JustPaste.it

كتاب: حق المرأة فى رئاسة الدولة الإسلامية : لمحة أصولية تاريخية

سبق نشر هذا المبحث عام 1999فى دورية ( رواق عربى ) التى يصدرها مركز القاهرة لحقوق الانسان ، وكان العدد بعنوان ( حقوق المرأة بين الدينى و المدنى )( عدد 15 & 16 ) . ( ص 64 : 99 ). وأعيد نشر البحث فى دوريات أخرى ، وتم نشره هنا بدون تغيير . ولأن المؤلف باحث أزهرى الأصل ولا يزال ينظف عقله من وساخات التراث ، ولا يزال يتعلم من القرآن الكريم فإنه يراجع كتاباته القديمة باستمرار . ولهذا أعيدت مراجعة هذا البحث ، وأعيد نشره هنا منقحا .

الكاتب : آحمد صبحي منصور

الفهرس

مقدمة

التمهيد : المرأة بين الاسلام وأديان المسلمين الأرضية 

الفصل الأول :

الاسلام  وحق المرأة فى رئاسة الدولة الإسلامية

لمحة سريعة ـ أولا : مفهوم الدولة الإسلامية  ــ ثانيا : إختلاف مفهوم الدولة الإسلامى عن الدولة فى العصور الوسطى ـ ثالثا: المساواة بين الرجل والمرأة فى تشريع القرآن ـ رابعا: عمل المرأة ـ خامسا : سفر المرأة ـ سادسا : المرأة شريكة فاعلة فى تاسيس الدولة الاسلامية : البيعة، أو العهد : أساس فى إقامة الدولة الاسلامية : مشاركة المرأة فى إقامة الدولة الاسلامية . سابعا : مشاركة المرأة فى المجتمع ــ ثامنا : الشورى فى الدولة الإسلامية ودور المرأة فيها ـ  تاسعا : وقد وازن القرآن بين الشورى وطاعة أولى الأمرـ عاشرا : رئاسة الدولة وقوامة الرجل على المرأة  ــ حادى عشر  : 

رئاسة الدولة وكون المرأة نصف الرجل ـ ثانى عشر  : هل الشورى الإسلامية تشريعات خيالية ؟:

ثالث عشر : موقف التشريع القرآنى من النظم السياسية الديكتاتورية ــ  رابع عشر : مقارنة بين إمرأة مستبدة ورجل مستبد .

 

  الفصل الثانى :  تراث المسلمين: وحق المرأة فى رئاسة الدولة  

تمهيد ــ   أولا : المرأة والنضال فى سبيل إقامة الدولة . ثانيا : المرأة تحكم من وراء ستار. ثالثا : المرأة تتصدر الحكومة بنفسها .

الخاتمة 

 مقدمة

كانت البداية فى مؤتمر أقامته الدكتورة نوال السعداوى فى منتصف التسعينيات فى القاهرة عن المراة العربية ، وحضرته الدكتورة ( رفعت حسن ) الباحثة والناشطة النسائية الأمريكية. وطلبت منى الدكتورة نوال أن أتحدث فى المؤتمر عن وضع المرأة فى الاسلام من وجهة نظر تقدمية . كانت كل الأصوات فى المؤتمر متحفزة ومتحمسة للهجوم على وضعية المرأة فى الاسلام بناء على ذلك الخلط الجاهل والمشين بين الاسلام ـ كدين ـ وديانات المسلمين الأرضية .

كانوا ينتظرون أن أتكلم فى العموميات بلهجة دفاعية خطابية تتحدث فى كل شىء ولا توضح اى شىء.

فوجئوا باختيار موضوع محدد  لم يخطر لهم على بال ، وهو ( حق المرأة فى رئاسة الدولة الاسلامية ) ثم كانت المفاجأة الأخرى فى منهج التعرض للموضوع ، فهو دراسة اصولية قرآنية و تشريعية ، ثم تعقبها دراسة تاريخية ترصد واقع المشاركة السياسية للمرأة فى تاريخ المسلمين ،حيث تتجول بين سطور التاريخ لتظهر الأيدى النسائية الناعمة التى حاكت ذلك التاريخ من وراء الستار حينا  وأمام الملأ وعلى رءوس الأشهاد أحيانا.

كانت مفاجأة استحقت تعليقا هاما من إحدى الحاضرات التى قالت لى .إنه يجب أن نقرأ أولا قبل أن نتكلم فيما لا نعرف ، فقد عشنا أسيرات ثقافة سمعية إما أن تتهم الاسلام أو أن تناصر التطرف ، وكلا الفريقين لا يقرأ مكتفيا بما يسمع فى أجهزة الاعلام والتعليم . ثم صدر هذا البحث فى اصدارات مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان ، فى دورية ( رواق عربى ) فى عام 1999 . وأعدنا نشره هنا . وتحمست بعض المثقفات المسلمات لترجمته ، ونشرنا الترجمة فى موقعنا . 

أحمد صبحى منصور

فرجينيا ـ الولايات المتحدة

14 يولية 2007 

التمهيد : المرأة بين الاسلام وأديان المسلمين الأرضية  

1 ــ  هناك فارق بين دين الإسلام و وأديان المسلمين الأرضية          

( دين ) الإسلام نزل كتابا سماويا على كل الرسل والأنبياء بألسنتهم ، ثم نزلت الرسالة الخاتمة للبشرية جميعا بلسان عربى هو القرآن الكريم ، المحفوظ من لدن الله جل وعلا الى قيام الساعة . دين الله ( الاسلام ) مصدره من الله جل وعلا ، صاحبه هو الله تعالى ، يقول جل وعلا : (وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ) النحل  52) ، فخالق السماوات والأرض ومن يملك السماوات والأرض  هو الذى يملك الدين له وحده خالصا . وقد خلق البشر أحرارا فى الايمان أو الكفر ، فى الطاعة أو المعصية ، وانزل الرسالات السماوية بدين الاسلام بكل لسان لكل نبى وقومه ، وقد جعل رب العزة يوما ل ( الدين ) هو ( يوم الدين ) وعلى أساسه سيحاسب الله تعالى الناس يوم الدين أو يوم الحساب .

وكالعادة ، وبعد كل رسالة سماوية لا يلبث الناس أن يصنعوا أديانا أرضية ينسبونها  زورا وبهتانا لرب العزة عبر وحى كاذب . وهذه الأديان الأرضية تعبر عن أهواء صانعيها . وإذا كان دين الله جل وعلا ينزل وحيا الاهيا من رب العزة جل وعلا لاصلاح البشر، فإن اديان البشر الأرضية تنبع من أهواء البشر لإفساد البشر وتكريس الظلم والفساد فى الأرض ، وإقامة دول إستبدادية تمتطى الدين الأرضى وكهنوته ، أو يقوم الكهنوت الأرضى نفسه بالحكم فى دولة دينية تزعم التحكم فى الناس باسم رب الناس ، ليس فقط  فى الدنيا بل الآخرة أيضا . وهذا أفظع ظلم لرب العزة جل وعلا.

ولأن الدين الأرضى يعبر عن أهواء صانعية ويتأثر بظروفهم الجغرافية والتاريخية فإن من الطبيعى وجود شقاق بين تلك الأديان الارضية حتى مع زعمها الانتساب الى دين سماوى واحد . ترى هذا فى الأديان الأرضية للمسيحيين الذين ينسبون أنفسهم الى المسيح عليه السلام زورا وبهتانا . هم مختلفون ، فالفارق شاسع بين الكاثولوكية الأوربية والارثوذكسية المصرية ، وبينهما وبين البروتستانتية . ونفس الحال مع الديانات الأرضية للمحمديين الذين ينسبون انفسهم زورا وبهتانا لخاتم النبيين عليهم السلام . فالخلاف شاسع بل ودموى بين الشيعة والسنة ، وبين التصوف والسنة .

وينعكس هذا على وضعية المرأة . فدين التشيع يرتفع ـ قليلا ـ بشأن المرأة نظرا لتقديسه للسيدة فاطمة ، ودين التصوف القائم على وحدة الوجود وزعم الاتحاد برب العزة يؤله المرأة ويجعلها فى نفس الوقت مركز الانحلال الخلقى . أما دين السّنة فهو يعتبرها عورة وناقصة عقل ودين .

إنّ الظروف المحلية لأى دين أرضى تؤثر فى نظرته للمرأة . البيئة الصحراوية تعتبر المرأة سلعة مملوكة للرجل ( الأب / الأخ /  الأبن / الزوج ) ، لأن الرجل فى القبيلة هو المسئول عن حماية المرأة وعن كفالتها شأن ما يفعل مع حيوانات الرعى . ولهذا تتوافق الوهابية الحنبلية السنية مع البيئة الصحراوية . ونجد العكس فى البيئات الزراعية حيث تتأسّس الدولة المركزية تسيطر على النهر والزراعة والفلاحين ، ويتعاون الفلاح مع زوجته فى الحقل ، بالاضافة الى عملها المنزلى فى البيت المستقر ، وبهذا الدور الكبير تحتل المرأة مكانتها فى مصر الفرعونية الى درجة أن تكون ( فرعونة / حتشبسوت ) أو أميرة ذات نفوذ ( نفرتيتى ) بل تكون ألاهة قوية ( أيزيس أو عزى ). وحتى الآن ـ ومع الغزو الوهابى البترولى لمصر فى عصر الانحدار والانكسار إلا إن للمرأة المصرية مكانتها فى البيت ، أمّا وزوجة وبنتا ، بينما لا تزال المرأة الوهابية فى الدولة السعودية لا تسافر إلا مع ( محرم ) وممنوعة من قيادة السيارة بنفسها .

أى أنه من الطبيعى أن تتأثر أديان المحمديين بظروفهم الاجتماعية والنفسية والجغرافية والتاريخية ، ولهذا يكتسب كل دين أرضى الطابع السائد لدى كل شعب ولدى كل ثقافة .  وقد لا يكون فى ذلك مشكلة طالما نعتبر ذلك التدين بشريا يقبل الخطأ والتصحيح ، ولكن تأتى المشكلة حين ينسب ذلك الدين البشرى نفسه لرب العزة ،  ونضفى  عليه قدسية بأن ننسبه للنبى ( كما يفعل أهل السنة ) أو ننسبه لأقارب النبى ( كما يفعل الشيعة ) أو ننسبه لأشخاص مقدسين (كما يفعل الصوفية ). الخطورة هنا أن الدين البشرى الأرضى يكتسب قدسية الدين الالهى نفسه عبر تلك النسبة المزيفة لله تعالى ولرسوله . وهنا يصبح النقاش معه ـ إذا ساد وتحكم ـ مرفوضا وموصوما بالكفر والعصيان، بل يصبح أعمدة ذلك الدين الأرضى آلهة أو أنصاف آلهة لا يستطيع أن يقترب منها أحد إلا بالتقديس والتبجيل . وذلك ما يحدث فعلا فى التعامل مع البخارى والشافعى مثلا عند أهل السنة أو مع جعفر الصادق أو موسى الكاظم عند الشيعة ، أو مع الغزالى أو السيد البدوى عند الصوفية . هذا مع أنه لا عصمة إلا لله تعالى وللنبى والرسول فى أمور الوحى !!

وهذه المشكلة الخطيرة كانت عادة لدى القرون الوسطى ، حيث كان الاحتراف الدينى سائدا ، وحيث كانت الأنشطة البشرية يتم تغليفها بالدين الأرضى السائد المنسوب ظلما لله تعالى ورسوله ، ، لذلك كانت الحروب دينية ، وكانت الاضطهادات المذهبية دينية ، وكانت التعاملات الاجتماعية كلها تبحث فى كل تفصيلاتها عن فتاوى دينية .

ومن الطبيعى أن يتعاظم دور محترفى الدين الأرضى من الرهبان والشيوخ والأحبار ، وأن يكتسبوا  قداسة ، وهذا ما كان عليه تاريخ العصور الوسطى فى بلاد المسلمين وفى الغرب. ومن الطبيعى أيضا أن يعمل رجال أو علماء الدين هنا وهناك على نسبة فكرهم البشرى إلى الله تعالى أو الرسول ليضفوا المزيد من القداسة على أشخاصهم وعلى أفكارهم.

وتحررت أوربا من سيطرة الكنيسة وحظرت عليها التجول ، وانطلقت أوربا تكتشف العالم وتخترع وتستعمر العالم الجديد والعالم القديم معا بما فيها بلاد المحمديين ، وبدأت حركة يقظة فى مصر وفى تونس تتعلم من اوربا وتبدأ فى التخلص من أوزار أديانها الأرضية وظلمات القرون الوسطى . ولكم ما لبث أن أعادت الدولة السعودية أسوأ ما فى الأديان الأرضية ، وهى الحنبلية السنية المتشددة المتزمتة ، فظهرت الوهابية تجمع مع التعصب والتطرف والارهاب إستباحة دماء المخالفين لها وأموالهم وأعراضهم ، وتعيد ثقافة تحقير المرأة والتأكيد على أنها ناقصة عقل ودين . وأتاح البترول للدولة السعودية الثالثة الراهنة أن تنشر وهابيتها على أنها الاسلام ، وحازت جماعات ومنظمات وقيادات الوهابية على لقب ( الاسلاميين ) أى انهم وحدهم المعبرون عن الاسلام . ودفعت المرأة الثمن ، وعن رضا وطيب خاطر فانتشر ما يسمى بالحجاب أو الخمار والنقاب لأن المرأة إعتقدت أن هذا هو الاسلام .

 2 ـ وهنا ندخل على قضية المرأة فى الدين

فالتشريع الإلهى فى القرآن أو فى غيره من الكتب السماوية لا يمكن أن ينحاز للرجل ضد المرأة ، لأنهما معا خلق الله جل وعلا ، ولكن الرجل الذى تسيد العصور الوسطى واخترع أديان أرضية ذكورية ، استغلها فى فرض سيطرته على المرأة ، أوبمعنى آخر استمرت وتأكدت بها سيطرته علي المرأة فأصبحت من خلال تلك الأديان الأرضية أو الشعبية أقل درجة من الرجل ، ولذا تحتاج إلى اجتهاد دينى  لتجلية حقوقها الإنسانية والاجتماعية .

وهذا ما نحاوله فى هذا البحث عن حق المرأة فى رئاسة الدولة الإسلامية .

إن بحثا بهذا العنوان : ( حق المرأة فى رئاسة الدولة الاسلامية ) يصعد بحق المرأة فى الإسلام إلى قمة السلطة التنفيذية لابد أن يثير الكثير من علامات الاستفهام ، خصوصا فى عصرنا الراهن الذى سيطر فيه الفكر الحنبلى المتشدد، والذى قام بتعبئة المرأة فى النقاب وفرض عليها حظر التجول داخل أسوار البيت ، وحشا عقلها بخرافات الأديان الأرضية التى تنتمى الى العصور الوسطى ، فإقتنعت بالهوان على أنه ( سُنّة نبوية ).! .

إلا إن منهج البحث نفسه هو الكفيل بالإجابة . وقد وضح المنهج منذ البداية فى التفريق بين الاسلام وهو القرآن وبين أديان المسلمين الأرضية وما يتبعه من فكرالمسلمين وممارستهم .

وعليه فإن هذا البحث يسير مع حق المرأة فى رئاسة الدولة الإسلامية من خلال القرآن الكريم ، وهو دين الإسلام والذى كان يتبعه النبى عليه السلام فى حياته حيث كان خلقه القرآن . ثم بعدها يسير مع الواقع التاريخى الحركى للمرأة فى الصراع السياسى نحو السلطة ، وكيف اقتربت منها أو بلغتها وفق قوانين الصراع السياسى ومعطياته فى القرون الوسطى .

وبين الواقع القرآنى ( فى التشريع والقصص) والواقع التاريخى ( بين ساحات المعارك ومكائد القصور) تتوارى خجلا ـ أو يجب أن تتوارى خجلا  ــ تشريعات الدين الوهابى السلفى التى كان أغلبها ثمرة ظروف اجتماعية وسياسية ونفسية أوقعت بأصحابها اضطهاداً فلم يجدوا غير المرأة وسيلة لتنفيس غضبهم المكبوت . والعادة أن الرجل المقهور فى عصور الاستبداد ينفس عن طموحاته المكبوتة و الضائعة فى تعامله مع المرأة وفى نظرته لها ، فإذا كان ذلك الرجل المقهور  صاحب فكر دينى فالويل للمرأة من فتاويه ، وتلك حقيقة تحتاج بحثا مستقلا آخر.

لفصل الأول :  القرآن وحق المرأة فى رئاسة الدولة الإسلامية

لمحة سريعة :

من الممكن تلخيص موقف الاسلام من رئاسة المرأة للدولة الاسلامية فى بضعة سطور:

منهج التشريع القرآنى أنه لا يذكر المباح و المسموح به ، لأن المباح هو الأصل ولأن ذكر كل المباحات يحتاج آلافا من المجلدات. لذك فان التشريع القرآنى ـ وكذلك التشريعات البشرية ـ تركز على الأوامر والنواهى ، اى على الممنوع أو المحرم أو الحرام بالاضافة الى الواجب المفروض.

وبناء على هذه القاعدة المنهجية فإنه طالما لم يرد شىء ضمن الممنوعات والحرام فهو مباح ولا يصح تحريم المباح كما لا يصح تحليل الحرام.

وعليه فإنه طالما لم يأت فى التشريع القرآنى نهى أو تحريم على تولى المرأة منصب رئاسة الدولة الاسلامية فهو أمر مباح .

هذه الفتوى تكفى ..

ولكنها تستحق بحثا تفصيليا . وهو هذا الفصل الأول الذى نناقش فيه  ــ قرآنيا ــ  الاعتراضات التى قد تثور حين نقول بحق المرأة  فى رئاسة الدولة الاسلامية.

  

أولا : مفهوم الدولة الإسلامية :

فى البداية نحن نقول بأن الإسلام دين ودولة . ولكن تصوراتنا عن الإسلام دينا ودولة تخالف الحركة الأصولية بنفس ما تخالف به الفكر العلمانى . فكما تخالف الفكر العلمانى الذى يفصل بين الدين والدولة تخالف  الأصولية التى تؤسس الدولة الدينية على التصورات الدينية للعصور الوسطى ، سواء كانت تلك التصورات سنية أو شيعية .

نحن نقول إن الدولة فى الإسلام  دولة مدنية تقوم على الديمقراطية المباشرة وليس من وظيفتها إدخال الناس إلى الجنة ، لأن تلك مسؤلية شخصية ، بل وظيفتها إقرار العدل فى الدنيا ، وضمان حقوق المواطنة . وهذه الحقوق للجميع بالتساوى ، إلا أن المساواة المطلقة قد تتضمن إخلالا بالعدل ، لذلك فإن الحقوق المطلقة للفرد تتضمن حقه المطلق فى العدل و حقه المطلق فى حرية العقيدة والفكر . وإلى جانب ذلك فله حقوق نسبية فى الثروة  حسب سعيه وإجتهاده وفى المشاركة السياسية وفى الأمن . وفى هذه الحقوق النسبية يكمن التوازن بين الفرد ومصلحة المجتمع بحيث لا يستأثر فرد وحيد بالثروة أو بالسلطة ، وهما معا حق أصيل للمجتمع وليس للفرد وذلك موضوع شرحه يطول ،وليس مجاله هنا ، ولكن نكتفى منه بحق المرأة فى تولى رئاسة الدولة الإسلامية.

