JustPaste.it

إتحافُ البَرَرة بحكم إقامةِ الحدود في المناطق المحرّرة

 

 

من فضل الله وتوفيقه على الدولة الإسلامية في العراق والشام أن هداها لتحمّل هذا المشروع الكبير الخطير، تحكيم شرع الله على عباد الله في أرض الله، دولةٌ إسلامية على منهاج النُّبوة، والسعيُّ الحثيث الجاد المتواصل لتحقيقه في الأرض، وتحمّل كل تكاليف ومشاق هذه الطريق.

 

وقد وفقهم الله لتحكيم الشريعة في بقاعٍ واسعة من أرض العراق والشام؛ مما أجلب عليهم خيل العالم ورجله؛ فناصبوهم العداء وحزّبوا عليهم الأحزاب وعضّتهم السيوف من كل مكان، وهم ماضون في طريقهم ثابتون صابرون محتسبون لايضرهم من خالفهم ولا من خذلهم.

 

وهذا بحثٌ مختصرٌ مفيد، بيّنت فيه منزلة الحدود من شرع الله، وأثرها على عباد الله، وموقعها من مقاصد الدين، ودورها في حماية بيضة الإسلام ونشر الأمن وبسط العدل ومنع الظلم.. وغير ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية التي جاءت بها الشريعة.

 

جاء ردًّا على مزاعم بعض أدعياء العلم الذين أنكروا على الدولة إقامة الحدود والعقوبات الشرعية على مستحقيها في المناطق المحررة التي تقع تحت سيطرتهم؛ اعتمادًا منهم على بعض الأقيسة التي لم نجد فيها الحجة الواضحة التي يُعتمد على مثلها في بناء الأحكام.

 

وقد عرضت أقيستهم وناقشت اعتراضاتهم، وبينت ضعفها وهشاشتها وعدم مقاومتها لحجج وجوب إقامة الحدود، بالدليل من الكتاب والسنة وما اتفق عليه علماء الأمة.

 

والله المستعان وعليه التُّكلان ولاحول ولاقوة إلا بالله.

أبو معاذ الشرعي: 14/5/1435

 

 

أولاً: بيان عظم الحدود وعلو منزلتها في الدين.

1. إقامة الحدود شُرعت حفاظاً على مقاصد الشريعة:

 

مقاصد الشريعة أو مقاصد الإسلام الكبرى محصورة في خمسة أمور هي:

حفظ الدين، وحفظ النفوس، وحفظ العرض أو النسل، وحفظ المال، وحفظ العقل.

 

قال أبو حامد الغزالي -رحمه الله- : (إن مقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم.. فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل مايفوّت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة.. وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل ألا تشتمل عليها ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق). اهـ [المستصفى: 1/174].

 

والحدود شُرعت لحماية هذه المقاصد، فبالقصاص تصان الأنفس، وبإقامة حد الزنا والقذف تصان الأعراض، وبإقامة حد السرقة تصان الأموال، وبإقامة حد الخمر تصان العقول، وبإقامة حد الحرابة يصان الأمن. وبإقامة الحدود كلها يصان الدين كله، والحياة كلها.

 

قال الماوردي -رحمه الله-: (والحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر، وترك ما أمر به؛ لما في الطبع من مغالبة الشهوات الملهية عن وعيد الآخرة بعاجل اللذة، فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة حذرًا من ألم العقوبة، وخيفة من نكال الفضيحة؛ ليكون ما حظر من محارمه -جل شأنه- ممنوعًا، وما أمر به من فروضه متبوعًا، فتكون المصلحة أعم والتكليف أتم). اهـ [الأحكام السلطانية: 1/13].

 

وقال الطاهر ابن عاشور -رحمه الله- في كتابه "مقاصد الشريعة" : "فمقصد الشريعة من تشريع الحدود والقصاص والتعزير ثلاثة أمور: تأديب الجاني، وإرضاء المجني عليه، وزجر المقتدي بالجناة). اهـ [مقاصد الشريعة: 254].

 

2. إقامة الحدود هي مقصود الولاية الأعظم:

ذكر الله تعالى أهم وظائف ولاة الأمر في قوله:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج : 41].

 

ومن النهي عن المنكر إقامة الحدود؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-:

(ومن النهي عن المنكر إقامة الحدود على من خرج من شريعة الله، ويجب على أولي الأمر -وهم علماء كل طائفة وأمراؤها ومشايخها- أن يقوموا على عامتهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر).اهـ [الاستقامة: 2/ 209].

