JustPaste.it

كتاب: حرية الرأى بين الاسلام والمسلمين

 

عن الكتاب
يتناول هذا الكتاب حريةالرأى المطلقة التى كفلها الاسلام، ثم كيف صادرها المسلمون بالتدريج خلال تاريخهم .
فهرس كتاب حرية الرأى بين الاسلام والمسلمين

 

 

لمحة عن الكتاب

في الخميس 21 ابريل 2016

(1 )

كان عام 1991 من أشد الأعوام العجاف التى مرت بى ، أحس صديقى الدكتور فرج فودة بما أعانيه فاقترح أن أؤلف كتابا عن الصلة بين العلمانبة والاسلام ليتوسط لدى اصدقائه فى الحكومة التونسية لنشره ، فكتبت كتاب (القران والعلمانية).

قبيل الانتهاء من الكتاب جفّ ريق القلم الجاف الوحيد الذى أملكه، حاولت الضغط عليه فكتب سطرين شاحبين بكل ما تبقى فيه من دماء ، ثم لفظ أنفاسه تماما بين أصابعى . لم يكن فى جيبى خمسة قروش أشترى قلما اخر،انتظرت يومين إلى أن جاء الفرج واشتريت قلما وانهيت الكتاب.

كان ما تبقى من معى يكفى لواحد من أمرين : إما أن أركب الميكروباس من المطريه الى مكتب فرج فودة ؛ وإما أن اقوم بتصوير نسخة إحتياطية من الكتاب. إستحييت أن أطلب من الدكتور فرج فوده تصوير الكتاب. لم ينشر الكتاب فى تونس وضاعت أصوله هناك. تأكدت من هذا بعد خمس سنوات حين ذهبت الى تونس مدعوا من وزير الاوقاف وقتها الدكتور على الشابى ، وسألتهم عن مخطوطة كتابى (القرآن والعلمانية ) فقالوا انها ضاعت .

(2 )

فى عام 1992 طلبت منى المنظمة المصريه لحقوق الانسان اعداد بحث عن حرية الرآى بين الاسلام والمسلمين لاشارك به فى ملتقى فكرى كانت تعده عن حرية الرآى والفكر والعقيدة. كتبت من الذاكرة فصلا عن حرية الرآى فى الاسلام ، وكان جزءا مكتوبا من قبل فى الكتاب الضائع (القرآن والعلمانية) وأضفت له دراسة تاريخية تتناول مصادرة حرية الرآى ـ بالتدريج ـ فى عصر الخلفاء. وكان البحث الجديد أبرز البحوث التى ناقشها الملتقى ؛فقد فوجئت بالمستشار الدمرداش العقالى احد المشاركين فى الملتقى ؛ يتحدث عن ورقتى اكثر مما يتحدث عن ورقته .

وجاء موعدى فى الحديث ؛ وكان المشرفون على الملتقى قد اختاروا اربعة للتعليق على ورقتى البحثية ؛ هم الدكتور محمد سيد سعيد والدكتور اسامة الغزالى حرب ؛ وكل منهما يمثل ناحية من الاتجاه العلمانى والاستاذ جمال بدوى رئيس تحرير الوفد عن الاخوان واليمين؛ والاستاذ خليل عبد الكريم ممثلا عن اليسار .

تركز نقد الدكتور محمد سيد سعيد والدكتور اسامة الغزالى حرب على اننى انتقى من الآيات ما يتفق مع وجهة نظرى فى اثبات ان الاسلام دين حرية الرآى والعقيدة ؛ وقالوا ان من يخالفنى فى الرأى ينتقون ايضا الآيات التى تتفق مع وجهة نظرهم لأن (القرآن حمّال أوجه ). ورددت عليهما بنقد اسطورة أن القرآن حمّال أوجه مثبتا تناقضها مع كون القرآن محكم لا عوج فيه، وقلت إننى لا أنتقى الآيات مطلقا وانما منهجى هو تجميع كل الآيات المتصله بالموضوع واستقراؤها جميعا ؛ وقلت لهم اننى اتحدى ان يستشهد اى انسان بآية قرآنية فيها مصادرة الرأى والعقيدة .

مفاجأة التعقيب جاءت من الاستاذ جمال بدوى والاستاذ خليل عبد الكريم، فمع تناقضهما الفكرى والسياسى فقد اتحدا ضدى تأكيدا لإنتمائهما معا الى نفس الدين الأرضى ( التصوف السنى ) مع اختلاف الرؤى السياسية. جلسا متجاورين ، وبالصدفة جلس خلفهما ابنى محمد – وكان صبيا فى هذا الوقت – وحكى لى كيف كانا يتآفقان معآ ويحوقلان وينتفضان حين كنت القى نبذة فى الملتقى عن ورقتى . وجاء دورهما للتعقيب .

هاجمنى جمال بدوى قائلا إننى عدو السنة النبوية ، وقال انه لا يوافق على أن حرية الرأى فى الاسلام مطلقة ؛ ويرفض وجود حرية للمنافقين ضد النبى محمد عليه السلام لانه كان حاكما يستمد سلطته من الله تعالى . ورددت عليه باننى استشهد بآيات القرآن الكريم وهى التى تضمنت تقريرآ كاملآ عن حرية المنافقين القوليه والفعليه وامر النبى والمؤمنيين بالآعراض عنهم ، وقلت له ان النبى حين كان حاكما لم يستمد سلطته من الله تعالى وانما كان يستمد سلطته من الناس ؛ وهذا معنى قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران 159) اى جعله الله تعالى هينا لينآ معهم ولو كان فظآ غليظ القلب لانفضوا من حوله، ولو انفضوا من حوله أصبح وحيدا بلا حول و لا قوة ، وماقامت له دوله وما اصبحت له سلطه لأنه يستمد منهم السلطة، لذلك امره الله تعالى بالعفو عنهم اذا اساءوا اليه والاستغفار لهم اذا أذنبوا فى حقه ؛ وان يشاورهم فى الامر لانهم اصحاب الامر ومصدر السلطة .

وجاء دور خليل عبد الكريم فاعترض على كل ماقلت واتهمنىأيضا بانكار السنة وانكار الاحادبث التى تشرع قتل المرتد ؛ اى رجع (الشيخ) خليل عبد الكريم الى ( صباه )أى أصله الأول أزهريا منغلقا وواعظا فى الجمعية الشرعية ؛ثم استشهد بالحديث القائل ان النبى محمدا عليه السلام قام بتحريق مسجد الضرار، وهو المسجد الذى اقامه المنافقون فى المدينة، ونهى الله تعالى رسوله أن يقوم فيه. وقد استشهدت بهذا على الحرية التى كانت يتمتع بها المنافقون حتى فى التآمر على النبى والمسلمين . ورددت عليه بانه حديث كاذب ذلك الذى يزعم ان النبى محمدآ عليه السلام قام بتحريق مسجد الضرارلأن الله تعالى أخبر بأن ذلك المسجد ظل قائما: (لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) (التوبة110)؟فأيهما نصدق ؟ الله تعالى ؟ أم ذلك الحديث ؟ .

وانتهى الملتقى بنجاح عظيم ؛ ولكن لم تنته عداوة الاستاذ خليل عبد الكريم لى ؛ اذ لم يغفر لى أننى غلبته فى الحجة ؛ فاستمر ـ يرحمه الله تعالى ـ يهاجمنى فى مقالاته فى الاهالى وفى القاهرة ؛ مما اضطرنى الى الرد عليه فى القاهرة بمقال ساخر موجع زاد من أوار خصومته ؛ فقام بنشر سلسلة مقالاته الهجومية فى كتاب نشرته له دار سيناء للنشر . والمضحك انه نشر كل مقالاته ضدى ؛ ولم ينشر الرد الوحيد الذى رددت به عليه .

ولقد نشرت المنظمة المصرية لحقوق الانسان هذا البحث ضمن ابحاث الملتقى الفكرى الثالث فى كتاب خاص سنة 1994 ؛ وكنت وقتها عضو مجلس الامناء للمنظمة والمسؤل الفكرى فيها ؛وبعدها قمت باسم المنظمة بعقد الملتقى الفكرى الرابع (المصادرة) والملتقى الفكرى الخامس عن (القمع الفكرى).

( 3 )

بعد انتهاء الملتقى ببضعة اسابيع أخبرنى بعض الاخوة القرآنببن ان لى بحثا منشورآ بعنوان (حرية الرأى بين الاسلام والمسلمين) فى مجلة القاهرة . كان رئيس تحريرها الدكتورغالى شكرىأحد أعلام الثقافة المصرية، تقابلنا وتصادقنا ، وصارت مجلة القاهرة تنشر لى باستمرار .

حكى لى الدكتور غالى شكرى عن المتاعب التى أثارها بحثى ( حرية الرأى ..) فالمصحح فى مطابع وزارة الثقافة أرعبه المكتوب عن أبى هريرة وغيره فحاول شطب المكتوب، ثم كتب تعليقات تهاجمنى وأراد إضافتها للبحث، ثم حاول تصعيد الشكوى لوقف نشر البحث ، فأوقفوه عند حده وصارت حديث المجالس وقتها .

مجلة القاهرة بمستواها العالى وقتها كانت ملتقى المثقفين المصريين برغم أن صدورها كان شهريا و بغير انتظام . وحين نشرت هذا البحث وما بعده من ابحاث لى اسهمت فى معركة التنوير وفى مواجهة التدخل الازهرى فى مصادرة الفكر . ودفع الثمن شيخ الازهر الحالى ، ففى احدى الجلسات السنوية للرئيس مبارك مع المثقفين فى افتتاح معرض القاهرة الدولى للكتاب أثير تدخل الازهر فى الحرية الدينية والفكرية فانطلق شيخ الازهريرد عليهم لأنهم تعدوا على اختصاصه ، فقام ( الأفندية المثقفون ) بالرد علي الشيخ مستشهدين بالايات القرآنية التى جاءت فى هذا البحث ( حرية الرأى ..) والتى تؤجل الحكم فى الاختلاف الدينى والعقيدى الى الله تعالى وحده يوم القيامه وانه ليس فى الاسلام كهنوت بل حرية مطلقة فى الدين والعقيدة .

وقع الشيخ طنطاوى فى حيص بيص وتلعثم وتلجلج فآثار شفقة الحاضرين . بعدها اصبح يتكلم ـ أحيانا ـ عن حرية الرآى والعقيدة فى الاسلام .

( 4 )

مع بعض الزيادة الطفيفة ينشر موقعنا اهل القرآن هذا البحث ضمن مشروع النشر المجانى الذى يطمح بعون الله تعالى فى نشر كتاب جديد كل اسبوعين .هذا البحث هو الكتاب الثانى وقد سبقه كتاب (المسلم العاصى) وسيليه بعون الله تعالى (رعاية الطفل فى الاسلام)

ومن المنتظر ان تظهر ترجمة لهذا البحث فى موقعنا فى القسم الانجليزى. والله تعالى المستعان

14 مايو 2007



مقدمة

نقصد بحرية الرأي حرية الإنسان المطلقة في الإعتقاد والتفكير وحريته في إعلان رأيه والتعبير عنه بشتى الوسائل السلمية دون رفع السلاح .وهذا التحديد لمفهوم حرية الرأي مأخوذ من استقراء الآيات القرآنية المتعلقة بتقرير حرية الرأي المطلقة ، والخاصة بتطبيق النبى محمد عليه السلام لتلك الآيات في تاريخه مع المحيطين به ، وقد حكاه القرآن الكريم في الآيات المكية والمدنية.

والواقع أن الحرية المطلقة للرأي مبدأ أرساه الإسلام منذ ظهوره وطبقه النبى وبعض الخلفاء الراشدين أحيانا ، ثم صودرت هذه الحرية بقوة السيف في الدولة الأموية ، ثم جاءت الدولة العباسية بمفهوم ثيوقراطى للحكم، وترسخ ذلك المفهوم بأحاديث تعارض القرآن ولكن تم ربطها بالرسول بما يعرف بالسنة النبوية ، والتى تعبر عن أقوى دين أرضى إخترعه المسلمون.

تحولت الثيوقراطية العباسية إلى واقع ثابت تأكد بالفترة الطويلة التي قضتها الخلافة العباسيةفي الحكم وبتدوين تراث الأديان الأرضية للمسلمين ومعتقداتهم ، ذلك التراث الذي لا يزال محسوبا على الإسلام حتى الآن ، والذي أصبح الإطار التشريعي لدعاة الدولة الدينية الذين يريدون نظاما سياسيا دينيا على الطريقة العباسية ، وهو يحسبون أن ذلك هو الإسلام ، ولهم في ذلك بعض العذر لأن المؤسسات الدينية التي ينبغي أن تنهض بتجلية حقائق الإسلام قد عجز المسئولون فيها عن تأدية هذا الدور، وداروا عجزهم باستخدام نفس التراث العباسي في اتهام المجتهدين بالردة والكفر.

أولئك المسئولون يجدون كل التعضيد من جماعات التطرف إذ يجمعهم إطار تشريعي واحد ودين أرضى سنى واحد ينطلقون منه بالدعوة لقيام الدولة الدينية تجسد الشريعة العباسية من قهر المخالف فى الرأى السياسى باتهامه بالردة وقتله بها . أولئك الدعاة للدولة الدينية فى عصرنا يجدون في نصوص القانون الحالي ما يحقق هدفهم من السيطرة على أجهزة الإعلام والنشر والحياة الفكرية بحيث يصادرون من خلالها أي فكر حر بحجة أنه يهاجم الإسلام ،هذا مع أنهم يمثلون أكبر خطر على الإسلام نفسه ، ثم إنهم يمثلون بذلك أكبر خطر على مستقبل الوطن حيث يمهدون لقيام دولة دينية لا تعترف باختلاف الرأي وتعتبره خروجا على الدين يستحق القتل ويفتى بأن للحاكم الديني أن يقتل ثلث الأمة لإصلاح حال الثلثين ..

أي قتل عشرين مليون ليصفو لهم الجو.!!

إن النضال ضد هذه الأفكار ينبغي أن يبدأ بالمطالبة بالتخلص من تلك القوانين التي تجعل من أولئك المسئولين متحكمين في الفكر الديني ، وبالعودة إلى نص الدستور الذي ينادى بحرية العقيدة والتعبير عنها بكل الصور .. هذا إذا كنا نهتم بمستقبل بلدنا وأولادنا ....

والله تعالى المستعان.

د. أحمد صبحى منصور



الفهرس

مقدمة

القسم الأول :

جذور حرية الرأي في عقيدة الإسلام :

تشريع حرية الرأي في نصوص القرآن الكريم

الحوار دليل حرية الإرادة

آداب الحوار في القرآن

تقرير الحرية الدينية للخصوم .

تشريع الجهاد لتقرير حرية الرأي



حرية الرأي في سنة الرسول عليه السلام :

حرية الرأي في حكومة الرسول

مدي حرية المعارضة في حكومة النبي



القسم الثانى

حرية الرأي في عصور الخلفاء

قريش و الخلفاء

بين مدرسة النبي محمد ومدرسة قريش

ملامح دولة النبي محمد عليه السلام:

بدء الفجوة بين الاسلام و المسلمين فى عهد أبى بكر:

ثلاثة تطورات خطيرة حدثت فى عهد الخلفاء الراشدين:

خلافة عثمان تمهد للدولة الأموية

حرية الفكر فى الدولة الأموية

مدى حرية الفكر في خلافة معاوية.

مصادرة الفكر بعد معاوية

الكهنوت الأموي

أولاً: الجبرية

ثانياً : القصص والأحاديث



الكهنوت العباسي

عناصر الكهنوت العباسي

الجبرية

الأحاديث

الهوامش

القسم الأول :

في الخميس 21 ابريل 2016

جذور حرية الرأي في عقيدة الإسلام :
حرية الرأي للإنسان هي الأساس في وجوده في هذه الدنيا . بل هي الأساس في خلق الله تعالى للكون وهى الأساس في فكرة اليوم الآخر . إلى هذا الحد تمتد جذور حرية الرأي في عقيدة الإسلام .وذلك بالقطع ينهى كل الحجج التي يخترعها أنصار مصادرة الرأي باسم الدين .ونأتي إلى آيات القرآن الخاصة بذلك الموضوع وبالترتيب .
(1)
فالله تعالى أبدع هذا الكون بما فيه من كواكب ونجوم ومجرات . وتلك النجوم والمجرات مجرد مصابيح كما وصفها القرآن للسماء الدنيا ، فالسماوات السبع تقع فيما وراء الكون الذي نعجز عن مجرد تخيله . والله تعالى يقول "لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ : 40 /57".
ولكن هذا الكون وتلك السماوات مع عظمتها الهائلة فقد خلقها الله تعالى لهدف واحد هو اختبار ذلك المخلوق المسمى بالإنسان يقول تعالى " وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً " 11/7، إذن فخلق السماوات والأرض ليختبرنا الله أينا أحسن عملا ...
ونتيجة هذا الاختبار وموعده يكون يوم القيامة ، حيث يدمر الله تعالى ذلك الكون وتلك السماوات ويأتي بأرض جديدة وسماوات جديدة ويحاسب الناس على أعمالهم في الدنيا " يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ " 14/48".لذا فالإنسان مأمور أن يتفكر في الحكمة من خلق السماوات والأرض :" الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ :3/191 ".
فالله تعالى لم يخلق السماوات والأرض عبثا "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ: 21/16".بل خلقهما لهدف حق وجعل لهما أجلا معينا يلحقاهما التدمير بعده "مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مسمى: 46/3".
وكل إنسان له اختياره حين يوجد على هذه الأرض ويعيش فيها فترة عمره المقدرة له سلفا ، وبعد هذه الحياة يموت ويعود إلى البرزخ الذي منه جاء، ومطلوب من الإنسان في تلك الحياة أن يعرف أن الله أوجده في هذه الدنيا لاختبار موعده في الحياة الأخرى " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا: 67/2".
وحين يقضى الإنسان حياته غافلا عن ذلك الهدف من وجوده يفشل في الاختبار ويكون مصيره إلى النار ، ويقول الله تعالى يذكره بالهدف من وجوده " أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ؟ !!23/115". يقول له هذا في اليوم الآخر بعد أن ينتهي كل شيء!!
(2)
ويلاحظ أن الله تعالى قد جعل عناصر الاختبار متوازنة وعادلة ، فقد خلق الإنسان على الفطرة النقية أي الميزان الحساس الداخلي الذي يميز بين الخير والشر والذي يؤمن بالله وحده ، وفى مقابل هذه الفطرة سلط عليه الشيطان للغواية ، وأرسل له الرسل وأنزل معهم الكتب السماوية وفى مقابل ذلك زين له الدنيا وغرورها،وفوق ذلك كله خلقه حرا في أن يطيع وأن يعصى وفى أن يؤمن وأن يكفر ، وجعل له سريرة يحتفظ فيها بكل أسراره ونوازعه ومشاعره وهواجسه وأفكاره بعيدة عن متناول كل مخلوق سواه لتكون له ذاتيته المستقلة ، فإذا أراد أن يكون حرا كان حرا وإذا أراد بمحض اختياره أن يكون عبدا لغيره من البشر ومن الأفكار كان كذلك ، والمهم أن الاختيار في يده هو ، وعن طريق هذا الاختيار يستعمل الإنسان حريته كما شاء ، فإذا تسلط الآخرون عليه بقوانين غير إلهية وصادروا حقه في الكفر اختار هو في سريرته أن يكفر ، بل أن ينكر الفطرة في داخله وينكر جود الله الذي خلقه .. إلى هذا الحد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان حر الإرادة ، لدرجة أن الله سبحانه وتعالى سمح له أن يصل تفكيره الحر إلى إنكار وجود الخالق تعالى ذاته .
(3)
وفى مقابل هذه الحرية التي خلق الله الإنسان عليها في الدنيا فإن يوم الاختبار أو يوم القيامة – لا مجال فيه للحرية أو الاختيار ، فتلك الحرية الفردية الإنسانية في التفكير والعمل والتصرف تنتهي عند لحظة الاحتضار والموت ، وبعدها يتعين على الإنسان أن يواجه مسئوليته عن عمله الدنيوي ، لذلك فإن حديث القرآن عن يوم القيامة يأتي دائما بصيغة المبنى للمجهول ، يقول تعالى مثلا "وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ...) (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا )(: الزمر 69/ 73 ، فلم يقل وجاء النبيين والشهداء وإنما قال وجائ بالنبيين والشهداء ولم يقل وذهب الذين كفروا إلى جهنم وإنما قال (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا ) وهكذا قال " وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا " .إذن كل منا يؤتى به يوم القيامة مقبوضا عليه : ( وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ )(: ق21) ، أو بالتعبير القرآني "وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ) (إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ)( : 36/ 32، 53 ". وكلمة محضرون بضم الميم وسكون الحاء وفتح الضاد ، أي يتم إحضارهم حيث تنعدم لديهم حرية الإرادة وإمكانية الهرب .
فالله تعالى أعطانا حرية الإرادة في الدنيا ليختبرنا، وأنزل الدين كتبا سماوية ولم ينزل معها سيفا وملائكة تأمر الناس بإتباع ذلك الدين ، ولم يجعل الجحيم في هذه الدنيا بحيث أن من يكفر ويعصى يؤتى به ليلقى في الجحيم أمام أعين البقية من البشر ، ولو فعل هذا ما كان هناك اختبار أو امتحان ، وإنما أنزل الدين مجردا عن ذلك وترك الحرية لمن يؤمن ولمن يكفر وجعل الامتحان مؤجلا ليوم سماه يوم الدين أو يوم (الحساب) وقال أنه سيأتي في ذلك اليوم وسيحكم فيه بين الناس بذاته ، وحين يأتي الله تعالى يوم الدين وحين تشرق الأرض بنور ربها فقد انتهت إلى الأبد حرية البشر في الإرادة وتعين عليهم أن يواجهوا نتيجة عملهم الذى كان .
( 4)
والله تعالى لم يعط سلطته في الدنيا لبعض الناس ليعاقبوا باسمه من أختلف معهم في الرأي أو من كفر بالله . والذين يدعون لأنفسهم هذا الحق المزعوم إنما يفسدون القضية من جذورها ويتقمصون دور الإله حيث لا إله إلا الله، ويتحكمون فيما رغب عن التحكم فيه رب العزة حين ترك العقل الإنساني حرا بلا قيد يفكر بلا حدود ويؤمن إذا شاء ويكفر إذا أراد ويعلن ذلك بجوارحه كيف أراد . هذه الفئة من البشر علاوة على أنها تزيف دين الله وتغتصب سلطاته التي ادخرها لذاته يوم الدين فإنها أيضا تعطى الحجة لمن ينكر حساب الآخرة وعذاب النار .وحجتهم أنه إذا كان هناك إرغام على الإيمان . وإذا كان هناك إكراه في الدين ، فلا مجال حينئذ لأن يكون هناك حساب وعقاب يوم الدين . بل أنهم يعطون دين الله تعالى وجها قبيحا متشددا دمويا متحجرا متأخرا . ويسهمون في إبعاد أغلبية الناس عنه . وهذا الوجه القبيح لا علاقة له بدين الله تعالى بل هو وجههم هم . وهو دينهم هم . الذي يناقض دين الله تعالى جملة وتفصيلا .
حقيقة الأمر إنهم لا يرغمون الناس على إتباع الدين السماوى الحق ، بل يرغمونهم على إتباع الدين الأرضى الذين يزيفونه و ينسبونه لله تعالى ظلما وعدوانا ، و من خلاله يتسلطون على الناس ـ باسم الله ـ يزعمزن انهم المتحدثون باسمه والوكلاء عنه فى الأرض.
ولأنهم الأعداء الحقيقيون لدين الله فإن الله تعالى شرع القتال والجهاد ضدهم هم .. وشرع القتال والجهاد لا لإرغام الناس على دخول الإسلام وإنما لتقرير حق الناس في الإيمان أو في الكفر وفى رفع وصاية الكهنوت عليهم . والكهنوت هم ، أولئك الذين يدعون التكلم باسم الله ويتحكمون باسمه في عقول الناس وأفكارهم .. حاربهم الإسلام بالجهاد وتشريع القتال ، ولكن أفلح الكهنوت العباسي والشيعي في قلب المفاهيم وتحريف الإسلام عن مواضعه وتفصيل ذلك سنورده فيما بعد.
( 5 )
والله تعالى أوضح في أكثر من موضع في القرآن الكريم بأنه سيحكم بين الناس في اختلافاتهم الدينية يوم القيامة ، ولذا سماه يوم الدين .
وقد كان المشركون يأتون للنبي ليجادلوه عنادا فأمره ربه بأن يعرض عنهم وأن يعلن لهم تأجيل الحكم إلى يوم الدين حيث يحكم الله تعالى بينه وبينهم "وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ .اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ : 22/68 : 69 "ويقول تعالى عن حال الكافرين في عدم الإيمان بالقرآن " وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ : 22/55: 56 "
وحين انتقل النبي للمدينة وأصبح حاكما لدولة ، وقائدا لأمة ، لم تسمح له نصوص القرآن بإكراه المنافقين على الإيمان والطاعة ، بل كانت لهم حرية الرأي مطلقة ، فقد كانوا يتربصون بالمؤمنين في أوقات الحرب ،وتلك خيانة عظمى في القوانين الوضعية ، ولكن الله تعالى جعل العقوبة عليها مؤجلة إلى يوم الدين حيث سيحكم فيه بين المؤمنين والمنافقين ، يقول تعالى " الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً : 4/141 " .
إن الدين لله وحده ، وقد شاء أن يختبرنا فخلق السماوات والأرض ، ثم خلقنا أحرارا؛ نؤمن إذا شئنا ، ونكفر إذا أردنا ، ولم يجعل سلطة للأنبياء ـ صفوة البشر ـ على إكراه أحد على الإيمان. وكل منا ينتهي اختياره بلحظة وفاته ، وبعد قيام الساعة سيواجه كل منا مصيره في يوم اسمه يوم الحساب أو يوم الدين

 

القسم الأول :

في الخميس 21 ابريل 2016

تشريع حرية الرأي في نصوص القرآن

( 1 )

يقرر القرآن أن الله تعالى لو شاء لجعل الناس جميعا أمة واحدة ، أي خلقهم بلا اختيار فيهم ، يولدون مهتدين ، كالآلات المبرمجة على الطاعة المطلقة ، ولكن الله تعالى شاء أن يجعلهم أحرارا مختلفي الرأي ، منهم المؤمن ومنهم الكافر، منهم المهتدى ومنهم الضال ، وكل منهم حسب اختياره وحسب مشيئته .