 

ثانيا : إختلاف مفهوم الدولة الإسلامى عن الدولة فى العصور الوسطى :

1 ـ والفكرةالسائدة عن تولى المرأة رئاسة الدولة تأخذ ملامحها من المتوارث لدينا عن السلطة السياسية فى العصور الوسطى ، حيث كان الخليفة أو السلطان أو الملك يملك الأرض ومن عليها ويحكم مستبدا لا معقب لكلمته . وهذا ما كان سائدا فى الشرق ( المحمدى )  والغرب ( المسيحى ). ولا زلنا نتمتع ببعض مظاهره حتى الآن . وبالتالى فإن تصور امرأة فى مقعد السلطان يجعلنا نترفق بعض الشىء مع مثقفى وفقهاء العصور الوسطى المقهورين ، فإذا تحملوا قهر السلطان الرجل فكيف لهم أن يتحملوا قهر السلطانة المرأة ؟

2 ـ إلا إن القصة مختلفة تماما ، بنفس اختلاف الحكم الشورى الذى كان فى دولة الإسلام فى عصر النبوة عن حكم الاستبداد الذى عرفه المسلمون فى تاريخ الخلفاء الراشدين والخلفاء الفاسقين ، ولا يزالون تحت أوزاره حتى الآن.

3 ـ إذن نحتاج الى لمحة عن حقائق الحكم السياسى لدولة الإسلام من خلال تشريع القرآن لنتعرف على إمكانية أن تتولى المرأة فيها سلطة الرئاسة.

 

ثالثا: المساواة بين الرجل والمرأة فى تشريع القرآن:

1 ـ وحتى نفهم القرآن وتشريع القرآن علينا فى البداية أن نفهم لسان القرآن بالقرآن نفسه . فاللسان  العربي شأن كل الألسنة ( أو اللغات) كائن حى يتطور ويتبدل . ولذلك تطورت اللغة العربية زمنيا ومكانيا . بل أصبحت هناك مصطلحات عربية خاصة بالفقهاءوأخرى بالصوفية وأخرى بالفلاسفة .. وهكذا. وقبلهم فللقرآن أيضا مفاهيمه ومصطلحاته ، ولا يمكن أن نفهم القرآن إلا من خلال مفاهيمه ومصطلحاته.وهذا أيضا موضوع شرحه يطول ، ولكن كالعادة – نقتصر منه على ما يخص موضوعنا .

2 ـ وهنا نلفت النظر سريعا إلى بعض الحقائق القرآنية التى تؤكد المساواة بين الرجل والمرأة:

فكلمة ( الزوج ) فى القرآن يدل بمنتهى المساواة عن الرجل و المرأة ، و السياق هو الذى يوضح المقصود منهما إلا إذا جاء فى الآية  القرآنية والسياق ما يؤكد اقتصار الخطاب على الرجل ( راجع كلمة زوج ومشتقاتها فى المعجم المفهرس ).

وكلمة ( الوالدين ) و( آباؤكم )  تدل على الرجل والمرأة ، . وتدخل المرأة فى الخطاب القرآنى فى كلمات مثل ( الناس ) ( بنى آدم ) و ( الذين آمنوا ) فالقرآن مثلا حين يأمر بالصيام يأمر الذين آمنوا بالصيام وكذلك حين يأمر بالصلاة . ومعروف أن الأمر يشمل الجنسين. وكل خطاب عام فى القرآن الكريم يأتى للبشر و للمؤمنين و الناس وبنى آدم يشمل الرجل والمرأة بالتساوى ، إلا إذا كان فى السياق تخصيص لأحدهما .

3 ـ ويكفى تلك المساواة القرآنية بين الذكر والأنثى:

3 / 1   فى كونهما بشرا وإنسانا ينتميان لأب واحد وأم واحدة . يقول جل وعلا : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً ) (1) النساء ) ويسرى هذا على كل البشر مهما إختلفت ألوانهم وثقافاتهم ، يقول جل وعلا : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)  الحجرات )

3 / 2 : فى المسئولية والجزاء بين الذكر والأنثى  : (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ  )(195) آل عمران ) (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) النساء ) (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) النحل ) (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)  غافر  )

4 ـ ولذلك كانت المرأة شريكا رئيسا فى إقامة الدولة الاسلامية فى عهد النبى محمد ، بدأت شراكتها بالهجرة ، ثم بالبيعة ـ ثم بالمشاركة الفعالة فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولذا فإن حديث القرآن عن الشورى ، وهى الملمح الأساسى لدولة الإسلام يشمل المرأة مع الرجل . وهنا ندخل فى بعض التفصيلات .

 

رابعا: عمل المرأة

الإسلام لم يحرم على المرأة أى عمل حلال يقوم به الرجل ، ويسرى ذلك على الجهاد ، والدليل أن الأعذار المبيحة للتخلف عن الجهاد هى أعذار تحدث للمرأة والرجل على حد سواء، فليس هنا حرج على الأعمى أو الأعرج أو المريض فى موضوع القتال الدفاعى فى الإسلام (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا   )(الفتح / 17 ). هذه الأعذار تسرى هذا على الجنسين فى الذكر والأنثى . وحتى فى الصيام والحج كانت الشروط عامة للذكر و الأنثى  (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ  ) (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( البقرة 185 ، 196 )

  وقد قلنا أن الأمر يأتى بلفظ "الذين آمنوا " ، " يا بنى آدم " ، " يا أيها الناس " ليخاطب المرأة والرجل معا، وكل أمراة يشملها الأمر والنهى كالرجل تماما ، وأن النسق القرآنى فى تشريع الأحوال الشخصية من زواج وطلاق لا يذكر مطلقا لفظ زوجة وإنما يقول " زوج " دلالة على الزوج والزوجة ويأتى السياق يحدد المقصود بها. والمقصود هنا هو المساواة الكاملة من حيث التكوين بين الزوج الرجل والزوج الأنثى فكلاهما واحد من حيث الأصل والنشأة ، وكلاهما لهما نفس الحقوق وعليهما نفس الواجبات طبقا للعدل .

 

خامسا : سفر المرأة
هناك شيىء هام فى سياق آيات سورة الممتحنة يستلزم الإيضاح . هو حق المرأة فى السفر والهجرة وترك موطنها إلى حيث تريد طبقا لإختيارها العقيدى شأن الرجل تماما ، وهذا ما حققته المرأة فى عهد النبى محمد عليه السلام إذ هاجرت المؤمنات إلى الحبشة مرتين ثم مرة ثالثة إلى المدينة ، بعضهن كن عذاراى وبعضهن كن متزوجات هاجرن مع أزواجهن المؤمنين أو كن أزواج تركن أزواجهن المشركين . أى أن من حق المرأة فى الإسلام أن تهاجر إذا شاءت ، والهجرة أصعب أنواع السفر لأنه سفر يحتمل المطاردة والملاحقة . وبالتالى فان من حقها السفر العادى بمفردها ،وليس لزوجها الحق فى منعها إلا إذا كان هذا الحق للزوج منصوصا عليه فى عقد الزواج. هذا فى الإسلام .ولكن فى دين السنة تم حرمان المرأة من هذا الحق فمنعوها حتى من السفر إلا بإذن زوجها ، بل وجعلوا لها كفيلا – إذا لم تكن متزوجه ـ هو" المحرم " أى الذى يحرم عليها أن تتزوجه كالأب والابن والأخ والعم والخال ، أى اعتبروها شخصا غير كامل الأهلية، حتى لو كانت أما. وتخيل أن تربى الأم ابنها فاذا كبر أصبح آمرا ناهيا لها، يبلغ مبلغ الأهلية بينما تظل أمه مخلوقا ناقص الأهلية.

 

سادسا : المرأة شريكة فاعلة فى تاسيس الدولة الاسلامية

البيعة، أو العهد : أساس فى إقامة الدولة الاسلامية : مشاركة المرأة فى إقامة الدولة الاسلامية

لقد سبق الإسلام فى تعريف الدولة بأنها عقد بين الفرد والنظام الحاكم، وأن هذا العقد يستلزم التزامات معينة من الفرد مقابل قيام الدولة برعاية الفرد وحمايته .
بعد هجرة المرأة كان لا بد من تسجيل مشاركتها فى إقامة الدولة الاسلامية و تسيير شئونها بان تعقد عهدا أو عقدا مع النبى محمد رائد هذه الدولة .

وقد جاءت سورة الممتحنة باشارة الى البيعة؛ بيعة النساء للنبى محمد عليه السلام. يقول تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.  )( الممتحنة 12 )
 سورة الممتحنة من أوائل السور التى نزلت فى المدينة ، وقد وردت فيها تلك الاشارة  إلى وجود عقد أو ميثاق أو عهد بين افراد المسلمين والنبى يتضمن تعهد كل فرد بطاعة القائد وهو النبى محمد عليه السلام ؛ ليس طاعته كشخص وفرد ولكن طاعة القيم الأخلاقية المنبثقة عن إلايمان الحق بالله تعالى واليوم الآخر، تلك هى البيعة العامة( الممتحنة 12 ) . ثم هناك بيعة خاصة طارئة مؤقتة تستلزمها ظروف المواجهة العسكرية حين يتعرض المجتمع المسلم إلى هجوم لابد من صده ، وحينئذ يتطلب الأمر بيعة خاصة للإلتزام بالدفاع عن الدولة ( الأحزاب 15 ، 22 ، 23  )( الفتح  : 10 ، 18 ).

وفى كل الأحوال ( البيعة العامة والبيعة الخاصة ) فإنها بيعة لله تعالى ؛ فمن يبايع النبى – أو القائد – إنما يبايع الله ، أى يلتزم أمام الله تعالى بالوفاء بالعهد والميثاق . وبالتالى فإن ضميره الشخصى هو الرقيب عليه فى مدى هذا الإلتزام بهذا العهد، أى أنه مسئول أمام الله تعالى يوم القيامة فقط فى مدى وفائه بهذا العقد أو العهد أو الميثاق أو البيعة. وفى كل الأحوال أيضا فإن تلك البيعة العامة والخاصة تشمل الرجال والنساء معا بما يعنى المساواة بين الرجل والأنثى .
ذكرت روايات السيرة النبوية أن النبى محمدا عقد معاهدة سرية مع وفد من المدينة قبل الهجرة ،وعقد معاهد أخرى مع وفد أخر فى العام التالى إلا أنها لم تذكر عقد معاهد عامة مع أهل المدينة . القرآن الكريم فى تعليقه على تباطؤ أو تخاذل بعض المؤمنين فى الوفاء بهذا العقد كان يذكرهم بالعهد الذى التزموا به ، وقد حدث هذا فى تأنيب المنافقين حين تقاعسوا عن الدفاع عن المدينة فى غزوة الأحزاب بينما اشاد بمن حافظ على العهد و صمد فى القتال ( الأحزاب : 15 ، 22 ). و فى أوائل السور المدنية نجد القرأن الكريم ينهى المؤمنين عن خيانة الله ورسوله ، وخيانة العهد والأمانة ، ويأمرهم بالإستجابة وطاعة رسول الله ( الانفال / 24 : 27 ) وتعبير الخيانة للعهد يعنى وجود عهد قائم بين الله تعالى والمؤمنين وأنهم لم يقوموا بالإلتزام بهذا العهد . وفى أواخر السورة المدنية يتكرر الأمر للمؤمنين بطاعة الله ورسوله وأن يواجهوا إعتداء المشركين ، ليس بالوهن والإستسلام والحرص على حياة ذليلة وإنما بالدفاع البدنى والإنفاق المالى فى المجهود الحربى ، وإن لم يفعلوا فمصيرهم إلى الإستئصال ،وعندها يأتى رب العزة بمؤمنين آخرين خيرا منهم (  محمد / 32 : 38 )
وكان البخل شائعا بين هذه النوعية من المؤمنين وترتب عليه أن توعد الله تعالى بالعذاب اولئك الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل وذلك بعد أن كررلهم أوامر العهد والميثاق وهى عبادة الله وحده لا شريك له والإحسان للوالدين والأقارب واليتامى والجيران وأصحاب وأبناء السبيل والرقيق ( النساء / 36 : 37 ) وفى مواجهة ذلك البخل ونسيان العهد والميثاق والبيعة ينزل القرآن يذكر المؤمنين بالإيمان بالله تعالى ورسوله والإنفاق فى سبيل الله ثم يعيب عليهم أنهم لا يؤمنون قلبيا وعقيديا بالله تعالى وحده ، مع استمرار دعوة الرسول محمد عليه السلام لهم بأن يكون إيمانهم بالله تعالى وحده إلها، وبرغم أنهم عاهدوا الله تعالى ورسوله على ذلك الا أنهم كانوا ينسون مما يستدعى تذكيرهم وتأنيبهم (الحديد /7 : 8 )
وفى أواخر ما نزل من القرآن يتكرر نفس الموضوع فى تذكيرهم بالميثاق الذى عقدوه يوم بيعتهم ، وكيف أنهم قالوا سمعنا وأطعنا مع أن قلوبهم لم تكن مخلصة . ويحذرهم الله تعالى بأنه يعلم خفايا الصدور . ( المائدة  /7 )
هذا العهد والميثاق أو البيعة العامة كانت لكل فرد يدخل فى إطار الدولة الإسلامية . وخلافا لما اعتاده العرب وما اعتادته ثقافة العصور الوسطى أعطيت المرأة نفس حق المواطنة الايجابية وحق المشاركة السياسية فى الدولة الإسلامية، فقد كان عليها أن تبايع نفس المبايعة ، وتضع يدها على يد النبى تعطيه البيعة. وهذا ما جاء فى سورة الممتحنة (  /12 ) .
ولأنه أمر جديد لم يكن معروفا من قبل فإن الخطاب نزل للنبى محمد يوضح كيفية بيعة النساء للنبى ، فالمؤمنات إذا أتين مهاجرات ليصبحن مواطنات فى الدولة الجديدة فعليه أن يبايعهن على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يقعن فى بهتان ولا يعصين النبى فى معروف ، فإذا بايعن النبى على هذه البنود فعليه أن يستغفر لهن الله على ما سبق من ذنوبهن، لأنهن قد دخلن فى مرحلة جديدة من حياتهن. وهذا ما ينطبق على الرجال أيضا.: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.  )( الممتحنة 12 ) .
والواضح أن كل بنود البيعة للمؤمنين والمؤمنات تتلخص فى تطبيق الإسلام والإيمان فى العقيدة وفى السلوك . تطبيق الإسلام فى العقيدة بعدم الوقوع فى الشرك والكفر ،أى بعدم الإعتقاد فى إله إلا الله الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، والإيمان والإسلام سلوكا بمعنى طاعة الله تعالى فى التعامل السلمى مع البشر بعدم الإعتداء على حياة الأخرين وأعراضهم وأموالهم أى التمسك بالقيم العليا المتعارف عليها من العدل ومنع الظلم .
إذن بنود البيعة تتلخص فى طاعة الله تعالى ، وهنا تكون المساواة بين المسلمين جميعا بما فيهم النبى نفسه، فهم مأمورون جميعا بطاعة الله الواحد عز وجل الذى لا شريك له فى الملك. وعليه فإن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو تناصح بالتمسك بالقيم العليا المتعارف عليها والإبتعاد عن الرذائل المستنكرة من جميع الناس، وهذا التناصح يعنى أن ينصح كل مؤمن أخاه أو أخته ، وأن تنصح كل مؤمنة أخاها أو أختها. وهنا مساواة المؤمنين جميعا رجالا ونساء ؛ كلهم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ( العصر / 3 ) ،أى ليست هناك طائفة تأمر الأخرين ولا يأمرها أحد، فليس فى الاسلام  كهنوت وليس فيه طائفة تحتكر إصدار الأوامر وتضع نفسها فوق القانون أو فوق الجميع بقوة القانون.
وبالتالى فليس هناك طاعة لشخص أو لحاكم حتى لو كان النبى نفسه . فالأية تقول عن أحد بنود البيعة عن النساء :( وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ )  لو قالت الأية " ولا يعصينك " فقط لكان ذلك فرضا بطاعة النبى طاعة مطلقة. ومصطلح النبى يعنى شخص النبى محمد وعلاقاته بمن حوله، لذا كان العتاب واللوم يأتى بصفة النبى بينما الطاعة تأتى مرتبطة بالرسول والذى يعنى أيضا الرسالة والقرآن. ولأن النبى هنا هو شخص النبى محمد فإن طاعته كشخص مرتبطة بأن تكون فقط فى "معروف "، والمعروف هو المتعارف عليه من القيم العليا التى جاء بها القرآن والتى تجلت فى سائر بنود البيعة . وإذا كانت طاعة النبى محمد – وهو القائد – مرتبطة بالمعروف وليست له طاعة كشخص ، فإنه لا يجوز لأى شخص أن يطلب من المؤمنين طاعته دون قيد أو شرط. ولذلك فقد اشتق الفقهاء المسلمون الأحرار قاعدة سياسية تقول " لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق " أى لا يصح الطاعة إلا فى إطار طاعة الله تعالى وحده ، فالمطاع هو الله تعالى وحده، ومن يطع القرآن ـ أو الرسالة الالهية الخاتمة بعد موت الرسول محمد ـ فقد أطاع الله تعالى ( النساء /80 ) وكل من يأمر بما جاء فى القرآن فيجب طاعة ما ينطق به من القرآن ، وليس طاعته هو كشخص.

وهذا معنى الأمر بطاعة الله ورسوله وأولى الأمر، ( النساء  / 59 ) ليس هنا تثليث ،أو عبادة لله والرسول واولى الأمر، بل أن طاعة ولى الأمر وطاعة الرسول فيما يقال من أوامر جاءت من الله تعالى فى كتابه الكريم ونطق بها الرسول وبلغها ، ثم يقوم على رعايتها أولو الأمر. وإذا زاغ أحد منهم عن أوامر الله تعالى فلا طاعة له ، بل يجب اعلان العصيان لأمره وتوضيح أنه يأمر بما يخالف القرآن ، حتى نبرىء دين الله تعالى من استغلال دينه العظيم من الاستغلال والفساد والاستبداد.

باختصار : إن البشر عليهم أن يطيعوا الله تعالى وحده ويحرم عليهم طاعة أمر يخالف تشريع الله تعالى ومبادئه .يسرى هذا على البيعة العامة فى الدخول فى مواطنة الدولة الإسلامية كما يسرى هذا على البيعة العامة فى الدخول فى مواطنة الدولة الإسلامية كما يسرى على البيعة الخاصة التى تفرضها ظروف الحرب .

 

سابعا : مشاركة المرأة فى المجتمع :-
فى سورة الممتحنة ملمح واضح يدل على مساواة المرأة بالرجل فى الحقوق والواجبات فى الإسلام حيث يحق لها المشاركة السياسية وحقوق المواطنة كالرجل إذ عليها أن تبايع الحاكم شأن كل رجل .

مشاركة المرأة السياسية أكدها القرآن الكريم ليس فقط على المستوى التشريعى ولكن أيضا على المستويين التطبيقى والتاريخى .
على المستوى التطبيقى كان للمرأة ان تجادل النبى وتشكوله ولا تقتنع باجاباته فتدعو الله تعالى ان ينزل لها وحيا يحل مشكلتها فينزل الوحى يقول : (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ   ) المجادلة /1).

 وكان مجتمع المدينة فى عصر نزول القرآن خلية نحل تموج بالحركة والنشاط، حيث أباحت حرية الفكر والعقيدة والتعبير والحركة السلمية المعبرة عن العقائد  ــ أن تتألف جماعات من المنافقين والمنافقات يتحركون معا فى مظاهرات يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف فتقابلهم جماعات أخرى من المؤمنين والمؤمنات للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر : ( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )(التوبة  / 67 ، 71 )، هذا والدولة الاسلامية فى عصر النبى محمد لا تتدخل فى منع هذا او تاييد ذاك لأن مهمتها هى كفالة الحرية فى العقائد والآراء السسياسية والتعبير عنها بالطرق السلمية دون أن يقوم طرف باكراه الآخرين أو اضطهادهم فى الدين.
على المستوى التاريخى فقد جعل الله تعالى المثل الأعلى للمؤمنين فى كل زمان ومكان إثنتين من النساء هما السيدة مريم العذراء وزوجة فرعون ، كما جعل المثل الأسفل لكل الكافرين فى العقيدة والسلوك امرأتين أيضا هما زوجة نوح وزوجة لوط .( التحريم / 10 ـ 12) . كما قص الله تعالى قصة ملكة سبأ ( النمل / 22 ـ 44)، وتكررت فى القرآن قصة فرعون موسى. والتدبر القرآنى ـ وهو فريضة منسية ـ يحمل المسلم على المقارنة بين إثنين من الحكام كلاهما تعامل مع نبى من الأنبياء بطريقة مختلفة، وفازت الحاكم الأنثى ( ملكة سبأ ) وخسر الحاكم الذكر ( فرعون موسى ) وأضاع عرشه وقومه. ليس المقصد هنا أن المرأة أفضل من الرجل فى مجال الحكم، ولكنها إشارة تاريخية الى أن إمرأة حكمت فكانت راشدة فى وقت يضل فيه أغلب الحكام الذكور.