 

فمن أوائل وظيفة ولاة الأمر الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كما قال تعالى في الآية التي أوردناها: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج : 41].

 

وكما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَاًسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ } [الحديد: 25].

 

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية؛ كما قال شيخ الإسلام:

(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية؛ فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وإقامة الحدود واجبة على ولاة الأمور؛ وذلك يحصل بالعقوبة على ترك الواجبات وفعل المحرمات. فمنها عقوبات مقدرة؛ مثل جلد المفتري ثمانين وقطع السارق. ومنها عقوبات غير مقدرة قد تسمى " التعزير " . وتختلف مقاديرها وصفاتها بحسب كبر الذنوب وصغرها؛ وبحسب حال المذنب؛ وبحسب حال الذنب في قلته وكثرته). اهـ [مجموع الفتاوى: 28 / 107].

 

فالتكاليف الشرعية والالتزام بالشرع إنما يتحقق بصولة أصحاب الولايات من الأئمة، والولاة، والقضاة، والحكام، وسائر من هو متمكن في الأرض، ووظيفة الحاكم هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا هو مقصود الولاية .

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: ( .. وولي الأمر إنما ينصّب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا هو مقصود الولاية، فإذا كان الوالي يمكّن من المنكر، كان قد أتى بضد المقصود، مثل من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك، وبمنزلة من أخذ مالاً يجاهد به في سبيل الله، فقاتل به المسلمين).اهـ [مجموع الفتاوى:28/303]

 

وقال الماوردي –رحمه الله- في تعريف الإمامة: (الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا) [الأحكام السلطانية: 1 / 3].

 

ثم ذكر الماوردي بعض ما يلزم الإمام من أجل حراسة الدين فذكر منه:

 

(1- حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة؛ فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة، وبين له الصواب، وأخذه بما يلزم من الحقوق والحدود؛ ليكون الدين محروسًا من خلل، والأمة ممنوعة من زلل.

 

2- إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك .) اهـ بتصرف.

 

ولمّا كانت إقامة العقوبات الشرعية هي مقصود الولاية الأعظم؛ كانت البيعة للإمام معقودةٌ عليها ومشروطةٌ في القيام بها بين الرعية؛ كما قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-:

(والأصل في مبايعة الإمام؛ أن يبايعه على أن يعمل بالحق ويقيم الحدود ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر). اهـ [فتح الباري: 13/203]

 

3. شُرعت الحدود لإشاعة الأمن وتحقيق الاستقرار وقطع دابر الجريمة ومنع انتشار الفواحش والمنكرات: وقد أشار الماوردي –رحمه الله- إلى ذلك فيما نقلناه عنه: (وعلى الخليفة إقامة الحدود لتُصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتُحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك(.اهـ [الأحكام السلطانية: 1 / 3].

 

وقال الخطابي –رحمه الله-: (لا بد للناس من إمام يقوم بأمر الناس ويمضي فيهم أحكام الله ويردعهم عن الشر ويمنعهم من التظالم والتفاسد.). اهـ [معالم السنن، 3/6]

 

4. إقامة الحدود خيرٌ ورحمةٌ وبركةٌ لأهل الأرض:

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حدٌّ يقام في الأرض خيرٌ من مطر أربعين صباحًا). [رواه أحمد وأبو يعلى والنسائي وابن ماجه وابن حبان ].

 

وقد علق شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا الحديث بقوله: (وهذا لأن المعاصي سبب لنقص الرزق والخوف من العدو، كما يدل عليه الكتاب والسنة، فإذا أقيمت الحدود وظهرت طاعة الله، و نقصت معصية الله حصل الرزق والنصر).اهـ [السياسة الشرعية: 1/94]

 

قال الماوردي –رحمه الله- : (فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة حذرا من ألم العقوبة، وخيفة من نكال الفضيحة؛ ليكون ما حظر من محارمه ممنوعا، وما أمر به من فروضه متبوعا، فتكون المصلحة أعم والتكليف أتم، قال الله تعالى : {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107]. يعني: في استنقاذهم من الجهالة، وإرشادهم من الضلالة، وكفهم عن المعاصي وبعثهم على الطاعة ). اهـ [الأحكام السلطانية: 1/13].

