاهلاك :

1 ـ القرآن يفسر بعضه بعضا ، والمنهج القرآنى فى فهم القرآن أن نتتبع الموضوع المراد بحثه بتجميع كل الايات المتصلة بالموضوع فى سياقها العام والخاص ، ونضعها معا لنتعرف على حقائق القرآن فى هذا الموضوع ، أما الذين فى قلوبهم زيغ ومرض فانهم ينتقون من الايات ما يحقق هواهم متجاهلين السياق ، ولذلك يكون القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الضالين إلا ضلالا : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا ) ( الاسراء 82 ). كما يجب أن تتوفر فى الباحث القرنى بالاضافة للموضوعية والحيادية ـ ان يتمتع بفهم علوم اللغة العربية وأسرارها البلاغية . وذلك الداعية للتنصير يفتقد الموضوعية ويفتقد العلم بعلوم اللغة العربية.
2 ـ هناك فى البلاغة العربية و القرآنية ما يعرف بالايجاز بالحذف ، حين يكون المحذوف مفهوما من السياق ، مثلا يقول جل وعلا فى قصة وسورة يوسف : (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا) ( يوسف 82 ) المحذوف هنا كلمة (اهل ) أى واسأل اهل القرية ، و ( اصحاب ) أى أصحاب العير التى اقبلنا فيها. وهناك إيجاز بالحذف فى الاية الكريمة (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا )هو بحذف كلمة ( العدل أو القسط ) أى (أمرنا مترفيها بالعدل والقسط ) . وهذا مفهوم لأن الله جل وعلا لا يأمر إلا بالعدل والقسط ، يقول جل وعلا (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( النحل 90 ). ) ( الاسراء 82). وأرجو ان ترجع الى مقالنا (الاسلام دين العدل والقسط ) لمزيد من التوضيح. وعليه فإن قوله جل وعلا (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) ( الأعراف 28) يفسر قوله جل وعلا : (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) ( الاسراء 16 )، فالله جل وعلا يأمر بالعدل والاحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى . وما جاء محذوفا بالايجاز فى (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ) شرحته مئات الايات التى تحض على العدل و التقوى وتنهى عن الاثم والعدوان والظلم. هذا فى السياق العام فى الأمر بالعدل والنهى عن الظلم .
3 ـ أما فى السياق الخاص ، فهو موضوع الآية نفسه ، وهو إهلاك القرى(اى المجتمعات) الظالمة .
وحين تقوم بتجميع الايات الخاصة بالاهلاك للظالمين تفهم أن هناك شروطا لكى يتم إهلاك قرية ، وأن هذه الشروط قد تم إيجازها باختصار معجز فى آية (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) ) ( الاسراء 16 ). ونوجز القول هنا على النحو التالى :
3 / 1 : بعد أن قصّ الله جل وعلا قصص بعض الأنبياء السابقين واهلاك تلك الأمم ـ فى سورة الشعراء قال جل وعلا يضع القاعدة فى الاهلاك : (وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ) ( الشعراء 203 : 204 ). أى لا بد من وجود منذرين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، يأمرون بالعدل وينهون عن الظلم . وعليه فقوله جل وعلا :(وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ) أى جاء الأمر لهم عن طريق الأنبياء والرسل أو غيرهم ممن يسير على نهجهم . ومن الاعجاز أن الله جل وعلا هنا لم يقل ( وما أهلكنا من قرية إلا ولها أنبياء منذرون ) لأن هذا يعنى عدم وجود اهلاك بعد خاتم المرسلين ، ولكنه قال جل وعلا (وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ) لأن كلمة منذر تشمل الأنبياء و الرسل و كل ناصح أمين لقومه.
3 / 2 : ويقول جل وعلا فى سورة هود بعد أن قصّ قصص بعض الأنبياء السابقين وأممهم التى أهلكها الله جل وعلا : (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ) (هود 116 : 117 ). أى لو كان فيهم ناصحون وأطاعوا أوامر الناصحين ما أهلكهم الله جل وعلا لأن الله جل وعلا لا يهلك إلا القرية الظالمة، ولا يمكن أن يهلك قرية صالحة.والواضح هنا أن السبب فى الاهلاك هو سيطرة المترفين المتحكمين فى الثروة والسلطة ، وواضح أن البقية يتبعونهم خوفا او رغبا ، لذا يقول جل وعلا: ( وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ).وهذا يشرح لنا ما جاء عن المترفين الذين يؤمرون بالعدل فيزدادون عصيانا فيحق عليهم القول ويتم اهلاكهم وتدميرهم : (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) ) ( الاسراء 16 ).
3 / 3 : ويرسم رب العزة فى كتابه العزيز صورة رمزية للقرية الظالمة بعد تدميرها واهلاك اهلها ، إذ يبقى دليلا على الترف الهائل والفقر الهائل معلمان تذكاريان : قصر فخم مشيد ( كان يسكن فيه شخص واحد ) وئئر معطلة ،أى مرافق معطلة مع أنه كان يعيش عليها كل أو معظم الشعب ، ولكن كل ما يكسبه الشعب ينهبه المترفون ويقيمون به قصورا فى نفس الوقت الذى تعطش فيه الحقول و تتلوث فيه المياه وتتكدس الزبالة ، يقول جل وعلا :( فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ )( الحج 45 ). وفى مصر الآن حيث يتحكم المترفون تجد كل المرافق والمياه النقية تصل الى قصور المترفين وحمامات سباحتهم وحدائقهم الغنّاء فى الساحل الشمالى و البحر الأحمر وسيناء ، مع أنهم لا يجدون الوقت الكافى للاقامة فى كل تلك القصور ،بل حتى مجرد التعرف على اجنحتها و زخارفها . هذا ، بينما يعانى سكان العشوائيات و الأحياء الشعبية فى القاهرة والمدن و القرى من اختلاط المياه بالصرف الصحى ، وتلوثها وانقطاعها وانقطاع الكهرباء، وأزمات الخبز والتموين والمواصلات والاسكان والحاجيات الأساسية..الخ .. فالقرآن الكريم يضع ملامح القرية الظالمة لتنطبق على أى عصر يسيطر فيه المترفون . وقد حدث هذا الاهلاك كثيرا فى تاريخ المسلمين فى العصرين العباسى والمملوكى ، وحدث فى عصرنا الراهن فى لبنان والعراق ، وهناك قرى ( دول ) مرشحة للانفجار من الداخل أو من الخارج ، أهمها مصر والسودان والسعودية وايران وما تبقى من فلسطين .)

هذا ما قلته فى مقال ( سؤال وجواب عن القرآن الكريم ) بتاريخ أول أغسطس 2010 ، قبيل ثورة اللوتس المصرية ، وهو واحد من عشرات التحذيرات من إهلاك قادم ، ومن تحريض الأغلبية الصامتة لتدافع عن حقوقها المهضومة. ونعطى من القرآن الكريم تفصيلات إضافية لموضوع الاهلاك ثم كيفية النجاة منه . 

ثالثا : أسباب الاهلاك للمجتمعات والدول

1 ـ تفشى الظلم : يقول جلّ وعلا:( وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ )( القصص : 59 )، ويقول :( ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ )( الانعام 131)، أى لا يمكن أن يهلك الله جلّ وعلا قرية إلّا إذا كانت ظالمة وكان أهلها غافلين عن الحق والعدل . أى لايمكن لقرية ( أى مجتمع ودولة ) تطبق العدل أن تتعرض للهلاك . الهلاك هو مصير القرية الظالمة فقط . الله جل وعلا يصف المجتع المعرّض للهلاك بأنه قرية ظالمة غافلة ، وهذا وصف يشمل كل القرية أو المجتمع . وقلنا أن الظالمين نوعان : نوع فعّال مقترف للظلم ( المستبد وأتباعه المترفون ) ونوع يقع عليه الظلم ويرضى به مستكينا للظلم ، وهؤلاء وأولئك يجمعهم الغفلة عن العدل والحق وعن المصير الأسود الذى ينحدرون اليه جميعا.

هذا الهلاك تكرر من قبل وسيتكرر ، يقول جلّ وعلا:( وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ )( الحج 48 )، أى إن الله جلّ وعلا يمهل ولا يهمل ، وهو جلّ وعلا للظالمين بالمرصاد قديما :( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) (الفجر 6 : 14 ) وبعد نزول القرآن يتوعّد رب العزّة من يكذّب بحديث الله فى القرآن بأنه سيستدرجهم من حيث لا يعلمون:(فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) (القلم 44 : 45 ) وأنه سيعطيهم النعم ابتلاء وأختبارا فيرسبون فى الاختبار إذ يحسبون النعم تفضيلا لهم عن غيرهم وخيرا خاصا بها فيزدادون بالنعمة كفرا وإثما : (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ )( آل عمران 178 ). وهذا ما حدث ويحدث فى تاريخ المسلمين الماضى والمعاصر. الله جل وعلا يصف المجتع المعرّض للهلاك بأنه قرية ظالمة غافلة ، وهذا وصف يشمل كل القرية أو المجتمع .  

2 ـ رفض الظالمين الحق الذى يأتى به المنذرون : الحق يعنى العدل ، والعدل هنا يعنى أرجاع الحقوق الى أصحابها والمساواة بين الأفراد  وتكافؤ الفرص أمام الجميع . يرفض الظالمون الاصلاح ،بل يضطهدون المنذرين الذين ينذرونهم بالهلاك إن لم يبادروا بالاصلاح. يقول جلّ وعلا (وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ)(الشعراء 203 : 204 ).

3 ـ والمترفون لهم حججهم التى يحتجّون بها ضد العدل وضد الدين الحقّ .

3/ 1 : فهم يرفضون الاصلاح والعدل تمسكا بالأوضاع الاجتماعية القائمة التى أتاحت لهم التمكين فى السلطة ، فبهذه ( الثوابت ) التى أصبحت بمرور الزمن دينا أرضيا أصبح لهم الجاه والثروة ، وهم بما وجدوا عليه آباءهم مستمسكون ، وهم للحق رافضون . هكذا قالت قريش المشركة فى مواجهة القرآن ودعوته للقسط : ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ )، وهو نفس القول الذى قاله المشركون قبل قريش ، وسيقوله المشركون الظالمون بعد قريش ، لذا جعلها الله جل وعلا قاعدة عامة تنطبق على كل زمان ومكان ؛ أن يتمسك الكافرون المترفون بما وجدوا عليه آباءهم فى مواجهة الحق والعدل ، تقول الآية التالية : (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ )(الزخرف 22 : 23 ).وفى عصرنا ينبح فقهاء السلطان بالثوابت و ( إجماع الأمة ) و ( الاقتداء بالسلف الصالح ) و يحلو لهم القول ب :( اجمعت الأمة على كذا وكذا ) مع أن هذه الأمة لم تجمع إلّا على التفرق والاختلاف فى كل شىء ، من سنّة وشيعة وصوفية ، ثم مذاهب سنية وفرق شيعية وطرق صوفية ، وداخل كل فرقة وطائفة ومذهب عشرات التقسيمات وآلاف الاختلافات .

 3/ 2 : والملأ المستكبر المترف يعتقد أنه طالما أوتى المال والأولاد والجاه فى الدنيا فسيكون بنفس النعيم فى الاخرة ، ولن يتعرّض للتعذيب يوم القيامة ، وبالتالى فلا حاجة للاصلاح فقد ضمن لهم  دينهم الأرضى  الجنة بالشفاعات، لذا جعلها رب العزة قاعدة عامة تنطبق فى كل زمان ومكان ، فحين يتحكم المترفون ودينهم الأرضى فى مجتمع ما فلا بد أن يكفروا بالدين الحق ودعوته الاصلاحية :( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ )( سبأ 34 : 35 )

3/ 3: وهذا الملأ المستكبر المترف يرى أنه أفضل من الأنبياء والمرسلين والمنذرين ، ويستنكف أن يكونوا أتباعا لبشر مثلهم : ( وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ )( المؤمنون 33 : 34). وجعلها رب العزّة جلّ وعلا قاعدة عامة حين يتحكّم المجرمون فى قرية ما، أن يتأففوا من الوعظ ، بل ويزعمون أنهم أولى بالرسالة الالهية من الرسل ، وأن يمكروا بالمصلحين ، وهم لا يعرفون أن الهلاك ينتظرهم ،أى أنهم يمكرون بأنفسهم وما يشعرون ، وسينالون الهلاك فى الدنيا والعذاب بالآخرة : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ )( الانعام 123 : 124 ). ولذا يأمر الله جل وعلا بالسير فى الأرض للتفتيش على آثار الأمم السابقة البائدة لنتعظ بما جرى لها :( فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ )( الحج 45 : 46 )

أخيرا

لتحاشى هذا الهلاك القادم ولتفعيل الأغلبية الصامتة حتى لا تكون عاملا فى الهلاك وضع رب العزة سبل الاصلاح . ونتوقف معها فى المقال القادم .

 

 

الباب الخامس  :  غياب الأمر بالمعروف والنهى يعنى الاهلاك 

 الفصل الثانى   تحذير من إهلاك قائم وإهلاك قادم

 العرب والمسلمون على شفا الاهلاك: 

1 ـ وجود واستمرار أقلية مترفة وأغلبية فقيرة معدمة صامتة مقهورة يعنى قرية ظالمة . عندما ترفض القرية الظالمة الاصلاح وتطارد المصلحين  فالهلاك على الأبواب .هذا موجز ما جاء فى القرآن ، وهو ينطبق على كل زمان ومكان ، يقول جل وعلا فى قاعدة إهلاك القرى الظالمة فى تاريخ البشر:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) ثم يقول فى سريان هذه القاعدة فى تاريخ البشرقبل نزول القرآن :( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا )، ولأن الظلم هو العملة السائدة فى تاريخ البشر الى يوم القيامة فإن إهلاك ( القرى الظالمة ) مستمر الى يوم القيامة بعد نزول القرآن طالما يوجد منذرون وطالما يتم إضطهاد المنذرين ،يقول جلّ وعلا فى قانون آخر للاهلاك يسرى فى المستقبل:( وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ). جاء هذا فى سورة الاسراء: ( 16 ، 17 ، 58 )

2 ـ يتحقق هذا الآن فيما يعرف بالعالم الاسلامى . فكل دولة فيه هى قرية ظالمة ، ولكن كان ينقصها وجود المنذرين فى القرون السابقة . ثم ظهر أهل القرآن منذرين من أكثر من ثلاثين عاما يدعون المسلمين الى الاصلاح السلمى بالقرآن بتطبيق حقائق الاسلام المهجورة فى الحرية الدينية والعدل والسلام والديمقراطية وحقوق الانسان . وصلت دعوة أهل القرآن الى الآفاق ، وأسهم فى نشرها خصومهم ،إما بأخبار اضطهادهم ودفاع المنظمات الحقوقية عنهم وإمّا بالهجوم عليهم ولفت الأنظار اليهم . بوجود الظلم وبوجود أهل القرآن منذرين إكتملت ملامح القرية الظالمة المرشحة للهلاك طبقا لقوله جلّ وعلا : (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ) ( القصص 59 )( وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ )( الشعراء 208 : 209 ) .

3 ـ بل وبدأ الهلاك الفعلى بزوال دولة الصومال وتفككها ، ثم التدمير الجزئى فى السودان والعراق وليبيا وأفغانستان ، وهو قائم فى سوريا الآن  ، وهناك إحتمال قوى بهلاك قادم لدول أو( قرى ظالمة ) أخرى فى الجزيرة العربية  ومصر  وشمال أفريقيا وباكستان . ولا يزال أهل القرآن فى دعوتهم ـ بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر  ـ ماضين ، ولكن لا يزال أهل القرى فى غفلتهم سادرين . خصوصا الأغلبية الصامتة ، الصامتة عن نصرة الحق ، والصامتة عن مواجهة الباطل والظلم .

4 ـ وممّا يعجّل بالهلاك قيام المترفين الحكام بتلميع جهلة الوعأظ من السلفيين العاديين ليكونوا أئمة الدعوة للدين الأرضى السائد ، فأفسدوا أفئدة الأغلبية الصامتة ، وأرضعوهم ثقافة العبيد والرضى بالظلم والصبر عليه ، ودخلوا بهم فى نفق الدين الأرضى وخرافاته وثقافته السمعية ، وأصبح وعّاظ الدين الأرضى نجوم الاعلام وقادة التوجيه فى المساجد وعلى الانترنت والقنوات الفضائية ، وأضاف هذا قوة للسلفيين الآخرين من الإخوان المسلمين ، وأصبح لهؤلاء وأولئك نفوذ فى الشارع أسفر عن وصول الاخوان والسلفيين الى أعتاب السلطة فى مصر وفى ليبيا وتونس . خلق هذا مشكلة عويصة راهنة . فالثورة قام بها الشباب ليس للوصول للحكم ولكن للتغيير الى حكم ديمقراطى حقوقى ، ولكن قفز عليها أئمة الأغلبية الصامتة من الإخوان والسلفيين . وأصبح الاختيار صعبا بين استبداد قائم يقاوم فى سبيل البقاء واستبداد قادم يعدّ العدّة لدولة دينية مستبدة ، تكون أسوأ من الاستبداد العادى . تجارب مصر وليبيا وتونس جعل المساندة الغربية للربيع العربى تتراجع خوف وثوب الاخوان على الحكم ، ولهذا تدفع سوريا الثمن تدميرا وإهلاكا دون مساندة من الغرب . ونفس المصير من التدمير ينتظر بقية القرى الظالمة العربية ، إن ثار أهلها إختطف السلفيون من السّنة أو الشيعة الحكم ،  وإن سكتوا إلتهمهم الظالم قضمة قضمة .  

5 ـ أى لا حلّ إلا بالوقوف ضد المستبد القائم والمستبد القادم معا . وإلا فالهلاك الجزئى قائم والهلاك الكلى قادم . أى لا بد من مواجهة الاستبداد بكل أنواعه ، ولا بد من وتكاتف الشباب الثائر ضد العدوّين معا . وهذا ما يناضل فى سبيله أهل القرآن ، فهم ضد الدولة الدينية واستبدادها شيعية كانت أو سنية ، وهم ضد المستبد العلمانى . وأهل القرآن ضحايا للإثنين معا ، والعادة أن المستبد القائم والمستبد القادم ينسيان خلافاتهما ويتحدان فى مواجهة أهل القرآن ، والأغلبية الصامتة بثقافتها السمعية تصدّق بل وتؤمن بكل ما يقال لها من أكاذيب ، فإذا قال الاعلام الرسمى والاعلام الشعبى ورجال الدين والوعّاظ أن أهل القرآن كفرة فهم عند الأغلبية الصامتة كفرة . ويتأسّس حاجز صلب بين دعوة الحق للمنذرين ( بكسر الذال ) والمنذرين ( بفتح الذال ) . ويظل المنذرون يعظون بدون تقصير ولكن بلا تأثير ، ويظل الظالمون فى غيّهم بلا نكير إلى أن يحلّ المصير ويأتى الهلاك للغنى والفقير والجاهل والمستنير . الأمل فى الشباب فى أن يواجهوا ذلك التعتيم على أهل القرآن وذلك التشويه لهم ، وذلك بمجرد نشر الفكر القرآنى ودعوة السلفيين والشيعة لمناقشته .

أهل القرآن ـ ومن خلال رؤية قرآنية موضوعية وفهم لتراث المسلمين وتاريخهم ـ لا يمارسون جلد الذات ، بل يوضحون تناقض المسلمين مع الاسلام ثم يضعون العلاج . فى هذا المبحث مثلا نوضح هنا الرؤية القرآنية التى يتناقض معها المسلمون فى موضوع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ثم نضع العلاج القرآنى على المستوى النظرى والمستوى التطبيقى . وهذه هى وظيفة المنذرين الذين يتصدّون لاصلاح القرية الظالمة قبل وحتى لا يحيق بها الهلاك . ولأن الإنذار يعنى التخويف والتحذير فإننا نعلن هذا التحذير.   

تحذير قبيل الهاوية :

1 ـ ليس هذا شماتة ، فلا يشمت فى وطنه وقومه من عانى فى سبيل إصلاح وطنه وقومه ، ولكنها صيحة تحذير قبل الهاوية، والهاوية هى حرب أهلية تفتح أفواهها لتلتهم الظالمين من مترفين وصامتين . إن الله جل وعلا يقول : ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ( الأنعام 65 : 67 ). ليس هذا خطابا محددا بقريش حين كذّبت بالقرآن وجاءها التهديد من الرحمن بل هو تهديد يتخطى الزمان والمكان ، وهو إنذار لكل من كذّّب بآيات الله فى القرآن ، وعاند وصدّ عن سبيل الله جل وعلا. التهديد هنا بقدرة الخالق جل وعلا على أن يبعث عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم ، مثل الأوبئة والتلوث والفساد فى البر والبحر بما كسبت أيديهم ، أو أن تقع بينهم الحروب وحمامات الدم ، ويذيق بعضهم بأس بعض. هذا ما جاء فى قوله جل وعلا : (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ .). ولم يفقهها الملأ الأموى الحاكم فى قريش ، ولم يفقها أتباعهم وأنصارهم من قريش ، وهم قوم النبى وأهله ، فتقول الآية التالية:(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ). أى كذّبوا بالقرآن ـ وهو الحق ـ والردّ على تكذيبهم يأتى من الله جل وعلا . وهذا الرّد من جزئين :

2 ـ الجزءالأول هو: (قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ )، أى أمر الاهى لخاتم المرسلين أن يعلن لهم أنه ليس مسئولا عنهم ، وتكرر هذا كثيرا فى القرآن الكريم ،ومنه قوله جل وعلا له عليه السلام: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ)(الغاشية21: 26 ) . أى هو مجرد (مُذَكِّرٌ ) أو ( مبلّغ ) أو ( نذير ) ، ليس عليه سوى البلاغ ،فلا إكراه فى الدين ، وليس له السيطرة على أحد ( لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ). ومرجعهم الى الله جل وعلا وحده ، وهو الذى يتولى حسابهم وعذابهم : (إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ)، ومرجعهم الى الله جل وعلا وحده ، وهو الذى يتولى بعثهم وحسابهم (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ).أى ليس للنبى من الأمر شىء:(آل عمران : 128 )  بل لله جل وعلا الأمر كله، لذا قال له ربه جل وعلا:(وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( هود 121 : 123 ).

3 ـ الجزء الثانى من الرّد هو قوله جل وعلا مهددا مرة أخرى من يكذّب بكلام رب العالمين :( لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).أى يحمل لهم المستقبل أنباء سيئة آتية جزاء تكذيبهم. لم يكن كل قوم النبى مكذبين ، فقوله جل وعلا (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ ) يتحدث عن الأغلبية المسيطرة،أى الأمويين . وتتميز سورة الأنفال بأن معظم حديثها ينصبّ على قريش ، من آمن منهم ومن كفر ، فقد نزلت تعقّب على الانتصار فى معركة بدر على قريش الكافرة. وبعد الحديث عن مشركى قريش جاء التحذير للقرشيين المهاجرين هائلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(الأنفال 20 : 28). نقول أنه خطاب موجّه فى الأساس للصحابة المهاجرين بدليل قوله جل وعلا لهم يذكّرهم بالاضطهاد السابق : (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ). والمستفاد منه أن هناك من القرشيين المهاجرين المشاركين فى بدر ،أو ( البدريين ) من جاء فى حقه هذا التقريع لأفعال بدرت منه ، منها معصية الرسول والتولى عنه ومتابعة الكافرين المعاندين من قومهم القرشيين الذين كانوا يتندرون على النبى بقولهم (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ )، بل أكثر من ذلك هو تحذيرهم من خيانة الله جل وعلا والرسول  مع علمهم بما يفعلون :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ). والمستفاد بكل أسف إن هذه القلة المؤمنة من البدريين القرشيين لم تسلم من التكذيب ، وإلا ما قال رب العزة فيهم هذا الكلام .

محل الاستشهاد هنا هو أن منهم من بلغ به التكذيب درجة أن يقول فيهم رب العزة : (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )، أى فهناك منهم من هو عريق فى الظلم ، وهناك منهم من يسمع ويطيع لأولئك الظالمين ، والله جل وعلا يحذّر مقدما من طاعة أولئك الظالمين حتى لا يأتى العذاب ليشمل الجميع . ونعيد قراءة هذا التحذير الخطير: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وبعده يذكّرهم باضطهاد قومهم لهم : ( وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ثم يحذرهم من الخيانة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) . الذى أنزل هذا التحذير هو ربّ العزة الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور. وهو جل وعلا يتحدث عن غيب وسرائر السابقين زمنا فى الاسلام من المهاجرين القرشيين . وهذا الغيب وتلك السرائر التى فضحها رب العزة تتناقض مع الشكل السطحى والمظهر الخارجى لأولئك السابقين زمنا فى الاسلام ، وهذا يؤكد صدق قوله جل وعلا للنبى وهو فى مكة عن أغلبية قومه:(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ ).

4 ـ والذى حذّر منه رب العزة مقدما وهو قوله جل وعلا :(وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) وقع فيه القرشيون بعد موت خاتم المرسلين ، وانتهاء القرآن نزولا ، وبعد أن اجتمعت قريش معا وتزعمت العرب . عندها توحّد المهاجرون الذين نزلت فيهم الآيات السابقة من سورة الأنفال مع الأمويين وبقية القرشيين الذين دخلوا فى الاسلام بعد طول عداء وحروب وخصام . أى إن من تحدثت عنهم سورة الأنفال وتحاربوا مع بعضهم انتهى بهم الأمر لأن يتحدوا مع بعضهم ، وأن يهمّشوا الأنصار الذين (آووا ونصروا ) والذين مدحهم رب العزة فى نهاية سورة الأنفال نفسها . خالف القرشيون المهاجرون وصية رب العزة بالانصار وتحذير رب العزة من التحالف مع الكفار ( الأنفال 72 75 ). وأتيح للأمويين تصدر الموقف بعد موت خاتم النبيين ، مما سهّل عليهم قيادة المسلمين الى الفتوحات العربية باستغلال إسم الاسلام ، وتلك جريمة كبرى فى حق شريعة الاسلام لأنها اعتداء على شعوب لم تبدأ المسلمين بالاعتداء ، ولأنها سلب ونهب واسترقاق وسبى واستعمار واحتلال لأمم لم تقدم سيئة للعرب أو المسلمين . ولأن الأمويين كانوا هم القادة فى هذا الظلم ـ من وراء ستار فى عهد أبى بكر وعمر وعثمان ـ وعلنا بعد أن أقاموا دولتهم ـ فقد تسببوا فى الحرب الأهلية الى قتلت قادة المهاجرين ، فمات أبو بكر بالسّم ، ومات عمر بالاغتيال ، وقتل الثوار الأعراب عثمان ، وقتلوا عليا ، وفى الحرب الأهلية فى معركة الجمل قتل الزبير وطلحة ـ وهما من رءوس الفتنة . وقتل معهم عشرة آلاف من الجانبين كل منهما يهتف ( الله أكبر ) ، ثم تكررت المذابح فى صفين والنهروان ، وتطورت فى حروب مستمرة بين الخوارج ومعاوية ، ثم فى عهد ابنه يزيد حدثت المآسى الثلاث : كربلاء واقتحام المدينة واستباحة دماء الأنصار وأعراضهم ، ثم حصار الكعبة وضربها بالمجانيق . أى خلال جيل الصحابة قام المهاجرون السابقون زمنا ومعهم الأمويون بمذابح لأمم لم تبدأهم بعدوان ، فيما بين فارس الى شمال افريقيا ، فيما يعرف بالفتوحات . ولما اختلفوا على تقسيم الغنائم والمسروقات اقتتلوا فيما بينهم وقتلوا قادتهم وقتلوا أنفسهم ,اذاق بعضهم بأس بعض. وحق فيهم تحذير رب العزّة فى المدينة بعد معركة بدر : (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ). وتحقق فيهم ما نبّأ به من قبلها رب العزة حين فضح مكنون الأغلبية من قوم النبى فقال جلّ وعلا:(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ)، وجاء تفسير النبأ (لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ) فى الحروب الأهلية التى خاضها الصحابة يقتلون أنفسهم بأنفسهم ، وتحقق ما حذّر منه رب العزة:(قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ).

5 ـ ولكن لم يتحقق فيهم وفينا قوله جل وعلا:(انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) . فلم يفقهوا الآيات القرآنية ..ولم نفقهها نحن أيضا . لذا بدأ ما يعرف بالفتنة الكبرى بمقتل عثمان وما تلاه من حروب اهلية ولا يزال المسلمون يعيشون نفس المشهد ، فاقتتالهم فيما بينهم مستمر مستقر ، بل وتأسست على هامش هذه (الفتنة الكبرى ) دين السّنة ودين الشيعة ، ولا يزال الشيعة يعيشون ملاحم الفتنة الكبرى بدءا من بيعة السقيفة الى مذبحة كربلاء . ولا يزال العداء مستحكما بين السّنة والشيعة حول كبار الصحابة ، يقدّس الشيعة عليا وذريته ويلعنون أبا بكر وعمر وعثمان والزبير وطلحة والسيدة عائشة ومعاوية وأبا هريرة ويزيد ..الخ ، بينما يقدس دين السّنة كل الصحابة ويجعلهم دواتا معصومة من الخطا ، أو (عدول ) و أنهم كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم . ويجعلون مكانة (على ) بنفس ترتيبه فى الخلافة ،أى الأفضلية لأبى بكر ثم عمر ثم عثمان ثم على. وهذا يسبب لشيعة آلاما نفسية وربما فسيولوجية أيضا.

الفتنة الكبرى لا زلنا نعيشها الآن بكل حذافيرها فى صراع السّنة والشيعة فى إيران والعراق وسوريا والخليج والجزيرة العربية ، وفى قفز السنيين للسلطة فى مصر وتونس وليبيا ، وفى محاولتهم الوصول للحكم على أنقاض الاستبداد القائم فى شمال أفريقيا وموريتانيا والسودان وباكستان ، وبعد تدمير الصومال وأفغانستان . وفى مواجهة هذه الفتنة الكبرى نحذّر ونعظ قبل أن يتحول الهلاك الجزئى الى هلاك كلّى وحروب أهلية لا تبقى ولا تذر. نحن نحذّر من فتنة أو حرب أهلية لا تصيبن الذين ظلموا منا خاصة .

موعدنا مع مزيد من تحذيرات القرآن فى المقال القادم .

 

 

الباب الخامس  :  غياب الأمر بالمعروف والنهى يعنى الاهلاك 

 الفصل الثالث   تحذيرات رب العزة لنا بالاهلاك  :

 

مقدمة

1 ـ قلنا إنّ وجود واستمرار أقلية مترفة وأغلبية فقيرة معدمة صامتة مقهورة يعنى قرية ظالمة . عندما ترفض القرية الظالمة الاصلاح وتطارد المصلحين  فالهلاك على الأبواب .تحقق هذا قبل وبعد نزول القرآن الكريم . فالقاعدة هى : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) وسريان هذه القاعدة فى تاريخ البشر : قبل القرآن :( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا )، وبعد القرآن :( وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ). ( الاسراء :  16 ، 17 ، 58 ). ومن الطبيعى أن يكون القرآن الكريم رسالة إنذار وتحذير للبشر قبل قيام الساعة حتى لا يقعوا فى الاهلاك أو العذاب الدنيوى العام ثم العذاب الأخروى الخالد. يقول رب العزة عن القرآن كبيان للإنذار:( هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ) ( ابراهيم 52 ). العادة أن يتعامل الناس مع أى بيان حكومى بالجدية والاهتمام خصوصا إذا كان بيان تحذير وإنذار ، ولكن تعامل المسلمون مع القرآن الكريم أو هذا البيان أو هذا الانذار الالهى بأن حوّلوه الى أغنية يتغنّون بها فى مناسبات العزاء،أى بالاستهزاء ، فحقّ عليهم قوله جلّ وعلا : ( وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا ) ، وطالما إستهزءوا بالانذار الالهى فلا فائدة فى هدايتهم على الاطلاق ، يقول ربّ العزّة فى الآية التالية : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ) ( الكهف 56 : 57 ). وبالاضافة الى الاستهزاء والسخرية فالأغلبية المسلمة تتجاهل كل ما نقدمه من حقائق القرآن الكريم وتحذيراته ، وكل ما ننشره ونذيعه يتم تجاهله والتعتيم عليه ، ممّا يسارع بوتيرة الوقوع فى الهلاك القادم . ومع هذا فنحن مصممون على القيام بواجبنا لنقدّم العذر لرب العزّة  أملا فى دفع الهلاك القادم ، أو على الأقل حتى ننجو من هذا الهلاك القادم .