 المقارنة هائلة هنا بين الاسلام والدين السنى . الدين السنى يمنع ولاية المرأة للرئاسة ، ويمنع توليها القضاء ، بل يجعل المرأة مخلوقا من ضلع أعوج يستحيل اصلاحه ، ويجعلها "ناقصة عقل ودين ".!! هل يصح أن يقال عن السيدة مريم عليها السلام أنها ناقصة عقل ودين بعد كل هذا المدح الذى قاله الله تعالى عنها فى القرآن الكريم؟
وفى الحضارة الغربية لم يتم إعطاء المرأة حقوقها السياسية إلا مؤخرا ، ولكن الإسلام سبق الجميع فى ذلك.

 

ثامنا : الشورى ( الديمقراطية المباشرة ) فى الدولة الإسلامية ودور المرأة فيها :

الديمقراطية مجرد نظام للحكم ، منه النيابى التمثيلى يقوم على اختيار الشعب ممثلين عنه يقومون بتصريف سياسته ، ومنه المباشر الذى يقوم فيه الشعب بحكم نفسه عبر خبراء من اولى الشأن أو أولى الأمر . وهذه الديمقراطية المباشرة موجودة فى بعض دول الغرب ، وكانت من قبل فى بعض مراحل التاريخ اليونانى ، ونزلت فى تشريع القرآن الكريم تحت مسمى ( الشورى ) التى تشمل كل المجتمع المسلم رجالا ونساءا . ومنشور لنا هنا كتاب عن الشورى الاسلامية التى طبقها النبى محمد عليه السلام فى دولته المدنية فى المدينة . ولكن ما لبث الحكم الاستبدادى للخلفاء أن قام بتغييب فريضة الشورى فى القرآن . ونعرض للشورى الاسلامية سريعا على النحو التالى :

* فأمر الشورى نزل فرضا دينيا على المسلمين فى مكة قبل أن تقوم لهم دولة ، وذلك ضمن آيات وصفت ملامح المجتمع المسلم فى سورة الشورى (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ  )(1) فالخطاب هنا يشمل الرجل والمرأة على السواء ، فهم معا موصوفون بالذين استجابوا لربهم و أم أمرهم شورى بينهم . ولم يرد هنا تخصيص للرجال أو أستبعاد للنساء فى عملية الشورى. ومن ضمن ملامح الشورى أيضا أنها جاءت الشورى بين الصلاة والزكاة ، وهى المرة الوحيدة فى القرآن التى يأتى فيها فاصل بين الصلاة والزكاة . والمعنى المراد أن الشورى فريضة كالصلاة ، وكما لا يصح الاستنابة فى الصلاة فكذلك لا يصح الاستنابة فى تأدية الشورى . أى إنها فريضة على كل إنسان ، رجلا كان أم امرأة فى البيت ، والمصنع والشارع والمجتمع وفى السياسة والاقتصاد وشتى مناحى الحياة.

* وقد طبق المسلمون فريضة الشورى فى مكة ثم طبقوها فى المدينة حيث كان المسجد مقر الصلاة والشورى والحكم . وحيث كان يجتمع المسلمون جميعا رجالا ونساءا إذا جد ما يستدعى الشورى ، وحينئذ ينادى المؤذن " الصلاة جامعة" فيجتمعون ، ويتكون مجلس للشورى من جمعية عمومية ، كل أعضائها جميع المسلمين من رجال ونساء يمارسون الديمقراطية المباشرة و يتداولون الرأى . وفى البداية لم يكن أهل المدينة من الأنصار قد تعودوا على هذه الفريضة ، لذلك كان بعضهم يتخلف عن حضور المجلس بدون عذر ، وبعضهم يأتى ويعتذر للنبى ويخرج ، وبعضهم بعد أن يحضر يتسلل من المجلس . لذلك نزلت الآيات الأخيرة من سورة ( النور ) أولى السور المدنية تستنكر ذلك وتجعل حضور هذه المجالس فريضة دينية وتحذر من يتخلف عن حضورها من الأنتقام الإلهى ، يقول تعالى : (إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)  

  بالمناسبة فقد كان حضور النساء للمساجد فريضة دينية . وقد تحدث القرآن عن فريضة الأعتكاف فى المسجد فى ليالى رمضان ، ونهى عن مباشرة الزوجة أثناء الأعتكاف فى المسجد (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ) (البقرة 187 ) مما يدل على مشاركة النساء للرجال فى كل الفرائض والأنشطة حتى ما يتعلق منها بالمساجد .

* وحتى تنطبق فريضة الشورى على النبى محمد نفسه عليه السلام نزل قوله تعالى له (َبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ )(آل عمران 159 ) أى إنه بسبب رحمة من الله جعلك يا محمد هينا  لينا معهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك وتركوك . وإذا تركوك وانفضوا من حولك فلن تكون لك دولة ولن تكون حاكما ، لأنه باجتماعهم حولك صار لك السلطان ، فأنت تستمد سلطتك السياسية منهم ، أى أن الأمة هى مصدر السلطات ، وليس الله ، كما تقول الدولة الدينية وكما يقول أصحاب الحق الملكى المقدس"  "The Divine Right Of KINGS . ولأنك تستمد سلطتك السياسية منهم فاعف عنهم إذا أساءوا إليك واستغفر لهم إذا أذنبوا فى حقك ، وشاورهم فى الأمر لأنهم أصحاب الأمر  ، فإذا عزمت على التنفيذ باعتبارك سلطة تنفيذية معك أولو الأمر أى أصحاب الشأن والاختصاص والخبرة ــ فتوكل واعتمد على الله . وقوله تعالى للنبى محمد (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) يشمل النساء و الرجال وكل الراشدين الذين تجمعوا حول النبى محمد عليه السلام واقاموا له دولة ، وهاجروا اليه من خارج المدينة. 

والمستفاد مما سبق أن النبى وهو الذى يوحى إليه كان مأمورا بالشورى ، وكان كقائد يستمد سلطته السياسية من الشعب ، فإذا كان ذلك حال النبى فإن من يستنكف عن المساءلة من شأنه إنما يضع نفسه فوق النبى ، أى – يكون دون أن يدرى – مدعيا للألوهية . ويعزز ذلك حديث القرآن المتكرر عن فرعون موسى الذى وصل به الإستبداد إلى إدعاء الألوهية وإلى تدمير نفسه ودولته. وقد جعله رب العزة جل وعلا عبرة لكل مستبد. ومع ذلك فلم يتعظ به أحد .. لأن خمر السلطة يذهب بالعقول .

 * وقد وازن القرآن بين الشورى وطاعة أولى الأمر.

 وأولو الأمر ليسوا الحكام فى مصطلح القرآن ، ولكنهم أصحاب الشأن أو أصحاب الخبرة فى الموضوع المطروح ، سواء كانوا من الرجال أو من النساء.

 وتكون طاعتهم فى إطار طاعة الله ورسوله، أى فيما يحقق العدل والقسط ، لأن تشريعات القرآن  ـ وهى بضع صفحات – كلها بأحكامها وقواعدها وتفصيلاتها تهدف لتحقيق القسط والعدل . وما تركة تشريع القرآن ، تكون فيه الشورى وخبرة أصحاب الشأن أو أولي الأمربشرط تحقيق مقاصد التشريع القرآني ، وهي التيسير ورفع الحرج ومراعاة التوسط والاعتدال والالتزام بالعدل والقسط .

إن عمل أولي الأمر أو أولي الاختصاص يكون في مجالين:تطبيق النصوص القرآنية، وإنشاء تشريعات جديدة وتطبيقها في ضوء المقاصد التشريعية القرآنية سالفة الذكر. وبالشورى أو الديموقراطية المباشرة يتم تعضيد أولي الأمر أى أولوالخبرة لكل أفراد المجتمع رجالا  ونساء. والشورى الإسلامية بهذا المعنى تجعل الشعب- وليس الحاكم – هو مصدر السلطات أى أن الشعب هو القوة الكبرى،ولذلك فإن الشورى الإسلامية فى حقيقتها هى فن ممارسة القوة يقوم بها الشعب وليس لأولى الأمر سوى طاعة الأمة أو الشعب ،  أى أن ولى الأمر هو مجرد موظف بعقد مؤقت لدى الشعب إذا أحسن فقد فعل المطلوب منه وإذا أخفق استحق العزل ، وإذا أساء استحق العقاب شأن أى موظف عام لدى الشعب .ولأنه صاحب خبرة فيستوى إن كان رجلا أو إمرأة لأن التعويل على الخبرة فقط.

والاكتفاء بالشورى لا يجدى إذا كان المجتمع جاهلا خاليا من الكفاءات وأصحاب التخصص والخبرة فى الموضوع المطروح. كما أن سيطرة أصحاب الخبرة أو ( التكنوقراط ) على مقاليد الأمور دون مساءلة من جانب الشعب ودون إشراف يكون  استبدادا مخالفا للاسلام .

 أى لا بد من وجود ديمقراطية مباشرة للشعب كله مع مشورة أهل الخبرة و الاختصاص ، كل منهم فى مجال تخصصه ، ويتم ذلك كله فى إطار من الشفافية و العدل. ومن الطبيعى أن تتغير تشريعات وتطبيقات أولى الأمر بتغيير ظروف المجتمع . وبهذا تحقق الشورى وطاعة أولى الأختصاص صلاحية التشريع القرآنى لكل زمان ومكان .والمرأة هنا حاضرة باعتبارها نصف المجتمع ـ أى نصف الجمعية العمومية لمجالس الشورى ، وأيضا باعتبارها ـ او يمكن أن تكون ـ صاحبة خبرة.

والديمقراطية بهذا الشكل وتلك الممارسة تقوم بتعليم كل أفراد الشعب تحمل المسئولية وتدريبهم على المشاركة الفعالة فى تسيير المجتمع باعتبار كل فرد جزءا من هذا المجتمع على قدم المساواة مع الأفراد الآخرين ـ بلا تمييز على أساس العقيدة والملة لأن المواطنة هى للمسالم بغض النظر عن إعتقاده ، وبغض النظر عن النوع أو الجنس ( ذكرأ كان أو أنثى ) أو اللون أوالوضع الاقتصادى أو غيره.

*وليس فى الدولة الاسلامية حاكم فرد

1 ـ  كل الأوامر القرآنية لا تأتى لحاكم بل للمجتمع رجالا ونساءا، ومنها قوله جل وعلا : (،(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) محمد )،  (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) الانفال  ) (هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) محمد )

2 ـ وكلمة ( يحكم ) فى القرآن الكريم جاءت بمعنى الحكم القضائى ، أى فى التقاضى ، أى ( يحكم بين ) وليس بمعنى يحكم الشعب . يقول جل وعلا فى خطاب مباشر للمؤمنين : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) النساء  ).

3 ـ  بل إن كلمة ( الحكام ) لم تأت فى القرآن الكريم إلا مرة واحدة ، فى سياق الفساد السائد فى المجتمع ، وفى النهى عن رشوة الحكام الظالمين لأجل أكل أموال الناس بالباطل ، يقول جل وعلا : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) البقرة  ). والمستفاد أنه حيث يوجد ( حُكام ) فالسبيل سهل الى الفساد .

 ومع وجود قائد فهو ليس بالحاكم المتعارف عليه لأن هذا القائد  هو صاحب صفة تنفيذية ، هى الأساس ، ويستوى فيه أن يكون رجلا أو امرأة ، المهم أن يكون كفؤا فى خدمة الأمة وبعد أن تنتهى مدته يصبح شخصا عاديا يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق كما كان يفعل النبى عليه السلام .  أى أن تشريع القرآن لا يمنع أن تكون المرأة على رأس الدولة طالما كانت من أهل الكفاءة والاختصاص.

* وهذا كله فى إطار نظام الشورى الذى لا يمكن تطبيقه إلا إذا كانت القوة كلها فى أيدى الشعب أو الأمة. أما إذا كان الشعب ضعيفا مستكينا إنفرد الحاكم دونه بالقوة ليقتسمها مع جيشه وأتباعه . وعلى قدر قوة الحاكم تكون درجة مشورته لمن حوله ، وتكون نظرته للشعب الذى يحكمه. والمفروض أن تخاف الحكومة من الشعب لأنها خاضعة للشعب وخادمة للشعب ، هذا إذا كان الشعب قويا برجاله ونسائه . أما إذا كان الشعب ضعيفا وإستاثر مستبد بحكمه فإنه ينظر لهذا الشعب على أنه قطيع من الأغنام يملكه ويستغله ، يذبح منهم ما يشاء ويستبقى ما يشاء . وذلك منطق الراعى والرعية فى العصور الوسطى فى تاريخ المسلمين ، ومن تراث المسلمين نبعت تلك الفتوى الفقهية التى تقول أن للحاكم أن يقتل ثلث الأمة أو ثلث الرعية لأصلاح حال الثلثين .!!

تاسعا : رئاسة المرأة الدولة وقوامة الرجل على المرأة 

  1 ـ قوامة الرجل فى الزواج أى مسئوليته عن الزوجة ورعايته لها، وتتحقق هذه القوامة بقيامه بالإنفاق عليها بعد ان دفع صداقها .( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ) النساء 34) 
بدون الانفاق لا تكون للرجل قوامة على الزوجة الا برضاها واختيارها. كما أن للزوجة أن تشترط أن تكون العصمة بيدها ، أو ان تكون لها القوامة على الرجل . ان عقد الزواج مجال للتفاوض بين الطرفين يضع فيه كل طرف ما يعبر مكانته ومقدرته، وما يتم الاتفاق عليه فى العقد يصبح سارى المفعول طبقا لأمر الله تعالى للمؤمنين فى أول سورة المائدة بالوفاء بالعقود..  

 2 ـ والطريف أن من يعترض علينا بموضوع القوامة يتصور رئاسة الدولة فى حاكم مستبد وقد عرفنا أن صورة الحاكم فى الدولة الإسلامية تناقض ذلك تماما ، بل إن الشعب هو فى الحقيقة صاحب القوامة على الحاكم ، فهو الذى يدفع للحاكم مرتبه فى مقابل ما يؤديه الحاكم فى خدمة الشعب وذلك فى إطار عقد محدد ومن هنا يمكن القول أن المرأة قد تكون أقدر على الطاعة والخدمة للشعب " القوى " .

3 ـ  كما أننا نتحدث عن إمرأة ذات مواصفات خاصة تصلح بها أن تكون من ( أولى الأمر ) فى الدولة الاسلامية ، ولا نتصورها ( ست بيت ) أو ( ربة منزل ) عادية .

4 ــ ثم نعيد التذكير على أن الثقافة الديمقراطية المباشرة المرتبطة بالدولة الاسلامية تستلزم وعيا مستمدا من العقيدة الايمانية ( لا إله إلا الله ) . هذا الوعى الايمانى لا مجال فيه لتقديس بشر من الأنبياء أو من غيرهم ، وهو مؤسس على ألا يتعالى فرد على آخر ، بل هى المساواة والعدل بين البشر ذكورا وإناثا فى إطار المواطنة لكل فرد مُسالم بغض النظر عن دينه وملته وعقيدته . هذا الوعى يرتفع بعقلية الجميع خصوصا النساء ، ويحولهن الى ناشطات فى العمل العام ، ويجعلهن صاحبات قوامة ، او على ألأقل الأغلبية منهن .

5 ـ  ونؤكد أن وضع المرأة من حيث الوعى ومن حيث النشاط الاجتماعى والحراك الاجتماعى هو مقياس مدى التحضر أو التخلف فى أى مجتمع . وهذا ما نراه فى تاريخ الصحابة أثناء حياة النبى وبعده ، كما نراه اليوم فى مقارنة بين المرأة ( المحمدية ) التى تم تعبئتها ـ برضاها ـ  لتكون سلعة وأسيرة النقاب والمرأة المسيحية المتفاعلة مع مجتمعها . ومهما وصل الوضع التقدمى للمرأة الغربية المسيحية فهو دون حق المرأة فى التشريع الاسلامى القرآنى .

 

عاشرا : فى الشهادة فى المعاملات التجارية :

1 ـ يقول جل وعلا فى أطول آية قرآنية : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 282 ) البقرة ).

2 ـ هنا الأمر بكتابة الديون المؤجلة ، يكتبها كاتب عدل ، وعليه الامتثال لما يُملى عليه . أما الذى يُملى فلا بد أن يلتزم بالعدل فيما يُمليه على الكاتب . فإن كان صاحب الحق ( الدائن ) غير مؤهل فليقم ولى أمره بالاملاء عنه . ثم ليكن هناك شاهدان من الرجال ، أو رجل وإمرأتان . ولا بد من حضور الشهود ، ولا بد من كتابة التفاصيل فى الديون . إلا إذا كانت تجارة حاضرة متوالية فليس واجبا الكتابة عن طريق كاتب مستقل وشهود . أما البيع فيشترط فيه الاشهاد . ولا بد من حصانة الكاتب والشهود لأنهم محايدون . وإذا حدثت مؤاخذة للكاتب والشهود فهذا دليل فساد وفسوق فى المجتمع وفى جهازه القضائى .

3 ــ وواضح أن الآية الكريمة فيها أوامر ونواهى تشريعية لها مبرراتها ، وفيها أيضا مقاصد وأهداف تشريعية تعلو على تلك الأوامر والنواهى ، وتعمل فى إطارها الأوامر والنواهى . الأهداف التشريعية تسرى فى كل زمان ومكان أما الأوامر والنواهى فإمكانية تطبيقها تبعا للظروف فى إطار الالتزام بالأهداف التشريعية . أهم الأهداف التشريعية هو القسط والعدل ، وسبقت الاشارة الى ان إقامة القسط هى الهدف التشريعى لكل الرسالات السماوية . وفى هذه الآية الكريمة ــ  التى تتعرض بالتفصيل لموضوع كتابة الديون والاشهاد عليها ــ  نلاحظ تكرار الاشارة الى العدل ( المقصد التشريعى ) إما صراحة بالاتيان بنفس الكلمة ، وإما ضمنا بضمانة الحصانة للكاتب والشهيد . ولكن الأوامر التشريعية تأتى فيها التقييدات والحيثيات ففى شهادة المرأتين : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ) تأتى الحيثيات وهى : ( أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى )، أى بدونها يمكن أن تتساوى شهادة المرأة بالرجل . التطبيق بهذه الحيثيات يلائم مجتمعا فى درجة دُنيا من التطور ، ولا تزال تلك المجتمعات موجودة،  وستظل فى الأغلب موجودة . مقياس التطور هو فى مدى تفاعل المرأة فى الحياة وفى السوق وفى التعامل اليومى والتعليم . المرأة فى المجتمعات الأقل تطورا يلائمها هذا التشريع بحيثياته . ،. أما إذا بلغ المجتمع تطورا ينعكس تقدما على تفاعل المرأة فهذه الأوامر لا تصلح للتطبيق وتكون شهادتها كالرجل .  وطالما نتكلم عن درجة وعى كبيرة فى المجتمع تؤهله للشورى أو الديمقراطية المباشرة فهذه الوامر التشريعية بخصوص شهادة المرأة التجارية غير معمول بها .