 

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:

(فينبغي أن يعرف أن إقامة الحدود رحمة من الله بعباده؛ فيكون الوالي شديدًا في إقامة الحد لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطلُّه، ويكون قصدُهُ رحمةُ الخلق بكفِّ النَّاس عن المنكرات- لا شفاء غيظه وإرادة العلو عن الخلق- بمنزلة الوالد إذا أدَّب ولده؛ فإنه لو كفَّ عن تأديب ولده كما تشير به الأمُّ رقَّةً ورأفةً = لَفَسَد الولد، وإنما يؤدبه رحمةً به وإصلاحًا لحاله مع أنه يود ويؤثر أن لا يحوجه إلى تأديب، وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه، وبمنزلة قطع العضو المتآكل والحجم وقطع العروق بالفصاد ونحو ذلك؛ بل بمنزلة شرب الإنسان الدواء الكريه وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة).[السياسة الشرعية:1/125]

 

5. الحدُّ طُهرةٌ وكفارةٌ للمحدود:

عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسٍ فقال: تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، في رواية ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له وطهورٌ، ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه، قال: فبايعناه على ذلك) [البخاري ومسلم]

 

6. التغليظ في الشفاعة في الحدود والتحذير الشديد من تركها :

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حدٍّ من حدود الله ثم قام فاختطب ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) رواه الشيخان .

 

فردُّه صلى الله عليه وسلم لشفاعة أسامة بن زيد -وهو أحب الناس إليه- دليل على عظم منزلة الحدود، وقسمه صلى الله عليه وسلم بأن فاطمة لو سرقت لقطع يدها دال على غاية التأكيد، وفيه إبطال لكل الأعذار التي يوحي بها الشيطان إلى أتباعه للتحايل على تطبيق الحدود .

 

7. تعطيل الحدود من أسباب الفتنة والحروب:

عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله عز وجل في كتابه إلا جعل بأسهم بينهم ) [أخرجه البيهقي والحاكم بسند صحيح]

 

 

ثانيًا:الأصلُ أن إقامة الحدود منوطة بالإمام أو من ينوبه:

نصَّ أهل العلم من جميع المذاهب الفقهية ونقل بعضهم الإجماع بأنه لا يقيم الحدود إلا الإمام أو نائبه؛ لما يترتب على ذلك من الفوضى والفساد والافتئات على حق الإمام.

 

ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الإمام جُنَّةٌ, يُقَاتَلُ مِنْ ورائه وَيُتَّقَى به, فإن أمر بتقوى الله وعَدَلَ كان له بذلك أجرٌ, وإن يأمر بغيره كان عليه منه) [رواه البخاري ومسلم]

 

قال النووي -رحمه الله-: (قوله صلى الله عليه وسلم: "الإمام جُنَّة" أي كالستر لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين، ويمنع الناس بعضهم من بعض، ويحمي بيضة الإسلام، ويتقيه الناس، ويخافون سطوته، ومعنى: "يقاتل من ورائه": أي يُقاتلُ معه الكفار والبغاة والخوارج وسائر أهل الفساد والظلم مطلقاً). [شرح النووي على مسلم حديث:1841]

 

قال الحافظ ابن حجر –رحمه الله-: (لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين، ويكف أذى بعضهم عن بعض، والمراد بالإمام كل قائم بأمور الناس) [فتح الباري: 6/136]

 

قال الإمام الشافعي –رحمه الله-: (لا يقيم الحد على الأحرار إلا الإمام ومن فوض إليه الإمام(. اهـ [الأم: 6/154)]

 

وقال ابن قدامة –رحمه الله-: (لا يجوز لأحد إقامة الحد إلا بالإمام أو نائبه).اهـ [المغني: (9/51)]

 

قال ابن رشد -رحمه الله-: (وأما من يقيم هذا الحد ـ أي حد الشرب ـ فاتفقوا على أن الإمام يقيمه، وكذلك الأمر في سائر الحدود، واختلفوا في إقامة السادات الحدود على عبيدهم..).اهـ [بداية المجتهد: 2/480].

 

وقال فخر الدين الرازي –رحمه الله-: (وأجمعت الأمة على أنه ليس لآحاد الرعية إقامة الحدود على الجناة، بل أجمعوا على أنه لا يجوز إقامة الحدود على الأحرار الجناة إلا للإمام). [التفسير الكبير:6/56]

 

ثالثًا: الاعتراضات الواردة على إقامة الحدود في المناطق المحررة:

 

1. عدم حصول التمكين المعتبر شرعًا لوجوب إقامة الحدود:

لم يبيّن دعاة هذا الاعتراض نوع التمكين المشروط، وحدوده، وكيفية تحقّقه؛ الأمر الذي أوجب لهم نوع خلل واضطراب في المسألة؛ لأنهم لم يقيموا دعواهم على أساسٍ من العلم أو النظر الصحيح، وإطلاق الدعاوى العريضة دون ضابطٍ علميٍّ دقيقٍ يحدّدُ المرادَ بها لا قيمة لها في ميزان البحث العلمي، ونحن نوجه لدعاة هذا الاعتراض الأسئلة التالية بغرض المناقشة والإلزام:

