JustPaste.it

 

أسس البحث التاريخي

مقدمة

البحث التاريخيفريضة إسلامية دعا إليها القرآن حين حث على أن نسير في الأرض لنرى ما حدث للسابقين ونأخذ من ذلك العظة والاعتبار ، ويقول تعالى ( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ... لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب (يوسف 109 ، 111 )  

ومعنى ذلك أن القرآن الكريم سن المنهج العلمي الحديث في استقاء أحداث الماضين من آثارهم الباقية بعد فنائهم ، وركز القرآن الكريم على أهمية تحرى الحقائق عن الماضين من خلال بحث ما بقى من مساكنهم ، يقول تعالى عن عاد وثمود ( وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم . العنكبوت 38 ) وينعى على القرشيين أنهم يمرون على آثار مساكن الماضين دون أن يعتبروا من تاريخهم ( أفلم يهد لهم كم أهلكن قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى . طه 128 ). أي أن أصحاب العقول هم الذين يستفيدون من عبر التاريخ ودروسه .

والقرآن الكريم قص علينا سير الأنبياء السابقين والأمم البائدة وأمرنا بالتدبر والتفكر وصولا للعبرة من تاريخ الماضيين وذلك هدف أسمى للتاريخ أن يستفيد الإنسان من تاريخه ليرقى ويتطور . ولو فعل الإنسان لقام بمسئوليته كما يجب باعتباره خليفة لله في أرضه ينشر فيها الخير ، ولكنه تطور في أساليب الشر وسخر كل امكاناته العلمية والتاريخية في صراع لن ينتهي إلا بتدمير الإنسان  وحضارته .

والمسلمون أحوج البشر إلى البحث التاريخي ليصلحوا من شأنهم ويسترجعوا حضارة وقوة أسلافهم .

وفي هذه المحاضرات نلتقي مع أسس البحث التاريخي مما أفدناه من خلال الاشتغال بالبحث التاريخي .

سائلين الله تعالى التوفيق والغفران .إنه سميع قريب مجيب الدعاء .

 

أحمد صبحي منصور

  القاهرة أكتوبر 1983 .

 

                      أولا :الباحث قبل البحث

 

 

1ـ باحث التاريخ ليس باحثا عاديا ... من الباحثين من يجعل الجمادات مجال بحثه يستحضرها ويخضعها لتجاربه .ومن الباحثين من يتخذ الإنسان الحي مجالا لبحثه يفتش عن نفسيته والمكبوت من انفعالاته ،ومنهم من يغوص في جسد الإنسان بالمشرط يحاول أن يبحث عن الداء .

وباحث التاريخ مهمته أصعب من هؤلاء جميعا ... إنه يبحث في الإنسان الماضي الذي فنى ولم يبقى منه إلا آثاره أو ما كتب عنه وليس بالضرورة أن ما كتب عنه يمثل الحقيقة . ومهمة الباحث أن يعمل الحقيقة بغض النظر عن المكتوب أو غير المكتوب .

ثم إن الإنسان كائن معقد ولا يستطيع إنسان أن يفهم نفسه على حقيقته. فكيف بالإنسان أن يفهم غيره من البشر . ؟  حتى لو كان يعايشه ويساكنه ، بل هل يتمكن الباحث من فهم إنسان مضى واندثر ولم يبقى منه إلا آثار وكتابات قد تظهر بعض الحق ولكنها بالقطع لا يمكن أن تكون الحق كاملا ؟؟.

والإنسان ليس كائنا معقدا فحسب ولكنه أيضا كائن حضاري له عقل وعاطفة ، له تراث عقلي وعلمي وتراث أدبي وجداني وله حضارات قائمة وحروب دمرت حضارات بائدة ... له حياة سياسية كانت له فيها علاقات وحروب وله حياة اجتماعية كانت له فيها عادات وتقاليد ؛وله حياة دينية حفلت بالمختلف من العقائد والطقوس وله حياة علمية حفلت بالإنتاج الذهني الأصيل أو المستورد .. الخ ... وعلم التاريخ هو الذي يعني بكل هذا ...

فالتاريخ يدور حول الإنسان في كل عصر من العصور يرصد حركاته على الكوكب بالحرب وبالسلام بالتعمير أو بالتخريب بالتقدم أو بالتخلف ، يبحث كل تصرفاته ويقيم إنتاجه ويفلسف دوافعه وتصرفاته .

 

2- من هنا فباحث التاريخ أمامه مهمة صعبة ، عليه أولا أن يستعد لها على المستوى العلمي الثقافي وعلى المستوى العقلي الذهني .. فباحث التاريخ عليه أن يبدأ في بحثه ببناء نفسه ثقافيا بأن يقرأ ليس فقط في كتب التاريخ وإنما في كل المعارف الإنسانية وبخاصة ما يدور حول الإنسان والأرض .

وبعد القراءة العامة في الآداب والعلوم الإنسانية والسلوكية والتاريخ العام يركز القراءة في العصر الذي اختاره ميدانا لبحثه يقرأه قراءة متأنية .. حتى يعيش في العصر بخلجاته ونبضاته وأحاسيسه ومشاعره ... ذلك أن لكل عصر من العصور رائحة عقلية يعرفها من عاش يوجد أنه في هذا العصر قارئا ومنقبا وباحثا ... فالباحث إذا استغرق في قراءة عامة مدققة في تاريخ عصر من العصور ألقى نفسه دائما متعايشا مع ذلك العصر مصاحبا لأبطاله يتجسمون في خياله بعد طول المعاناة من القراءة   عنهم  والإحساس بهم  . ثم مع التكرار والمعايشة يتعود الباحث على تعبيرات العصر وطرقه وتفكيره ومثله وعاداته ،وهنا يكون الباحث خير مترجم لأحوال هذا العصر الذي يبحثه وخير وسيط ينقل بأمانة تاريخ العصر الذي يبحثه إلى أبناء جيله من العصر الذي يعيش فيه .