 

حادى عشر  : المرأة  فى الميراث   :

1 ـ وقد يقال إن التشريع القرآنى يجعل نصيب المرأة فى الميراث نصف الرجل فكيف تتفق هذه النظرة مع توليها رئاسة الدولة؟ ولن نكرر ما قلناه  سابقاعن طبيعة الحاكم فى الدولة الإسلامية القوية بشعبها ولكن نوضح حقيقة وضع المرأة فى موضوع الميراث .

2 ـ للمرأة  نصف الذكر فى حالات محددة ؛ إذا كانت بنتا أو أختا ورثت الأب أو الأم أورثت الأخ أو الأخت . فالذكر الابن أو الأخ عليه أعباء ليست على أخته ، فهو الذى يقيم الأسرة ويدفع المهر وينفق على البيت . أما البنت أو الأخت فهى خالية المسئولية من هذا وذاك تجد من يدفع لها المهر  ومن ينفق عليها، وليس من العدل أن يتساويا فى الميراث إلا إذا تساويا فى الأعباء .

وعندما يتساوى الذكر والأنثى فى الأعباء يتساويان فى الميراث ، وذلك ما يحدث عندما يرث الأب والأم تركة ولدهما بعد أن عانى كل منهما فى تربيته ، ثم مات وترك ثروة، حينئذ لكل منهما السدس إذا كان للمتوفى ذرية ، أولكل منهما الثلث إذا لم يكن للمتوفى ذرية.

إذن هو توزيع للأدوار وتوزيع للأعباء لا ينقص من قدر المرأة ولا يجعلها درحة ثانية بعد الرجل ، ويكفى أن الله سبحانه وتعالى لم يفرق بين الرجل والمرأة فى التكليف ولا فى الثواب ولا فى العقاب ( آل عمران 195، والنساء 124، غافر40 ) .

 

ثانى عشر : هل الشورى الإسلامية تشريعات خيالية ؟:

1 ـ قد يقول قائل إن نظام الشورى فى الإسلام وفقا لما جاء فى القرآن أقرب إلى اليوتوبيا الخيالية ، والتى تجعل تطبيقها العلمى يقع فى دائرة النتوءات والاستثناءات التاريخية . فالأغلبية فى التاريخ الواقعى هو مع تاريخ  الاستبداد ، والغلبة فيه للرجل والظلم فيه يقع على عاتق المرأة ..

ونقول.. فعلا فإن دولة الإسلام التى طبقت الشورى ـ أو الديمقراطية المباشرة ـ بدأت تتآكل بمجرد وفاة النبى محمد عليه السلام ، ومنذ بيعة السقيفة التى عينت أبا بكر خليفة وحاكما . ثم تعاظم الابتعاد عن أسس الشورى الاسلامية الى ان تحولت الى حكم ملكى وراثى فى الدولة الأموية و ما تلاها الى الدولة او الخلافة العثمانية.ولكن العبرة هنا هى فى صلاحية النصوص للتطبيق ، وقد تم تطبيقها بنجاح  مذهل فى عصر غير عصرها .

2 ــ ولكى نشرح هذه العبارة بإيجاز نقول إن عصر ظهور الإسلام كان عصر القرون الوسطى المظلمة، وعصرالإمبراطوريات المستبدة ، أى أن الشورى الإسلامية ظهرت فى عصر يرفضها ، ومع ذلك انتصرت على عصرها ، فأقامت دولة وأسست أمة ومارست الشورى أو الديمقراطية المباشرة وسط أوقات صعبة ، حيث حوصرت الدولة الوليدة بأعداء من كل الجبهات ، وكان هناك طابور خامس فى داخلها يتآمر عليها، وهم المنافقون. وكانت كل الظروف الاستثنائية السابقة تعطى مبررا لتركز السلطة فى يد حاكم قوى ، خصوصا إذا كان هو النبى محمد عليه السلام الذى يأتيه وحى السماء. ولكن حدث العكس ، وهو تطبيق الديمقراطية المباشرة فاستطاع بها المسلمون الحفاظ على دولتهم التى كانوا يملكونها ملكية حقيقية ، فحافظوا عليها من المخاطر التى كانت تتناوشها من الداخل والخارج. وأعطت الدولة الاسلامية فى عهد النبى محمد درسا عمليا لمن يريد التحجج بالأمن لكى يصادر الحرية ، وتأكد بهذا أن الحفاظ على الأمن لا يكون إلا بالمزيد من الحرية و المساءلة و المكاشفة و الشفافية.

والسبب فى ذلك يرجع إلى قوة الشعب الذى كان  فيه ذلك الشعب  يمارس بالشورى فن القوة ، وقد تساوى فى ممارسة فن القوة الرجال والنساء معا . فالنساء شاركن الرجال فى الهجرة وفى مبايعة النبى ، بل كانت لهن بيعة خاصة .  وما معنى أن تهاجر المرأة من مكة إلى المدينة تاركة أهلها وربما زوجها فى سبيل دينها؟ المعنى قوة شخصيتها . لذلك كانت تبايع النبى بنفسها ، وهى تملك  زمام المبادرة بنفسها دون زوج أو ولى أمر .

3 ــ ونتذكر الفارق بين وضع المرأة فى دولة النبى وبين وضعها فى عصر التخلف والفقه السلفى حين نردد الحكم الفقهى المشهور الذى يمنع المرأة من السفر إلا بصحبة محرم أو زوج ، وتلك هى الفتوى الشرعية التى لا تزال سارية المفعول فى بعض البلاد حتى الآن..

4 ــ إن النصوص التشريعية سواء كانت إلهية أو بشرية – إنما تستمد قابليتها للتطبيق من قدرة البشر على تطبيقها ، وآيات القرآن كلها تهدف إلى بناء شخصية إنسانية قوية ولكن فى حدود الممكن والمستطاع وليس المستحيل أو المتعذر .وقد نجحت الوصفة القرآنية فى تحويل عرب الصحراء إلى أمه ودولة قوية فرضت نفسها على التاريخ العالمى فى القرون الوسطى ، قرون الاستبداد السياسى ، فإذا أفلحت هناك فهى أصلح لعصرنا ، عصر حقوق الإنسان وثورة الاتصالات التى تتيح الديمقراطية المباشرة .

5 ــ ولكن لابد من الاعتراف بوجود مشكلة خطيرة ، وهى أن الاستبداد السياسى للخلفاء بعد موت النبى عليه السلام كان استجابة طبيعة لما تعارفت عليه العصور الوسطى ، وقد اعتادت العصور الوسطى أن تصوغ كل جرائمها بانتحال الدين ، ولذلك أسبغت على ممارستها السياسية والاجتماعية مسحة دينية زائفة عن طريق نسبتها لنبى الإسلام فى صورة أحاديث وأخبار وروايات ، وفى نفس الوقت تجاهلت   مجالس الشورى التى كانت تعقد فى المدينة والتى تعلم فيها المسلمون أسلوب الحوار والنقاش فى حضور النبى ، تلك المجالس التى أشار اليها رب العزة فى القرآن الكريم وتشويش المنافقين عليها بالتناجى واتهام النبى عليه السلام بأنه ( أُذٌن ) :( النساء  114، المجادلة 7 ـ  التوبة 61 ) كما تجاهلوا أكثر من 500 خطبة جمعة للنبى فى المدينة كانت مدرسة أسبوعية للمؤمنين . تجاهلوا كل ذلك واستبدلوها بأحاديث وروايات زائفة لتعطى مشروعية زائفة لفكر العصور الوسطى الاستبدادى  والذى كان من أحد معالمه الأساسية اضطهاد المرأة.

6 ـ وتوارثنا هذا العفن على أنه دين وأنه ( سُنّة الرسول ) وأنه ( وحى ربانى ) بل يرتفع به بعضهم فوق القرآن الكريم . وصحيح إنها مشكلة خطيرة ، ذلك التراث المقدس. ولكن ما أسهل أن ننزع عنه صفة القداسة حين نتذكر أن أصحابه مجرد بشر يخطئون ويصيبون ، وقد اجتهدوا لعصرهم وعلينا أن نجتهد لعصرنا .وإن لم نفعل ذلك فقد خلعنا عليهم صفة الألوهية . هذا التأليه للبشر يناقض الإسلام الذى لا إله فيه إلا الله. ولا إله مع الله . وهكذا بالقرآن تنتهى المشكلة وخطورتها .ولكن المشاكل لم تنته بعد ، بدليل الاعتراض الأخير :

 

ثالث عشر : موقف التشريع القرآنى من النظم السياسية الديكتاتورية:

إن تشريع القرآن عن الشورى يظل توصيفا لحالة وحيدة حتى إن كانت قابلة للتكرار . ولكن ما موقف تشريع القرآن من الأغلبية ؟ أغلبية نظم الحكم المستبدة ؟ .. هل يعتبرها القرآن ويعترف بها أم يعتبرها نظم حكم كافرة يجب تغييرها ؟..وقضية المرأة تدخل فى هذا الإطار .

ونقول إن حقيقة الوجود الإنسانى فى هذه الدنيا إنما هو إختبار إلهى للبشر ، وأساس هذا الاختبار حرية الإنسان فى اختياره الهداية أم الضلال ، والإنسان هو الذى يختار الهداية أو يختار الضلالة ، وهذه هى البداية ، ثم تأتى إرادة الله لتؤكد اختيار الإنسان، فإذا اختار الإنسان الهداية زاده الله إيمانا وهدى . وإذا اختار الضلال زاده الله ضلالا . وهذا ما يؤكده الله تعالى فى القرآن (البقرة :10، محمد 17،مريم6 7، العنكبوت 69) ثم يأتى الحساب فى الآخرة على ما اختاره الإنسان بإرادته.

وكما ينطبق ذلك على اختيار العقائد فإنه ينطبق أيضا على أحوال السياسة. فالحاكم المستبد الظالم الذى اعترف له الناس بالسلطة وخشعوا له يعترف به رب العزة حاكما وملكا طالما رضى به الناس ملكا . ودليلنا على هذا أن الله تعالى تحدث عن ملوك ظلمة ادعوا الألوهية ووصفهم بالملك وذلك فى قصة إبراهيم مع الملك الذى جادل إبراهيم فى الله وادعى أنه يحى ويميت( البقرة 282 ) وفى قصة موسى والعبد الصالح مع الملك الظالم الذى يأخذ كل سفينة غصبا (الكهف 79) بالإضافةإلى فرعون وغيره.

وهكذا ، فطالما رضى الناس بالضيم واستبداد الحاكم يظل ذلك الحاكم ملكا عليهم يحظى باعترافهم به وباعتراف الله تعالى بملكه عليهم، ثم يأتى حسابه العسير على ما اقترفت يداه يوم القيامة . أما إذا ثار الناس على الظلم فالقرآن يعطيهم مشروعية الثورة ، التغيير بالحديد الذى أنزله بأسا شديدا ومنافع للناس (الحديد 25) ولكن هذا التغيير الثورى يبدأ بتغيير الأنفس التى تعودت على الخضوع والرضى بالذل ، وهذا التغيير النفسى عملية شاقة ، فإذا نجحت أمة فى تغيير نفسها من الهوان إلى القوة جاءت إرادة الله تعالى لتعززهذا التغيير ،( الرعد 11 ). وإذا حدث هذا الوعى أو ذلك التغيير فى شعب ما تحول الحاكم الهصور إلى نمر من ورق أو إلى جثة تذروها الرياح . وبعدها يحكم الشعب نفسه بحيث يصبح الحاكم مجرد رمز لإرادة الشعب ،سواء كان ذلك الرمز رجلا أم امرأة ..

ولكن هل نسينا موضوعنا عن المرأة . ؟  

كلا .. بدليل حديث القرآن عن ملكة سبأ .. فقد تعرضنا لتشريع القرآن ،  وآن لنا أن نتوقف مع قصص القرآن فيما يخص رئاسة المرأة للدولة الديكتاتورية .

 

رابع عشر : مقارنة بين إمرأة مستبدة ورجل مستبد .

1 ــ ونود أن نضع بعض الملاحظات على قصة ملكة سبأ فى القرآن الكريم :

1 / 1 : فالقرآن الكريم لم يعترض على وجود امرأة تملك وتحكم ، وقد أوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم .ولكن انصب الاعتراض على أنها وقومها كانوا يسجدون للشمس من دون الله ، ولذلك أرسل سليمان لها رسالة يدعوها للإسلام ، ووجه رسالته إليها باعتبارها تمثل الشعب ، وهذا اعتراف آخر بشرعيتها فى الحكم .

1 / 2 : وحديث القرآن عنها يؤكد تمتعها بتأييد الحاشية أو الملأ ، وهى تستشيرهم فينتظرون رأيها ويعلنون تأييدها منذ البداية  واثقين من رجاحة عقلها ، قائلين لها إن الأمر إليك انظرى ماذا تأمرين ، وهى برجاحة عقلها لا ترد على رسالة سليمان بإعلان الحرب أو أن تجعلها قضية كرامة شخصية ولكن تفكر فى عاقبة الحرب على الشعب الذى يدفع دائما فاتورة الحمق لدى الحكام المستبدين ، قالتها ملكة سبأ حكمة غالية :( إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) النمل)  ، وهم حتى الآن " يفعلون" فما أفسد البلاد واهلك العباد إلا حكام مستبدون معتوهون لا زلنا  حتى الآن نسعد بوجودهم ، تراهم أخصائيين فى الهزائم أمام الأقوياء وفى الجبروت على بنى قومهم . وبرجاحة عقل نرى "بلقيس" تبدأ باستطلاع الجانب الآخر لتعطى نفسها  فرصة الدراسة والتفكير ، بأن ترسل إليهم بهدية وتنتظر الإجابة :( وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) النمل )   . وفى النهاية تبدو رجاحة عقلها حين تقتنع بالإسلام ، وتنجو بقومها فى الدنيا والآخرة ، وتقول( قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)  النمل).

2 ــ وفى القصص القرآنى نموذجان للحكام المستبدين ، أحدهما رجل وهو فرعون مصر ، والآخر امرأة وهى ملكة سبأ. وبينما تكررت قصة فرعون عدة مرات فى القرآن فإن القرآن تعرض لقصة سبأ مرة واحدة .

3 ــ ويجمع بين فرعون مصر وملكة سبأ عدة عوامل:

فكلاهما مارس الاستبداد بمفهوم القوة، وقد قلنا إن الشورى هى فن ممارسة القوة ، فإن كان الشعب هو القوى أصبح الحاكم مجرد أجير للشعب ينفذ رغباته ، أما إذا انفرد الحاكم دون الشعب بالقوة والثروة أصبح حاكما مستبدا يستشير نفسه أو يستشير حاشيته التى تفكر له فيما يحب وتتقرب إليه بالنفاق فيما يضخم ذاته ونزواته . وقد استمد فرعون استبداده من ملكيته لمصر وجيشها وشعبها . وقد أعلنها صريحة فى مؤتمر شعبى حكاه رب العزة جل وعلا فى القرآن :( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) الزخرف )   والتاريخ الفرعونى يؤكد أن عصر الرعامسة شهد تمام التحكم  للملوك فى الثروة وفى السلطة  وفى قيادة الجيوش ، بعد أن سيطروا بالجيش على أمراء الإقطاع فى وادى النيل ، وأسسوا المستبد المركزى الذى لا يتحرك إلا بتوجيهات "السيد الرئيس.."

ونفس الحال فإن بلقيس استمدت سلطتها المستبدة من انفرادها بالثروة والسلطة : ( إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) النمل ) ، والحاشية أو الملأ يعترفون لها بهذا السلطان ويجعلون لها الأمر والنهى قائلين: (قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)  )النمل ) 

والله تعالى يعتبر فرعون  ممثلا للمصريين كما يعتبر بلقيس ممثلة لملكة سبأ، لذا فإن الله تعالى يرسل إلى فرعون مصر رسولين من لدنه جل وعلا ، هما موسى وهارون،  ويوصيهما بحسن التخاطب معه :( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) طه ) ، ونفس الحال مع بلقيس ارتبط ذكرها بالنبى سليمان ، وبرسالته التى أرسلها إليها باعتبارها تملك سبأ.

ولكن مع كل هذا التشابه بين الفرعون وبلقيس فإن ردود الأفعال لديهما اختلفت ، وترتب  عليه مصير كل منهما ومصير شعبه المسئول منه.

إن الوظيفة الأساسية لموسى وهارون هى استنقاذ بنى إسرائيل من الاضطهاد الفرعونى ، وأن يسمح الفرعون لهما بأن يخرجا من مصر ببنى إسرائيل " إنا رسولا ربك ، فأرسل معنا بنى إسرائيل ولا تعذبهم "(16) وكان التكليف الإلهى للرسول بأن يبلغا هذه الرسالة للفرعون باللين والسلام: (  فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) طه ) . وتزود موسى بالمعجزات لكى يقتنع فرعون بأنه رسول إليه من عند الله تعالى فيسمح له بأخذ بنى إسرائيل.وكان بإمكان فرعون أن يلبى الطلب وأن يسمح لهذه القبائل العبرية التى يكرهها بالرحيل عن بلاده خصوصا وأن قوته التى تحدث عنها القرآن تحميه من أى خطر محتمل يمكن أن يمثله أولئك الإسرائيليون فى المستقبل ، بل إن الاضطهادالفرعونى لهم جعلهم عاجزين عن دخول فلسطين وأوقع بهم محنة التيه أربعين عاما فى الصحراء بسبب ما تربوا عليه من ذل وجبن. لم يفعل فرعون ذلك ، بل أدى به غرور القوة لأن يطارد أولئك المستضعفين وهم يهربون من ظلمه وهم تحت قيادة اثنين من الأنبياء، وكانت النتيجة غرق فرعون وجنده وآله فى الدنيا ، وعذابهم بين البرزخ والقيامة . والسبب هو الاستبداد الذى يصل بصاحبه إلى الألوهية . وقد قال فرعون لقومه (مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) غافر ) . وبسب هذا الاستبداد بالرأى الى هلاك فرعون وقومه والى تدمير أثار فرعون موسى فمحاها (فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) الاعراف ) .

وأختلف الحال مع ملكة سبأ وموقفها من النبى سليمان :

لقد كان سليمان ملكا نبيا مؤيدا من السماء، وبهذه الصفة بعث رسالة إلى الملكة يدعوها للإسلام – والإسلام هو إخلاص القلب والجوارح لله تعالى والعيش فى سلام مع الناس، وبهذا المعنى  نزلت كل رسالات السماء- وكانت رسالة سليمان للملكة تحمل الكثير من الاعتداد بالنفس، ومع ذلك فإن الملكة حين قرأت الرسالة خاطبت واستشارت الحاشية : (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) النمل)، أى إنها مع تسليم الحاشية لها كامل نفوذها إلا أنها بادرت بعرض الأمر عليهم وقرأت الرسالة على مسامعهم، ووصفت الرسالة بأنها" كتاب كريم " فى إشارة واضحة للملأ حتى لا تأخذهم الأنفة العربية " المعروفة " فتنطلق منهم التصريحات الملتهبة "المعتادة" .وبنفس السياسية الهادئة تمكنت بلقيس من الوصول إلى النهاية السعيدة لها ولشعبها ،بينما استقر فرعون وآله فى قاع البحر بسياسته الخرفاء .

وهذا هو الفارق بين استبداد رجل غاشم هو فرعون واستبداد امرأة هى بلقيس، والذى لا شك فيه أن المرأة الحاكمة المستبدة أقل عدوانية وشراسة من الرجل المستبد. 