 

- هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ويوم الأحزاب؛ إذ بلغت القلوب الحناجر واقتحمت القبائل المدينة المنورة وحاصرت عاصمة الإسلام الأولى = ممكّنًا أو لا؟ فإن كان ممكنًا – وهو مالا يسعكم إنكاره- وهو في هذه الحالة من الضعف والمحاصرة وقلة التمكين، فيجب أن يُعطى من كان مثلُهُ نفسَ الحكم؛ ضرورة إلحاق المثيل بمثيله وعدم التفريق بين المتماثلات ووجود العلة المشتركة القاضية بتسوية الأمرين في الحكم، وهذا مقتضى القياس والنظر الصحيح، وبهذا يبطل اشتراط التمكين التام لإقامة الحدود.

 

- وهل كان الصدّيق يوم ارتدت العرب وامتنع آخرون من أداء الزكاة ولم تبق الجمعة تقام في بلد سوى مكة والمدينة؛ حتى أشار عليه كبار الصحابة بوقف بعث جيش أسامة = ممكّنًا تمكينًا يجوز معه إقامة حرب الردّة على جميع هذه الأحياء من العرب أو لا؟ فإن كان ممكّنًا – وهو مالا يسعكم إنكاره- وهو في هذه الحالة من ضعف السلطان وقلة التمكين ونجوم النفاق ونفوق الردة، فيجب أن يُعطى من كان مثلُهُ نفسَ الحكم؛ ضرورة إلحاق المثيل بمثيله وعدم التفريق بين المتماثلات ووجود العلة المشتركة القاضية بتسوية الأمرين في الحكم، وهذا مقتضى القياس والنظر الصحيح، وبهذا يبطل اشتراط التمكين التام لإقامة الحدود.

 

- وهل كان عثمان يوم اجتمع عليه الثوار الظالمين الذين خرجوا عليه وحاصروه في داره وضيّقوا عليه الخناق؛ حتى لم يعد يتمكّن من حضور الجمع والجماعات أعظم الواجبات؛ بله ولم يستطع دفع الموت عن نفسه = ممكّنًا تمكيًنًا يجوز معه إقامة الحدود أو لا؟ فإن كان ممكّنًا – وهو مالا يسعكم إنكاره- وهو في هذه الحالة من الضعف وقلة التمكين وعدم الاستقرار، فيجب أن يُعطى من كان مثلُهُ نفسَ الحكم؛ ضرورة إلحاق المثيل بمثيله وعدم التفريق بين المتماثلات ووجود العلة المشتركة القاضية بتسوية الأمرين في الحكم، وهذا مقتضى القياس والنظر الصحيح، وبهذا يبطل اشتراط التمكين التام لإقامة الحدود.

 

- وهل منع عليّا من الاقتصاص من قَتَلة عثمان بعد تولّيه الخلافة إلا عجزه وعدم قدرته عليهم؛ حتى كان هذا سبباً في امتناع معاوية وأهل الشام عن بيعته، وخروج الزبير وطلحة وعائشة رضي الله عنهم إلى العراق طلباً لقتلة عثمان ! وتقلّص نفوذه رضي الله عنه بعد صفّين، وسُلبت منه مصر، وضعف طاعة الناس له وقد كان يأمروهم ويستنفرهم فلا يسمعون له ولا يطيعون. فإن كان مع كل ذلك ممكّنًا – وهو مالا يسعكم إنكاره- وهو في هذه الحالة من الضعف والعجز وقلة التمكين وعدم الاستقرار، فيجب أن يُعطى من كان مثلُهُ نفسَ الحكم؛ ضرورة إلحاق المثيل بمثيله وعدم التفريق بين المتماثلات ووجود العلة المشتركة القاضية بتسوية الأمرين في الحكم، وهذا مقتضى القياس والنظر الصحيح، وبهذا يبطل اشتراط التمكين التام لإقامة الحدود.