بيد أن استعداد الباحث ثقافيا وعلميا لا يغني عن شحذ عقله وتنمية ملكة النقد والتحليل لديه ... وعموما فمن شأن الباحث أي باحث أن يكون صاحب ملكة ناقدة . ولكن الذي يخص باحث التاريخ أن يسلط ملكته الناقدة ، ليس فقط على ما يقرأ في الكتب وإنما على ما يشاهد من أحوال الناس .

وتفسير ذلك أن الإنسان هو الإنسان مهما تباعد به الزمن وتناءت المسافات .. فالإنسان لا يزال هو الإنسان الأول بكل غرائزه وشروره .

لقد تطور الإنسان فعلا ولكن في المظهر فقط ، وبقى في داخله نفس الشر الذي كان يحمله الإنسان  البدائي الوحشي ، بل ربما كان ذلك الإنسان البدائي صريحا في عدوانه لم يعرف النفاق والمداهنة كما عرفها أحفاده من بني البشر . إن الصراع الإنساني لم ينته ولن ينتهي وفي هذا لم يفترق إنسان اليوم عن الإنسان البدائي اللهم إلا في تطور السلاح الذي يذبح به أخاه الإنسان .

وعليه فالإنسان المعاصر في سلوكه الطبيعي غير المفتعل – يعتبر ذخيرة حية أمام باحث التاريخ ،وما على باحث التاريخ إلا أن ينمي في نفسه ملكة النقد والتحليل لكي ينفذ بعقله وراء الظواهر  الخادعة في مجتمعه ليصل إلى المضمون المختفي في قاع النفس البشرية والذي هو بالقطع موجود في كل عصر مهما اختلفت الظروف والأشكال .

إن نظرة الباحث التاريخي إذا كانت عميقة ثاقبة ووجهها بوعي نحو أنماط مختلفة من مجتمعه لإفادته حتما في بحثه لاسيما إذا كان قد اتخذ لنفسه مجال البحث في المجتمعات ،إذ أن من عادة المجتمعات أن تحتفظ في أعماقها بالكثير من التفصيلات خصوصا المجتمعات المحافظة كالبيئات الشعبية والزراعية التي تميل للتقليد وتعيد سيرة الأسلاف بوعي أو بدون وعي .

3- وهذه النظرة من باحث التاريخ لا تتوقف على مجرد العلم و الثقافة ، إنها تستلزم أيضا قدر كبير من الوعي العقلي والحس التاريخي وبالوعي والحس يتمكن الباحث من تطويع المادة التاريخية المجردة إلى أشخاص أحياء يراهم بعينه ، والوعي التاريخي يميز بين المؤرخ الباحث وغيره من القراء العاديين للتاريخ ، وبالوعي التاريخي يكون التمايز بين باحثي التاريخ ...

  وما من شك أن الوعي العقلي يرتكز على أساس متين من الثقافة الإنسانية المتنوعة و حصيلة وافرة من العلم بالتاريخ العام ، إلا أنه يسمو بهذه الحصيلة العلمية التاريخية إلى نقد الحوادث التاريخية وتحليلها وكشف خباياها والترجيح بين رواياته التاريخية ، أو بمعنى آخر يحول المادة التاريخية الخام إلى فلسفة للتاريخ قائمة على تحليل الدوافع و بيان الأسباب .

4- ومن المعلوم أن هناك ما يعرف " بالتاريخ بالرواية " وهو سرد روايات التاريخ وحوادثه ويرتكز جهد المؤرخ هنا ـ إن أراد إظهار شخصيته ـ على تحرى الصدق في الرواية والتثبت من صحتها معتمدا على نقد الرواة وبيان حالهم من الصدق أوالكذب من الحفظ والنسيان من الغرض والهوى ... وقد قام المؤرخون القدامى بهذا الجهد فأوصلوا لنا التاريخ  أحداثا باليوم والشهر والسنة عبر سلسلة من الروايات والرواة. وبعضهم بحث حال الرواة وحكموا بعدالة بعضهم وتضعيف الآخرين وكذبهم . وبعضهم قارن بين الروايات ورجح بعضها كما فعل ابن خلدون ،وبعضهم اكتفى بإيراد الرواية الصحيحة بعد جهد عقلي لا شك فيه – أهمل فيه الرواية الضعيفة وأتى بالصحيح منها . وهذا ما فعله ابن الأثير فيما نقله عن الطبري .            

والمهم أن المؤرخين القدامى أوصلوا لنا التاريخ رواية وأحداثا ... ومادة خاما . 

وبقي على باحثي اليوم أن يتحول التاريخ بالرواية على أيديهم إلى  (التاريخ بالدراية) أو فلسفة التاريخ . فالحوادث قد وصلت وفيها قدر كبير من الصحة وبقى أن نعللها وأن نبرز الخفي من دوافعها .. إذا ذكرت حادثة ما نتساءل لماذا ؟ وكلمة لماذا هذه هي أساس التاريخ بالدراية... وهذا هو المطلوب الحقيقي من باحثي التاريخ اليوم. وتلك مسئوليتهم .       

ولكي يكون باحث التاريخ على قدر المسئولية لابد أن يبدأ بإعداد نفسه علميا وثقافيا وينظر بعين قلبه إلى الظواهر الإنسانية مستكشفا عن بصيرة ووعى،وإذا اكتملت لديه الملكة العلمية والملكة بالوعي والحس التاريخي أمكن له –بعون الله وتوفيقه أن يكشف أستار المجهول من أعماق التاريخ ويقترب أكثر من حقائقه.  

 

                                     ثانيا: اختيار موضوع البحث

 

(أ )اختيار العصر:-

 

1- يستعد الباحث التاريخي ثقافيا وعقليا لخوض تجربة البحث  . وبعد أن يكتمل محصوله الثقافي من المعارف العامة ومن القراءة العامة في التاريخ يشعر بانجذاب نحو عصر معين يهوى القراءة فيه ويحس بالحاجة لان يرتبط به علميا وبهذا يكون اختيار العصر التاريخي الذي سيكون المجال الزمني للبحث . 