 

الفصل الثانى : تراث المسلمين: وحق المرأة فى رئاسة الدولة  

تمهيد

1- تشريع القرآن هو ما ينبغى أن يكون ،وقصص القرآن هو وصف لما كان مع التركيز على العبرة. هذا هو ما يخص القرآن فى التشريع وفى القصص ، وقد عرضنا لحق المرأة فى رئاسة الدولة فى تشريع القرآن ( الذى ينبغى أن يكون) وعرفنا أن الشورى الإسلامية تجعل القوة فى يد الشعب. وتجعل الحاكم مجرد أجير للشعب ، وحينئذ يستوى أن يكون رجلا أو امرأة طالما حاز الكفاءة ، وطالما كانت القوامة للشعب عليه . كما عرضنا لقصص القرآن فيما" كان ".

فقد "كان" فرعون مصر مستبدا عاتيا تعامل بالاستبداد مع اثنين من الأنبياء وطاردهما مع شعبهما إلى أن انتهى به الأمر إلى الغرق والتدمير فأصبح عبرة لمن يخشى : (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) النازعات )

أما بلقيس فقد "كانت" ملكة مستبدة فى مملكة سبأ .ولكنها بطبيعتها الأنثوية كانت تستشير ، كانت تحمل خوفا على مملكتها من استبداد الملوك ، وتصرفت بهذه الرقة ، فنجت بشعبها..

هذا ما جاء فى تشريع القرآن وفى قصص القرآن .

2 ـ تراث المسلمين ـ من قصص أو تاريخ ومن تشريع أو فقه ـ  أيضا له جانبان :

الجانب الفقهى ، أو ما ينبغى أن يكون تبعا لأمنيات الفقهاء وتصوراتهم طبقا للمنهج الصورى للفقه النظرى الذى لا بد أن يتأثر بالواقع. ثم الجانب الواقعى الذى سجله التاريخ . وهنا يبدو الجانب الواقعى التاريخى هو المؤثر الحقيقى فى تصورات الفقهاء ، فالفقيه يتأثر بظروف عصره وتسلط السلاطين ويتجاوب معها بالسلب أو الإيجاب ، وينعكس ذلك على فتاويه ورؤاه ، وإذا كان ذلك الفقيه (مشرعا) ـ بتشديد الراء ـ  أو بتعبيرهم (محدثا) ـ بتشديد الدال ، أى يروى الأحاديث ، فهو يعطى رأيه الفقهى حصانة من النقد بأن يجعله حديثا نبويا ، أى ينسبه للنبى عليه الصلاة والسلام ، بعد موت النبى بقرنين وأكثر من الزمان ، وذلك عبر سلسة من الرواة ينتهى بهم إلى الصحابة ، ثم إلى النبى ولا يجد أحدا فى عصره يناقشه أو يحاسبه فى كيفية إثبات أن أولئك الذين ماتوا بالتتابع مثله طيلة عشرات السنين قد رووا أو قالوا هذه الأخبار والروايات والأحاديث.وسلاسل الرواة لا تصمد للمنهج العلمى أو القرآنى ، ولذلك نحن نتعامل معها على أساس إنها فكر أو رأى أو ثقافة عصرها.

3- وهذا يعنى أن روايات التراث فى التاريخ والسيرة والتشريع  ليست دينا إلاهيا وحقائق مطلقة ، بل أقاويل وروايات بشرية ، يجوز فيها الخطأ والصواب والنقاش، وهى بذلك تختلف عن حقائق القرآن المطلقة . وبالتالى فإن لنا مطلق الحرية فى التعامل مع مرويات التراث وفتاويه، وفى النهاية فإن ما نقوله يدخل هو الآخر فى إطار الفكر البشرى الذى يقبل الخطأ والنقاش والصواب .ونحن نعتقد أن هذا هو الاجتهاد الدينى الذى يحتاجه المسلمون للخروج من تخلفهم الحضارى الذى استمركثيرا وآن لهم أن يودعوه أو يودعهم.

4- ولكى تصل المرأة إلى رئاسة الدولة فلا بد لها كالرجل من سلوك طريقين ، إما بالمشاركة فى صنع الدولة بالثورة والهجرة والحرب والنضال ، وإما بوراثة الحكم . وهذا ما سار فيه تاريخ المرأة داخل وخارج تاريخ المسلمين .

إلا أن المرأة امتازت عن الرجل باستغلال مهارتها الأنثوية فى السيطرة على الرجل الحاكم وسيطرت عليه من خلال "سرير" الحكم أو العرش. والغريب أن أغلب من وصلن إلى السيطرة الفعلية فى الحكم أو السيطرة الفعلية والرسمية كن من الجوارى اللاتى اتخذهن الخلفاء للمتعة ، وكن أقل منزلة من الحرائر الأرستقراطيات . ولكنهن بمهارتهن العقلية والأنثوية أمسكن بكل الخيوط السياسية وسيطرن على مراكز القوى ، واستخدمن أدوات العصر وثقافته وأساليبه السياسية فى الوصول للسلطة أو للاحتفاظ بها . وجرى عليهم ما جرى على الرجال من الصعود والهبوط ومن العز والذل . وعند السقوط لم يرحم العقاب أنوثتهن أو رقتهن ، لأن لعبة السياسة لا ترحم المهزوم الخاسر وفق الثقافة السياسة للعصور الوسطى .

5- ومن خلال التراث نتتبع وفق التسلسل الزمنى جهود المرأة للوصول إلى رئاسة الدولة ، إلى أن وصلت إليها سنة (648 هجربة- سنة 1250 م) فى سلطنة شجرة الدر . وكما أنهينا المبحث السابق بالمقارنة بين فرعون موسى وملكة سبأ ، سننهى هذا الفصل بمقارنة بين شجرة الدر وآخر خليفة عباسى فى بغداد، شاء سوء حظه أن يعترض على تولى شجرة الدر رئاسة الدولة..

وخلال هذا التسلسل الزمنى نحرص على تتبع جهد المرأة السياسى فى تاريخ المسلمين خلال موضوعات ثلاث:

المرأة والنضال فى سبيل إقامة أو توطيد الدولة ، المرأة والحكم من خلف ستار ، ثم أخيرا المرأة وهى تتصدر بنفسها الحكم ( شحرة الدر ) ، وكيف تفوقت فى ذلك على الرجل الحاكم المعاصر لها ( آخر خليفة عباسى فى بغداد )وهو ترتيب موضوعى ومنطقى ، أو نرجو أن يكون كذلك .

ونتعرض لذلك ببعض التفصيل و التدليل .

 

 

أولا : المرأة والنضال فى سبيل إقامة الدولة :

 

1- العادة أن حركة التاريخ الإنسانى على هذا الكوكب تسير على قدمين إحداهما للرجل والأخرى للمرأة . ولكن كتابة التاريخ عمل انفرد به الرجل ، لذلك جعل المرأة تتوارى بين سطور التاريخ ، وجاء الرجل الفقيه وأفرغ فيها شحنات غضبه لتنزوى داخل البيت .وهذا يجعل مهمة المؤرخ عسيرة فى تجلية دور المرأة فى صنع التاريخ داخل البيت الملكى أو خارج البيت فى ساحة المعارك وميادين الثورات .

وفى بحث موجز كهذا فإننا نكتفى بالمرور السريع على جهد المرأة المتصاعد من النضال فى سبيل إقامة الدولة إلى أن وصلت إلى صدارة الحكم كسلطانة ورئيسة للدولة.

2- وقد عرضنا من خلال القرآن لتشريع القرآن فى الشورى والتى على أساسها تكون القوة والنفوذ للشعب بكل أفراده رجالا ونساء ، ومن هنا يستوى أن يكون الحاكم رجلا أو امرأة .

وقد أشار القرآن إلى المهاجرات وبيعتهن للنبى ولجوئهن إلى دولة  المدينة وأكدت روايات السيرة ذلك ، بل إن بعض هذه الروايات تحدثت عن المرأة التى تسبق أباها فى الإيمان مثل أم حبيبة التى سبقت أباها أبا سفيان فى الإيمان وأخت عمر بن الخطاب التى سبقته فى الإيمان وتحملت تعذيبه لها هى وزوجها سعيد بن زيد ، ومنهن حواء بنت يزيد الأنصارية وقد سبقت إلى الإسلام زوجها أبا يزيد ، وكذلك أم سليم بنت ملحان زوج مالك بن النضر والد الصحابى أنس بن مالك ، بل إن أم كلثوم بنت عقبة ابن معيط هاجرت من مكة وهى فتاة فجاءت للنبى بعد صلح الحديبية تاركة أهلها ، وخرج فى أثرها أخواها الوليد وعمارة فرفضت أن تعود معهما .

ومن المؤمنات من هاجرن إلى الحبشة ثم إلى المدينة ، وقد ذكر أسماءهن ابن هشام فى سيرته  علاوة على كتب الأحاديث ، ويقول الإمام الزهرى " وما نعلم أحدا من المهاجرات ارتدت بعد إيمانها".

 وكان يعقب الهجرة مبايعة المرأة للنبى كحاكم ونبى على الالتزام بتشريع الدولة وأحكامها ، مثلها فى ذلك مثل الرجل تماما . وجدير بالذكر أن النبى عليه السلام قبل أن يهاجر إلى المدينة عقد مع الأنصار بيعتى العقبة الأولى والعقبة الثانية . وشهد العقبة الثانية ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان أم عمارة وأسماء بنت عمر .

وكانت المرأة تشارك فى إقامة الدولة وفى الدفاع عنها ، فتقول الربيع بنت معوذ : " كنا نغزو مع النبى فنسقى القوم ونخدمهم ونداوى الجرحى ونعود بالقتلى إلى المدينة ، وكانت المرأة تشارك الرجل فى  حضور جلسات الشورى فى المسجد ، وفى حديت فاطمة بنت قيس " .. فلما انقضت عدتى سمعت نداء منادى رسول الله (ص) ينادى : الصلاة جامعة فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول الله فكنت فى صف النساء التى تلى ظهور القوم) (التفاصيل فى كتاب " تحرير المرأة فى عصر الرسالة: عبدالحليم ابوشقة :ج 2 : 411 -دار القلم ، الكويت . )، وهى إشارات متفرقة عن تفاعل المرأة فى عصر الرسالة القرآنية ودورها فى إقامة الدولة الإسلامية فى عصر النبى . وقد عمل الأمويون على تحويل هذه الدولة المدنية إلى حكم وراثى لصالحهم ، مما أدخل المسلمين فى حروب أهلية قادت السيدة عائشة أولى حروبها وهى حرب الجمل.

  3 ـ السيدة عائشة

وكانت السيدة عائشة  تتزعم المعارضة ضد الخليفة " عثمان بن عفان " بعد أن وقع تحت سيطرة أقاربه الأمويين . وأدت معارضتهاومعارضة الآخرين إلى الثورة على "عثمان" ومقتله ، وتولى الخلافة بعده "على " ولم ترض السيدة عائشة بهذا الاختيار فتزعمت معارضة مسلحة ضده مما أدى إلى موقعة الجمل.

والمغزى من هذه الحكاية الدامية والمؤسفة أن ما تعودت عليه السيدة عائشة من التفاعل السياسى قد جعلها تنسى الأمر الإلهى لزوجات النبى بالاستقرار فى البيت ، وذلك أمر خاص بهن ولكن إسهام المرأة فى الشئون السياسية كان وقتها شيئا عاديا بحيث أسفر فى النهاية عن قيادة السيدة عائشة لجيش ثائر ضد خليفة شرعى .

واستفاد الأمويون من هذه الحروب الأهلية فى إقامة دولتهم الوراثية ، ولكن لم يكن سهلا استئصال بقية جذور الدولة الإسلامية القائمة على الشورى والعدل ، لذلك تكلف المسلمون عدة مئات من ألوف القتلى فى سبيل أن ينعم الأمويون بإقامة دولتهم ، وتكلف المسلمون أضعاف هذا العدد من القتلى كى يوحد الأمويون دولتهم . بل إن الأمويين فى سبيل ذلك ارتكبوا ثلاث عظائم فى سبيل أن يتولى أول خليفة أموى بالوراثة ، وهو يزيد بن معاوية . فقد قتلوا الحسين حفيد النبى وأهله فى كربلاء . وغزوا المدينة وانتهكوا حرمتها حين ثارت عليهم ، وحاصروا مكة وانتهكوا حرمة الكعبة . واشترك فى الثورة على الأمويين ونظامهم الاستبدادى كل من الشيعة "والموالى " فى العراق والأقباط فى مصر ، والخوارج من الأعراب.

4 ـ غزالة الخارجية :

وشاركت المرأة فى هذه الثورات حتى فى ثورات الخوارج ، وهم بدو أعراب لا يقيمون للمرأة شأنا ، وهذه ثقافة البدو ولكن الإسلام جاء بتحول جديد فى حياة المرأة فى الجزيرة العربية ، فظهرت نماذج عجيبة فى المشاركة السياسية الحربية أهمل المؤرخون تسجيل  أغلبها اكتفاء بأقوال عامة من مشاركة نساء الخوارج مثلا فى الثورات والحروب ، ذلك أن تسجيل ذلك التاريخ تمّ بعد حدوثه وبعد فترة من الروايات الشفهية . ولم يعزز كتابته إلا حديث الشعر عنه ، ومن ذلك ما رددته الأشعار عن غزالة زوجة شبيب الخارجى الثائر على الدولة الأموية .

وكان شبيب قد هزم خمسة قواد للوالى الأموى الجبار الحجاج بن يوسف فقتلهم شبيب واحدا واحدا ، ثم قصد شبيب الكوفة ففر الحجاج أمامه وتحصن بالقلعة وقصر الإمارة ، ودخل شبيب إلى الكوفة ومعه زوجته غزالة . وكانت غزالة نذرت لله أن تدخل مسجد الكوفة فتصلى لله ركعتين تقرأ فيهما بأطول سورتين فى القرآن (سورة البقرة وسورة آل عمران).

 وأوفت غزالة بنذرها فدخلت الكوفة مع زوجها ومع سبعين رجلا إلى الكوفة ثم إلى المسجد وصلّت فيه الصبح . وفر الحجاج أمامها وتحصن بالقلعة .

 وقد قال الشاعر فى ذلك يسخر من الحجاج تلك الأبيات المشهورة :

           أسد على وفى الحروب نعامة                 فتخاء تنفر من صفير الصافر

         هلا برزت إلى غزالة فى الوغى             بل كان قلبك فى جناحى طائر

ووصف المؤرخون غزالة بأنها كانت فى الفروسية والشجاعة بالموضع الأعلى ، وكانت تقاتل فى الحروب بسيفها وفرسها .

ولما عجز الحجاج عن مواجهة شبيب وزوجته بعث الخليفة الأموى عبد المللك بن مروان بجيش جرار يقوده سفيان بن الأزد وتعاون معه الحجاج فى هزيمة شبيب ، الذى انسحب من المعركة بعد أن قتلت زوجته غزالة وأمه جهيزة ، وكانت هى الأخرى من المحاربات الشرسات . وأثناء انسحاب شبيب عبر نهر دجيل وغرق فيه . ( خليل بن ايبك الصفدى : فوات الوفيات 16 / 105:104:103)

5-على أن أم حكيم الزوجة المقاتلة هى أبرز ما يعبر عن تفاعل المرأة فى ذلك فى العصر ، سواء فى نضالها ضد الإسلام أو معه،وفى كل الأحوال فالإسلام هو الذى ملأها حماسا عظيما فأخرجها عن السلبية الأرستقراطية التى كانت تتمتع  بها سيدات قريش، ثم انضمت إلى الإسلام فاندفعت فى حماس آخر لتكفرعن نضالها السابق ضده . وتعالوا بنا نجمع شتات أم حكيم من بين سطور التاريخ .

ظهرت أم حكيم فى مكة فى عصر النبوة حيث كان عمها أبو جهل (أبو الحكم بن هشام ) يتزعم بنى مخزوم وقريش فى حرب النبى وأصحابه، وقد تزوجت أم حكيم ابن عمها عكرمة بن أبى جهل وسارت مع أسرتها فى الطريق المضاد للإسلام . وتلاحقت الأحداث من اضطرار المسلمين للهجرة من مكة إلى المدينة ، ثم نشوب أول حرب بين الفريقين فى بدر ، وكان أبو جهل ممن تزعم المشركين ، وقد لقى مصرعه ، وإنهزم جيشه . وهنا بدا دور عكرمة بن أبى جهل وزوجته أم حكيم فى الظهور والزعامة . وشهدت المعركة التالية فى" أحد"  تلك الزعامة المبكرة لعكرمة وزوجه إلى جانب أبى سفيان وزوجه هند ، وكان الجميع ينشدون الثأر لمقتل الآباء والأخوة والأعمام من سادة قريش فى بدر .

وانتهت المعركة بانتصار قريش على النبى وعادت أم حكيم وزوجها وأبو سفيان وهند وقد شفيت صدورهم ، واستمر عكرمة يؤدى دوره مع أبى سفيان فى حرب المسلمين فى غزوة الخندق "الأحزاب" واضطرت قريش لصلح الحديبية الذى لم يكن عكرمة سعيدا بتوقيعه، لذلك قام بنقض المعاهدة فأدى ذلك إلى مفاجأة النبى لقريش بجيش ، فلم يسعهم إلا التسليم بزعامة أبى سفيان ، ولكن اتفق عكرمة مع صديقه الموتور صفوان ابن أمية و آخرين على مقاومة الجيش  وتكون منهم جيش للمقاومة قام بنكث العهد ، وهاجم المسلمين فى الحرم ، ومع تجاهل رواة السيرة لأغلب تلك الوقائع إلا أن القرآن الكريم أشار اليها بل كانت تلك الأحداث الحربية المجهولة سببا فى نزول سورة براءة التى اعطت مهلة أربعة أشهر ـ هى الأشهر الحرم ـ لأولئك المتمردين الخائنين المعتدين على الحرم والمسلمين الآمنين فيه :( التوبة 1 : 28 ).

لم تذكر السيرة تفاصيل تلك الأحداث التى عقّب عليها القرآن سوى معركة إنتحارية يائسة تسمى الخندمة نتج عنها فرار صفوان وعكرمة ،وربما كان الحافز لذكرها انه تم تخليدها شعرا ، إذ قال أحد الهاربين لامرأته

                         انك لو شهدت يوم الخندمة                 إذ فر صفوان وفر عكرمة

بعد فشل التمرد هرب عكرمة من مكة بعد أن أسلمت قريش وأسلمت زوجه أم حكيم ، وقابلت أم حكيم النبى وتكلمت معه فى الصفح عن زوجها فاستجاب لها وأعطاها أمانا لعكرمة حتى يعود لأهله فى سلام ، وله البقاء على دينه إذا شاء ، وتمتع صفوان بن أمية بنفس الأمان ، إلا إن عكرمة كان قد انطلق إلى اليمن ليعبر منها إلى الحبشة. وسافرت خلفه زوجه أم حكيم لتبشره بالأمان وتعود به ، وكان رفيقها فى السفر أحد عبيدها كانت تحسبه نعم الرفيق ولكنه فى الطريق أراد الغدر بها والاعتداء عليها ، ولكنها استطاعت أن تتغلب عليه وأن تقتله .