يقول تعالى للنبى محمد حين كان يحزن لعناد قومه المشركين :"وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ : 6 /5 " ويقول "قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ 6/ 149 " . أي أن مشيئة تعالى لم تتدخل لحمل الناس على الإيمان ، ولو شاء لكان الناس جميعا مؤمنين إذ لا يقف أمام مشيئته أحد .والدليل على عدم تدخلها هو اختلاف الناس وحريتهم في الإيمان والكفر ، وسيظلون مختلفين لأنها مشيئته تعالى التي لا يعوقها شيء، يقول تعالى "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ : 11/118: 119 " . وكل ما هنالك أنه أمام البشر خيارات مختلفة، والله تعالى ينزل الكتاب ويبعث الأنبياء لتوضيح الحق من الباطل ، والعدل من الجور ، ويترك للبشر حرية الاختيار بين هذا وذاك ، يقول تعالى "وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ 16/9 " .

والبشر إذا اختاروا طريق الغواية يحاولون أن يجدوا لها سندا دينيا بتحريف الحق الذي جاء في الكتب السماوية ، وبذلك تولد الأديان الأرضية على أنقاض الدين السماوى. ولا تتدخل مشيئة الله في ذلك الافتراء عليه ، بل يسمح بوجوده ليكون المجال مفتوحا أمام الناس للبحث عن الدين السماوى الحق والأديان الأرضية الباطلة، أو الاختيار بين الصحيح والزائف ، يقول تعالى عن الأحاديث الضالة التي تزيف الدين "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ: 6 / 112 . إذن لو شاء الله ما حدث هذا .. ولكنه تعالى شاء أن يعطيهم الحرية في الكذب عليه وعلى رسوله وقال للنبي ( ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ) .

والله تعالى يهددهم بالعقاب يوم القيامة وانه يعلم بمؤامراتهم في التلاعب بالآيات ، ومع أنه يقرر لهم حريتهم في ذلك إلا انه يحملهم المسئولية عليها يوم القيامة، يقول تعالى .( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير )ٌ41/ 40 ). قال لهم اعملوا ما شئتم . والخطاب كما يتضح موجه لأولئك الذين يتلاعبون بدين الله ... أي للكهنوت الذي يرتزق ويعيش على أكاذيب ينسبها لله تعالى ورسوله.

والمهم أن لهم المشيئة التي كفلها الله لهم في حربهم لله . وعليهم وزرها يوم القيامة . والدليل العملي واضح وهو أنهم يمارسون عملهم حتى الآن ، فالأديان الأرضية هى التى تسيطر على معظم العالم ، ويتبعها أغلبية المتدينين الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا.وهم بمؤسساتهم الكهنوتية يتلاعبون بحياة البشر الدينية والاجتماعية والعقلية ، بل و السياسية أحيانا.

(2 )

والله تعالى حين يدعو للحق ويذكر الناس به فإنه يقرر حريتهم في الاختيار ويسميها (مشيئة ) أيضا،أي يعلى من قدر هذه الحرية ، يقول تعالى في سورتين في القرآن (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا : 73/ 19، 76/ 29 . أي فالهداية أمام الجميع ومن شاء فليهتد ومن شاء فليكفر . وفى النهاية فكل نفس تهتدي لنفسها أوتضل على نفسها (نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ . لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ : 74/36: 38) .ويتكرر نفس المعنى في الإحتكام إلى مشيئة البشر وحريتهم المطلقة في الإيمان أو الكفر، ومن هذه الآيات "كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ: 74/ 54: 55" ، " ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا " 78-39 " إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ : 81/ 28 ". "كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ : 80/11-12" . هل بعد هذا تأكيد على حرية البشر في الإيمان وحريتهم في الكفر ؟ .وحرية الإعتقاد في الله هي قمة حرية الرأي في الإسلام . وإذا كان للإنسان في نصوص القرآن الحرية في ( أن يكفر بالله ) ، فإن له بالتالي الحرية في أن يكفر بالحاكم أو بأي سلطة دينية أو مدنية .

(3 )

ومن هنا ينبع المبدأ الإسلامي (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ: 2/ 256 ) وقد نزل في سورة مدنية حين كانت للإسلام دولة قوية ، ولكن هذا المبدأ نزل في مكة من قبل وحين أخذت النبي عليه السلام نوبة حماس فكان يبالغ في الإلحاح على الناس كي يؤمنوا فقال له تعالى يذكره بمشيئة الرحمن (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ: 10/99 " .

وأمره الله تعالى بالإعراض عن الذي يتمسك بعقيدته المشركة ، لأن الله تعالى بعثه مجرد نذير يبلغ الرسالة وليس عليهم بمسيطر "فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ : 88/ 21: 26 "

وتكرر هذا المعنى في قوله تعالى " اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ : 6/ 106: 107 " وقوله تعالى "إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ : 2/119 ". فليس النبى مسئولا عمن اختار الكفر ، وليس وكيلا عن الله متحكما فى الناس ، بل هى مشيئة الناس ، إذا شاءوا الضلال شاء الله لهم الضلال ـ وإذا شاءوا الهداية شاء الله لهم الهداية ، وهم فى نهاية الأمر مسئولون عن إختيارهم.

ونزل القرآن بأقاويل محددة أمر النبي بأن يقولها، وفيها التقرير الكامل لحرية الرأي والعقيدة ، فكما أن للنبي حقه في أن يخلص دينه لله وحده فعليه أن يحترم حق خصومه في أن يعبدوا غير الله ، أمره الله تعالى أن يقول هذا: "قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ :39/14: 15 ". أي جعل الله تعالى لهم مشيئة ، وأوجب على النبى أن يسلّم بها. ونزلت سورة كاملة تقول "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ .." وفى آخرها " لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ " .

ويأمره الله تعالى بأن يعلن أنه يقول الحق من الله ثم لهم المشيئة الكاملة في الإيمان أو في الكفر وعليهم تحمل المسئولية إذا كفروا فالعذاب ينتظرهم يوم القيامة : " وَقُلِ :الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا : 18/21 ".

ويقول لهم عن القرآن " قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا :17/107 " . أي لكم الحرية في أن تؤمنوا بالقرآن أو لا تؤمنوا به.

الحوار دليل حرية الإرادة .

لو تخيلنا حاكما صاحب فضل على شعبه ، ولكن ثار شعبه عليه ، ولم يلجأ الحاكم صاحب الفضل إلى القوة واتبع بدلها طريق الحوار والإقناع بأن منهجه في الحكم هو العدل وهو الأمثل ، وفى نفس الوقت لم يجبرهم على طاعته وترك لهم الحرية ، لو تخيلنا وجود هذا الصنف من الحكام بين البشر لوجدنا أنفسنا في خيالات وأحلام.. ولكن إذا قرأنا القرآن الكريم وجدنا أن الله تعالى . وهو الخالق الرازق ، لم يشأ أن يجبر البشر على الإيمان به وبكتبه ورسله ، ولأنه فطرهم على حرية الإرادة فقد أجرى معهم حوارا كي يؤمنوا عن رغبة واقتناع ، لا عن إكراه وإجبار .

وفى الوقت الذي ترفض فيه المؤسسات الكهنوتية إجراء حوار وتكتفي بإصدار قرارات التكفير والردة والحرمان ضد من يخالفونها في الرأي ، ترى رب العزة وهو قيوم السماوات والأرض يجرى حوارا مع عبيده أبناء آدم ليقنعهم بأنه الله الواحد ألذي لا شريك له .ويطول بنا الأمر لو استعرضنا أسلوب الحوار في القرآن ونكتفي بالإشارة إلى لمحات سريعة :

1ـ فالله تعالى يحتكم إلى العقل الإنساني في إثبات زيف الادعاءات الضالة ، ويتردد في القرآن قوله تعالى" أفلا تعقلون ؟ .. أفلا تبصرون ؟ . أنى تؤفكون ؟".وأن يحتكم رب العزة للعقل البشرى فيه التكريم لهذا العقل الذي هو متبع حرية الإرادة . هذا في الوقت الذي تطالب فيه المؤسسات الكهنوتية بتعطيل العقل . وحجب التفكير ، ومصادرة حق المناقشة لعقائدها وأفكارها

2ـ والله تعالى ينزل في القرآن أدلة عقلية على أنه لا إله إلا الله ، كأن يقول تعالى " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" أي لو كان مع الله آلهة أخرى لاختل نظام الكون. ووحدة الخلق في الكون من جماد وحيوان تقطع بأن الخالق واحد ليس معه شريك ، ولو كان معه شريك لحاول أن ينازع الله تعالى في ملكه،ولأن ذلك لم يحدث إذن فليس هناك شريك مع الله ،يقول تعالى: " قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.. 17/42 :43".ولو كانت هناك آلهة متعددة ، ولكل منهم مخلوقات لحدث بينهم تنافس وشقاق اختلف معه مصير الكون أو كما يقول رب العزة:" مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ" 23/ 91 "

أدلة عقلية يستشهد بها الخالق جل وعلا على أنه الإله الذي لا إله معه، ليرد بهذه الأدلة على آراء بعض مخلوقاته من البشر الذين يعتقدون بوجود آلهة أخرى مع الله .. ولولا أن الله تعالى قرر لهم حرية التفكير وحرية الاعتقاد والرأي ما سمح لهم بأن يعتقدوا تلك الاعتقادات التي تسئ إلى جلال الله ، ولولا أن الله تعالى ضمن لهم هذه الحرية في دينه ما أجرى معهم هذا الحوار وما احتكم إلى عقولهم في إثبات فساد تلك العقائد .

3ـ والله تعالى لم يستنكف أيضا أن ينزل بالحوار إلى مستوى عقلية البشر كي يفهموا ويعقلوا وتقوم عليهم الحجة ، فمثلا كانت لبعض أهل الكتاب تصورات عن إبراهيم ،وأنزل الله تعالى الرد عليها فقال " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ 30/ 65 : 66 ".

وفى رأيي أن ذلك أعظم تقدير لحرية البشر ، أن ينزل الخالق جلا وعلا قرآنا يرد به على آراء لبعض مخلوقاته ليقنعهم في الوقت الذي يستطيع فيه أن يدمر الأرض والسماوات،ولكن بعض المخلوقات أعطت لنفسها امتيازات تتفوق بها على الله جل وعلا ،ولذلك فهم يستنكفون من الرد على خصومهم في الرأي ويكتفون بإعلان كفرهم واستحلال دمائهم . والمقارنة هنا فظيعة : الله تعالى يرد على دعاوى بعض خلقه بالأدلة العقلية ، والكهنوت يستكبر النقاش مع بشر مثلهم مخلوق من تراب .

4 ـ والله تعالى لم يستنكف أن يسجل آراء خصومه مع أن آراءهم لا تستحق أن تكون آراءا ، إنما هي سباب وتطاول وسوء أدب، فاليهود قالوا يد الله مغلولة (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء."5/ 64) وقالوا إن الله فقير ونحن أغنياء (لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ 3/181) وفرعون قال إنه لا يعلم إلها للمصريين غير فرعون وأنه ربهم الأعلى (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ." 28/38،"..،" فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى." 79/ ـ 24).

كان من الممكن أن يصادر الله سبحانه وتعالى هذه الأقوال فلا نعلم عنها شيئا،. وبعضها قيل في عصور سحيقة قبل نزول القرآن ، ولولا القرآن ما علمنا عنها شيئا . ومصادرة الكتب والمؤلفات هي الهواية المفضلة للكهنوت الديني والسياسي . وكم شهد العالم في العصور الوسطى ـ وفى عالمنا الثالث الذي لا يزال في العصور الوسطى ـ مذابح للكتب والمؤلفات والمؤلفين ، ولكن الله العزيز الحكيم سجل كل آراء خصومه حتى ما كان منها تطاولا على ذاته المقدسة ، فأصبحت من آيات القرآن التي نقرؤها ونتعبد بتلاوتها ، وطبيعي أن الله تعالى رد عليها بما يناسب المقام ، وذكر أنه تعالى خلق الإنسان من نطفة حقيرة فأصبح الإنسان خصما لربه : "خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ : 16/4 " ." أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ : 37/77 " . ولكن الله تعالى اتاح لهذا الخصم ـ المخلوق من نطفة مهينة مستقذرة ـ أن يقول ما يشاء ، ثم يسجل عليه أقواله ويرد عليها ولا يصادرها.

ويأتي القرآن بذلك لنقرأه ونتعرف على منهج القرآن في تقرير حرية الإنسان ومسئوليته أمام ربه يوم القيامة عما نطق به لسانه وما اقترفت جوارحه.

ولنقرأ قوله تعالى "(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء."5/ 64) (لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ 3/181) (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ." 28/38،"..،" فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى." 79/ ـ 24).وهناك عشرات الآيات في نفس الموضوع . بعد هذا البيان القرآني لابد أن نتساءل .. هل مصادرة الكتب والآراء مما يتفق مع منهج الإسلام ؟!!

آداب الحوار في القرآن

1ـ وفى ظلام القرون الوسطى نزلت آيات القرآن الكريم بأسمى آداب للحوار مع الخصوم في الرأي ، وحين نتدبر هذه الآيات وننظر إلى حالنا نتحسر على ما آل إليه بعضنا ممن يرفع لواء الإسلام ولا يرى فيه إلا فرض الرأي ومصادرة حق الآخرين في الإعلان عن رأيهم والتطاول عليهم وإيذائهم بالقول والفعل واستحلال دمائهم ، ويعتقد أن ذلك هو الجهاد .. ولو تدبر أولئك القرآن لرأوا أنهم يكررون أفعال قريش المشركة في عهد النبي (ص) ،ولعلموا أنهم إخترعوا أديانا أرضية تكرر كفر قريش .

2 ـإن المبدأ القرآني في الحوار يقوم على الحكمة والموعظة الحسنة . والرد على إساءة الخصم بالتي هي أحسن وليس بمجرد الحسنى . يقول تعالى ،" ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ."16/125 ". فالله تعالى يأمر رسوله الكريم بأن يدعو للإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة ، وأن يجادل خصومه ليس بالحسنى وإنما بالتي هي أحسن . وإذا كان ذلك فرضا على النبي صاحب المقام الرفيع فغيره من المسلمين أولى بأن يتحمل السيئة في الجدال وان يرد عليها بالتي هي أحسن . على أن القرآن الكريم لم يكتف بذلك الأمر للنبي وإنما جعله فرضا عاما على كل من يدعو للحق . وجاء التعبير عن ذلك الأمر بصيغة مؤثرة ومحببة . يقول تعالى: " وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ 41/ 33 : 35 ".

فالله تعالى يعتبر أحسن الناس قولا هو الذي يدعو إلى الله ويكون قدوة لغيره في العمل الصالح ويعلن انقياده أو إسلامه لله . وإذا جادله أحد وأساء اليه في دعوته دفع تلك السيئة بالتي هي أحسن من الإحتمال والصبر والصفح والكلام الجميل ، وحينئذ يضطر خصمه للاعتذار ويبدو بعدها كأنه ولى حميم ، وتلك الدرجة من السمو الخلقي في الدعوة لا يصل إليها إلا من عانى الصبر والتحمل في سبيل الله ، وجدير به أن يكون ذا حظ عظيم عند الله تعالى ..!

3ـ هذه هي المبادئ العامة في آداب الحوار: الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ودفع السيئة بالتي هي أحسن .وكان ممكنا أن يكتفي القرآن بذلك ولكن لأهمية الموضوع في عقيدة الإسلام القائمة على حرية الاختيار فإن آيات القرآن الكريم نزلت بتفصيلات آداب الحوار القائم على الحكمة والموعظة الحسنة ودفع السيئة بالتي هي أحسن .

*فالله تعالى ينهى عن الوقوع في سب الخصم وتسفيه معتقداته ومقدساته حتى لا يندفع الخصم في سب الله تعالى يقول، رب العزة " وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ : 6/108 ".

ويبين رب العزة الحكمة في ذلك فذلك الذي وقع في الضلال وقع فيه اختياره وتعصب له فكانت النتيجة أن الله سبحانه وتعالى زين له هذا الضلال ، وفى النهاية مرجعه إلى الله يوم القيامة يوم الاختبار . تقول الآية " وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ : 6/108 ".

والواقع أن الإنسان يبدأ باختيار الطريق الذي يسلكه ويستريح إليه في حياته ، سواء كان ذلك حقا أم باطلا ، وبعد الاختيار الإنسانى تأتى إرادة الله فتزيد المهتدى هدى وتزيد الضال ضلال يقول تعالى عن الضالين ،" فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً " 2 / 10 " ، ويقول تعالى عن المهتدين "وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى"19 76 " وقال عن أهل الكهف :" نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى" 18/13" إذن يبدأ الإنسان بالاختيار ، ثم يزيده الله تعالى إيمانا إذا كان مؤمنا ، وضلالا إذا كان ضالا ، أو بمعنى آخر يزين له اختياره ، يقول تعالى عن تزيين الإيمان للمؤمن " وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ : 49/7 " ويقول عن الصنف الآخر " إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ :27/4 ".



تقرير الحرية الدينية للخصوم .

ومن هنا ينهى القرآن عن الجدال مع ذلك الذي انقلبت أمام عينه المفاهيم فأصبح يرى الحق باطلا والباطل حقا ، يقول تعالى للنبي (ص) " أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ : 35/ 8 " .

وإجراء الحوار يكون بالحكمة والأسلوب العقلي، وقد مرت بنا أمثلة لها في أسلوب الحوار الذي كان يجريه رب العزة مع خلقه ، وإذا رفض الحجج العقلية والأدلة المنطقية فهو يمارس حقا أصيلا كفله له رب العزة وسيكون مسئولا عن ذلك أمام الله تعالى يوم القيامة،وهنا تكون وظيفة الداعية أن يعرض عنه ويهجره هجرا جميلا حتى لو آذوه فبذلك كان أسلوب النبي في الدعوة " وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا :73/ 10 " . ونزل الإعراض عن الجاهلين دستورا للنبي محمد عليه السلام وكل داعية " خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ 7/ 199" .

والإعراض عن الخصم الجاهل يعنى تركه لما اختاره من طريق ارتضاه لنفسه، ويعنى انتظار الحكم في ذلك الاختلاف معه إلى يوم القيامة ، وهذا يحمل تساويا ضمنيا بين الجانبين مع أن أحدهما مصلح مسالم على الحق ، والآخر معاند ظالم على الباطل ، والله تعالى قال للنبي محمد عليه السلام:" فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ 32/30 "، فساوى بينهم وبين النبى فى الانتظار للحكم الالهى يوم القيامة . ويقول له ربه " فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا 53/ 29 ".

وقد يأتي الأمر بالإعراض عنهم بتقرير حريتهم الدينية ومسئوليتهم عنها أمام الله يوم القيامة ويقول تعالى " وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ َانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ .... 11/121 :122 " قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ : 6/135". قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ 39/39 :40" وذلك الإعراض الذي يؤكد حريتهم في الاختيار ومسئوليتهم عليه يحمل في طياته تخويفا لهم ، ويعكس هذا التخويف أملا لدى الداعية في هداية بعض الخصوم .

فإذا لم يكن يرى فيهم املآ أصبح التركيز على الإعراض عنهم بأرقى أسلوب في التعامل ، وجاء ذلك في قوله تعالى" قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ: 34/ 24: 26". حين اليأس من الهداية وحين يتمسك الخصم بموقفه يقال له أحدنا على هدى والآخر على ضلال ، ( ولا يقال له أنت كافر وأذهب إلى الجحيم) ويقال له لست مسئولا عن إجرامنا ولسنا مسئولين عن أعمالك ، وكان القياس يقتضى المساواة كأن يقال لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تجرمون ، ولكن أدب الحوار في القرآن يأبى ذلك . ويقال إن الله تعالى سيجمع بيننا ثم يقضى بيننا بالحق " و لا يقال نحن أصحاب الجنة وأنتم أصحاب النار ".

وهذا الأدب القولى والسلوكي في الإعراض عن الخصوم في الرأي والعقيدة ليس نفاقا أو أسلوبا شكليا ، وإنما أمر القرآن يكون عاطفة تنبع من القلب تحمل معها العفو عن الخصم والغفران له والصفح عنه ، الصفح الجميل ، ومنبع هذه العاطفة هو الإيمان بأن الخصم قد أخطأ في حق نفسه وأنه سيلقى عذابا شديدا يوم القيامة ، لأنه فشل في الاختيار وأساء استخدام الحرية التي كفلها له ربه ، وحين يتصور المؤمن فظاعة العذاب يوم القيامة لا يملك إلا أن يصفح عن ذلك الخصم ويغفر له .

وليس ذلك استنتاجا عقليا أو اجتهادا شخصيا وإنما هو تدبر لمعاني الآيات القرآنية الواضحة الصريحة ، يقول تعالى عن قيام الساعة " وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ : 15/85". أي ليس مجرد الصفح ، ولكن الصفح الجميل . ويقول تعالى " وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ 43/88: 89 ". فإذا يئسنا من إيمانهم فعلينا أن نصفح عنهم ونقول لهم سلام ، فسوف يعلمون .