على أن هوى الباحث نحو عصر معين ينبغي أن يعزز برغبة علمية في إظهار المجهول فيه ، ويا حبذا لو تجسدت هذه الرغبة العلمية في قضية معينة أخذ الباحث على عاتقه أن يبحثها ويمحصها ويظهر وجه الحق فيها . ولو فعل لأراح نفسه من عبء الاختيار التالي بعد اختيار العصر- إلا وهو اختيار موضوع البحث داخل هذا العصر .

ولكن يحدث أحيانا أن الباحث يصر على عصر معين نتيجة لدوافع عاطفية أو تقليدا لبعض الباحثين أو استسهالا للعصر ورغبته في تخفيف العبء . وهذا النوع من الباحثين لن يرجى منه خيرا مطلقا ... إذ أن اختيار العصر لابد له من أسس علمية موضوعية تحبذ اختيار هذا العصر بالأضافة إلى رغبة الباحث فيه ، وقد نوهنا بأهمية الرغبة والهوى في ذلك الاختيار بأن الباحث إذا استراح نفسيا لموضوع بحثه كان ذلك عونا له على مشاق البحث ووعورته .      

2- وبعد اختيار المجال الزمني للبحث التاريخي – أو العصر التاريخي للبحث – تكون القراءة فيه على مستويين ..-

الأول:مستوى البحوث التي كتبها المتخصصون في هذا العصر فيقرأ بتمعن ما كتبه الباحثون في نواح مختلفة عن هذا العصر رجاله وسياسته وحضارته وأحواله الاجتماعية والثقافية والسياسية ، وسيخرج من هذه القراءة المتأنية بأكثر من قضية تلوح له بين السطور حين القراءة ولابد له من تسجيل ما يطرأ له من أفكار ..ويحدث كثيرا أن بعض هذه الأفكار بعد عدة قراءات تنمو وتصبح نواة يختار على أساسها موضوع بحثه .   

الثاني : ثم يعزز الباحث قراءاته بالاستزادة من المصادر التاريخية للعصر على أن تكون تلك المصادر التاريخية مما اعتمد عليها الباحثون الذي قرأ لهم بحوثهم عن ذلك العصر . فمثلا من اتخذ لنفسه مجال العصر العباسي الثاني يقرأ الأبحاث التي كتبت عن هذا العصر ثم يعززها بالرجوع إلى تاريخ الطبري وتاريخ ابن الأثير مثلا.. ويستحسن أن يرجع إلى قائمة المصادر الموجودة في ذيل الأبحاث المكتوبة ويستعين ببعض هذه المصادر الأصيلة ، ويقارن بينها وبين البحوث التي اعتمدت عليها ليعرف كيف استعان الباحث بها واعتمد عليها .

3- ولابد أن يخرج الباحث بعد هذه القراءة المركزة ببضع موضوعات يرى أنها تستحق أن يختار منها موضوعا لبحثه ... وقد نبهنا إلى ضرورة أن يسجل أفكاره عما يقرأ  وعما يرد على ذهنه من أفكار جديدة أو موضوعات تستحق البحث والتعقيب . ومن محصلة قراءاته وما سجل من أفكار يتمكن من صياغة أفكاره عن الموضوعات التي يقترحها مجالا لبحثه . ويصوغ هذه الأفكار عن كل بحث مقترح في هيئة نبذة عن الموضوع ومصادره والخطة المقترحة للبحث . وهى خطة لا شك نابعة من القراءات الأولى وهى مهما كانت متعمقة فهى لا تزال في بداية الطريق ولذلك فتلك الخطط التي تكتب بعد القراءات الأولى كلها خطط مبدئية قابلة للتغيير كلية وتفصيلا .

وهكذا تنتهي القراءة المركزة باختيار العصر .. ثم يخرج الباحث بعدها إلى اقتراح عدة موضوعات للبحث ويذهب بهذه الموضوعات إلى أستاذه يسأله المشورة ...ليختار موضوعا محددا في ذلك العصر الذي اختاره ، والأستاذ في العادة يمد الطالب بآراء قيمة في الموضوعات التي اختارها الطالب بنفسه . إلا أن المسئولية في نهاية الآمر تقع على عاتق الطالب نفسه ، إذا أحسن الاختيار فلنفسه وإن أساء فعليها .

( ب ) اختيار الموضوع:-

  • إذا كان اختيار العصر التاريخي مشكلة لباحث التاريخ فإن تحديد الموضوع داخل العصر هو مشكلة أكبر . وبعض الطلبة في مرحلة الدراسات يتعجل تسجيل موضوعه في الماجستير أو الدكتوراة نظرا لأن هناك موعدا محددا للتسجيل خلال شهري مارس وأكتوبر من كل عام فيسرع الطالب باختيار موضوع قرأ عنه قراءة سطحية ويسرع بأخذ موافقة المشرف عليه ويسجله . وبعد أن يتعين عليه بحث ذلك الموضوع الذي اختاره بتسرع يكتشف بعد فوات الأوان خطأه الفادح . فقد يكون الموضوع واسعا شاملا لايمكن الاحاطة به في رسالة واحدة ، أو قد يكون الموضوع ضيقا لا تسعفه المصادر بمعلومات عنه فيضطر بعد عدة سنين من المعاناة أن يغير الموضوع أو يعدل فيه . ومعنى ذلك أنه يبدأ من جديد وتضيع عليه معاناة  سنين لأنه تسرع طمعا في عدة أشهر .