عاش عكرمة فترة من التيه الى أن عثرت عليه زوجته أم حكيم . وعادا إلى مكة فى وقت تحول هائل مناقض لشريعة الاسلام وتاريخ النبى محمد عليه السلام ، وهذا التحول لا زلنا نشهده حتى الآن . وهو  إستغلال الاسلام فى الغزو والاعتداء والوصول للسلطة والثرة أو الاحتفاط بهما . هذا التحول الجديد والخطير بدأ بخلافة أبى بكر.  كانت قريش قد عادت لسطوتها بعد موت النبى محمد عليه السلام وتحالف المهاجرين القرشيين مع أهاليهم القرشيين ، وتولى ابوبكر خليفة معبرا عن هذا الحلف ، وثارت الأعراب على التسلط القرشى خصوصا حين طالبهم الخليفة الجديد أبو بكر بدفع الزكاة كرها ، وكانت كل قبيلة من قبل تجمعها وتفرقها على المستحقين من داخل القبيلة . كان دفع الزكاة تطوعا حتى إن رب العزة منع قبول الصدقات من المنافقين لأنهم لا يستحقون هذا الشرف (قُلْ أَنفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ (54)  التوبة ) . ولكن أبا بكر جعلها إلزما وأقرب الى الاتاوة والجزية وجعلها رمزا للتسلط والتحكم وتبعية القبائل لدولته القرشية . أدى هذا التطور الى إشتعال حرب الردة . وبعد إخماد حركة الردة كان لا بد من توجيه القوة العسكرية للأعراب الى الخارج فاتحدت قريش وبقية العرب فى الفتوحات ، بعد أن أقنعت قريش وقادتها الجُدّد أن قتال الفرس والروم وغير العرب هو جهاد فى سبيل الله جل وعلا ، وبذلك التأويل الفاسد تم إسباغ المشروعية الدينية على رغبتهم الدنيوية فى الثروة والسلطة ، وتحت شعار النصر والشهادة . وأصبح التفانى فى الفتوحات والاستماتة فى معارك الغزو لأمم لم تعتد على المسلمين ـ مظهرا يعبر عن قوة الايمان ، وفى نفس الوقت يتماشى ويتماهى مع نزعة العرب العسكرية وثقافتهم فى السلب والنهب.   تحولت الحروب والغارات المحلية بين القبائل الى حروب عالمية يقاتل فيها العرب مجتمعين أكبر إمبراطوريتين فى العالم وقتها ـ الفرس والروم ، وتحت تأويل فاسد للقتال فى الاسلام . ومع أنه تأويل فاسد إلا إنه تطابق مع ثقافة العرب ومع أهوائهم فى نفس الوقت ، وأتاح لهم تطبيق تلك الثقافة البدوية الجاهلية تحت شعار دينى .

 دخل عكرمة ( الاسلام ) ومعه زوجته وقت هذا التحول الجديد الذى إبتدعته قريش ، كانا صادقين فى كراهيتهما للإسلام فى عصر النبى ثم أصبحا بنفس الصدق متحمسين للغزوات التى أشعلتها قريش بعد موت النبى .  لذا أصبح عكرمة وزوجته على رأس الجيش القرشى الذى بعثه أبو بكر لحرب مسيلمة الكذاب فى اليمامة(نجد) . وبعد القضاء على حرب الردة أرسله أبو بكر مع خالد بن سعيد بن العاص لفتح الشام سنة 13 هجرية . ولم يكن خالد بن سعيد بن العاص يدانى عكرمة فى مهارته الحربية ، ولكن يبدو أن أبا بكر لم يكن يطمئن تماما إلى أن يعهد لعكرمة بن أبى جهل بقيادة الجيش ، برغم إلحاح عمر على تولية عكرمة محل خالد بن سعيد . وانهزم خالد بسبب تسرعه فهرب أمام أسوار دمشق وثبت عكرمة فى المؤخرة وحمى الجيش ، وكانت معه أم حكيم تقاتل الروم كما يقاتل الرجال . وعكرمة أثناء وطيس المعركة وهو يقاتل ينشد شعرا عن فتاته الحسناء التى تشهد بطولاته وتشد بسيفها من أزره . وأصبح  عكرمة قائدا لأحد الجيوش الأربعة التى تجمعت لملاقاة الروم فى معركة فاصلة. لذلك أمر أبو بكر قائد الجيش العربى فى العراق ( خالد بن الوليد  ) أن يترك جيشه مع من ينوب عنه وينتقل بأسرع ما يمكن إلى الشام يؤازر جيوش العرب فيها أمام الروم. ووصل خالد فى فترة قياسية وقبل ساعة الصفر ، واتفق مع القادة على توحيد القيادة وأن يتولوها بالتتابع على أن يكون هو قائد اليوم الأول . وأعاد ترتيب الجيش الموحد على أساس جديد ثم أعطى عكرمة والقعقاع قيادة المقدمة.

وانطلق عكرمة ومعه زوجته أم حكيم بكل حماس وفدائية ليكتبا تاريخا جديدا يغطى التاريخ الماضى .

ويذكر ابن اسحق أكبر مؤرخ للفتوحات أن أم حكيم كانت مع زوجها فى المعركة وأنها شاركت بالقتال بالسيف ومعها قوة من نساء قريش يقاتلن "حتى سابقن الرجال"

وأثناء احتدام المعركة كان عكرمة يصرخ فى الروم قائلا :" قاتلت رسول الله فى كل موطن فكيف أفرُّ منكم اليوم " . وحين رأى وهنا بين الجيش بسبب كثرة الروم هتف بين شجعان المسلمين : من يبايعنى على الموت ؟ فتوافد إليه أشراف الفرسان ، منهم عمرو وأخوه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور وأربعمائة  من أشراف العرب ، فألقوا بأنفسهم فى هجمة انتحارية فى قلب الجيش الرومانى ، فنتج عن ذلك تخلخل الروم وإصابة الفرسان المسلمين جميعا بالجراح أو بالقتل.

وجىء إلى خالد بن الوليد بعكرمة وابنه عمر وهما ينزفان ، فوضع رأسيهما على ساقه وأخذ يمسح الدم عن وجهيهيما ويقطر الماء فى حلقيهما ، وفتح عكرمة عينيه وهو يحتضر ونظر إلى ابنه وقال لخالد بن الوليد : " إنهم زعموا أننا لا نستشهد . بلى والله " ,ثم اغمض عينيه ومات . ومات ابنه معه. ورأت أم حكيم زوجها وابنها يموتان معا فى معركة واحدة،هى معركة اليرموك الفاصلة.

وحدثت بعد اليرموك معارك صغيرة استهدفت تطهير الشام من بقايا الروم ، وشاركت فيها كلها أم حكيم . وبعد انقضاء عدتها بعد وفاة زوجها عكرمة تقدم لخطبتها اثنان من قادة المسلمين فى تلك الفتوحات ، وهما يزيد بن أبى سفيان وخالد بن سعيد بن العاص . وقد ارتضت الزواج من خالد بن سعيد بن العاص ، ودفع لها صداقا قدره أربعمائة دينار . وأراد خالد أن يدخل بأم حكيم فقالت :" لو أخرت الدخول حتى يقضى الله هذه الجموع؟ " أرادت تأجيل الزفاف إلى ما بعد النصر وكانا على وشك الدخول فى معركة هامة فى مرج الصفراء ، فقال لها خالد : إن نفسى تحدثنى أننى سأصاب فى هذه المعركة . فرقت له ووافقت ، وأقام لها خالد وليمة ودعا أصحابه وفرسان الجيش ودخل بها ، ويبدو أن الجيش الرومانى كان يعلم  بما يحدث إذ فاجأهم بهجوم باغت وانطلق خالد من خيمته وهو يجمع عليه ثيابه يقاتل عصابة من الروم التفت عليه ، فأصيب وقتل ، وأسرعت أم حكيم وهى ترتدى ثيابها تقاتل الروم بعمود الخيمة فقتلت به سبعة من الروم ، ودخل المسلمون والروم فى معركة تصادمية رهيبة أسفرت عن إبادة الروم فى مرج الصفراء . وعادت بعدها أم حكيم وقد تمزق دروعها وقتل زوجها ،ودخلت أم حكيم فى عدة جديدة بعد وفاة زوجها الثانى ، وقضت فترة العدة  فى حروب الشام ، وبعد أن انتهت  تلك الحروب بالنصر عادت إلى المدينة تسبقها شهرتها ، فتزوجها الخليفة عمر بن الخطاب لتشارك معه فى صنع التاريخ ، مع أن التاريخ ظلمها ، فلم يذكرها إلا بين السطور .( ابن هشام السيرة النبوية ج 2 /  410 ، ابن عبد البر : الأستيعاب 4/ 1932 ، ابن الأثير : اسد الغابة 5/577 ، ابن حجر : الإصابة فى معرفة الصحابة 4/426  ).

 

ثانيا : المرأة تحكم من وراء ستار

لم يتيسر للمرأة أن تحكم  من وراء ستار خلال الدولة الأموية ، تلك الدولة العربية ذات الإيقاع السريع فيما بين دمشق وأطراف الدولة ، من بين حدود الصين والهند إلى حدود فرنسا وحواف البحر المتوسط الأوروبية . إلا أن سطوة المرأة السياسية ظهرت فى الدولة العباسية التى سيطرت على مساحة أقل مما سيطرت عليها الدولة الأموية ، والتى كان إيقاع التاريخ فيها متمهلا مما أتاح لنساء القصور أن يلعبن دورا سياسيا حتى لو كن من الجوارى المحظيات ، بل إن أكثرهن جوارى محظيات . ومعظم الخلفاء العباسيين من أبناء الجوارى المحظيات . ومعظمهم من نسل الخيزران أم هارون الرشيد ، وهو أبو كل الخلفاء العباسيين الذين جاءا من بعده . ونتعرض لأشهر النساء فى السياسة العباسية :

 

أم سلمة

على أن هناك امرأة مجهولة كان لها الفضل فى إقامة الدولة العباسية ، وكان لها نفوذها فى هذه الدولة حين قامت ، ولكن تسجيل التاريخ وتدوينه خلال العصر العباسى أوقع المؤرخين فى حرج فاكتفوا بالإشارة إليها بين السطور ، خصوصا وقد كان زوجها هو أبو العباس السفاح أول الخلفاء العباسيين.

والمؤرخ المسعودى ــ الذى عاش فى العصر العباسى وتحرر جزئيا من الخوف  ــ هو الذى أشار فى كتابه "مروج الذهب" إلى زوجة الخليفة أبى العباس السفاح ، وهى أم سلمة بنت يعقوب المخزومية  تزوجها عبد  العزيز ابن الخليفة الأموى الوليد بن عبد الملك ، ومات عنها فتزوجها بعده الخليفة هشام ابن عبد الملك . ومات عنها فورثت الأموال الطائلة وظلت عزبا . ومر بها أبو العباس فى شبابه وجماله فرغبت أن تتزوجه، وكان فقيرا مملقا صاحب طموح وعلى رأس دعوة سرية مع أخيه للقضاء على الدولة الأموية . وتزوجها واستطاع بأموالها تدعيم دعوته ، ونجحت الدعوة فى إقامة الدولة العباسية . وكانت قد اشترطت عليه ألا يتزوج عليها وألا يتخذ محظية من الجوارى . ووصلت إليه الخلافة وأصبحت له الدولة فصار لها السلطان فى خلافته . يقول المسعودى :" غلبت عليه غلبة شديدة حتى ماكان يقطع أمرا إلا بمشورتها وبتأثيرها . فلم يكن يدنو إلى النساء دونها لا إلى حرة ولا إلى أمة "   أى جارية . (مروج الذهب 2/ 207 :206 ). أى أن الخليفة السفاح الذى استأصل الأمويين وأباد البلاد وقتل العباد كان يتحول إلى قط أليف بين يدى زوجته أم سلمة.

 

 الخيزران

 

هى أم الخلافة العباسية منذ عصر الخليفة المهدى ثالث الخلفاء  العباسيين وحتى انقراض الخلافة العباسية فى القاهرة بالفتح العثمانى لمصر سنة 1517م . تزوجها الخليفة المهدى بن الخليفة المنصور . وأنجبت له الهادى ثم الرشيد وكلاهما تولى الخلافة . ومن نسل هارون الرشيد جاء كل الخلفاء العباسيين اللاحقين، ومن ثم فهى أم من جاء بعدها من الخلفاء العباسيين . وقد تحكمت فى الخلافة العباسية ردحا من الزمان كانت فيها الدولة العباسية فى أوج قوتها وإزدهارها ، وفى سبيل احتفاظها بهذا النفوذ لم تتورع عن قتل ابنها الخليفة الهادى .

وقد جئ بالخيزران فى بدايتها جارية إلى قصر الأمير ولى العهد المهدى ابن الخليفة المنصور ، وكانت العادة أن الجارية تتقلب بين أيدى الرجال منذ اختطافها من أهلها على أيدى العصابات إلى أن تتناولها أيدى تجار الرقيق من أدناهم إلى أعلاهم ، وأثناء هذه الرحلة تتعلم الجارية فنون الإغراء الأنثوى ، وكل المعارف من فقه وأدب وشعر وفلسفة وحكمة وغناء ورقص وعزف ، علاوة على خبرة بالحياة والمجتمع من أدنى مستوياته إلى أعلاها . فإذا وصلت إلى قصور الخلافة لتعرض للشراء كانت فى تمام لياقتها الأنثوية والعقلية والإنسانية . وهكذا كانت الخيزران حيث استسلمت ليد الأمير المهدى وهو يتفحص جسدها كما جرت العادة عند شراء الجوارى . وفى النهاية رغب الأمير عن شرائها قائلا لها :" والله ياجارية أنك لعلى غاية التمنى ، ولكنك خمشة الساقين  " أى خشنة الساقين ، وردت عليه الخيزران بجواب أشعل غرائزه ، إذ قالت له عن ساقيها : أيها الأمير  . إنك أحوج ما تكون إليهما لا تراهما.." فاشتراها وحظيت عنده مع أنه تزوج عليها عدة حرائر .وقد استطاعت بنفوذها أن تجعله يعتقها ويتزوجها ، ثم جعلته أخيرا يفضل أبناءها على أبناء الأخريات ، فيعقد ولاية العهد لابنيها الهادى ثم الرشيد .

إلا أن ابنها الهادى ــ ولى العهد رقم واحد ـ لم يكن يستريح لعلو نفوذ أمه السياسى فى خلافة والده المهدى ، ولم يعجبه تدخلها فى شئون الدولة وتوافد مواكب أصحاب الحوائج عليها ، وأحست الخيزران بنفور ابنها من نفوذها ، وخشيت على استمرار نفوذها إذا تولى ابنها الخلافة فى حياتها ، لذا عولت على أن تجعل ولا ية العهد لابنها الرشيد (الخاضع لسلطانها )أولا ، ثم للهادى بعده وأقنعت كالعادة زوجها المهدى بتقديم الرشيد الأصغر سنا على الهادى الأكبر سنا .

وفى محرم 169 ه , كان المهدى قد صمم على تنفيذ رغبة الخيزران ، وأعلن الهادى العصيان ، وتطورت الأمور بصورة غامضة ولقى الخليفة المهدى حتفه وتولى الهادى الخلافة برغم أنف أمه. وبدأت بوادر الأزمة بين الهادى وأمه الخيزران ، وكان الهادى شابا قوى البنية رشيق الحركة غيورا شديد البطش حازما يقظا ، ويبدو أنه قرر عقد هدنة مع والدته إذ سمح لها طبقا لما يقوله الطبرى بأربعة أشهر تمارس فيها نفوذها ،إلا أنه ما لبث أن ثار وصاح فى وجهها قائلا : إنه ليس من قدر النساء الاعتراض فى أمر المُلك.! وعليك بصلاتك وتسبيحك " إلا أن المواكب استمرت فى التوافد على بيت الخيزران ، ولجأت الخيزران إلى ابنها تسأله فى قضاء حاجة لعبد الله بن مالك ، فرفض قائلا : والله لا أقضيها له . فقالت له ، والله لا أسألك حاجة أبدا .فقال : والله إذن لا أبالى .فقامت عنه غاضبة ولكنه استوقفها صارخا :" والله لئن بلغنى  أنه وقف أحد ببابك لأضربن عنقه ولأقبضن ماله ، فمن شاء فليلزم ذلك ..ما هذه المواكب التى تغدو وتروح إلى بابك كل يوم ؟ أما لك مغزل يشغلك ؟ أو مصحف يذكرك؟ أو بيت يصونك ؟ ثم إياك وإياك إن فتحت بابك لمسلم أو ذمى "، وانتهى بذلك نفوذ الخيزران فى خلافة ابنها الهادى.

وأسرع الهادى يخطط لخلع أخيه الرشيد من ولاية العهد ليجعل ابنه جعفر بن الهادى مكانه ، وتحركت الخيزران لدرء هذا الخطرعن ابنها الرشيد الأمل الباقى لها فى استمرار نفوذها ، ولم يكن لها أن تنجح فى إيقاف الهادى إلا بطريقة وحيدة هى الاغتيال .إلا أنه ليس من المنتظر أن تقدم الخيزران على قتل ابنها لهذا السبب وحده، لذلك أتت المبادرة من الهادى نفسه إذ أقنعها بأنه عازم على قتلها وقتل أخيه الرشيد. إذ بعث لها بأوزة مشوية مسمومة ، وكانت على وشك أن تأكل منها لولا أن جاريتها خالصة حذرتها ، وجاءوا بكلب أكل من الطعام فتساقط لحمه ومات.

وتناهت إلى أسماعها أنباء مؤامرة أخرى على الرشيد ، لذا أسرعت الخيرزان فأمرت بعض الجوارى فقتلن ابنها الهادى خنقا وهو نائم سنة 170 هجرية بعد أن تولى الخلافة أربعة عشر شهرا فقط ، قتلته وهو فى قمة الصبا والشباب والفتوة، وبعثت إلى يحيى بن خالد البرمكى ليتولى عقد الخلافة للرشيد فى نفس الليلة التى مات فيها الهادى .  وفى خلافة الرشيد كانت الخيزران هى الناظرة فى الأمور بمساعدة يحيى بن خالد البرمكى وفقا لما يقوله الطبرى فى تاريخه . وظلت تتمتع بنفوذها فى خلافة الرشيد إلى أن ماتت 173 هجرية  فى مكة ، وحضر ابنها الرشيد جنازتها ومشى فيها حافيا  باكيا .!( تاريخ الطبرى8/72، 121 ،188 ، 205 ، 206 ،210 ،212 ،223 ،230، 238 ،252  ).

 

 قبيحة أم الخليفة المعتز العباسى

 

كانت قبيحة أجمل جوارى الخليفة المتوكل العباسى ، كان المتوكل مشغوفا بها لا يطيق الابتعاد عنها، وقد ارتفعت مكانتها لديه حين أنجبت له ابنه المعتز المشهور فى عصره بابن قبيحة .وكان المعتز فى صباه شديد النبوغ و الذكاء مما جعل أباه المتوكل و بتأثير قبيحة يفكر فى تقديمه فى ولاية العهد على أخيه الأكبر ( المنتصر ). وساءت العلاقات بين المتوكل وابنه المنتصر ولى العهد ، وتآمر المنتصر مع القواد الأتراك وقتل أباه المتوكل وبدأت سيوف الغلمان الأتراك بذلك تعرف طريقها إلى رقاب الخلفاء العباسيين . فكان من ضحاياهم المنتصر نفسه، ثم المستعين ، ثم المعتز وأمه قبيحة .

ولقد عاشت قبيحة أيام عزها فى كنف المتوكل وتحكمت فى الخلافة العباسية حين تولاها ابنها المعتز ، وأدّت سياستها الخرقاء إلى هلاك ابنها المعتز وإلى إذلالها فى أخريات حياتها. وما بين بدايتها محظية للمتوكل إلى نهايتها ذليلة تحت أقدام القواد الأتراك شهدت قبيحة عظمة الخلافة العباسية فى عهد المتوكل ثم انحدار شأنها فى أخريات حياتها . وربما كانت قبيحة نفسها من عوامل هذا الإنحدار .

