JustPaste.it

بسم الله الرحمن الرحيم

مشاهداتي لبطولات مجاهدي تركستان

الحمد لله والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.. أما بعد:

من هناك على بعد آلاف الكيلو مترات تبدأ القصة، قصة الألم والأمل، قصة البطولة والاستبسال، قصة رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه -نحسبهم والله حسيبهم- من هناك من أرض تُدعى أرض (تركستان الشرقية) البلاد التي عاصمتها مدينة (كاشغر) وهي المدينة التي فتحها القائد المسلم قتيبة بن مسلم الباهلي، فهي بلاد إسلامية منذ الفتح الإسلامي الذي تم على أيدي القادة العظام، ويُنسب إلى (كاشغر) علماء كثيرون، منهم (أبو المعالي) طغرل شاه محمد بن الحسن بن هاشم الكاشغري الواعظ، وكان عالماً فاضلاً، سمع الحديث الكثير، وطلب الأدب والتفسير، ولد سنة (490 هـ)، وعاش حتى سنة (550 هـ).

والمسلمون هناك كلهم سنّة أحناف، ولكن للأسف أصبحت تركستان الشرقية التي تقع أقصى شرق العالم الإسلامي في غرب و شمال غرب الصين تخضع للحكومة الشيوعية الصينية نسأل الله أن يكرم المسلمين بفتحها، وفيها يعاني المسلمون أنواع الاضطهاد والاستبداد من هذه الحكومة الملحدة عجل الله سقوطها، من هناك حيث الظلم والاضطهاد والقتل والتشريد والإبادة، هناك رجال أبوا أن يركعوا إلا لله، وأبوا أن يخضعوا إلا لمن تخضع له الجباه سبحانه وتعالى، يبيع أحدهم ماله وأثاث بيته بل ويبيع بعضهم داره وملكه كله حتى يجمع قرابة العشرة آلاف دولار -أو أقل من ذلك أو أكثر- لينطلق في رحلة طويلة من تركستان إلى أرض الشام؛ يالها من همة عالية! ويالها من نفوس زكية وراضية! هكذا هم طلاب الجنان، ومن يخطب الحسناء لم يغله المهرُ، هاجروا ورحلوا نصرة لدين الله سبحانه وتعالى، ونصرة للمستضعفين من عباد الله، في رحلة عجيبة تبعث في نفوس أمتنا المسلمة الأمل، ففي الوقت الذي يجمع فيه البعض ماله أشهُراً عديدة ليذهب مع أسرته في رحلة سياحية، يجمع هذا ماله لينطلق في رحلة ملؤها المخاطر والتضحيات نصرةً لدين الله سبحانه وتعالى، لقد كان أيسر على هذا التركستاني البطل المجاهد أن يذهب إلى دولة قريبة ويظل فيها كلاجئ سياسي كما يفعل الكثير، إلا أنه يأبى ذلك؛ لما يرى من مجازر يرتكبها النصيريون ويرى من توافد الرافضة لينصر بعضهم بعضاً في الشام، فيأبى أن يقوم بدور المتفرج، وأصر أن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله، وهكذا جاء أولئك الرجال الذين صدقوا مع الله سبحانه وتعالى إلى الشام في وقت يخرج الكثير منها حتى من أبنائها، وفي وقت اكتفى الكثير من أبناء أمتنا بالتفرج وهم يرون براميل الموت تخطف أرواح أطفال الشام وتدفن النساء وهن أحياء تحت أنقاض بيوتهن، وتقتل الشيوخ وتدمر المساجد، ويرون عصابةً نصيرية مجرمة تنتهك الأعراض وتقتحم المنازل، وتشرد الآمنين، وتزرع الخوف في كل مكان وكل شارع وكل بيت، عصابة تُهلك الحرث والنسل بمساندة حلفائها ونظرائها وأهل ملتها وطائفتها من دول وجماعات وأفراد، من هناك قدم هؤلاء الأبطال إلى هذه الأرض الطيبة إلى أرض الشام المباركة التي التقيت فيها بهم وكان ذلك في أول زيارة لهم في أحد معسكراتهم فسرَّني ما رأيت، زرتهم فإذا بالأطفال يستقبلونني بنشيد جميل بعث روح الإيمان في قلبي، قد صفوا صفين ينشدون أناشيد رائعة، أناشيد النصر والشموخ والعزة والكرامة، تعلوا صيحاتهم بالتكبير وفي يد كل واحد منهم بارودة يكاد طولها أن يفوق طوله، يتعلمون اللغة والقرآن، أما الآباء فإنهم منشغلون بالاستعداد لمعركة حاسمة في جسر الشغور!