2 ـ والتوقف مع القرآن كرسالة الاهية تحذيرية من الاهلاك فى الدنيا وعذاب الآخرة يستحق أكثر من رسالة علمية لنيل (العالمية ) أو الدكتوراة . ونتمنى أن يقوم بها بعض أبنائنا . ونعطى لمحة سريعة هنا :  

أولا : ملاحظات عامة :

1 ـ بعض السور القرآنية نزلت أساسا فى موضوع التحذير من الاهلاك فى الدنيا ومن عذاب الآخرة مثل سور الأعراف وهود.وأيضا بعض قصار السور مثل سورة ( القمر ) التى سنعرض لها فى مقال قادم.

2 ـ خلافا لقوانين الاهلاك التى جاءت فى سورة الإسراء والتى عرضنا لها ، فقد نزلت قوانين أخرى فى موضوع الاهلاك فى ثنايا سور أخرى من الطوال والقصار ، ويدخل فى هذا القصص القرآنى الذى يتعرّض للأمم التى تعرضت للإهلاك ، وقد يأتى تعليقات قرآنية وتحذيرات طبقا لمنهج القرآن فى القصص فى التركيز على العظة ، فلم يأت القصص القرآنى للتسلية والتـاريخ ، بل لنتعظ ونتجنب الاهلاك الذى يلاحقنا إذا تحولنا الى قرية ظالمة ترفض الانذار وتضطهد المنذرين .

3 ـ من الأعجاز القرآنى أن يحلّ الدمار والاهلاك الجزئى بالمسلمين سواء بالحروب الأهلية أو بالهجوم الخارجى من الشرق ( تيمورلنك والتتار ) أو من الغرب ( الروم البيزنطيون والصليبيون فى العصور الوسطى ، ثم الاستعمار الغربى فى العصر الحديث ، وفى عصرنا الراهن مزيج متفاعل من هذا كله : استبداد ، حروب أهلية ، واسرائيل و هيمنة غربية ووهابية مدمرة ، وصراعات مذهبية ). هذا عدا الكوارث الطبيعية ، ونحن لا نستبعدها ضمن آليات الاهلاك . وسنعرض لهذا فى حينه فى موضوع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى تاريخ المسلمين .

4 ـ إختلفت طبيعة الاهلاك قبل وبعد نزول القرآن الكريم . كانت الرسالات السماوية السابقة محلية حسية وقتية مرتبطة بقوم محددين فى زمن معين ومكان معين ، فى تاريخ كل الأنبياء ، سواء من قصّ رب العزة قصّته وما لم يقصّ.  وكان الملأ المستكبر يطلب آية ، أى (معجزة ) ، فتأتى الآية لهم محلية حسية مادية وقتية متفقة مع ما يعرفون ومتفوقة عليه حتى يؤمنوا . وكانت الاية تأتى نذيرا بهلاك لهذه الأمة إذا لم تؤمن . أى كانت تأتى تخويفا : (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا)( الاسراء 59 ). ولهذا إمتنع نزول آية حسية للتحدى مع القرآن لأنه رسالة عقلية عامة فى الزمان والمكان الى قيام الساعة ، ولأن الاهلاك العام لجميع من يخاطبهم القرآن لم يعد واردا ، وإلا كان هذا يعنى دمار البشرية كلها بعد سنوات من تمام القرآن نزولا . من هنا إختلفت طبيعة الاهلاك بعد نزول القرآن ، فأصبح محليا وجزئيا ووقتيا لمن تتحقق فيهم شروط الاهلاك : أى قرية ظالمة ( أقلية مترفة تظلم وأكثرية صامتة ترضى بالظلم ) وكل الظالمين فى هذه القرية يرفضون الاصلاح ويتهمون المصلحين المنذرين بالاهلاك إن لم يتم الاصلاح . بعدهذه الملاحظات العامة نتوقف مع بعض الملاحظات الجزئية .

ثانيا :التحذير بنزول القرآن الكريم .

فى أول سورة الأعراف يقول جلّ وعلا :( كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ). هنا تشريع للنبى ولنا فى النهى عن التحرج فى تبليغ القرآن والتذكير به . مبعث التحرّج هو تلك القداسة الزائفة التى يعيش فيها المجتمع المرشح للهلاك ، حين يقدّس البشر وقبورهم ، مما يجعل المصلح بالقرآن يتحرج من مواجهة مجتمعه بالاعلان بأن هذه القبور المقدسة رجس من عمل الشيطان ، أو أن تلك الشخصيات المقدسة آثمة كافرة ، وحتى لو كانت من الأنبياء والصالحين فتقديسها رجس من عمل الشيطان . يوجب رب العزة رفع هذا الحرج وينهانا عنه ، ويأمر بأن نتبع القرآن وحده ، ولا نتبع غيره . ويؤكّد أن قليلا ما نطيع ونتذكّر . بعدها جاء مباشرة التحذير من الاهلاك إن لم نطيع ونتذكر:( وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ). ثم بعدها جاء الحديث عن يوم الحساب :(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ).(الاعراف 2 : 9 ).أى إنّ نزول القرآن هو للتحذير من الاهلاك ومن عذاب الآخرة .

ثالثا : التحذير بالقصص القرآنى ، ويأتى التعليق على القصص بأخذ العبرة .

1 ـ فى سورة الأعراف وبعد إيراد القصص القرآنى يقول جل وعلا :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ). أى لو آمنوا واتقوا لم يكن الاهلاك مصيرهم . ثم يتوجه الخطاب لنا بعد نزول القرآن بالتحذير والانذار فى صيغة أسئلة لا سبيل للإجابة عليها إلّا بالموافقة : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ )؟؟!!ثم بعد هذا التقريع بالأسئلة القاسية يأتى تحذير هادىء وخطير بأنه من الممكن ان يؤاخذنا الله جلّ وعلا بذنوبنا بعد أن ورثنا القوم الظالمين المهلكين وسكنّا مساكنهم ولم نتعظ بما حلّ بهم :( أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ). ثم يؤكّد رب العزّة الهدف من قص قصص تلك القرى المهلكة حتى نتعظ : (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ )( الأعراف 96 : 101 )

2 ـ ومثل سورة الأعراف كررت سورة هود نفس القصص لنفس الأنبياء والأمم المهلكة . ثمّ فى التعليق على قصصهم يقول ربّ العزّة يعظنا :( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ) . أى من هذه القرى ما لاتزال أطلاله باقية ، ومنها ما اندرست وزالت معالمه . وفى كل الأحوال هم الذين ظلموا أنفسهم ، وفى كل الأحوال فإن أئمتهم وآلهتهم المقدسة التى كانوا يطلبون منها المدد ويستغيثون لدفع الضرر لم تغن عنهم شيئا ، ولم تنقذهم من الهلاك ،بل زادتهم ضلالا وخسارا : (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ )، وهذه هى طبيعة الاهلاك الالهى للقرى الظالمة فى كل زمان ومكان ، فهو إهلاك قاس أليم شديد: ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) . والعبرة هى ما يتبقى لنا من هذا القصص حتى ننجو من الهلاك فى الدنيا ومن العذاب يوم القيامة الذى إقترب :( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ )(هود 100 : 104 ). بعدها يضع رب العزّة لنا سبيل الاصلاح والافلات من الهلاك ، وهو الدعوة بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ينهض بها مصلحون ، لو فعل هذا مصلحون فى معظم الأمم السابقة لنجوا من الهلاك ، ولكن الأغلبية الصامتة إتبعت المترفين المجرمين ، فالله جلّ وعلا لا يمكن أن يهلك القرية الصالحة المصلحة :( فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ  ) ( هود 116 : 117 ). هنا نضع ايدينا على العلاج الذى يقى من الهلاك ، وهو موضوعنا ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) أو ( الاصلاح ) أو تفعيل المجتمع ليتواصى بالحق والعدل فينجو .

رابعا : التحذير الضمنى بوقائع معينة فى تاريخ بنى اسرائيل ، حيث تكرّر كثيرا قصص بنى إسرائيل ومحنتهم مع فرعون ، ومواقفهم مع الأنبياء . ونقتصر منه على موضوعنا فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، والأغلبية الصامتة السلبية الساكنة الراضية بالظلم . بسبب القهر الزائد الذى تعرّض له بنو اسرائيل وهلعهم ورعبهم من فرعون فإنهم لم يؤمنوا ( لموسى ) ، أى لم يثقوا به . آمنوا (به ) رسولا ، ولكن لم يؤمنوا ( له ) أى لم يثقوا به ولم يطمئنوا له خوفا من فرعون وإسرافه فى التعذيب : (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ )(يونس 83 ). هذا الجيل الذى عاش وتنفّس الخوف والهلع رأى هلاك فرعون ورأى الآيات الالهية التى اعطاها الله جل وعلا لموسى ، بعصاه التى فجّرت اثنتاعشرة عينا ، وتمتعوا بالمنّ والسلوى ، ومع كل هذا فقد ظلوا على سلبيتهم وخوفهم الذى تمكن من قلوبهم بسبب فرعون حتى بعد هلاك فرعون ورؤيتهم لجسده الغريق تقذفه أمواج البحر ليكون لهم آية ( يونس 92 ). جاءهم الاختبار فى دخول الأرض المقدسة التى كتبها الله جلّ وعلا لهم فتقاعسوا وطلبوا أن يقوم بالمهمة عنهم موسى ورب موسى :( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ  يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلانِ مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ   قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) . كانت النتيجة هى الحكم عليهم بأربعين سنة فى التيه حتى ينقرض هذا الجيل المتهالك ، ويأتى جيل جديد يعرف المعاناة والشدائد :( قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ )( المائدة 20 : 26 ). أى هنا إهلاك ( رقيق ) لجيل ينتمى للأغلبية الصامتة الساكنة السلبية ، لأنه لا فائدة فيه . ومنه نأخذ العبرة بأن الجيل السلبى لا فائدة فيه ، حتى مع عدم وجود ظلم يقع عليهم . فأولئك كانوا يعيشون مع موسى وهارون بعد فرعون متمتعين بالعدل والخير ، ولكن إستمروا فى سلبيتهم كما كانوا فى نفس السلبية وقت فرعون . وبالتالى فإنّ وجودهم عديم الفائدة. بعدها دخل بنو اسرائيل فى عصر جديد أقاموا فيه المدن واستقروا فى دولة،فدخل بعضهم فى إختبار جديد . يقول جل وعلا يخاطب خاتم النبيين يأمره أن يسأل بنى اسرائيل فى عهده عن تلك القرية الساحلية التى إحتالت على تحريم السبت وتحريم الصيد فى هذا اليوم بأن كانت تخدع السمك بالحيلة يوم الجمعة بأن تفتح له ممرا يدخل فيه ولا يخرج منه ، لأنه كان فى يوم السبت يظهر لهم جماعات كأنه يغريهم بصيده فى ذلك اليوم الحرام . فإذا مضى يوم السبت كان فى قبضتهم يوم الأحد . هم الذين حرّموا السبت على أنفسهم فجعله الله جلّ وعلا محرما عليهم عقوبة لهم فى الاعتداء على حق الله جل وعلا فى التشريع ( النحل 114 : 118 ) ( الأنعام  146) . وفى تلك القرية الاسرائلية الساحلية نقرأ قوله جل وعلا :( وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ )( الاعراف 163 : 166). هنا نرى ثلاثة مواقف : الأول موقف الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن السّوء ، وقد نجوا : (أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ  ). الثانى موقف الذين يلومون من ينهى عن المنكر ويأمر بالمعرف على أساس أنه لا فائدة ، وهذه هى الأغلبية الصامتة اللائمون  الذين لا ينطقون إلا فى الضلال ومدح الظالم . وقد تعرضوا الى عذاب بئيس باعتبارهم شركاء للظالمين بسكوتهم عن الظلم ولومهم للمنكرين على الظلم  (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ). فالذين ظلموا هم الظالمون والساكتون عليهم .وقد أدمنوا العصيان ، لذلك لم يفلح معهم العذاب الذى نزل بهم ، فإزدادوا عتوا وفسقا وظلما ، لذا مسخهم الله جل وعلا قردة وخنازير .!!: (فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) ، واصبحوا عبرة لمن جاء بعدهم من بنى اسرائيل وغيرهم . لذا جاء التذكير بهم فى معرض العظة لأهل الكتاب :(  وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ) ( البقرة 65 : 66 )،( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ )(المائدة 59: 60 ) ،  وهو تحذير للمسلمين من أصحاب الديانات الأرضية ، وهم قد نقلوا التراث الذى كان لأسلافهم من أهل الكتاب ، أو ما يسمّى بالاسرائيليات .  وقد أصبحت أساس ديانات المسلمين الأرضية.

 

 

 

الباب الخامس  :  غياب الأمر بالمعروف والنهى يعنى الاهلاك 

 الفصل الرابع   خطوات ومعالم الاهلاك الكامل

 أولا  :  خطوات ما قبل التدمير :

1 ـ تستحق القرية الظالمة الاهلاك برفضها الاصلاح ، سواء من المترفين الظالمين أو الأغلبية الصامتة المستكينة للظلم والمتشبعة بثقافة العبيد .  وكان هذا الاهلاك عاما فى تلك القرى فى العهد القديم .

فى تاريخ الأنبياء السابقين كان  يبدأ العدّ التنازلى للإهلاك بخطوات تحذيرية لو إنتبهوا لها وأسرعوا بالاصلاح نجوا من الهلاك ، وإلّا فالهلاك قادم اليهم وهم مسرعون اليه . الخطوة الأولى تكون بالمصائب على أمل أن يتوبوا ويئوبوا الى الله ويتضرعوا . وهذا إختبار بالطبع . ثم يليه إختبار النعمة بعد إبتلاء النقمة . ولو فشلوا فيه واغتروا حلّ بهم الهلاك بغتة ، يقول جلّ وعلا عن الأمم السابقة فى قصص الأنبياء :(  وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ)( الأعراف 94 : 95 ). وتكرّر هذا فى قوله جلّ وعلا : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، فالخطوة الأولى هى المصائب من البؤس والضرّ حتى يتضرعوا ويتوبوا . ولكنّهم قست قلوبهم ورفضوا التوبة ، فتأتى المرحلة التالية وهى إختبار النعمة فيفرحون وبها يغترّون ، وعندها يحلّ بهم الهلاك فجأة ، فيقطع دابرهم ، أو بالتعبير القرآنى بالغ الدلالة : (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ).  

2 ـ ونعطى مثالا من قصة موسى وفرعون . أرسل الله جلّ وعلا موسى لفرعون فاستهزأ به فرعون : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ  فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ ) ورفض الآيات المعجزة التى أتى بها موسى : ( وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا ) فجاءهم العذاب والبأساء والضراء حتى يؤمنوا  :( وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ  )، فاستغاثوا بموسى  (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ) فكشف الله جل وعلا عنهم العذاب ، ولكنهم عادوا للعناد والكفر ونكث العهد :( فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ  ) بل تطرّف فرعون فاستهزأ بموسى فى مؤتمر علنى حشد فيه قومه وجنده :( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ  أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ  )، وهلّل له أتباعه من الأغلبية الصامتة المطيعة التى عادة ما يستخف بها كل فرعون ويشاركونه الظلم والعصيان : ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ  ) فكانت النتيجة هلاك فرعون وجنده وقومه المهللين له ( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ )، ومن وقتها أصبح فرعون مثلا لكل مستبد يهلك نفسه وقومه ( فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ ) ( الزخرف  46 : 56 ). تكرر هذا بالتفصيل فى ( سورة الأعراف :130 ـ 136 ): ( وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ ).

 ثانيا : وصف التدمير

1 ـ يقول جل وعلا عن موقف القرية الظالمةحين يقع عليها التدمير يصف مشاعر المترفين وقتها : ( وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ )( الانبياء 11 : 15 )، ويقول جلّ وعلا عن الاهلاك الكامل : (  فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) ( العنكبوت 40  )، فالاهلاك يأتى بسبب ذنوب الطغاة العصاة وجرائمهم وظلمهم والسكوت عن ظلمهم . وتنوع الاهلاك  من تدمير آت من الفضاء ، أو أنفجار صاعق ، أو خسف فى الأرض ، أو غرق .

2 ـ ومن تدبر الآيات التى تحدثت عن اهلاك الأمم السابقة يتضح الآتى :

2/1 : تدمير عاد وثمود بصاعقة، والله جل وعلا يهدد قريش بمثلها (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ) ( فصلت 13 ). والصاعقة هى انفجار لا نعرف نوعيته بالتحديد ، ولكن نتعرف على بعض مظاهره وآثاره تأثيره . وهنا يأتى الاختلاف بين صاعقة عاد وصاعقة ثمود .

2/ 2 : الصاعقة التى أهلكت قوم عاد أثارت رياحا هائلة ، وصل تأثير أصواتها الى الآذان : ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ) ( فصلت  16)، وهذه الرياح دمرت كل شىء كانت تمرّ عليه فتتركه رميما :( وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ) ( الذاريات 41 : 42 ). وقد بدأت الرياح سحبا أخذت تتجمع فظنوها سحب أمطار فاستبشروا بها ، ولكنها كان رياحا مهلكة لا تبقى ولا تذر: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ  ) ( الاحقاف 24 : 25 )، إى أهلكتهم وأبقت مساكنهم يمكن رؤيتها بعد موتهم . وظلت الرياح تضربهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما ، وتركتهم موتى جثثا فى البيوت وفى الشوارع كأعجاز نخل خاوية.وانمحى أثرهم:(  وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ   ) ( الحاقة  6 : 8 ).

2/ 3 : أما الصاعقة التى أهلكت قوم ثمود فقد أحدثت (صيحة ورجفة  )، والصيحة تعنى إنفجارا مدويا هائل الصوت بحيث يدمّر من يسمعه ، ويجعله يرتجف فاقدا التوازن الى أن يموت بعد عذاب وإذلال : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ )( فصلت 17 ). جاءتهم صاعقة الانفجار فى الصباح مصحوبة بصوت هائل وهم فى بيوتهم المنحوتة فى الجبال فما أغنت عنهم بيوتهم الجبلية المحصّنة الآمنة شيئا :  (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ) ( الحجر 80 : 83 ). تمتعوا ببوتهم الصخرية فى أحضان الجبال الى حين ، ولكن الصاعقة فاجأتهم فى داخل حصونهم فما استطاعوا القيام من أماكنهم : (  وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ )( الذاريات 43 ـ  45) فظلوا يرتجفون حتى ماتوا جاثمين فى أماكنهم: ( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ  ) ( الاعراف 78 ) ( وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) ( هود 65 : 67 ) . طغت الصيحة أو الانفجار أو صوته فدمّر عصاة ثمود فى مخابئهم الصخرية ، لذا جاء وصف الصيحة بالطاغية،أى التى طغت على الصخر فاخترقته:( فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ )(الحاقة5). تآمر قوم ثمود وعقروا الناقة وكذّبوا النبى صالح عليه السلام ومكروا  به ، فدمرهم الله جلّ وعلا ، وبقيت بيوتهم عبرة:(وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (النمل 50 ـ ).

2/ 4 : نفس الاهلاك حدث لقوم مدين بعد تكذيبهم النبى شعيب عليه السلام. كان صيحة إنفجار بصوت هائل ارتجفوا منه وماتوا .فقيل عنهم مثلما يل عن ثمود :( وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ )( هود 94 )،( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ )( العنكبوت:37 )(الاعراف 91 ) . ولكن تميّزت صيحة أو إنفجار قوم مدين بانتشار غبار كثيف غمر وطمر ولفّ مدينة مدين لمدة يوم كامل ، أو هو (يوم الظّلة ) ، فكان هلاكا مرتبطا بعذاب هائل : (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ )( الشعراء 189 ). قد يكون نفس الانفجار الذى أهلك قوم ثمود ، ولكن إختلف المظهر باختلاف نوعية المساكن. فقوم ثمود سكنوا فى بيوت صخرية منحوتة فى الجبل فلم يدمرها الانفجار ولكنه  دمر السكان داخلها. أما قوم مدين فقد عاشوا فى مدينة تجارية على طريق القوافل مبنية كالمعتاد وقتها ، فدمّر الانفجار بيوتها وأحالها الى غبار هائل ظلل موقع المدينة .

2 / 5 :  فى الأحوال السابقة فإن كل تلك الانفجارات قتلت فقط الكفّار ، ولم تمسّ المؤمنين. يقول جلّ وعلا عن عاد قوم هود عليه السلام : (فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ) ( الاعراف 72 ). .، أى أنجتهم رحمة الله من الانفجار الذى وقع وهم شهود عليه وهم فى نفس موقع الانفجار . ويقول عن صالح (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ )( هود 66: 67 ). رأى صالح مصرع قومه ، ووقف حزينا يشاهد جثثهم ويخاطبهم : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ) ( الاعراف 79 ) ونفس الحال مع النبى شعيب : (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ )( هود 94 : 95 )، شهد شعيب مصرع قومه ووقف أيضا يتحسّر عليهم : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ )(الاعراف 93 ).

2/ 6 : ومن هنا يختلف هذا الانفجار عن الانفجار الذى أهلك قوم لوط ، والذى إستلزم تهجير المؤمنين حتى لا يصيبهم الانفجار الذى سيبيد قوم لوط المعاندين . ربما كان الانفجار الذى أهلك عاد وثمود ومدين نوعا من الاشعاع الناتج عن تفجير ذرى يهلك البشر دون تدمير البيوت . وربما كان الانفجار الذى حدث لقوم لوط نوعا من التفجير الذرى الذى يدّمر المكان والانسان . هو إنفجار أمطر قوم لوط  بقنابل حجرية ملتهبة تم إعدادها من طين . ونتتبعها كالآتى : حين انفجرت كانت ( صيحة ) من جهة الشرق:( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ )(الحجر 73 )،وأعقبها مطر : (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا )( الاعراف 84 )( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ)( الشعراء  173)،ليس مطرا من ماء ، بل قنابل أصلها من طين ثم تم تصنيعها لتكون حجارة ملتهبة (  لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) ( الذاريات 32 ـ )، وهى حجارة موصوفة بأنها ( رجز ) أى تورث المرض والهلاك :( إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء )(العنكبوت 34 )، وأنها من سجيل، أى ما يشبه اللافا أو الماجما الملتهبة التى تخرج من البراكين:  ( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ) ( الحجر 74 )وهو سجيل منضود منظّم مصنّع مهندس ( بفتح الدال ) :( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ )(هود 82 ). كان  الاتفجار فى الصباح الباكر ، وقبله تم تهريب وإجلاء المؤمنين قبل تدمير القوم : ( فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ) ( الذاريات 32 ـ ) . وجاءت التعليمات للمؤمنين بطريقة خروجهم ، أن يخرجوا ليلا قبل موعد الهلاك فى الصباح ، الى مكان محدد آمن وبعيد عن الضرر الحادث من الانفجار ، وألا يلتفت منهم أحد خلفه حتى لا يصيبه إشعاع التدمير بالعمى وتشويه الوجه ، وأن يزحفوا فى سيرهم بحيث يكون بعضهم خلف بعض لتفادى الاشعاعات المهلكة الناتجة من التفجير الذى جعل مساكن القوم أعاليها سافلها : ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ )(هود81 : 83)( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ )(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ) ( الحجر 65: 66  ـ 73 : 76 )

ثالثا : أطلال وآثار ما بعد التدمير

1 ـ ولا تزال أطلال سدوم وعمورة  باقية عبرة لمن يعتبر بما حدث لقوم لوط ، وهم أشهر وأول من أدمن الشذوذ الجنسى ، والذين قال لهم نبيهم لوط : (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ ) ( العنكبوت 28 ) .ومع استفاضة رب العزة فى تفصيل قصة قوم لوط ، ولعنهم إلإ إن المسلمين إبتداءا من العصر العباسى قد عرفوا وأدمنوا الشذوذ الجنسى ، واشتهر بهذا بعض الخلفاء والسلاطين ، بل تخصّص الصوفية فى إعتباره ضمن شعائرهم الدينية فيما يعرف بالشاهد . واشتهرت به قصور السلاطين العثمانيين  وساد العصر العثمانى. ومن المسلمين انتقل الى أوربا أخيرا . والطريف أن رفاعة الطهطاوى حين ذهب الى فرنسا كان يتغزل فى الشباب الأمرد كعادة الشعراء ، وكان يتعجب من عدم وجود الشذوذ الجنسى هناك .وسنعرض لهذا فى مقال عن كتابه ( تخليص الابريز فى تلخيص باريز ). وحاليا فالشذوذ منتشر بلا نكير فى أوربا وأوساط الوهابيين وغيرهم . هذا ، مع أن رب العزّة يؤكّد ترك أطلال قريتى سدوم وعمورة ( قوم لوط ) لتكون عبرة للذين يخافون العذاب الأليم ، الذين يعقلون والذين يتوسمون : ( وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ) ( الذاريات  37 ) ( وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )(العنكبوت : 35 )( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ  ) ( الحجر: 76 ). ولكن أين هم فى عالم المسلمين أصحاب الديانات الأرضية ؟ ، ومع ذلك فهم يجعلون أنفسهم خير أمّة أخرجت للناس .؟

2ـ و كانت أطلال قوم لوط  باقية على طريق القوافل فى عهد خاتم النبيين عليهم جميعا السلام. يقول جلّ وعلا لقريش عن أطلال قوم لوط بعد تدميرهم : ( وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( الصافات 137 : 138 ). وكانت قريش فى رحلاتها التجارية بين الشام واليمن تمر على آثار قوم عاد وقوم ثمود. فقال جل وعلا لهم  يدعوهم للإعتبار:( أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى ) ( طه 128 ).

3 ـ بل أمرنا رب العزّة بالسير فى الأرض ومعاينة آثار الأمم السابقة التى تعرضت للهلاك لنتعظ ونستفيد ، يقول جل وعلا (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ  ) ( آل عمران 137 : 138 ) (قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)( الانعام 11 )( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ )( يوسف 109 ) (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) ( النحل 36 ) (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) ( الحج 46 )(  قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) ( النمل 79 )( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا )( فاطر 44 )( أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ) (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(غافر 21 ، 82 )( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا )( محمد 10 )(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ ) ( الروم 9 ، 42  ).

4 ـ جئنا بهذه الآيات لتوضيح التناقض بين الاسلام والدين السّنى الوهابى بالذات . فهم يكفرون ـ بهذا الصدد ـ بتلك الآيات الكريمة ، ويؤمنون بحديث ينهى عن مشاهدة تلك الأطلال والآثار . ومن عجب أن مدائن عاد وثمود مدفونة تحت رمال الجزيرة العربية فى المملكة السعودية ، وتكاد تفصح عنها صور الفضاء وأجهزة المركبات الفضائية ، وهو نصر للاسلام عظيم لو أمكن الكشف عنها ومطابقة تلك الأطلال بما جاء فى وصفها فى القرآن الكريم . ولكن إيمان الوهابية بهذا الحديث يمنعهم من ذلك ، ومن أجله يكفرون بالقرآن ويتجاهلون فريضة اسلامية قرآنية نزلت فيها هذه الآيات الكريمة .

5 ـ تخيلوا لو كشفنا عن أطلال قوم عاد، وتدبرنا ما قاله لهم نبيهم هود  عن رفاهية قومه وتقدمهم العلمى فى هذا العصر السحيق : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ  ) ( الشعراء 128 : 135 ) وتذكرنا قوله جل وعلا عن العظمة المعمارية لقومى عاد وثمود (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ )(الفجر 6 :9 ). ونتذكر ما قاله النبى صالح عليه السلام يعظ قومه ورفاهية قومه وتقدمهم العلمى : (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ) (الشعراء 146 : 152)، وما قاله رب العزة عن بيوتهم بعد هلاكهم : ( فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(النمل 51 ـ ).

6 ـ ولكن كيف ننظر وكيف نتّعظ إذا كان الدين السّنى يحرّم رؤية هذه الآثار ؟ هذا قصص لم يأت ذكره فى التوراة ولا فى الكتب الأخرى لأهل الكتاب . إنفرد القرآن الكريم بذكرهم ، بعد أن انتهى العلم بهم . هى أمم بائدة لم يبق منهم نسل ولا ذرية ، ولا بقية:(  فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ )( الحاقة  8 )( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى )(النجم  50: 51). لم يبق منهم أحد ، ولكن بقيت آثارهم للتحذير والعظة والتذكير . ولكن السنيين وغيرهم يسيرون على سنّة أولئك القوم الهالكين ، لذا لا يريدون التفكّر في عاقبتهم ، وهم مثلهم يكرهون الناصحين المصلحين المنذرين . ولنتذكّر النبى صالح عليه السلام بعد مصرع قومه ، وهو يقف حزينا يشاهد جثثهم ويخاطبهم : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ) ( الاعراف 79 ). ونخشى أن يتكرر الهلاك ونقول لقومنا (وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ).

 

 

الباب الخامس  :  غياب الأمر بالمعروف والنهى يعنى الاهلاك 

 الفصل الخامس :  بين الاهلاك الكلى والاهلاك الجزئى   

 

من إلاهلاك الى التعذيب  

1 ـ  كان الاهلاك عاما فى تلك القرى فى العهد القديم . ثم إنتهى عهد الاهلاك العام الذى كان يمحو القرية الظالمة كلها ، أو المجتمع كله ولا ينجو إلّا المتقون. جاء البديل بإهلاك جزئى،أو بتعبير القرآن ( تعذيب ) . ومن هنا يأتى الحكم الالهى العام باهلاك ( أو) بتعذيب كل قرية قبل قيام الساعة:( وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ). ( الاسراء : 58 ).

فرعون وقومه والاهلاك الجزئى

1 ـ على أن هذا التغيير من الاهلاك الكلى الى الاهلاك الجزئى حدث بالتدريج . وكانت البداية فى إهلاك فرعون وقومه فقط دون بقية المصريين . حسب توصيف القرآن الكريم  هناك فرعون وجنده وآله وقومه فى ناحية ، وهناك فى الناحية الأخرى (أهل مصر ) ، أو ( اهل الأرض ) وهم الفلاحون العاملون فى الأرض المرتبطون بها الذين لا يعرفون غيرها ولا يهتمون بغيرها ، ثم التجار والحرفيون ، وكان منهم من وفد لمصر من الخارج وتمصروا وصاروا من أهلها مثل العبرانيين الاسرائيليين فى ذلك الوقت ، ثم فيما جاء  الشوام واليونانيون والايطاليون وغيرهم، وقت أن كانت مصر تستقبل الهجرات .

يقول جل وعلا : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) (القصص 4 : 6 ). فرعون علا فى (ارض ) مصر ، إمتلك أرض مصر الزراعية ونيلها بأنهاره التى تعددت وقتها ، وأعلن ملكيته لمصر متفاخرا يخاطب قومه:( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ )( الزخرف 51 ).قوم فرعون هنا هم الذين حشدهم فى مؤتمره ، وليسوا كل سكان مصر وأهلها . قوم فرعون هم فقط ملأ فرعون بدرجاتهم المتدرجة عسكريا وكهنوتيا ووظيفيا ، لذا يأتى لفظ ( الملأ ) بصيغة فريدة فى القرآن تعبّر عن تضخّم هذا الملأ من قوم فرعون ونفوذهم وتسلطهم على بنى اسرائيل (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ  )( يونس 83 ) ، فهم ليسوا مجرد ( ملأ ) مثل ملأ قوم نوح أو قوم عاد أو قوم ثمود ، بل طبقة ضخمة ، أو ( قوم ) فى حد ذاتهم ، يعيشون فى انفصال وانفصام عن بقية أهل مصر، وقام فرعون بتقسيم أهل مصر (  وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ) وإضطهد بنى إسرائيل الذين كانوا من قبل مقربين من الهكسوس: (يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) . قوم فرعون هؤلاء لا شأن لهم بأهل مصر ، فأهل مصر أو أهل الأرض وقتها كانوا قسمين : أقلية وافدة كانت عزيزة ثم ذلّت وهبطت الى حضيض المصريين الفلاحين ، مع أنها عاشت وتمصرت وهم بنواسرائيل ،والقسم الآخر هم الفلاحون وبقية الشعب من بقية أهل مصر ، الذين كانوا ربما يشهدون أو يسمعون ما يحدث لبنى اسرائيل من ذبح للأطفال واسترقاق للنساء فيزداد هلعهم من الفرعون . لا يستطيع الفلاح المصرى الهرب ، ليس فقط لارتباطه بالأرض ، ولكن لأنه ليس مسموحا للفلاح المصرى بالهرب ، وهو قانون ظل معمولا به فى مصر حتى العصر العثمانى. ثم إن هذا الفلاح المصرى ـ رقيق الأرض ـ لا يستطيع مواجهة الآلة العسكرية لفرعون الذى كان القائد العسكرى والحاكم المركزى الذى تتجمع فيه كل السلطات حتى أصبح الاها حسبما ساد فى عصر الرعامسة . إذن تجمع الخطأ والخطيئة فى جانب واحد يحتكر القوة والسلطة والثروة،أو حسب تعبير رب العزّة عن فرعون : ( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ ).