وقد تحدث المؤرخون عن شغف المتوكل بقبيحة والحفلات الضخمة التى أقامها المتوكل حين أتم ابنه المعتزحفظ القرآن . وقالوا أن المعتز تولى الخلافة سنة 251هجرية وكان فى التاسعة عشرة من عمره ، وكان أصغر من ولى الخلافة وأول من ركب بحلى الذهب وأكثر من وقع تحت السيطرة التامة لأمه التى استخدمت القادة الأتراك فى قتل الخليفة السابق المستعين بعد أن عزلته من الخلافة ، ثم خططت لابنها كى يتخلص من منافسيه من أمراء البيت العباسى ، ثم إستغلت الشقاق بين القادة الأتراك لتحكم سيطرتها عليهم . وكانت قد استحوذت على الأموال والجواهر وحفظتها فى أماكن سرية ، وكان هناك تنافس بين الأتراك  والجنود  المغاربة والجنود الشراكسة وأثارت قبيحة المغاربة على الأتراك ، فاتهم المغاربة الأتراك بقتل الخلفاء وعزلهم ، وحدثت فتن بين الفريقين ، وقتل الأتراك زعيمى الجند المغاربة . وجربت قبيحة أسلوبا آخر فجعلت ابنها يمسك يده عن دفع مرتبات الجنود وكانت تبلغ مليون دينار سنة 252هجرية أى ما يساوى دخل المملكة سنتين . وتحقق أمل قبيحة لأن الجنود ثاروا على وصيف زعيم القواد الأتراك وقتلوه سنة 253هجرية بسبب تأخر رواتبهم، واستراحت قبيحة وابنها من سطوة وصيف ، وأعطى الخليفة المعتز مناصب وصيف إلى زميله "بغا" ليؤجج العداء بين "صالح بن وصيف" و"بغا" ، وفى نفس الوقت أرادت قبيحة أن تجرب نفس اللعبة مع" بغا" بأن تمسك الرواتب عن الجند لتثيرهم عليه .ولكن بغا فهم اللعبة فهجم بأتباعه على أموال قبيحة وأحتملها على عشرين بغلة ، منتهزا فرصة ركوب الخليفة للنزهة . ولكن حرس الخليفة كان يترصد بغا وأوقعه فى كمين وقتله ، وأمر الخليفة بإحراق جسده واعتقال بعض اتباعه سنة 254 هجرية وبذلك لم يبق أمام المعتز وقبيحة إلا صالح بن وصيف زعيم الجند الأتراك ، وخططت قبيحة للقضاء على صالح بن وصيف ، فأرسلت تستدعى موسى بن بغا إلى بغداد ليحل محل أبيه ، وفى نفس الوقت اتفقت مع الوزير احمد بن اسرائيل على ألا يعطى شيئا من الأموال إلى صالح بن وصيف ليعجز عن دفع رواتب الجند فيثور عليه الجند  ويقتلوه ، وفطن صالح بن وصيف للخطة فدخل بقوة عسكرية على الخليفة والوزير ليجعل الجنود شهودا على منع الوزير والخليفة للمرتبات وحدثت مشادة بين الوزير وابن وصيف وتأكد الجند من سلامة موقف ابن وصيف فضربوا الوزير أمام الخليفة واعتقلوا الوزير وعذبوه مع رفيقيه حتى يرشدهم إلى الأموال المخبأة . بينما انكمش الخليفة مذعورا وقد عجز عن حماية وزيره .

وأرسلت قبيحة إلى ابن وصيف تأمره بإطلاق سراح الوزير ولكنه أهمل أمرها ، ونجح فى جمع طوائف الجند حوله، وأعلمهم أن قبيحة وابنها الخليفة يمنعان الأموال عنهم ، ولأن ابن وصيف يعلم أن الخليفة لا حول له  ولا قوة وأن الخزائن السرية فى حوزة قبيحة فإنه أرسل وفدا من الجند إلى الخليفة يسأله فى صرف المرتبات ، فأرسل الخليفة إلى أمه قبيحة يطلب منها خمسين ألف دينار فقالت له ما عندى شئ . واستمهلته حتى يقدم عليها موسى بن بغا لتستعين به فى القضاء على صالح بن وصيف ولكن أسرع ابن وصيف فاعتقل الخليفة وقام الأتراك بتعذيبه وخلعوه وعينوا مكانه الخليفة المهتدى فى رجب 255هجرية وسارعت قبيحة بالاختفاء خلال سرداب يصل من حجرة نومها إلى الخارج . وقام البحث عنها فى كل بغداد،  وفى النهاية ظهرت قبيحة ووقعت فى يد غريمها صالح بن وصيف الذى عثر على كنوزها المخبأة وكانت بالملايين . ويبدو أن صالح بن وصيف قد اغتصبها وعذبها ثم نفاها إلى مكة ، وظلت فيها إلى أن اعادها الخليفة المعتمد الى سامرا وماتت سنة264هجرية(تاريخ الطبرى :9/175 ،224 ،349 ،387 ،388 ،393 ،395 ،406 ،441 ،442 ،533 تاريخ المنتظم لابن الجوزى 12/251-:تاريخ ابن كثير 11/ 11 : 160 ).

 

 "السيدة أم المقتدر" : ( شغب )

 

( السيدة ) هو اللقب الرسمى للجارية "شغب " التى أنجبت الخليفة المقتدر بالله ، والذى تولى الخلافة العباسية فى الثالثة  عشرة من عمره ، فأسلم قيادته لأمه "شغب" ، فظلت تحكمه وتحكم الخلافة إلى مقتل ابنها سنة 320هجرية أى ربع قرن من الزمان ، ثم كانت نهايتها مؤلمة وحزينة .

بدأت هذه الجارية بين سطور تاريخ الطبرى حيث ذكرها باسم ناعم ، وكانت جارية للسيدة أم القاسم بنت محمد بن عبد الله ، وقد رآها الخليفة المعتمد فأعجبته فاشتراها واتخذها محظية له لمدة قصيرة فحملت منه وولدت له ابنه جعفر الذى تولى الخلافة فيما بعد باسم المقتدر بالله ، إلا أن الخليفة سرعان ما انصرف عن جاريته ناعم إلى محظياته الأخريات.  ولم تكن ناعم الصفراء النحيفة تحتمل الغيرة ولم تكن تقدر على منافسة الجوارى الشقراوات الكثيرات اللاتى يحطن بالخليفة ، وكان عددهن أربعة آلاف ، فاستمرت مشاغباتها ومعاركها فى دهاليز الحريم العباسى ، فاشتد الخليفة فى عقابها وأطلق عليها لقب"شغب" الذى التصق بها منذ ذلك الحين .  عاشت شغب فى حلقات شجار لا تنتهى ومكائد لا تنقطع ، وعلى يديها الكريمتين لقيت جوارى محظيات حتفهن ، ومنهن العروس المصرية الرقيقة الجملية ( قطرالندى )  بنت أحمد بن طولون التى لقيت حتفها سريعا ، ومنهن دريرة التى استأثرت ردحا من الزمان بقلب الخليفة المعتضد، وقد أنشأ لها حمام سباحة ، واستحق على ذلك هجاء فاحشا من الشاعر ابن بسام ، وحين ماتت دريرة بكاها الخليفة شعرا.

ومن ضحايا  شغب أيضا كانت الجارية الأخرى التى ولدت للخليفة ابنا تولى الخلافة باسم القاهر بالله . وقد اضطرت شغب لكفالة ذلك الوليد وتربيته مع ابنها ، ولكنه لم ينس ثأر أمه فانتقم من شغب أفظع إنتقام فيما بعد .

ولم يفطن الخليفة المعتضد للموت السريع لجواريه المحظيات خصوصا من تلد منهن ذكرا له ،وحين تنبه للأمر أشارت أصابع الأتهام إلى شغب ، إلا أن الأدلة لم تكن كافية فقرر قطع أنفها ثم عدل عن الأمر إكراما لابنه منها( المقتدر بالله) وابنه الأخر (القاهر) وهما تحت رعاية شغب وكفالتها ، واكتفى الخليفة بعزلها فى بيت أصبح لها كالسجن ، تربى ولدها المعتضد من حبيبها ( الخليفة المعتضد ) القاسى القلب وتجتر فيه أحزانها وأحقادها ، ولا يؤنس وحدتها إلا رفيقتها الجارية "ثمل" التى كانت تأتى لها بالأخبار وتساعدها فى مؤامراتها.

وفى فترات العزلة هذه كانت شغب تخطط لتولية ابنها الخلافة بعد أبيه المعتضد . وبدأت خطتها بإحكام سيطرتها على ابنها بحيث أصبح لا يطيق فراقها ولا يستطيع التصرف بدون أمرها ، ثم عملت من خلال "ثمل" رفيقتها وساعدها الأيمن على التخلص من الجارية الحسناء ( جيجك أم على ) أكبر أولادالخليفة المعتضد والمرشح وليا للعهد بعده ، وماتت جيجك بهدوء بحيث لم يتنبه الخليفة المعتضد للأمر.

وكان المعتضد شديدا فى قسوته بحيث كان إذاغضب على أحد من قواده دفنه حيا . والغريب انه مع سطوته مات فجأة سنة 289 ، فهل قتلته شغب ؟ . وتولى ابنه على الخلافة باسم "المكتفى"وسمحت له شغب باعتلاء مقعد الخلافة لأن ابنها المقتدر كان لا يزال صبيا لا يصلح للخلافة . والغريب أنه فى الوقت نفسه الذى بلغ فيه ابنها المقتدر الحلم وأكمل عمره الثالثة عشرة فى نفس اليوم مات الخليفة الشاب "المكتفى " بالسم وتولى المقتدر ، أو بمعنى أخر تولت شغب مقاليد السلطة وظلت تتحكم فيها ربع قرن من الزمان .

وبدأت شغب سلطتها بتحريم النطق بلقب شغب الذى أطلقه عليها حبيبها القاسى المعتضد بالله ، وأصبح اسمها الرسمى "السيدة أم المقتدر" وكان القرار التالى هو مصادرة الجواهر التى كان المعتضد يزين بها جواريه الفاتنات من منافساتها السابقات ، وبينما انتقمت من تلك الجوارى الفاتنات فقد ساعدت شغب الجوارى الخادمات اللائى ساعدنها فى المؤامرات ، وأهمهن ( ثمل ) .

حصلت "ثمل" على النصيب الأكبر من جواهر الخلافة . بل إن شغب أصدرت قرارا بتحريم لقب "ثمل" وأعطتها لقبا جديدا هو أم موسى القهرمانة ، وجعلتها وصيفتها الخاصة ، وأوسعت لها فى نفوذها بحيث كانت تعزل الوزراء ، ثم وجهت شغب انتقامها واحتقارها للفقهاء وعلماء الدين فى عصرها ، وذلك فى سابقة لا مثيل لها فى التاريخ الإسلامى ، وذلك أنها أصدرت سنة 306هجرية قرارا بتعيين ثمل قاضيا للقضاة ، فأصبحت ثمل أو أم موسى القهرمانة تجلس فى الرصافة فى بغداد كل يوم جمعة لتنظر فى شكاوى الناس وقضاياهم ويجلس معها القضاة والفقهاء وكبار الموظفين والحجاب لتنفيذ أحكامها .  وفى هذه الآونة راج حديث " ما أفلح قوما ولوا أمرهم امرأة" ، صنع الناقمون ذلك الحديث لينتقدوا به ضمن أحاديث أخرى انفراد النساء بالسلطة.

هذا بينما التزم كبار الفقهاء الصمت ، وكبار الأئمة المقدسين كانوا يعيشون فى هذا العصر، فقد مات فى عصر المقتدر وأمه شغب محمد بن أبى داود الظاهرى وابن شريح والجنيد وأبو عثمان الحيرى والنسائى والجبائى وابن الجلاء وأبو يعلى والأستانى والرواندى والطبرى والزجاج والأخفش الصغير وأبو بكر السجستانى وابن السراج وأبو عوانة والبغوى وقدامة .

كما عاش فى عصر قبيحة وابنها المعتز أئمة مشهورون مثل البخارى ومسلم وأبى داود الترمزى وابن ماجة والمزنى وابن عبد الأعلى والزبير بن بكار والرياشى والذهلى وداود الظاهرى وابن مخلد وابن قتيبة وأبوحاتم الرازى وابن شبه وابن حنبل.

ونعود إلى شغب وهى تنتقم من خصومها ، ففى سنة299هجرية صادرت أموال فاطمة القهرمانة وعثروا على جثتها غريقة فى دجلة ، ولحقت بفاطمة القهرمانة بقية الجوارى المسنات اللاتى أصبحن وصيفات أو قهرمانات ونال بعض الوزراء اضطهاد شغب ووصيفتها أم موسى ، كما حدث للوزير ابن الجراح الذى  الذى لم يبد كبير احترام للقهرمانة فتعرض للطرد والمصادرة ، والتفتت شغب إلى كبار القوم تصادرهم وتتلاعب بهم ومنهم الوزير حامد بن العباس وعلى بن عيسى ، وكانت تتلاعب بالوزراء تعين هذا ثم تعزله وتصادره ، وهكذا ومع ذلك فقد كانت لها محاسن ، فقد أقامت مستشفى على نهر دجلة سنة 306هجرية وجهزت جيشا من أموالها للدفاع عن بغداد ضد القرامطة عام  315هجرية .

ولم تتوقف المؤامرات ضد شغب وابنها ، فقد حدث أن ثار الجند الأتراك وعزلوا المقتدر واعتقلوا شغب وعينوا القاهر خليفة ، إلا أن المؤامرة فشلت ، وعاد المقتدر للخلافة وعفا عن أخيه القاهر واستبقى حياته . ولكن نجحت الثورة التالية فى قتل الخليفة المقتدر سنة 320 بقيادة القائد التركى مؤنس الخادم، وتولى الخليفة القاهر الذى قام بتعذيب السيدة شغب بيديه حتى استخلص منها كل أموالها . كان يعذبها بتعليقها فى السقف من قدميها ، وكانت تبول فينزل البول على وجهها ، ويواصل تعذيبها إلى أن ماتت .( تاريخ الطبرى 10/139،تاريخ ابن الأثير 6/119 ـ ، تاريخ ابن كثير 11/175:169:105 ، تاريخ الخلفاء للسيوطى 604-  ، المنتظم لابن الجوزى 13/  253  ، الصفدى الوافى بالوفيات 16/167 )

اخيرا :

كانت هذه بعض النماذج لنساء حكمن الخلافة العباسية من وراء ستار ، وأدى نفوذهن السياسى إلى خنق الفقهاء فأنطلقت فتاويهم تصادر  حقوق المرأة وتجلدها بالأحاديث المصنوعة .

 

ثالثا : المرأة تتصدر الحكومة بنفسها:

  كانت هيبة الخلافة العباسية الدينية تمنع تصدر المرأة للحكم بنفسها . حيث كان يتعين وجود الخليفة الذكر الذى يمثل الدين والسلطة الدينية الزمنية وفق مفاهيم العصور الوسطى.

وهذا القيد تحررت منه نظم الحكم القادمة من المشرق والتى سيطرت على الخلافة العباسية ، أو التى أنهت الدولة العباسية ، مثل السلاجقة والبويهيين ، ثم المغول . وفى هذه الدول أتيح لبعض النساء أن يتصدرن للحكم بأنفسهن سواء مع وجود سلطان كان يسمح بذلك أو فى خلو المقعد من السلطان ونذكر بعض أمثلة سريعة..

 الترنجان أم النوشران زوجة طغرل بك:

كانت أم ولد . وكان السلطان طغرليك السلجوقى سامعا لها مطيعا ، وكانت الأمور ترد إليها ، واشتهرت بالتدين والمعروف والصدقات . وبالرأى والحزم والعقل وقد توفيت سنة 452 فى جرجان ، وحزن عليها السلطان حزنا عظيما ، وحمل تابوتها معه إلى الرى فى إيران حيث دفنها . وقبل موتها أوصت زوجها بأن يزوج ابنته الخليفة العباسى ونفذ زوجها وصيتها ( الصفدى :الوافى بالوفيات 9/352 ،353 ) .

بغداد خاتون

وهذا يذكرنا بالأميرة المغولية بغداد خاتون بعد ذلك بثلاثة قرون ، حيث سيطر المغول  على العراق وإيران وتقاسموا مناطقها . وكانت الأميرة بغداد خاتون بنت الأمير جوبان ومتزوجة من الشيخ حسن ، إلا أن السلطان المغولى الناصر بوسعيد كان يحبهاويريدها. ولذلك حارب بوسعيد الأمير جوبان وهزمه وأنتزع بغداد خاتون من زوجها وتزوجها . وحتى يرضيها أطلق نفوذها فى مملكته التى تشمل العراق وأذربيجان وجزءا من أسيا الصغرى ، وقامت بغداد  خاتون بتدعيم هذا النفوذ فطردت على باشيا خال بوسعيد ، ولم يعترض بوسعيد على ما تفعل ، وترك لها كل شئون الحكم إلى أن مات فتولى أربكون مكانه ، فقتل بغداد سنة736هجرية ( الصفدى ،نفس المرجع 10 /175 ،176 ).

4- ونعود إلى السلاجقة فى القرن الخامس الهجرى وتصدر المرأة للسلطة هناك ، ونقابل الأميرة خاتون أو صاحبة اصفهان كما يقول المؤرخون ، وهى تركان بنت طغراج الملك ، وترجع فى النسب إلى افراسياب ملك الفرس ، وقالوا أنها كانت شهمة حازمة قادت الجيوش ، وكان فى خدمتها عشرة آلاف فارس ، وقد مات زوجها ملكشاه فقامت بتدبير الأمور وحفظت الأموال وقامت بتأمين الطرقات ، فلم يكن يضيع للتجار عقال بعير . وكانت تقود الحرب بنفسها ، وظلت تباشر شئونها بنفسها إلى أن ماتت مسمومة فى الطريق عام 487 . ( الوافى : نفس المرجع 10/381،المنتظم لابن الجوزى 17/140)

صفية خاتون

  وبعدها بقرن تقريبا ولدت الأميرة الأيوبية صفية خاتون (581-640) وقدر لها أن تتصدر السلطة . فأطلقوا عليها لقب "الصاحبة" وهو يعنى الوزارة لأن الوزير هو الصاحب ولكنهم وصفوها أيضا بأنها كانت " ملكة جليلة عاقلة " . وهذه الأميرة بنت الملك العادل الكبير الأيوبى ، وتزوجها الملك الظاهر غازى بن صلاح الدين صاحب حلب ، وأنجبت له العزيز الذى حكم حلب ، وكان الملك الناصر الأيوبى حاكم الشام حفيدها ، وعندما مات ولدها العزيز حاكم حلب تصدرت بنفسها للحكم:  " وتصرفت كالسلاطين ونهضت بالملك أتم نهوض ولكن بعدل وشفقة وبذل وصدقة ، وأزالت المظالم والمكوس فى جميع بلاد حلب ،  وكانت تؤثر الفقراء وتحمل لهم الصدقات الكثيرة " . وحين ماتت " أغلقت حلب أبوابها ثلاثة أيام  حزنا عليها كما يقول المؤرخون. ( الوافى 16/328 ،  أبوالفدا: المختصر فى أخبار البشر 3/1710الذهبي:العبر فى أخبار من غبر:  5/265  )

ملكة زبيد اليمنية

  وأختلف الحال مع أم الملك الناصر سيف الإسلام الأيوبى حاكم اليمن ، والتى كانت معاصرة لشجرة الدر فى مصر، فقد توفى ابنها فقامت بأعباء الملك خير قيام إذ ضبطت أحوال زبيد وبعثت تستقدم أميرا من البيت الأيوبى ليحكم معها . وعثرت على سليمان شاه الذى كان مدعيا للتصوف فى مكة ، فاستقدمته إلى زبيد وتزوجته، ولكنه ملأ البلاد ظلما ، ثم غدر بها وتزوج عليها ، وكان يحارب مع بنى عمه الأيوبيين فأنهزم ، واستولى على اليمن الملك المسعود بن الكامل . وبعث به وبزوجته ليعيشا فى مصر (الوافي 15/391 ،392 ).

 

  شجرة الدّر

 

1 ـ   ونصل لشجرة الدر أشهر سلطانة فى تاريخ المسلمين .