وصل أبطال تركستان إلى أرض الشام فكان مستقرهم على مدخل جسر الشغور، لقد أبوا أن يتخذوا لهم مقرات كما اتخذ غيرهم مقرات، فأحبوا أن تكون مقراتهم خطوط الرباط الأمامية، فرابطوا على جسر الشغور قرابة العام، وقد كانوا يأخذون النصيب الأكبر من الرباط على جسر الشغور، وكانوا يشتعلون حُرقة في انتظار تلك اللحظة الحاسمة لحظة اقتحام جسر الشغور، وإنني لأذكر في إحدى زياراتي لهم استقبلني أميرهم ذلك الرجل المتواضع الذي لا تكاد تميزه عن إخوانه من جيش التركستان، فإذا بأحد المجاهدين يرفع يده ويقول لي: يا شيخ يا شيخ -يقول لي بلهجة حادة- مللنا مللنا متى نقتحم على الطاغوت؟ يقصد: متى نقتحم جسر الشغور على النظام النصيري؟ متى نحرر أرض الله من أيديهم؟ فقلت له: صبراً.. عسى أن يكون ذلك قريبا..

وهكذا ظلوا مرابطين وقد تميز رباطهم بشهادة الجميع بأنه ليس رباطاً اعتيادياً كما يفعل بعض المجاهدين، بل هي خنادق شديدة التحصين قلَّ أن يتقنها المجاهدون في سبيل الله تعالى، ثم جاءت ساعة الصفر ولحظة الانقضاض على جسر الشغور لتحريره من قبل المجاهدين في سبيل الله، فطار أولئك التركستان فرحاً إلى اللحظة التي أمضوا شهوراً طويلة في انتظارها، فكانوا يتسابقون للعبادة والصلاة والصوم، ذهبت إليهم في إحدى المغارات لألقي درساً فاستقبلني عدد كبير منهم ألقيت بعدها الدرس وطُلب من الجميع أن يخرجوا هواتفهم وأن يسجلوا الكلمة لينشروها إلى بقية الأخوة، حيث إنها كلمة مترجمة، فإذا بالإجابة التي
تفس
ر حال الكثير من هؤلاء بأنه لا أحد من هؤلاء يملك جوالاً حتى يسجل به!

نعم؛ لقد كانوا يعيشون الكفاف، حتى الأكل حينما تنظر إلى طعامهم تنظر إلى طعام يختلف تماماً عن طعام بقية المجاهدين، حينما تنظر إلى حالتهم المادية تنظر إلى حالة مختلفة، حالة ملؤها الزهد والورع، يكرهون كثير الكلام لأنهم يحبون كثير الابتهال وكثير الانقطاع إلى ذكر الله سبحانه وتعالى، من جلس مع هؤلاء الأخوة نظر إلى الصدق والإيمان في وجوههم، قبيل انطلاق المعركة دعاني أميرهم لإلقاء محاضرة على مجموعة من الجنود، فألقيت المحاضرة عليهم فإذا بالدموع تبل خدودهم، بل تبل ثيابهم وجلاً واستعداداً للقاء الله سبحانه وتعالى، بدأت المعركة الحاسمة فآثرت أن أدخل من محور هؤلاء لما رأيت في أعينهم من صدق وشجاعة وإقدام، وبينما أنا أسير مع الأخوة طلائع المجاهدين في اتجاه "حاجز زليط" في جسر الشغور إذا بي ألمح فتى في العشرين من عمره يلبس البياض في الليلة الظلماء ولا يرتدي جعبة، فتعجبت هل يكون مدني في هذا المكان؟! فدعوته وقلت ما الذي أتى بك إلى هذا المكان؟ فقال لي: أخي أنا استشهادي الآن إن شاء الله تفجير، والآن إن شاء الله أذهب إلى الجنة، احتضنته بشدة واغرورقت عيني بالدمع وأنا أودع رجلاً من رجال الله الذين أحسبهم من الصادقين، وهو يودع هذه الحياة مبتسماً وفرحاً بلقاء الله سبحانه وتعالى، ركب مفخخته وقد مُلئت بالمتفجرات وهو ينظر إليها نظرة فرح وأُنس وشوق إلى لقاء الله، وذهب ليدك بها حصون الكفار، وبالفعل انطلق إلى قلب معسكراتهم فأعمى الله أعينهم عنه، ولكن لم يكن ذهابه إلى عمليته الاستشهادية لأجل تعجل الشهادة أو لملل من هذه الدنيا إنما لأجل الإثخان في أعداء الله تعالى، فلما رأى أن الله قد أعمى أعينهم عنه ترك المفخخة في وسطهم وخرج يتسلل في جنح الليل، حتى إذا ابتعد عنها مئات الأمتار قام بتفجيرها لتدك حصونهم، ويحفظ نفسه لعملية استشهادية قادمة ليكون قد أثخن بالكفار مرتين أو ثلاث.