2ـ كان مستحيلا مواجهة طغيان فرعون بأى مقاومة بشرية ، أى كان لا بد من تدخل الاهى يجعل فرعون نفسه يتبنى موسى ليكون له عدوا وحزنا كما قال رب العزة : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ )( القصص 7 : 8 ) . التخطيط الالهى هو اهلاك جزئى لفرعون وآله وقومه وجنده دون بقية المصريين ،وأن يرث  المستضعفون المضطهدون من بنى اسرائيل ملك فرعون وقومه وثروته: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ ). أى هو من البداية إهلاك جزئى يقع على الظالمين فى مكان بعيد عن أرض مصر الزراعية ، يقول جل وعلا : (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)(القصص 39 : 40).هلك فرعون وجنده ودمّر الله جل وعلا منشئاته وقصوره وورثهم بنواسرائيل المستضعفون: ( فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ )( الاعراف  136 : 137 ). 

بمجرد ترك فرعون وجنده أرض مصر المزروعة فقد ملكيته عليها لأنها كانت ملكية بالغصب والقهر ، ثم تأكّد هذا بموته وجنده ، فورثها من بعده بنو اسرائيل :( كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ )(الدخان 25 : 28 )( فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الشعراء 57 : 59 ). تدمرت مؤسسات فرعون العسكرية والأمنية وقصوره المترفة ومعابده،بل وذلك الصرح الذى كان يريد أن يصعد اليه ليرى رب موسى.!( وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ)(الاعراف 137 ).  ولكن بقيت المروج والجنات والزروع والمقام الكريم أى الأطيان الزراعية، وبقاؤها يعنى بقاء القائمين عليها أى بقاء الفلاح المصرى ، ملح الأرض الملتصق بها ( قبل أن يعرف الهجرة للأردن والخليج !! ).

3 ـ هلاك فرعون موسى هو نقطة فاصلة فى تاريخ الرسالات السماوية والاهلاك الالهى للظالمين . يقول جلّ وعلا فى ختام قصة فرعون :( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( القصص 40 : 43 ): يعنينا هنا حقيقتان : الأولى : إمامة فرعون وقومه لكل الظالمين المجرمين من بعده الى قيام الساعة:( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)، ولذلك يوصف المشركون اللاحقون بأنهم يسيرون على سنّة فرعون وعلى خطاه وعلى دأبه: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(آل عمران 10 :11)(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ) (الأنفال 52 : 54 ).أى يسيرون على دأبه فيهلكون مثله ذلك (الهلاك الجزئى ) الذى يصيب الظالم وقومه . الحقيقة الثانية هى نزول التوراة كتابا سماويا فارقا عما سبقه بعد إهلاك الأمم السابقة التى انمحت تماما .

 بين الاهلاك العام أو الجزئى وبين نزول معجزة حسّية

1 ـ قلنا إن الاهلاك مرتبط بوجود آية أو معجزة للتحدى ، إن جاءت الآية ولم يؤمن القوم بعدها فالهلاك هو العقوبة ، كما حدث لقوم ثمود وقوم فرعون . وبعد هلاك فرعون وقومه بقليل حدث إنذار بهلاد جزئى لبنى اسرائيل حين طلبوا أن يروا الله جلّ وعلا جهرة ، فأخذتهم الصاعقة ، ثم أحياهم الله كى يعتبروا :( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )( البقرة 55 ، 56 )، السبب أنهم طلبوا آية حسية هى رؤية الله جل وعلا جهرا ،أى لم يكتفوا بكل ما رأوه من آيات ومعجزات موسى عليه السلام  وما حدث لفرعون . فكانت الصاعقة تنبيها لهم وتحذيرا . وفى عهد خاتم المرسلين ، عليهم جميعا السلام ـ طلب أهل الكتاب منه آية حسية ولم يكتفوا بالقرآن ، فقال جلّ وعلا يذكّرهم بما حدث لأسلافهم:( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا )( النساء 153 ).

2 ـ وجاء عيسى عليه السلام بمعجزات حسّية شتى لبنى اسرائيل ، فلم يكتف الحواريون بها وطلبوا أن تنزل عليهم مائدة من السماء، وألحّوا فى الطلب، وكان طلبهم بأسلوب سىء وفى صيغة غير مهذّبة :( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء)، سألوا عن إستطاعة رب العزّة إنزال مائدة من السماء ، كأن رب العزة لا يستطيع!!، ولم يقولوا ( ربنا ) بل قالوا (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ).!!، وردّ عليهم عيسى يأمرهم بالتقوى إن كانوا فعلا مؤمنين : ( قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ، فألحّوا فى الطلب وعلّلوه وسوّغوه:( قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ) فدعا عيسى ربه جلّ وعلا أن يستجيب لهم  (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ، ولأنهم يطلبون آية حسّية يرتبط إنزالها بالعذاب أو الاهلاك الجزئى عند عدم الايمان فقد قال الله جل وعلا لهم محذّرا ومتوعّدا: (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ )(المائدة112 : 115 ).هنا تحذير لهم بعذاب غير مسبوق إن كفروا بعد إنزال المائدة .

مع اليمن و( سبأ ):

1 ـ اليمنيون القدماء أصحاب حضارة إبتدعوها من بين الصخور معتمدين على الأمطار وتخزينها ، متميزين بذلك على بقية الحضارات التى نشأت فى أحضان الأنهار فى مصر والرافدين والهند والصين .   والعادة أن القصص القرآنى لا يذكر تاريخ كل الأنبياء ، ولم يذكر أسماءهم كلهم أو عددهم، وحتى فى القصص الموجود لا يذكر كل التفصيلات التى حدثت ، ولكن نستنتج سريان قواعد الاهلاك والتعذيب التى جاءت فى القرآن على الجميع .

2 ـ بالنسبة لليمن القديم جاءت إشارة لبعض الأسرات الحاكمة وهم التبايعة فى قوله جل وعلا :  (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ) ( ق 12 : 14 )، ونستنتج وقوع هلاك لقوم تبّع طالما تمّ إلحاقهم بمن سبقهم فى الهلاك . ووردت بعض تفصيلات لمملكة سبأ وملكة سبأ فى سورة ( النمل ) والتى نجت بقومها وضربت مثلا أعلى للحاكم الحكيم الحريص على قومه . ولهذا فلا موضع لها فى حديثنا عن الهلاك.

3 ـ وفى سورة ( سبأ ) جاءت بعض تفصيلات أخرى عن مملكة سبأ وعن هلاك جزئى تعرضت له ، يقول جل وعلا : ( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (  سبأ 15 : ـ  ). ومن تدبر الآيات الكريمة نفهم أن أهل سبأ عاشوا فى جنّات رائعة ، ولكن لم يشكروا النعمة وأعرضوا عن إنذار المنذرين ونصح الناصحين فسلّط الله جلّ وعلا سيل العرم فى إهلاك جزئى ترتب عليهم تدمير الجنات الرائعة واستبدالها بنباتات صحراوية فقيرة هزيلة . وبعد أن كانت المواصلات آمنة بين مدنهم انتهى بهم الحال بعد سيل العرم الى الهجرة وتمزيق ملكهم ، وهلاك معظمهم ونجاة فريق من المؤمنين . ومعروف فى تاريخ اليمن أنه بعد انهيار سدّ مأرب هاجرت قبائل من اليمن وحملت معها حضارتها ، ومنها من أقام فى يثرب ( الأوس والخزرج ) ومنهم من اقام بين الاردن وسوريا وأقام مملكة تدمر ، ومنهم من أقام مملكة الغساسنة جنوب الشام متحالفا مع البيزنطيين ، ومنهم المناذرة أصحاب مملكة فى جنوب العراق التى تعاونت مع الفرس . ومنهم قبائل أخرى مثل كلب التى تحكمت فى طريق القوافل الى سوريا وتحالفت مع الأمويين قبل وبعد نزول القرآن .

4 ـ ويحكى تاريخ اليمن سيطرة الفرس عليهم ، ودخول اليهودية ثم المسيحية ، والسائد فى التراث أن أصحاب الأخدود وإحراقهم قد حدث فى اليمن ، يقول جل وعلا : ( وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ). ولم يرد فى الآيات الكريمة ما يقطع بالمكان أو الزمان ، بل حتى لم يرد وقوع الاهلاك على الظالمين والانتقام منهم ، بل هناك إشارة الى إحتمال توبتهم بعدها : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ  ). ومعروف أنه إذا تاب القوم أو توقفوا عن الظلمقبلها فقد نجوا من الاهلاك . وهذا ما ذكره رب العزة عن قوم يونس ، الذين تابوا فنجوا من الهلاك التاموكان على وشك أن يدمرهم: (( فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) ( يونس 98)(فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ )( الصافات 148 ). والطريف أن فرعون آمن وهو يغرق فما نفعه إيمانه:( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) فقيل له : (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ)( يونس 90 : 92 ).

5 ـ نفس الوضع فى قصة أولئك المهلكين ( بفتح اللام ) فى سورة الفيل : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ ). السائد فى التراث أنه ابرهة الحبشى الذى كان يحكم اليمن والذى أراد هدم الكعبة ، وسار الى مكة بجيش وقابل عبد المطّلب ..الخ.وتنهى القصة بهلاك ابرهة وجنده وفيله الضخم بنفس ما جاء فى السورة ، وأن هذا أصبح ( عام الفيل ) الذى ولد فيه خاتم المرسلين حسبما يقولون . ولا نستطيع أن ننفى أو نؤكد هذه الروايات ، فليس هناك أى إشارة للمسجد الحرام فى السورة مع الحرص القرآنى على كل ما يخصّ الحرم البيت الحرام فى القصص وفى التشريع ، قبل وأثناء نزول القرآن الكريم . كما أنه لا يمكن القطع بأنهم قوم لوط بسبب التشابه الجزئى فى نوعية الهلاك ، لأن النسق القرآنى يربط قصة قوم لوط بما كانوا يرتكبونه وبذكر النبى لوط معهم ( قوم لوط ) ( إخوان لوط ) ، ثم لا مكان للفيل مطلقا فى هلاك قوم لوط ، ولا مكان للطيور التى كانت تحمل حجارة السجيل .

6 ـ نحن نجتهد من خلال النصوص القرآنية ، وليس لنا أن نتعداها الى الدخول فيما سكت عنه رب العزّة ، لأن المسكوت عنه غيب ، ولا يعلم الغيب إلا علّام الغيوب ، رب العزّة جل وعلا. 

 

 

الباب الخامس  :  غياب الأمر بالمعروف والنهى يعنى الاهلاك 

 الفصل السادس : الاهلاك الجزئى أو التعذيب لقريش مع نزول القرآن الكريم

  

بين الاهلاك الكلى والاهلاك الجزئى   

 خصوصية قريش

1 ـ بينما كانت تموج صحراء الجزيرة العربية بالغارات والسلب والنهب والصراع حول الكلأ وتعانى الحرمان وإنعدام الأمن تمتعت قريش بالأمن والرخاء بسب قيامها على البيت الحرام وعملها بالايلاف ورحلتى الشتاء والصيف : ( لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ). وبدلا من أن يشكروا بنعمة وجودهم حول البيت الحرام فقد كفروا بحجة البيت الحرام ، وخشوا على مكانتهم أن تهتز لدى العرب لو إتبعوا هدى الاسلام :( وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا )، وجاء الرّد بأن الله جلّ وعلا هو الذى جعل لهم هذا الحرم الآمن الذى تأتى اليه الثمرات والخيرات والأرزاق : ( أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )، ثم يذكّرهم رب العزة بالهلاك الذى حدث للقرى السابقة التى ظلمت ورفضت الرسل ، وأترفت وبطرت معيشتها :( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ) ( القصص 57 : 59 ).

2 ـ وتكرّر نفس الرد عليهم حين كفروا بنعمة القرآن وآمنوا بالباطل ، وكان مفترضا بهم أن يشكروا لمن أعاشهم فى أمن بينما يتعرض الناس حولهم للسلب والنهب والخطف : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ )، ولأنهم إحترفوا الكفر العلمى بإختراع وحى الاهى مزيف مثل ما يسمى بالحديث النبوى والحديث القدسى، يقول رب العزة فى الآية التالية عن أظلم الناس : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ ) ثم يقول جلّ وعلا عمّن يواجه هذا الزيف الباطل المفترى : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )(العنكبوت 67 ـ ).

3 ـ وأتاهم التحذير بضرب المثل الذى ينطبق عليهم تماما : ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) ( النحل  112 : 113) . فقريش كانت آمنة مطمئنة فى مكة حول الحرم ، يأتيها رزقها رغدا من رحلتى الشتاء والصيف وممّا يجلبه الحجاج ، ومما يربحه تجار قريش من رحلتى الشتاء والصيف ومن وفود الحجاج . عاشت قريش فى رغد ، وبدلا من الشكر لله جلّ وعلا المنعم فقد كفروا. هى قصة أو مثل ينطبق تماما على قريش خصوصا قوله جل وعلا فى نفس المثل : (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوه ) . يبقى العقاب الذى جاء فى المثل  ، وهو فى مرحلتين : الأولى الكفر بالنعمة بدل الشكر : (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ ) وكان العقاب : (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ )، والثانية : الكفر بالرسالة والرسول (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ  ) فعوقبوا بالعذاب  (فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) . جاء هذا المثل تهديدا صريحا لقريش ، فلم تتعظ به . بل إتخذوا سبيل العناد والجدال .

الاهلاك وطلب آية حسية

1ـ فى تعليل رفضهم للقرآن طلبوا آية حسّية عنادا : (وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ) ونزل الرفض بأنّ الله جلّ وعلا قادر على أن ينزل آية حسية ولكنهم لا يعلمون :( قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) مع إشارة الى حقيقة علمية تدل على إعجاز القرآن الذى يرفضونه: ( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) ، ومع توصيف لحالهم وضلالهم (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ  )( الأنعام 37 : 39 )، ثم جاء التحذير لهم  بوقوع العذاب بالهلاك الجزئى أو بقيام الساعة ، وأنهم عندها لن يجدوا غير الله جل وعلا يستغيثون به:( قُلْ أَرَأَيْتَكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ) ، وذكّرهم الله جلّ وعلا بما حدث للأمم السابقة وخطوات إهلاكها : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )، ثم عاد التحذير فى أسئلة للتذكير بحقائق لا مفرّ من التسليم فيها لله جل وعلا الذى يملك سمعنا وأبصارنا وعذابنا ونعيمنا :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ  ) ( الأنعام  40 : 49 )   

2 ـ وفى رفض طلبهم لآية حسية جاء التأكيد على الاكتفاء بالقرآن وحده : ( وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) وتأكد هذا بشهادة رب العزّة ذاته بأن القرآن كاف للمؤمن : ( قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) وكانوا أيضا يتعجّلون العذاب الفورى مع طلبهم الآية الحسية فجاءهم الجواب بأن العذاب الدنيوى له وقته وموعده وسيأتى لهم بغتة ، وأن العذاب فى الآخرة حتمى ينتظر أصحابه (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( العنكبوت 50 ـ  )

3 ـ وفى كراهيتهم للقرآن كانوا يصممون على تزول الاهلاك الكامل الذى حدث للسابقين ويجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق ، ساخرين من كلام الله ومن رسول الله معرضين عما فى القرآن من كل مثل : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا ) لذا وصفهم رب العزة بأنهم أظلم الناس وأبعد الناس عن الهداية  (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ) وأوضح أن لعذابهم موعدا ، كما كان هناك موعد لاهلاك السابقين (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلا وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا  ) ( الكهف 54  ـ ).

4 ـ فى استمرار طلبهم ىآية حسّية وعدم إجابة طلبهم كان النبى محمد عليه السلام يشعر بالحزن حرصا منه على هدايتهم فأكّد له رب العزّة انهم لا يطلبون الآية إلا عنادا ، وأنهم فى داخلهم لا يكذبون بالحق ، بل هم يجحدون الحق :( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ )  وأن هذا حدث فى تاريخ الأنبياء السابقين ولقد صبروا على التكذيب إلى أن جاءهم النصر ، وأنه لا مبدّل لكلام الله :( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ )، وأنه إذا استعظم إعراضهم وأراد أن يأتيهم بآية فليتصرف هو بنفسه ، يصعد الى السماء أو يهبط الى قاع الأرض ليحضر لهم آية معجزة :( وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) ( الأنعام 33 : 35 ). هذا بالنسبة لاستحالة نزول آية . ونفس الحال فى موضوع إنزال العذاب ، أمره جلّ وعلا أن يقول لهم أنه يعرف أنه على الحق ، وأنهم يكذّبون بهذا الحق عنادا ، وأنه  لا يملك تعذيبهم ، ولو كان يملكه ما تردد فى تعذيبهم حتى ينتهى الأمر بينه وبينهم : ( قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ )( الانعام 57 : 59 )

5 ـ وعن رفضهم الاستماع للقرآن الكريم واتهامه بأنه أساطير الأولين ، وانهم يستطيعون الاتيان بمثله يقول جل وعلا : (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ). ولأنهم يعبدون الله ويقدسون الأولياء يتخذونهم مجرد واسطة تقربهم الى الله جل وعلا زلفى ، فقد دعوا الله جل وعلا على أنفسهم أن يعذّبهم لو كان القرآن من عند الله حقا :( وإذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ). وجاء الجواب بأنه لن يقع عليهم عذاب طالما لم يخرجوا النبى من مكة،وطالما هم يستغفرون الله:( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ )، وأن التعذيب سيقع عليهم إذا هم صدّوا عن المسجد الحرام( وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )(الأنفال31 : 34 ). وهذا ما حدث فيما بعد ، إذ أخرجوا النبى محمدا عليه السلام ، وصدّوا المؤمنين القادمين من المدينة للحج الى البيت الحرام . عندها وقع عليهم العذاب فى مكة، وليس الاهلاك . يقول جل وعلا لخاتم النبيين عن قومه:( وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )،ثم يقول عن قومه:( وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنْ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ)، ثم تأتى إشارة الى العذاب الذى وقع فيهم:(وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ( وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ  ) ( حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ) ( المؤمنون  73 : 77).

أخيرا

1 ـ وفى النهاية ، فأولئك المعاندون من الملأ القرشى وخصوصا من الأمويين ما لبث أن دخلوا فى الاسلام قبيل موت النبى محمد عليه السلام ، وبعد موته إستغلوا الأعراب في الفتوحات ثم تقاتلوا فى الفتنة الكبرى ، وبها تمّ حكم المسلمين بالاستبداد . وبالفتنة الكبرى يعيش المسلمون إهلاكا جزئيا مستمرا حتى الآن . وهذا التعذيب أو الاهلاك الجزئى يأتى على نوعين : كوارث طبيعية وحروب أهلية:( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ )( الانعام 65 ). ولم يفقه المؤمنون حتى الآن . إذ يعانى مسلمو اليوم من الحروب الأهلية وكوارث الزلازل والبراكين و الفيضانات والمجاعات ..وبهذا تتصدر أخبارهم شاشات العالم ، ليس فى صفحات المجد ولكن فى صفحات الحوادث والجرائم والوفيات .

2.متى يعلنون وفاة العرب يا نزّار يا قبانى ؟؟!!

 

 

الباب الخامس  :  غياب الأمر بالمعروف والنهى يعنى الاهلاك 

 الفصل السابع   : الاهلاك الجزئى أو التعذيب للمسلمين بعد نزول القرآن الكريم  

 

أولا :تحذيرات متفرقة لنا بالاهلاك الجزئى أو التعذيب بعد نزول القرآن الكريم

 1 ـ القصص القرآنى عن اهلاك الأمم السابقة وقوانين الاهلاك لم تأت عبثا ـ تعالى الله جل وعلا ـ ولكن جاءت فى تحذيرنا ، نحن الأمم التى عاصرت نزول القرآن والأمم التى أتت وستأتى بعد نزول القرآن الى قيام الساعة . هذه الأمم تشترك فى سمة عامة وهى العالمية ، لم يعد العالم كما كان سابقا جزرا سكانية متباعدة منعزلة ، بل بدأ العالم يترابط منذ عصر الرسالة القرآنية الخاتمة ، وإزداد ترابطه بالكشوف الجغرافية والتقدم العلمى المضطرد الذى كشف مجاهل الكرة الأرضية بل إمتد يكتشف مجاهل المحيطات والفضاء الخارجى . هذه المرحلة من التطور البشرى تنذر مع نزول الرسالة الخاتمة باقتراب الساعة.

وهذا يعنى أن هذه المرحلة من تاريخ بنى آدم تعنى نوعين من الهلاك :

1 / 1 : الهلاك الجزئى بالتعذيب ، وقد بدأت بوادره بهلاك قوم فرعون وأصبحوا أئمة للهالكين من بعدهم الى قيام الساعة ، وهذا يعنى هلاكا لقوم تتحقق فيهم شروط الاهلاك دون قوم آخرين ، ربما يجاورونهم . وهو اهلاك بالتعذيب الذى لا يعنى فناء الجميع ، بل بعضهم . وهوإمّا بالكوارث وإما بالحروب الأهلية كما جاء فى قوله جلّ وعلا (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) ( الانعام 65 )، فقوله جلّ وعلا: (عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) يعنى الكوارث الطبيعية ، منها ما لا دخل للإنسان به مثل الزلازل والبراكين ، ومنها ما ينتج عن فساد الانسان وعبثه:( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )(الروم 41 )،أما قوله جلّ وعلا :(أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) فيعنى الحروب الأهلية الناتجة عن انقسام الأمة الى طوائف متحاربة. لكن لم يعد واردا ذلك الاهلاك العام للجميع والأتى بالتدخل الالهى المباشر الذى كان يحدث لقوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود .  

 1/ 2 : جاء بديلا له قيام الساعة بتدمير العالم وهلاك عام لآخر جيل بشرى ، وما يلى ذلك من خلق عالم جديد يشهد بعث البشر ولقاء الله جل وعلا يوم الحساب : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ  ) ( ابراهيم 48 ) وفى التحذير من هذا اليوم الذى اقترب بنزول القرآن يقول جل وعلا : (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ   لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) ( ابراهيم 49 : 52 )

2 ـ بالاضافة الى ذلك التحذير من اقتراب الساعة ونزول القرآن الكريم بيان تحذير وبلاغ إنذار فقد تكرر ضرب الأمثلة لنا ، ومنها قوله جل وعلا :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) .

يلاحظ هنا حقيقتان : الأولى إنطباق الآية على مسلمى عصرنا ، خصوصا فى دول المسلمين البترولية، فقد أوتيت نعمة مادية وهى الثروة فبدلتها كفرا ، وأوتيت نعمة معنوية هى القرآن فبدلتها أيضا كفرا وتمسكا بأديان أرضية . ولا شك أن الايات الكريمة كانت تنطبق أيضا على عصور ( إسلامية ) مضت ، من العصر العباسى الى العصر العثمانى . والحقيقة الثانية أن العقاب لهم بالهلاك بالدمار والبوار ، وبقيام الساعة : (وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)( جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ). ويأتى العلاج وسبيل الانقاذ فى الآية التالية :( قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلالٌ ) ( ابراهيم 28 : 31 )، إذا آمنوا وأقاموا الصلاة وأنفقوا فى سبيل الله قبل مجىء اليوم الآخر فقد نجوا وأفلحوا. وهو علاج ليس مكلفا لقوم أنعم الله جل وعلا عليهم بالنعم ، أى بدلا من الكفر بالنعم المادية يكون الانفاق منها فى سبيل الله ، وليس فى سبيل الشيطان والصّد عن سبيل الله جلّ وعلا، وبدلا من الكفر بنعمة القرآن الكريم يكون الايمان والعمل الصالح وإقامة الصلاة سلوكا قويما وتقوى لله جل وعلا .

وننبّه بأن القرآن موصوف بأنه نعمة الله جل وعلا : يقول جلّ وعلا لخاتم المرسلين عليهم جميعا السلام يأمره بالتحديث بالقرآن : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ )( الضحى 11) ، فليس له حديث سوى القرآن نعمة ربه جلّ وعلا . وفى مواجهة اتهامهم له بأنه كاهن ومجنون يأمره ربه جلّ وعلا بالتذكير بالقرآن نعمة الرحمن : ( فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ )(الطور 29 )، ويقسم له ربّه جلّ وعلا أنه ليس مجنونا بسبب هذه النعمة :(ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ)( القلم 1 : 2). وردّا على إعراضهم فما عليه إلّا تبليغ نعمة الله :(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) ثم يقول عن مشركى قريش الذين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها : ( يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمْ الْكَافِرُونَ ) (النحل 82 : 83) . ويقول جلّ وعلا لنا : ( وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ )،(231 البقرة )(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً ) ( المائدة 3). وبهذا نفهم معنيين لكلمة النعمة فى قوله جلّ وعلا :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا ).

3 ـ وطريقة الاهلاك لقوم لوط تنتظر من يسير على سنّتهم ، يقول جل وعلا عنهم :( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) (هود82 : 83). قوله جل وعلا ( وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) تحذير مباشر لمدمنى الشذوذ من المسلمين وغيرهم من العصر العباسى الى قيام الساعة . والايدز كعقاب للشذوذ الجنسى فى عصرنا دليل على ذلك .

4 ـ ونزلت سور تحكى قصص الأمم المهلكة وما حدث مع أنبيائهم . جاء هذا فى سور الاعراف وهود والشعراء والأنبياء ، وكان القصص يشير الى اليوم الآخر ليربط أمامنا ما حدث من اهلاك فى الماضى . وفى سورة الحاقة مثلا ـ وهى من قصار السور ، تبدأ بالاشارة الى هلاك السابقين من طوفان نوح وعاد وثمود الى فرعون ، ثم ما ينتظرنا يوم القيامة:( الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) .

بعدها يأتى الحديث عن القيامة وأحداثها :(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18). ويستمر الحديث الى أن تنتهى السورة بالحديث عن القرآن الكريم البيان النهائى والبلاغ النهائى للبشر قبل قيام الساعة :( فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم ( 52).

ثانيا : ونتوقف هنا مع إستعراض لسورة القمرمثالا فى تحذير البشر قبيل قيام الساعة .

1 ـ فى رؤية أفقية للسورة فهى تبدأ باقتراب الساعة وإعراض المشركين عنها برغم التحذيرات التى تأتى اليهم ، وموقفهم يوم البعث والنشور والحشر الى لقاء الله جل وعلا . ثم لفتة سريعة الى إهلاك الأمم السابقة من قوم نوح الى قوم فرعون ، مع إختتام الحديث عن كل قوم بتذكيرنا وتحذيرنا بالقرآن الميسّر للذكر والعظة . وبعدها يأتى لنا الخطاب المباشر بمصيرنا يوم القيامة.

2 ـ فى إفتتاح السورة يقول جل وعلا :( بسم الله الرحمن الرحيم  اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) .. هنا يأتى التعبير بصيغة الماضى عن أمر سيقع فى المستقبل وهو إنشقاق القمر ، والتعبير بالماضى عن أحداث القيامة المستقبلية يعنى تحقق الوقوع ، كما يشير الى اختلاف الزمن الأرضى لدينا عن الزمن البرزخى وما فوقه ، فقرار قيام الساعة تم إتخاذه ، وأتى به الأمر ، ونحن سائرون فى زمننا الأرضى المتحرك حتى نقابل هذا الأمر،وبهذا نفهم قوله تعالى عن قيام الساعة وصدور الأمر بها فعلا مع نزول خاتم الرسالات السماوية للبشر :( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ )( النحل 1 : 2 ). وبهذا فقد صدر الأمر الالهى بانشقاق القمر مع اقتراب موعد الساعة:(اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ). وإنشقاق القمر يقع ضمن انشقاق السماوات وتفجير الأرض ،أى زوال النظام الالهى الذى يمسك الأرض والنجوم والمجرات والسماوات : (فَإِذَا انشَقَّتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) ( الرحمن 37) ( إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ )( الانشقاق 1 : 5 ). وبتدمير العالم وتفجيره تقع الواقعة ويأتى اليوم الآخر بحضور رب العزة والملائكة وتمام تحكمه وزوال حرية البشر التى كانت لهم ، ويتم عرضهم وحسابهم : ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً   فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ  وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ )( الحاقة 13 : 18 ).

3 ـ هذا الهول القادم والذى يخبر به رب العزّة ويحذّر منه يقابله المشركون باتهام القرآن بالسحر والتكذيب واتباع الهوى برغم ما حفل به القرآن من أنباء السابقين والحكم والمواعظ  ، يقول جل وعلا :(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) . وتكرر هذا فى قوله جل وعلا فى مفتتح سورة الأنبياء : ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ )(الأنبياء1 : 6 ). فقد اقترب يوم الحساب والناس فى غفلة معرضون لاهون يستمعون القرآن وهم يلعبون . هذا ، مع أن الجيل الذى سيشهد وقوع الساعة سيشهد رعبا لامثيل له بحيث تذهل الأم المرضعة عن رضيعها ، ويتم إجهاض الحوامل ، ويكون الناس سكارى من الهول وليس من شرب الخمر. الله جل وعلا يحذّر منه مقدما ويعتبره عذابا فى حدّ ذاته:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ )(الحج 1 : 2 )

4 ـ يكون الحال أكبر هولا عند البعث ومسير الناس وحشرهم الى لقاء الرحمن ، يقول جل وعلا فى سورة القمر :( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) . يبدأ البعث بانفجار تصحو فيه كل نفس من نومها أو موتها وتخرج من قبرها البرزخى بعد تدمير هذه الأرض ، ثم بانفجار آخر يتم حشرهم فى جماعات وتجميعهم ، يقول جل وعلا عن الانفجار الأول الذى يتم به البعث ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ)، أى يخرجون من قبورهم البرزخية كأن تلك القبور كانت حبلى بهم وقد تناسلوا منها ، ويتعجبون ويتساءلون عمّن بعثهم من نومهم :( قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا )، ويأتيهم الرّد بأنه تحقيق لوعد الرحمن الذى كانوا به يكذّبون : ( هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ )، ثم يأتى الانفجار التالى الذى يقذف بهم الى ساحة الحشر والتجميع والعرض أمام الرحمن :(إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ )( يس 51 ـ ). آيات سورة القمر تصف حالهم عند الانفجار الخاص بالبعث ، حيث يخرجون خاشعة أبصارهم فى ذلّ شديد (خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ  ) لا يستطيعون عصيان الداعى : ( مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي ) يتحسّرون من هذا اليوم الذى ينتظرهم (يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ).

يخرجون من قبورهم كأنهم جراد منتشر: (يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ  ). الحديث هنا عن أنفس وليس عن أجساد فقد فنيت الأجساد البشرية فى الأرض الفانية ، وقبل فناء الأرض فإنها تسلّم للأرض التالية الباقية الخالدة البطاقة الخاصة بكل فرد فينا:(وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ )(الانشقاق 3 : 5). بالبعث تخرج النفوس من القبور طائرة كأنها الجراد المنتشر :( يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ). أو كالفراش الطائر المبثوث فى كل ناحية : ( يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ )( القارعة 4 ). يخرجون جماعات واشتاتا ليروا أعمالهم قبل أن ترتدى كل نفس عملها:( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) ( الزلزلة6) . يخرجون أفواجا مثل أفواج المشركين حين يذهبون الى موالد الأولياء ولكن مع ذلّة وإنكسار :( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)( المعارج 43 : 44 ).

5 ـ بعده يأتى المحور التالى من السورة يذكر قصص بعض الأنبياء السابقين وما حدث لأقوامهم من هلاك .  يبدأ بقوم نوح:( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) ثمالتذكير والتحذير وبيان تيسير القرآن للذكر والدعوة لمن يتذكّر:( وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)

وقوم عاد:( كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) ثم التذكير والتحذير وبيان تيسير القرآن للذكر والدعوة لمن يتذكّر: ( فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)

ثمقوم ثمود :( كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنْ الْكَذَّابُ الأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) ثم التذكير والتحذير وبيان تيسير القرآن للذكر والدعوة لمن يتذكّر(فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)

الى قوم لوط: ( كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) ثم التذكير والتحذير وبيان تيسير القرآن للذكر والدعوة لمن يتذكّر(فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40). ثم الى قوم فرعون ( وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42).