 

2- ومن اختيار الموضوع أيضا تنبع مشكلة اختيار العنوان المناسب للموضوع . فينبغي أن يعبر العنوان بكل جزئياته عن حدود الموضوع وأجزائه . فمن يبحث ( أثر التصوف في مصر العصر المملوكي مثلا إذا اختار العنوان السابق بحذافيره كانت خطته المثلي كالاتى :- 

تمهيد قصير عن التصوف عقيدة وتاريخا إلى العصر المملوكي ثم بعدها يدخل في صلب الموضوع فيبحث أثر التصوف السياسي  وأثره الاجتماعي وأثره العلمي والتعليمي والمعماري ...إلخ أما إذا كان العنوان هكذا ( التصوف وأثره في مصر العصر المملوكي ) فقد تغيرت الخطة تغيرا كليا ... إذ ينبغي عليه حينئذ أن يقسم بحثه إلى قسمين يبحث أولا التصوف بحثا كاملا عقيديا وتاريخيا ثم في القسم الثاني يبحث أثره ... وهكذا ترى أن تحديد العنوان مرتبط بخطة البحث وتقسيم أبوابه وفصوله .وبعض الباحثين ينسى ذلك الارتباط بين العنوان والرسالة فيقع في خطأ منهجي يمس صميم البحث .

3-على أن هناك تدرجا في المستوى العلمي للموضوع المراد بحثه حسب المستوى العلمي للباحث . فالطالب في مرحلة الدراسة بالكلية يعين له الأستاذ بحثا من العادة أنه كتبت فيه قبل ذلك أبحاث ومراجع . ويقصد الأستاذ أن يتدرب الطالب نفسه على طريق البحث فيقرأ أكثر من مؤلف في موضوعه ويحاول أن يجمع من بينها بالتلخيص بحثا ـ لا يطلق عليه اسم البحث إلا تجاوزا ، وإلانسب أن يقال فيه محاولة لخلق باحث وتدريبه .    

وفى مرحلة الدراسات العليا حيث يدرس الطالب سنة أو سنتين تمهيديتين يكلف الطالب ببعض أبحاث جزئية وفيه يكون حظه من الدراسة أكبر مما كان عليه في مرحلة الدراسة بالكلية ... ومقصود بهذه الأبحاث الجزئية أن يستعد الطالب لمرحلة التخصص ورسالة الماجستير وفيها يحضر الطالب رسالة كاملة عن عصر تاريخي  معين أو شخصية تاريخية معتمدا في ذلك على المصادر التاريخية الأصلية من حوليات ووثائق وغيرها بالإضافة إلى الأبحاث المنشورة .    

ثم يصل الطالب بعدها إلى مرحلة العالمية أو الدكتوراة ....

وحينئذ يطالب ببحث على مستوى رفيع يتناول فيه قضية تاريخية في عصر معين أو جزئية يتعمق في بحثها ويظهر الجديد في بحثه معتمدا على كافة ما يعينه من مصادر مخطوطة وأصلية ووثائق ودوريات بالعربية وغيرها . و باجتياز هذه المرحلة يكون الطالب قد اكتمل إعداده باحثا في الميدان الذي اختاره .

 

 

                                   ثالثا : التعامل مع المصادر التاريخية

 

 

 

الباحث الآن قد أعد نفسه ثقافيا وعقليا وقرأ في كتب التاريخ العام حتى استقر على عصر معين ثم قرأ بتمهل في تاريخ ذلك العصر حتى وقع اختياره على ناحية فيه لتكون موضوعا لبحثه ثم اختار العنوان المناسب للموضوع . بعدها عليه أن يبدأ البحث الفعلي وذلك بالتعامل مع المصادر التاريخية التي يستقى منها مادة البحث . 

1- والمصادر التاريخية تتنوع من حيث الشكل إلى مخطوطات أو مصادر أصلية لا تزال مخطوطة ، ومصادر مطبوعة بدون تحقيق علمي ومصادر مطبوعة محققة منشورة ومصادر مطبوعة محققة غير منشورة كأبحاث الماجستير والدكتوراة التي لم تنل حظها من النشر ثم بعد الكتب المخطوطة أو المطبوعة نصل إلى الوثائق وهي غاية في التنوع شكلا ومضمونا وثائق عبارة عن

مراسلات سياسية ، أو مذكرات يكتبها أصحاب الشأن لأنفسهم ، ووثائق عن عقود للبيع أو الشراء أو الوقف ، ووثائق سجلات رسمية في الدواوين تنظم الخراج والضرائب والدخل والمنصرف .... وكلها تكشف أسرار العصر الذي كتبت فيه من نواحيه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية .  

2- وتتنوع المصادر التاريخية من حيث المضمون أيضا فهناك مصادر أصلية وهى كتب التاريخ الحولية التي كتبها مؤرخو العصر المراد بحثه وكلما كان المؤرخ قريبا من عصره كلما ارتفعت القيمة العلمية لكتاباته ... وذلك أن المؤرخ حينئذ شاهد على عصره يسجل حوادثه اليومية والشهرية وتتسع صفحات تاريخه لتسجل حياة  الناس العاديين ونبض الشارع في عصره ومختلف النشاطات العلمية والثقافية والاجتماعية فضلا عن أخبار الحكام وتحركاتهم وانعكاسها على المستوى الشعبي . والواقع أن الأجزاء الأخيرة من كتب الحوليات حوت الكثير من هذه التفصيلات ومهمة الباحث أن يتوفر عليها قارئا متمعنا ليعيش واقع العصر الذي يبحثه ويستطيع التعبير عنه كأحد أبنائه .  

3- ومن المصادر الأصلية كتابات غير تاريخية إلا أنها تكشف عن نواحي هامة في العصر الذي كتبت خلاله ... مثل الوثائق المختلفة والتي أشرنا إليها ... فهذه الوثائق لم يقصد بها أن تكون تاريخا للعصر وإنما كتبت للغرض الذي صيغت من أجله كالمراسلات والعقود والسجلات إلخ ... ولعلها بذلك تكون أقرب للتصديق والثقة .... فكاتبها ليس مؤرخا يكتب معبرا عن وجهة نظره أو عما يحب أو يكره ويقصد أن يؤثر على القارئ من خلال ما يكتب ... فهذا حال المؤرخ ـ الذي ينقل الأحداث من وجهة نظره في الأغلب . أما كاتب الوثيقة فقد كتبها للغرض الذي كتبت من أجله فقط ثم حفظت هذه الوثائق وبمرور الزمن أصبحت شاهدا على العصر وظروفه وتعاملاته .