ويقول تعالى يأمر المؤمنين "قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ :45/ 14ـ

تشريع الجهاد لتقرير حرية الرأي :

- وعلى خلاف الشائع فإن تشريع الجهاد في الإسلام ليس للإكراه على الدين ، وإنما لتقرير حرية الرأي والعقيدة ، والاختيار بين الإيمان والكفر ، لذا كان الجهاد موجها ضد الكهنوت الذي يضطهد الخصوم ويعتمد الإكراه في الدين وفرض أرائه على الناس ومصادرة حقهم في التفكير وفى الاختيار .

- والدعوة للحق الإسلامي تقوم على الحكمة والموعظة الحسنة وإذا رفضها بعض الناس فالإسلام يأمر بالإعراض عنهم والغفران لهم والصفح عنهم . ولكن المشكلة أن الكهنوت والمرتزقة بالدين والذين يقوم سلطانهم على الأوضاع السائدة يرفضون دعوة الإسلام الداعية للعبودية لله وحده والعدالة والمساواة وعدم الاستبداد والظلم ، ولأنهم أصحاب سلطان فهم يستخدمون سلطانهم في اضطهاد خصومهم فى الرأى،وكذلك فعلت قريش ، وكذلك تفعل كل سلطة كهنوتية تسير على منوالها .

- والقرآن يأمر بالصبر في مواجهة ذلك الاضطهاد ، ويأتي الأمر بالصبر مقترنا بأسلوب الدعوة وآداب الحوار الذي ينبغي أن يتحلى به المؤمن .فمثلا يقول تعالى " ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ "ثم يقول "وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ : 16/ 125: 127 ".

ويقول يأمر بالصبر والإعراض الجميل عن المشركين وإيذائهم " وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا: 73 /10 ".ويقول تعالى يأمر المؤمنين يعلمهم الإعراض عن المشركين وإيذائهم " وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ 28 /55 ".

ويزداد ذلك الإضطهاد إلى درجة إجلاء المسلمين وطردهم ثم قتالهم ، وهنا يتحتم القتال دفاعا عن النفس ، وذلك حق لا جدال فيه في كل تشريع سماوي أو وضعي ، والقرآن يضع مواصفات القتال في سبيل الله وهى تتلخص في رد العدوان وعدم الاعتداء " وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ".فالله تعالى لا يحب المعتدين ،أى إذا إعتدى المسلمون على من لم يعتد عليهم فقد أصبحوا ممن لا يحبهم الله جل وعلا. ويقول تعالى مؤكدا نفس التشريع :" فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ: 2/190، 194 ". فلم يقل واعلموا إن الله معكم ، وإنما قال " واعلموا إن الله مع المتقين " أي معكم إذا كنتم متقين غير معتدين بالقتال على من لم يعتد عليكم.

- واقتصار القتال على رد العدوان وان يكون رد العدوان بالمثل . يعنى أن الهدف من القتال هو منع المشركين من استمرار اضطهادهم للمسلمين أو بالتعبير القرآني كف المشركين عن فتنة الناس في دينهم،فالصراع بين الفريقين هو الصراع بين مبدأين:مبدأ يقوم علي الإكراه في الدين واضطهاد الخصوم . وذلك مبدأ الأديان الأرضية، ومبدأ آخر يقوم علي ضمان الحرية في الفكر والعقيدة ، وأن يكون الدين لله ،هو الذي يحاسب عليه يوم القيامة أو (يوم الدين)، وهذا هو الدين الالهى السماوى.

ونتيجة الصراع بينهما إذا كانت لصالح المشركين فهى انتصار للاضطهاد الديني أو الفتنة فى الدين ،أوكما يقول تعالى "وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ: 2/ 217 ". أما إذا كانت النتيجة لصالح المسلمين . وهذا ما حدث فهو انتصار لحرية الفكر والعقيدة . أو كما قال تعالى "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ: 2/256 ".

وذلك يعني باختصار، أن هدف الجهاد في سبيل الله ،هو تقرير الحرية الدينية ، أو بالتعبير القرآني (منع الفتنة في الدين أو الاضطهاد )، وأن يكون الدين لله تعالى ،وذلك جاء صريحا في قوله تعالى "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ": 2/193". أي يستمر القتال حتى تمتنع الفتنة ويكون الدين لله ، بالاقتناع وحرية الدعوة والتسامح والصفح الجميل على النحو الذي سبق ،فإن انتهى المشركون من اضطهاد المسلمين و ملاحقتهم فلا عدوان إلا على الظالمين ..

ويقول تعالى "قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ : 8/ 38 : 39 " . فالله تعالى يعرض على المشركين التوبة والكف عن الاضطهاد وان لم يعودوا فعلى المسلمين أن يقاتلوهم حتى يكفوا عن فتنة غيرهم ويكون الدين كله لله وحده دون كهنوت أو أدعياء يتاجرون باسم الله كذبا وبهتانا .

والتطبيق العملي لذلك التشريع القرآني كان في عهد النبي عليه السلام حين كان حاكما على المدينة وتمتعت المعارضة الدينية السياسية في عهده بحرية في الفكر والعقيدة بل وحرية في الفعل والتصرف تفوق ما تحلم به أي معارضة في أعتي الديمقراطيات الحديثة ، وذلك التطبيق العملي للنبي في المدينة هو السنة الحقيقية للنبي .. ومصدرنا فيها هو القرآن الكريم نفسه " وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا ؟4/ 87".



حرية الرأي في سنة الرسول عليه السلام :

ـ دعاة الكهنوت لايستريحون لقوله تعالى (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) 2 / 256 ) ويحرفون معناها بأن الهدف منها أنه لا إكراه على دخول الدين ، أما إذا دخل الدين فقد دخل المصيدة وأصبح مكرها ومجبرا على تنفيذ تشريعات دينهم الأرضى التى ما أنزل الله بها من سلطان .

ومعنى هذا التأويل للآية أن الله تعالى نسى كلمة في الآية ، وأن أصلها ( لا إكراه في دخول الدين ) أي سقطت كلمة (دخول ) واكتشف عباقرة الكهنوت ذلك ، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، والحمد لله الذي حفظ القرآن من أي تحريف ،و إلا كانت أصابع الكهنوت قد حرفت فيه ما شاءت . والمعنى الواضح في الآيات أنه لا إكراه في الدين ؛ أي دين .أي لا يكون هناك إكراه في الإيمان أوفي الكفر ، في إقامة الشعائر أوفي عدم أقامتها ، فالله تعالى يريدك أن تعبده بدافع من اختيارك وضميرك لا أن تصلي له والسياط فوق رأسك، والله تعالى يريدك أن تتطوع بالصدقة حبا في الله ورغبة في إرضائه وليس للرياء وإعجاب الناس أو بالإكراه . والمنافقون كانوا يقدمون الصدقات بهذه الطريقة فمنع الله تعالى النبي من أخذها منهم وقال "وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ : 9/ 54 : 55 " . وفي نفس الوقت قال تعالى عن التائبين من المؤمنين " وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ :9/102 :103 " .

ـ إن الحرية في تشريع القرآن حرية مسئولة ، فأنت حر فيما تعتقد وفيما تفكر ، وحر في الطاعة والمعصية بشرط ألا تضر بالآخرين ، وإذا حدث إضرار منك بالآخرين كان لابد من العقوبة ليستقيم حال المجتمع باقامة حقوق الانسان فى الحياة و المال و الشرف و العرض. ومن هنا جاءت عقوبات للقتل وقطع الطريق والسرقة والزنا والشذوذ وقذف المحصنات . وليست هناك في القرآن لما يخص حقوق الله تعالى ـ أى فى مجال الايمان و العبادات والمعتقدات ، فهى مؤجلة الى يوم القيامة ، ولذلك فليس فى الاسلام عقوبة للردة وترك الصلاة وشرب الخمر فتلك مخترعات العصر العباسي والأديان الأرضية للمسلمين التى نبتت فيه.

- ودعاء الكهنوت يجدون في فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرصة للتنفيس عن رغبتهم في التحكم في الآخرين ،وفى أديانهم الأرضية يضيفون إلى الأمر بالمعروف كثيرا من المحظورات التي ابتدعوها أو ابتدعها أسلافهم ولم يكن لعصر النبي عليه السلام معرفة بها وهم يعتقدون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اقوي حجة لديهم في الإكراة في الدين .

ونحن نرد عليهم بتوضيح معني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه مجرد أمر قولي ونهي قولي يتواصى به كل مسلم ولا تنفرد به طائفة (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) .وهذا الأمر القولي لا يرتب سلطة لأحد كي يرغم الآخرين علي فعل الصالحات ،والدليل الحاسم هوقول الله تعالي للنبي محمد عليه السلام "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ" 26/ 214: 216)

فالله أمره أن يتواضع للمؤمنين .فإن عصوه فيما يأمر به من معروف فيقل لهم إني بريء مما تعملون.لم يقل له فإن عصوك فاضربهم بالسلاسل والجنازير، ولم يقل فإن عصوك فقل إني بريء منكم ،وإنما قال (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ) أي بريء من أعمالكم وليس من أشخاصكم. تلك هي حدود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ مجرد النصائح ، وإذا صمم أحدنا علي ما يفعل فنحن أبرياء من ذنوبه. هذا ما كان النبي عليه السلام يفعله مع أصحابه، ولكن المشكلة فى الدين الأرضى أنه يؤسس لقادته سلطة على الآخرين تفوق السلطة التي كانت للنبي محمد عليه السلام .

ولكن كيف كان النبي يتصرف مع المنافقين ؟. وإلي أي حد كانت حرية المنافقين في دولة الإسلام الأولي في المدينة ؟ هنا تكمن الإجابة الحقيقية التي ترد علي الكهنوت .

حرية الرأي في حكومة الرسول

لم يكن النبي محمد عليه السلام مجرد حاكم وإنما كان رسولا نبيا يأتيه وحي السماء. وكان المنافقون هم عنصر المعارضة ضد حكومة النبي ، وكانوا يعارضون الإسلام دينا ويعارضون سلطة النبي وسياسته،وقد منعهم خوفهم من التمرد المسلح ضد الدولة وكانو اضعف جندا من القيام بثورة فاكتفوا بالكيد والتآمر ثم يقسموا بأغلظ الإيمان ببراءتهم مما يفعلون .وتمتعوا في مسيرة التآمر تلك بالحرية الهائلة التي كفلها لهم القرآن في القول والفعل ضد الدولة التي يعشون في كنفها ويعملون ضدها،واكتفى القرآن الكريم بالرد علي مكائدهم وادعاءاتهم وفضح تآمرهم ، مع التنبيه المستمر علي النبي والمسلمين بالإعراض عنهم والاكتفاء بما ينتظرهم من عذاب يوم القيامة.

ومن خلال القرآن نرصد إلي أي حد كانوا يتمتعون بحرية الرأي

كانت حرية الرأي تصل بالمنافقين إلي سب المؤمنين ووصفهم بالسفهاء ولا يرد عليهم إلا القرآن "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ 2/13 )

وكان يحلو لهم الإستهزاء بالمؤمنين خصوصا في أوقات الاستعداد للحرب فمن يتطوع بالصدقة يصفونه بالرياء إذا كان غنيا ويتندرون عليه إذا كان فقيرا ،بينما هم يمسكون أيديهم عن التطوع بالمال والتطوع للقتال ،( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) وكان النبي مع ذلك يستغفر لهم ويطلب لهم الهداية فنزل قوله تعالي "اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ: 9/ 79 :80".

وكانو يعبرون عن رأيهم بصراحة فيما يخص القرآن الكريم .إذ كانوا يستهزئون به علنا، واتخذ ذلك صورا شتى :

- كانوا يتندرون علي نزول آيات القرآن الكريم التي تحكي حالهم "يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ: 9/64 ".

-وكانوا إذا نزلت سورة يتساءلون في سخرية عمن ازداد إيمانا بهذه الآية "وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ: 9/124".

ومنهم من كان يدخل علي النبي ويسمع القرآن ثم يخرج من عنده يتساءل باستخفاف عما سمع "وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ :47/16".

وكانوا إذا سئلوا عن هذا الاستهزاء بالقرآن أجابوا باستخفاف إنهم يلعبون ،ولا يتخذ معهم النبي ـ وهو الحاكم ـ أي إجراء . ويأتي الوحي يثبت كفرهم ولكن يجعل عقوبتهم من لدن الله تعالى إن شاء "وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ : 9/65 :66".

وكانوا يقيمون مجالس علنية للاستهزاء بالقرآن ،وكان يحضرها بعض المسلمين بحسن نية،ونزل القرآن يحذر المسلمين من حضورهم تلك المجالس .ومع ذلك كان بعضهم يحضرها ،فنزل قوله تعالي "وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا 4/140 "

-واختصوا النبي بكثير من الأذى القولي مع أنه الحاكم السياسي والرسول صاحب الوحي . كان النبي مأمورا بإقامة الشورى فكان يستشير الناس جميعا ومن بينهم المنافقون الذين كانوا سادة يثرب من قبل وقد حاولوا من خلال الشورى أن يكيدوا للنبي ، فحذر الله تعالى رسوله من طاعتهم وقال له "أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ :33/ 1 ".

ولما رأوا النبي محمدا عليه السلام قد أوسع صدره لجميع الناس ، ولم يقتصر عليهم ليسمع مشورة الجميع اتهموا النبي بأنه (أذن ) أي يعطي إذنه لكل من هب ودب ، وأشاعوا هذا القول الساخر عن النبي فنزل قوله تعالى يدافع عن النبي "وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ :9/ 61 ".

فالله تعالى هو الذي يدافع عن النبي ويصفه بأنه يثق بالمؤمنين ورحمة لهم ويتوعد من يؤذي النبي بعذاب أليم ، أما سلطة النبي كحاكم فلا مجال لها هنا في ذلك المجتمع الحر الذي يكفل للمعارضة الكافرة المتسترة بالايمان كل الحرية في أن تقول ما تشاء ،والله تعالى أمر النبي بأن يتغاضى عن أذى المنافقين ونهاه عن طاعتهم "وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا : 33 /48 ".

وفي غير الشورى كانوا يلمزون النبي إذا حرمهم من الصدقة وهم غير مستحقين لها لكونهم أغنياء وكانوا يحتجون علية ويطاردونه بأقوالهم "وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ :9/58 " . والخلاصة أن المنافقين في حكومة النبي عليه السلام تمتعوا بحرية الرأي التي عبروا من خلالها عن رأيهم في الإسلام و القرآن والرسول عليه السلام ،وكان الضمان الوحيد لهذه الحرية هي تعاليم القرآن نفسه ،وكانت سنة الرسول هي التسامح بل كان يستغفر لهم وينزل الوحي يخبرنا بذلك.

ولقد أثبت الله تعالى ذلك فى القرآن الكريم ليكون نبراسا لأى حكم اسلامى حقيقى فى تعامله مع المعارضة الدينية و السياسية ، ولكى يكون حجة أيضا على كل كهنوت آت بعد الاسلام. ومن الاعجاز الخفى للقرآن الكريم أن تتأسس أديان أرضية للمسلمين تتستر بلاسلام ، وهنا ياتى القرآن الكريم ليرد عليهم مقدما.

مدي حرية المعارضة في حكومة النبي

وحرية الرأي للمنافقين لم تقتصر على التصريح العلني والإعلان ألقولي ، وإنما تعدى ذلك إلى التصرفات الفعلية العملية وتدبير الخطط بل والتآمر في أحلك الظروف ، ولم يتدخل التشريع القرآني بالتحذير إلا عندما جاوزوا الضوء الأحمر ووصل تآمرهم إلى درجة الإضرار بالدولة في وقت كان الأعداء يحاصرونها من جميع الاتجاهات ، وذلك في غزوة الأحزاب .

ونرصد خطواتهم التآمرية في إعلان رأيهم، من خلال تسجيل القرآن لها .

كانت للمنافقين حرية الفساد والدعوة إليه دون عقاب أو مساءلة جنائية ،وإذا سئلوا عن ذلك أجابوا بكل حرية أن ذلك هو الإصلاح من وجهة نظرهم "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ : 2/ 11 : 12 " .

وبينما كان المؤمنون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ،كان المنافقون في المدينة يفعلون العكس ، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويرفضون إعطاء الصدقات في جو من الحرية لا نتخيل حدوثه الآن ،والقرآن يسجل ذلك يقول عن المنافقين :" الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ :9 /67 ".

وكان المؤمنون في المقابل كما وصفهم رب العزة "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ": 9/71 ".

وكانت حدود الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في داخل المجتمع الإسلامي لا تتعدى حد النصيحة القولبة دون إكراه أو إيذاء ودون تبرأ من الشخص الواقع في المنكر بل من فعله المنكر " وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ."الشعراء/215 : 216 "

وكانوا يرفضون الاحتكام للرسول وهو الحاكم الرسمي للمدينة تعبيرا منهم على عدم اعترافهم بسلطته ،ويسكت عنهم النبي وينزل القرآن ينعى عليهم تحاكمهم للطاغوت مع أنهم يزعمون الإيمان "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا : 4/ 60-61 "

وحتى في أمريكا قمة الديمقراطية الحديثة ، لا يمكن أن نجد جماعة ترفض المثول أمام القاضي الرسمي ،وترفض القانون الذي يسرى على كل فرد فيها. المنافقون كانوا يرضون الحكم الإسلامي إذا كان في مصلحتهم، يقول الله تعالى " وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ " والله تعالى يجعل طاعة التشريع القرآني اختيار من المؤمن ، ويقول ما يفيد بأنه ينبغي للمؤمنين أن يسمعوه ويطيعوه "إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ: 24 /48 :51 ".

وحتى في أوقات الحرب والطوارىء كانت لهم حريتهم الكاملة في القول والعمل ضد الدولة التي يعيشون فيها،مع أن الديمقراطيات الحديثة تلجأ للأحكام العرفية ، والقوانين الاستثنائية في تلك الظروف ، ولكن تشريع القرآن كان مع الحرية إلى درجة تستعصي على المقارنة ، ونأخذ أمثلة على ذلك من القرآن الكريم ..

ففي غزوة أحد كانت لهم حرية التقاعس عن القتال ، ثم يحملون المسئولية في الهزيمة للمسلمين لأنهم لم يطيعوهم فى البقاء في المدينة ،وينزل القرآن يرد عليهم "وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ : 3/167-168 ". فالله تعالى يعطى النبي الإجابة في الرد عليهم " قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ".

وفى غزوة الأحزاب ، تجمع المشركون حول المدينة ، ولم يكن باستطاعة المنافقين الخروج عنها فأصابهم الذعر وأصبحوا طابورا خامسا للعدو في الداخل ، يستهزئون بوعد النبي بالنصرة ، ويدعون لقعود المسلمين عن الجهاد ويتخلفون عن مواقعهم في الحراسة ، وقد كان المسلمون في وقت عصيب لا تجد أروع من وصف القرآن له " إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا 33/10: 13 ".ويقول تعالى يتحدث عن دورهم في تحريض المؤمنين على عدم القتال والدفاع عن أنفسهم "قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا :33/18 ".

وفى ذلك الموقف العصيب ظهرت ثلاث جماعات من المنافقين لكل منها دور تخريبي أستدعى أن ينزل القرآن يهددهم ويضع لهم خطا أحمر ليتوقفوا عنده يقول تعالى لهم " لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا 33/60 ". أي هددهم الله إن لم يتوقفوا عن اللعب بالنار بأن سيعطى النبي الأمر بالتصرف معهم بما يستحقون .

وفى غزوة ذات العسرة تثاقلوا عن الخروج للقتال بحجة الحرارة الشديدة ، وكانت العقوبة أن حرمهم الله من شرف الجهاد مستقبلا . وهذا هو كل ما في الأمر ، يقول تعالى "فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ." 9/ 81: 84".

ومن الآيات نعرف أن الجيش الإسلامي لم يكن فيه تجنيد إجباري وذلك تبعا للدستور القرآني الذي ينص على أنه" لا إكراه في الدين " ومن هذا المبدأ كان التطوع بالنفس والمال هو الطريق الوحيد لتعبئة الجيش المسلم ، وعن طريق نفس المبدأ " لا إكراه في الدين " تمتع المنافقون بحريتهم في رفض التجنيد والخروج للقتال سواء كان للدفاع عن المدينة في غزوة الأحزاب أو في الخروج مع المسلمين في حروبهم الوقائية في الجزيرة العربية وكانت العقوبات ضدهم سلمية تتلخص في معنى واحد هو الإعراض عنهم ، بعد أن أخبر رب العزة بكفرهم ، والله وحده هو الذي يعلم السرائر ولم يعط علمه بالغيب وبما في القلوب لأحد وقد قال تعالى " وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ : 4/25 ".

وتاسيسا على علمه تعالى وحده بغيب القلوب والسرائر فقد تحدث الله تعالى عن ارتداد المنافقين بعد إسلامهم بالقول وبالفعل ، وجعل عقوبتهم على هذه الردة في الدنيا وفى الآخرة بيد الله وحده ، يقول تعالى " يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ 9/ 74 ".

ووصلت معارضة المنافقين إلى حد التآمر على الدولة ، واتخذ هذا التآمر صورا شتى ، منها : إطلاق الإشاعات خصوصا في أوقات الحرب ، وقد مر تآمرهم على المسلمين في محنة الأحزاب في وقت كان الخطر يشمل الجميع والله تعالى قال يهددهم:" لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا 33/60 " أي كان بينهم مرجفون تخصصوا في بث الدعاية السوداء بين المسلمين ، ولم تتوقف تلك الإشاعات على وقت الحرب بل كانت في أوقات السلم أيضا، فى وقت كان المسلمون فى المدينة جزيرة محاصرة بالأعداء من كل جانب ، والله تعالى ذكر بعض وسائلهم في التشنيع فقال " وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ 4/83 ". أي كانوا يذيعون الأسرار وينشرون الأقاويل والتكهنات دون الرجوع إلى الجهات المختصة.

- وبسب كثرة إشاعتهم في كل وقت ، فقد جعلوا المدينة خلية نحل تدوي فيها الأقاويل والتناجي بالأسرار مع كون المدينة مجتمعا مفتوحا يتمتع بأقصى درجة من الصراحة والحرية السياسية والدينية ، ولكن التآمر هو الذي أظهر عادة التقول بالإشاعات والتناجي ، للإيحاء بأن هناك أسرارا وخفايا ومؤامرات ، وقد نهاهم الله عن عادة التناجي تلك ، ولكنهم لم يطيعوا واستمروا فيها عنادا ، بل كانوا يدخلون على النبي يحيونه في الظاهر ويسيئون إليه في الباطن ، ونزل القرآن يقول فيهم " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ 58/8 ".

وبسبب شيوع عادة التناجي فقد انتقلت إلى بعض المسلمين في المدينة فقال تعالى للمؤمنين " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ 58/9 " ثم يبين الله الهدف من ذلك التناجي الذي أشاعه المنافقون "إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ :58/ 10 ".

- ثم كانوا يتآمرون على النبي نفسه ، يدخلون عليه يقدمون فروض الطاعة ثم يخرجون يكذبون عليه ويتآمرون عليه ، وينزل القرآن يفضحهم ولكن يأمر النبي بالإعراض عنهم "وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً : 4/81 ".

وكان من نتيجة تآمرهم على المسلمين إيقاع الفرقة والفتنة بينهم ولذلك اعتبر القرآن تخلفهم عن الخروج إلى غزوة ذات العسرة خيرا للمسلمين فقال "لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ :9/47: 48 ".

ووصل تآمرهم إلى حد الإتصال بأعداء المسلمين من المشركين واليهود وعقد محالفات سرية معهم ضد حكومة النبي.وفضح القرآن ذلك التحالف بين المنافقين واليهود في أكثر من موضع .وهذا الاتصال بحكومات معادية خصوصا وقت الحروب يعنى الخيانة العظمى في اعتى الديمقراطيات الحديثة .ولكن حرية الرأي في تشريع الإسلام أباحت هذا وأبطلت مفعولة التآمري طالما كان المؤمنون مؤمنين فعلا . يقول تعالى عن اتصالهم بالمشركين وقت الحروب " الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً :4/141".