6 ـ بعدها يتوجه رب العزة لنا بالخطاب : فهل كفّار عصرنا خير من الكفّار السابقين ؟ أم لنا حصانة الاهية مكتوبة ومسجّلة :( أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) ؟ ولو إغتررنا بقوتنا فالهزيمة مآلنا ولن نستطيع الفرار من الله جلّ وعلا :( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45).وأمامنا الساعة تنتظرنا ونحن نسير اليها قدما ، وهى أفظع وأشد مرارة:( بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46). ثم يوم القيامة سيكون المجرمون فى عذاب هائل خالد :(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) . ولقد خلق الله جلّ وعلا هذا الكون بأرضه وسماواته وما بينهما من نجوم ومجرات وأفلاك بتنظيم مبدع وتقدير يجعل له نهاية مرتبطة ببدايته ، وتأتى الساعة بأسرع من سرعة الضوء: ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) .ثم يعود رب العزّة للتذكير بهلاك السابقين لعلنا نتذكر:(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) ، وأن كل ما فعلوه مكتوب ومسطّر سواء صغر أم كبر : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53). ويأتى ختم السورة بالبشرى لأصحاب الجنة ، وهم المتقون الذين ينعمون بالقرب من الرحمن جل وعلا : ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55).

ودائما وأبدا : صدق الله العظيم .!

 

 

الباب الخامس  :  غياب الأمر بالمعروف والنهى يعنى الاهلاك 

 الفصل الثامن :  قراءة لسورة ( هود ) بحثا عن وسائل لتفادى الهلاك      

 

مقدمة

1 ـ  سورة (هود ) تتشابه مع سورتى ( الأعراف ) و ( الشعراء ) فى سرد قصص الأمم التى تعرضت للهلاك بسبب الظلم وتكذيب الأنبياء . ولكن تنحو سورة هود الى التركيز على العبرة فى نهايتها . والسور الثلاث تبدأ بالتركيز على القرآن الرسالة الخاتمة للبشر والمنذرة لهم  قبيل قيام الساعة ، ومع الاشارة الى بعض ملامح القيامة . ونستعرض هنا سورة هود سريعا ثم نتوقف فى خاتمتها مع كيفية تفادى الهلاك ، ونحن نرى ملامحه تترى فى بلادنا .

2 ـ أكتب هذا المقال فى ثانى أيام مايو 2012 وقلبى يخفق هلعا على بلدى مصر ، إذ تترى أخبار حرب أهلية مصغّرة فى ميدان العباسية بالقاهرة ، البطل فيها هو الغموض ، لا تعرف من الجانى ومن الضحية . وهذه هى البداية التقليدية للحروب الأهلية ، حيث تلعب الأيدى الخفية فى الداخل وهى تلعن المؤامرات الأجنبية ، ثم تظهر وتتمايز العتاصر الفاعلة المجرمة ، ويسعى الفرقاء الى قوى أجنبية يطلبون عونها ـ مع استمرارهم فى التغنى بلعن التآمر الأجنبى ـ وفى النهاية تنتشر الحرب الأهلية على اتساع الوطن،    ويتأسّس لها إقتصاد حرب محلى واقليمى ودولى مرتبط بها ويعمل على استمرارها لضمان الربح  والنفوذ على حساب الضحايا ، وهم الوطن والمواطنون . وهذه هى ملامح الاهلاك الجزئى الذى حدث فى السودان والصومال ولبنان وليبيا ، وحاليا فى سوريا ، وتبدو إرهاصاتها فى مصر واليمن، ثم الاردن والخليج . .دعنا نبحث عن الحل فى سورة ( هود ).

أولا :

1 ـ تبدأ سورة (هود ) بتمجيد القرآن كتابا تم إحكام آياته من رب العزة ، ثم الدعوة لعبادته وحده والدعوة للاستغفار والتوبة أملا فى النجاة فى الدنيا وفى الآخرة: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) . ومع ذلك فالمشركون عن القرآن معرضون : ( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)

2 ـ وفى الآية السادسة يؤكّد رب العزة بعض ملامح الحتميات ، وهى تكفله جلّ وعلا برزق كل كائن حى ، ومعرفة بدايته ونهايته::(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) ثم تؤكّد الآية السابعة الحرية المطلقة لنا فى الدين والفكر والعمل ، فقد خلق الله جلّ وعلا لنا السماوات والأرض لاختبارنا ، والاختبار يعنى حرية الاختيار (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) . ومع ذلك فالمشركون عن القرآن معرضون :فهم لا يؤمنون بالآخرة :(وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وهم يطلبون العذاب إستهزاءا ، مع إنه حين يأتيهم يوم القيامة فلن يتركهم ولن ينصرف عنهم، وسيحيق بهم إستهزاؤهم  : ( وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمْ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (8)

3 ـ والانسان فى مصطلح القرآن هو البشر العاصى . وهذا البشر العاصى ( الانسان ) يؤوس كفور ،  فإذا أنعم الله عليه نعمة ثم نزعها منه كفر وأصابه اليأس :( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) ، ويحدث له العكس إن أختبره الله جلّ وعلا بالنعمة بعد ضرر أصابه ، فإذا به يغترّ . (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ )(10) المؤمنون الصابرون فى إبتلاء المحنة و الشاكرون فى إبتلاء النعمة مستثنون من هذا ولهم عند ربهم جلّ وعلا مغفرة وأجر كبير (إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)

4 ـ والمشركون فى عنادهم يطلبون من النبى عليه السلام آية حسية بديلا عن القرآن كأن يكون له كنز أو يكون معه ملك من الملائكة ،  وهم فى إلحاحهم عليه أصابوه بالضيق ، ويؤكّد له ربّه جل وعلا أنه مجرد نذير ، وأن الأمر كله لله جلّ وعلا : (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) وهم لا يكتفون بطلب آية حسيّة عنادا أو طلب العذاب إستهزاءا، بل هم أيضا يواصلون الاتهام بأن محمدا قد إفترى القرآن من عنده ، وأن القرآن ليس كلام الله جلّ وعلا ، ويأتيهم التحدّى بأن يأتوا بعشر سور مثل سور القرآن مفتريات إن إستطاعوا ، وإلّا فقد قامت عليهم الحجة ، ويثبت أن القرآن من لدن الله جلّ وعلا : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)

5 ـ بالاضافة للمشركين السابقين فهناك من الناس من لا يؤمن بالآخرة ولا يعمل لها ، إذ قصر همّه وعزمه وعمله على هذه الدنيا ، وعمل لها عملا صالحا . الله جلّ وعلا سيوفيه جزاءه الصالح  فى الدنيا مقابل عمله الصالح فيها ، ولكن ليس له فى الآخرة إلّا النار :(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)

6 ـ وهناك من أهل الكتاب من يؤمن بالقرآن ولديه شاهد عليه فى الكتب السماوية السابقة ، ومنهم من يكفر بالقرآن ، ومصيره النار : (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17)

7 ـ ولكنّ أظلم الناس هو من يظلم ربّالعزّة ، بأن يفترى على الله ورسوله كذبا يزعم أنه وحى من الله ـ كما يحدث فيما يعرف بالسّنة والأحاديث النبوية والأحاديث القدسية : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ) ، وسيأتى الشهداء أو الأشهاد عليهم يوم القيامة يشهدون يوم الحساب على ضلالهم وإضلالهم الناس ، ويؤكد الشهداء أو الأشهاد أو الشهود أن أولئك الظالمين كذبوا على الله جلّ وعلا وصدّوا عن سبيله يبغون العوج والفساد كفرا منهم بالآخرة وتمسكا منهم بالدنيا التى لم تغن عنهم شيئا ، وهم الأخسرون فعلا : (أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمْ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ (22) وفى المقابل فالجنة للذين آمنوا وعملوا الصالحات (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) ولا يستويان مثلا : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24)

ثانيا :

بعد هذا التوضيح لمواقف البشر من القرآن عند وبعد نزول القرآن علينا أن نبحث حالنا فى ضوء ما ذكره رب العزة فى هذا الجزء الأول من سورة (هود ) ، هل نحن من فريق الأعمى والأصم أم من فريق البصير والسميع ؟ هل نحن من الذين آمنوا وعملوا الصالحات أم من الذين كفروا وعملوا الكبائر والسيئات ؟ لنستعرض الآيات الكريمة السابقة لنرى حالنا .

1 ـ(الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) . هذا ما يقوله رب العزّة جل وعلا . أمّا علماء ( المسلمين ) فيؤمنون أن القرآن ( حمّال أوجه ) يعنى أنه يحوى آراء مختلفة ومتناقضة ، وما عليك إلا أن تنتقى منه ما تشاء بما يؤكّد رأيك المسبق ، وبهذا يجعلون أنفسهم وآراءهم فوق القرآن ، وبدلا من الاحتكام للقرآن ـ وهو فرض ( الأنعام  114)، فإنهم يستغلّون القرآن لأهوائهم الدينية والسياسية .

2 ـ (أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) . وهذا يخالف الأغلبية العظمى من المسلمين الذين يتوسلون بالقبور وعلى رأسها القبر المنسوب للنبى محمد عليه السلام ، ولا يتصورون الحج بدون الحج الى ذلك الرجس ـ أو القبر المنسوب له عليه السلام فى المدينة . هذا هو الشرك أو الكفر العقيدى العملى . وهناك الشرك أو الكفر العقيدى العلمى وهو إتّخاذ ما أسماه رب العزة ( لهو ) أو إفتراء أحاديث وجعلها وحيا إلاهيا ، وهذا يتخصص فيه السنيون أكثر. وهناك الكفر والشرك السلوكى بالإكراه فى الدين وفتنة الأقلية فى دينها ، والاعتداء والظلم وقتل الأبرياء عشوائيا ، وهذا يتنافس فيه السنيون والشيعة فى العراق وايران ومصر والخليج . ويتفوق المسلمون بأديانهم الأرضية تلك على اليهود والنصارى وأديانهم الأرضية . وإذا كان بعض المسيحيين واليهود فى عصر نتزول القرآن يتخذون أحبارهم ورهبانهم أربابا مع عبادة وتأليه المسيح (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)(التوبة ) فإن عدد الشيوخ والأئمة والأولياء المقدسين لدى المسلمين السنيين والشيعة والصوفية أضعاف عدد الأحبار والرهبان لدى اليهود والنصارى ، وبينما تناقصت وتراجعت لدى الغرب وأمريكا هذه الخرافات الدينية وتم حصر وعزل أديانهم الأرضية داخل الكنائس والمعابد وانفضوا عنها يخترعون ويتمتعون بالدنيا فإن المسلمين لا يزالون على قبورهم المقدسة يعكفون ولا يزالون بأئمتهم يتوسلون ، وإذا كان أئمة اليهود والنصارى فى عهد نزول القرآن موصوفين بأنهم : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) ( التوبة ) فالأئمة السنيون والشيعة والصوفية  يتفوقون اليوم فى حربهم للقرآن وتمسكهم بتراثهم . ولو وقف مسلم من أهل القرآن أمام قبر مقدس للنبى أو الحسين وقرا قوله جل وعلا :(أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) فستكون عاقبته وخيمة .!! مع أنه لم يقل سوى القرآن . وليست هناك عداء شخصى بينهم وبينه ، إنّما هو العداء للقرآن طالما يعارض عقائدهم .

3 ـ (وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) هل يستغفر أغلب المسلمين ربهم وهل يتوبون اليه ؟ لو فعلوا هذا لصاروا فخر البشرية ، ولكنهم الآن عار البشرية . الأنباء السيئة تتواتر من عندهم وحدهم ، من قتل وظلم وحروب ، وهم فيها يستخدمون إسم الاسلام ويجعلونه مسئولا عما يقعون فيه من جرائم ، حتى لقد تعارف العالم على تسمية الارهابيين وتيارتهم المختلفة بالاسلاميين . يجعلون أديانهم الأرضية بمنأى عن العيب ، ويصدّرون إسم الاسلام ليتحمل أوزارهم ..!!.ولأنهم لا يستغفرون ولا يتوبون ولا هم يتذكرون فهم من المتاع الحسن المؤقت الدنيوى محرومون . يستوى فى ذلك الحكام والمحكومون،لا يتمتع حكام سوريا والخليج ومصر والاردن والسودان وغيرهم براحة البال والطمأنينة. ولا يتمتع بها المحكومون السوريون والمصريون والسودانيون والعرب فى الخليج والجزيرة العربية . حرموا أنفسهم من الأمن والمتاع الحسن الذى أعدّه الله جل وعلا للمؤمنين فى الدنيا والآخرة وقال عنه : ( سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) ( محمد  )( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) ( الأنعام )( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)( النحل ) (وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) ( غافر )

4 ـ (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) . الذى يؤمن باليوم الآخر وأن مرجعه الى الله جل وعلا يوم العرض ويوم الحساب ويوم لقاء الله لا بد أن يعمل لهذا اليوم عملا صالحا مع قلب سليم . كم هى نسبة أولئك بين بليون ونصف بليون مسلم ؟ وفى المقابل كم هى نسبة المؤمنين بشفاعة النبى والأولياء بين ( المسلمين ) السنيين والشيعة والصوفية ؟ والايمان بهذه الشفاعة كفر صريح باليوم الآخر وكفر بالله ورسوله وباليوم الآخر .. هناك فرق بين الشعارات وبين الواقع ..!!

5 ـ ( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5). كان مشركو قريش صرحاء فى رفضهم للقرآن وكانوا يعلنون ذلك ، فإذا رأوا النبى وسمعوه يقرأ القرآن غطوا وجوههم بثيابهم . أما مشركو ( المسلمين ) اليوم فقد ارتضوا سبيل النفاق ، وينطبق عليهم قوله جل وعلا (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)( البقرة ). وهناك بين مسلمى اليوم ملايين من الملحدين الذين يعلنون كفرهم بالقرآن ، وهناك أضعاف أضعاف عددهم يرون القرآن لا يصلح لعصرنا وأنه مجرد وثيقة تاريخية . هذا عدا الأغلبية من السنة والصوفية والشيعة الذين لا يعرفون من القرآن ولا يؤمنون بالقرآن إلّا ما يتفق مع عقائدهم وأديانهم الأرضية وما يتفق مع تحريفاتهم فقط . السنيون يؤمنون بتحريفاتهم بأن لفظ الرسول يعنى أحاديث البخارى وغيره، فطاعة الرسول عندهم ليس طاعة الرسالة أو القرآن بل هى عندهم طاعة البخارى ومسلم والشافعى وابن تيمية وابن عبد الوهاب وابن سعود وابن مفعوص .!!. والصوفية يؤمنون بأن أولياءهم هم المقصودون بقوله جل وعلا (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) ولا يكملون ما بعدها (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)( يونس ) وهم يكفرون بالقرآن إن قلت لهم ما ينطبق على حالهم وهو تقديس الأولياء وأنه يكرّرون عبادة الجاهليين للأولياء وينطبق عليهم ما قاله جلّ وعلا عن الكفار الخاسرين : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) ( الكهف  ) ، والشيعة يؤمنون بتحريفاتهم بما يتفق مع تقديسهم ( لآل البيت )  مثل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) ( التوبة ) وهم يرون أن ( الصادقين ) هم (على وذريته ) . وهم يكفرون إذا قلت لهم آية تخالف تأويلهم مثل (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ (33)( الزمر )، فالذى جاء بالصدق قطعا هو خاتم النبيين ، وهو المحدّد بالاسم محمد رسول الله . ومن عداه ممن يستحق وصف التقوى لن نعرفه إلّا يوم القيامة . ولو كان (على ابن أبى طالب ) جزءا من عقيدة الاسلام لنزل النّص على إسمه تحديدا ، ولكنه شخصية تاريخية فقط مثل بقية الصحابة وليس جزءا من الدين السماوى . ولكن عادة الأديان الأرضية أن تجعل الشخصيات التاريخية آلهة وتجعل تاريخها دينا . يشترك فى ذلك الكاثوليك والبروتستانت والارثوذكس والسنة وطوائف الشيعة  والصوفية وغيرهم ، تشابهت قلوبهم وإختلفت آلهتهم .!! .

6 ـ  (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6 )، من السهل على المسلمين تكرارهذه الآية الكريمة ، بل المعتاد قولهم بأن الرزق بيد الله جل وعلا . ولكن معظمهم لا يعتقد ذلك ، بدليل أنهم يتحاشون قول الحق ويسكتون على الظلم حفاظا على الرزق ، ويقول أحدهم ( يا عم وأنا مالى .. أنا صاحب عيال ) ( خلينا نشوف رزقنا ) وعلى هذا يسير ما يعرف الآن بحزب الكنبة فى مصر .. إيمانهم الحقيقى والواقعى والعملى أن الرزق بيد الحكومة وبيد صاحب العمل ، وليس بيد الله جلّ وعلا . ويعصون أمر الله جلّ وعلا بالسير فى الأرض التى جعلها الله جل وعلا لهم ذلولا وأمرهم بالسير فى مجاهلها بحثا عن الرزق :( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)( الملك ) وبدلا من ذلك فإن أغلب المسلمين يلتصقون بحكامهم يتحمّلون الجور والظلم ويتغنون بالصبر الذليل ، ويعتقدون فى الحاكم الظالم مالكا للرزق ، ويخشون إنتقاده حرصا على الرزق الآتى منه بزعمهم .

7 ـ  (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) . هنا تأكيد على حرية الدين ومسئولية كل فرد أمام رب العالمين يوم القيامة . ولكن لا يزال الاضطهاد الدينى المذهبى سائدا فى بلاد العرب والمسلمين . إنقشع من كل بلاد العالم ولا يزال مترسخا ومتجذرا فى بلاد المسلمين. وكان مشركو قريش صرحاء فى الكفر بالبعث وباليوم الآخر ، ولكن مسلمى اليوم يكفرون باليوم الآخر بأن يختلقوا يوما للآخرة على هواهم يجعلون فيه النبى محمدا وأئمتهم وأوليائهم مالكى يوم الدين بدون رب العالمين .

8 ـ ( وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمْ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (8). وإذا كان مشركو قريش يستهزئون بالقرآن علنا وجهرا فإن مسلمى اليوم يقيمون حفلات للتغنى بالقرآن ، يتحول بها الى أغنية ، ويتحول بها الاهتمام الى صوت ( المقرىء ) وليس لمعانى القرآن .

9 : 11  :( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ )(10)  (إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) . هذا واضح فى تاريخ الانسانية . تلمسه وتراه فى معظم البشر .

12 ـ 14 : (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) . سبقت الاشارة الى موقف مسلمى اليوم من القرآن ..

15 : 17(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)  (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17). ترى الآيات الكريمة تشير الى نماذج موجودة بين المسلمين اليوم وبعض أهل الكتاب .

18والآيات الكريمة من 18  :24 من سورة هود تتحدث عن المصير يوم الحساب ، حيث سيقوم الأشهاد بالشهادة على شيوخ الإفك والبهتان ، شيوخ الأديان الأرضية .:(أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمْ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ (22)  (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24).

ثالثا :

 بتضح بهذا أن مواقف الكافرين  من القرآن عند نزول القرآن ينطبق على معظم المسلمين اليوم . وفى الجزء التالى من السورة نتوقف مع المشركين فى قصص بعض الأنبياء السابقين والاهلاك الذى حدث لهم ، من قوم نوح الى قوم فرعون... لنرى هل يتشابه معهم مسلمو اليوم ؟ 

الباب الخامس  :  غياب الأمر بالمعروف والنهى يعنى الاهلاك 

 الفصل الثامن   :  قراءة لسورة ( هود ) بحثا عن وسائل لتفادى الهلاك :( الجزء الثانى) 

 

 بعد هذا التوضيح لمواقف البشر من القرآن عند وبعد نزول القرآن يأتى الجزء التالى من السورة يحكى قصص أقوام نوح وعاد وثمود ولوط ومدين وقوم فرعون والاهلاك الذى حدث لهم  .وقد إحتلّ هذا القصص فى سورة هود من آية 25 الى آية 99 . 

أولا : موجز القصص    

1 ـ كل نبى كان يدعو قومه بنفس الدعوة : لا اله إلا الله .  لايقتصر على القول لهم ( إعبدوا الله ) ، لأن ذلك يعنى أن يعبدوا الله ويعبدوا غير الله ، ولكن يقول لهم باسلوب القصر والحصر ( لا تعبدوا إلّا الله ) أو ( إعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) ، ونقرأ هنا : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ ) ، (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) ( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ   61)،   (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ).  فى عقيدة المشركين أنه يكفى أن يكون الله جل وعلا معترفا به وأن يكون الاهامعبودا   لأن الالوهية شركة عندهم بين الله وآلهة اخرى أتخذوها لتقربهم الى الله زلفى أو لأنها آلهة مستقلة بذاتها وليست واسطة. الاسلام هو كفر بكل اله غير الله وإيمان باله واحد هو الله ، لذا تأتى شهادة الاسلام (الواحدة ) لتقول باسلوب القصر والحصر ( لا اله إلا الله ) ، أى ليس هناك أله سوى الله .

2 ـ  كان نوح يدعو قومه بنفس الدعوة ( لا اله إلا الله ) فيرفض الملأ ، ويؤمن الأقلية ، وأكثرهم مستضعفون ، ويأتى الاهلاك للكافرين ، وينجو المؤمنون ، ولا يلبث الشيطان أن يضل الذرية فيعود تأليه وتقديس البشر ، ويأتى نبى جديد لقوم مستخلفين بعد قوم نوح هم قوم عاد . ويقول النبى الجديد لقومه (عاد ) يذكّرهم بما حلّ بالسابقين من قوم نوح وكيف زادهم الله جل وعلا نعمة : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) ويردون عليه برفضهم عبادة الله جل وعلا وحده وتمسكهم بعبادة ما وجدوا عليه آباءهم ويطلبون آية علىسبيل العناد ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ (70)( الأعراف ) .وينتهى الأمر بهلاكهم ، ومجىء قوم آخرين هم قوم ثمود ، ولا يلبث أن يضلّهم الشيطان فيرسل الله جل وعلا لهم النبى صالح ، فيعيد وعظهم بلا إله إلا الله ، وأيضا يذكّرهم بما حدث من هلاك لقوم عاد، وكيف أنعم الله جل وعلا عليهم :( وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)( الأعراف ). وتتكرر القصة الى أن نأتى لقوم مدين ، ويقول لهم النبى شعيب يذكّرهم بما حدث للسابقين (وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)(هود ) ويردّون عليهم بغلظة وبالتهديد بالرجم (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)( هود ). ونصل الى فرعون وقومه لنرى مؤمن آل فرعون يعظ قومه يذكّرهم بما حدث من هلاك للسابقين : (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ (31) ( غافر ).

 ثانيا : أئمة الضلال للمسلمين أصحاب الأديان الأرضية

1 ـ وتنتهى مرحلة الاهلاك العام بقوم فرعون ، ويأتى الانذار لنا فى القرآن الكريم لكل من يسير على دأب فرعون : ( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)( الأنفال )

2 ـ إى لدينا إثنان من أئمة الضلال : الأولون قوم نوح ، والآخرون قوم فرعون . وهما معا يعانيان من عذاب البرزخ لأنهما أئمة الضلال لمن جاء بعدهم . حين كان قوم نوح يسخرون منه وهو يصنع الفلك ، كان يرد عليهم بما نفهم منه إنهم سيكونون أحياء يعذبون فى البرزخ بعد غرقهم : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)( هود ). هم سيعلمون فى عذاب البرزخ من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم ، وسيعلمون من سينجو ومن سيتعرض للسخرية . لو كانوا ماتوا غرقا ودخلوا فى موت البرزخ فلن يشعروا بشىء إلا عند البعث . ونفس الحال مع فرعون وقومه ، سيرى بعد غرقه هو وقومه تحقيق مخاوفه من بنى اسرائيل : (  إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) ) ( القصص ). يقول جلّ وعلا إن قوم نوح دخلوا النار بعد غرقهم مباشرة :(مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً (25) ( نوح ) وقال عن فرعون وقومه أنهم فى سوء العذاب الذى يسبق العذاب الأشد  يوم القيامة (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)( غافر  )

ثالثا : المسلمون يكررون سيرة الأمم الهالكة

1 ـ باعتباره رسالة إنذار وبيان تحذير فقد حفل القرآن الكريم بكل هذا وعظا لنا ، وهذا فى حدّ ذاته آية إعجاز لأن المسلمين كرروا كل ما فعلته الأمم التى أهلكها الله جل وعلا . ومن المفهوم عقلا أن ابليس لا يمكن أن يكون قد قدّم استقالته بنزول القرآن الكريم . لقد كان الشيطان يتلاعب بكل قوم ويضلّهم ، وبعد هلاكهم يكرّر نفس الخديعة مع القوم اللاحقين ، وبالتالى فبعد نزول القرآن ـ  وحتى الآن ـ فلا يزال ابليس يمارس وظيفته فى الاضلال .

2 ـ  وبهذا أصبح للمسلمين أديان أرضية تكرر عقائد السابقين وعباداتهم ولكن بلغات مختلفة ، وبأسماء مختلفة . تتفق عقائد المشركين قبل وبعد نزول القرآن ـ فى تقديس وعبادة البشر والحجر ، وإطلاقهم عليها الأسماء ، ثم تقديس الأسماء التى يعبدونها حتى تكون لهذه الأسماء رهبة .

قوم نوح عبدوا آلهة أسموها ( ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ) وتمسكوا بعبادتها 950 عاما :( وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) (نوح ) . وقوم عاد رفضوا ترك عبادة الأسماء التى إخترعوها وصمموا على أن تكون شريكة لله جل وعلا فى الالوهية وطلبوا آية حسية : ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ (70) وردّ عليهم التبى هود بكل قوة يوبّخهم على جدالهم فى أسماء اخترعوها وقدسوها وتوعدهم بالهلاك القادم :( قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنتَظِرِينَ (71) ( الاعراف )، ونفس الحال مع مصر فى عهد يوسف عليه السلام ، إذ بدأ يوسف وهو فى السجن يدعو صاحبيه وينتقد عبادتهم لأسماء سمّوها هم وآباؤهم :( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) ( يوسف ) ، وعلى نفس السّنة سارت قريش والعرب تسمّى اللات والعزى ومناة وتعبدها ، فقال لهم رب العزّة:( أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى (20) أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى (23) ( النجم  ).

والمسلمون بعد نزول القرآن عبدوا أسماء ، قاموا بتسميتها بأنفسهم وقدسوها ويرتعبون من المساس بها ، فإبن برزويه المجوسى أصبح إسمه البخارى ، ولو رفعت صوتك تلعن ابن برزويه فلن يلتفت اليك أحد ، ولكن لو تعرضت لاسم البخارى بأى نقد لأصيب السامع بالذعر لأن إسم البخارى مقدس. ونفس الحال مع ( على بن عبد الجبار ) لو لعنته ما اهتم أحد ، ولكن لو تعرضت لأبى الحسن الشاذلى بسوء قامت قيامة الصوفية عليك ، مع أن (المدعو ) على بن عبد الجبار هو نفسه الشاذلى ، ولكن إسم الشاذلى مقدس وقد غطى على الاسم الحقيقى له ، وكذلك الحال فى ( أحمد بن على بن ابراهيم ) وهو ( السيد أحمد البدوى ) ونفس الحال مع ابى حامد الغزالى ، وإسمه الحقيقى ( محمد بن محمد بن محمد بن أحمد )..ألخ .. أى يعبد المسلمون أسماء ما أزل الله جل وعلا بها من سلطان . وإلّا فهل جاءت فى القرآن تلك الأسماء ( المقدسة)؟   

3 ـ كرّر المسلمون نفس الشرك الذى وقع فيه الأمم الضالة المهلكة .

أقوام نوح وعاد وثمود لم يعرفوا الشذوذ الجنسى لأن قوم لوط كانوا أول من مارسه من البشر : (  وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) ( الاعراف )، والمسلمون منذ العصر العباسى وحتى الآن وهم غارقون فى هذه الرذيلة ، بل إن الشذوذ الجنسى يعتبره الدين الصوفى شعيرة دينية .!!.

ولم يرد فى قصص قوم نوح وعاد وثمود أنهم احترفوا الخداع فى الكيل والميزان وأكل أموال الناس يالباطل ، فقد تخصّص فى هذا قوم مدين فيما بعد : (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)(هود ). والمسلمون اليوم تفوقوا على قوم مدين .!!. مع  وصايا رب العزة المتكررة  لهم بالوفاء بالكيل والميزان : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ  (152) الأنعام  ) (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)الاسراء ) ( أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) ( الرحمن  )( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) (المطففين  ).

 ولم يعرف قوم مدين ومن سبقهم الاستبداد الفرعونى الذى يجعل المستبد يزعم الالوهية . ولكن تجذّر الاستبداد فى تاريخ المسلمين ، والمستبد السّنى والشيعى يزعم الالوهية ضمنا فى أغلب الأحوال وقد يعلنها صراحة مثل الحاكم الفاطمى .

المستفاد أن كل قوم من الأقوام المهلكة الملعونة قد تخصصت فى رذيلة مع الشرك ، ولكن المسلمين عرفوا كل تلك الرذائل بالاضافة للشرك والكفر ..هذا مع وجود القرآن بينهم .

رابعا : الشيطان هو الاله الفعلى فى أديان المسلمين الأرضية

1 ـ عبادة وتقديس القبور أبرز ملامح الكفر العقيدى العملى . وبعض الصحابة ظل يعبد القبور ( الأنصاب ) ويشرب الخمور ويدمن الميسر ، فكان من اواخر ما نزل من القرآن قوله جل وعلا  لهم ـ ولنا ـ (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91)( المائدة ) أكّد رب العزة أنها صناعة شيطانية ، وقال لهم (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ ) ؟ ولم ينتهوا . وحتى الآن فالتصوف والتشيع لدى المسلمين يقومان على تقديس وعبادة القبور. ونسبة الأحاديث  كذبا للوحى الالهى هى صناعة شيطانية وملمح أساس من الكفر العلمى قام على أساسه الدين السّنى .

 2 ـ وتلاعب الشيطان بعقائد المسلمين فأضلهم وأعاشهم فى خرافات الشفاعات فأصبح من المعلوم لديهم بالضرورة أنهم أصحاب الجنة مهما ارتكبوا من كبائر ، أى حق عليهم وعيد الشيطان إذ قال (وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ ) فلكى ينجح الاضلال فلا بد أن يقترن بأمنيات الشفاعات ،أى يرتكب الانسان الكبائر متشجعا بأنه سيجد النبى يشفع فيه ، أو أنه سيدخل الجنة بمجرد نطقه ( الشهادتين ) بزعمهم . وهكذا ظل ويظل الشيطان يعد ويمنّى أولياءه : ( وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (120)، وفى النهاية فمصيرهم الى جهنم : (أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً (121) ) ( النساء  ). وهناك فى جهنم سيتبرأ منهم الشيطان : (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) ( ابراهيم ).

3 ـ وبخداع الشيطان فإنّ أصحاب تلك الديانات الأرضية يعتبرون من الجهاد فى سبيل الله جل وعلا أن يتقاتلوا فيما بينهم ، وأن يسفكوا دماء الأبرياء عشوائيا فى الأسواق والشوارع والمساجد والمواصلات . لم يفعل ذلك المنافقون فى عهد خاتم النبيين عليهم السلام ، ومع ذلك قال جلّ وعلا يوبخهم : (  فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ( محمد )

4 ـ وبخداع الشيطان فإنّ أصحاب تلك الديانات الأرضية يعكفون على أوثانهم المادية ( القبور ) والمعنوية ( التراث وأسفاره المقدسة عندهم ) وهم راضون مطمئنون يحسبون أنهم مهتدون (  أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) ( الكهف ) فقد زيّن لهم الشيطان سوء عملهم فرأوه حسنا : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)( فاطر ) .

لذا لم تعد لديهم مشاكل تؤرقهم إلا نشر الاسلام فى مجاهل أفريقيا والقطبين ، وفرض الحجاب والنقاب على النساء ، فقد تمّ بالنسبة لديهم تعمير القلوب بالدين الحق فى نظرهم ولم يعد باقيا إلا المظاهر السطحية فى الداخل ( الحجاب والنقاب ) وفى الخارج نشر الاسلام فى شتى بقاع العالم .