4- ومن المصادر الأصلية غير التاريخية الكتابات التي تعبر عن ثقافة العصر ومعتقداته ، ويأخذ الباحث منها ما يناسب موضوعه فمن اختار الحياة العلمية في عصر ما عليه بالرجوع إلى مؤلفات العصر المتنوعة من حديث وتفسير وخلافه ... ومن اختار ناحية في النظم كالقضاء . عليه بالرجوع لما كتب في هذا المجال في عصره بالإضافة إلى كتب الفقه التي دبجها الفقهاء في عصره . ومن توفر على درس الحياة الاجتماعية في العصر فعليه بالرجوع إلى كتب الأدب ـ فالأدب دائما صورة للحياة وكتب التراث الشعبي إن وجدت ـ والمسامرات ،ويتسع المجال أمامه ليرصد كل ما كتب في ذلك خاصا بالمجتمع وطوائفه وعاداته وتقاليده ومعتقداته في كتب الفقه ـ وفي بعضها تعليق على ما في المجتمع ونقد له .مثل كتاب (المدخل ) للفقيه ابن الحاج العبقري وقد اتخذ منهجه الفقهي طريقة الاعتراض عما يحدث في عصره فأتى كتابه جامعا بين الفقه والتاريخ وإن لم يقصد أن يؤرخ لعصره ومجتمعه.    

5-على أن هذه المصادر غير التاريخية تختلف حسب طبيعة العصر المراد بحثه كما تختلف حسب الموضوع .

فلكل عصر سماته العقلية والدينية والاجتماعية ،وهذه السمات المختلفة لكل عصر تؤثر بلا شك على أتجاه المؤلفات فيه وعددها وقيمتها ... ثم تأتي الاختلافات السياسية والجنسية والعرقية لتزيد من اختلافات العصور وتزداد معها الاختلافات في الإنتاج العلمي لكل عصر ... والمؤرخ الذي يبحث عصرا معينا عليه أن يعايش منذ البداية ـ  هذا العصر ليدرك مميزاته وعيوبه وسماته الشخصية التي ينفرد بها. 

وعلى سبيل المثال فالعصر المملوكي كانت من سماته الأساسية سيطرة التصوف عليه ،وانعكس هذا على اتجاه المؤلفات وقيمتها العلمية ،وبرز جانب هام من المؤلفات كان يشيد بمناقب الأولياء الصوفية وما لهم من حظوة عند الله بزعمهم وما لهم من تصريف في الكون وما يتمتعون به من تقديس الناس ... وكتب المناقب هذه خير معين على فهم نفسية العصر المملوكي ومعتقداته الدينية والاجتماعية .. وفيها نبض العصر المملوكي الفعلي .    

وإذا انتقلنا إلي العصر العثماني وجدنا السمات الأساسية فيه الجمود والتخلف مع شدة التأثير الصوفي ،ولذلك كله انعكاساته على نبض العصر ومؤلفاته وتحركاته ..    

وعليه فالباحث مطالب بفهم نفسية العصر ، ورجوعه إلى تاريخ وفيات المؤلفين سيضعه أمام الاتجاه العام لمؤلفي عصره إذا راجع مؤلفاتهم ... ومن هنا يتمكن الباحث من تحديد المصادر غير التاريخية التي تعينه في بحث موضوعه في ذلك العصر .  

6- ومن الضروري للباحث أن يكتب في مفكرة خاصة خواطره وتعليقاته على كل مصدر اعتمد عليه واتجاه مؤلفه ومدى ما استفاده من ذلك المصدر ليذيل بذلك تعليقاته على المصادر عند الانتهاء من كتابة البحث.

 

رابعا:جمع المادة التاريخية وتنظيمها

 

 

 

1- من الطبيعي أن يكون لدى الباحث تصور مبدئي لتقسيم موضوعه إلى أبواب وفصول ـ أو ما يعرف بالخطة المبدئية ـ وهذه الخطة كما سبق قابلة للتعديل الجزئي أو الكلي حسب مقتضيات البحث .

2- ومن الطبيعي أن يسلم الباحث نفسه للموضوع والمصادر ويترك للمادة العلمية أن توجه عدد الفصول وترتيب الأبواب حسب الأهمية والكثرة والقلة فالباحث لا يفرض رأيه على حوادث التاريخ وإنما يمشى وراءها يرصدها ويجمعها ..    

3-ويبدأ الطالب بجمع المادة التاريخية لموضوعه من الأبحاث وثيقة الصلة بموضوعه وبعصره، كنوع من الاسترشاد ولا بأس أن يحتفظ ببعض أراء الباحثين إذا أراد مناقشتها أو تأييدها حسبما يظهر له بعد أن يوغل في البحث ويكون له فيه رأيا، وبعد المادة التي يجمعها من الأبحاث يولي وجهه شطر المصادر الأصلية، وقد توفر لديه العلم الكافي بها من خلال دراساته عن العصر ومؤلفيه واتجاهاته .           

4-ثم يجمع الطالب المادة التاريخية من المصادر الأصلية من خلال الخطة المبدئية التي يسير عليها،وذلك بأن يقرأ المصدر قراءة واعية متعمقة وإذا صادفته حادثة أو واقعة تختص بموضوعه أثبتها في كارت خاص فيه أسم المصدر وأسم المؤلف ورقم الجزء والصفحة وحال المصدر مخطوطا كان أم مطبوعا ورقم المخطوط أو تاريخ سنة الطبع وعنوان الفصل في بحثه الذي تنتمي إليه هذه الحادثة أو المعلومة وهكذا ... لا ينتهي من قراءة المصدر إلا وقد تجمعت لديه ذخيرة من المادة العلمية تغطي فصول الرسالة أو بعضها .. ويتعامل مع باقي المصادر بنفس الشكل .          