أي كانوا يلعبون على (السلم) بين الطائفتين؛ وتلك طبيعة النفاق . وعن تحالفهم السري مع اليهود يقول تعالى "فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ : 5/52".ويقول عن تحالفهم مع يهود بنى النضير " أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ 59/11". ويقول تعالى عن عقوبتهم الأخروية بسبب ذلك التحالف مع أعداء الإسلام:" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 58/14: 15".

وتآمروا على طرد النبي والمسلمين من المدينة والإمتناع عن الإنفاق على المؤمنين ، وكشف القرآن هذا التآمر فقال تعالى "هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ :3/7: 8 ".

وحكى القرآن تفصيلا حيا لبعض أحداث تآمرهم مثل التجسس " وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ.. 9/127 " ومثل أوكارهم التي يجتمعون فيها للتآمر "وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ :2/14: 15".اى أن الله يترك لهم الحرية للوصول في طريق الفساد إلى منتهاه .

ثم تمكنوا بالحرية التي يتمتعون بها من إقامة مسجد جعلوه وكرا للتآمر وللإضرار بالمسلمين؛ والتفريق بينهم .وجعلوه ملجأ لكل متآمر على حكومة النبي والإسلام . فقال تعالى فيهم "وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ :9/107 ".

وكان المسلمون يذهبون إلى ذلك المسجد بحسن نية ،ويبدو أن النبي كان يذهب إليه أيضا وهو لا يعرف ما يدور فيه . نفهم هذا من الآية التالية التي نزلت تنهى النبي عن الإقامة فيه " لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ". وعلى خلاف ما ترويه بعض الروايات من أن النبي أحرق ذلك المسجد ، وهذا يخالف منطق التشريع القرآني_فان الآية بعد التالية تفيد ببقاء المسجد كما هو "لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ : 9/107: 110 ".

اكتفى النبي والمؤمنون بمقاطعة ذلك الوكر تنفيذا لقوله تعالى (لا تقم فيه أبدا ) .وتلك هي السياسة التي كان يتبعها النبي في سنته مع خصومه داخل الدولة .الإعراض عنهم وتركهم يتمتعون بحريتهم في إبداء الرأى بالقول وبالفعل .حتى لو وصل ذلك إلى درجة التآمر.

الأمن يتحقق بمزيد من الحرية و ليس بالتضييق على الحرية:

وقد يقال أن تلك السياسة لا تجدي في عالم اليوم .إذا لابد من اتخاذ تدابير وقائية. أو تشريعات استثنائية لمواجهة التآمر على الحرية .ولكن القرآن يضع العلاج الأمثل للوقاية من ذلك التآمر وهو المزيد من الحرية مع التوكل على الله الذي خلق الإنسان حرا، والله تعالى لا يريد لأحد أن يتحكم في حريته أو يصادرها على مراحل بسبب التخوف من أشياء محتملة قد تكون مجرد شكوك لدى أولى الأمر وفتح باب الاستثناء والاعتداء على الحرية ينتهي بالاستبداد المقنع ثم بالاستبداد المكشوف .

ـ يقول تعالى للنبي"وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً :4/81" فالعلاج هو الإعراض عنهم والتوكل على الله تعالى وكفى به مدافعا وكفى به نصيرا .

ثم أن نفسية المنافق تمتلىء بالشك والخوف وعدم الثقة في أحد وعدم الولاء لأحد وذلك يحكم على تآمرهم بالفشل عند نقطة معينة لا يجرؤن بعدها على استكمال الخطط . يقول تعالى عن خوف المنافقين الهائل من المؤمنين "وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ :9/56: 57 ".

وقد تحالفوا مع بنى النضير أن ينصروهم في القتال ضد المسلمين . وإذا انهزموا وخرجوا فسيخرجون معهم،ونزل القرآن يخبر بذلك التحالف السري وينبأ بأن المنافقين سيتقاعسون عن نصرة اليهود لأنهم يخافون المؤمنين "لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ :59/12: 13"

أي كانوا يخشون المؤمنين أكثر من خشيتهم من الله .

والمؤمنون كانوا أقوى بالله وبتطبيق شرعه القائم على انه لا إكراه في الدين .. ولذلك نصرهم الله .ومن الممكن أن ينصر الله المؤمنين اليوم إذا فهموا الإسلام على حقيقته.

 

القسم الثانى

حرية الرأي في عصور الخلفاء

قريش و الخلفاء

كانت قريش صاحبة السطوة في الجزيرة العربية. وقد استمدت سطوتها من قيامها على رعاية المسجد الحرام وزائريه .ومن هنا كانت تمثل الكهنوت الديني المستفيد من الأوضاع السياسية والاقتصادية والقبلية ،وجاءت دعوة الإسلام تهديدا لمصالح قريش ، فالقبائل العربية أقامت أصنامها حول الكعبة في حماية قريش . وقريش تقوم برحلة الشتاء والصيف في أمن من الغارات في الطرق الصحراوية . ودعوة الإسلام للتحرر من الأصنام وتسفيه عبادتها ضربة في الصميم لقريش زعيمة العرب ورائدتهم في تقديس الأصنام،بالإضافة إلي إحراجها أمام العرب وتهديد مصالحها التجارية والاقتصادية .

وقريش كانت تؤمن في قرارة نفسها أن محمدا جاء بالحق وبالهدى ولكن رفضت ذلك الهدى خوفا على مكانتها ومصالحها (وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا :28 / 57 ) إذن يعرفون انه هدى ولكن يخشون من اجتماع العرب ضدهم ،فقد اعتبرت قريش أن رزقها يأتيها من خلال التصدي للدعوة الجديدة وتكذيب صاحبها ، لذا قال لهم رب العزة (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ 56/ 82 )وبذلت قريش جهدها في حرب النبي حتى أصابوه بالحزن الشديد فنزل قوله تعالى (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ 6 /33 ،كان النبي يحزن لإشاعاتهم وأقوالهم الكاذبة عنة وعن القرآن فأوضح له رب العزة أنهم في حقيقة الأمر يؤمنون بصدقه ولكنهم يجحدون هذا الإيمان حرصا على مصالحهم الكهنوتية.

وهنا تكمن العلة في قيام الكهنوت .وهى التجارة بالدين والاستفادة منه .وهكذا كانت قريش تفعل . تؤمن في قرارة نفسها بالحق ولكن تراه خطرا على مصالحها .خصوصا وأن الإسلام ينهي عن الاتجار بالدين . ويمنع أن يسأل الداعية للإسلام أجرا من الناس .والله تعالى يقول (اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ :36/ 21

وكل نبي كان يؤكد لقومه أنه لا يسألهم أجرا على الدعوة وأن أجره عند الله وحده . وتكرر ذلك في قصص الأنبياء خصوصا في سورة الشعراء والله تعالى أمر النبي أن يقول لقومه (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ : 38/ 86 . ) (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجرى إلا على الله 34/ 47.: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ 6/ 90) هي إذن دعوة للحق تقوم على الاقتناع العقلي ، وتقرير الحرية للجميع ولا تأخذ من أحد أجرا ، لذا انضم المستضعفون ووقف ضدها الملأ المتكبرون. ولأنهم يملكون الجاه ولا يملكون الحجة فقد اتجهوا لأقصر الطرق وهو الاضطهاد الديني وهكذا فعلت قريش حين ظهر الإسلام . وهكذا فعلت قريش في عصر الخلفاء .

والواقع التاريخي يؤكد أن قريشا هي التي حكمت العرب وغيرهم بعد موت البنى محمد عليه السلام ؛فالخلفاء الراشدون وغير الراشدين ينتمون لقريش. سواء كانوا من بني هاشم ( على بن أبى طالب ـ العباسيون )أو من بني أمية أوبني تميم ( أبو بكر ) أو بني عدى ( عمر ) .. ولكن الفكر القرشي الكهنوتي الذي عارض الإسلام واضطهد المسلمين في مكة ما لبث أن تسلل رويدا فى خلافة أبى بكر وتطور فى خلافة عثمان ُم تأكد وسيطر في الخلافة الأموية ثم وضعوا له التشريعات الأرضية و استكمل أديانه الأرضية وسطوته الدينية في الخلافة العباسية، وهو يدافع عما كانت تدافع عنه قريش القديمة ،يدافع عن المصالح الدنيوية من الجاه والحكم والثراء الاقتصادي ،وذلك هو الدين الحقيقي للكهنوت في كل زمان ومكان ، ومن أجله يصادر حرية الفكر لأنها خطر يهدد وجوده، ولهذا اضطهدت قريش دعوة الإسلام حرصا على مصالحها ،وسار على نفس المنهج الخلفاء القرشيون بالتدريج من الراشدين وغير الراشدين في تاريخ المسلمين ،ثم صبغوا حربهم للحق بصبغة دينية أرضيةتسترعورةالمطامع الدنيوية .

ولأنها أقامت أديانا أرضية تتمسح بالاسلام وتحمل إسمه فقد ووصل إلينا الإسلام بتلك الصورة المغلوطة المذهبية التي كتبها سدنة الخلفاء العباسيين القرشيين ،والتي تخالف القرآن ،وهو المصدر الوحيد الذي حفظه الله تعالى من الزيف ،وتلك الصورة الزائفة للإسلام أعطته وجها قبيحا أصبحت تتأكد في الأذهان بوجود المتطرفين وأشياخ المؤسسات الدينية الذين يدافعون عن الكهنوت العباسي ويسترون به عجزهم عن الاجتهاد وعن توضيح الصورة الحقيقية للإسلام .وفيما يلي نتوقف مع لمحات سريعة عن مصادرة حرية الرأي في عصر الخلفاء القرشيين ..أي السائرين على طريقة الكهنوت القريشي .

بين مدرسة النبي محمد ومدرسة قريش.

ملامح دولة النبي محمد عليه السلام:

هي دولة تقوم علي الديمقراطية المباشرة أو الشورى الاسلامية القرآنية حيث يستمد الحاكم النبي سلطته من الناس وليس من الله ، ويأمره ربه ان لا يكون فظا غليظ القلب والا انفضوا عنه ،واذا انفضوا عنه فلن تكون له دولة ،لذا امره ان يعفو عنهم وان يستغفر لهم وان يشاورهم في الامر (3 / 159 )وهي دولة تقوم علي السلام ،والقتال فيها لرد العدوان بمثله دون اعتداء أو استيلاء علي ارض الغير بدون وجه حق (2 / 190،194)والمشركون الخصوم طالما لا يعتدون أو يتحالفوا مع المعتدين فالواجب معاملتهم بالبر والعدل (60 / 9)فاذا اعتدوا وانهزموا وجب علي المعتدي المهزوم دفع غرامة حربية هي الجزية جزاء اعتدائه (9 / 29)وحرية العقيدة في دولة النبي متاحة بالقول والفعل بدون حد اقصي حيث ان الهداية مسئولية شخصية فمن اهتدي فلنفسه ومن ضل فعليها (17 / 15)وحيث يمارس المنافقون دور المعارضة الدينية والسياسية متمتعين بحريتهم في القول والفعل أينما شاءوا ،وينزل القرآن يحكم بكفرهم العقيدى والسلوكى ولكن يأمر النبي والمسلمين بالاعراض عنهم طالما لم يعتدوا على المسلمين بالسلاح(4 /60:63)(9 / 60:68،79:84،94:96).

ووظيفة الدولة هي اقامة العدل وتوفير الامن .وهي دولة العدل الاجتماعي الذي يقوم علي حقوق اساسية للمحتاجين،وينزل القرآن يلوم الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل (4 / 36 :39 ) ( 47 / 3)و هي دولة ليس فيها حاكم بالمعني المألوف حتي في النظم الديمقراطية النيابية الحديثة لأنها دولة يحكمها أصحابها ،بل ان اولي الامر المشار اليهم في القرآن هم اصحاب الخبرة ، ومصطلح الحكم في القرأن لا يعني الحكم السياسي ، وانما يعني الحكم القضائي بين الناس (4 / 58)

ولأنها دولة الديمقراطية المباشرة فان الخطاب فيها يتوجه الي جماعة المسلمين لا الي الحاكم ،فجماعة المسلمين هي التي تقيم الشوري (42 / 38)وهي التي تحكم بالعدل (4 / 58) وهي التي تعد القوة العسكرية لا للاعتداء وانما للردع فقط حقنا للدماء ( 8 / 60).

وهي دولة الديمقراطية المباشرة التي لاتعرف الحاكم الفرد او الحاكم الذي يمثل مصالح طبقية أو فئوية ،ولأنها كذلك فان النبي محمدا مات دون ان يعهد بالحكم لأحد من بعده ،لأن لدى المسلمين آليات للحكم الديمقراطي المباشر .هذا بالطبع ان التزموا بسنته الحقيقية وهى الشرع القرآنى فى السياسة والحكم ، المشار اليها فى السطور السابقة.ولكن ذلك لم يحدث .

بدء الفجوة بين الاسلام و المسلمين فى عهد أبى بكر:

ومن هنا بدأت تتسع الفجوة بين اكمل تطبيق بشرى للاسلام فى عهد النبوة (قام به النبى محمد عليه السلام ومعه السابقون فى العمل والايمان من أصحابه البررة ) وبين تطبيق الاسلام فى عهد الخلفاء الراشدين. وكلما مر الزمن ازدادت الفجوة اتساعا الى أن أقامت قريش وغيرها أديانا أرضية تقمصت إسم الاسلام..

هذا التطبيق فى عهد النبوة لم يخل من وجود فجوة بفعل عجز البشر ـ ومنهم الأنبياء ـ عن بلوغ الكمال. فالله تعالى هو الذى لا يخطىء قط ، وكل البشر خطاءون وخير الخطائين التوابون. ولأن الكمال المطلق لله تعالى وحده فاننا نقول (سبحانه وتعالى ) أى تنزه وتعالى وتقدس وتطهر أن يقع فيما يقع فيه البشر أو أن يوصف بما يوصف به البشر.

كان خاتم الأنبياء ـ عليهم السلام ـ يبذل أقصى جهده فى تعليم المسلمين السمو الخلقى ، وكان منهجه ودليله ومصدره القرآن الكريم. وقد تكرر فى القرآن أن من وظائفه عليه السلام هو تعليم أصحابه الكتاب والحكمة. ومن مراجعة مصطلح الحكمة نجدها مرادفة للكتاب أى القرآن ( 2 / 231ـ ) (17 / 38 ـ ) (33 / 34 ) أى انه كان يعلمهم تطبيق القرآن و تنفيذ شرعه. وتلك هى سنته الحقيقية وخلقه السامى عليه السلام. وقد تردد فى القرآن انه عليه السلام كان مأمورا باتباع وحى القرآن الكريم مثلنا ( 6 / 50 ، 106، 153 ، 155) ( 7 / 157 ، 158 ،203 ) ( 10 / 15، 109) ( 33 / 2 ) (46 / 9 ) (45 /18 ).

وكان عليه السلام يبشر وينذر ويذكّر بالقرآن فقط ( 6 / 51 ، 70، 92 ) ( 7 / 2 ) (17 /46) ( 18 /1 : 2 ) ( 19 / 97 ) ( 28 / 46) ( 32 / 3) ( 42 / 7) ( 46 / 12 ) (50 / 45).

ومن القرآن الكريم نفهم أن دروس التعليم كانت فى المسجد فى خطب الجمعة وفى مجالس الشورى ( 62 /9 : 11 ) ( 58 / 11 ).

فى تلك المجالس كان يتم تدارس القرآن مع النبى ( 6 / 105) ( 3 / 79) (34 / 44 ) كما كان يتم تطبيقه فى الواقع المعاش.

والتحدى الأكبر الذى واجه النبى والمسلمين فى المدينة كان وجود المنافقين من أهل المدينة و الأعراب ، ثم ظهر التحدى الخطر وهو دخول الملأ القرشى فى الاسلام بعد فتح مكة و قبيل موت النبى محمد عليه السلام بعد تاريخ طويل من العداء للاسلام و المسلمين. وهم صنف من الناس تعود الزعامة و القيادة ، ولا يرضى بالخنوع لسلطة تتكون ممن كانوا رقيقا و تابعين لهم .

بهذا كانت الفجوة ضيقة فى عهد النبوة بين الاسلام كدين والتطبيق البشرى للمسلمين.ثم اتسعت بعده الفجوة لتمهد لتكوين أديان أرضية للمسلمين تحمل اسم الاسلام زورا وبهتانا ، من السنة و التشيع و التصوف بعدهما.

ونشير بلمحة سريعة الى بدء الفجوة ثم اتساعها وتأثير ذلك على حرية الرأى و الفكر و العقيدة.

أعمدة قريش الذين اضطهدوا المسلمين فى مكة كانوا من بني أمية وبني عبد شمس، إنهم الملأ الذي تحكم في مصالح قريش التجارية ورأى فيها الدين الحقيقي الذي ينتمي إليه ويدافع عنه . وهكذا فإن الملأ القرشي حين أحس بأن مصالحه تحتم عليه أن يساير الدعوة الجديدة ،فأنه سارع بتغيير موقفه إلى النقيض ودخل في الإسلام بعد تاريخ طويل من اضطهاد المسلمين،وهكذا أسلم أبو سفيان وسائر بني أمية وبني عبد شمس وبنى مخزوم وحاولوا أن يحافظوا على مكانتهم في الوضع الجديد الذي دخلوه متأخرين جدا، وبدأ تأثيرهم يظهر بمجرد موت النبى محمد فيما يعرف ببيعة السقيفة، وقد ساعدتهم فى تحقيق آمالهم اشتعال حرب الردة.

فالتهديد الذي واجهه المسلمون في حركة الردة فى مرض النبى وبعد موته مباشرة اوقع المسلمين فى المدينة تحت خطر الاستئصال ،وبالتالي كانوا في وضع استثنائي يستوجب احكاما عرفية ،فكان سهلا تعيين قائد حربي ثم بيعته بالقتال مثل ما تم سابقا من مبايعة المسلمين للنبى تحت الشجرة. وفي هذه الظروف الاستثنائية جرت بيعة السقيفة لاختيار قائد يخلف النبى محمدا ، يكون ( خليفة ) له.وفي بيعة السقيفة ها تكتل القرشيون جميعاضد الأنصار أصحاب البلد الأصليين ،وتم نفي زعيمهم سعد بن معاذ وقتله فيما بعد. (الطبقات الكبري لابن سعد . 3/145. القاهرة دارالتحرير1968).وبدأ بذلك أول خرق لحرية الرأى والمعارضة السلمية فى تاريخ المسلمين.

ووافق الامويون قادة قريش المكيون علي بيعة ابو بكرخليفة دون علي ابن عم النبى محمد ، وعلى هو الأقرب لديهم إذ أنهم جميعا أحفاد عبد مناف ، ولكن الأمويين والقرشيين المكيين كانوا يبغضون عليا فهو الذى قتل زعماءهم فى بدر، كما أن شخصية على وملامحه الاسلامية وعدم مرونته فى التعامل مع القوى العاتية التى ظهرت بعد موت النبى ـ لم تجعل منه الشخص المناسب للتعامل مع الوضع الجديد. والواضح طبعا أن الأمر هنا لم يعد إختيار مجرد قائد حربى يبايعونه على القتال الدفاعى ولكنه أصبح أمر سياسة وحكم لحاكم يتولى السلطة مدى الحياة وفق الثقافة السائدة فى العصور الوسطى. وإن كان الأمر هنا فى عصر الخلفاء الراشدين لم يتحول بعد الى الاستبداد الكامل وتوارث الملك فى أسرة واحدة كما فعل معاوية فيما بعد حين أقام دولته الأموية. .

وليرد الجميل لأصحابه و حلفائه قام الخليفة الجديد أبوبكر بتعيين الشاب الصغير يزيد بن ابي سفيان الأموى قائدا في حروب الردة، وتدعم هذا الاتفاق فيما بعد فى عصر عمر حين جعل يزيد بن أبى سفيان مع اخيه معاوية حكاما على الشام بعد فتحه ، ثم بعد موت يزيد بن أبى سفيان ضم عمر كل الشام الى معاوية. وظل معاوية أميرا على الشام لم يعزله عمر بينما عزل آخرين ، مما أعطى لمعاوية الفرصة لأن يمهد الأمر لاقامة الدولة الأموية بعد ان ظل أميرا على الشام طيلة عشرين عاما.

ونعود الى خلافة ابى بكر ، وقد استطاعت قريش فى مكة والمدينة اخماد حركة الردة ،و حتي لا يعود الاعراب الي الردة ثانية وحياتهم تقوم علي السلب والنهب والتقاتل فقد قامت قريش بتصدير شوكة الاعراب الحربية الي خارج الجزيرة العربية في الفتوحات . وبهذا تم إسكات الأعراب ، وتم التحالف بينهم وبين قريش ، ورضى الأعراب ـ المرتدون الثائرون سابقا على سيادة قريش ـ أن يكونوا جندا تحت قيادة أمراء من قادة قريش الجدد ، خصوصا الأمويين. .

استمرت الظروف الاستثنائية الحربية، ومات ابو بكر ميتة غامضة ،فتم اختيار عمر بسرعة غريبة وبنفس ظروف البيعة . واثناء استمرار الفتوحات اغتيل عمر واختير عثمان بن عفان الأموى خليفة بنفس البيعة ليحقق أكبر أمل للأمويين فى التحكم فى الدولة الجديدة من خلال ابن عمهم الأموى ضعيف الشخصية . وكان الرأى العام مع إختيار علىبن أبى طالب ولكنه يحظى بكراهية الأمويين و المنافقين . وحينما فرضت الظروف تعيين على بن أبى طالب خليفة بعد الثورة على عثمان ومقتله فإن تلك القوى الجديدة من الأمويين و المنافقين وقفت ضده وحاربته .

ثلاثة تطورات خطيرة حدثت فى عهد الخلفاء الراشدين:

تلك القوى الجديدة ( الملأ القرشى ـ المنافقون ـ الأعراب )أدخلت المسلمين فى ثلاث تطورات خطيرة تناقض الاسلام:

الاول :تعيين حاكم مستمر طيلة العمر تحيط به دائرة مستشارين عرفوا فيما بعد بأهل الحل والعقد. وليس فى الديمقراطية الاسلامية المباشرة تعيين حاكم طيلة العمر. وبعد ان كانت البيعة تعني مبايعة القائد علي القتال دفاعا عن النفس اصبحت تعني المبايعة بالطاعة لحاكم يظل يحكم مستبدا طول العمر.

والثاني تحول الجهاد من القتال الدفاعي وفق شرع الاسلام الي اعتداء واستعمار وتوسع حربي في البلاد المجاورة ،بعد تخييرها –او بالاصح -ارغامها علي قبول واحد من ثلاث :الاسلام أو دفع الجزية أو الحرب .وبالتالي ضاعت القاعدة الاساسية القرآنية (لا اكراه في الدين )(وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين ) (2 / 256/190).

والثالث :الحروب الأهلية بين المسلمين : الخطورة الحقيقية لحركة الردة إنها كانت ردة حقيقية عن السلام جوهر الاسلام فى التعامل مع الناس. وأدت هذه الردة عن الاسلام السلوكى الى وقوع المسلمين فى نفس القرن فى ردة أخرى فى الاسلام القلبى حين أدت الفتوحات الى الاختلاف على الغنائم ، وأدى الاختلاف الى انقسام المسلمين وحربهم الأهلية ( الفتنة الكبرى )وتمسح كل فريق بأحاديث كاذبة ينسبها للنبى محمد بعد موته، وبهذا الوحى الزائف بدأ شفهيا ومبكرا وضع أسس الأديان الأرضية للمسلمين. أى أن الفتوحات التى ظلمت الاسلام قبل أن تظلم الملايين من الشعوب التى قهرها المسلمون من الصحابة.