 

يقول الشيخ المجاهد أسامة ابن لادن تقبله الله: (ولو أن التمكين المطلق شرط لقيام الإمارة الإسلامية في هذا الزمان = لما قامت للإسلام دولة؛ لأن الجميع يعلم أنه مع التفوق العسكري الهائل للخصوم وأنهم يستطيعون أن يغزو أي دولة ويسقطوا حكومتها، وهذا ما رأينا في أفغانستان وكما أسقطوا حكومة العراق البعثية، فسقوط الدولة لا يعني نهاية المطاف ولا يعني سقوط جماعة المسلمين وإمامهم، وإنما يجب أن يستمر الجهاد ضد الكفار كما هو الحال في أفغانستان والعراق والصومال، ومن تدبر كيف حالُ دولة الإسلام الأولى يوم أحد ويوم الأحزاب إذ بلغت القلوب الحناجر واقتحمت القبائل وحاصرت المدينة المنورة عاصمة الإسلام الأولى، ومن رأى كيف كان حال المسلمين يوم أن ارتدت جزيرة العرب إلا قليلا بعد وفاة رسول الله صل الله عليه وسلم = لعَلِمَ أن التمكين المطلق ليس شرط لانعقاد البيعة للإمام أو لقيام دولة الإسلام، فلا يصح أن يقال لمن بويع على إمارة إسلامية نحن لا نسمع لك ولا نطيع لأن العدو يستطيع إسقاط حكومتك! ومن العجيب إن بعض الذين يثيرون مثل هذه الأمور، يعيشون في دول الخليج ومنها الكويت ولم نسمع منهم مثل هذا الكلام عندما أسقط البعثيون حكومتهم، وإنما كان خطيبهم المفوَّه يقول بصوت عال : "نحن مع الشرعية" يعني مع حكام الكويت آل الصباح المعاندين لشرع الله تعالى والذين لم يكونوا يملكون من أمر الكويت شيئا وإن قل). [السبيل لإحباط المؤامرات]

 

ويقول الدكتور أيمن الظواهري –ثبته الله- : (أقول للذين يشككون في تمكن دولة العراق الإسلامية وسيطرتها على الأرض؛ هل يستطيع أحدٌ أن ينكر أن الدولة المباركة تسيطر على الأقل على كيلومتر مربعٍ واحدٍ من أرض العراق؟

 

فإن كان الجواب بنعمٍ، وهو كذلك بفضل الله، إذن فلماذا تنكرون عليها أن تقيم دولة إسلاميةً على الأرض التي تسيطر عليها؟ وكم كانت مساحة دولة المدينة المنورة قبل غزوة الأحزاب؟ وكيف كان حالها في غزوة الأحزاب؟. [اللقاء المفتوح 2008 – الحلقة الثانية.]

 

ونحن إذ نخالف هؤلاء القوم في نوع التمكين وحدوده؛ فإننا نتفق معهم على ضرورة توفر الإمارة والقوة لإقامة الحدود ونشر الأمن ومنع الظلم.. لكن في حدود التمكين المستطاع، فلايُشترط لإقامة الحدود التمكين التام والاستقرار التام وعدم نقصان الأرض بحال؛ وإلا فلن تُقام الحدود أبدًا، وقد عرضنا أمثلةً من الصدر الأول تحقّق لهم فيها التمكين بالإجماع ولم يسلموا مما ذكرنا؛ الأمر الذي يؤيد ما ذهبنا إليه من الاكتفاء بالتمكين الذي يتوفر فيه لأصحابه القوة والشوكة.

 

قال ابن تيمية -رحمه الله-: (وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة). اهـ [الفتاوى:28/392]

 

وهذا متحقّقٌ بحمد الله وفضله في الدولة الإسلامية في العراق والشام، فهم أصحاب قوة وشوكة، ويحوزون على مناطق شاسعة من أرض العراق والشام، وأرض الرقة وحدها –وهي بتمامها تحت سيطرة ونفوذ الدولة- تكبر مساحة ثلاث دولٍ عربية مجتمعة، وتُحّكم فيها الشريعة، وتُقام الحدود، ويؤمن فيها الناس بعضهم بعضًا، ويدفع عنهم المجاهدون صولة وجرائم النصيرية والرافضة.

 

يقول الشيخ المجاهد أبو محمد العدناني الشامي حفظه الله في كلمته (فذرهم وما يفترون) :