5- ثم إذا تجمع لديه قدر لا بأس به من المادة التاريخية المأخوذة من عدد كاف من المصادر الأصلية فعليه أن يتوقف معها يعيد قراءتها وتنظيمها وفق المنهج الذي اتبعه في تقسيم البحث إلى فصول وأبواب ،... وهنا سيجد المادة العلمية قد تشكلت إلى قضايا علمية داخل الفصول وقد تنشىء فصولا جديدة أو تؤثر تأثيرا ملموسا على الخطة المبدئية للبحث فيعيد صياغتها حسبما توجهه المادة العلمية .   

6- وبتكرار جمع المادة وبتكرار الاعتماد على المصادر يتوقف الباحث حينا بعد حين ليعيد التنظيم والترتيب والقراءة إلى أن يصل إلى النقطة النهائية وقد اكتمل لديه جمع المادة من جميع المصادر التاريخية الأصلية والمصادر الأصلية غير التاريخية وأبحاث المحدثين . وينظر الباحث إلى هذا الكم الهائل من المعلومات نظرة أخيرة في الترتيب، فيجد الأبواب قد اكتملت حوادثها والفصول داخل الأبواب قد تنوعت إلى أجزاء كلها أو بعضها قد اكتمل أو قارب الاكتمال . هنا يتوقف الباحث مع المادة التي جمعها ورتبها ليخطو خطوة أخرى ... هي النظر في المادة .   

 

 

 

                              خامسا:النظر في المادة التاريخية 

 

 

يقصد بالنظر هنا التدبر والتفكر وأعمال العقل فيما جمعه الباحث من مادة علمية تغطي شتى جوانب الموضوع وقد آن الأوان لكي يتوقف معها ناقدا متفحصا في ضوء الشكل الأخير الذي أصبح عليه التخطيط للبحث .    

1- فالباحث قد يجد فجوات تاريخية بين الاحداث وعليه أن يملاء هذه الفجوات إما بالرجوع مرة ثانية للمصادر التي اعتمد عليها أو بمصادر أخرى يحاول استكشافها. وإن لم يجد ركن للاستنتاج العلمي يسد به الفجوات معتمدا على فهمه لأرضية الحوادث وطبيعة العصر وأبنائه . ولابد أن يثبت مبرراته في ذلك الاستنتاج في أدلة واضحة .

2- وقد يجد الباحث روايات متعارضة في حادث واحد وعليه أن يوازن بين الروايات ويصل إلى الرواية الصحيحة ويبين أسباب ترجيحه لها ويظهر الضعف في الروايات الأخرى وكل ذلك بأدلة واضحة .   

3-وقد يجد الباحث اتفاقا في روايات .. إلا أن عقليته لا تستسيغ هذا الإجماع من المؤرخين على وقوع هذا الحدث وروايته بالشكل الذي تكرر في المصادر التاريخية ، وليس معنى الاتفاق في الروايات أنها حدثت فعلا .. أذ أن العادة في مؤرخي الحوليات أنهم ينقلون بعضهم عن بعض كما أن العقلية تختلف . فما كان يؤخذ بالتسليم في العصور السابقة لا تقبله عقولنا اليوم .. وعليه هنا أن يورد الرواية مثبتة في المصادر التي روتها ثم يناقشها ويظهر فسادها .. من ذلك ما تكرر في حوليات العصر المملوكي عن (جمل) طاف بالكعبة ثم حادث الناس ومات وحين مات لم تقترب الكلاب من جثته . وواضح أن المؤرخين الذين كتبوا هذه الرواية كانوا بعيدين عن مكة وإنما نقلوها بالسماع عن من لا يؤمن كذبه ، وكانت عقلية العصر تستسيغ هذه المبالغات. فنقلها مؤرخ معاصر لهذه الإشاعة وجاء من بعده فنقلها مصدقا للمؤرخ وللإشاعة، حتى إذا قرأناه اليوم وجدنا إجماعا على حدوثها في نفس الزمان والمكان لو أهملنا العقل لصدقناها ..                      

4-ولا ريب أن المؤرخ يستعين في نظره للمادة العلمية على معايشة للعصر وفهمه ولرجاله ومؤرخيه ولا بأس هنا من الرجوع لما كان يكتبه عن كل مصدر ومؤلفه من تعليقات تنم عن اتجاه المؤرخ وعقليته إذ أن هذه المعلومات هامة جدا في الحكم على ما يورده المؤرخ من أحداث ،فالمؤرخ كما هو معلوم إنسان يلون الإحداث التاريخية بوجهة نظره ويطبعها بطابعه ، وأكثر من هذا قد يكون للمؤرخ مذهب سياسي أو دينيي يؤثر عليه في روايته للأحداث ويجعله يبالغ في الهجوم على خصومه في الرأي إذا كانوا له معاصرين أو سابقين .           

مثال ذلك ابن خلدون كان يميل للفاطميين فدافع عن نسبهم وتبعه فى ذلك المقريزي ،وجاء السيوطي وكان يميل للعباسيين فملأ كتبه بالطعن في الفاطميين وحلفائهم وأعمالهم .    

والسخاوي كان حاد الطبع عنيفا على معاصريه من العلماء المحدثين فرماهم بالضعف والانتحال ،بهذا رمى السيوطي ورد عليه السيوطي . وكل منهما أرخ للآخر ،فالسخاوي لمز السيوطي في كتابه (الضوء اللامع ) والسيوطي ألف في السخاوي (الكاوي في الرد على السخاوي ) وتجاهل السخاوي كلية في كتابه (حسن المحاضرة ) فلم يذكره من بين المؤرخين أو المحدثين ... مع أنه ذكر من هم أقل منه معرفة بالحديث والتاريخ .    