خلافة عثمان تمهد للدولة الأموية

وقد استطاع الأمويين السيطرة التامة على عثمان ، عن طريق سكرتيره الخاص ، مروان بن الحكم ، الذي يقيم معه في المدينة . وعن طريق معاوية وعبدا لله بن أبى السرح في الشام ومصر، ولذلك اختلفت سياسة عثمان عن سياسة ابي بكر وعمر إذ عادت السياسة النفعية الأموية للظهور في عهد عثمان وبدأت الأموال تأخذ طريقها إلى جيوب الأمويين ومنها خمس الغنائم التي جاءت من افريقية وقد أعطاه لمروان بن الحكم ، عدا ما أخذه عبدالله بن أبى السرح ومعاوية وعمرو .

وبذلك تطور التضييق على حرية الرأى مع اتساع الفجوة بين الاسلام و المسلمين ، فى خلافة عثمان وتحكم الأمويين فيه ، لذا كان من الطبيعي أيضا أن يدافع الأمويون في خلافة عثمان ـ عن أنفسهم بإجهاض حرية الفكر ، وهكذا تعرض عمار ابن ياسر للضرب حتى فتقت أمعاؤه حسبما جاء في الروايات . وضربوا ابن مسعود حتى كسروا أضلاعه ، ومنعوا عطاءه ، ونفوا أبا ذر إلى الربذه لأنه دافع عن حق الفقراء ، وطردوا أبا الدرداء من الشام حين اعترض على معاوية .

والمؤسف أن عمار وأبن مسعود تعرضا للإيذاء من بنى أمية مرتين في الأولى حين اعتنقوا الإسلام في مكة ، والثانية في خلافة عثمان وفى المرتين كانوا يدافعون عن مكاسبهم ووضعهم الاجتماعي والاقتصادي ، وفى المرتين كان عمار وابن مسعود يمارسان حقهما في حرية الفكر والتعبير عنه .

عثمان كان مجرد خطوة يصعد عليها أقاربه الأمويون للسلطة ويحتكرونها. كان لا بد من إشعال ثورة على عثمان تتيح لهم إدخال المسلمين فى حرب تسفر فى النهاية عن وصولهم للحكم. وهذا ما نجحوا فيه .

لقد جاء عثمان بسياسة جديدة وبشخصية لينة هينة أحكم الأمويين استغلالها لصالحهم فضاع ميزان العدل ، وهاجر كبار الصحابة إلى الأمصار وتكاثرت لديهم الأموال ، وأدعو أن سواد العراق هو لقريش خاصة وسواد العراق هو الأرض الخصبة المتاخمة للصحراء ، وأدى ذلك لظهور التعصب والأطماع ، لأن الذين قاموا بالجزء الأكبر من الفتوحات كانوا من الأعراب (المرتدين سابقا )غير قريش ، وفى هذا الجو انقلبت الموازيين وأصبح التنافس على الأموال هو العملة السائدة حتى بين كبار الصحابة ، مثل الزبير بن العوام وطلحة بن عبيدا لله ، وكان الأمويين بالطبع هم أكثر الناس ثراء وأكثرهم قوة ،وبتحالفهم مع قبائل كلب والقبائل اليمنية القحطانية اطمأنوا إلى وجود جيش ضخم ، ولم يعد أمامهم إلا الانتظار ، وانتظروا حتى ثار الجميع على عثمان وتركوه يموت ، وأخذوا قميصه ليطالبوا بثأره من "على " الخليفة الجديد الذي حاول دون جدوى ـ إرجاع المسلمين إلى عصر النبي وأبى بكر وعمر ، ولكن لم يكن ذلك بالمستطاع وانتهى الأمر بمقتل على وخلافة معاوية وبذلك بدأت الخلافة الأموية والملك العضوض القائم على الطغيان والسيف وانتهت بها حرية الرأى فى تاريخ المسلمين.







حرية الفكر فى الدولة الأموية

مدى حرية الفكر في خلافة معاوية.

قبل أن ندخل فى مصادرة الدولة الأموية لحرية الرأى و الفكر نؤكد أن خصومها المتحاربين معها بالسلاح كانوا مثلها فى اضطهاد مناوئيهم . وليس أدل على ذلك مما فعله عبد الله بن الزبير حين أعلن نفسه خليفة و تحارب مع الأمويين ، وكان الى جانبه فى الحجاز بنو هاشم ـ بعد مقتل الحسين ، وقد تزعمهم محمد بن على بن أبى طالب المشهور بمحمد بن الحنفية،وقد وقف بنو هاشم على الحياد فى الصراع بين الأمويين و الزبيريين ، ولكن عبد الله بن الزبير هددهم بالحرق إن لم يبايعوه.وكاد أن يقتلهم حرقا لولا أن جاءتهم النجدة من المختار الثقفى الذى كان قد سيطر على جزء من العراق ـ فى هذه الفترة من الاضطراب ـ ورفع لواء الثأر للحسين والتبعية لآل البيت. عندما علم المختار الثقفى بأن عبد الله بن الزبير قد عزم على تحريق الهاشميين بادر بارسال جيش لحمايتهم ، فافلح فى انقاذهم .

وننقل من أحداث عام 66 ما قاله الطبرى ( 6 / 75 : 76 ) ونقله ابن الجوزى فى تاريخ المنتظم (وكان السبب في ذلك أن عبد الله بن الزبير حبس محمد بن الحنفية ومن معه من أهل بيته وسبعة عشر رجلًا من وجوه أهل الكوفة بزمزم وكرهوا البيعة لمن لم تجتمع عليه الأمة، وهربوا إلى الحرم وتوعدهم بالقتل والإحراق وأعطى الله عهدًا إن لم يبايعوه أن ينفذ فيهم ما توعدهم به وضرب لهم في ذلك أجلًا، فأشار بعض من كان مع ابن الحنفية عليه أن يبعث إلى المختار وإلى من بالكوفة رسولًا يعلمهم حالهم وما توعدهم به ابن الزبير، فوجه ثلاثة نفر إلى المختار وأهل الكوفة حين نام الحرس على باب زمزم ، وكتب إليهم يعلمهم بالحال ويسألهم أن لا يخذلوه كما خذلوا الحسين وأهل بيته ، فقدموا على المختار فدفعوا إليه الكتاب، فنادى في الناس وقرأ عليهم الكتاب وقال‏:‏ هذا كتاب مهديكم وصريح أهل بيت نبيكم وقد تركوا ينتظرون التحريق بالنار ولست أبا إسحاق إن لم أنصرهم نصرًا مؤزرًا وإن لم أسرب إليهم الخيل في أثر الخيل كالسيل حتى يحل بابن الكاهلية الويل‏.‏

ووجه أبا عبد الله الجدلي في سبعين راكبًا ومعه ظبيان بن عمير في أربعمائة راكبًا وأبا المعتمر في مائة وهانئ بن قيس في مائة وعمير بن طارق في أربعين ويونس بن عمران في أربعين‏.‏ وخرج أبو عمران حتى نزل ذات عرق ولحقه ابن طارق وسار بهم حتى دخلوا المسجد الحرام وهم ينادون‏:‏ يا لثارات الحسين حتى انتهوا إلى زمزم وقد أعد ابن الزبير الحطب ليحرقهم وكان قد بقي من الأجل يومين فطردوا الحرس وكسروا أعواد زمزم ودخلوا على ابن الحنفية فقالوا له‏:‏ خل بيننا وبين عدو الله ابن الزبير فقال لهم‏:‏ إني لا أستحل القتال في حرم الله عز وجل ).‏أى كان ابن الزبير سيحرقهم داخل الحرم لولا أن تم إنقاذهم فى آخر لحظة.

نرجع الى ما فعله معاوية فى خلافته قبل هذه الحادثة.

وصل معاوية إلى الخلافة على جثث كبار الصحابة مثل عثمان وعلى والزبير وطلحة وعشرات الألوف من جثث المسلمين في معارك الجمل وصفين والنهروان ، ولم يكن يطمع في المزيد من الدماء بعد أن تم اختياره خليفة ، ولكنه لم يكن أيضا ليسمح بتهديد سلطانه الجديد ، ولذلك استمر في حربه ضد الخوارج طالما يرفع الخوارج ضده السلاح ، وحاول استمالة خصومه الآخرين بالأموال ومعسول القول والتغاضي عن ألسنتهم طالما يتعلق الأمر بشخصه ولا يصل إلى سلطانه وسياسته . ولذلك كانت سياسته مزيجا من الشدة واللين وإن احتفظ لنفسه بسياسة اللين والمداهنة وأوكل لأتباعه وولاته مهمة القسوة ليتحملوا عنه عضب الناس ، ثم يتدخل هو باللين أو بالصفح أو بالاعتذار فيكسب في كل الأحوال .

وفيما يخص حرية الفكر كانت سياسة معاوية تتمثل في قوله " إني لا أحول بين الناس وألسنتهم مالم يحولوا بيننا وبين ملكنا " وقال هذا حين تعجب جلساؤه من صبره وحلمه على رجل تجرأ على سبه بين الناس فضحك معاوية ولم يعاقبه (1)،وكانت لمعاوية نوادر من هذا النوع تجلى فيها حلمه على من يغلط له في القول ، ولكنه من الناحية الأخرى كان سريعا إلى سفك الدماء إذا وصلت حرية الرأي إلى تهديد سلطانه ، ويتمثل ذلك في مقتل حجر بن عدى الكندي الذي أثار الدهشة للكثيرين ، والذين كانوا يظنون أن حلم معاوية وصبره يمكن أن يتسع لخطأ حجر وتصرفه فيما يقولون .

كان حجر بن عدى من كبار شيعة على ، وقد اضطر للبيعة لمعاوية مثل باقي الشيعة ولكنه استمر على عدائه لمعاوية مع نفر من أصحابه في الكوفة ، وكانوا يعقدون مجالس في بيوتهم يتذكرون فيها مآثر على بن أبى طالب ومواقفه ويلعنون معاوية، وكان والى الكوفة لمعاوية هو زياد بن أبيه ، الذي كان من شيعة على فيما سبق ، وكان رفيقا لحجر بن عدى في التشيع ولكنه انضم إلى معاوية وعمل معه بعد أن ألحقه معاوية بنسبه – وهو اى زياد ابن غير شرعي مجهول النسب فأصبح بعد انضمامه لمعاوية يسمى رسميا زياد بن أبى سفيان – وأخلص زياد في خدمة معاوية ، وتنمر بحجر رفيقه القديم في التشيع ، ورأى خطرا في جلوس حجر مع أصحابه فهددهم فلم يهتموا بتهديده ، وأمر زياد بالقبض على حجر وأصحابه ولم تتمكن الشرطة من ذلك فخطب الوالي زياد في أهل الكوفة وهددهم وجعلهم يأخذون أولادهم واخوانهم الذين يتجمعون حول حجر وبذلك تمكن بعد جهد من استحضار حجر إليه ، فقال له " حرب في أيام الحرب وحرب وقد سلم الناس " فقال له حجر " ما خلعت طاعة ولا فارقت جماعة وأنى لعلى بيعتي ". أي على بيعته لمعاوية ، ولم يقتنع الوالي زياد بذلك فأمر باعتقاله مع أصحابه وكانوا اثني عشر رجلا ، واستحضر شهودا شهدوا إن حجر أقام ثورة وأنه جمع الجموع للحرب وأعلن شق الطاعة ، وكان الشهود سبعين رجلا من أهل الكوفة ، وأرسل حجر وأتباعه مقبوضا عليهم إلى دمشق ومعه تلك الشهادة التي تبيح قتلهم في شريعة معاوية . ولم يحقق معاوية في الأمر وأمر بقتلهم جميعا فقتلوا عدا ستة أشخاص شفع فيهم بعض الناس وأعلنوا براءتهم من على بن أبى طالب .

وكان لمقتل حجر بتلك التهمة الظالمة ردود فعل صاخبة ، ومع اختلاف الردود في مدى علم معاوية بحقيقة الأمر فأننا نرى قتله لحجر وأصحابه مما يتمشى مع سياسته القائلة " أنى لا أحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا " فما كان حجر يفعله يعتبر خطرا في المدى القريب أو البعيد على سلطان معاوية وعلى طموحه في جعل الخلافة وراثية في عقبه ، وكان يحتاج إلى وضع حدود فاصلة تجعل حرية الرأي محكومة ومحسوبة حتى لا تتطور إلى انتقاد سياسي وإثارة للقلاقل. وإذا كان معاوية يسامح الكبار من خصومه السابقين حين يغلظون له القول وحين يتناولونه بالشتم في وجهه ، فأنه يكسب بذلك مودتهم ومرحهم مع دعاية هائلة له بين القبائل أما ما يفعله حجر مع أصحابه وهم كثيرون ، فهو تهديد للسلطان ودعوة سياسية إن كانت ترتدي السلم اليوم فمن يضمن آثارها في الغد حين يكشف معاوية عن أهدافه الحقيقية وهى تحويل الخلافة القائمة على الشورى إلى ملكية وراثية .

إذن يتحمل معاوية الوزر في مقتل حجر ونرى هذه الجريمة مما يتفق مع سياسة معاوية و(الشعرة) ،التي يتعامل بها مع الناس وفق المقياس الذي وضعه هو .

ولأن حجر بن عدى أول ضحية لحرية الرأي في تاريخ المسلمين ، فقد أثار مقتله عاصفة من السخط ، حتى لقد قالت أم المؤمنين عائشة ،" لولا أننا لم نغير شيئا إلا صارت بنا الأمور إلى ما هو أشد منه لغيرنا قتل حجر ، أما والله إن كان ما علمت لمسلما حجاجا معتمرا " وكانت تقول " لولا يغلبنا سفهاؤنا لكان لي ولمعاوية في قتل حجر شأن "

وكانوا بقولون " أول ذل دخل الكوفة موت الحسن بن على وقتل حجر واستلحاق زياد " وقال الحسن البصري : أربع خصال كن في معاوية لولم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة : افتراؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير شورى وفيهم بقايا الصحابة وذووا الفضيلة ، واستخلافه بعده ابنا سكيرا خميرا يلبس الحرير ويضرب بالطنابير( أى الآلات الموسيقية )، وادعاءه زيادا ، وقتله حجرا وأصحاب حجر . فيا ويلا له من حجر وأصحاب حجر "

وقالت هند بنت زيد بن مخرمة الأنصارية ـوكانت تتشيع لعلى ترثى حجرا :

ترفع أيها القمر المنير

تبصر هل ترى حجرا يسي

يسير إلى معاوية بن حرب

ليقتله كما زعم الأمير

تجبرت الجبابر بعد حجر

وطاب لها الخورنق والسرير

ألا يا حجر حجر بن عدى

تلقتك السلامة والسرور

أخاف عليك ما أردى عديا

وشيخا في دمشق له زئير

فإن نهلك فكل زعيم قوم

من الدنيا إلى هلك يصير(2)



مصادرة الفكر بعد معاوية

كان (س) يسير في الطريق : قابله اللص وسرق أمواله ، حاول (س) أن يحتج فرفع اللص في وجهه المطواة .. ! اللص هنا بدأ بمصادرة أموال(س) ثم ليؤمن نفسه صادر حق (س) في الاحتجاج والرأي . إن مصادرة الرأي تأتى دائما نتيجة لمصادرة أشياء أخرى ، وهكذا صادر معاوية حرية الرأي في عهده وحصرها في دائرة لا تتعدى إخراج شحنات السخط ليتبعها الرضى بالأمر الواقع ، ثم صادر حقوق الناس في اختيار حاكمهم بعده بأن حاول أن يفرض عليهم ابنه وليا للعهد وكان لابد أن يظهر للناس أنيابه ، فكان مقتل حجر بن عدى وإرهاب الشيعة ، وبعدها ذهب إلى المدينة معقل الإسلام الأول وموطن أهل الحل والعقد حيث البقية من كبار الصحابة وأبناؤهم ويذكر المؤرخون أنه توعدهم وهددهم بالقتل إن عارضوه ، وأعلن في حضورهم أمام الناس أنهم وافقوه على البيعة ليزيد بالخلافة، أي أن المثل السابق يتكرر ، فمعاوية الحليم يلجأ للسيف ، يهدد الحسين وابن الزبير وابن عمر وابن أبى بكر . ويعلن أمام الناس موافقتهم على البيعة ليزيد ، ويخشى أولئك النفر الاعتراض فقد أقام خلف كل رجل منهم رجلين لينفذوا التهديد بالقتل إذا أعترض عليه واحد منهم .. ولولا جريمة الإكراه علي بيعة يزيد ما كانت جريمة مصادرة الرأي .

وحين يوجد العدل توجد الحرية فى القول ، و في داخل الخلافة الأموية نجد مثلاً مضيئا ، هو "عمر بن عبد العزيز" الذي تولى الخلافة ما بين 99 ـ101 هجرية ، ولم يعرف عنه أنه صادر رأياً لأنه أعاد الحقوق لأصحابها وتنازل عن ممتلكاته لبيت المال ،وصادر الأموال التي جمعها آله من الأمويين بالظلم وأعادها إلى بيت المال ،والخوارج الذين كانوا يثورون دائماً على الأمويين أرسل إليهم الخليفة عمر بن عبد العزيز ناقشهم وناقشوه في حرية ،وبعث إلى زعيمهم "بسطام بن مرة اليشكري " يقول له "بلغني أنك خرجت غضباً لله ولنبيه ، ولست أولى بذلك منى ، فهلم أناظرك فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس ، وإن كان في يدك نظرنا في أمرنا " وفي المناظرة انتصر عمر عليهم في المرحلة الأولى ،ولكن في المرحلة الثانية أحرجوه عندما أثاروا مسألة ولاية العهد من بعده ، حيث أن سليمان بن عبد الملك الخليفة السابق قد عهد لعمر ابن عبد العزيز ثم من بعده ليزيد بن عبد الملك ،ولا يملك عمر بن عبد العزيز في خلافته تغيير هذه البيعة التي على أساسها تم اختياره خليفة ويتم من بعده اختيار ابن عمه يزيد بن عبد الملك ، وقد قال له الخوارج ،أفتسلم هذا الأمر ليزيد من بعدك وأنت تعلم أنه لا يقول بالحق ؟ وقال لهم عمر: إنما ولاه غيري والمسلمون أولى بمن يكون منهم فيه بعدي ،فقالوا له : أفتري ما صنع من ولاه حقاً؟ فبكى عمر وقال لهم؟: أنظر إني من أمري ثلاثاً .وأدت هذه المناظرة إلى تخوف بني أمية من قيام عمر بن عبدالعزيز بعزل ولي العهد يزيد بن عبدالملك لذا أسرعوا بقتله بالسم وذلك بعد المناظرة بثلاثة أيام !!

ويعنينا مما سبق أن الخليفة العادل لم يصادر حق الخوارج في إعلان رأيهم وأرسل أليهم يناظرهم ويناظرونه في جو من حرية الرأي ،ولم يكن لديه ما يخشى منه، فلم يسرق ولم يقتل ولم يظلم ولم يحرم أحد حقا، وبالتالي فلم يكن محتاجا إلى كبت الرأي . بينما احتاج إلى ذلك معاوية وغيره من أساطين الملك العضوض .

وأخطر ما فعله معاوية هو انه أول من فتح باب التوارث في الملك ،وكان يزيد بن معاوية هو أول من ورث عن أبيه الحكم في تاريخ المسلمين ، ولم يكن لحدث مثل هذا أن يمر بسهولة برغم ما حاوله معاوية في حياته من تمهيد الأمور لابنه . وهكذا شهدت سنوات يزيد الثلاث في الحكم مصائب ثلاث ، مصرع الحسين ، ثم اقتحام المدينة ونهبها وقتل أهلها ، ثم حصار الكعبة وضربها بالمجانيق . وآثار هذه الأحداث لا تزال تؤلم الضمير المسلم حتى الآن !! إلا أن أهم اثر فيما يخص موضوعنا هو أن الأمويين بلغوا نهاية المدى بعد قتل الحسين وقتل الأنصار واقتحام المدينة وانتهاك حرمة المسجد الحرام ، فلم يعد هناك ما يأبهون به فى سبيل احتفاظهم بالسلطة و الثروة ،أى إن سياسة معاوية في المهادنة والمداهنة لم يعد لها مكان ، حل مكانها العنف الصريح .

لقد أدت الكوارث الثلاثة إلى انتقال الحكم من نسل معاوية إلى الفرع المرواني في البيت الأموي ، إذ تنازل معاوية بن يزيد بن معاوية، فأعلن عبد الله بن الزبير نفسه خليفة في الحجاز مستغلا نقمة المسلمين علي ما ارتكبه الأمويون ، واستطاع ابن الزبير أن يضم إلى سلطانه العراق ومصر وجزءا كبيرا من الشام بما فيها دمشق نفسها وذلك بمجهودات قبيلة قيس المضرية التي وجدتها فرصة للكيد لقبيلة كلب القحطانية التي تحالفت مع الأمويون . ولكن الأمويين سرعان ما ضموا صفوفهم في مؤتمر الجابية ، ثم استقروا علي تولية مروان بن الحكم ، واتجه الخليفة الجديد إلى مرج راهط حيث استطاع هزيمة القبيلة القيسية وقتل زعيمهم الضحاك بن قيس الفهرى كبير دعاة ابن الزبير ، واستخلص مروان الشام ، ثم ما لبث أن استخلص العراق وقتل مصعب بن الزبير واستخلص مصر من داعية ابن الزبير وهو عبد الله بن جحدم الفهرى ، وبعدها بعث بالحجاج بن يوسف إلى مكة فهزم ابن الزبير وصلبه ، وعاد الأمر للأمويين يتحكم فيه عبد الملك بن مروان بن الحكم دون منازع (65 ــ 86 )هجرية.

وعبد الملك هذا عبر عن رأيه في حرية الرأي بصراحة ووضوح ، وأعلن هذا الرأي في المدينة حيث عاشت مدرسة النبي تمارس الشورى وتتيح لكل الآراء أن تعبر عن نفسها ، وحيث كان يقال للخليفة عمر بن الخطاب .. اتق الله فيقول : لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نعمل بها . وحيث راجعت عمر امرأة وهو علي المنبر فقال : أصابت امرأة واخطأ عمر ، وحيث قيل لعمر والله إن وجدنا فيك اعوجاجا لقومناك بسيوفنا .

لقد ذهب عبد الملك إلى الحجاز ليحج سنة 75 هجرية ، فخطب في المدينة بعد قتل ابن الزبير وقال لأبناء الأنصار والمهاجرين " أما بعد فلست بالخليفة المستضعف ـ يعنى عثمان ـ ولا الخليفة المداهن ـ يعنى معاوية ـ إلا وإني لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم .. فلن تزدادوا إلا عقوبة حتى يحكم السيف بيننا و بينكم .. والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه (3) . يقول تعالي يصف هذه النوعية من البشر " وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ" 2 /206

كان يحلو لبعض الناس أن يقول للخليفة اتق الله ليذكره بالحق والعدل وكان رد الخليفة ينم ّ عما بداخله . إن خشع لله كان صالحاً وإن أخذته العزة بالاثم فقد انطبقت عليه الآية .ويبدو أن تلك التجربة قد تعرض لها عبد الملك مما دفعه لأن يهدد بالقتل من يقول له بعد ذلك المقام :اتق الله.

كان الحجاج بن يوسف أبرز ولاة عبد الملك : ولاه على الحجاز بعد انتصاره على ابن الزبير وظل أميراً على الحجاز ما بين 73 :75 هجرية فاستخف ببقايا الصحابة ، وقد ختم علي أيدي جماعة منهم كما يفعل بأهل الذمة ، وكان منهم جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وسهل بن سعد(4) ، ثم انتقل إلى العراق فلم يترك فيه رأسا يرتفع إلا قطعه، وقد توفي الحجاج سنة 95 هجرية في آخر أيام الوليد بن عبد الملك ، وقد بلغ قتلاه مائة وعشرين ألفا ، ومات في حبسه خمسون ألف رجل وثلاثون ألف امرأة ، وقد أحصوا ضحاياه في السجون ـ من بقي منهم حيا فوجدوا ثلاثة وثلاثين الفا من الأبرياء الذين لم يرتكبوا أى جريمة،أى سجنهم بمجرد ( التهمة ) أو الاشتباه، وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحدولم يكن للحبس ستر يمنع البرد أو الحر (5)، فكان من يموت منهم يستريح بالموت من عناء السجن ..