انطلق الأسود بعد ذلك على الكفار ليثخنوا فيهم ويقتلون فيهم مقتلة شديدة، ولم يشأ الله سبحانه وتعالى أن يفتح على المجاهدين من جميع محاور جسر الشغور في هذه اللحظات، فلما كان من الغد التقيت بأميرهم مرة أخرى وقلت: ما الحل؟ وتحدثت معه عن استعصاء هذه الحواجز، قال: الانغماسيون. قلت: نِعم الرأي، نعم الرأي! فعرض على شبابه المجاهدين الأشاوس الانغماس فإذا بهم يتسابقون أيهم يكون انغماسياً يقدم نفسه نصرة لدين الله ونصرة للمستضعفين، كان عدد الذين رفعوا أيدهم رغبة في الانغماس كبير جداً يفوق العدد المطلوب بمرات، فتم اختيار الثلاثين منهم، ألقيت عليهم بعدها كلمة، هي كلمة المحبة والنصح والتحريض، وهي كلمة الوداع، لأن هؤلاء الرجال سيلبسون أحزمة ناسفة في خواصرهم ثم ينطلقون إلى أولئك الكفار أعداء الله، عانقتهم بعدها عناقاً حارًا ليخرجوا من مقرهم ولم يبق سوى ساعة ونصف على الانغماس في أوساط العدو، فإذا بهم يجمعون الورود ويعلقونها في صدورهم، فتعجبت من هذا المشهد!! فقلت: أخي لِم تضع هذه الوردة في جيبك؟ فقال لي مبتسماً: الليلة سألقى الله سبحانه وتعالى والعبد يُبعث على ما مات عليه، وأريد أن أُبعث متزينًا للقاء الله سبحانه وتعالى، الليلة أبيت عند الحور الحسان عند الصحابة الكرام، لم أجد تعليقاً على هذا الكلام إلا أن احتضنته ودعوت الله سبحانه وتعالى له بالثبات والتوفيق والسداد..

انطلق هؤلاء الأشاوس وانطلقت أسير خلفهم فإذا بهم يقتحمون على الكفار في منطقة مكشوفة لتستقبلهم طلقات شديدة بمختلف الأسلحة بدءاً من طلقات الروسي والكلاشنكوف إلى طلقات البي كي سي إلى طلقات الدوشكا إلى طلقات الثلاثة والعشرين لتقتل من الانغماسيين قرابة الخمسة عشر -أي نصفهم- ويصل نصفهم الآخر بإصرار عجيب منقطع النظير إلى قلب البناية، وهو أول خرق يحصل في جسر الشغور بالمدينة، هنا انهارت معنويات جنود الأسد! ولا عجب فشتان بين من يقول: يا الله، وبين من يقول: يا بشار، شتان بين من يقول: مولانا للأبد الله الواحد الأحد، وبين من يقول: قائدنا للأبد بشار الأسد!