5- فالخصومات المذهبية والشخصية بين المؤرخين لها أثرها في أيراد الحقائق التاريخية لهذا تنوه بأن يكون لدى الباحث في عصره إلمام كاف برجال العصر وعقلياتهم ويخص المؤرخين بالذات حتى لا ينزلق إلى تصديق بعض الروايات أو تكذيبها وهو لا يعلم بحقيقة الأمر فيها.   

6-وقد يمعن الباحث النظر في المادة العلمية المكتملة لديه فيسنح له خاطر بمناقشة قضية علمية وجد معه بعض أدلتها أو تفتح له موضوعا جديدا لم يكن في حسبانه – وإنما يخدم البحث، وقد يطرأ له تفكير في ترتيب الفصول أو تعديلها ، وهذا الترتيب وذلك التعديل يستلزم الرجوع ثانيا إلى المصادر ليستقي منها المزيد مما يحتاج إليه. بل ربما يتذكر حوادث بعينها كان يقرؤها في قراءته الأولى ورأى أنها غير هامة ولم يهتم بإثباتها وجمعها . وبعد أن تعمق في البحث رأى أنها ضرورية وفي ذلك كله يتعين عليه الرجوع ثانية إلى المصادر لاستكمال النقص ، وهذه أمانة العلم التي ينبغي أن يتحلى بها الباحث ولا يعفيه من المسئولية التكاسل أو ضيق الوقت أو التسرع أو الانتهاء من البحث . وذلك أن الباحث طالما اختار البحث العلمي طريقا لحياته فعليه أن يكون مخلصا لهذا الطريق أمينا عليه يخشى الله وحده ، والعلماء أحق الناس بخشية الله .              

7- ومن الطبيعي أن النظر في المادة العلمية ينتج عنه إهمال لبعض المعلومات على اعتبار أنها أقل أهمية وتخدم البحث والباحث في إعطاء الخلفية التاريخية للحدث أو يمكن بها كتابة حواشي وهوامش تلقي أضواء على المكتوب في المتن . والواقع أن الباحث عليه أن يضع في اعتباره منذ بداية جمع المادة أن يجمع بعض المعلومات ذات الصلة بالبحث وإن لم تكن داخلة في صلب الموضوع .. إذ أنه ربما يحتاج لهذه ـ المعلومات فيما بعد ـ وقد يتراءى له بعد أن يتعمق في البحث أن بعض تلك المعلومات أساسي ويحتاج إليه في أساس البحث .. وبذلك يوفر على نفسه عبء  الرجوع ثانيا إلى المصادر وقراءتها للمرة الثانية بحثا عن معلومة بعينها وسط ألاف الصفحات.       

8-وبعد أن يستكمل الباحث النظر في مادته العلمية ويسد الفجوات فيها يجدها مرتبة منظمة يسلم بعضها إلى بعض ، الحوادث فيها مثل الشريط السينمائي الذي يقص حكاية متتابعة الحركات واللفتات ... ومن الأفضل له أن يجعل لها أرقاما مسلسلة يكتبها على ظهر (المظروف ) الذي يتناول حادثة معينة ، ثم يرتب خطوات الحادثة الواحدة في كل مظروف .ومن مجموع ترتيب ( المظروفات ) تتكون الأبحاث الجزئية في كل فصل ومن كل فصل تتكون الأبواب وهكذا ... وكل ذلك خاضع لترتيب رقمي يسهل على الباحث مهمته .. ويمكنه بعدها أن يصيغ المادة العلمية.                

 

 

                         أخيرا :كيفية كتابة البحث التاريخي

 

الآن أمام الباحث ما جمعه من مادة تاريخية وقد نظمها وسد الفجوات بينها وكتب تعليقات على الروايات ولم يبق أمامه إلا أن يكتب بحثه ويعرض موضوعه بالصيغة العلمية التاريخية المناسبة .  

1- ومن المناسب لباحث التاريخ أن  يكتب بالأسلوب العلمي الدقيق الذي يؤدى المعنى باستقامة وبدون زيادة أو نقص حيث يوضع اللفظ بحساب في خدمة المعنى المقصود .

ومعنى هذا أن يبعد الباحث عن الأسلوب الحافل بالصور البديعية والبيانية لأن ذلك يعوق وصول الحقيقة التاريخية للقاريء ثم هو يطبعها بطابع المبالغة والإسراف .

ومعناه أيضا أن يبتعد الباحث عن الأسلوب الملتوي والألفاظ التي تحتمل أكثر من معنى ، والأفضل أن يكون المعنى بسيطا ومباشرا وموصلا للغرض المقصود  بسهولة ويسر .

وليس معنى الأسلوب العلمي أن يعمد الباحث إلى الجفاف والخشونة إذ أن من الممكن أن يجمع الباحث بين طلاوة الأسلوب وحلاوته وجاذبيته مع روح الأسلوب العلمي القائمة على توصيل الحقائق للقارىء  بأقرب الطرق وابسطها . ومن الممكن أن يلتزم الباحث الجمل القصيرة السهلة ولا بأس أن يضفى عليها من شخصيته وطريقته في التعبير مما يخدم توصيل المعنى للقارىء  بسهولة ويسر .

والواقع أن التوسط بين دقة الأسلوب وروعة الكتابة الأدبية الفنية هي الأسلوب الأمثل الذي يجمع بين العلمية والفصاحة ، وإن كان ذلك غير متيسر بالنسبة للكثيرين أو هو السهل الممتنع ، ويمكن للباحث أن يتدرب عليه في كتابة بحثه بأن يعيد الصياغة في الفصل أو الصفحة أكثر من مرة لتصل في أبهى صورة ممكنة

2- والباحث يكتب الرسالة العلمية بأسلوبه هو . ولكنه يعتمد على نصوص تاريخية كتبها المؤرخون في العصر الذي يبحثه ، وقد يناقش أراءا  لكتاب محدثين لهم أسلوبهم المختلف عن أسلوب الباحث......