5 ـ وبخداع الشيطان تراهم يعتقدون أنهم فى حصانة من كيد الشيطان وإضلاله ، أى إن الشيطان يمارس عمله بكل كفاءة مع غير المسلمين فقط ، أما المسلمون فهم فى مأمن منه ، أى أن المسلمين إهتدوا تماما بعد نزول القرآن ولا يزالون مهتدين حتى الآن وسيظلون على الصراط المستقيم متمسكين الى يوم القيامة ، وسيظلون الى آخر يوم فى هذه الدنيا وهم خير أمة أخرجت للناس . وانه ليس فيهم ملل ولا نحل ولا مذاهب ولا طوائف ولا  إقتتال ولا تفرق فى الدين ، وأنهم سمعوا وأطاعوا عندما قال لهم رب العزة : (وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) (الروم ) . بعض أنواع الماعز تعتقد هذا وتتصرف على هذا الأساس .

6 ـ تلك الماعز ( البشرية ) تنكر الحاضر والماضى الذى يشهد بأن المسلمين اقتتلوا ولا يزالون ، وأن اختلافهم السياسى أنتج أديانا أرضية لا تزال متحكمة وسائدة ، وبها تخلّف المسلمون ولا يزالون . هذه الماعز تنكر أيضا القرآن الكريم ليس فقط فى أن أديانها تتناقض مع القرآن الكريم ، وليس فقط فى أن أديانهم الأرضية تكرر وبنفس التفصيلات ما قالته الأمم التى أهلكها الله جلّ وعلا ، ولكن أيضا تنكر ما جاء فى القرآن الكريم عن يوم القيامة حين سيقول رب العزة يؤنب بنى آدم : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)( يس ). أى سيظل الشيطان يمارس عمله فى الاضلال مع كل جيل دون يأس ، يأتيهم من كل طريق (قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)(الاعراف )، وبالتالى فهو يمارس عمله بكل نجاح مع المسلمين وسيظل يمارس إضلاله لهم الى قيام الساعة ، يخدع كل جيل ، وسيأتى المسلمون وغيرهم ليسمعوا التأنيب الالهى لهم :( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)( يس ).

أخيرا

1 ـ  هذا الواقع القرآنى واضح إنطباقه على أصحاب الديانات الأرضية من المسلمين الذين يموتون متمسكين بعقائدهم الضالة مع وجود القرآن بينهم .ولولا أنّ القرآن محفوظ بقدرة الله جل وعلا لكانوا قد حرفوا ألفاظه ، ولم يكتفوا بحريف معانيه وإبطال وحذف تشريعاته بزعم النسخ .!!

2 ـ إذن ما الذى يمنع حدوث الاهلاك ؟ لقد تكرر الأهلاك الجزئى فى تاريخ المسلمين ، وسنتعرض له فى الجزء التاريخى من هذا المبحث . ولكن لا زلنا مع سورة (هود ) .. وبعد أن عشنا مع جزءيها يبقى أن نتوقف مع دروسها التى يمكن بها تجنب الاهلاك ..خصوصا والمسلمون اليوم على حافة الاهلاك ..

 

الباب الخامس  :  غياب الأمر بالمعروف والنهى يعنى الاهلاك 

 الفصل التاسع :  قراءة لسورة ( هود ) بحثا عن وسائل لتفادى الهلاك :( الجزء الثالث ) 

 

 عرض للجزء الثالث من سورة هود :

أولا : تعليق على ما سبق من قصص الماضين :

 1 ـ بعد قصّ القصص قال جل وعلا :(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)، أى من تلك القرى التى قصّ رب العزة قصتها ما يزال قائما بآثاره ن ومنها ما اندرس ولم يبق منه أثر. وقلنا من قبل إن مصطلح ( القرية ـ القرى ) يعنى الدولة والمجتمع الذى قد يضم مدينة ومدنا .

2 ـ وتلك القرى البائدة المهلكة ـ بفتح اللام ـ ظلمت نفسها بتمسكها بعبادة آلهة كانت تتوسل بها ، وحين جاء الهلاك لم تنقذهم تلك الألهة المزعومة ، وما زادوهم إلّا خسارا ، أى فهم الظالمون لأنفسهم ولم يظلمهم رب العزة : ( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) .

3 ـ وهكذا كان تدمير رب العزّة جلّ وعلا للقرى الظالمة ، وهو عذاب شديد :(وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) .

4 ـ وبعد الحديث عن الأقوام الهالكين الماضين ، يتجه الخطاب لعصر القرآن الكريم للعظة . يعظهم ليس فقط الاهلاك فى هذه الدنيا ، بل ما هو أكبر وهو عذاب الآخرة الذى سيشهده البشر جميعا  (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103).

5 ـ وتأتى أوصاف هذا اليوم ، فهو يوم قد إقترب ، وهو أجل معدود :( وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)

6 ـ وفى هذا اليوم لن تستطيع نفس أن تتكلم إلّا بإذن الرحمن ، وحين يأتى وقت حسابها ، وينجلى يوم الحساب عن تقسيم الناس الى أشقياء وسعداء :( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)

7 ـ  الأشقياء فى النار يصطرخون بين زفير وشهيق ، وفى النار يظلون خالدين بمشية الله جل وعلا الذى اراد وشاء الأبدية أو الخلود الأبدى فى الزمن :( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)

8 ـ وهو نفس الخلود الأبدى للسعداء أصحاب الجنة ، وفيها يتمتعون بعطاء غير مقطوع ولانهائى( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108).

ثانيا : الاهلاك وتشابه قلوب المشركين قبل وأثناء وبعد نزول القرآن الكريم 

1 ـ والحقيقة ان الرسالات السماوية هى جمل إعتراضية فى تاريخ البشر الدينى المستمر فى الشرك والضلال  قبل وبعد كل رسالة سماوية. فالرسول يأتى بالاصلاح ، ويتم إهلاك المشركين وينتصر الحق ، ويلبث فترة ـ أو جملة اعتراضية ـ يعود بعدها الشرك كما كان. حدث هذا فى قريش التى كررت كل ملامح الشرك التى عرفتها الأمم السابقة ، لذا يقول رب العزة لخاتم المرسلين أن يتيقن من تكرار قريش لكل ملامح الشرك السابق وأنهم سينالون نصيبهم غير منقوص : ( فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ (109). وهنا نتوقف مع تشابه المشركين ووحدة الدين الالهى لكل الأنبياء وكل الرسالات السماوية ، ونزل القر آن الكريم رسالة خاتمة للبشرية قبل قيام الساعة يوضّح  ملامح الكفر فى كل زمان ومكان ، ويحذّر من الاهلاك الجزئى ويحّر من عذاب يوم القيامة الذى إقترب .

2 ـ قال جل وعلا لخاتم المرسلين عن كفر قريش بالقرآن فى سورة (فصلت ): (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) ، ثم قال عن القرآن الكريم  (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)، أى هو ـ خلاف الكتب السماوية السابقة محفوظ من لدن الله جلّ وعلا لأنه لن يأتى كتاب سماوى بعده ، ولن يريل الله جلّ وعلا نبيا بعد خاتم الأنبياء . لذا يقول رب العزة لخاتم المرسلين عن وحدة الدين الالهى والقرآن وعن مشركى قريش ( مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ  ) أى ما يقال لك من وحى سبق قوله بلغات أخرى للأنبياء السابقين . وما يقال لك من تكذيب وعناد سبق قوله من الأمم السابقة لأنبيائهم .

3ـ وعن وحدة الوحى الالهى لكل الأنبياء يقول جل وعلا ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً (164)( النساء  ). وعن وحدة التشريع الأساس لكل الأنبياء يقول جل وعلا : (  شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (13) ( الشورى ) . وعن وحدة الأمر بلا اله ألا الله فى كل الرسالات السماوية يقول جل وعلا (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) ( الأنبياء )، بل جاء التحذير موحدا لكل الأنبياء من الوقوع فى الشرك لأنه يحبط العمل الصالح  (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (65) بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ (66) ( الزمر )، جاء هذا بكل اللغات التى كان يتكلم بها كل نبى وقومه ثم كرّرها وأكّدها القرآن الكريم ، ومع ذلك يتناقض معها المسلمون فى أديانهم الأرضية..

4 ـ وعن وحدة التكذيب من كل المشركين مع اختلاف الزمان والمكان واللسان يقول جل وعلا عن طلبهم آية حسية : (وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) ( البقرة ).أى تشابهت قلوبهم فى إجماعهم على طلب آية حسية عنادا . وهم يقرنون طلبهم ’ية حسية باتهام النبى محمد بأنه ساحر أو مجنون .وهو نفس الاتهام الذى كان يقال للأنبياء السابقين ، كأنما تواصى أولئك المجرمون الطغاة على هذا الاتهام من قوم نوح الى قريش . عن اتهامهم النبى بالسحر والجنون : (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) ( الذاريات ) .

5 ـ والعادة أن القادة فى الصّد عن سبيل الله جلّ وعلا هم الملأ المترف . ويقول جلّ وعلا عن تمسك المترفين بعبادة مما وجدوا عليه آباءهم وتراثهم أو ثوابتهم الدينية المتوارثة : (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) ( الزخرف ) . والعادة ان الملأ المترف الحاكم المسيطر المتسيد هو الذى يكره الاصلاح لأن الاصلاح يعنى زوال إمتيازاته وانتهاء ظلمه وسيطرته ، لذلك يستكبرون على الحق ويتآمرون على الرسل ويعتبرون أنفسهم أولى من الرسل بالاصطفاء الالهى ، يقول جلّ وعلا مؤكدا على قاعدة بشرية اجتماعية :( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123). وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) (الأنعام ) . وهذه القاعدة القرآنية كأنما نزلت فى أيامنا هذه ..سبحان الله العظيم .!!

6 ـ يتبع هذه القاعدة فى إجرام المترفين قاعدة أخرى فى إهلاكهم طالما يتمسكون بالظلم والفسق  ويرفضون الأمر الالهى بالعدل :( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16)وقد تكرر هذا فيما سبق من قرون من بعد نوح ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17). ولذا سيتكرر الاهلاك الجزئى أو التعذيب حتى يوم القيامة نظرا لأن الظلم هو العملة السائدة فى دنيا البشر :( وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (58)( الاسراء ).

7 ـ تشابه قلوب المشركين فى كل عصر جاء تعبير القرآن عنه غاية فى السّمو والاعجاز الفصاحى فى سورة ( ابراهيم )، إذ جعلهم مع المرسلين يتحاورون كما لو كانوا يعيشون فى نفس الزمان والمكان ويتكلمون بنفس اللسان ، فيقول المشركون كلهم كذا ويرد عليهم الرسل كذا . يقول جلّ وعلا : ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)( ابراهيم ). وتنتهى الايات بالاهلاك واستخلاف المؤمنين ، ثم تعود القصة وهكذا. ومن هنا تأتى العبرة و العظة والنصائح فى سورة هود . هذا توضيح قرآنى لما جاء فى قوله جل وعلا فى سورة (هود ) : ( فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ   (109). والقرآن يفسّر بعضه بعضا ، ويشرح بعضه بعضا.

8 ـ ونعود الى سورة هود وهى تتحدث عن انتهاء مرحلة الاهلاك الكلى بفرعون وقومه ومجىء مرحلة تالية بنزول التوراة برغم اختلاف بنى اسرائيل فيها ، ولولا أن كلمة الله جل وعلا قد سبقت بانتهاء مرحلة الاهلاك الكلى لأهلكهم الله جل وعلا  ، ولكن توفية أعمالهم ستأتى يوم القيامة : يقول جل وعلا :( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)( وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) . وتكرر هذا المعنى فى قوله جلّ وعلا عن مجىء التوراة فصلا جديدا بعد إهلاك الأمم السابقة إهلاكا تاما وجماعيا : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)( القصص ).

ثالثا ::نصائح ووعظ للنبى محمد والمؤمنين فى الحقبة الأخيرة من وجود البشر فى هذا الكوكب الأرضى :

1 ـ  فحتى ينجو النبى محمد عليه السلام والمؤمنين معه من مصير المشركين لا بد من الاستقامة ، اى التمسك بالصراط المستقيم وهو الكتاب والتقوى ، ولا بد من تجنب الطغيان المناقض للتقوى والاستقامة ، والله جل وعلا بما يملون بصير : (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)

2 ـ وتجنب الطغيان يعنى تجنب الطغاة الظالمين وعدم الوثوق بهم ، وإلّا فمن يثق بهم ويركن اليهم سيكون شريكا معهم فى العذاب القادم : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ (113)

3 ـ ثم التمسك باقامة الصلاة ، ليس مجرد تأديتها ولكن أن تصلّى الصلوات الخمس خاشعا وقت صلاتك ، ثم تحافظ على صلاتك بعدم الوقوع فى الفواحش أو الظلم بين الصلوات الخمس ، وبهذا فإن الحسنات تمحو السيئات وتقلل من فرص الوقوع فيها ، فمن يشغل نفسه بالطاعة لن يجد وقتا للعصيان ، وهذه موعظة لمن يعى ويتذكر ولا ينال هذا الا الصابرون المحسنون  : (وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)  وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115).

4 ـ وأهم العبر المستفادة من إهلاك الأمم السابقة أنهم انقسموا الى ملأ مستكبر ومعهم أتباعهم فى جانب الظلم والعدوان مقابل النبى والقلة المستضعفة التى معه والتى لا تستطيع الدفاع عن النبى وعن أنفسها . لذا كان يأتى التدخل الالهى باهلاك المعسكر الظالم الرافض للإصلاح . ولو ظهر عنصر ثالث ينصر الحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ما حدث إهلاك ، لأن هذا الصنف الآمر بالمعروف سيحدث نوعا من التوازن وسيضم اليه عناصر من الملأ ومن اتباع الملأ ، وبالتالى سيكون هناك أمل فى الاصلاح ، وهذا الأمل فى الاصلاح يمنع الاهلاك . لم يحدث وجود عنصر فاعل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لذا جاء الهلاك ولم ينج منه إلا الأنبياء والمؤمنون . وهذه هى العظة الكبرى فى تاريخ الأنبياء ، يقول جلّ وعلا :

( فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116).وتؤكد ألاية التالية على شرط الاهلاك وهو تمسك الظالمين بظلمهم ورفضهم دعوة الاصلاح : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117).

ومن هنا تأتى أهمية تطبيق الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تجنبا للهلاك الجزئى . ولكن الذى يحدث أن أديان المسلمين الأرضية منها ما نبذ بالكامل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مثل التصوف ، ومنها من بدّل المعروف الى منكر والمنكر الى معروف ، وفعل مثل المنافقين والمنافقات فى عصر نزول القرآن فى المدينة حين كانوا ينهون عن المعروف ويأمرون بالمنكر . ولهذا تعرض المسلمون خلال تاريخهم فى العصور الوسطى والحديث والمعاصر لسلاسل من العذاب والاهلاك الجزئى . وسنعرض لذلك فى أوانه.

5 ـ وجوهر الموضوع هنا هو أن الله جلّ وعلا خلق الناس أحرار ليختبرهم ، وبالحرية التى يتمتعون بها عصى الأكثرية وحدث الاختلاف والشقاق ، وسيظل الاختلاف قائما ما بقيت الانسانية ، ولهذا خلقهم الله جلّ وعلا أحرارا مختلفين ، ولكن ينجو من هذا الاختلاف من يبحث عن الهدى مخلصا ويتمسك به ، وأولئك المهتدون بالحق الالهى لا يختلفون طالما يتبعون الحق ولا يتبعون الهوى . المأساة أن المهتدين قليلون ، ولهذا فإن جهنم ستمتلىء بالضالين من الانس والجن الذين أساءوا استعمال الحرية ، والذين إختاروا الضلال وحاربوا الهدى . يسرى هذا فى كل زمان ومكان قبل وأثناء وبعد نزول القرآن . يقول جل وعلا :ـ ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119).

6 ـ وبالتالى فإن من سمات الظلم فى الأديان الأرضية ظاهرة الإكراه فى الدين ، وفرض الدين الأرضى بل وأحيانا مذهبا من مذاهبه على الناس . وتتعاظم الخطيئة حين يستغل الظالمون سيطرتهم ونفوذهم فى إضطهاد المصلحين وطردهم ، وهو ما كان يفعله المشركون الظالمون مع الأنبياء ، وسبق الاستشهاد بآيات سورة ( ابراهيم ) فى هذا الخصوص ، وكان طرد النبى أو التهديد بطرده من علامات الاهلاك القادم . وهنا نسترجع قوله جل وعلا : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14).( ابراهيم )  ونتذكّر بكثير من التدبّر ذلك الوعد الالهى : ( .. فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)( ابراهيم ).   وكان العذاب مؤجلا لقريش طالما لم يرتكبوا جريمة طرد النبى ، فقال جل وعلا لهم : (  وإذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)  ) ( الأنفال  )(  وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنْ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً (77) ( الاسراء  )، وبالتالى كان هذا القصص القرآنى لتثبيت فؤاد النبى ووعظه وليكون ذكرى للمؤمنين ، يقول جلّ وعلا :  ( وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)

7 ـ أما بالنسبة للكفار المعاندين الذين لا أمل فيهم فعلينا أن نرضى لهم ما ارتضوه لأنفسهم ، وأن يظلوا على دينهم وعقائدهم كما نتمسك نحن بديننا وعقائدنا ، أى لهم دينهم ولنا ديننا ، وهذا هو منتهى العدل . وننتظر نحن وهم يوم القيامة حين يحكم الله جلّ وعلا بيننا وبينهم . وهذا هو القول الذى أمرنا الله جل وعلا أن نقوله للمشركين المعاندين :  (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (122) . وهنا تأكيد على حرية الدين والاعتقاد وتسليم الأمر لله جل وعلا لأن يحكم بين المختلفين دينيا فى يوم الدين ، وبالتالى فلا حاجة للتناحر الدينى أو الاكراه فى الدين ، بل المسالمة واحترام حق كل فرد فى حريته الدينية فى العقيدة وفى العبادة وبل وفى الدعوة لما يؤمن به بلا ضغط أو إكراه للآخرين . لو تم هذا فسيكون السلام هو العملة المتداولة بين الناس مهما إختلفت أديانهم ومذاهبهم وطوائفهم . ولكن من شيمة الكفر هو ذلك الإكراه فى الدين ، كما يفعل أتباع الدين السنى بقتل الفرد المخالف بما يسمى بحدّ الردة ، وقتال الأمم المخالفة فى الدين حتى لو كانت مسالمة لم تعتد على المسلمين طبقا لحديث البخارى الذى يشرّع القتال لارغام الأمم الأخرى على دخول الاسلام :( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ..). وبالتالى فإن الله جل وعلا يضع سبل السلامة والنجاة من الهلاك بأن يدخل الناس فى السلم كافة ، وأن يتركوا الحكم لله تعالى فى الدين الى يوم الدين ، وهذا معنى أن يكون الدين كله لله جل وعلا يحكم فيه بين الناس فيما هم فيه مختلفون ، وأن يكون الناس جميعا أحرار فى كل ما يخصّ الدين من عقيدة وعبادة ودعوى ليكونوا مسئولين أمام رب العزة يوم الدين . فالدين أساسه الحرية فى هذه الدنيا ، وأساسه مسئولية الناس عن حريتهم يوم الدين الذى هو يوم الحساب . بدون ذلك يكون احتمال العذاب والاهلاك  الجزئى واردا .

8 ـ وفى النهاية فلله جلّ وعلا وحده العلم بالغيب واليه وحده يرجع الأمر كله ، وعلينا نحن أن نعبده وحده وأن نتوكل عليه وحده وأن نستعين به وحده جلّ وعلا ، فهو الذى يعلم ما نخفى وما نعلن ، وكان هذا ختام سورة (هود ): (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)

ودائما ـ صدق الله العظيم .

 

 

الباب السادس : )حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ )

الفصل الأول : تشخيص المرض : سرطان الضلال.

مقدمة : دائما نتغنى ونكرر قوله جل وعلا:(إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ )(الرعد11 ) ونرى أن تغيير الأنفس هو العلاج . وفعلا فإن العلاج هو تغيير النفس المريضة بالخنوع والخضوع والأثرة والأنانية والسلبية والشح والبخل والدناءة والجبن والنذالة لتكون نفسا سوية متفاعلة بالخير ، تعمل المعروف وتأمر به وتتجنب المنكر وتنهى عنه . بهذا تفلح النفس وتسمو على فجورها وتتزكى ، على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع والشعب . ولكن تدبر الآية الكريمة يحتاج الى وقفة. فنحن أمام مرض معقد يستلزم الشفاء المعقد . ونبدأ التشخيص الصحيح للمرض ليكون الشفاء أو التغيير حقيقيا.

  تغيير النفس بين المرض والشفاء حسيا ومعنويا  

1 :ـ القرآن الكريم يقسّم المرض الى نوعين ويجعل الشفاء نوعين . هناك المرض الحسى الجسدى والمرض القلبى النفسى المعنوى .المرض الجسدى فى قوله تعالى :( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)(وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)(البقرة  184: 185)، ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ )( النور 61 ) .والشفاء من المرض الحسى الجسدى مرجعه الحقيقى لله جل وعلا : ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)(الشعراء 80 ) وقد أشار رب العزة الى عسل النحل كشفاء للمرض الجسدى فقال :(يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ )( النحل  69) . أمّا المرض المعنوى فهو الضلال وملحقاته ، وهو مرتبط بالقلب. والقلب فى مصطلحات القرآن الكريم هو النفس والفؤاد والصدر، وليس تلك العضلة التى تضخ الدماء فى الأوردة و الشرايين. مرض الضلال يشمل إدمان الفواحش بحيث لا يراعى ذلك الشخص حرمة البيوت التى يدخلها:( فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ)(الاحزاب 32 ).كما يشمل الكفر والنفاق، يقول جل وعلا:( فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً) (البقرة 10). والقرآن الكريم هو  الشفاء المعنوى من المرض القلبى المعنوى او الضلال ، أو هو الهداية . القرآن وصفة ناجحة للناس جميعا ، ولكن ليس كل الناس يرغبون فى هذا الدواء ، فمعظم الناس يصدّ عنه راغبا عنه وليس راغبا فيه ، ولذلك لا يستفيد منه أو يهتدى به إلا المؤمنون به، أى فمع أنه شفاء لعموم الناس إلا إن المنتفعين بهذا الشفاء هم المؤمنون وحدهم ، إذ يكون القرآن الكريم لهم هدى للصدور ورحمة يوم القيامة:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ) (يونس 57 ) . بل أكثر من ذلك ، فبعض الذى يرفض الشفاء القرآنى يحاول التلاعب بآياته فيزداد بهذا التلاعب مرضا على مرض ، وخسارا على خسار ، وبالتالى يكون القرآن الكريم شفاء ورحمة للمؤمنين به ، وفى نفس الوقت يكون خسارا على الذين يحرفون معانيه ويلحدون فى آياته ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا )( الاسراء 82 ) .

الفارق بين المريض العادى والمريض بالضلال

 1 ـ أى نحن أمام نوعية فريدة من المرض:(مرض الضلال )، ونعرف أن علاجه بالهدى القرآنى .   . المشكلة هنا أن المريض بالضلال يحسب أن ضلاله هدى ، فهو محبّ لمرضه متمسك به معتقد فيه ، ويرفض الدواء بل يعتبر الدواء مرضا . المريض الجسدى والمريض النفسى العادى كلاهما يذهب الى الطبيب بمحض إرادته ويستسلم له على سرير الكشف أو على أريكة العلاج النفسى يحكى له أسراره . أما المريض فى حالتنا فهو راض بمرضه بل قد يعمل طبيبا يدعو الناس الى المرض الذى يعانى هو منه ، وبالتالى يرفض العلاج بل يقاتل ليصدّ الناس عن العلاج ، لا يكتفى بمرضه بل يريد نشره ليكون وباءا يطيح بالبشرية ويوردها مورد التهلكة ـ أو الهلاك .

مشكلة رفض المريض للعلاج تعادلها مشكلة أخرى هى صعوبة العلاج . فالعلاج هنا ليس فقط شفاء المريض من مرضه بل تحويله الى طبيب حقيقى ، أى أن يتحول من ضال مضلّ  الى تقىّ لا يكتفى فقط بعمل المعروف واجتناب المنكر بل يكون داعية يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، أى أنه يتحول من النقيض الى النقيض، أو يتحول من الحضيض الى قمة السّمو .  وهذا مستحيل طبقا لما جاء فى القرآن الكريم عن استحالة الهداية لمن يحترف إضلال الناس مهما حرصت على هدايته :( إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ (37) ( النحل )،( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6)( البقرة )( وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10)( يس ).(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ (8)(فاطر) .

أمثلة فردية بسيطة لاستحالة شفاء المريض بالضلال  

1 : مريض بضلاله ظل طيلة عمره يدعو للضلال ، وصار إماما بهذا الضلال ولهذا الضلال .. هل يمكن فى نهاية عمره أن يتوب ويعلن للناس خطأه ، ويتحول الى داعية لما كان ينكره طيلة عمره الفائت ؟ هل يستطيع القرضاوى وأمثاله الايمان بالقرآن وحده حديثا مصداقا لقوله جل وعلا ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (الاعراف (185، المرسلات 50) ؟ هل يمكن للقرضاوى أن يعلن كفره بكل حديث آخر سوى القرآن ؟ .

2 ـ هناك مستبد أمضى حياته فى الظلم هل يمكن أن يتوب فى آخر عمره وينصف كل من ظلمهم ويعيد كل الحقوق لأصحابها ؟ هذا مستحيل . بل نجد مستبدا ورث الحكم شابا مثل حاكم الاردن ومع ذلك فهو أكثر استبدادا وفسادا من أبيه . فكيف بمن أصبح عريقا فى الفساد ؟

3 ـ هناك من وهب حياته للوصول الى الحكم باستخدام الاسلام مطية لطموحهم وعلى حساب دماء الناس ومستقبلهم ، مثل زعماء الاخوان ..أولئك من المستحيل أن يتخلّلوا عن هذا الحلم بعد أن عانوا فى سبيله عدة عقود .أولئك جميعا مرضى بالضلال والظلم ، وكل منهم يحسب أنه يحسن صنعا ، بل كل منهم يرى نفسه من المخلدين فى الجنّة . بل يتهم المصلحين بالكفر ويكفر بآيات الله جل وعلا التى تتعارض مع عقيدته وسلوكه . أى يرفض الدواء والشفاء . ومن هنا يكون هذا المرض المعنوى سرطانا لا يجدى معه علاجا سوى البتر. خصوصا ونحن نتعامل مع حالة سرطان معنوى وصلت الى عمق أعماق المريض ، وهى الإضطهاد الدينى .

الاضطهاد الدينى حضيض الضلال فى الدين الأرضى حين يتحكّم

1 ـ أغلبية البشر تقع فى الشرك العقيدى :(وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)( يوسف ) ، ولكن ليس كل البشر يجعلون الشرك العقيدى متحكما فى حياتهم . أغلبية البشر فى عصرنا يجعلون الدين شأنا فرديا لا تتدخل فيه السياسة ولا تتدخل فيه الحكومات ، وبالتالى لا تتحكّم فيهم أديانهم الأرضية سياسيا واجتماعيا ، بحيث لا يعرفون الحروب الدينية مع الآخر فى الخارج ولا يعرفون الاضطهاد الدينى أو المذهبى مع الآخر المختلف معهم فى الداخل. لا يخلطون الدين بالسياسة وتحقيق طموحات سياسية ، وليس لديهم مؤسسات دينية تتحكم فى مشاعر الناس وتوجيه عقلياتهم ودقائق تصرفاتهم بالفتاوى . تجد هذا فى معظم دول العالم  من الصين واليابان واستراليا وأوربا وأمريكا وكندا وروسيا وفى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ، بل تنتمى الى هذه النوعية أكبر دولة مسلمة ( اندونيسيا ) ومعها ماليزيا وأغنى وارقى وأصغر دولة مسلمة ( مدينة سنغافورة ) وهى (سويسرا المسلمين) حيث تأتيها ثروتها بعرق أبنائها وبشفافية ورقى نظامها العلمانى وليس ببترول يقوم الآخرون باكتشافه لها وتصنيعه لها كما يحدث فى العرب ( شرّ أمة أخرجت للناس ).  لا توجد في هذه الدول حروب خارجية أو حروب أهلية ، ويمضى فيها التحول الديمقراطى بسهولة أو بمشقة ولكن بلا حمامات دم كما يحدث عندنا . ولو حدثت فيها حركات ارهابية فالأغلب أن تأتى من عندنا ، ومن وحى الوهابية السعودية محور الشّر فى العالم .

2 ـ لقد أشار القرآن الكريم الى أمة مشركة غير معتدية وأوجب على الدولة الاسلامية المسالمة بطبيعتها وبشريعتها أن تتعامل معها بالبر والقسط والعدل : (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)( الممتحنة ) كما نهى أفراد المؤمنين عن التحالف مع دولة مشركة متعدية معتدية أخرجت المؤمنين من ديارهم وحاربتهم ظلما بسبب الدين (إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (9)( الممتحنة ). إذن هنا لدينا أفظع أنواع الكفر العقيدى والسلوكى الذى يفرض سلطانه على الناس فى الداخل متحكما فى حياتهم  الشخصية يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف ، يقوم بإكراه الناس فى الدينى ويضطهد الآخر المختلف فى الدين أو فى المذهب ، ثم لو إستطاع وكانت له قوة حربية لأشعل حروبا دينية مع دول العالم المخالفة لدينه الأرضى ، ولا يترك استغلال فرصة ليقوم بالتدمير العشوائى وقتل الناس عشوائيا فى بلادهم كما فعلت وتفعل القاعدة الوهابية فى العالم كله .

3 ـ هذا الحضيض فى الضلال لا مجال لأصحابه فى الهداية والاصلاح . ولو تحكّم هذا الحضيض فى الضلال والاضلال فى عقلية شعب ما وسيطر على دولة ما فإن العلاج المجدى هو البتر لأنها وصلت الى مرحلة متقدمة ويائسة من سرطان الضلال . وهذا هو واقع العرب اليوم . جاءتهم فرصة الربيع العربى فإذا بسرطان الضلال يحول الربيع الى حمامات دم قائمة وقادمة .ّ!

جذور الاضطهاد الدينى المعاصر ( سرطان الضلال )  .    

1 ـ : هو مرض متجذّر فى المنطقة العربية ، نعطى لمحة تاريخية عنه حتى نفهم حقيقة هذا المرض الذى يوشك بفناء العرب .

2 ـ خفّت حدة الاضطهاد الدينى والمذهبى بعد زوال نفوذ الحنابلة الذى كان من قبل فى المنتصف العصر العباسى . جاء العصر المملوكى ( 648 : 921 / 1250 : 1517 )وقد سيطر عليه التصوف السّنى فكان أقرب للتسامح،وهناك وشائج قربى بين التصوف والتشيع فلم يكن هناك اضطهاد (كبير ) للشيعة أو للأقباط إلّا إذا بدوافع سياسية أو شخصية. بانتهاء الدولة المملوكية 921 / 1517 ووقوع معظم الدول العربية تحت الحكم العثمانى إزدادت سيطرة التصوف على الحياة الدينية والاجتماعية ، ولكن لم يفلح التصوف فى كبح جماح التعصب الدينى والمذهبى للعثمانيين الذين كانوا وقت قوتهم يهاجمون أوربا المسيحية ، ثم أصبحوا فى عصر ضعفهم يواجهون تكتل أوربا المسحية ضدهم . والحرب الدينية مع الخارج لا تنفصل عن الاضطهاد الدينى فى الداخل ، لذا ارتبطت حروب الجهاد العثمانية ضد أوربا المسيحية باضطهاد الأقليات المسيحية داخل الامبراطورية العثمانية . كما أن الحروب والتنافس بين العثمانيين والصفويين الشيعة حكام ايران جعل العثمانيين يضطهدون الأقليات الشيعية العربية الخاضعة لهم . وشاخت الدولة العثمانية وضعفت فأصبحت أكثر تعصبا ضد الأقليات فى الداخل لتعوض ضعفها أمام أوربا التى طردت العثمانيين من اوربا وتنافست على وراثة ممتلكاتها وأطلقت عليها اسم ( الرجل المريض ). وحتى بعد سقوط الخلافة العثمانية وتفكك معظم الامبراطورية العثمانية فإن الحكام الجدد من جماعة الاتحاد والترقى التركية أحلّوا التعصب العرقى محل التعصب الدينى والمذهبى ، إذ آمنوا بسمو العنصر الطورانى التركى ومارسوا الاضطهاد العرقى ضد العرب والأكراد وغيرهم من الخاضعين لهم .