وإسراف الحجاج بن يوسف في سفك الدماء ومصادرة حرية الرأى و القول جعله يحتل مكانه متميزة في التاريخ الأموي والأنسانى أيضا.. وانعكس بالتالي علي تصرفات المثقفين وأهل الحل والعقد ، بعد ما رأوا الحجاج يضطهد بقية الصحابة ويستهين بهم بدون أي شفقة أو وازع وهم في نهاية العمر، ولذلك احتبست الآراء في الصدور وانزوي كل صاحب رأي في قعر بيته يخشى على حياته من إرهاب الحجاج . ولنأخذ على ذلك مما ذكره ابن سعد في الطبقات الكبرى في ترجمة فقيه الكوفة في عهد الحجاج وهو " إبراهيم النخعي " الذي عاش حياته في رعب من الحجاج حتى مات دون الخسمين بعد وفاة الحجاج ببضعة اشهر سنة 96 هجرية .

لقد أرسل الحجاج شرطيا للقبض على إبراهيم النخعى ، وكان عنده في البيت رفيقه إبراهيم التيمي فجاء الشرطي للبيت يقول:أريد إبراهيم ، فأسرع إبراهيم التيمي يقول أنا إبراهيم، وسار مع الشرطي للحجاج وهو يعلم أن المطلوب هو إبراهيم النخعى ، ولكن لم يرد أن يدل عليه، وجيء به للحجاج فأمر بحبسه بدون تهمة ، يقول ابن سعد " ولم يكن لهم ظل من الشمس ولا كن من البرد ، وكان كل اثنين في السلسلة فتغير إبراهيم فجاءته أمه في الحبس فلم تعرفه حتى كلمها ، فمات في السجن "

وأثرت تلك الحادثة على سلوك الفقيه الشاب إبراهيم ألنخعي فسيطر عليه الرعب من الحجاج ما بقي الحجاج حيا،وظل حينا من الدهر مستخفيا في بيت صديقه أبي معشر تطارده وساوسه ومخاوفه من إرهاب الحجاج، وكان في لقاءاته السرية مع أصحابه يستحل لعن الحجاج مستدلا بقوله تعالي " ألا لعنة الله علي الظالمين " ويتشجع أحيانا فيسب الحجاج ، وإذا كان يجلس مع غرباء فإنه يأخذ جانب الحذر والتوجس مخافة أن يكون بينهم أعوان للحجاج ، وهو يتذكر وصية قالها له أحد أصدقائه : تذهب إلي المسجد الأعظم فيجلس إليكم العريف والشرطي ، ويكون إبراهيم ألنخعي أكثر حصافة فيقول لهم : نجلس في المسجد فيجلس إلينا العريف والشرطي أحب من أن نعتزل فيرمينا الناس برأي ويهوي" أى أن يكون متهما بأنه من الخوارج ، أي كان يخاف من الانزواء ، ويخاف أيضا من إظهار آرائه ، لذلك كان يظهر امام الناس انتقاده للمرجئة ويقول لبعض الشيعة علي مسمع الجالسين : أما إن عليا لو سمع كلامك لأوجع ظهرك ، وإذا كنتم تجالسوننا بهذا فلا تجالسوننا .

ولم يتخلص إبراهيم النخعي من شبح الحجاج إلا عندما بشره صديقه حماد بموت الحجاج يقول حماد: "بشرت إبراهيم بموت الحجاج فسجد، وما كنت أري أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت إبراهيم يبكى من الفرح ".

ومع ذلك فإن الإرهاب الأموي استمر بعد موت الحجاج لأنها سياسة دولة وليست سياسة والٍ متعطش للدماء ، يدلنا على ذلك أن إبراهيم النخعي مات بعد موت الحجاج ببضعة أشهر ، وقد اضطر أصحابه إلي دفنه ليلا وهم خائفون"6" .

الكهنوت الأموي :

التمسح بالدين هو الخطوة الأخيرة للاستبداد حتي لو كان المستبد من الصنف الأموي الذي يميل للواقعية والصفقات التجارية ولا يأبه كثيرا بالدين ، وقد اشتهر الأمويون بإماتة الصلاة وتأخيرها عن وقتها عدا عمر بن عبد العزيز وسليمان بن عبد الملك ، وذلك يعبر عن موقفهم من شعائر الدين ، كما أن انتهاكهم للبيت الحرام وجرأتهم علي دماء الصحابة وذرية فاطمة بنت النبي تظهر أن دينهم الحقيقي هو الحرص علي السلطان بكل سبيل .

ومع ذلك فقد اضطروا في النهاية للتمسح بالدين لتبرير سياستهم وما نتج عنها من كوارث أهتز لها ضمير المسلمين ولا يزال. ويمكن أن نرصد اتجاهين للكهنوت الأموي هما الجبرية ، والقصص الديني والأحاديث .

أولاً: الجبرية :

الظالم يجد عذراً كلاسيكياً لتبرير ظلمه بالتمسح بإرادة الله ومشيئته. ويقول إن الله كتب عليه أن يفعل ما فعل وإن إرادة الله اقتضت أن يقع منه الفعل ، وهكذا قالت قريش تبرر وقوعها في الشرك بالله "وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ : النحل 35"

والذين احتجوا بمشيئة الله في تبرير الخطأ كانوا الأمويين المترفين أصحاب السلطان والنفوذ الذين ناضلوا للحفاظ على الأوضاع القائمة وتراث الآباء لتستمر مكانتهم التي يهددها الإسلام يقول تعالى: " وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ "20 : 23 "

إذن فالمترفون في كل عصر هم دعاة التقليد والتمسك بالأوضاع السائدة والخوف عليها من التيارات الجديدة إذا كانت تحمل التغيير للأصلح ، ودائماً يجدون في التمسح بمشيئة الرحمن تبريراً لاستمرار الظلم والخطأ، كذلك فعل الأمويون قبل دخولهم الإسلام ، وكذلك فعلوا بعد أن تحكموا في المسلمين والإسلام في خلافتهم الأموية .

بعد أن ارتكب الأمويون قتل الحسين وآله وانتهاك حرمة المدينة وقتل أهلها واقتحام مكة وانتهاك حرمة البيت الحرام لم يكن أمامهم إلا الاستمرار في الطريق بعد أن وصلوا إلى القاع : وكان يعوزهم المبرر الديني الذين يواجهون به العالم الإسلامي ودعايات خصومهم من الشيعة والخوارج والموالي، وكان من السهل عليهم أن يتمسحوا بمشيئة الله كما كانوا يفعلون من قبل ، فقامت دعايتهم على أساس أن الله شاء أن يقتل الحسين وآله في كربلاء. وأن مشيئة الله اقتضت أن تنتهك حرمة البيت الحرام والمدينة المنورة وأن الاعتراض على ذلك اعتراض على مشيئة الرحمن وخروج عن إرادته، وأنه لا شىء يخرج عن قدرة الله ومشيئته ومن أنكر ذلك فقد خرج عن الإسلام واستحق القتل .

وبدأت مقاومة هذا الاتجاه الأموي الكهنوتي مبكراً ، وإن كنا لا نعرف عن معالم هذه المقاومة إلا النذر اليسير وما أثمرت عنه من نتائج أثرت على التاريخ الأموي والإسلامي .

يتمثل هذا في شخصية عمرو المقصوص الذي كان معلماً لمعاوية بن يزيد بن معاوية وترك أثراً كبيراً عليه ، وجعله يعيش في عقدة الذنب التي تضخمت بمقتل الحسين ، وانتهاك حرمة الكعبة والمدينة ، فلما تولى معاوية بن يزيد بعد أبيه كان قد تشرب مذهب الإرادة الحرة ورفض المذهب الأموي في الجبرية والتمسح بمشيئة الله. واستشار الخليفة الجديد معاوية بن يزيد معلمه عمرا المقصوص ماذا يفعل بعد ن تولى الخلافة فقال له عمرو المقصوص : "إما أن تعدل وإما أن تعتزل". فخطب معاوية خطبة يبدو فيها تحمله المسئولية لما فعله أسلافه وإيمانه بالحرية الفردية وعدم التمسح بالقدر الإلهي فقال:"إنا بلينا بكم وابتليتم بنا،وإن جدي معاوية نازع الأمر من كان أولى منه وأحق فركب منه ما تعلمون حتى صار مرتهناً بعمله ، ثم تقلده أبي ولقد كان غير خليق به فركب درعه واستحسن خطأه. لا أحب أن ألقى الله بتبعاتكم فشأنكم وأمركم ولوه من شئتم ، فوالله لئن كانت الخلافة مغنماً لقد أصبنا منها حظا، وإن كانت شراً فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها ". ثم نزل واعتزل الناس حتى مات بعد أربعين يوماً من خلافته ، وقيل أنه مات مسموماً ، وقد وثب بنو أمية على عمرو المقصوص وقالوا له: "أنت أفسدته " ثم دفنوه حياً (7) .

هذه النهاية المفجعة لعمرو المقصوص داعية الإرادة الحرة ضد للكهنوت الأموي أثرت على شخصية أخرى مشهورة هو الحسن البصري الذي كان يؤمن بالإرادة الحرة فإذا ووجه بضغط من الأمويين لجأ للتقية وإنكار مذهبه ، لقد كان الحسن البصري ( 22-110 هجرية) فقيه البصرة وشيخها ، وقد لمس ما أدى إليه مذهب الجبرية والتمسح بالمشيئة الإلهية من انحلال خلقي في البصرة،فالذين أدمنوا الفواحش في البصرة وجدوا في التمسح بالمشيئة الإلهية والجبرية مبرراً للدعوة للفجور. فكان الحسن البصري يعلن مسئولية الإنسان عن أعماله ويحذر من نسبة الشر إلى الله تعالى، وأن الله لا يرضى من عباده الكفر ، ويستدل بقوله تعالى "إن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ 39/ 7"

وحين تولى رياد ابن أبيه حكم البصرة سنة 45 هـ ، خطب فيها خطبته البتراء الشهيرة التى قال فيها :

"أما بعد فان الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والغي الموفي بأهله علي النار ما فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الامور العظام ، ينبت فيها الصغير ولا يتحاشي عنها الكبير ، كأنكم لم تقرأوا كتاب الله ولم تسمعوا ما اعد من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الاليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول ؟ اتكونون كمن طرفت عينه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات واختار الفانية علي الباقية ؟ ولا تذكرون انكم احدثتم في الاسلام الحدث الذي لم تسبقوا اليه من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله ، وهذه المواخير المنصوبة والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر والعدد غير القليل ؟ الم يكن منكم نهاة يمنعون الغواة من دلج اليل وغارة النهار ؟ قربتم القرابة وباعدتم الدين ، تعتذرون بغير العذر وتغضون عن المختلس . اليس كل امرئ منكم يذب عن سفيهه ؟ صنع من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معادا ؟. ما انتم بالحلماء ولقد اتبعتم السفهاء ، فلم يزل بكم ما ترون من قيامكم دونهم حتي انتهكوا حرمة الاسلام ،ثم اطرقوا وراءكم كنوسا ( اشخاص مشبوهين) في مكانس ( اماكن ) الريب ( أي التهم ) حرام علي الطعام والشراب حتي اسويها بالارض هدما واحراقا .

اني رأيت اخر هذا الامر لا يصلح الا بما صلح به اوله ، لين في غير ضعف و شدة في غير عنف واني أقسم بالله لأخذن الولي بالمولي والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والمطيع بالعاصي والصحيح منكم في نفسه بالسقيم حتي يلقي الرجل منكم اخاه فيقول ( انج سعد فقد هلك سعيد ، او تستقيم لي قناتكم )( أي تسيروا علي الطريق المستقيم)

ان كذبة المنبر بلقاء مشهورة ، فاذا تعلقتم علي بكذبه فقد حلت لكم معصيتي ، واذا سمعتموها فاغتمزوها في ، واعلموا ان عندي امثالها ، من نقب منكم عليه فانا ضامن لما ذهب منه . فأياي ودلج الليل فاني لا اوتي بمدلج الا سفكت دمه ، وقد اجلتكم في ذلك بمقدار ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع اليكم ، واياي ودعوي الجاهلية فأني لا اخذ داعيا بها الا قطعت لسانه .

وقد احدثتم ( اخترعتم ) احداثا وقد احدثنا لكل ذنب عقوبة ، من غرق قوما غرقناه ومن احرق قوما احرقناه ، ومن نقب بيتا نقبنا عن قلبه ، ومن نبش قبرا دفناه حيا فيه ، فكفوا عني ايديكم والسنتكم اكفف عنكم يدي ولساني ، ولا تظهر علي احد منكم ريبة (شبهة ) بخلاف ما عليه عامتكم الا ضربت عنقه ، وقد كانت بيني وبين قوم أحن (كراهية وخصومة ) فجعلت ذلك دبر اذني وتحت قدمي ، فمن كان منكم محسنا فليزدد احسانا ، ومن كان منكم مسيئا فليدع إساءته ، اني والله لو علمت ان احدكم قد قتله السل من بغضي لم اكشف له قناعا ولم اهتك له سرا حتي يبدي لي صفحته ، فاذا فعل ذلك لم اناظره ، فاستأنفوا اموركم وارعوا علي انفسكم ، فرب مسوء بقدومنا سنسره ، ومسرور بقدومنا سنسوؤه .

ايها الناس : انا اصبحنا لكم سادة وعنكم ذادة ، نسوسكم بسلطان الله الذي اعطانا ونذور عليكم بفئ الله الذي خولنا ، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما احببنا ، ولكم علينا العدل والانصاف فيما ولينا ، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا .

واعلموا اني مهما قصرت فلن اقصر لثلاث : لست محتجبا عن طلب حاجة منكم ولو أتاني طارقا بليل ، ولا حابسا عطاء ولا رزقا عن ابانه ، ولا مجمرا لكم بعثا ( أي لا يبقي الجيش في ارض العدو في غير زمن الغزو ).

فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فانهم ساستكم المؤدبون لكم ، وكهفكم الذي اليه تأوون ،ومتي يصلحوا تصلحوا ، ولا تشربوا قلوبكم ببغضهم فيشتد لذلك غيظكم ويطول له حزنكم ولا تدركوا به حاجتكم ، مع انه لو استجيب لكم فيهم لكان شرا لكم .

اسأل الله ان يعين كلا علي كل ، واذا رأيتموني انفذ فيكم الامر فانفذوه علي اذلاله ( أي علي حاله ) وايم الله ان لي فيكم لصرعى كثيرة فليحذر كل امرئ منكم ان يكون من صرعاي " (الجاحظ البيان والتبيان 2/62 : 65 ، القاهرة مكتبة الخانجي ط2.

،تاريخ الطبري 5/ 217 :221 . القاهرة ، دار المعارف ط2 .)

تلك هى البصرة التى ولد فيها وعاش وانتسب اليها الحسن البصرى، وقد وجدت فى مذهب الجبرية مسوغا للانحلال الخلقى استدعى الوالى زياد بن أبيه الى أن يخطب مخالفا تلك العقيدة طلبا لضبط الأمن فيها، على أن الانحلال و العصيان كان لا يلبث أن يعود متشجعا بالعقيدة الأموية الثابتة فى الجبرية ، ونسبة العمل الانسانى الى قضاء الله تعالى الذى لا مفر منه على زعمهم متناسين مبدأ حرية الارادة فى الايمان و الكفر و الطاعة و المعصية ، وأن الحتميات فى القضاء و القدر لها مجالات أربع محددة وهى ما يختص الميلاد والموت و المصائب و الرزق. وهذه الحتميات لا شأن للانسان بها ، ولا يمكنه تفاديها ، وليس مسئولا عنها يوم القيامة ، وما عداها فهو متسع وشامل يتحرك فيه الانسان بارادته و ،وهو مسئول عنه إن خيرا و إن شرا.

وبينما تردد الحسن البصري في مقاومة المذهب الجبري الأموي نهض معبد بن خالد الجهني لإعلان رفضه للكهنوت الأموي وأعلن كلمته المأثورة " لا قدر والأمر أنف " فقد أشاع الأمويون ودعاتهم أن معاصيهم وأعمالهم تسير بقدر الله ومشيئته فأعلن معبد أنه لا دخل للقدر في تلك المعاصي وأن أمور الأمويين تجري بالإكراه ورغم أنف المسلمين أى :" لا قدر والأمر أنف " !!

وانتقل معبد إلى البصرة وقابل شيخها الحسن البصري وقال له: يا أبا سعيد هؤلاء الملوك يسفكون دماء المؤمنين ويأخذون أموالهم ويقولون " إنما تجري أعمالنا على قدر الله " ورد الحسن البصري : كذب أعداء الله . وكي يثبت معبد رأيه في الإرادة الحرة فقد شارك في الثورة على الأمويين وخرج عليهم مع محمد بن الأشعث في ثورته وفشلت ثورة ابن الأشعث ودخل سعيد سجن الحجاج الذي كان يتلذذ بتعذيب معبد والسخرية منه، فقد جيء للحجاج بمعبد مقيداً فقال :يا معبد كيف ترى الله قسم لك ؟ أي أن إرادة الله قسمت بمعبد أن يكون أسيراً للحجاج،فقال له معبد: "يا حجاج خل بيني وبين قسم الله ، فإن لم يكن لي قسم إلا هذا رضيت به "، أي أن إرادة الله لا دخل لها بسجنه وان الحجاج لو تركه حراً فلن يضع نفسه بمحض اختياره في السجن فقال الحجاج : يا معبد أليس قيدك بقضاء الله؟فقال له:يا حجاج ما رأيت أحداً قيدني غيرك فأطلق قيدي ، فإن أدخله قضاء الله فى يدى رضيت به"، وهكذا صمم معبد الجهني على رأيه أمام جبروت الحجاج، فأمر بتعذيبه حتى مات بعد 80 هجرية (8) .

وانتقل تأثير معبد إلى العالم الإسلامي وسمى أتباعه " قدرية" ، تأثراً بقوله "لا قدر والأمر أنف " وكان أبرز القدرية في دمشق غيلان الدمشقي ، الذي تابع معبد الجهني في إعلان رأيه ومواجهة طغيان الأمويين وكهنوتهم ، وكانت له علاقات مع الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز وكانت لهما مناقشات في القضاء والقدر تعرضت لتحريف الرواة حسب اتجاههم المذهبي. ويذكرون أن عمر بن عبد العزيز استجاب لغيلان الدمشقي في رد المظالم وبيع الخزائن الأموية لصالح بيت مال المسلمين .

ويروى أن غيلان وقف في سوق دمشق يبيع حوائج الأمويين قائلاً " تعالوا إلى متاع الخونة ، تعالوا إلى متاع الظلمة ، تعالوا إلى متاع ما خلف الرسول في أمته بغير سنته وسيرته " ومر به هشام بن عبد الملك فغضب ونذر أن تولى الخلافة ليقطعن يدي غيلان ورجليه .

وحين تولى هشام الخلافة هرب غيلان وصاحبه صالح إلى أرمينية يدعوان للثورة على هشام وظلمه ، فاعتقله أعوان الأمويين ، وجيء به إلى هشام بدمشق فقال له هشام : زعمت أن ما في الدنيا ليس هو عطاء من الله لنا . قال غيلان " أعوذ بجلال الله أن يأتمن خواناً أو أن يستخلف الخلفاء من خلقه فجاراً". ثم أمر هشام بحبسه ، وكان غيلان من فصحاء الكتاب وأكثرهم أتباعاً ، فاستمرت رسائله من السجن للناس ، ورأى هشام أن يقتله بفتوى دينية فسلط عليه الأوزاعي عالم الشام المتعاون مع الأمويين ، ودارت بين الأوزاعى و غيلان مناظرة انتصر فيها غيلان بالحجة ،فأفتى بعدها الأوزاعي لهشام بتعذيب غيلان وقتله مع صاحبه.

فأمر هشام بإخراجهما من السجن وقطع أيديهما وأرجلهما ، وجيء بهما إلى هشام ليتشفى فيهما بعد قطع أيديهما وأرجلهما، فقال لغيلان:كيف ترى ما صنع بك ربك ؟ يعني أن قضاء الله هو المسئول عما حل به ، فرد عليه غيلان: لعن الله من فعل بي هذا ،يعني أنه لعن الخليفة لأنه المسئول . وعطش رفيقه صالح فلم يعطه الأمويون ماءاً فمات واستمر غيلان حياً ، وتوافد عليه الناس يعظهم ويهاجم الأمويين ، فقيل لهشام : قطعت يدي غيلان ورجليه وأطلقت لسانه فأبكى الناس ونبههم إلى ما كانوا عنه غافلين ، فأرسل إليه من يقطع لسانه، فقيل له : أخرج لسانك فقال : لا أعين على نفسي ، فكسروا فكيه واستخرجوا لسانه فقطعوه فمات (9).

وقد انتشر مذهب غيلان في الحرية والثورة ضد الظلمة ، ودحض مقولتهم في التمسح بالمشيئة الإلهية،وأصبح هذا المذهب خطراً على الظلمة حتى بعد الدولة الأموية ، مما دعا السلطات العباسية وأعوانها إلى القيام بحملة سوداء تفترى أحاديث ضد غيلان والقدرية فأصبحت القدرية تهمة تساوي الكفر والعصيان وتذهب بالعدالة والمروءة ، ومن اتهموه بالقدرية أصبح عند أهل الحديث مطعوناً في دينه، واستمر هذا طيلة العصر العباسي والمملوكي ما دام الظلم قائما يتمسح بمشيئة الرحمن .

وفي القرن الرابع الهجري يعيب الملطي " مذهب القدرية"،ويروي أساطير تفيد رجوع غيلان عن رأيه حين انتصر عليه عمر بن عبد العزيز بالحجة ، ويذكر أقاويل تنكر المذهب مسنودة إلى أعلام الصحابة مثل ابن مسعود وابن عباس وابن عمر، ويستشهد بأحاديث منسوبة للنبي في الهجوم على غيلان ومذهبه ، ويسند الرواية لابن عباس مثل " صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب : المرجئة والقدرية"،" وحديث:" ستة لعنتهم ، لعنهم الله وكل نبي.." وجعل منهم "المكذب بالقدر"،وحديث آخرلأبي هريرة " لعن الله أهل القدر الذين يكذبون بقدر ولا يؤمنون بقدر " وحديث ينسبونه لعبادة بن الصامت يدعي أن النبي قال " يكون في أمتي رجلان أحدهما وهب الذى الله له الحكمة والآخر غيلان فتنة على هذه الأمة أشد من فتنة الشيطان (10). وهو حديث عجيب يمدح وهب بن منبه اليهودي منبع الإسرائيليات في التفسير والحديث، ويذم غيلان في نفس الوقت . وهذا ما يعبر عن الفكرة السائدة منذ العصر الأموي إلى عصر أبي الحسين الملطي صاحب كتاب " التنبيه والرد" والمتوفى سنة 377 هجرية .

واستمرت نفس الفكرة إلى العصر المملوكي لأن الظلم اشتد وكان أحوج ما يكون إلى مذهب الجبرية،إذتكفل المحدثون بصنع أحاديث أخرى في التشنيع على القدرية ، وفي اتهام خصومهم بها ، والامام الذهبي صاحب كتاب ( ميزان الاعتدال ) فى نقد وتقييم أحوال الرواة و العلماء تأثر بتلك الحملة التي استمرت قروناً مع أنه كان معتدلاً متحرياً النزاهة ما أمكنه ، يقول في ترجمة معبد الجهني " تابعي صدوق في نفسه، ولكنه سن سنة سيئة فكان أول من تكلم في القدر ، قتله الحجاج صبراً لخروجه مع ابن الأشعث ". ويقول عن غيلان " المقتول في القدر ، ضال مسكين ، حدث عنه يعقوب بن عتبة ، وهو غيلان بن مسلم كان من بلغاء الكتاب " (11).