فكيف تحل هذه المشكلة ؟ هل تكون الرسالة العلمية مجموعة من الأساليب المختلفة ، أسلوب الباحث وأساليب المؤرخين وأساليب الباحثين الآخرين الذين عرض الباحث لأرائهم ؟؟

ينبغي أن يبتعد قدر الامكان عن ( كرنفال ) الأساليب هذا... وأن يطبع رسالته بطابع أسلوب واحد هو أسلوبه هو .. ثم إذا عرضت له الرواية التاريخية بأسلوب مؤرخها فعليه أن يصيغها بأسلوبه هو – أسلوب الباحث – ثم يستشهد بفقرة من الرواية ويضع تلك الفقرة من نص المؤرخ بين قوسين .ويحاول قدر الجهد أن تكون تلك الفقرة أهم المعلومات المعبرة عن الحادث التاريخي . أما إذا كانت الحادثة التاريخية صغيرة فمن الممكن أن يؤتى بها كلية وتوضع كالعادة بين قوسين ..                                                                                                            أما كتابات الباحثين المحدثين فالأفضل تلخيصها إلا إن رأى الباحث في صدد مناقشة علمية أن يستعين بآراء الباحثين بنصها وفصها ، عند ذلك يأتي بالنص بين قوسين .     

ويلاحظ أن من أهم طرق الاستدلال والحجج أن يأتي الباحث بنصوص موثقة يضعها بين قوسين ، ولابد من نقل النص بحذافيره بالكامل طالما هو موضوع بين قوسين .  

3ـ وينبغي للباحث أن يترك جزءا في أسفل كل صفحة يترك هامشا ، وعندما يكتب في متن الصفحة ناقلا عن مصدر تاريخي أو غيره فأنه يضع رقما بين قوسين صغيرين في نهاية المعلومة المستقاة من المصدر ثم ينزل إلى الهامش ويدون الرقم ومعه اسم المؤلف واسم الكتاب مطبوع أو مخطوط أو وثيقة وسنة الطبع أو رقم المخطوط أو الوثيقة ثم رقم الجزء ورقم الصفحة .      

ولابد أن تكون هذه الأرقام صحيحة لأن الغرض من إيرادها التأكد من صحتها عند ارادة التثبت من صحتها أو متابعة البحث.  

ويحسن بالباحث أن يوسع في الهامش للتعريف بالاعلام أو الأماكن تعريفا مختصرا أو كتابة ملاحظة غير هامة عن نص أو رأى . أما إذا كانت هامة فالأحرى أن تكتب في المتن . ولا يوجد حد فاصل بين ما ينبغي إيراده في المتن أو الهامش من معلومات أو قضايا ... والأمر هنا متروك لتقدير الباحث وهو بالتأكيد أدرى بتفصيلات بحثه وأكثر الناس معايشة له .  

4 – ومن الممكن للباحث أن يبدأ بكتابة الفصل الثاني قبل الأول أو الثالث قبل الأول ... وإن كان من المستحسن يبدأ الكتابة بالترتيب الذي التزم به في الخطة حسب آخر تعديل فيها قبيل البدء بالكتابة .

وذلك حتى تسلم الفصول بعضها لبعض في ترتيب وتناسق . إلا أنه من الأفضل أن يكون آخر ما يكتب من البحث هو المقدمة والخاتمة .. حتى تكون الصورة واضحة أمام الباحث وهو يكتب بداية البحث وخاتمته .

ومن الأفضل للباحث أن يراجع أرائه حتى أخر لحظة ويركن للحقيقة العلمية إذا وجدها ويبادر بإثباتها ويعدل ويغير مما كتب على أساس الحق الذي اكتشفه . فالرجوع للحق خير من التمادي في الباطل .

ويذيل الباحث رسالته بالمصادر والمراجع التي اعتمد عليها ، يكتب اسم المؤلف وتاريخ وفاته وكتبه التي اعتمد عليها البحث ، ويقسم المصادر إلى مخطوطات و مصادر أصلية مطبوعة و محققة ثم مراجع حديثة وإذا كانت هناك وثائق  بدأ بها . وبعد المصادر يورد بعض الملاحق صفحات مما اعتمد عليه من الوثائق والمخطوطات شريطة أن تكون وثيقة الصلة بالموضوع وقد اعتمد عليها فعلا ويعلق عليها إذا أمكنه .  

5- والرسالة في نهاية الأمر واجهة للباحث صاحبها ومعبرة عن علمه وثقافته ، ومطلوب منه أن يكون له رأي في رسالته إلا أنه لا ينبغي أن يكون هذا الرأي قبل البحث لأن ذلك يطبعه بطابع التحيز واللا موضوعية  . أما ذلك الرأي الذي يرتئيه أثناء البحث فهو وليد البحث والتنقيب بعد استعراض كافة الآراء والترجيح بينها والوصول إلي أفضلها بالحجة والمنطق . وأفضل الحجج ما جاء على لسان الخصوم معبرا عن رأى الباحث نفسه ، والمجال متاح أمام الباحث للدفاع عن أرائه طالما أن ذلك خلال أبحاث الرسالة. ولا يهم بعدها إن اختلف الباحث مع باحثين معاصرين له كتبوا في نفس العصر أو اختلف مع مؤرخي العصر نفسه . المهم أن تكون حججه قوية والحق لم غلب .        

والمطلوب من الباحث في نهاية الأمر أن يأتي بالجديد والجديد ليس فقط أن تكتشف حوادث مجهولة وإنما أن تخرج عن التقليد وتأتى بأراء جديدة تنصف الحق وتزهق الباطل . ولا يتقدم العلم إلا بهذا الجديد الذي ينبغي أن يسعى له كل الباحثين والعلماء      

وكم ارتفع الحق والبحث بشباب العلماء وكم انحط بالباطل والتقليد من كان يعد من العلماء فسقط منهم سهوا ...