3 ـ فى الفصل الأخير من تاريخ الدولة العثمانية وتعصبها ظهر التعصب السنّى الوهابى معاديا للعثمانيين ولكن أشد تعصبا منهم ضد الشيعة والنصارى . قامت الدولة الوهابية السعودية الأولى عام 1745،وأرسلت حملاتها العسكرية تدمر مساجد الشيعة فى العراق وتقتل الناس عشوائيا فى الشام والعراق والجزيرة العربية والخليج ، وترسل الدعاة لنشر الوهابية . وأسقط والى مصر محمد على الدولة السعودة الأولى عام 1818 ثم أعيد قيامها ثم سقطت ثم أعاد قيامها عبد العزيز آل سعود خلال 1901 : 1932 ، وأدى ظهور البترول والظروف الدولية والاقليمية المواتية الى ظهور (السعودية ) قوة إقليمية مؤثرة تنشر دينها الوهابى بين المسلمين ، وتنشىء فروعا له أكبرها الاخوان المسلمون والسلفيون وما تفرع عنهم من منظمات وجمعيات وجماعات سرية وعلنية ، وبهم أصبحت الأسرة السعودية التى تملك الدولة السعودية أقوى وأثرى أسرة فى العالم على حساب حوالى 20 مليون قتيل خلال نشر الوهابية من عام  1745 وحتى الآن . وعلى هامش هذا التاريخ الدموى تجذّر التعصب الدينى والمذهبى فى المنطق العربية ليصبح  السرطان الذى يوشك أن يقضى على العرب اليوم .

الآثار المدمرة لسرطان الإضطهاد الدينى فى الهند وافغانستان

1 ـ: الهند أبرز ضحية للوهابية . انتشرت فيها الوهابية فتقسمت الهند الى الهند وباكستان وتأجج التعصب الدينى بين الهنود على الجانبين ( الهند ضد باكستان التى كانت تتكون من باكستان الشرقية فى البنغال وباكستنان الغربية فى البنجاب ) وبسبب تباعد باكستان الشرقية فقد قلّ فيها تأثير الوهابية  وتسيد التصوف فيها أكبر ، بينما انفردت باكستان الشرقية بالقيادة لقسمى الدولة وجيشها . وبسبب وهابية الباكستانيين الغربيين فإنهم إعتبروا مسلمى باكستان الشرقية كفارا ، وأقام الجيش الباكستانى مذبحة فى باكستان الشرقية قتل فيها أكثر من 3 مليون شخص مدنى ، مما نتج عنه انفصال باكستان الشرقية تحت اسم بنجالاديش .

2 ـ وهابية باكستان الحالية امتدت الى افغانستان فأحرقتها ودمرتها بالتعصب . وهذا هو المصير الذى ينتظر العرب . وسوريا أبرز دليل .

الآثار المدمرة لمرض الإضطهاد الدينى فى سوريا

1 ـ  :الحالة السورية الراهنى تعكس هذا المرض القاتل وتصوّر الحضيض الذى وصل اليه العرب. ففى سوريا يتقاتلون دون الوصول الى حلول وسط تحقن دماءهم .  مخطىء من يراها مشكلة سياسية ومجرد صراع فى سبيل الديمقراطية لاسقاط حكم استبدادى حزبى .هى أعمق وأعرق وأعقد من ذلك . إذ تضرب جذورها فى التاريخ الدينى فى العصور الوسطى .

2 ـ ظهر المذهب النصيرى الشيعى بقوة فى سوريا الخاضعة للدولة المملوكية يهدد السلطة المملوكية ، فتعامل معه المماليك بالاضطهاد وإجبارهم على التصوف السّنى الدين العملى للعصر المملوكى . ولكن جاء العثمانيون باضطهادهم المشار اليه . وقبيل سقوط الدولة العثمانية حاول السلطان عبد الحميد الثانى تجديد قوتها وإنقاذ ما تبقى منها بتهديد انجلترة وفرنسا اللتين تسيطران على مئات المسلمين فى الهند والجزائر وشعوب اسلامية أخرى فى أفريقيا وآسيا خارج الدولة العثمانية. فأنشأ ودعا السلطان عبد الحميد للجامعة الاسلامية ليسيطر على تلك الشعوب المسلمة ويستخدمهم ورقة ضغط وتهديد المستعمرين البريطانيين والفرنسيين الطامعين فى الدولة العثمانية .

3 ـ قبلها طمعت الأقليات المستضعفة فى الشام فى معونة أوربا ، وخصوصا المسيحيين الموارنة فى الشام ومعهم الشيعة خصوصا ( النصيريين ) والدروز . شجعها نشاط الارساليات المسيحية فى جبل لبنان وسوريا . واجه العثمانيون هذا بحملات اضطهادات ضد تلك الأقليات وصلت الى مذابح كان أشهرها عام 1860 ، وتميز العثمانيون بإقامة تلك المذابح للمسيحين بالذات وكان من ضحاياهم الأرمن فى بلادهم الأصلية أرمنيا حين كانت تابعة للعثمانيين ، ثم النصارى والشيعة فى الشام مما أحدث هجرات جماعية للأرمن ولمسيحيى الشام الى الأمريكيتين ومصر، ومعرف ما سمى بأدب المهجر ، وهجرات مثقفى الشام الى مصر وهم الذين أنشأوا الاهرام ودار الهلال ( المصور ـ روز اليوسف ) وأسسوا نهضة مسرحية فى مصر .

4 ـ أولئك المثقفون المسيحيون والشيعة أرهبهم مشروع السلطان عبد الحميد لاحياء الجامعة الاسلامية ، وخشوا من مزيد من الاضطهاد فقاوموه بالدعوة الى القومية العربية لتجمع العرب جميعا بغض النظر عن الدين والمذهب ضد الأتراك . قاد المسيحيون العرب ـ ومنهم ساطع الحصرى ـ تلك الدعوة للقومية العربية بديلا عن الجامعة الاسلامية، وتكونت أحزاب تدعو للقومية العربية أهمها حزب البعث بقيادة  المسيحى ميشيل عفلق ، وإزدهر عصر القومية العربية بزعامة عبد الناصر ، وانتهت القومية العربية بهزيمة 1967 ، وتم دفنها نهائيا بغزو صدام للكويت وبهزليات القذافى.    

5 ـ تحت عباءة القومية العربية نجح حزب البعث  فى الوصول الى السلطة فى سوريا والعراق . وكان حزب البعث فرصة للأقلية النصيرية العلوية الشيعية المستضعفة فى سوريا فى الوصول للحكم بشعار القومية العربية . ونلاحظ أن الهدف الأعظم لحافظ الأسد لم يكن على الاطلاق استرداد الجولان بل البقاء فى سدة الحكم هو وطائفته فى سوريا. كما نجح المغامرون المهمشون فى العراق من خلال البعث للوصول للحكم ، فحكم صدام العراق مواجها حافظ الأسد فى حكم سوريا . ولأن ولاءهذا وذاك   للمذهب وليس للحزب فقد إشتد الشقاق بين حزب البعث ( السنى ) الحاكم فى العراق وحزب البعث ( الشيعى النصيرى العلوى ) الحاكم فى سوريا ، واستحال تحقيق حلم الاتحاد لدى القوميين العرب فى البلدين لأن الجذور الدينية هى الأساس ، وهى الصراع ( الخالد ) بين الشيعة والسّنة . وبينما اضطهد بعث العراق السّنى الشيعة العرب فى العراق كالمعتاد فى تاريخ العراق فقد اضطهد شيعة البعث حكام  سوريا السنيين الأغلبية فى سوريا منتقما لما حدث من قرون إضطهاد سابق. وبينما لجأ شيعة العراق المعارضين لصدام الى تسييس الدين لحاقا بثورة إيران الشيعية المتطرفة للعمل ضد صدام حسين السّنى فإن سنيى سوريا المعارضين لحافظ الأسد قاموا بتسييس دينهم بالوهابية فأصبحوا ( الاخوان المسلمين ) المعبرين عن الأغلبية السّنية المقهورة من الأقلية الشيعية الحاكمة.

6 ـ زاد هذا مع انتشار الوهابية فى سوريا فتحول الصراع فى سوريا الآن الى ( صراع وجود) ما إن يبدأ حتى يتحول الى حمامات دم . فعل هذا حافظ الأسد فى مذابح حماة وحلب ويقوم به الآن بشار فى مذابح مستمرة. فى صراع الوجود ليس مطروحا مجرد البقاء فى الحكم بل البقاء على قيد الحياة، لأن زوال بشار من الحكم يعنى زوال الطائفة الشيعية النصيرية العلوية من الوجود ـ هكذا يحلم الاخوان المسلمون فى سوريا ، وهكذا يتصور بشّار وطائفته التى يبلغ تعدادها خمس عدد السكان فى سوريا . ولذا تتردد الدول الكبرى فى التدخل خوفا من انتصار الاخوان وقيامهم باستئصال الطائفة العلوية . ولهذا ستبقى الأزمة السورية تنزف دما بلا حل سوى البتر . هنا صراع وجود يقوم على المذابح والبتر . هنا مرض سرطان لا علاج له إلا بالبتر .

لبنان بين حرب أهلية سابقة وبوادر حر أهلية قادمة

1 ـ فى التجربة اللبنانية دليل آخر . بسبب الاضطهاد الدينى فى القرن التاسع عشر وافقت أوربا فى اتفاقية سايكس بيكو على فصل جبل لبنان الملىء بالأقليات الدينية والمذهبية . وأجاد الموارنة إستغلال شعار القومية العربية حتى تحقق لهم النفوذ فى لبنان ، ثم بعدها هجروه وارتدوا الى دينهم الأصيل ليكون شعارهم الحقيقى ضد المسلمين العرب ، وفى سبيله تتنوع وتختلف تحالفاتهم من الشيعة الى السنة حسب مصالحهم .

2 ـ إقامة اسرائيل ألهب الصراع وجعله أكثر تعقيدا ، أدخل لبنان فى حرب أهلية مروعة، والآن يقف لبنان على حافة حرب أهلية كبرى تتعدد أطرافها المحلية والاقليمية والدولية بسبب ايران وسوريا وحزب الله من جهة والسعودية واسرائيل وأمريكا من جهة أخرى ، والفلسطينيين بين هنا وهناك.

الدروز الشيعة بين اسرائيل والسنيين

1 ـ ولكن قيام إسرائيل كان طوق نجاة للشيعة الدروز فى فلسطين ، فقد وجدوا فى دولة اسرائيل الحماية من إضطهاد السنيين المزمن والذى ارتفعت وتيرته مع تسيد الوهابية . لذا سارع الدروز مبكرا بالانضمام الى الدولة الاسرائيلية واكتسبوا جنسيتها وصاروا عماد جيشها ، بينما إنحاز دروز لبنان للعروبة فى عهد كمال جنبلاط ـ وبعد إغتياله تتأرجح بوصلة ابنه وليد جنبلاط  فى تحالفاته.

اليوم سوريا ..وبعدها الخليج

1 ـ السعودية ـ محور الشّر فى العالم ـ تنازلت مؤقتا عن تحقيق حلمها فى الاستيلاء على الكويت ودول الخليج لأن الدول الكبرى لا تسمح لها بذلك ، فاستعاضت عن تحقيق الحلم المستحيل بنشر الوهابية فى الخليج فاحتدم الاضطهاد السنى الوهابى للشيعة وهم الأغلبية فى دويلات الخليج .

2 ـ بقيام الدولة الدينية الشيعية فى ايران نشأ وضع جديد ، فايران الشيعية ترى أن من حقها السيطرة على الخليج ( الفارسى ) وليس العربى بكل ثرواته النفطية خصوصا مع وجود أغلبية سكانية شيعية  تتحكم فيها أقلية سنية وهابية حاكمة . لذا تعمل ايران على امتلاك السلاح النووى لتساوم به أمريكا وترعب به عرب الخليج السنيين ، وتقطع دابر النفوذ الأمريكى والغربى والاسرائيلى فى الخليج ليكون خالصا لها ، وبه تقود العالم الاسلامى ( السّنى ) بدل السعودية فى مواجهة أمريكا واسرائيل . وتستعيد ايران مجدها القديم حين كانت فى عهد الأكاسرة تمثل القوة الشرقية ضد الامبراطورية الرومية البيزنطية . إمتدّ النفوذ الايرانى معتمدا على وجود الأغلبيات الشيعية فى الخليج بدءا من المنطقة الشرقية فى السعودية المليئة بالبترول ، الى قطر والامارات والكويت وعمان والبحرين . هذا مع شيعة العراق . نجحت ايران فى العراق ، وتستغل الربيع العربى ليصل الشيعة الى الحكم على حساب النظم السلفية الوهابية . وتمدد النفوذ الايرانى ليصل الى حماس والى صعدة فى اليمن وحزب الله فى لبنان ، مما يعقّد الصراع فى سوريا وفلسطين واليمن .

3 ـ فى المقابل تعمل السعودية وحلفاؤها على احتواء ومواجهة التمدد الايرانى بالضغط على شيعة الخليج ومصر واليمن وشمال أفريقيا وبحشد الخليج تحت زعامتها ولو أدى الأمر الى الاتحاد مع البحرين أضعف حلقات الحلف الوهابى السنى ضد ايران . ثم بالحرب المباشرة والمستترة لحزب الله فى لبنان ولنظام الأسد فى سوريا .

4 ـ كما تعمل السعودية على إضعاف اليمن وتقسيمه حتى لو كان أحد القسمين تابعا للماركسيين أو للشيعة الحوثيين أو للقاعدة ، لأن وجود اليمن دولة قوية متحدة يهدد الاسرة السعودية ، ففى نهاية المطاف فاليمن صاحب حضارة ممتدة ودولة تجاوز عمرها آلاف السنين وليس مثل الدولةالسعودية الراهنة التى ظهرت للوجود عام 1932 .

5 ـ ايران هى عنصر تفجير المنطقة . وستكون سعيدة بتفجيرها حتى يظهر ( المهدى المنتظر الفارسى ) يتجول فى خرابات ما كان يسمى بالبلاد العربية .

موجز النعى مقدما :

1 ـ: المقصود أنه صراع دينى بين أديان أرضية يتقاتل أتباعها حول النفوذ والسيطرة ، وفى هذا الصراع يتم استخدام كل الشعارات . بدأ بالشعار القومى العربى ثم الشعار الاسلامى والآن يلحق به جزئيا شعار حقوق الانسان والديمقراطية.وفيما يخصّ موضوعنا عن ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) فيتم استغلاله نظريا وتطبيقيا فى خدمة الهدف السياسى وبالتالى يتأسس تناقضهم مع الاسلام ودولته المدنية الحقوقية القائمة على الحرية المطلقة فى الدين والديمقراطية المباشرة والعدل والمساواة وحقوق الانسان وكرامته .

2 ـ هذه أمثلة واقعية للحضيض الذى هبطنا اليه . هو سرطان معنوى يكون الشفاء منه والتخلص منه بالبتر . ويتبارى المتصارعون فى بتر بعضهم البعض . يبدأ الأمر فكريا بإلغاء الآخر دينيا ومذهبيا وحقوقيا ، ثم يتحول الالغاء الفكرى والدينى الى إستئصال جسدى ودموى . فهم المرضى وهم الأطباء والقتلة ، هم القاتل وهم الضحية ،هم الباتر وهم المبتور ، ولا يبترون سوى أعضائهم وأطرافهم ولا يعقلون. وكل فريق يقتل الفريق الآخر أو يبتره جهادا فى سبيل الله.وكلهم جميعا أعداء الله جل وعلا .

3 ـ فى معارك البتر هذه لا تجدى الحلول المظهرية فى الشفاء . لا ينفع فى علاج مريض السرطان المادى تدليك عضلاته وعمليات تجميل لجلده . بالتالى لا ينفع فى علاج السرطان المعنوى أن تعالجه سطحيا . لا يجدى التغيير فى النفس سطحيا ..لا بد من تغيير كامل وشامل . لا بد أن يكون التغيير ( تصنيعا ). ليس تغيير الفرد ولكن ( تصنيع الفرد ) من الألف الى الياء . وليس تصنيع فرد بل تصنيع كل أفراد المجتمع ..

4 ـ يا للهول ( تصنيع كل أفراد المجتمع ؟ ).. كيف هذا ؟. 

 

 

الباب السادس  ( حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ )

الفصل الثانى : قواعد التغيير والتصنيع : تصنيع الفرد والمجتمع فى إطار التغيير لأفضل

أولا : ـ الوصفة السريعة لا تنفع ولا  تجدى فى تصنيع الفرد والمجتمع  

 1 ـ كان الخديوى إسماعيل معجبا بالحضارة الأوربية فحاول أن يجعل مصر قطعة من أوربا ، فارسل البعوث من الطلبة وأسس الأوبرا وقام بتعمير وتحديث القاهرة ، التى لا تزال أحياؤها الحديثة تنبض بجهوده ، ولكن سبق الخديوى اسماعيل بانشاء مجلس شورى النواب فى سابقة لم تحدث فى الشرق . وجىء بالنواب فى المجلس ، وهم لا يعرفون سوى الطاعة للخديوى الذى كانوا يخاطبونه بولىّ النعم . وقيل لهم إن المفروض فى النواب أن ينقسموا الى جبهة يمينية توافق ولى النعم ، وجبهة يسارية تعارضه ، وعليهم أن يختاروا أحد الجبهتين ، فما كان من النواب جميعا إلا أن تزاحموا الى جبهة اليمين تأييدا لولى النعم . حدث هذا فى ستينيات القرن التاسع عشر  . بعدها بأكثر من قرن كانت أغلبية المصريين توافق بإجماع مذهل أوديمقراطى جدا أى كلمة يقولها المستبد العسكرى عبد الناصر ، الى أن أفاق المصريون على نكسة 67 . جاء السادات مثل الخديوى اسماعيل مغرما بالغرب ، ويريد مثله إصلاحا فوقيا مظهريا فأعلن  لأول مرة عن السماح بالمنابر السياسية لتكون مقدمة لتكوين الأحزاب ، فتم إنشاء آلاف المنابر ، وتزاحم المواطنون طوابير للسماح لكل منهم فى تكوين منبر ، وأتخذوها (سبّوبة ) ووسيلة للتكسب وتنفيذا لتوجيهات السيد الرئيس ( السادات ) . وتقدم السادات خطوة فأنشأ حزب مصر ليمثّل السلطة بديلا عن الاتحاد الاشتراكى الذى أنشأه عبد الناصر لتجميع الشعب خلفه . وساعد السادات على إنشاء حزب العمل وسمح بظهور حزب التجمع اليسارى الاشتراكى الناصرى الماركسى لخلق معارضة مستأنسة وديكور ديمقراطى سطحى مظهرى . ثم كالعادة أصابه الملل من أداء حزب مصر الحكومى فأعلن إنشاء حزب جديد للسلطة أسماه ( الحزب الوطنى ) وفى يوم واحد ( هرول ) نواب وقادة وأعضاء حزب مصر الى الحزب الجديد ، ودخل مصطلح ( الهرولة ) الى قاموس السياسة المصرية . كل هذا يعبر عن نقص فى ثقافة الديمقراطية . إذ أنه لا بد من نشر وتعميق ثقافة الديمقراطية فى الطبقات الشعبية والأسرة والبيت والمدرسة والجامعة والعمل والشارع والنادى والمؤسسات الحكومية والأهلية.  لا يصح أن تؤسس مؤسسات الديمقراطية فوق أرض هشّة فتنهار فوق رءوس الناس فوضى ، بحيث يشتاق الناس لمستبد يعيد قبضته الحديدية . أى يفضّل معظم الناس التضحية بالحرية مقابل الأمن .

2 ـ ولأن الديمقراطية هى المشاركة فى الحكم ، وتفاعل الفرد فى المجتمع معبرا عن رأيه وموقفه فإن ما نقوله عن الديمقراطية ينطبق تماما على موضوعنا عن تفاعل  الفرد بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تفاعلا يقلل من وجود الأغلبية الصامتة التى هى نذير سوء بهلاك المجتمع . وبالتالى فلا تجدى الوصفة السريعة فى إقامة ديمقراطية فوقية سطحية مظهرية ، أو فى تفاعل حقيقى خلّاق يأمر فعلا بالمعروف ويتخلّق به ، وينهى عن المنكر ويتجنّبه . بدون ثقافة ديمقراطية متعمقة رأسيا وسائدة أفقيا يتحول المجتمع بالحرية التى لا يحسن إستغلالها الى فوضى وغابة تسقط فيها الدولة ويتمنى الناس وجود حاكم مستبد يضبط البلد ،. لو تم تنفيذ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بلا ثقافة ووعى متعمق ومنتشر فسيكون فى أفضل حالاته زوبعة وتمضى ، أو تكون موجة عاطفية موسمية وتنتهى ، أما فى أسوأ حالاتها ستكون خداعا لاستمرار الاستبداد خلف مظاهر كاذبة .

ثانيا : الوعى هو الأساس

1 ـ إن الاستعداد للتضحية بالنفس والمال مما يساعد على ترسيخ ثقافة الديمقراطية والتفاعل بالخير. ولكن بدون ثقافة ووعى فلن يجدى العطاء وستكون التضحية فى سبيل الشّر والارهاب.

المثال المؤلم هو فى تاريخ المسلمين بعد وفاة النبى محمد عليه السلام . أطاع الرسول عليه السلام أوامر ربه فى تشريع القتال : (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) ( البقرة ) فلم يقم مطلقا بالاعتداء على أحد ، واكتفى بالحرب الدفاعية . وفى أواخر حياته أرسل رسائل للحكام يدعوم سلميا الى الاسلام  ، وشمل هذا كسرى وهرقل والمقوقس وغيرهم . كانت رسائل لإعلامهم بالاسلام ، تنصح وتعظ ، ولا تهدد بشنّ حرب . وفى عهده عليه السلام كان أغلب مسلمى المدينة يجاهدون مع النبى عليه السلام فى سبيل الله جل وعلا بالمال وبالنفس . وقبيل موته عليه السلام رأى النبى جموع العرب تدخل فى دين الله أفواجا ، ونزل قوله جل وعلا فى سورة النصر (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3)). رآهم يدخلون فى الاسلام بمعناه الظاهرى أى المسالمة والسلام ، وليس بمعناه القلبى فلا يعلم غيب القلوب وما تخفيه الصدور سوى رب العزّة جل وعلا . دخلوا فى الاسلام بمعنى السلم والسلام ، ومعهم بنوأمية وغيرهم من أساطين قريش أصحاب التاريخ الطويل فى حرب الاسلام .

إختلف الوضع بعد موته عليه السلام فسيطرت قريش ( المهاجرون و( الطلقاء ) أى من أسلم بعد فتح مكة ) مما دفع الأعراب فى نجد وغيرها الى الردة ، فتوحّد القرشيون فى حرب المرتدين الى أن هزموهم . وحتى لا يعود الأعراب الى الثورة والردة فقد رأت قريش أن تستثمر طاقتهم الحربية وغرامهم بالسلب والنهب والغزو فى حرب الأمم المجاورة التى لم تحاربهم . ونسى كبار الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وغيرهم قوله جلّ وعلا تحريم قتال المسالمين الذين لم يعتدوا على المؤمنين :( لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) ، ونسوا أن الأمويين وغيرهم ممن دخلوا فى الاسلام مؤخرا هم الذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم وقاتلوهم من قبل ، وممنوع موالاتهم طالما يحاربون المؤمنين معتدين ، نسوا قوله جل وعلا عن بنى أمية وغيرهم :( إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (9)( الممتحنة ). الأعراب الذين لا علم لهم بحقائق الاسلام كان سهلا  إقناعهم بأن تلك الأمم المجاورة كفرة يجب قتالهم .  وبهذا قاتل العرب بكل فدائية فى الفتوحات معتقدين أنه جهاد فى سبيل الله جل وعلا. و كان بعض المرتدين السابقين أشجع الفرسان في الفتوحات ، بل إن أشجع الفرسان المسلمين على الإطلاق في معارك القادسية وفتح المدائن والقضاء على فلول كسرى كان طلحة بن خويلد الأسدى الذي ادعى النبوة في حركة الردة ، ثم عاد للإسلام بالتأويل القرشى وظل يكفّر بشجاعته وفروسيته عن خطيئة الردة ، وفق ما ترسّب فى عقليته من أن غزو تلك البلاد هو جهاد فى سبيل الله يتفانى فيه طالبا الموت تحت شعار إمّا النصر وإمّا الشهادة .!وارتكب العرب كل هذا القتل والنهب والسبى لشعوب تمتد من خراسان الى الاندلس ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا . والآن يسير على نفس الطريق قادة الارهاب حين يقنعون الشباب ويخدعونهم بتفجير أنفسهم على أنه جهاد فى سبيل الله . إذن فقبل بذل المال والتضحية بالنفس لا بد من الوعى حتى تكون التضحية فى الخير وليس فى الشر .  

ثالثا : مراعاة التدرج وفهم الأوضاع القائمة  من أساسات الوعى

1 ـ وتدبر آيات القرآن الكريم يعطى أمثلة .  ففى السور المكية ولمدة 13 عاما كان التركيز على التعليم والتوعية باخلاص العقيدة وإلتزام الخلق السامى ، وأن تكون العبادات وسيلة للتقوى ، ومن ملامح التقوى حسن التعامل مع الناس والتزام الرقى الحضارى والأخلاقى فى التعامل الفردى والجماعى وعلى كل المستويات . ولم يأت فرض القتال مطلقا فى  السور المكية بل ظل الأمر بالكف عن رد الاعتداء ساريا بعد الهجرة للمدينة ، وتحمل المسلمون فى أول عهدهم وهم بالمدينة اعتداءات متكررة من قريش لأن الأمر بالقتال لم يكن قد أتى بعد . ثم جاءهم الإذن بالقتال يشير فى حيثياته الى تحمل المسلمين لهجوم قتالى من العدو المعتدى بينما هم ملتزمزن بكف اليد وعدم الدفاع عن انفسهم . يقول جلّ وعلا :( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)( الحج ). أى بدأ رب العزة بترسيخ ثقافة لااله إلا الله وثقافة الوعى الخلقى ، أى ثقافة الديمقراطية المباشرة وثقافة التفاعل الصحى فى المجتمع قبل أن تبدأ الممارسة فى المدينة ، ثم شهدت المدينة نزول السور المدنية بتفصيلات التشريعات السياسية التعبدية والأخلاقية والاجتماعية ..وغيرها ..

2 ـ تخيل لو نزل فى مكة قوله جل وعلا : (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)( التوبة ) وهى فى أواخر ما نزل من القرآن وفيه الرد على تحالف المشركين المعتدين بالاتحاد ضدهم كافة . لو فرضا نزل هذا الأمر فى مكة حيث يعانى المؤمنون الاضطهاد والعذاب ، عندها سيكون تطبيق هذا الأمر ـ لو حدث ـ انتحارا جماعيا . إن تشريعات التعامل مع المعتدين تختلف حسب قوة المظلومين وضعفهم . ويجب الوعى بهذا . عند الضعف يكون التشريع هو الصبر على الاضطهاد أوالهجرة ، وعند القدرة على رد الاعتداء يكون الاذن بالقتال الدفاعى . وعند امتلاك زمام القوة يكون الاستعداد لرد إعتداء أى تحالف ظالم معتد . هذا مع التمسك بالسلام وعدم الاعتداء على المسالمين فى كل حال . لا بد من الوعى بأن لكل مقام مقالا . وبدون ذلك يقع الطرف الضعيف فى الانتحار كما يفعل الانتحاريون الذين يوصفون بالارهابيين لأنهم فى عجزهم عن مواجهة جيش العدو المعتدى يستبيحون قتل الأبرياء المدنيين.

3 ـ ولنتخيل نزول هذه الآيات فى مكة : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) ( النور )، هى من أوائل ما نزل فى المدينة ، ونزلت فى الحث على حضور المجالس السياسية للشورى وعدم التخلف عنها . وكان مستحيلا تطبيقها فى مكة  حين كان المؤمنون فى اضطهاد وملاحقة وتحت الحصار.  ولكن سبق هذه الآيات فى مكة الأمر بالشورى كمجرد تمهيد نظرى لملامح المجتمع المسلم: ( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)( الشورى ).

ثالثا التركيز على التغيير منذ الصغر

1 ـ الأمويون والأعراب الذين أمضوا معظم حياتهم فى حرب للاسلام تمسكا بثقافة الجاهلية ثم أضطروا لإعتناق الاسلام قبيل موت النبى لم يتغيروا ، ثقافتهم التى عاشوا عليها وحاربوا الاسلام فى سبيلها لم تتغير ، لذا سرعان ما أعلن الأعراب ردتهم بعد موت النبى ، ووجدها بنو أمية فرصة ليستعيدوا صدارتهم بالوقوف الى جانب بنى عمومتهم القرشيين المهاجرين ، وبعدها قفزوا للحكم باسم الاسلام فإعادوا المسلمين الى ثقافة الجاهلية تحت شعر الاسلام . طول معايشتهم لثقافة الجاهلية وطول معايشتهم قرونا لما وجدوا عليه آباءهم كان هو الأساس الراسخ والذى عاشوا عليه طفولتهم وشبابهم وكهولتهم ، أما الاسلام الذى إعتنقوه بضع سنين فى حياة النبى فكان شيئا عارضا وسهلا محوه من قلوبهم .

2 ـ نفس الحال ينطبق على منافقى المدينة ، وقد كانوا فيها الملأ المتصدر قبل الهجرة . فسببوا المتاعب للنبى والمؤمنين معه . ليس فقط لأنهم  أسسوا لهم زعامة وقيادة قبل هجرة النبىوالمؤمنين الى المدينة فلما حدثت الهجرة فقدوا تلك الزعامة وتلك الصدارة بالوضع الجديد ، ولكن أيضا لأنهم أمضوا شبابهم وكهولتهم وقد إعتادوا على ثقافة الجاهلية فأصبح صعبا عليهم التخلّى عنها ، وهذا شأن الانسان عادة بعد أن يتجاوز الخمسين من عمره واعتاد على موروثات وعادات وتقاليد أصبحت لديه دينا أرضيا ملزما .

3 ـ لذا يكون صعبا أو متعذرا أو مستحيلا تثقيف الانسان بثقافة الديمقراطية بديلا عن ثقافة العبيد ، وأن يتثقف بالفاعلية والتفاعلية والمشاركة الايجابية فى المجتمع مستعدا للتضحية فى سبيل الخير ، بدلا من ثقافة الخمول والخضوع والسلبية و ( الأنا مالية ـ من العبارة المصرية المشهورة : وأنا مالى ؟ ).

4 ـ هناك من يبلغ الخمسين والستين بل والسبعين وتكون لديه قابلية للهداية والتفاعل الايجابى بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لأنّه يكمن فى قلبه استعداد داخلى لم يجد طريقه للتعبير والظهور  ، فلما جاءته الدعوة رحّب بها لأنه كان يعايشها من قبل فى ضميره متمنيا ، وكان ينظر لما حوله متألما . أما من يمضى معظم عمره فى الصّد عن سبيل الله والظلم والفساد والاضلال والافساد فلا يمكن أن يتغير ، ولو أرغمته الظروف فسيضطر الى مجاراة الوضع الجديد نفاقا حتى يجد الفرصة ليتآمر ويدمّره من الداخل . 5 5ـ التثقيف يبدأ مع الطفل والشباب فى مرحلة التعلم والاستيعاب . وتأتى المتاعب عادة من كبار السّن ممن تشبعوا بثقافات الاستبداد والتخلف والتسلط وتكونت لهم مصالح لا بد لهم أن يدافعوا عنها ويكون الاصلاح عدوا لهم .وأولئك يجب مداراتهم بالتى هى أحسن ، فهم الى زوال بحكم السّن ، هم جزء من الحاضر ويمثلون الماضى. أما الشباب والأطفال فهم الجزء الأكبر من الحاضر وهم وحدهم أصحاب المستقبل.

ثالثا : الجمع بين التغيير الأفقى والتغيير الرأسى معا 

ولكنّ هذا لا يعنى مطلقا إهمال تثقيف الكبار . إن التغيير الرأسى هو مع تثقيف الأطفال والشباب ، بينما يكون التثقيف الأفقى هو شموليته للمجتمع كله . فالتركيز فى العمق بتوعية وتعليم الطفال والشباب لا يعنى الاهمال التام لكبار السّن والشيوخ ، فأولئك ينالهم نصيبهم فى الدعوة الأفقية التى تشمل المجتمع بأسره من خلال وسائل الاعلام والاتصال والمساجد والكنائس والنوادى والمقاهى ..لو نجح التركيز فى العمق مع الأطفال والشباب مع التركيز الأفقى فى النشر العام للوعى فسيتم تصنيع الانسان ليكون متفاعلا بالخير فينجو المجتمع من الاستبداد والفساد ..ومن الهلاك .