وقد كان مكحول هو مفتي أهل دمشق وعالمهم كما يقول الذهبي نفسه ، ولكنه لأنه على مذهب غيلان فإن الذهبي – الحنبلي المذهب يقول عنه " هو صاحب تدليس وقد رمى بالقدر فالله أعلم ". وقد مات الذهبي في العصر المملوكي سنة 718هجرية .

ثانياً : القصص والأحاديث

بدأ القصص في عهد الخلفاء الراشدين بمعنى الوعظ ، وهو نفس معنى القصص في مفهوم القرآن "يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. الأعراف 35" .

لذا كان التذكير من أدوات الذي يقص .يقول ابن سعد في ترجمة الأسود بن سريع أول من قص في المسجد أنه كان " يذكّر في مؤخرة المسجد" وكان الأسود صحابياً غزا مع النبي عليه السلام أربع غزوات.

وأول من قص القصص في عهد عمر بن الخطاب كان عبيد بن عمير وقد قالت له عائشة "خفّف فإن الذكر ثقيل" (12).. وقد استمع ابن عمر إلى عبيد بن عمير وهو يقص على أصحابه فبكى تأثراً .

وقد استمر على طريقة القصص بمعنى التذكير والوعظ الحسن البصري في البصرة، ولقد روى أن على بن أبي طالب في خلافته طرد القصاص من المساجد واستثنى الحسن البصري لتحريه الصدق فيما يقول.

وقام الملك الأموي فتحول القصص إلى عمل رسمي يخدم الدولة وينشر الدعاية لها ويهاجم أعداءها،فأصبح منصب القصص يكافيء منصب القضاء،وقد يقوم رجل واحد بالوظيفتين، ويقال أن أول من قص بمصر سليمان بن عنتر التجيبي وجمع له القضاء والقصص، وكان يمارس عمله في المسجد العتيق في الفسطاط . وفي خلافة عبد الملك بن مروان كان واليه على مصر اخوه عبد العزيزبن مروان ،وكان يلي القضاء والقصص في ذلك الوقت عقبة بن مسلم.

وفي العصر العباسي تولي القصص بمصر العلاء من عاصم الخولاني 182 هجرية، وفي خلافة المأمون كان مرتب أبي رجب العلاء عشرة دنانير على القصص،وقد صلى خلفه الإمام الشافعي حين جاء إلى مصر " ( 13) . وهكذا ظل منصب القصص من المناصب الدينية الرسمية منذ أن جعله معاوية وظيفة رسمية.

وكان القصاص يجلس بالمسجد وحوله الناس فيستحوذ على ألبابهم بالحكايات والأقاصيص والأساطير، وفي أثناء ذلك يقوم بالدعاية لأولي الأمر وانتقاص أعدائهم، ولأن الناس مشغوفون دائماً بالقصص العجيب والغريب فقد دخل في القصص كثير من الأساطير والخرافات القديمة.وكان منبع تلك الأساطير اثنان من أهل الكتاب اليهود ، أسلما وتأثرا بهما كثير من المثقفين المسلمين الأوائل وهما وهب بن منبه وكعب الأحبار . وكلما ازدادت جرعة التشويق لدى القاص كلما ازداد المعجبون به وازدادوا تأثراً به وإيماناً بما يقوله وبما يدعوا إليه ، وبالتالي ازداد رضى أولي الأمر عنه.

ومن هنا ارتبطت الناحيتان معاً،الخرافات الدينية والدعوة السياسية.والخرافات الدينية التي بثهاالقصاص في العهد الأموي تناقلهاالرواةوسجلوها فى العصر العباسى، خصوصاً وأن القصاص كانوا من الصحابة والتابعين الذين عملوا في خدمة الدولة الأموية،وأبرزهم أبو هريرة أشهر رواة الأحاديث وأبرز أعوان الأمويين في عصره. وكان مجلس أبي هريرة في القصص مقصوداً، ويروي ثابت بن الأحنف أنه قيل له : أين سمعت من أبي هريرة قال : كان موالي يبعثونني يوم الجمعة آخذ مكاناً فكان أبو هريرة يجيء ليحدث الناس قبل الصلاة.ومن تلامذة أبي هريرة في القصص وفي الحديث كان سليمان أبا عبد الله، قال عنه ابن سعد : كان قاصاً وروى عن أبي سعيد ألخدري وأبي هريرة (14).

وكانت لأبي هريرة صحبة بكعب الأحبار ونقل عنه الكثير من الإسرائيليات وقد حققها الشيخ محمود أبو رية في كتابيه " أضواء على السنة المحمدية" ،" شيخ المضيرة".واستمرت وظيفة القصص في بث الخرافات في العصر العباسي وإن كان العصر قد تسامح في تدوين الروايات التي توارثها عن العصر الأموي إلا أن الخرافات التي اخترعها القصاص في العصر العباسي لم تحظ بالقبول، خصوصا مع كثرة القصاصين وغلبة الجهل على معظمهم، فكان يتندر عليهم الحاضرون أحيانا، فيذكر ابن الجوزي أن أحد القصاص قال : إن مات العبد وهو سكران دفن وهو سكران وحشر وهو سكران فقال رجل في طرف الحلقة هذا والله نبيذ جيد..!!

وروى ابن الجوزي أن بعض القصاص قال:في السماء ملك يقول كل يوم ابنوا للموت وابنوا للخراب ، فقال بعض الحاضرين : اسم ذلك الملك أبو العتاهية (15).وحين تولى المعتضد العباسي سنة 279 هجرية أصدر قرارا بمنع المنجمين والقصاصين من القعود في الطرقات (16). أي لم يقتصر جلوسهم في المساجد وإنما تعداها للشوارع .

ويقول الأستاذ أحمد أمين أن القصص هو الذي أدخل على المسلمين كثيرا من أساطير الأمم الأخرى كاليهودية والنصرانية كما كان بابا دخل منه على الحديث كذب كثير وأفسد التاريخ بما تسرب منه من حكايات ووقائع وحوادث مزيفة أتعبت الناقد وأضاعت معالم الحق " (17).

كان القصص مفسدا للتاريخ لأنه كان الواجهة الإعلامية للدولة الأموية- وكان أثره هائلا في الدعاية للدولة، ولقد جعل من لعن على وأبنائه شعيرة دينية، حتى أنه بعد سقوط الدولة الأموية ظلت مدينة " حران" متمسكة بلعن على بن أبي طالب طيلة سنة كاملة فكانوا يقولون: لا صلاة إلا بلعن أبي تراب (18)، يعنون عليا بن أبي طالب،كانوا يعتقدين أن صلاة الجمعة لا تصح إلا بلعن على بن أبى طالب فقد تعلموا الصلاة على أيدى الولاة الأمويين ،

والقصص الأموي جعل أهل الشام يعتقدون أن عليا بن أبي طالب هو مغتصب الحق من معاوية، وان معاوية هو ابن عم النبي وصهره وأحق الناس به، ولذلك كانوا يتفانون في خدمة الأمويين، واستمرت الدعاية الأموية في ضمير أهل الشام حتى لقد اعتقدوا في العصر العباسي بعودة السفياني المنتظر على نسق المهدي المنتظر.

وحين تحول القصص إلى سلاح للدعاية الأموية أعرض عنه بقية التابعين خصوصا من المدينة فكان سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب لا يشهد قاص جماعة ولا غيره، وكانت الكوفة مركز المعارضة في العصر الأموي وكان من السهل على أهلها معرفة عملاء الأمويين بين القصاص الهواة، وكان أبو عبد الرحمن السلمي ممن روى عن على وعبد الله بن مسعود وقد قال لأصحابه" لا تجالسوا القصاص غير أبي الأحوص ولا تجالسوا شقيقا ولا سعد بن عبيدة"

وبعض الناقمين على الأمويين تسللوا إلى مجال القصص وكان منهم إبراهيم التيمي الذي طرده أبوه حين عمل بالقصص، وبعض القصاص انضم إلى ثورة ابن الأشعث على الأمويين وكان من أولئك القصاص ابن القرية وذر بن عبد الله الهمداني الذي كان من أبلغ الناس في القصص وكان من أعيان المرجئة (19).

وكماأشارالأستاذ أحمد أمين فإن القصص أدخل الكثير من الإسرائيليات والخرافات في الحديث والتفسير والتاريخ، ولقد كتب ابن تيمية في نقد الأحاديث الموضوعة كتابا سماه "أحاديث القصاص"يعنى أن تلك الأحاديث المفتراة الكاذبة من وضع القصاص ، ومع ذلك فإن أساطير القصاص لا يزال بعضها منسوبا للنبي في كتب الأحاديث المقدسة،ولا تزال تؤثر في صياغة عقلية الشباب حتى يومنا وتأخذهم إلى دنيا التخلف والخرافة وخصوصا وأن العلماء المنوط بهم إظهار حقائق الإسلام يدافعون عن هذه الخرافات بدلا من نقدها.

ومعنى هذا أننا لا زلنا ندفع فاتورة الكهنوت الأموي ..

وكما استخدم الأمويون القصص استخداما سياسيا كهنوتيا فقد استخدموا أيضا الأحاديث المنسوبة للنبي محمد عليه السلام، وكان أبو هريرة عميلا للأمويين في مجال القصص ومجال الحديث معا، وأبو هريرة لا يزال يحتل مكانة رفيعة في قلوب المسلمين شأنه شأن الروايات الخرافية التي ابتدعها القصاص الأمويون ونسبت للنبي وأصبحت سنة تستوجب الدفاع عنها والموت دونها ، ولتمحيص هذه القضية الشائكة نضع أمام المؤمنين بالأحاديث تلك الروايات المستمدة من كتب التراث نفسها :

1- أن النبي عليه السلام قال "لا تكتبوا عني شيئا سوى القران فمن كتب عني غير القرآن فليمحه" رواه أحمد ومسلم والدرامي والترمذي والنسائي .

2- وجاء في تذكرة الحفاظ للذهبي أن الصديق أبا بكر في خلافته نهى عن رواية الأحاديث المنسوبة للنبي وأنه قال للناس " إنكم تحدثون عن رسول الله (ص) أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشد اختلافا فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا ، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه.

3- وروى حافظ المغرب ابن عبد البر والبيهقي أن عمر بن الخطاب قال "إني كنت أريد أن أكتب السنن وأني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فانكبوا عليها وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا " .

4- وذكر القرطبي في كتابه " جامع بيان العلم وفضله" فصلا كاملا بعنوان " باب ذكر كراهية العلم وتخليده في الصحف " ذكر فيه حديث " لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن" وحديث دخول زيد بن ثابت على معاوية وقوله لمعاوية:" إن رسول الله أمرنا ألا نكتب شيئا من حديثه" وأحاديث مختلفة تؤكد أن عمر رفض كتابة الأحاديث،وأحاديث أخرى عن رفض أبي سعيد ألخدري وابن مسعود وغيرهما لكتابة الأحاديث (20).

5- وجاء في طبقات ابن سعد أن أكثرية الصحابة التصاقا بالنبي لم يرووا عنه شيئا ونقطف منه هذه الروايات:

ـ قيل للزبير بن العوام:مالي لا أسمعك تحدث عن رسول الله (ص) كما يحدث فلان وفلان قال " أما أني لم أفارقه منذ أسلمت ولكني سمعت رسول الله (ص) يقول " من كذب على فليتبوأ مقعدا من النار " وقال وهب بن جبير:" والله ما قال متعمدا وأنتم تقولون متعمدا"، أى أن هذا الحديث (من كذب على فليتبوأ مقعدا من النار) ما لبث أن أضافوا له كلمة ( متعمدا ) فأصبح (من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعدا من النار) وبهذا جعلوا حصانة من النار لمن يكذب على النبى أو يروى حديثا كاذبا بحجة أنه لا يتعمد ذلك و لا يقصده.

ـ وصحب بعضهم سعد بن أبي وقاص من المدينة إلى مكة قال فما سمعته يحدث عن النبي حديثا حتى رجع ، ودخل بعضهم على سعد بن أبي وقاص فسئل عن شيء فاستحجم وقال إني أخاف أن أحدثكم حديثا واحدا فتزيدوا عليه المائة.

ـ وكان ابن مسعود خادم النبي ورفيقه وكان أبو موسى الأشعري حين قدم المدينة يظنه من أهل البيت لطول مكثه مع النبي ومع ذلك كان يعلوه الكرب والخوف ويتصبب العرق على وجهه إذا جرى على لسانه حديث للنبي وقلما يحدث منه ذلك(21).

وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (22) إن كبار الصحابة المقربين للنبي كانوا أقل الناس رواية عنه مثل أبي بكر والزبير وأبي عبيدة بن الجراح والعباس بن عبد المطلب ، بل إن بعضهم لم يرو شيئا مثل سعيد بن زيد بن عمرو وهو أحد المبشرين بالجنة فيما يقولون .وقد تفوق عليهم جميعا أبو هريرة فى رواية الأحاديث خدمة للأمويين.

6 ـ إن أبا هريرة كان أقل الناس صحبة بالنبي فقد صحب النبي عاما وتسعة أشهر فقط وذلك ما حققه الشيخ محمود أبو رية في كتابه شيخ المضيرة ،ومع ذلك فقد روى عنه 5374 حديثا . ذكر منها البخاري 446 حديثا .. وقد اتهمه بالكذب كبار الصحابة مثل عمر وعثمان وعلى وعائشة وغيرهم ،وامتلأت كتب الأحاديث بالإنكار عليه من كثرة مروياته ، وكان أكثرهم إنكارا عليه عائشة وعلى ، وقد قالت له عائشة فيما يرويه البخاري وابن سعد " إنك لتحدث حديثا ما سمعته من النبي ،فقال لها: شغلك عنه المرآة والمكحلة"وفي ذلك الرد سوء أدب، وما كان أبو هريرة ليجرؤ عليه إلا حين استند إلى قوة الأمويين في دولتهم.

7 ـ فقد بدأ أبو هريرة في الرواية عن النبي في خلافة عمر فهدده عمر قائلا " لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس " أي بلاد أبي هريرة ، وهدد عمر أيضا كعب الأحبار ذلك اليهودي الذي أسلم وكان رفيقا لأبي هريرة فقال له عمر " لتتركن الحديث عن الأول – أي أبو هريرة – أو لألحقنك بأرض القردة ، أى بني إسرائيل المغضوب عليهم . وفي رواية أخرى أنه ضرب أبا هريرة فعلا.ولقد سئل أبو هريرة فيما بعد أكنت تحدث في زمان عمر بهذا ؟ فقال : لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته" وفي رواية " إني أحدثكم بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر لضربني بالدرة " وفي رواية "لشج رأسي " وفي رواية " ما كنا نستطيع أن نقول قال رسول الله حتى قبض عمر،ثم يقول أبو هريرة:أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي ؟ أما والله لأيقنت أن المخفقة ستباشر ظهري ، فإن عمر كان يقول اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله.وقال رشيد رضا في المنار " لو طال عمْر "عمر" حتى مات أبو هريرة لما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة"(23).

8 ـ ولكن الذي حدث أن أبا هريرة امتد به العمر فأدرك الخلافة الأموية وتحالف مع الأمويين ، وفي فترة الخلاف بين على ومعاوية تمكن معاوية من الاستيلاء على الحجاز وسلط على أهل الحجاز أحد شياطينه وهو بشر بن أرطاه ، وقام هذا الوالي الطاغية بتعيين أبي هريرة واليا على المدينة .وحين تولى مروان بن الحكم المدينة في خلافة معاوية كان أبو هريرة رفيقا له حتى أنه كان ينوب عنه في ولاية المدينة إذا غاب. وزادت أموال أبى هريرة من أعطيات الأمويين حتى لقد بنوا له قصرا من العقيق وزوجوه من يسرة بنت غزوان أخت الأمير عتبة بن غزوان ، وكان أبو هريرة خادما لها من قبل . وقد اعترف أبو هريرة في حديث رواه البخاري بأنه حين تزوج سيدته السابقة التى كان يخدمها فى شبابه وفقره فإنه كان يستعذب إذلالها واهانتها ، أى تزوجها فى شيخوختها لينتقم منها.وكل هذا العز الذى أحاط بابى هريرة كان بسبب خدمته الأمويين ينشر لهم الأحاديث التي يخذل فيها أنصار على ويطعن فيها عليه ويشيد بفضل معاوية وآله. وكانت تلك الأحاديث أقوى سلاح فى الدعاية الأموية. وبها أصبح أبوهريرة علما حتى الآن فى الدين السنى الأرضى ، و يشعر بالرهبة من يقرأ عنه هذه الحقائق التراثية من كتب السنة نفسها.ومات أبو هريرة سنة 59هجرية عن ثمانين سنة بقصره بالعقيق، وحمل إلى المدينة وصلى عليه الوليد بن أبي عتبة بن أبي سفيان وكان أميرا على المدينة يومئذ ، وكتب إلى عمه معاوية ينعى إليه أبا هريرة فأرسل إليه معاوية ، أنظر من ترك وادفع إلى ورثته عشرة آلاف درهم وأحسن جوارهم وافعل إليهم معروفا .

وهكذا .. اصطنع الأمويين أبا هريرة وصنعوه وأقاموا علماً لا يزال يحظى بتقديس الناس ودفاعهم عنه ،وهو من موروثات الكهنوت الأموي، وإن كان السلطان الأموي قد ذهب مع الريح فلا يزال كهنوت أبى هريرة يعيش في عقائد المسلمين كأحد مؤسسى الدين السنى الأرضى.

إن الكهنوت الأموي هو الذي حول أباهريرة من صحابي مغمور أسلم بعد غزوة خيبر وصحب النبي لمجرد أن يملأ فمه بالطعام ـ كما يعترف هوـ حوّله إلى أشهر الصحابة وأكبر الرواة ، لأن أبا هريرة كان هو البوق الذي يدعو للأمويين ويروي أحاديث لمصلحتهم ظلت الألسنة تتناقلها عبر الرواية الشفهية إلى أن جاء العصر العباسي وهو عصر التدوين فتسلل بعضها إلى الأوراق ـ هذا مع أن العباسيين كانوا حريصين على تشويه سيرة الأمويين بعد انهيار ملكهم، ولكن كثرة الأحاديث التي رواها أبو هريرة في فضائل الأمويين مكن لبعضها أن يجد طريقه للتدوين في العصر العباسي نفسه ، وما حجبته "الرقابة " العباسية الكهنوتية كان أكثر..

ونقتطف طائفة من أحاديث أبي هريرة في الأمويين:

- روى ابن عساكر وابن عدي والخطيب البغدادي أن أبا هريرة قال : سمعت رسول الله يقول إن الله ائتمن على وحيه ثلاث : أنا وجبريل ومعاوية وفي رواية : الأمناء ثلاثة جبريل ومعاوية وأنا .

ـ وروى الخطيب عنه أن النبي(ص) ناول معاوية سهماً فقال : خذ هذا السهم حتى تلقاني به في الجنة .

ـ وقال أبو جعفر الإسكافي أن معاوية جعل قوما من الصحابة والتابعين يروون أخبارا قبيحة في حق على بن أبي طالب وجعل لهم الأموال، وكان منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن أبي شعبة ، وكان من التابعين عروة بن الزبير

ـ وروى الأعمش أن أبا هريرة لما قدم العراق مع معاوية حين تولى الخلافة جاء إلى مسجد الكوفة فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه ثم ضرب صلعته مرارا وقال : يا أهل العراق تزعمون أني أكذب على الله ورسوله وأحرق نفسي بالنار؟ والله لقد سمعت رسول الله يقول لكل نبي حرما وان حرمي بالمدينة ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين واشهد بالله أن عليا أحدث فيها .. وقد كوفيء أبو هريرة على هذا الحديث بأن ولاه معاوية على المدينة.. (24) .

لقد استخدم الأمويون فلسفة الجبرية لتبرير جرائمهم السياسية ثم جعلوا منها ذريعة لعقاب الثائرين عليهم واتهامهم بالخروج على الإسلام لأنهم اعترضوا على مشيئة الرحمن. واستخدم الأمويون سلاح الإعلام والدعاية بالقصص والأحاديث وبها أحكموا سيطرتهم على أهل الشام وأعوانهم فاعتقدوا أن معاوية هو صاحب الحق وأن عليا هو المغتصب الذي يستحق اللعن مع كل صلاة.وظلت هذه السياسة الإعلامية تشكل عقائد أهل الشام حتى بعد انهيار الدولة الأموية،أى استخدم الأمويون سلاح الجبرية ضد خصومهم وسلاح القصص والأحاديث مع مؤيديهم .

واستخدام الدين في تحقيق المطامع الدنيوية والسياسية هو التعريف الوحيد للكهنوت .. وحيث يوجد الكهنوت فليست هناك حرية للرأي .

الكهنوت العباسي



تحالف العباسيون مع الفرس للإطاحة بالدولة الأموية،وكان أبو مسلم الخرساني هو القائد الفارسي الذي أقام الخلافة العباسية.وطمع الفرس في أن يكون لهم نفوذ في الدولة يساوي جهدهم في إقامتها ،ولكن حال العباسيون بينهم وبين تحقيق تلك الأمنية ،وكان أن قتل أبو جعفر المنصور أبا مسلم الخرساني سنة 137هجرية.

كان من أمنيات الفرس أن يعيدوا مجدهم القديم من خلال إقامة الخلافة العباسية ،وكانت أكثرية الفرس الذين مع أبي مسلم الخرساني يتمنون إعادة الديانة المزدكية ، وقد فجعهم مصرع قائدهم أبي مسلم الخرساني فقاموا بثورة على العباسيين للطلب بدم أبي مسلم ، وتزعمهم سيناذ وقد استولى على خزائن أبي مسلم وورثه في أتباعه ، واستطاع العباسيون هزيمته وقتلوا ستين ألفاً من أتباعه،وكان سيناذ مجوسياً كما يذكر الطبري (25).

ويلاحظ أن بعض الفرس تعجل في استغلال الدعوة العباسية في إرجاع الدين المزدكي الفارسي حتى قبل أن تنجح الدعوة العباسية في إقامة الدولة لبني العباس مما يدل على عمق الدوافع الدينية القومية لدى الفرس عندما تحالفوا مع العباسيين ضد الأمويين ، ويذكر المقديسى أن أحد المجوس من المزدكية وهو (عمار بن بديل ) استطاع أن يخدع بكير بن ماهان كبير الدعاة العباسيين في العراق ، فأرسله إلى خراسان ليدعو إلى الرضى من آل محمد وأعطاه أسرار الدعوة، وفي خراسان غير (عمار بن بديل)اسمه إلى اسم فارسي هو(خداش) ونشر المزدكية بين مسلمي فارس ،والمقدسي يقول عنه ،ومثل لهم الباطل في صورة الحق فرخص لبعضهم في نساء بعض ،وأخبرهم أنها تعاليم الرضى من آل محمد ،وقد انتهى أمره بالقتل(26).

وبعد قيام الدولة العباسية وفجيعة الفرس فيها ظهر التحدي واضحا ًباكتساب الثورات الفارسية ضد الدولة العباسية طابعاً دينياً مزدكياً صريحاً، وقد كان أبو مسلم في حياته وأثناء قيادته للجيوش العباسية يمنع أتباعه من إظهار المزدكية، وبعد أن قتله العباسيون ثاروا على الدولة العباسية وسموا أنفسهم " الأبو مسلمية" وأعلنوا ألوهية أبي مسلم الخرساني ثم ألوهية ابنته فاطمة ويزعمون أنه يخرج من نسلها رجل يستولي على الأرض كلها(27).وبعد إخماد ثورة سيناذ التي أشرنا إليها قامت ثورة أخرى بقيادة (استاذيس) المجوسي المزدكي الذي ادعى النبوة ـ وبعث إليه الخليفة المنصور العباسي بجيش فقتله(28).