لقد ذُهل جنود بشار وصُدموا وهم يرون هؤلاء الرجال الأشاوس ينطلقون رغم تساقط إخوانهم على الأرض شهداء، فلا يمنعهم ذلك عن إكمال الاقتحام والانغماس في أعداء الله سبحانه وتعالى، حينها لم يكن بوسع جنود بشار إلا أن يولوا هاربين!!

لم تنتهي مشاهداتي لمواقف هؤلاء التركستان، فقد رأيت منهم عجباً، رأيت قيام الليل لا يتوقف وصيام النهار لا ينقطع، بل حينما دخلنا إلى "حاجز زليط" إلى البنايات وقابلنا بعض الأهالي في جسر الشغور كانوا في شيء من الخوف والتوجس والريبة، وذلك خوف طبيعي فمنذ أربع سنين وهم يسمعون النظام يقول: الإرهابيون سيأتون إليكم.. الإرهابيون سيقتلونكم، استضافنا أحد الأهالي فجلسنا عنده فأمسك بي بعد أن عرفني وقال: أريدك، أسألك بالله أن تخرجني من هذا المكان فأنا الآن بينكم وبين النظام، ولو أضمن أنكم ستنتصرون لما خرجت من بيتي، ولكن أخشى أن يعود الن
ظام فيتهمني بإيوائكم ويقوم بقتلي وقتل أطفالي، فقلت له: لا ضير، حينما يحل الفجر بإذن الله نخرجك ونخرج أبناءك معك، فبات الإخوة التركستان في بيته وفي ضيافته فرأى قيامهم لليل وسمع لهم أصواتا كأزيز النحل طوال الليل يذكرون الله عز وجل، ورأى بكاءهم وتضرعهم، فجئت إليه الفجر وقلت له: هل أنت مستعد للخروج؟ فقال لي: لقد تغير رأيي تماماً، قلت: ما الأمر؟ قال: لقد رأيت رجالاً يبكون طوال الليل وقد رأيت رجالاً يتضرعون لله سبحانه وتعالى، وقبل أن تأتوا بيوم كان عندنا جنود بشار يشربون الخمور ويشركون بالله، فلا والله الذي لا إله غيره لن أخرج من بيتي، بل والله إني أعلم إنكم منصورون إن شاء الله، وسأبقى في هذا المكان أطهو طعامكم وأشرف بخدمتكم وعونكم، وأصرَّ على البقاء والمكوث، فدعوت الله له ثم اتجهت مع إخواني إلى ملاقاة أعداء الله سبحانه وتعالى..

وكان ختام مشاهداتي في أرض المعركة هي هذه اللحظة الفاصلة قبيل فتح جسر الشغور بساعات، حيث أخبرني أحد الإخوة أن مكاناً مكشوفاً في منطقة قريبة يطل على النصيرية وعلى حزب الشيطان، فأمرني ودعاني أن أصعد ليمكنني الله سبحانه وتعالى من رقابهم، وبالفعل صعدنا إلى ذلك المكان ومكنني الله سبحانه وتعالى من بعضهم لتأتيني طلقة رحمة دخلت من بطني وخرجت من ظهري أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا في ذلك الإخلاص وأن يجعل ما أصابنا في سبيله مكفراً لذنوبنا ورافعاً لدرجاتنا، حينها انتهى الفصل الأول من مشاهداتي حيث حملني هؤلاء الأبطال وكانوا يتسابقون في حملي لمسافة قاربت الكيلو متر بأماكن مكشوفة وطلاقيات صغيرة يتحملون صعوبة الحمل وصعوبة ووعورة الطريق، كتب الله أجرهم ولله درهم وكثر الله في المجاهدين من أمثالهم، وثمّ مشاهدات أخرى رأيتها من صبرهم عند الإصابة والمرض حينما كنت موجودًا في المشفى للعلاج لا يسع المقام لذكرها، ولكن كما قيل: يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، أسأل الله أن يبارك في هؤلاء وأن يكثر في المجاهدين من أمثالهم وأن يثبتهم على دينه، هذه بعض المشاهدات رأيتها من أرض الجهاد والرباط لأخوة مهاجرين هاجروا بأنفسهم وأهليهم وأموالهم نصرة لدين الله سبحانه وتعالى.. والله المستعان وعليه التكلان...

د. أبو عبد الله المحيسني