 

 

الباب السادس ( حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ )

 الفصل الثالث  ـ إرادة البشر فى التغيير بتصنيع الفرد والمجتمع  

 أولا : مفهوم التصنيع : 

1 ـ نتحدث عن إعادة تأهيل المواطن ،أو تصنيعه بتغيير شامل كامل للنفس ،أو بتصنيع الفرد المتفاعل الايجابى والمجتمع النابض بالخير . كيف يمكن تصنيع ذلك الفرد المتقى وذلك المجتمع المتقى الذى يتفاعل بالخير ويتواصى بالحق والعدل والصبر والاحسان ؟

2 ـ فى البداية نقول ( تصنيع ) لأنه يتم تصنيع للانسان بعد مولده بالتعليم . الطفل يولد بفطرته وبراءته ، ثم يتم تصنيعه بظروف المجتمع ومدى إستجابته لهذه الظروف إيجابا وسلبا خيرا أو شرا. بغفلته أو بارادته الفردية يتحدد مصيره وتتشكل مسيرته فى الحياة . هذا الطفل البرىء عندما يكبر قد يصبح مثل نيرون والحجاج بن يوسف وجنكيزخان وهولاكو وتيمورلنك وهتلر و صدام ومبارك والقذافى وغيرهم من سفاحى التاريخ ، وقد يصبح فى عظمة عمر بن عبد العزيز ومعاوية بن يزيد بن معاوية والحسن البصرى والخليل بن أحمد الفراهيدى وابن المقفع وأبى حنيفة ومحمد عبده وتولستوى وغاندى ومارتن لوثر كنج ونيلسون مانديلا ، وقد يصبح ضمن ألاف البلايين من البشر الذين عاشوا وماتوا وسيعيشون ويموتون دون أن يتركوا أثرا،عاشوا موتى وماتوا موتى لا يحسّ بهم أحد ولا يأبه بهم أحد.هم الأغلبية الصامتة التى ينطبق عليها قوله عزّ وجلّ :(هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا )( مريم 98 ). بالتصنيع الجيد كما نفهم من القرآن يمكن تغيير الفرد والمجتمع من أسفل سافلين الى أحسن تقييم .

ثانيا : إرادة التصنيع والتغيير:

1 ـ التصنيع المراد أمر هائل ، فهو يشمل المجتمع كله أفقيا ، ويتغلغل فى النفس رأسيا ، ليتعانق الفرد والمجتمع بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والتواصى بالحق والوقوف ضد الظلم ، وتأسيس العدل والديمقراطية المباشرة التى لا وجود فيه لحاكم فرد أو طبقة حاكمة تعلو على الناس وتظلم الناس.

2 ـ إنّ هذا التغيير يبدأ بإرادة قوية حاكمة واعية مستبصرة. هذه الارادة البشرية عندما تشاء وتريد التغيير تأتى إرادة الله جل وعلا ومشيئته تالية لها ومؤيدة لها ، وهذا معنى قوله جلّ وعلا :(إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ). وهذا يستلزم توضيحا قرآنيا:

ثالثا : مشيئة الإنسان هي الأصل فى إرادة التغيير والتصنيع

1 ـ مشيئة الإنسان هي الأصل في الهداية أو العدل مع الله.:

ان العدل درجات، وان الدرجة العليا فيه هي في التعامل مع الله بمعنى الا نظلم الله تعالى في اتخاذ شريك له وهو وحده الخالق المسيطر الذي لا يشرك في حكمه احدا (الكهف 26)وهذا العدل يستلزم هداية الي الحق تقوم علي الفطرة السليمة ،وهذه الهداية تبدأ باختيار الإنسان ،فالانسان يفكر بعقله مهتديا بفطرته السليمة يحاول الوصول الي الحق بموضوعية ،وعلي اساس هذا الاختيار الانساني للهداية يرشده الله تعالي الي الهداية ،أي تأتي مشيئة الله للهداية تالية ومؤكدة لمشيئة الانسان واختياره طريق الهداية ،وفي ذلك يقول الله تعالى ( ويزيد الله الذين اهتدوا هدى :مريم 76)ويقول(والذين اهتدوا زادهم هدي وآتاهم تقواهم :محمد 17).

وفي المقابل فأن الذي يختار الضلال تأتي مشيئة الله تؤكد علي الذي اختاره من ضلال (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا : مريم 75)(في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا :البقرة 10).

وفي الحالتين فان من يشاء  الهداية يشاء الله هدايته  ،ومن يشاء الضلالة يشاء الله ضلالته ،يقول الله تعالي (فان الله يضل من يشاء، ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات :فاطر 8)(قل ان الله يضل من يشاء ويهدي اليه من اناب :الرعد 27 ).

باختصار فان اقامة العدل مع الله تعالى ( أي بالهداية )يتوقف علي مشيئة الانسان وارادته الحرة .الانسان هو الذي يقرر ويشاء الهداية وتأتي مشيئة الله لتؤكد علي هذا القرار.وقد يستلزم هذا الاختيار جهادا وتكون هداية الله و إرشاده قريبة من هذا الجهاد ،يقول تعالي ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين :العنكبوت69).

 2   ـ مشيئة الإنسان هي الأصل أيضا فى ارادة التغيير أو إقامة العدل بين الناس:

وايضا فان اقامة العدل مع الناس ومع البيئة تستلزم مشيئة الناس وارادتهم ،فكيف يقوم الناس بالقسط دون ارادة ؟بل لابد للإرادة ان تكون جماعية ،وبقدر تكاتف الجماهير خلف الارادة الجماعية لتحقيق العدل يمكن النجاح في تحقيق العدل بأقل قدر ممكن من الخسائر . ولكن السؤال الهام هنا كيف ينجح الناس علي حمل انفسهم علي المبادرة بالنهوض لتحقيق العدل ضد الظلم السائد ؟ كيف يترك الناس القيم الاجتماعية الهابطة مثل الخنوع والسلبية والتواكل ليستبدلوها بقيم سامية هي الايجابية والحرية والشجاعة والحرية والتضحية والفداء وحب الحق والدفاع عن العدل؟. ان الاجابة هنا تكمن في التغيير،تغيير النفسية أو الذهنية ،وهذا التغيير يستلزم مشيئة حازمة قادرة فاعلة ،فان شاء الناس تغيير ما بأنفسهم من خنوع وخمول وتواكل وسلبية وقرنوا المشيئة بالعمل نجحوا ..وهنا تأتي مشيئة الله تالية لمشيئة الناس وهذا معني قوله تعالى (ان الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم :الرعد 11)أي هي نفس القاعدة ان اقامة العدل مع الله تستلزم اختيار الانسان للهداية ثم تأتي ارادة الله لتؤكد هذا الاختيار الانساني ،واقامة العدل بين الناس ومع البيئة تستلزم تغييرا في الذهنية يقوم علي اختيار انساني  حازم ،وتأتي مشيئة الله مؤكدة وتالية لهذا الاختيار البشرى .وعليه فأن حركة الانسان نحو تحقيق العدل هي اختيار بشري يؤكده اختيار الله تعالي ومشيئته.

   3 ـ شرعية التغيير مرتبطة بإرادة الناس:

فماذا اذا اختار الناس السلبية والخنوع والخمول والتواكل والرضى بظلم الحاكم ؟.طالما ارتضى الناس الخضوع لحاكم ظالم فهذا هو اختيارهم وتأتي مشيئة الله لتؤكد علي هذا الاختيار الذي لا يرضاه الله تعالي . ان الله تعالي لا يرضي ان يكفر به عباده (ان تكفروا فان الله غني عنكم ولا يرضي لعباده الكفر وان تشكروا يرضه لكم :الزمر 7)ولكن يشاء الله جل وعلا للكافرين ضلالهم طالما ارتضوا لانفسهم الضلال (كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء:المدثر 31).والله تعالي لا يريد الظلم في الارض (وما الله يريد ظلما للعالمين :آل عمران 108)(وما الله يريد ظلما للعباد :غافر31).ولكن طالما ارتضي الناس تحمل الظلم واعترفوا بشرعية الحاكم الظالم ملكا عليهم فان الله تعالي يعترف به حاكما عليهم .ومن هنا ارسل الله تعالي موسي وهارون رسولين الي فرعون اعتى الظالمين ظلما ،و اوصاهما بأن يقولا له قولا لينا لعله يتذكر او يخشي (طه 44) ووصف الله تعالي بعض الحكام بأنهم ملوك ،ومنهم ذلك الملك الذي ادعي الالوهية ودخل ابراهيم عليه السلام في جدال معه (الم ترالي الذي حاج ابراهيم في ربه أن اتاه الله الملك ،اذ قال ابراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال انا احيي واميت ..)الي ان يقول تعالي عن ذلك الملك (فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين :البقرة 258).فنحن هنا أمام مدعي للالوهية يصفه الله تعالي بالكفر والظلم .ولكنه يصفه ايضا (ان اتاه الله الملك) ، وقد اعطاه الله الملك لأن الشعب رضي به واختاره ،فجاءت مشيئة الله تالية لاختيار الناس.

ان هذه الحياة الدنيا قائمة علي اساس الاختيار (حرية الاختيار بين الايمان او الكفر ،بين الرضي بالقهر او الثورة عليه )وتأتي مشيئة الله لتؤكد علي ما يختاره الانسان والناس ،وهنا يكمن الاختبار في ذلك الاختيار . ثم يأتي يوم الحساب ليلقي كل إنسان نتيجة عمله حسب الشريعة الدينية الالهية ،وحيث يتحقق فعلا ما ينبغي ان يكون .

4 ـ الأديان الأرضية تعقد المشكلة وهذا يؤكد على اهمية الوعى والعلم

من البساطة أن يقال إن الرسالات السماوية هدفها جميعا أن يقوم الناس بالقسط والعدل .فان لم يتحقق العدل والقسط بالطرق السلمية فلا مفر من اللجوء للحديد أى القوة لنصرة الرسالات السماوية وإقامة العدل والقسط. المشكلة هى الاستخدام السىء للرسالات السماوية والحديد. . الحديد فى حد ذاته معدن محايد , لا تقول انه حرام أوحلال. انما يحرم استعماله فى الظلم ويجوز استعماله فى المباح وقد يجب استعماله فى الفرض. السكين والبندقية قد تستعملها فى الصيد المباح ويكون استعمالها واجبا وضروريا عندما تدافع بها عن نفسك حين يهاجمك مجرم سفاك، ويكون حراما استعمالها فى الاعتداء على المسالمين .

الرسالات السماوية النبيلة أيضا تتحول بالتحريف الى  وسائل لاستعباد البشر وظلمهم . يفعل ذلك عادة شر الناس الذين يخترعون بتالتزييف أديانا أرضية يستخدمونها سياسيا وبها يركبون ظهور الشعوب والعوام باسم الدين الالهى وهم أعدى اعدائه. وهنا لا بد من مواجهتهم أساسا بالوعى الدينى الصحيح ، أى من خلال الاسلام نفسه. ثم بعدها تتطور الأمور كالعادة الى الدفاع عن النفس ضد أعتداء المستبد الظالم.

5 ـ مواجهة الأديان الأرضية للمسلمين بالتوعية بالاسلام نفسه

 ليس المقصود هنا الجهاد على الطريقة السلفية الاخوانية – أى الوصول الى الحكم بالارهاب واستغلال اسم الاسلام العظيم لاقامة دولة دينية كهنوتية استبدادية  معادية  للاسلام كالدولة العباسية أو العثمانية أو الفاطمية أو السعودية . ليس المقصود أيضا  إحلال حكم مستبد حالى محل حكم مستبد سابق ،. للخروج من هذه الحلقة الشريرة لا بد من تحديد هدف الجهاد الاسلامى وإنه السعى لاقامة دولة اسلامية حقيقية أى بالمفهوم المعاصر دولة مدنية علمانية ديمقراطية تحقق العدل والحرية ، ليس مهمتها ادخال الناس الجنة رغم انوفهم ولكن حماية كل حقوقهم فى هذه الدنيا على أساس المساواة والعدل المطلق بين كل المواطنين. وليس من شعارات الدعاة لهذه الدولة رفع لافتات دينية منعا للخلط بين الدين والسياسة ولكن رفع قيمة العدل والحرية التى لا جدال حولها, وإذا تحقق العدل وتحققت الحرية وتمت سيادة القانون الشرعى العادل على الجميع فان المسلم يرى فى هذه الدولة العادلة دولته الاسلامية ويراها المسيحى دولته المسيحية المثالية ويراها العلمانى الملحد دولته التى يحلم بها. لا بأس من اختلاف التفسيرات ، المهم أقامة القسط بين الناس. الديمقراطية ـ مثلا ـ لا يمكن فرضها بالعنف , لا بد قبل إقامة الديمقراطية من ارساء الوعى الديمقراطى أولا ، أى إرساء ثقافة الديمقراطية. ولا يمكن أيضا تعليم الديمقراطية إلا من خلال الثقافة المحلية السائدة، أى طالما أنت فى مجتمع مسلم فلا بد من الترويج للديمقراطية من خلال الاسلام. واذا كان الوهابيون والاخوان قد نجحوا فى نشر ثقافتهم الارهابية المستبدة باستغلال شعارات اسلامية فانه من السهل مواجهتهم من داخل الاسلام.

والقرآن الكريم هو الأساس الذى تستطيع به هزيمتهم.

القرآن أرسى فارقا حقيقيا يوضع الفرق بين الداعية للحق والداعية للباطل حين قال ( اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون)  يس 21 )  الأنبياء كانوا لا يأخذون أجرا على الهداية ، وهذا ما تكرر فى القرآن. والأنبياء أيضا هم اول البشر عملا بما يقولون واول الناس طاعة وتطبيقا لما يأمرون به الناس. وعلى نفس النسق يكون الداعية للحق ؛ لا ياخذ من الناس أجرا بل يجاهد بما يملك من مال ونفس يبتغى رضا الله تعالى، ويطبق على نفسه ما يقول للآخرين ويكون أول الملتزمين بما يدعو اليه . دعاة الباطل كما وصفهم القرآن الكريم يأكلون اموال الناس بالباطل ويشترون بآيات الله ثمنا قليلا ، عينهم على الأجر والمتاع الدنيوى ، يجمعون الأموال وينهبونها ويسرقونها باسم الاسلام. أما كبارهم فالأجر الذى يسعون اليه هو ان يموت الشباب انتحارا من أجل أن يركبوا على أكتافنا باسم الاسلام باعتبار انهم وحدهم من دون العالمين  هم الذين اختارهم الله تعالى لاسترقاقنا وامتلاكنا والتحكم فينا حيث تكون لهم كل الحقوق وعلينا لهم كل الواجبات !!

هل هناك ظلم للبشر أفظع من ذلك ؟

الأفظع منه ظلمهم لله تعالى . فالله تعالى أنزل كل الرسالات السماوية لتحقيق هدف واحد وهو أن يقوم الناس بالقسط ، الا ان اعداء الله تعالى قاموا بتزييف دينه بأحاديث كاذبة وتفسيرات ضالة وتأويلات فاسدة ومصطلحات مبتدعة ليبرروا ظلمهم وسرقتهم حقوق الناس والأمم والشعوب . وبذلك فهم لم يظلموا الشعوب فقط وانما جعلوا لظلمهم مسوغا شرعيا ليستمر الظلم محتميا بمرجعية الاهية مزورة. وفى هذا كل الظلم للواحد القهار ودينه ورسالاته السماوية التى نزلت لاقرار العدل المطلق والديمقراطية المباشرة فحولها أعداء الله بالتزوير والغش الى تقنين للظلم . هم بذلك يظلمون الله تعالى أكثر من ظلمهم للبشر. ويكفى وصفهم بالاسلاميين ، فهناك من المسلمين وغيرهم من يبغضون الاسلام واسمه وشريعته لأنهم عاشوا مقتنعين – ولا يزالون مقتنعين – أن اولئك السلفيين الحاليين وائمتهم وتراثهم وتاريخهم هو الاسلام فأصبح الاسلام متهما بما فعله أعداؤه القدامى والمعاصرون .

وظيفة الكهنوت أن يزعم – كذبا - التوسط بين الله تعالى والبشر. وليس فى الاسلام واسطة بين الله تعالى والناس. ولأنه زعم كاذب لا سند له فى دين حق أو فى عقل سليم كان لا بد للكهنوت أن يحتمى بقوة تساعده فى الزام الناس بطاعته وتقديسه وعبادته . من ناحية أخرى فالاستبداد السياسى يحتاج الى مسوغ دينى يخدع به الجماهير، أى يحتاج الى مؤسسة كهنوتية تبرر له وتفتى من أجله وتترعرع فى ظله وتنعم معه على حساب حقوق الناس. وهكذا عاش الاستبداد والكهنوت معا فى تاريخ المسلمين والغربيين ، وبينما تقلص نفوذ الكهنوت فى الغرب بعد أفول الاستبداد الغربى فان الاستبداد الشرقى العريق لا يزال يعيش معتمدا على الكهنوت الدينى فى شكل مؤسسات دينية تدعى أنها مؤسسات علمية . تميز الكهنوت الشيعى باقامة دولته الدينية التى يحكمها مباشرة وفق ما يعرف بولاية الفقيه ، وهى الحلم الذى يسعى اليه المعارضون الوهابيون للدولة السعودية امثال الفقيه والمسعرى وتلميذهم الشهير أسامة بن لادن.

المستبدون والكهنوت أعداء حقيقيون لله تعالى ، سواء كانوا فى السلطة أو يسعون اليها مسلحين بفكر الكهنوت وثقافة الارهاب والاستبداد والاستعباد ، ولذا ترى حركتهم العسكرية معبرة عنهم حين تقتل المدنيين والأبرياء مخالفة تشريعات القرآن. هم فى جهادهم المزعزم يكررون نفس الخطيئة التى فعلها الصحابة حين قاموا بما يسمى بالفتوحات الاسلامية وقتلوا فيها مئات الألوف من الأبرياء فى آسيا وأفريقيا مقابل حطام دنيوى زائل.

هذا بعض ما يجب تعليمه للمسلمين لتدعيم ثقافة الديمقراطية وتجذير الوعى بها حتى يغيروا ما بأنفسهم من خنوع وخضوع.. وهذا هو الجهاد السلمى الهادف لنشر الوعى والتنوير, ويتأكد هذا بتعليم المسلمين من داخل الاسلام أن جهاد اولئك المستبدين و الكهنوتيين واجب اسلامى سواء كانوا فى السلطة أو يسعون اليها ، وأن  الهدف الاساسى هنا ليس الوصول للسلطة طبقا لتلك العادة السيئة للثوار من العسكر وأصحاب الأيدلوجيات الدينية والقومية والسياسية ، ولكن لاعادة السلطة للشعب ، ليس لحاكم او حزب أو طائفة تزعم وتحتكر الحديث باسم الشعب ولكن للشعب بالحقيقة وليس بالمجاز. واذا كان تطبيق الشورى الاسلامية – أى الديمقراطية المباشرة – صعبا الآن فلا بأس من الأخذ مؤقتا بالديمقراطية النيابية التمثيلية بانتخابات حقيقية نزيهة يختار الشعب فيه ممثلين عنه ، ثم تقوم الدولة الديمقراطية الوليدة باصلاح كامل شامل ينشر الوعى بحيث يصبح ميسورا لكل فرد في الشعب ان يتحدث بنفسه دون حاجة لنائب يمثله بممارسة الديمقراطية المباشرة التى جعلها الاسلام فريضة وطبقها المسلمون فى عهد النبى ثم أضاعوها – وحان  وقت استرجاعها.

 

 

الباب السادس    ( حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ )

 الفصل الرابع    ـ إرادة التغيير وتحديد الهدف  

1ـ تأتى إرادة الله جل وعلا مؤيدة وتالية للارادة البشرية .ونتحدث هنا عن إرادة قوية حاكمة واعية مستبصرة، تعى أن إرادة الله جل وعلا مؤيدة وتالية لها فتشعر بالفخر وتشعر بعظمة المسئولية المناطة بها ، وتعمل على أن تكون على قدر هذه المسئولية .

تبدأ هذه الارادة البشرية الواعية المستبصرة قوتها بالعلم الحقيقى الذى يورث الوعى والبصيرة. العلم الحقيقى يبدأ بالاجابة على تلك الأسئلة الضخمة التى يبدأ بها الطفل يسائل بها والديه ثم ينساها ويغفل عنها فيما بعد: لماذا خلقنا الله جل وعلا ؟ ولماذا نحن هنا ؟ وماذا بعد الموت ؟.

2 ـ الاجابة فى الدين الحق تؤكّد أننا هنا للإختبار ولم يخلقنا الله جل وعلا عبثا (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ )(المؤمنون 115)،(أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى )(القيامة 36 : 40 )، وهذه الاجابة الصحيحة تستلزم موقفا صحيحا إيجابيا وعمليا يعنى أنّ علينا أن ننجح فى إختبار هذه الحياة الدنيا لنكسبها ونكسب أيضا الآخرة . وهذا بالتالى يؤكد أن على ذلك الانسان الواعى أن يحدد له هدفا فى الحياة يحقق به نجاحه فى أختبار الوجود على هذا الكوكب الأرضى فى هذه الفترة الزمنية  التى مقدر له أن يقضيها فى هذه الدنيا. والانسان هنا يعنى الفرد والمجتمع .

2 ـ  إنّ الهدف الذى تسعى اليه فى حياتك هو الذى يحدد قيمة حياتك . والأهداف مهما تكاثرت فهى تنتهى الى واحد من إثنين : إمّا أن تقتصر على هذه الحياة الدنيا ، وإمّا أن تتجاوزها فى جعل السعى الدنيوى طريقا للنجاح فى الآخرة.

3 ـ هناك من يحدد هدفه فى نطاق الدنيا فقط ، فى الثراء أو الجاه والنفوذ ، قد ينجح فيكون ثريا أو صاحب نفوذ ، ولكن بالموت يفقد كل شىء فى الدنيا وينتهى بالخلود فى النار فى الآخرة.هذا إنسان غافل عن قيمته عند الله جل وعلا ، فالله جلّ وعلا خلق كل هذا الكون بأرضه وسماواته وما بينهما من نجوم ومجرات لكى يختبر الانسان وأعطاه إرادة حرة فى الايمان أو الكفر ، فى الطاعة أو المعصية ، وبعد إن يتم إختبار كل نفس بشرية يدمّر الله جل وعلا السماوات والأرض وما بينهما من نجوم ومجرات ويخلق أرضا جديدة وسماوات جديدة يكون فيها مساءلة كل فرد عن حريته فى إرادته التى كانت له فى هذه الدنيا ، ثم يكون مصيركل فرد الى خلود فى جنة أو خلود فى الجحيم. الغفلة عن هذه الحقيقة والغفلة عن تلك القيمة الكبرى لكل فرد عند ربه جل وعلا والغفلة عن تلك المسئولية الكبرى المناطة بكل فرد فينا ـ تلك الغفلة تحول بين الانسان وإدراك مستقبله عند ربه ، فيحصر عقله فى هذه الدنيا ، ويحصر فيها إرادته وغايته.

4 ـ هذا الصنف ( الدنيوى ) يتنوع من حيث إرادته الى نوعين : متفاعل له إرادة وله هدف يسعى اليه،وغافل بلا إرادة وبلا هدف .

4/ 1 : هذا الغافل إنسان فاقد الارادة ، أو (أراد ألّا يريد ) ، أى أراد أن يكون بلا إرادة . عاش غافلا لاهيا ، يترك نفسه فى هذه الدنيا تحمله أمواج الحياة تتلاعب به وتتقاذفه الى أن تلقيه فى القبر لا فارق بينه وبين حيوان أو جماد. يظل كل هدفه فى الحياة أن يشبع غرائزه الدنيوية وبأى طريق . هذا الغافل يعيش بنصفه الأسفل غارقا فى الشهوات ، وحين يتدين يتحول دينه الى لهو ولعب  وغناء ورقص كما يفعل الصوفية فى موالدهم وأعيادهم الدينية التى يقيمونها حول الأنصاب والأضرحة: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)( الاعراف ) .

هم يتخذون دينهم وأنصابهم وقبورهم المقدسة وأعيادهم وموالد أوليائهم عادة اجتماعية دينية ، أو مودة بينهم فى الحياة الدنيا ، ثم تتحوّل هذه المودة الى عداء يوم القيامة ، وهذا ما كان ابراهيم عليه السلام يقوله لقومه:( وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) ( العنكبوت ) . هذا الصنف اللاهى يعيش ليأكل كالحيوان : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)  ) ( محمد )، ويظل ضالا مكبا على وجهه : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) (الملك ) ثم تأتيه المفاجأة القاسية يوم الحشر بعد أن أضاع حياته فى خرافات ومتع حسية بهيمية جعلها دينه وطريقه فى الحياة الدنيا : (  وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدْ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)(الانعام )  غفل عن الارادة أو أراد ألّا يريد فانتهى الى سوء المصير.

4/ 2 : وهناك إنسان قرّر أن ينتبه لنفسه وأن يجعل لحياته هدفا يسعى الى تحقيقه .  وهذا الصنف صاحب الهدف ينقسم الى نوعين أيضا : نوع يجعل هدفه دنيويا فقط ، أى محدد بهذه الدنيا لا يتعدّاها الى الآخرة. وصنف يجعل هدفه يتعدى الدنيا لتكون الدنيا عنده رحلة عمر يتزود فيها بالتقوى لينجح فى إختبار الحياة ويفوز بالخلود فى الجنة .

4 / 3 : الصنف الذى يجعل هدفه فى الدنيا فقط ينقسم أيضا الى قسمين : قسم يتفاعل بالفساد أو بالخير.   .

القسم المتفاعل بالفساد أطياف كثيرة أسوؤها من يستخدم دين الله ليفسد به فى الأرض وينسب فساده الى رب العزة جل وعلا ، وهو أحطّ البشر وأظلم الناس لرب الناس ، وفى هذا القسم تجد أئمة الأديان الأرضية للمسلمين وغيرهم فى الماضى والحاضر. كل منهم يسعى وبإرادته الشخصية لأن يتخذ من دين الله مطية يصل به الى تحقيق طموحاته فى السلطة والثروة ، او بتعبير مخفف ( يخلط السياسة بالدين ) وهو يقوم بدور المضلّ أى الذى يضلّ الناس ، يتفاعل فى الاضلال ليربح الدنيا بإفساد وتحريف الدين .

وهناك من هو أقل منه ضررا وجرما وهو الذى يفسد الناس بنظريات أرضية بشرية بعيدة عن الدين . ومنهم صنف أنانى يتفاعل بالاجرام وبالشرور مثل زعماء العصابات وزعماء الدول .

4/ 4 : ولكن هناك الصنف الشريف النظيف ممن يريد الدنيا . هو الذى يتفاعل فيها بالخير ليأخذ سمعة وجاها فى هذه الدنيا ، يفعل الخير للناس ابتغاء مرضاة الناس ، وليس لرب العزة نصيب فى إعتقاده . هذا الصنف الدنيوى الفعّال فى الخير لأجل الدنيا ولمرضاة الناس يعطيه الله جل وعلا أجره فى الدنيا مقابل عمله الذى يبتغى به الدنيا ، ثم لا يكون له نصيب فى الآخرة سوى النار ، هو صنف معطاء كريم و فعّال للخير يريد النهوض بمجتمعه وقومه ، ولكن لايؤمن بالآخرة ، فهو يحدد الدنيا فقط هدفا لحياته يريدها ( حلوة له ولغيره )  . هذا لا يحرمه الله جلّ وعلا من نصيبه من الدنيا ، فقد عمل لها وفيها خيرا فيأخذ الجزاء بالخير فيها فقط  دون الجنة فى الآخرة، يقول جل وعلا : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)( الشورى ) (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)( يونس) (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)( هود) . هذا الصنف الايجابى النافع فى الدنيا هو الذى أقام الحضارة الغربية بإختراعاتها ومدنيتها وديمقراطيتها النيابية . نحن نحكم على الظاهر فقط.، ولا شأن لنا بعلاقته بربّه وعقيدته الايمانية .

4/ 5 :وأخيرا .. هناك المتفاعل بالخير فى الدنيا مخلصا لله جل وعلا ومؤمنا بالآخرة عاملا لها بالصالحات النافعات للناس.

5 : بالتعاون بين هذين النوعين المتفاعلين بالخير يمكن إقامة مجتمع الفضيلة والدولة الاسلامية الحقيقية التى تضمن الحرية الدينية المطلقة والعدل والأمن والديمقراطية المباشرة لكل فرد فيها.

6 ـ  بالجمع بين الارادة و الهدف وتنوعاتهما نخلص الى أن لدينا هنا صراع إرادات : إرادة أنانية تملك السلطة والثروة ( مثل المستبد العربى ) أو تسعى الى الثروة والسلطة ( مثل المعارضة الوهابية السّنية كالاخوان والسلفيين فى الربيع العربى الراهن ) ، وكلاهما تستغل المجتمع وتسعى لركوبه بطرق مختلفة ، وتسعد بوجود الأغلبية الصامتة الخانعة الخاضعة . وفى المقابل هناك إرادة خيّرة تقف ضد هذا المنكر لتقيم الأمر بالمعروف ، وتسعى لتفعيل الأغلبية وتنهض بها ، لا لكى تصل على أكتافها للحكم والسيطرة ، ولكن لتأسيس دولة العدل والحرية والحقوق للجميع على قدم المساواة. ( مثل شباب الثورة المصرية فى ميادين التحرير بالقاهرة وغيره فى المدن المصرية ) . هنا يمكن أن تلتقى فى هذه الإرادة الخيّرة من يعمل بالخير للدنيا فقط ومن يعمل بالخير للدنيا والآخرة. هما معا يجب أن يعملا على تغيير ما بأنفسهم وما فى مجتمعهم من صفات التواكل والسلبية والسكون والخنوع والخضوع الى صفات الشجاعة والاقدام والعطاء والالتزام بقيم العدل والقسط والحرية وكرامة الانسان .

7 ـ إرادة الخير هذه حددت هدفها ، ويبقى أن تشحذ قواها لتحقيق الهدف . وهنا يأتى العلم بحقائق لا جدال عليها تؤكّد وجوب نضالها فى سبيل حقوقها وإقامة دولة العدل والحرية والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. الأغلبية الصامتة تتعلل بالخوف من الموت والخوف من التعذيب والخوف على الوظيفة والرزق . وفى سبيل الحرص على الحياة والحرص على الأمن والابتعاد عن المشاكل والقلق والحرص على الوظيفة ترضى بالعيش الذليل والرضى بالمهانة وضياع حقوقها .

هنا يجب التبصير بحقائق إيمانية لا جدال فيها ، نتعرض لها فى المقال القادم .

 

 

الباب السادس  ( حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ )

 الفصل الخامس   الوعى وموضوعاته العقيدية

السريرة مسرح التغيير  :

1 ـ من نعم الرحمن على الانسان هى تلك السريرة الخاصة به ، والتى لا يعلم بها بشر غيره ، ولا يعلم خطراتها إلّا الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور. فى تلك السريرة يخاطب الانسان نفسه ويعيش أحلام يقظتة ، وتراوده غرائزه وينهاه ضميره ، ويحتفظ فى هذه السريرة بمشاعره الحقيقية التى قد يخفيها عن كل العالم ، ويستودع فيها أسراره وفضائحه . وهذه السريرة مسرح تغيير النفس .

2 ـ فيها يستطيع الانسان أن يواجه نفسه ويسائلها ليعلو ويسمو بها . ويستطيع الانسان أن ينجح فى تغيير ما بنفسه من نواقص وأن يقمع شهواته وغرائزه فلا تكون له سريرة ، أى لا يكون فى داخله أسرار يخجل منها بأن يتوب عما فات ، ويبدأ صفحة جديدة بيضاء نقية ، ويكون سرّه مثل علانيته شفافا نقيا ، فلا يشعر بالخزى والعار يوم القيامة إذا تم فضح وكشف المخبوء فى السرائر : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ(9)( الطارق )، هو يوم عرض أعمال البشر علانية بأسرارهم وخباياهم المستورة (  يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) ( الحاقة ) ، (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه (8) (الزلزلة  ).