فهى سيدة بدأت حياتها بين سطور التاريخ ولكنها قفزت إلى عناوين التاريخ لتحتل مركزا فريدا فى تاريخ المسلمين ، حيث إرتبط تاريخها بفترة حرجة ، إذ شهدت حملة لويس التاسع على دمياط وهزيمته وأسره فى المنصورة ، وشهدت إنتقال الحكم من الدولة الأيوبية إلى الدولة المملوكية حيث كانت أول سلطانة أو بمعنى آخر أول من تولى الحكم فى الدولة المملوكية.

بدأت حياتها جارية محظية للسلطان الصالح أيوب الأيوبى، وانتهت حياتها صريعة بنهاية مأساوية لا تتفق مع حرمة الأنثى ولكنها لعبة السياسة التى مارستها فلم ترحمها ، وماتت بنفس الكأس الذى أذاقته لغيرها.

2 ــ كان السلطان الصالح أيوب مشهورا بالسطوة والوقار ولزوم الصمت والبعد عن العبث. وشخصية بهذه الصفات يكون من الصعب عليها أن تخضع للحب أو تستغرق فى الغرام ، ويكون من الصعب على جواريه أن تمتلك إحداهن قلبه وتتمكن من إقناعه بأن يعتقها ويتزوجها ،وذلك  هو التحدى الذى نجحت فيه شجرة الدر ، دخلت قصره جارية تركية حسناء وما لبثت أن اقتحمت بجمالها وذكائها حصون قلبه  فأعتقها ثم تزوجها ، وانجبت له ولدا توفى وهو طفل اسمه خليل فصار لقبها الرسمى "أم خليل" .

3 ــ وجاءت فرصة أخرى لذكاء شجرة الدرـ  فى وقت حرج ، إذ هجم الصليبيون ين على دمياط وهربت الحامية وتركتها خاوية للفرنج وملكهم لويس التاسع ، وحينئذ اشتد المرض على الصالح أيوب ويئس الأطباء من شفائه ، وقد تحرك الصالح أيوب بالجيش إلى موقع مدينة المنصورة حيث أنشأها لمواجهة الصليبيين . وأثناء هذه المحنة نهضت شجرة الدر فاستكتبت زوجها آلاف التوقيعات على أوراق رسمية بيضاء خالية ، وكونت لجنة لإدارة البلاد  ومتابعة الأستعداد الحربى ، ومات الصالح ايوب فكتمت موته ، وبعثت لابنه الغائب توران شاه كى يأتى إلى مصر ليتولى السلطنة، وأخذت له البيعة، وواصلت جهودها حتى انتصرت على حملة لويس التاسع وأبادت جيشه وأسرته فى دار ابن لقمان بالمنصورة.

4 ـ  ووصل توران شاه ليجد العرش والنصر فى انتظاره ، وبدلا من أن يرد الجميل لشجرة الدر والمماليك البحرية ، مماليك أبيه إلا أنه أغلظ لهم وبادر بتقديم مماليكه عليهم ، وطالب زوجة أبيه شجرة الدر بالأموال ، وتربص بها شرا ، فأشارت شجرة الدرعلى المماليك بقتله فقتلوه ، وبذلك بدأت شجرة الدر طريق التآمر وطريق السلطة أيضا .

5 ــ فقد اتفق كبار المماليك على إقامتها سلطانة وأن يكون لها التوقيع على المراسيم السلطانية، وكانت علامة توقيعها" والدة خليل " ، وخطبوا لها على المنابر بقولهم " اللهم أدم سلطان الستر الرفيع والحجاب المنيع ملكة المسلمين والدة الملك خليل ". وبدأت سلطنتها يوم الخميس ، صفر 648هجرية ولبست خلعة السلطنة وهى خمار من الحرير المرقوم بالذهب ، وقام الأمراء بتقبيل الأرض أمامها حسب العادة .ولكن من وراء حجاب. وكان أول قرار لها هو التفاوض مع الملك الفرنسى الأسير ، وقد افتدى نفسه من الأسر بأربعمائة ألف دينار .

5 ــ واستنكر الخليفة العباسى المستعصم بالله تولى شجرة الدر السلطنة وبعث يعيّر المصريين ويقول لهم :"أعلمونا إن لم يكن عندكم رجال لنرسل لكم رجالا " ، فلما بلغ ذلك شجرة الدر تنازلت بنفسها عن السلطة.  وتزوجت عز الدين أيبك ليصبح أول سلطان مملوكى .

6 ــ والواقع أن تنازلها عن السلطة كان ظاهريا فقط ، إذ ظلت تحكم من وراء ستار ، وتجلى ذلك فى اختيارها عز الدين أيبك زوجا لها ليتولى السلطة بالاسم بينما تمسك هى بمقاليد الأمور فى يدها ، والواقع أنه كان أمامها مرشحان للزواج والسلطنة، وتنافسا على الفوز بها ، الأول الأمير أقطاى زعيم المماليك البحرية وحوله شجعان الفرسان المماليك ومنهم بيبرس الذى تسلطن فيما بعد، والثانى عز الدين أيبك كبير المماليك فى القصر السلطانى وأشهر أتباعه قطز الذى تسلطن هو الآخر فيما بعد.

وقد فضلت شجرة الدر وإختارت أن تتزوج أيبك إعتقادا منها أن نفوذها سيستمر معه وأنه أسلس قيادا من أقطاى . وتزوجت أيبك ، وغضب أقطاى وتآمر عليهما وسلط أتباعه يسلبون وينهبون ، فكان أن تخلص منه السلطان والسلطانة بمؤامرة أغتيال ، وصفا لهما الجو ، ولكن ضاق أيبك بنفوذ شجرة الدر ودب النفور بينهما ، ترك أيبك لها القلعة وعاد إلى زوجته القديمة أم على ابنه ، وبعث يخطب أميرة أيوبية هى صاحبة الموصل كى يسكنها القلعة بدلا من شجرة الدر .

وجن جنون شجرة الدر، ومنعتها غيرتها من التفكير السديد فاحتالت على استقدام أيبك إليها وصالحته ثم قتلته ، ونسيت أن مماليك أيبك لن يرضوا بمقتل سيدهم ، وأن المماليك البحرية من أتباع أقطاى لن يتوانوا عن الإنتقام منها إذا سنحت لهم الفرصة ، وهذا ما حدث إذ أنهم حين عرفوا بمقتل السلطان أيبك اعتقلوا شجرة الدر وسلموها إلى غريمتها وضرتها أم على ، وانتقمت منها أم على انتقاما هائلا ، إذ جعلت جواريها يضربنها بالقباقيب حتى ماتت ، ثم ألقوا بجثتها عارية خلف أسوار القلعة ، وفى النهاية حملوها فى قفة ودفنوها . !! (السلوك للمقريزى 1/361 ،  تاريخ ابن كثير 1399 ، فوات الوفيات 16 120 ، الذهبى : العبر5 222  ، أبو المحاسن : النجوم الزهراء 7p السيوطى : حسن المحاضرة 2 39 ابن العماد الحنبلى : شذرات الذهب 58 )

7 ــ  أى أن شجرة الدر هزمت الأمراء والسلاطين من الرجال ..ولم يهزمها إلا قلبها .. وضرتها .

 

أخيرا : بين شجرة الدر والخليفة المستعصم العباسى

 

1 ــ ونختم هذا الفصل بعقد مقارنة بين شجرة الدر والخليفة العباسى المستعصم بالله العباسى الذى أعترض على سلطنة شجرة الدر وبسبب هذا الاعتراض تنازلت شجرة الدر عن السلطنة .

ورأينا كيف حفظت شجرة الدر ملك زوجها وملك ابن زوجها فى وقت  شديد التعقيد. إذ أن جيوش الفرنجة كانت تتوغل فى الدلتا بعد هروب حامية دمياط ، والسلطان مريض، ثم يموت ، وهى تواجه بمفردها عدوا متحركا نحوها ، وابن زوجها غائب، ومع ذلك فقد أحكمت سيطرتها وأدارت الأزمة بإقتدار حتى انتصرت وأسرت لويس التاسع وأبادت جيشه ،وحين تنكر لها السلطان الجديد الذى جعلته سلطانا قامت بكل جسارة بنقل السلطنة عنه وعن أسرته إلى نفسها وإلى المماليك ، مماليك الأيوبيين ، وظل السلطان فى أيدى المماليك يتداولونه من بعدها حتى الغزو العثمانى لمصر سنة 921 هجرية  سنة1517 ميلادية . هذا ما فعلته المرأة السلطانة التى كانت جارية من قبل ..

فما الذى فعله الخليفة المترف الذى تربى فى أسرة حاكمة ، استمرحكمها أكثر من سبعمائة عام ؟

2 ــ إن المؤرخ ابن طباطبا يصف الخليفة المستعصم فيقول عنه" كان مستضعف الرأى ضعيف البطش قليل الخبرة بالمملكة مطموعا فيه ، وكان زمانه ينقضى فى سماع الأغانى والتفرج على المساخر ..وكان أصحابه مستولين عليه ، ولكنهم جُهّال من أراذل العوام" .

المؤرخ ابن طباطبا كان معاصرا لذلك الخليفة الذى أضاع بغداد والخلافة العباسية والمسلمين.

وقد يقال أن المؤرخ ابن طباطبا كان شيعى المذهب يتحامل على الخليفة المستعصم المشهور بتعصبه لأهل البيت .ولكن مؤرخا سنيا موثوقا فيه مثل ابن كثير يتفق مع ابن طباطبا فى رأيه ، يقول عن ذلك الخليفة " كان محبا لجمع المال، ومن ذلك استحل الوديعة التى استودعه إياها الناصر داود الأيوبى ، وكانت قيمتها نحوا من مائة ألف دينار ، فاستُقبح هذا من مثل الخليفة " .وابن كثير يشير إلى أهم نقيصة لذلك الخليفة ، وربما كان السبب الأساسى فى هزيمته أمام المغول ، وهى نهم الخليفة بجمع الأموال وأكتنازها .

3 ــ ذلك أن نهم الخليفة بالمال وحرصه عليه شأن أغلبية أسلافه أدى به إلى قطع مرتبات الجند فى وقت كان أحوج ما يكون اليهم والمغول يقتربون من بغداد ، وهنا نرجع إلى المؤرخ ابن كثير وهو يقول عنه " صرف الجيوش‘ ومنع أرزاقهم حتى كانوا يتسولون على أبواب المساجد وفى الأسواق .. وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله . " .

4 ــ على أن شح الخليفة المستعصم بالأموال على الجند فى وقت حاجته لهم يقابله فى الناحية الأخرى إسرافه الشديد فى الإنفاق على خدمه وأتباعه من الظلمة الذين يأكلون أموال الناس بالباطل . وكان أولئك الخدم من أراذل العامة والعبيد المماليك الذى صعد بهم الزمن الرديء فى عصر انحلال الدولة العباسية فاحتكروا الثروة بينما عاش العلماء والأشراف يتضورون جوعا .

5 ــ ونضرب أمثلة تاريخية لبعض أثرياء الخدم فى عصر المستعصم ، منهم : علاء الدين الطيبرسى الظاهرى ، وكان دخله من أملاكه نحو 300 ألف دينار وكانت له دارلم يكن ببغداد مثلها ، وحين تزوج دفع صداقا قدره عشرون ألف دينار، ووهب له الخليفة المستنصر ليلة زفافه مائة ألف دينار وألحقه بأكابر الدولة ، ومنحه ضيعة كانت  تدر له  دخلا يزيد على مائتى ألف دينار سنويا.

ومنهم مجاهد الدويدار وكانت أملاكه يتعذر ضبطها على الحساب . وفى ليلة زفافه حصل على هدايا تزيد على ثلثمائة ألف دينار ، وفى صباح زواجه أنعم عليه المستعصم بثلاثمائة ألف دينار أخرى ، وكان إيراده السنوى من أملاكه أكثر من نصف مليون دينار .

 ومنهم ابن فاخر شيخ الفراشين فى قصر الخلافة.والدليل على ثرائه أن داره كانت تشمل عدة حجرات للنوم . وفى كل حجرة جارية محظية وخادمة وخادم ، ثم هناك جارية لطعامه ،وأخرى لعمله وأخرى لشرابه وأخرى لترتيب فراشه ، وأخرى غسالة ، وأخرى طباخة ..وهكذا..

6 ــ وفى مقابل هذا الثراء كان أعظم العلماء وقتها لا يتقاضى أحدهم أكثر من 12 دينار شهريا فحسب ..ذلك هو المرتب الذى كان يأخذه علماء المدرسة المستنصرية ، وابن القوطى وابن الساعى أشهر المؤرخين لذلك العصر كان كلاهما يأخذ راتبا شهريا قدره عشرة دنانير.!  فأين أولئك من شيخ الفراشين من قصر الخليفة.!! ؟

7 ــ وفى ذلك الوضع المقلوب لا بد أن تكتمل الصورة لأى إمبراطورية على وشك السقوط بغض النظر عن اللافتةالتى ترفعها سواء كانت إمبراطورية فارسية ،أو بيزنطية أو رومانية أو عباسية، لابد أن تتفشى الرشوة وتكثر مصادرة الأموال وتتفاقم الاضطرابات الداخلية مع الانحلال الخلقى وينشغل الناس بالتوافه عن الخطرالذي يدق الأبواب .

8 ــ ويقول الغساني صاحب كتاب "العسجد المسبوك "يصف السلطة العباسية في أواخر أيامها باعتباره شاهدا عليها، "اهتموا بالإقطاعات والمكاسب وأهملو النظر في المصالح الكلية واشتغلوا بما لا يجوز من الأمور الدنيوية ، واشتد ظلم العمال (أي الحكام والولاة ) واشتغلوا بتحصيل الأموال ،والملك قد يدوم مع الكفر ولكن لا يدوم مع الظلم ."

وقد صدق الغساني في مقولته أن الملك قد يدوم مع الكفر ولكن لايدوم مع الظلم، لأن القاعدة القرآنية تقول "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها" أى أمرناهم بالعدل " ففسقوا فيها" أى حولوا الأمرالإلهى إلى خروج وفسق" فحق عليها القول فدمرناها تدميرا.. " ولا يمكن أن يحل التدمير من الداخل أو من الخارج إلا إذا اسشترى الظلم ، والله تعالى يقول"وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون".

9 ــ لم يستوعب  الخليفة العباسى ذلك الدرس فانغمس فى الفساد مع أتباعه الأراذل وأضاع جنده فأضاع ملكه . وشهد بنفسه أصنافا من الإهانة قبل أن يقتله المغول رفسا بأقدامهم بعد أن دمروا بغداد وقتلوا مليونين من أهلها.

يقول الهمدانى فى كتابه " جامع التواريخ" إن هولاكو بعد أن اقتحم بغداد دخل قصر الخلافة واحضروا له الخليفة المستعصم وهو يرتجف ، فقال له هولاكو :" أنت مضيف ونحن الضيوف..فهيا أحضر ما يليق بنا "، فأحضر الخليفة له وهو يرتعد من الخوف صناديق المجوهرات والنفائس فلم يلتفت إليها هولاكو ومنحها للحاضرين ، وقال للخليفة ،إن الأموال التى تملكها على وجه الأرض ظاهرة وهى ملك لعبيد نا ،ولكن اذكر ما تملكه من الدفائن ما هى وأين توجد" .! . فاعترف الخليفة بوجود حوض تحت الأرض مملوء بالذهب فى ساحة القصر فحفروا الأرض حتى وجدوه  ،كان مليئا بالذهب الأحمر ، وكان كله سبائك تزن الواحده مائة مثقال .

10 ـ واستحق الخليفة احتقار هولاكو السفاح الدموى ، إذ تعجب كيف يكون للخليفة  كل هذه الأموال ثم يبخل على الجند بأرزاقهم ؟!!. لذلك يقول هولاكو عن الخليفة المستعصم فى رسالته إلى حاكم دمشق التى أرسلها لينذره بالتدمير إن لم يسلم نفسه ، يقول عن خليفة بغداد : " وكان قد جمع ذخائر نفيسة وكانت نفسه خسيسة ، فجمع المال ولم يعبأ بالرجال.." .

11 ــ ونعود إلى المؤرخ الهمذانى وهو يروى مشهدا أخر بين هولاكو والخليفة فى قصر الخلافة ، وقد أستحضر هولاكو نساء الخليفة فبلغن سبعمائة زوجة ومحظية وألف خادمة ، وقد تضرع الخليفة باكيا طالبا من هولاكو أن يمُنّ عليه بأهل حرمه أى نسائه : "اللائى لم تطلع عليهن الشمس والقمر" أى دفنهن كما دفن سبائك الذهب فى قصره ، وكانت تلك نظرته للنساء ...وشجرة الدر..

12 ــ ويقول الهمذانى : " وقصارى القول إن كل ما جمعه الخلفاء العباسيون خلال خمسة قرون وضعه المغول  بعضه على بعض فكان كجبل على جبل ". !!.  وقد قام هولاكو بصهر ذلك الذهب جميعه فى سبائك ، وأقام له قلعة محكمة فى أذربيجان ( مقال: ليس دفاعا عن هولاكو . بقلم المؤلف د. أحمد صبحى منصور ، نشرته الأ خبار فى 5990 ونقله عنها الشيخ محمد الغزالى فى كتابه تراثنا الفكرى : دار الشروق :ص 108 ).

هذا هو الخليفة المستعصم . وتلك هى شجرة الدر ..وكلاهما حكم بمنطق الاستبداد فى العصور الوسطى .. فأيهما تختار إذا كان ولا بد من الرضى بالاستبداد ؟.

الخاتمة

1-الحكم هو القوة والسلطان .والشورى أو الديمقراطية هى فن ممارسة القوة والسلطان .

والعلاقة بين الحاكم والشعب تحدد من هو صاحب القوة والسلطان ومدى وجود الشورى أى الديمقراطية فى تلك العلاقة.

هناك الحاكم المستبد الذى يستأثر بالقوة والسلطة وليس لشعبه عنده وزن ، بل يعتبر نفسه وصيا على ذلك الشعب ، وبالتالى يعتبر نفسه مصدر السلطات ، فهو المشير وهو المستشار وهنا تكون الشورى فى نطاق سلطاته التى يمنحها لنفسه ، غاية ما هنالك أنه يعين بعض المستشارين أو الخدم الذين يفكرون لمصلحته وإرضائه .

ولكن قد يحس الشعب ببعض الوعى وبعض القوة والتأثير مما يجعل الحاكم يضطر لتقديم بعض التنازلات تتناسب وتلك القوة التى يزعمها الشعب لنفسه ، لذلك تتغير مجالس الشورى فتحتوى على بعض الإتجاهات الحرة ، ويدور الصراع بين الحاكم وجماعات الأحرار فى الشعب ، يحاول الأحرار تقليص سلطات الحاكم ، ويحاول الحاكم من خلال أعوانه وخدمه تدعيم سلطانه، وهنا عصر البرلمانات الصورية وتزييف الديمقراطية.وهنا الشورى جزئية تعبر عن مصالح أصحاب الثورات وأصحاب الوعى الحر .

وقد تكون القوة كلها للشعب الحُرُّ الأبىّ ، فيفرض سلطانه على الحكومة ويعين الحكومة ويسائلها ، ويكون الحاكم موظفا بأجر وبعقد لدى الشعب فى فترة وفترتين ، والشعب هو الذى يختار وهو الذى يعين وهو الذى يعزل ويسائل ويحاكم كل المسؤلين ‘ وهذا هو النظام الإسلامى فى الحكم . وفيه يستوى أن يكون الحاكم رجلا أم إمرأة ..

2- والديكتاتورية خروج على عقيدة الإسلام وعلى نظام الدولة الإسلامية . ومع ذلك فهى نظام شرعى طالما يرضى الناس بها ، والمستبد فيها حاكم شرعى ، رجلا كان أم إمرأة .إلا أن استقراء التاريخ والقصص القرآنى يظهر فيه أن المرأة فى الحكم المستبد تكون أقل ضررا وأكثر رأفة من الرجل المستبد .