واستمرت ثورات الفرس الدينية العسكرية في خراسان وما حولها،وأرهقت الدولة العباسية،وكان أهمها ثورة المقنع الخرساني الذي ادعى الألوهية وأباح جميع النساء والأموال ،وأتعب الدولة العباسية حتى قضت عليه.ثم قام الفرس بثورات أخرى في عهد هارون الرشيد وأولاده كان منها ثورة بابك الحرمي الذي كاد أن يقضي على الدولة العباسية ..

وما يهمنا من ذلك كله أن الفرس قسموا أنفسهم قسمين في حرب الدولة العباسية ،قسم أعلن الحرب وأظهر معتقداته المزدكية ،وكان لهم في بلادهم البعيدة عن مركز الخلافة ما مكنهم من الثورة،ثم قسم آخر كان يعيش في بغداد وقصور الخلافة ينافق السلطات ويكيد لها. وبينما حارب العباسيون القسم الأول بإرسال الجيوش فإنهم واجهوا عملاء عدوهم في الداخل بالقتل، وباسم الدين ، ولأنه ليس فى الاسلام ما يبيح لهم هذا فقد اخترعوا عقوبات جديدة تناسب حال الفرس العقيدى و الخلقى ،ولأن الفرس متهمون بالكفر والانحلال الخلقي وإباحة النساء كلهن فقد كان سهلاً أن يخترع لهم الكهنوت العباسي عقوبات جديدة مالبثت أن أضيفت للإسلام مع أنها تناقض القرآن، تلك العقوبات هي ما اصطلح على تسميته بحد الردة وحد الرجم وحد تارك الصلاة ، وتوسع الكهنوت العباسي في إضافة أسباب للقتل يتمكن بها من قتل الشخص المسالم إذا كان خطرا على الدولة.وبهذا استكمل الدين السنى ملامحه و تشريعاته فى العصر العباسى.

وبينما انهمك أبو جعفر المنصور في حرب الفرس الثائرين عليه فإن ابنه المهدي انهمك بعدها في حرب الزنادقة في بغداد نفسها وسار أبناؤه على نهجه يتلقبون بألقاب دينية ( المهدي الهادي . الرشيد . المعتصم .) ويقتلون خصومهم بشعارات دينية وفقا لنصوص أضيفت لشريعة الإسلام وأخذت لقبا جديدا هو سنة النبي، وهى فى الحقيقة دين أرضى جديد صنعته السياسة، ولا يزال مرتبطا بها حتى الآن .

يقول المقدسي عن المهدي " وفي أيامه ظهرت الزنادقة فقتل المهدي بعضهم " ويقول عن الهادي بن المهدي " وتتبع الهادي الزنادقة فقتلهم أبرح قتل ،منهم افرديار كاتب يقطين .." .ويقول المقدسي عن نكبة البرامكة على يد الرشيد " واختلفوا في السبب الذي حمله على ذلك فقال قوم أنهم أرادوا إظهار الزندقة وإفساد الملك."(29).

أي أن تهمة الزندقة قد لحقت بالفرس حتى لو بلغوا أعلى مكانة في الدولة العباسية. وإذا كان الخليفة الأموي قد بدأ بقتل خصومه ثم يتمسح في الجبرية فإن الخليفة العباسي قد بدأ برفع لواء الدين ليقتل به خصومه . ولأنه لم يجد في القرآن ما يؤيد مبتغاه فقد كان من السهل عليه أن يجد من العلماء من يروي له أحاديث ينسبها للرسول فيها عقوبات بالقتل يستطيع أن يطارد بها خصومه ويكون بذلك مهديا أو هاديا أو رشيدا ،ولا تسأل بعد هذا عن حرية الرأي .

على أن الكهنوت العباسي لم يقتصر على مصادرة الرأي السياسي والديني بل تدخل في البحث العلمي والمذاهب العقلية ،فقد تقرب الكثيرون للخلفاء العباسيين بإضافة أحاديث واجتهادات فقهية وتفسيرية لابن عباس الجد الأعلى للخلفاء العباسيين واكتسبت تلك المقولات قدسية وأصبح من الخطورة بمكان مناقشتها ،وإلا ثار الخلفاء غضبا حين ينتقد أحدهم حديثا رواه جدهم ابن عباس أو رأيا فقهيا قاله ابن عباس الذى صار أكبر شخصية علمية بين الصحابة و التابعين ، لمجرد انه جد الخلفاء العباسيين الذين إزدهرت فى عصرهم الحركة الفكرية واستكملت فيها الملامح الأساسية لمعظم الملل والنحل والفرق وأديان المسلمين الأرضية.ولأن العباسيين هم أصحاب الفضل فى تلك الحركة الفكرية الدينية فانهم كدولة أيدلوجية دينية مذهبية سنية عملوا على توجيهها لمصلحتهم السياسية.لذا كان أفظع الأمثلة في مصادرة حرية البحث العلمي والعقلي ما فعله العباسيون في مسألة خلق القرآن التي حاول الخليفة المأمون أن يفرض رأيه على الناس، هذا مع اشتهار المأمون بالحلم وسعة الأفق إلا أن طغيان الكهنوت العباسي جعله يستنكف من عصيان العلماء لآرائه، فكان تعذيب ابن حنبل ومقتل أحمد بن نصر الخزاعي .

وقد بدأت القضية بمنشور بعث الخليفة المأمون يأمر فيه الفقهاء باعتناق عقيدة المعتزلة التى تقول أن القرآن مخلوق ويهدد من يرى غير ذلك ،وكان ذلك في شهر ربيع الأول 218هجرية. ثم توالت الأوامر بتتبع العلماء وتهديدهم فرضخوا للأوامر،وكان منهم المؤرخ ابن سعد وأبو مسلم يزيد بن هارون ويحي بن معين وأبو خثيمة وغيره،وقد أخلت السلطات سبيلهم.ثم أمر الخليفة باستحضار آخرين منهم ابن حنبل وإجبارهم على القول بخلق القرآن،فأقروا عدا ابن حنبل وثلاثة معه وتراجع اثنان عن رأيهما، وظل ابن حنبل وابن نوح على رأيهما.ومات الخليفة المأمون وهما في السجن وقد أوصى المأمون ولي عهده بالاستمرار في القضية فظل ابن حنبل يتجرع العذاب إلى أن أطلقوه وظل أثر الضرب في جسده يتوجع منه حتى مات(30).

وفي سنة 221هجرية قتل الخليفة الواثق بيديه الفقيه أحمد بن نصر الخزاعي بعد مناقشة عاصفة بينهما في موضوع خلق القرآن، وقد أمسك الخليفة بالسيف وقال لمن حوله: "إذا قمت إليه فلا يقومن أحد معي فإني أحتسب خطاي تقربا لله لقتل هذا الكافر" . ومشى إليه وضرب عنقه،وأمر بصلب جثته (31) .

ولقد تشرب الخلفاء العباسيون أسس الكهنوت الذي تطور إلى درجة تأليه الخليفة وكونه بالاختيار الإلهي وتكاثرت الأحاديث المصطنعة لكي يقنع الناس – والخلفاء أنفسهم – بتلك الفكرة ومن هنا استنكف المأمون وخلفاؤه كيف يجرؤ ابن حنبل وابن نصر على المخالفة في الرأي .

عناصر الكهنوت العباسي

الجبرية

أشرنا إلى استمرار العصر العباسي في كراهية غيلان الدمشقي ومعبد الجهني أصحاب مذهب الإرادة الحرة ، وفي ذلك دليل على استمرار مذهب الجبرية السياسية ولكنه تحور في العصر العباسي ليصل بالخليفة إلى مرتبة الألوهية . ونأخذ مثلا على ذلك بتلك الخطبة التي ألقاها أبو جعفر المنصور يوم عرفة وقال "أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه ورشده ، وخازنه على فيئه أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه وقد جعلني الله عليه قفلا إذا شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وإن شاء أن يقفلني عليه قفلني ، فارغبوا إلى الله أيها الناس وسلوه في هذا اليوم الشريف .. أن يوفقني إلى الصواب ويسددني للرشاد ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم ويفتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم(32).

فالخليفة المنصور هنا يجعل نفسه متحدثا ومتصرفا عن الله وإرادته وهنا تحول من الجبرية الأموية التي تبرر الفعل البشرى بالمشيئة الإلهية إلى مبادرة عباسية تعلن أن الخليفة ظل الله على الأرض وأن جميع تصرفاته بمشية الله لا راد لها .والطريق الوحيد لتفادي هذه الجبرية هي التضرع لله لكي يلهم الخليفة الصواب والعدل. وبذلك يكون الله واسطة يتوسط عند الخليفة كي يرأف بالرعية ويحسن إليها .

وأبرز ما في خطبة المنصور أنها أشارت إلى أن فعل الخليفة منسوب لله ، وعليه فإذا قتل المنصور خصمه أبا مسلم الخراساني فإن ذلك الفعل منسوب لله وليس للمنصور،وإذا ضرب الخليفة المنصور الفقيه أبا حنيفة النعمان وسجنه فإن ذلك الظلم لا ينسب للخليفة وإنما ينسب لله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.وقد وصف المؤرخون أبا جعفر المنصور بأنه " دميم الصورة ذميم الخلق أشح خلق الله وأشدهم حبا للدينار والدرهم ،سفاكا للدماء ختارا بالعهود غدارا بالمواثيق كفورا بالنعم قليل الرحمة" أى أن الكهنوت العباسى ينسب كل تلك الصفات المذمومة لله جل وعلا..

وكانت للخليفة المنصور العباسى بطولات في تعذيب أبناء عمه العلويين حين ثار منهم اثنان عليه بالحجاز وفارس، فما كان من المنصور إلا أن جمع العلويين وحبسهم في جب تحت الأرض ضيق جدا حتى كان بعضهم يبول على بعض ولا يدخل عليهم الهواء وظلوا كذلك إلى أن ماتوا جميعا (32) . وبعد ذلك ينسب هذه المظالم لله تعالى.

وازداد الظلم في أواخر العصر العباسي، حيث قلّ وجود الفقهاء الناقمون ممن هم على شاكلة أحمد بن حنبل، وظهر صنف جديد هم الصوفية الذين تقربوا للحكام الظلمة في الولايات العباسية بالنفاق فأقاموا لهم الخوانق والزوايا والربط أى بيوت العبادة الصوفية، يقول ابن الجوزي ت597 هجرية: (وقد رأينا جمهور المتأخرين منهم مستريحين في الأربطة من كد المعاش متشاغلين بالأكل والشرب والغناء والرقص يطلبون الدنيا من كل ظالم.. وأكثر أربطتهم قد بناها الظلمة وأوقفوا عليها الأموال الخبيثة" (34).

وبسبب التحالف بين الصوفية والحكام الظلمة فقد أصبحت الجبرية أحد المعتقدات الصوفية،واكتسبت مدلولا جديدا في التصوف اسمه وحدة الفاعل ، ويعني أن الله تعالى هو الفاعل الحقيقي لأي تصرف يصدر من البشر وأنه الذي يحرك الجوارح إلى هنا وإلى هناك ، وأسهب أبو حامد الغزالي في شرح هذه العقيدة في كتابه المشهور إحياء علوم الدين (35) .وقصر كتابه" مشكاة الأنوار" على شرح تلك العقائد ..

ومن الطبيعي أن يترتب على ذلك أن تضاف أعمال الشر إلى الله تعالى ويصبح العاصي بريئا ويلحق الذم بالله تعالى ، وقد فطن إلى ذلك الحسن البصري حين تمسح العصاة في البصرة بمذهب الجبرية وألصقوا بالله تعالى رذائلهم فاعتبرها الحسن البصري من شر المحدثات " فإن ما ينهى الله عنه فليس منه لأنه لا يرضى ما يسخطه من العباد ، لأنه تعالى يقول " ولا يرضى لعباده الكفر " فلو كان الكفر من قضائه وقدره لرضى عن عمله (36).

ولكن هذه الأفكار الجبرية السياسية ما لبثت أن شاعت لتخويف المظلومين من الاعتراض ، وفيما بعد كان الفقيه الصوفي المصري عبد الوهاب الشعراني في العصر العثماني يجعل من أخلاق السلف الصالح أنهم يصبرون على ظلم الحكام لأن ذلك الظلم الذي وقع عليهم هم يستحقونه لأنه عقاب إلهي ، ويقول ( فإن الظالمين ما ظلمونا حتى ظلمنا أنفسنا أو غيرنا،ومن تأمل حال المظلومين في هذه الدار وجدهم من حيث الأداة كزبانية جهنم " وحذر الشعراني المظلوم من الدعاء على الظالم لأن الظالم لم يصدر عنه الظلم في الحقيقة وإنما هو أداة، وأن الظالم الحقيقي هو المظلوم الذي وقع في الذنب فاستحق العقاب،أما الحكام فإنما هم مسلطون بحسب أعمال الناس ، فالظالم مثل السوط الذي يضرب به فلا يصح أن تعتبر السوط ظالما لك (37).

إلى هذه الدرجة بلغ الكهنوت الديني الصوفي في تأييد الظلم في القرن العاشر الهجري .

الأحاديث

قدم الأمويين لنا أبا هريرة أقل الصحابة صحبة للنبي فجعلوه أكثر الصحابة رواية عن رسول الله ، وكذلك فعل العباسيون مع جدهم عبد الله بن عباس .

يقول الإمام ابن القيم الجوزية أن ابن عباس لم يبلغ ما سمعه من النبي عشرين حديثا (38). وهذا قول خطير من ابن القيم، وإن كنا نراه أقرب للصواب، فابن عباس لم يدرك النبي إلا وهو دون الحلم، وقد قضى طفولته في مكة في حين كان النبي يومئذ بالمدينة،ولكن شاءت الدولة العباسية أن ترفع من شأن جدها ابن عباس فأصبح أكثر الصحابة علما،وتبارى الفقهاء في نسبة الأقوال والاجتهادات إليه في الحديث والتفسير والفرق المذهبية والفقه والأحكام .

وإذا كان أبو هريرة بوقا للأمويين في الحديث والقصص فإن الكهنوت العباسي قد أضاف لابن عباس وغيره كثيرا من الأحاديث التي تتحدث عن ملك بني العباس وخلافتهم التي ستظل في أيديهم إلى يوم القيامة ، بل تتحدث عن الخلفاء العباسيين بالاسم واللقب.

وقد عقد السيوطي في كتابه " تاريخ الخلفاء" فصلا بعنوان ( فصل في الأحاديث المبشرة بخلافة بني العباس ومنها : أحاديث يرويها أبو هريرة، أن النبي قال للعباس فيكم النبوة والملك،أي أن العباسيين انتقموا من أبي هريرة بعد موته فوضعوا عليه ذلك الحديث رغم أنفه.وحديث آخر نسبوه لأبي هريرة أن النبي قال للعباس إن الله افتتح بي هذا الأمر وبذريتك يختمه " وحديث آخر " يكون من ولد العباس ملوك تكون أمراء أمتي" .ثم حديث ابن عباس يروي فيه أن أمه كانت حاملا فيه وقد أمرها النبي أن تأتي به إليه إذا ولدت ، هذا مع أن ابن عباس ولد بمكة ولم يكن بمقدور النبي وقتهاأن يدخلها،وتمضي الرواية فتقول إن الأم جاءت بابنها عبد الله فأعطاه النبي الاسم وباركه وقال إنه سيكون أب الخلفاء حتى يكون منهم السفاح وحتى يكون منه المهدي ويكون منهم من يصلي بعيسى بن مريم،وهذه بشرى بأنهم سيظلون في الحكم إلى أن تقوم الساعة .

وهناك حديث يرويه أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي يقول : حدثني أبي عن جدي عن ابن عباس أن النبي قال للعباس إذا سكن بنوك السواد وكان شعبهم أهل خرسان لم يزل الأمر لهم حتى يدفعوه إلى عيسى بن مريم . وحديث آخر " الخلافة في ولد عمي أخو أبي حتى يسلموها إلى المسيح ، وحديث فيه مدح الخليفة المهدي المشهور بقتل الزنادقة، يقول إن النبي محمدا دعا الله تعالى ثلاثا يقول: اللهم انصر العباس ، ثم قال ياعم أما شعرت أن المهدي من ولدك سيكون موفقا راضيا مرضيا .

ووضعوا في السفاح أول الخلفاء العباسيين حديثاً يقول "يخرج رجل من العباسيين بعد انقطاع من الزمان وظهور من الفتن يقال له السفاح فيكون إعطاؤه المال حثيثا" ، وواضح أن واضع الحديث كان حريصا على أن يصف الخليفة السفاح بالكرم لينال جزاء كثيراً.

وقالوا إن ابن عباس روى عن النبي حديث "منا السفاح ومنا المنصور ومنا المهدى.." أي يفخر النبي بأولئك الخلفاء. وهناك أحاديث كثيرة عن الخليفة المهدى منها " المهدى من ولد العباس عمى " "المهدى يواطىء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبى ".

وتعدى ذلك أن الخليفة بالاختيار الإلهي وأن الله يخلق الخلفاء بصورة متميزة عن باقي الخلق ، فيقول حديث منسوب إلى ابن العباس وأبى هريرة وأنس " إذا أراد الله أن يخلق خلقاً للخلافة مسح على ناصيته بيمينه ".

ومن الطبيعي بعد ذلك أن الاعتراض على الخليفة المنصوص على اسمه ولقبه إنما يكون اعتراض على مشيئة الله وقراره الذي لابد من طاعته، ومن هنا تقترن الجبرية السياسية بالأحاديث التي نسبوها للنبي عليه السلام.

وقد حرص الخلفاء العباسيون على تحصين الأحاديث بسياج من الإرهاب والتقديس حتى لا ينالها النقد واستعمال العقل ، يروي أبو معاوية الضرير أن رجلا من قريش استمع إلى حديث " احتج آدم وموسى " وذلك في مجلس الرشيد فتعجب القرشي قائلا: أين التقى موسى بآدم، فغضب الرشيد من ذلك التعليق وقال :القطع والسيف.. زنديق يطعن في حديث النبي،وما زالوا بالرشيد حتى عفا عن الرجل من القتل.والسبب واضح فإن باب الاعتراض على الأحاديث سيجر مشاكل كثيرة للملك العباسي القائم على الكهنوت الديني.

ويروي الصولي أن رجلا شتم قريشا فجيء به للخليفة الهادي فقال سمعت أبي المهدي يحدث عن أبيه المنصور عن أبيه محمد عن أبيه على عن أبيه عبد الله بن عباس أنه قال : من أراد هوان قريش أهانه الله ، وأمر بقتل الرجل .. أي أن الخلافة العباسية امتدت بكهنوتها لتشمل قريشا كلها.

وقريش تشمل الأمويين أيضا وهم أعداء العباسيين،ولكن حرص العباسيون على

الكهنوت الأموي فيما يخص الخلافة حتى لا يصل التطاول على مقام الخلافة الأموية إلي الخلافة العباسية،وقد كان الخليفة الأموي الوليد بن يزيد مشهورا بالمجون والزندقة، وقد ذكروا سيرته أمام الخليفة المهدى، فقال بعض الحاضرين :كان زنديقا،فقال المهدي مه!! خلافة الله عنده أجل من أن يضعها في زنديق (39)، فنسب الخلافة لله وجعلها باختيار الله تعالى لشخص الخليفة ومن هنا تكون للخلافة قدسية وللخليفة عصمة ومكانة بحيث لا يتطاول أحد على مقامه ، والمهدي لا يهتم بالخليفة الأموي الوليد بن يزيد ولكن يهتم بمقام الخلافة الذي يحتله وبالكهنوت الذي أصبح يحيط به .

وجدير بالذكر أن تلك الدعاية آتت أكلها فظل الناس يعتقدون أن ملك بني العباس سيظل إلى يوم القيامة كما أشاعوا في الأحاديث، وبلغ بهم ذلك مبلغ الإيمان حتى أن هولاكو والمغول تأثروا بالأساطير التي تجعل الهلاك من نصيب الذي يتعرض للخلافة العباسية ، وعقد هولاكو مجلسا عسكريا لبحث هذا الأمر كما يذكر الهمداني في تاريخ المغول ، وأخيرا تشجع هولاكو بنبوءة نصير الدين الطوسي الفلكي وهجم على بغداد (40). فأنهى الكهنوت العباسي وما أغنت عنهم الأحاديث التي اخترعوها .









الهوامش

(1)تاريخ بن كثير 5/336.

(2)قصة مقتل حجر بن عدى في تاريخ الطبري :5/253: 282.

(3) السيوطي ، تاريخ الخلفاء ص 105 .

(4) الطبري 6 / 159.

(5) العقد الفريد لابن عبد ربه : 5/46 مروج الذهب للمسعودى 3/105 .

(6) الطبقات الكبرى لابن سعد 6 / 188 :200 .

(7) المقدسي البدء والتاريخ 6 / 17 .

(8) القاضي عبد الجبار : طبقات المعتزلة244 . ابن العماد ، ذرات الذهب 1 / 88 – البغدادي – الفرق بين الفرق 17، الذهبي- ميزان الاعتدال 5/ 266 – طاش كبرى زاده: مفتاح السعادة 3/ 33 .

(9) القاضي عبد الجبار – طبقات المعتزلة 230 : 232 .

(10) التنبيه والرد : 165 : 177 .

(11) ميزان الإعتدال :5 /66 ، 302 – 4 / 258 .

(12) طبقات ابن سعد 7 / 1/ 28 ، 5 / 341 ،4 / 119 .

(13) الخطط المقريزية 3/ 120 : 124.

(14) طبقات ابن سعد 5/ 227 ،210 .

(15) ابن الجوزي أخبار الأذكياء 155 ،257.

(16) تاريخ الخلفاء للسيوطي ،590 .

(17) فجر الإسلام،160 .

(18) المسعودي ، مروج الذهب 2/193

(19) ابن سعد الطبقات الكبرى 5/ 147 ، 6/120 ، 126، 200 : 205 .

(20) القرطبي: جامع بيان العلم وفضله: 1/63 : 70 .

(21) الطبقات الكبرى لابن سعد 3/1 / 74 ،103، 108 .

(22) تأويل مختلف الحديث 49 .

(23) التفصيلات في كتاب الشيخ أبو رية: شيخ المضيرة.

(24) البداية والنهاية لابن كثير 8/120 شرح نهج البلاغة لابن الحديد 1/ 358 . والتفاصيل في كتاب شيخ المضيرة،أضواء على السنة المحمدية للشيخ أبي رية .187 /189 .

(25) تاريخ الطبري 7/ 495. المقديسي البدء والتاريخ 6/823: 83 .

(26) البدء والتاريخ 6/60 : 61 .

(27) المقديسي البدء والتاريخ 6/ 95.

(28) تاريخ اليعقوبي 3/ 104 ،115 .

(29) المقديسي البدء والتاريخ 6/ 98 ،100 ،104 .

(30) تاريخ الطبري 8/ 621 : 654 ،المقديسي محنة الإمام أحمد بن جليل 67 .

(31) تاريخ الخلفاء للسيوطي 543 .

(32) تاريخ الخلفاء للسيوطي 420 : 421.

(33) المقديسي : البدء والتاريخ 6/ 90.، 84 ،85 .

(34) تلبيس إبليس 169 .

(35) إحياء علوم الدين 4/211 :212.

(36) القاضي عبد الجبار : طبقات المعتزلة 316 .

(37) الشعراني : تنبيه المغترين 35 .البحر المورود 108: 109.الجواهر والدرر 183، 125 :126 .

(38) الوابل الصيب 77 ،ويرى الأمدي في كتاب الأحكام (2/578، 180 ) أن ابن عباس لم يسمع من النبي سوى أربعة أحاديث .

(39) تاريخ الخلفاء للسيوطي 30: 37 ، 400 ،409 ، 414 ، 434، 461 454 .

(40) جامع ا لتواريخ للهمذاني / 278 : 280 .