الحرية الحقيقية هى التحرر من سيطرة الهوى والغرائز

1 ـ حين تصل الشفافية بالانسان الى أن لا تكون له سريرة وأن تتفق علانيته مه سريرته ولا يكون هناك ما يخجل منه فقد أصبح مسيطرا على نفسه، وبسيطرته على نفسه يملك تمام حريته ، فالحرية المطلقة أن تتحرر من غرائزك فتكون أقوى إنسان فى العالم ، ولا يستطيع العالم كله أن يهزمك ، لأنه ليس لديك ما تفقده ، ولأنك تتمتع بفضيلة القدرة على الاستغناء .

2 ـ والقدرة علا الاستغناء من أهم ملامح الحرية الحقيقية للإنسان ، فبمقدار ما تتكاثر رغباتك وبقدر ما تلهث فى تلبيتها يكون احتياجك للغير أكبر ويكون ضعفك أمام نفسك أكثر وأمام الغير أكثر وأكثر . فالمدمن للسيجارة فما فوقها يفقد من حريته ـ وربما من كرامته ـ بمقدار حاجته وبقدر إدمانه . فأقوى البشر هو من  لا إدمان عنده ، ولا يحتاج إلا لضرورات الحياة من تنفس وطعام وشراب ومسكن مع قناعة وزهد واستعداد للتحمل ورغبة عما فى يد الناس ، فمن لا يكون عبدا لنفسه لا يكون عبدا لغيره. وبالتالى فلا تستطيع قوة بشرية أن تقهره ، لأنه ببساطة لا يحتاج للغير ولا مطمع له فى الغير .

الحرية الحقيقية هى التقوى الحقيقية وهى قمّة التغيير الايجابى للنفس

1 ـ الوصول الى هذه الحالة من السموّ والرقىّ هو قمة التغيير للنفس ، وهذا لا يتحقق إلا بالتقوى الحقيقية لأنّ بهذه التقوى تقتنع النفس بأن لها هدفا أسمى يستحق التضحية من أجله ، وفى سبيله تهون هذه الدنيا وزخرفها الزائل أمام خلود فى الجنة ونجاة من الخلود فى النار . وهنا تتعرف النفس على التقوى بالايمان الحقيقى بالله جل وعلا لا شريك له وبالايمان بيوم الحساب . عندها يسهل تغيير ما بالنفس ويسهل للإرادة العليا للإنسان السيطرة على النفس وتطويعها نحو هدف أعظم يتخطى هذه الدنيا وزخرفها ومتاعها القليل . 2 ـ بل تسعد النفس بتحالفها مع الخالق جل وعلا ونصرتها له مقابل أن ينصر الله هذه النفس : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)( محمد  ) (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)) (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)(  الحج) (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) ( الروم ).

3 ـ وكفى بالنفس البشرية فخرا أن توالى الله جل وعلا وأن تنصره فى مواجهة ظلم المشركين لله جل وعلا (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)العنكبوت ) (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)( لقمان ). 4 ـ بإيجاز : لا بد لهذا التغيير أن يتأسس على إيمان بالله جلّ وعلا وحده الاها ، والايمان بأن هذه الدنيا هو مساحة زمنية للإختبار ، وأن موعد الاختبار هو يوم الحساب .

من السهل الزعم بالايمان بالله واليوم الآخر :

1 ـ مع التسليم  ظاهريا وقوليا بلا اله إلا الله والايمان باليوم الآخر فإنه غير مؤثر فى الحياة الواقعية .

2 ـ كل المسلمين يقولون ( لا اله إلا الله ) ولكن الأغلبية الساحقة منهم تقدس البشر والحجر . كل المسلمين يزعمون الايمان باليوم الآخر ، ولكن الأغلبية الساحقة منهم يؤمنون بشفاعة النبى والأولياء ويحوّلون اليوم الآخر الى مهرجان مضحك للشفاعات والوساطات وضياع العدل وسيادة الظلم ، فيجعلون النبى محمدا مالك يوم الدين دون رب العالمين ،فيدخل الظالم الجنة مهما أجرم بمجرد كلمة يقولها .

3 ـ ويعرف الناس جميعا حتمية الموت حتى لو أنكروا البعث والقيامة . وفكرة الموت ـ فى حد ذاتها ـ لو آمن بها الانسان فعلا ـ فلن يجد مبررا للنزاع والصراع مع اخيه الانسان طالما أنه ـ حتما ـ سيموت ويترك كل شىء خلفه . فالخلود فى الدنيا دون موت هو المبرر للصراع حول حطامها ، وطالما أنه لا خلود فى الدنيا وأن مصير كل منا الموت فلماذا لا نعيش فى أمن وتصالح ومشاركة وسعادة . هذا الكلام المنطقى العاقل لا وجود له فى الواقع ، لأن كل فرد فينا يرى الناس تموت من حوله ولكن لا يتعظ ، ولو إتّعظ فهى فترة عند تشييع جنازة صديق أو صاحب ثم تستغرقه صراعات الحياة ،ويخوضها كأنه لا يموت ابدا ، ويظل هكذا حتى يستيقظ من غفلته وغفوته عند الاحتضار فيهتف يطلب فرصة أخرى جون جدوى ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)( المؤمنون) .

4 ـ المقصود أنه بالرغم من تكرار تلك المسلمات باللسان إلّا أنه لا تأثير لها فى الواقع إلّا برغبة قاهرة حاكمة تجعل الايمان بالله وباليوم الآخر فاعلا حقيقيا فى تغيير النفس . 

ضرورة الوعى بالايمان الحقيقى بالله جل وعلا بلا شريك لإحداث التغيير الايجابى

1 ـ لا بد فى البداية من تخيل عظمة الخالق جل وعلا بالتفكير فى عظمة خلق السماوات والأرض .

فهذا الكون العظيم ( السماوات والأرض وما بينهما من مجرات ونجوم ) يعجز الانسان عن تصور مسافاته وأبعاده ، ومع ذلك فهو مؤقت ومخلوق لهدف هو إختبار الانسان ، وليس مخلوقا عبثا ، بل ليس الانسان مخلوقا عبثا بل لاختبار قادم فى يوم يأتى فيه كون أعظم ويظل خالدا بجنته وناره .

2 ـ وينتج عن هذا التفكير فى عظمة الخلق من السماوات والأرض وما بينهما ـ أن ينبهر المؤمن بالعظمة الأكبر للخالق جل وعلا ، فالخالق لهذا الكون يستحيل وجود شريك له فى ألوهيته وربوبيته لأنه لا خالق غيره لهذا الكون ولهذا الانسان ، وأنه من التخلف العقلى أن يوضع الى جانب رب العزة مخلوق من صنع الله جل وعلا . وبالتالى فكلنا نحن البشر سواسية من حيث الخلق والاحتياج للخالق ، كلنا من تراب ، وكلنا نسكن نفس الجسد السوأة بقذاراته وشهواته وضعف إمكاناته ،لا فارق فى هذا بين نبى عظيم ومجرم آثيم . الفارق هو فى إختيار الهداية ومدى الخضوع الارادى للخالق جلّ وعلا ، فأكرمنا عند الله جل وعلا هو أتقانا وأكثرنا عبودية لله جل وعلا .

3 ـ ينعكس هذا على نظرتك للبشر ، فالله جل وعلا وحده هو خالقك وهو المتكفل برزقك وهم  الآخذ وحده  بناصيتك فى الدنيا ( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا   (56) ( هود )، وهو الأقرب اليك  فى هذه الدنيا (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)( ق) (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)( البقرة ) وهو الأقرب اليك عند الاحتضار: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) الواقعة ) ، وهو المتحكم فى اليوم الأخر وهو وحده مالك يوم الدين ،ولن يحاسبك غيره ، وكل الأئمة والرسل والعظماء وغيرهم سيؤتى بهم أفرادا مثلك يوم الحساب :(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (95)( مريم )و ستحاول كل نفس أن تدافع عن نفسها أمام الواحد القهار:( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)( النحل ) .هذا الإيمان إذا تحقّق فعلا لدى المؤمن فيستحيل أن يخضع لغيرالله جلّ وعلا ، أو أن يخشى غيره جلّ وعلا ، فهو وحده مالك الملك النافع الضار القاهر فوق عباده .

4 ـ بل حين يتجذّر هذا الايمان فى داخلك فسيكفيك عزّا أن تكون للخالق جلّ وعلا عبدا ، وأن تكون له وحده عبدا ، ولست عبدا لغيره . ويكفيك فخرا أن يكون خضوعك وعبوديتك للخالق جلّ وعلا وحده ، لأنّه جل وعلا هو وحده المستحقّ للتقديس والعبادة .

5 ـ ومن هنا يكون الأساس العقيدى لمقاومة الاستبداد ، فالمستبد مدع للألوهية لأنه يريد أن يعلو على الناس ، والعلو على الناس ليس إلّا لله جلّ وعلا ، لذا يقال لله ( جلّ وعلا ـ سبحانه وتعالى ) وأنه وحده ( القاهر فوق عباده )، والمستبد الذى يقهر شعبه هو مدع للألوهية صراحة أو ضمنا ، وهو يتألّه على شعبه وهم بشر مثله ، يستنكف أن يكون مساءلا أمام شعبه ، والله جل وعلا وحده هو الذى لا يمكن لأحد من خلقه أن يسائله عما يفعل ، وما عداه جل وعلا يتعرضون للمسائلة حتى لو كانوا أنبياء أو ملائكة (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)( الأنبياء ) ، بل إن المستبد هو الذى يسلط كلاب حراسته يلفق التهم لأفراد شعبه الأحرار ويحكم عليهم ظلما بالسجن والقتل . وهذا الشعب الخانع الخاضع المستحق للذل قد ظلم نفسه حين رضى بالخضوع لمستبد وجعله شريكا للخالق جل وعلا فى الوهيته . وبالتالى فإن تحرره من عبوديته للإستبداد مقترن بتصحيح عقيدته الايمانية لتؤمن بالله جل وعلا وحده ،وأن يجاهد الناس ضد ذلك الذى يفرض عليهم سلطانه بالقوة والقهر.

ضرورة الوعى بالايمان الحقيقى بالله جل وعلا وحده مالك يوم الدين لإحداث التغيير الايجابى

1 ـ الايمان باليوم الآخر هو الفارق بين المؤمن الحقيقى والمؤمن المزيف ، وهو أيضا الفارق الحقيقى بين الشخص الايجابى الفعّال للخير بهدف النفع الدنيوى والمؤمن الايجابى الفعّال للخير عن إيمان باليوم الآخر وأملا فى الخلود فى الجنة والنجاة من الخلود فى النار .

2 ـ هذا المؤمن باليوم الآخر يتقى الله جلّ وعلا فى تعامله مع البشر فلا يظلم أحدا ، ويحاسب نفسه قبل يوم الحساب ، ولا يهتم برأى الناس فيه طالما هو فى تصالح مع ربّه ، وطالما هو يفعل ما بوسعه ليرضى عنه ربه جل وعلا فى سريرته وفى علانيته . وهو فى تفاعله الايجابى مع المجتمع لإصلاح هذا المجتمع لا يبغى نفعا دنيويا إذ يكفيه الأجر يوم القيامة ، وهو يتقبل الأذى فى سبيل إعلان الحق ، ويتواصى بالحق والصبر. وهو يدرك إن الله جل وعلا قد أعطاه مساحة زمنية ضئيلة فى هذه الدنيا ، وهذا العمر يتناقص باستمرار وينتهى بالموت ، ولكنه خلال فترة عمره قد خلق الله جلّ وعلا له هذا الكرة الأرضية المستديرة التى لا نهاية للسعى فيها ، إذن هو مطالب بالهجرة إذا يأس من الاصلاح فأرض الله واسعة أمامه ، بينما عمره قصير والموت يقترب منه فى موعد محدد سلفا ، وهذا معنى قوله جل وعلا لعباده : ( يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)( العنكبوت ).

3 ـ لذا فهذا المؤمن موطنه الحقيقى هو حريته الدينية وكرامته الشخصية ، فإذا تعرّض للقهر ظلما وعدوانا ولم يستطع المقاومة فلا بد من ترك هذا الوطن الى وطن آخر ينعم فيه بحريته وكرامته أثناء عمره القصير ، فأرض الله واسعوة ولكن العمر قصير ، ولا يجوز أن نضيّع العمر الثمين فى ذلة واستكانة لمخلوق مثلنا نرضى بظلمه ونركع لسلطانه فى خمول وخضوع . وقد يكون هذا المهاجر مجاهدا ، وهذا المهاجر فى سبيل الله بعد نضال وتحمل للأذى فى سبيل الحق يعده ربه بأجر حسن فى الدنيا وفى الآخرة :

( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)( آل عمران )، وحتى لو كان مهاجرا بعد صبر على الأذى فإن ثوابه فى الدنيا ينتظره مع غفران يوم القيامة ورزق حسن فى الجنة:( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)( النحل )( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)( النحل )( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمْ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)( الحج ).

4 ـ ولأن الايمان الحق يعنى تفاعلا بالخير وحركة إيجابية لا ترضى بالظلم فإن المؤمن المستكين للظلم والرافض للهجرة بحريته بعيدا عن الظلم هو ظالم لنفسه ومصيره الجحيم ، إلا إذا كان عاجزا عن الهجرة :(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99) ( النساء ) .

5 ـ وبإيجاز فإن من يؤمن باليوم الآخر فعلا لن يتردد فى الهجرة فرارا من الظلم طالما يعجز عن مقاومة الظالم ، فالعمر محدد ومحدود، فأرض الله واسعة . وبعد الموت سنلقى الله جل وعلا يوم الحساب .

6 ـ ولكن يبقى الخوف عائقا يمنع التغيير الايجابى للنفس . ونتعرض له فى المقال التالى .

 

 

الباب السادس  ( حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ )

 الفصل السادس   ـ الخوف وتغيير ما بالنفس 

يبقى الخوف عائقا يمنع التغيير الايجابى للنفس . فكيف نقاومه ؟

1 ـ والخوف هو أكبر التحديات التى تمنع تغيير النفس وتحولها الى الإيجابية فى التضحية . والخوف شعور إنسانى عادى خصوصا لدى البشر الذين يعيشون تحت سلطان مستبد يتفنّن فى القهر والتعذيب والارهاب . وفى قصة فرعون وموسى وهارون نلمح تعبير الخوف يتردد على لسان موسى وهارون وقومهما مقترنا بتطرف فرعون فى القهر والتعذيب . فالخوف شىء عادى وإنسانى لم ينج منه الأنبياء ،ولكن يمكن التغلب عليه كما تمكن موسى وهارون من التغلب عليه .

2 ـ والله جلّ وعلا جعلها قاعدة مفادها : إنّك إذا أتّقيت الله جل وعلا ـ والتقوى هنا تعنى الخوف والخشية من الله جل وعلا ، فلن تخاف من مخلوق ، أما إذا عصيت الله جل وعلا ولم تخش منه ولم تخف منه فإن الشيطان الذى سيتولى زمام أمرك سيخيفك من كل شىء . يقول جل وعلا : (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ  ) ( آل عمران 175 ). فالشيطان يخوّف أولياءه وأتباعه ، ومفروض على المؤمنين بالله جل وعلا أن يخافوه وحده ، وعندها فلهم الأمن من الخوف طالما لا يرتكبون ظلما وطالما لم يخلطوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم :(الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ  ) ( الانعام 82 ).

3 ـ وهناك من يقع فى ظلم رب العزة بأن يشرك بالله ويتقوّل عليه بالكذب بأحاديث مفتراة كالأحاديث المفتراة المنسوبة للنبى ( الأحاديث النبوية) أو لله جل وعلا (الأحاديث القدسية ) التى يجعلونها وحيا وتشريعا تحت إسم ما يسمى بالسّنة لدى أصحاب الأديان الأرضية من المسلمين ، ثم يستطيل على الناس بهذه الافتراء ويفرضه عليهم بالقوة والإكراه فى الدين ، أى يقرن الكفر العقيدى ( بظلم رب العزة ) بالكفر السلوكى وهو ظلم الناس وينسب ذلك لدين الله جل وعلا ظلما لرب العزة . هذا الظلم المركّب والمتطرف جزاؤه خوف هائل يستقر فى قلوب أولئك الظلمة . خوف يتحوّل الى رعب يلقيه رب العزة فى قلوبهم فى الدنيا ، ثم مصيرهم الى النار ، وبئس مثوى الظالمين ، يقول جل وعلا : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ )( آل عمران 151 ).

4 ـ وهذا يتحقق فى واقعنا . فأصحاب وأئمة تلك الأديان الأرضية والمروجين لها إذا تعرضوا للإضطهاد سقطوا خوفا وإنهاروا رعبا ، وهذه سمة فى تاريخهم عندما يصطدمون بالمستبد ويقعون تحت سطوته . وهذا المستبد نفسه أكثر الناس رعبا ، ولا يعدل رعبه إلا مقدار ظلمه ، فكلما إزداد ظلما إزداد رعبا من انتقام ضحاياه . هو يدور فى حلقة مفرغة من الظلم ومن الرعب ، يرعب الناس ويرتعب من الناس . فلكى يؤكّد إستبداده لا بد من ارهاب الناس بالتعذيب ، وكلما أسرف فى التعذيب زاد خوفه من ضحاياه ومن انتقامهم ، وكلما تراءت له كوابيس ضحاياه أسرف أكثر فى الظلم ليخيف الناس ، وكلما أسرف فى الظلم والتعذيب وإزداد ضحاياه من الأبرياء إزداد خوفه أكثر وأكثر، وهكذا يظل يدور فى حلقة مفرغة من الظلم والخوف الى أن يسقط قتلا أو عزلا. وإذا سقط  وظلّ حيا تحول الى فأر مذعور .! وانظروا الى نهاية مبارك وبن على ، وما كان يفعله القذافى وما يفعله الآن بشّار الأسد .

لا مبرر للخوف من البشر فلا دخل لهم فى الحتميات لأنها بيد الله جلّ وعلا وحده

1 ـ الحتميات ، ، وهى أقدار حتمية لا سبيل للفرار منها ، وليس الإنسان مسئولا عنها فلا دخل له فى إختيارها ولا حرية له فى تفاديها ، لذا يكون حساب الانسان يوم القيامة خارج تلك الحتميات فيما يملك التصرف فيه بالطاعة أو المعصية .  وتلك الحتميات تخصّ الموت والميلاد والرزق والمصائب.

2 : كل انسان مصيره الموت ، أى كل إنسان محكوم عليه سلفا بالاعدام . ومقدر سلفا موعد ومكان موته. لو تحصّنت بقلعة هاربا من الموت فسيلحق بك الموت : (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ) ( النساء 78 ) فالموت يطاردك وهو خلفك . ولو فررت من الموت سيقابلك ،وستجده أمامك  (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ  ) ( الجمعة 8 ). هو من خلفك وأمامك لأنه ( الموت) يعيش فيك ، مخلوق كالحياة فى داخلك :(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا )(الملك  2). أى لا مهرب من موعد الموت ولا من مكان الموت . وحين إحتج بعض المنافقين على قتلى معركة ( أحد ) ( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا )، جاء الردّ من رب العزة بأن المكتوب عليهم القتل لو بقوا فى بيوتهم لتعيّن عليهم أن يذهبوا الى المكان المحدد لموتهم فى الموعد المحدد لموتهم: (قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ  ) ( آل عمران 154 ) .ولا تستطيع قوة فى العالم أن تقتلك أو تميتك قبل موعدك أو أن تؤجل موعد موتك ( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) ( الاعراف 34 ، النحل 61 ) (إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ )(يونس49 )، فذلك بيد الله جل وعلا وهو المحيى المميت ، وقد أعلن جلّ وعلا أنه لا سبيل مطلقا لتأخير موعد الموت لنفس إذا حلّ أجلها ( وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) (المنافقون 11 ). أى لايستطيع المستبد أن يقتلك إلا فى الموعد والمكان المحدد سلفا والذى لا بد أن تواجهه بيد المستبد أو بيد غيره . فأنت ميّت لا محالة فى موعدك وفى مكان موتك المقرر سلفا . والأعظم منك شأنا وهو خاتم المرسلين قال له ربه يساوى بينه وبين خصومه فى إستحقاق الموت (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ )(الزمر 30). المستبد الذى تخاف منه لن ينجو مثلك من الموت ، فلماذا تخاف منه ؟ . قد تقول الأغلبية الصامتة إنها لا تخشى الموت ولكن تخشى القتل . ولكن نهاية الحياة حتمية بالموت من مرض أو بالقتل ، وليس لنا فى هذا خيار . ولكن ماهو الأيسر ـ لو كان لنا الخيار : هل نموت بعد مرض مؤلم مزمن متعب لنا ولأحب الناس الينا أم نموت قتلا وسريعا فى أقل من دقيقة ؟ سنموت حتما ولكن ما هو الأسر والأسهل ؟ ثم هذا القتل فى سبيل مبدأ غاية فى السمو أليس أفضل من موت عادى ؟ اليس الموت بأى طريقة أفضل من حياة ذليلة ؟

3 ـ  الأغلبية الصامتة لديها عقدة الخوف من التعذيب . ومعروف أن للجسد الانسانى حدا أقصى فى تحمل الألم ، فإذا تعداه لم يعد يشعر به وراح فى غيبوبة ، أمّا فى الاخرة فلا حد أقصى فى تحمل الألم ، ولا حد أقصى فى مدى حدوث الألم إذ سيكون خالدا أبد الدهر . ونفس الحال فى المتعة ، فهناك حد أقصى فى تذوق المتعة فإذا أسرف الانسان فى الملذات فقد الاحساس بها ، ولو حاول مثلا إرهاق جسده طلبا للمزيد أصيب بالمرض وربما فقد نهائيا قدرته الجنسية . وفى سجن طرة عام 1987  كان لى رفيق فلسطينى قال إنه عاش مرفّها لا يتصور أن يتحمّل صفعة على وجهه ، فلما جىء به الى طرة ، كان يرتعش خوفا من التعذيب ، وعندما علّقوه وضربوه بالسياط أحسّ بألم السياط الأولى فقط ، ثم تخدّر محل ضرب السياط بحيث لم يعد يشعر بعشرات السياط التالية، ثم فتح عينيه وهو ملقى فى الزنزانة . إن الخوف من التعذيب هو أكبر من التعذيب نفسه ، والذى يستعد مقدما لهذه المحنة يقلل كثيرا من ألمها وصعوبتها . ولكل إنسان نصيبه من الألم ومن المتعة ، ولا بد أن يأخذ حظه من هذا ومن ذاك ، ويأتى الألم من مرض أو من جراحة ، فإذا أردت النجاة من تعذيب فربما ينتظرك مرض أفظع ألما .

وفى النهاية فكل ذلك مكتوب لا فرار منه ، فهىحقيقة لا جدال فيها أنه لا يصيبنا سوى المكتوب علينا سلفا : (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا  ) ( التوبة51  ) أى أن ما مقدر لنا من مصائب وآلام لا بد أن نواجهها ، وإذا حاولنا الفرار منها ستلاقينا ، ولو حاول المستبد أن يوقع بنا ضررا ليس مقدرا لنا فلن يستطيع ، ولو حاول المستبد أن ينجّى نفسه وأبناءه من مصيبة قادمة فلن يستطيع . لذا فإن المؤمن يتخذ موقفا حياديا من حتميات المصائب والرزق ، معتقدا أن ما ينتظره من سراء وضراء لا فرار منه قد تم إصدار الأمر الالهى بها له وعليه حتى قبل مجيئه الى هذا العالم ، لذا فإن المؤمن لا يحزن من وقوع مصيبة ولا يغتر من حدوث نعمة ، بل يشكر ويصبر ويرضى ويقرّ نفسا ، يقول جلّ وعلا : (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) ( الحديد 22 ـ 232 ) ،

4 : وقد تكفّل ربّ العزة جلّ وعلا بالرزق لكل كائن حى يدب فى الأرض:(وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)(هود 6 )، حتى لو كانت دابة فى أعماق الصخور أو أعماق البحار تعجز عن حمل رزقها:(وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ )(العنكبوت60) . وكل أنسان هو سبب للرزق لأخيه الانسان ، الأب سبب فى رزق أبنائه ـ والأولاد هم أيضا سبب فى رزق الوالدين ، وهم جميعا سواء فى تكفّل ربّ العزة برزقهم:(وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) (الانعام 151) (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم )(الاسراء 31)، وصاحب المصنع سبب فى رزق العمال ، والعمال هم سبب فى رزقه ، والمستبد نفسه رزقه على الله جلّ وعلا . وفى كل شئون الحياة من بيع وشراء وتجارة وتعامل فإن الذى يدير توزيع الرزق والمكسب والخسارة هو الله جل وعلا ، لذا فالمؤمن لا يخشى قول الحق خوفا من قطع رزقه، أولأنه (صاحب عيال ) أو لحرصه على الوظيفة الميرى. من يفعل ذلك يكفر بالقرآن ويكفر بالله الرزّاق ، ويعيش خانعا ذليلا ، ( يأكل العيش بالجبن ) كما قال الجزار الشاعر المصرى فى العصر المملوكى.

5 ـ وبإيجاز فإن الله جل وعلا وحده هو صاحب حتمية الميلاد لكل فرد من البشر . هوالذى خلق كل فرد وأختار ملامح وجهه ونسبه ، ثم هو الذى حدد صحته ومرضه ، وهو الذى تحكم ويتحكم فى رزقه وفى مصائبه ، وحدّد سلفا موعد وموضع موته . وبالتالى لا نخشى سواه من بشر مثلنا تجرى عليهم نفس الحتميات فى الميلاد والرزق والمصائب والموت . 

أخيرا : (لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ) :التوجّه لله وحده لأنه وحده هو النافع الضّار    

1 ـ كل البشر سواسية فى موضوع النعمة والنقمة ، وهم أسباب ووسائل فى موضوع النفع والضرر ،

ومن الله جل وعلا تأتى إختبارات المحنة والنقمة ، ولا دور على الإطلاق لتلك الآلهة فى نفع أحد أو الإضرار بأحد . يقول جل وعلا : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)( الزمر )( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)( الأنعام ) (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)( يونس )(مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)( فاطر )

2 ـ وبالتالى فكل نعمة مصدرها المنعم جل وعلا : (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ (53)(النحل ). ونعم الله لا يمكن حصرها ولا عدّها ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)  ( ابراهيم )( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)( النحل )

3 ـ  والله جل وعلا يعطى النعمة إختبارا للناس ، فإذا كفروا بالنعمة فقد حلّ بهم الهلاك فى الدنيا والخلود فى الجحيم فى الآخرة ( أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) ( ابراهيم )، وإذا قاموا بحق النعمة شكرا وطاعة زادهم نعمة ، وإن كفروا فإن عذابه جل وعلا شديد (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) (ابراهيم )، فرب العزّة ليس محتاجا لتعذيبنا إن شكرنا وآمنّا : (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً (147) ( النساء ).

4 ـ والقيام بحق النعمة شكرا وطاعة لله جل وعلا وتفاعلا بالخير فى المجتمع يستلزم تغييرا إيجابيا فى النفس ، وإن لم يحدث هذا التغيير كان الهلاك جزاء كفران النعمة . فالله جلّ وعلا أنعم على فرعون بملك مصر وأنهار تجرى من تحته ، فقابل النعمة كفرا وعتوا ، فحق عليه وعلى قومه الغرق والهلاك ، وصار رمزا كئيبا لمن يأتى بعده ويسير على دأبه وعلى سنّته ، يقول جل وعلا : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) ( الأنفال ).

5 ـ ومن هنا فإنّ تغيير النفس بالحق والايمان الحق والتقوى الصادقة هو طريق الفلاح فى الدنيا والآخرة . وبمجرد أن تأتى الارادة الحازمة و الوعى الصادق بأن النافع الضار هو الله جل وعلا وأنه جل وعلا لا يظلم أحدا فى الدنيا أو الآخرة ، وأن العزّ فى طاعته والخزى فى عصيانه ، عندها تأتى إرادة الله جل وعلا بنجاح هذا التغيير تالية ومؤكدة لارادة الناس :( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) وإلّا فالهلاك لا مفرّ منه : ( وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)( الرعد ).

5 ـ بهذا الوعى يمكن تحرير النفس من الخوف وأوهام الخضوع والخنوع ، ويمكن السمو بها وتغييرها الى الأفضل لتكون فعّالة بالخير ، تغير صاحبها وتغير مجتمعها بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وتتواصى بالحق وبالصبر ، وبذلك ينجو البشر الانسان فيها من الخسر والخسران فى كل زمان وفى كل عصر وأوان: (بسماللهالرحمنالرحيم . وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

 ودائما .. صدق الله العظيم .

ملاحظة

بهذا ينتهى الجزء الأول من كتاب ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) ويليه بعونه جل وعلا الأجزاء الأخرى التى تتناول ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) فى تاريخ المسلمين على مستويين : المستوى النظرى التقعيدى ، والمستوى التاريخى الواقعى،من عصر النبوة الى الدولة السعودية فى عصرنا الراهن . ندعو الله جلّ وعلا أن يعيننا على الوفاء بهذا الوعد .

 

 

الفهرس

الأمـر بالـمـعــروف والـنـهـي عــن الـمـنـكــر بين الاسلام والمسلمين

 (الـجــزء الأول)

الأمـر بالـمـعــروف والـنـهـي عــن الـمـنـكــر فى الاسلام 

مقدمة   

 مدخل :  الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى لمحة قرآنية عامة

 

الباب الأول  : تأصيل مصطلحات الأمر والنهى ، والمعروف ، والمنكر قرآنيا :

الفصل الأول  تأصيل مفهوم الأمر قرآنيا :

الفصل الثانى : تأصيل مفهوم المنكر

 الفصل الثالث : تأصيل المعروف قرآنيا / مفهوم المعروف القيمى الأخلاقى

 

الباب الثانى : التطبيق

الفصل الأول : تطبيق الأمر بعمل المعروف والنهى عن عمل المنكر

 الفصل الثانى : التمكين وتطبيق الأمر بعمل المعروف والنهى عن عمل المنكر

 الفصل الثالث : مفهوم دولة الاسلام التى تطبق الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر

 

الباب الثالث  حدود الإلزام في تشريعات الاسلام:

الفصل الأول :حدود الإلزام في تشريعات الاسلام: ( 1) فى العقيدة

الفصل الثانى : حدود الإلزام في تشريعات الاسلام: فى العبادة

 الفصل الثالث  الإلتزام الفردى أساس تطبيق التشريع

  الفصل الرابع مدى إلزام السلطة الاجتماعية

 

الباب الرابع :  دور الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى قوة الدولة الاسلامية 

الفصل الأول :الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر و طبيعة الدولة (إسلامية أو إستبدادية(

 الفصل الثانى : أهمية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى إقامة مقاصد الشرع الاسلامى 

  الفصل الثالث :  التقوى أساس القيام بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر

الفصل الرابع    التقوى أساس تنفيذ أوامر الشرع فى المجتمع المتفاعل بالخير

 

الباب الخامس  :  غياب الأمر بالمعروف والنهى يعنى الاهلاك 

 الفصل الأول : الأغلبية الصامتة نذير هلاك للمجتمع

  الفصل الثانى   تحذير من إهلاك قائم وإهلاك قادم   

  الفصل الثالث   تحذيرات رب العزة لنا بالاهلاك  :

  الفصل الرابع   خطوات ومعالم الاهلاك الكامل   

  الفصل الخامس :  بين الاهلاك الكلى والاهلاك الجزئى   

   الفصل السادس :  الاهلاك الجزئى أو التعذيب لقريش مع نزول القرآن الكريم

   الفصل السابع   : الاهلاك الجزئى أو التعذيب للمسلمين بعد نزول القرآن الكريم  

  الفصل الثامن :  قراءة لسورة ( هود ) بحثا عن وسائل لتفادى الهلاك  

 

الباب السادس : )حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ )

الفصل الأول : تشخيص المرض : سرطان الضلال.

 الفصل الثانى : قواعد التغيير والتصنيع : تصنيع الفرد والمجتمع فى إطار التغيير لأفضل

  الفصل الثالث  ـ إرادة البشر فى التغيير بتصنيع الفرد والمجتمع  

  الفصل الرابع    ـ إرادة التغيير وتحديد الهدف  

  الفصل الخامس   الوعى وموضوعاته العقيدية

  الفصل السادس   ـ الخوف وتغيير ما بالنفس