لم نعلن الدولة إلا بعد أن تمكنا في العراق وبدأنا برفع المظالم وإعادة الحقوق وتطبيق شرع الله، فرمتنا الناس عن قوس واحدة, ولا بد من هذا لمن أتى بمثل هذا ! فتعرضنا لضربات مزلزلة قاصمة, فصمدنا بفضل الله وحده, محنة إثر محنة وفتنة بعد فتنة, سبع سنين عجاف شداد مضت على إعلان الدولة وحرباً عليها ضروس مستعرة لم تهدأ يوماً, حرباً على كافة الأصعدة : العسكرية والإقتصادية والفكرية , تزداد ضراوة كلما حققت الدولة تقدماً أو انتصارًا , وهذا هو حال الدولة مع طواغيت العالم وأنصارهم, ففي الإعلام يصورونها دولة وهمية, كما ينظر لها علماء السوء أنصار الطواغيت وفقهاء القعود ودعاة الانبطاح, وفي الحقيقة وعلى الأرض لا ينظرون لها إلا كما تنظر لها أمريكا والغرب, ولا يتعاملون معها إلا كدولة إسلامية ومصدر للخطر والقلق والرعب لليهود والصليبين وأذنابهم من الطواغيت. أ. هــ

 

وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن الأحكام والحدود مخاطب بها مجموع الأمة، ويقيمها السلطان ذو القدرة، فإن عُدِم السلطان وأمكن إقامتها من غير سلطان إذا لم يكن في إقامتها مفسدة أعظم من تركها فهذا هو الواجب، قال رحمه الله:

(خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقــوق خطــابا مطلقــًا، كقوله تعالى: (والسـارق والسارقـة فاقطعــوا أيديهما) المائدة، وقال تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا) النور. وكذلك قوله: (ولاتقبلوا لهم شهادة أبدا)، لكن قد علم أن المخاطب بالفعل لابد أن يكون قادرا عليه، والعاجزون لايجب عليهم، وقد عُلِمَ أن هذا فرض على الكفاية، وهو مثل الجهاد، بل هو نوع من الجهاد. فقوله: (كتب عليكم القتال)، وقوله:(وقاتلوا في سبيل الله) وقوله:(إلا تنفروا يعذبكم) ونحو ذلك هو فرض على الكفاية من القادرين. و«القدرة» هي السلطان، فلهذا: وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونوابه. والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد، والباقون نوابه، فإذا فُرِضَ أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها، وعجز من الباقين، أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة. لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود، ويستوفي الحقوق، ولهذا قال العلماء إن أهل البغي يَنْفُذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام أهل العدل، وكذلك لو شاركوا الإمارة وصاروا أحزابا لوجب على كل حزب فعل ذلك في أهل طاعتهم، فهذا عند تفرق الأمراء وتعددهم، وكذلك لو لم يتفرقوا، لكن طاعتهم للأمير الكبير ليست طاعة تامة، فإن ذلك أيضا إذا أسقط عنه إلزامَهم بذلك لم يسقط عنهم القيامُ بذلك، بل عليهم أن يقيموا ذلك، وكذلك لو فرض عجز بعض الأمراء عن إقامة الحدود والحقوق، أو إضاعته لذلك: لكان ذلك الفرض على القادر عليه.وقول من قال: لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه. إذا كانوا قادرين فاعلين بالعدل كما يقول الفقهاء: الأمر إلى الحاكم. إنما هو العادل القادر، فإذا كان مُضَيِّعاً لأموال اليتامي، أو عاجزا عنها: لم يجب تسليمها إليه مع إمكان حفظها بدونه.

 

وكذلك الأمير إذا كان مضيعا للحدود أو عاجزا عنها لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه. والأصل أن هذه الواجبات تُقام على أحسن الوجوه. فمتى أمكن إقامتها مع أمير لم يحتج إلى اثنين، ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها من «باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» فـإن كان في ذلك من فسـاد ولاة الأمــر أو الرعيــة مايزيد على إضاعتهـا لم يدفــع بأفسـد منه. واللـه أعلم).اهـ [الفتاوى:34/ 175، 176]

 

فالأمر كما ترى متعلقٌ بتحقيق التقدير بين مصلحة إقامة الحد وفساد ما يترتب عليه وليس بالتمكين، بدليل جواز إقامتها من أفراد وأعيان المسلمين إذا أُمنت المفسدة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، ويدل عليه قصة قتل الأعمى لجاريته في عهد النبي ، عن ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولد، تشتم النبي وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجر فلا تنزجر. قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي وتشتمه، فأخذ المعول فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل، فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذُكر ذلك لرسول الله فجمع الناس فقال: "أنشد الله رجلاً فعل ما فعل، لي عليه الحق إلاّ قام" فقام الأعمى يتخطى الناس، وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبيفقال: يا رسول الله أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت بي رفيقة، فلما كانت البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المعول ووضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي : "ألا اشهدوا أن دمها هدر) [صحيح سنن أبي داود 3665]

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( وهذا الحديث نصٌّ في جواز قتلها لأجل شتم النبي ، ودليل على قتل الرجل الذمي، وقتل المسلم والمسلمة إذا سبَّا بطريق الأولى).اهـ [الصارم المسلول: 62]

 

وقال رحمه الله: (وقد كان أصحابه إذا رأوا من يؤذيه أرادوا قتله، لعلمهم بأنه يستحق القتل، فيعفوا عنه صلى الله عليه وسلم، ويبين لهم أن عفوه أصلح مع إقراره لهم على جواز قتله، ولو قتله قاتل قبل عفو النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرض له النبي صلى الله عليه وسلم، لعلمه بأنه قد انتصر لله ولرسوله، بل يحمده على ذلك ويثني عليه، كما قتل عمر رضي الله عنه الرجل الذي لم يرض بحكمه، وكما قتل رجل بنت مروان، وآخر اليهودية السابة، فإذا تعذر عفوه بموته صلى الله عليه وسلم بقى حقاً محضاً لله ولرسوله وللمؤمنين لم يعف عنه مستحقه، فيجب إقامته).اهـ [الصارم المسلول: 2/438]

 

وقال ابن قدامة رحمه الله: (ولو لحق المرتد بدار الحرب لم يزل ملكه، لكن يباح قتله لكل أحد من غير استتابة وأخذ ماله لمن قدر عليه؛ لأنه صار حربيا حكمه حكم أهل الحرب). اهـ [المغني مع الشرح الكبير: 10/ 82]

 

وكان مما شنّع خصوم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عليه شبهة: (أنه أقام الحدود بدون إذن الإمام وقد أقام الحد على زانية جاءت إليه تائبة) فقد ذكر ابن بشر في كتابه: (عنوان المجد) (1/39): (أن امرأة أتت إلى الشيخ واعترفت عنده بالزنا بعدما ثبت عنده أنها محصنة ، وتكرر منها الإقرار ، واستخبر عن عقلها فإذا هي صحيحة العقل ، فقال : لعلك مغصوبة ؟ فأقرت واعترفت بما يوجب الرجم ، فأمر بها فرُجمت) فكان من جوابه - رحمه الله - عن تلك الشبهة :

(لا يُعرف أن أحداً من العلماء ذكر أن شيئاً من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم .. ولكن أعداء الله يجعلون هذه الشبهة حجة في ردّ ما لا يقدرون على جحده، كما أني لما أمرتُ برجم الزانية قالوا لا بد من إذن الإمام، فإن صح كلامهم لم تصح ولايتهم القضاء ولا الإمامة ولا غيرها».اهـ [مجموعة مؤلفات الشيخ 3/67]. فتأمل!!

 

وقد اتفق أهل العلم أنه في حال خلو البلاد من الإمام الشرعي الذي يقيم الحدود والعقوبات الشرعية ويقضي بين الناس، وجب على العلماء ووجهاء البلد وأهل الحل والعقد انتداب من يقوم بذلك؛ الأمر الذي يدل على امتناع ترك الناس من غير إقامة الحدود وفض النزاع فيما بينهم عند الفقهاء.

 

قال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله- (إذَا عدِمَ السُّلْطَانُ لَزِمَ أَهْل الشَّوْكَةِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ أَنْ يُنَصِّبُوا قَاضِيًا، فَتَنْفُذَ حِينَئِذٍ أَحْكَامُهُ لِلضَّرُورَةِ الْمُلْجِئَةِ لِذَلِكَ).اهـ [تحفة المحتاج: 7/259]

 

وقال أبو المعالي الجويني -رحمه الله- في "غياث الأمم": "لَوْ خَلَا الزَّمَانُ عَنِ السُّلْطَانِ، فَحَقٌّ عَلَى قُطَّانِ كُلِّ بَلْدَةٍ، وَسُكَّانِ كُلِّ قَرْيَةٍ، أَنْ يُقَدِّمُوا مِنْ ذَوِي الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى وَذَوِي الْعُقُولِ وَالْحِجَا مَنْ يَلْتَزِمُونَ امْتِثَالَ إِشَارَاتِهِ وَأَوَامِرِهِ، وَيَنْتَهُونَ عَنْ مَنَاهِيهِ وَمَزَاجِرِهِ; فَإِنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، تَرَدَّدُوا عِنْدَ إِلْمَامِ الْمُهِمَّاتِ، وَتَبَلَّدُوا عِنْدَ إِظْلَالِ الْوَاقِعَاتِ). اهـ [غياث الأمم: 104]

 

وقال ابن قدامة -رحمه الله-: (وَالْقَضَاءُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ النَّاسِ لَا يَسْتَقِيمُ بِدُونِهِ، فَكَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ حَاكِمٍ، أَتَذْهَبُ حُقُوقُ النَّاسِ؟!!). اهـ [المغني:11/374]

 

وهذا في حال عدم وجود الإمام وخلو العصر منه، فكيف والإمام ذو الشوكة والمنعة موجودٌ متوفرٌ وله صولاتٌ وجولات، وبايعه أعيان ووجهاء وشيوخ عشائر البلد !

 

فالفقهاء رحمهم الله يوجبون على المسلمين نصب الإمام حال خلو الزمان منه كما في عصرنا؛ فيوجد الإمام ذو القوة والشوكة، ويبايعه أهل الحل والعقد ويحوز على أغلب البيعات، ثم تجد من يشكّك ويكابر ويثير الشغب والشبهات على بيعته وإمامته !

 

2. أن البلاد تعيش في حال حرب واضطراب، وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى أن الحدود لا تقام في حال الغزو والحرب في بلاد الكفار، ومع أن سوريا دار إسلام إلا أنَّ المعنى الذي لأجله منع العلماء من إقامتها في الغزو موجود في هذه الحالة.

 

وتفنيد هذا الاعتراض يكون من وجوه:

 

أولاً: منع القول بأن المناطق المحررة في الشام دار حرب:

دار الحرب كما عرّفها أهل العلم هي: الدار التي غلب عليها الكفار وأجروا فيها أحكامهم، كما أن الدار التي يغلب عليها المسلمون ويجرون فيها أحكام الإسلام تصير دار إسلام بذلك، فالعبرة عندهم في الحكم على الدار تكون بالغلبة وما يجري فيها من الأحكام.

 

قال الإمام ابن القيم-رحمه الله- : (قال الجمهور: دار الإسلام هي التي نزلها المسلمون وجرت فيها أحكام الإسلام، وما لم تجر عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام وإن لاصقها، فهذه الطائف قريبة من مكة جدا لم تصر دار إسلام بفتح مكة وكذلك الساحل).اهـ [أحكام أهل الذمة : 2/728].

 

وقال القاضي أبو يعلى الحنبلي –رحمه الله- : (وكل دار كانت الغلبة فيها لأحكام الإسلام دون أحكام الكفر فهي دار إسلام، وكل دار كانت الغلبة فيها لأحكام الكفر دون أحكام الإسلام فهي دار كفر).اهـ[المعتمد في أصول الدين276]

 

وقال العلامة الشوكاني -رحمه الله- : (الاعتبار بظهور الكلمة فإن كانت الأوامر والنواهي في الدار لأهل الإسلام بحيث لا يستطيع من فيها من الكفار أن يتظاهر بكفره إلا لكونه مأذوناً له بذلك من أهل الإسلام فهذه دار إسلام، ولا يضر ظهور الخصال الكفرية فيها لأنها لم تظهر بقوة الكفار ولا بصولتهم كما هو مشاهد في أهل الذمة من اليهود والنصارى والمعاهدين الساكنين في المدائن الإسلامية، وإذا كان الأمر بالعكس فالدار بالعكس).اهـ [السيل الجرار : 4/757]

 

وبهذا يظهر أن الدار يحكم عليها باعتبار الأحكام التي تعلوها والتي لأهلها القوة والغلبة، فإن كانت أحكام الإسلام هي الجارية حكم على الدار بأنها دار إسلام ، ولو لم يكن أكثر أهلها مسلمين، وإن كانت القوة والغلبة لأحكام الكفر حكم على الدار بأنها دار كفر وإن كان أكثر سكانها مسلمين.

 

والفقهاء حينما يذكرون هذه المسألة إنما يعنون تلك الدار التي غزاها المسلمون ولم يفتحها الله لهم, ولم يتمكنوا من حكمها والسيطرة عليها, أما إن أظفرهم الله بها وكانت الغلبة لهم، فهي عندئذ دار إسلام تُحكم فيها الشريعة لا دار حرب.

 

وعلى هذا: فإن كلام الفقهاء وخلافهم في حكم إقامة الحدود في دار الحرب, لا يشمل المناطق المحررة بحال, إذ أن القوة فيها والغلبة للدولة الإسلامية، فبطلت الدعوى.

 

ثانيًا: منع قياس المناطق المحررة على دار الحرب.

لمّا كان الوجه الأول من أوجه الاعتراض ضعيفًا عند المخالفين = لجئوا إلى قياسٍ آخر أكثر وجاهة من الأول، فقالوا: ومع أن سوريا دار إسلام لا دار حرب إلا أنَّ المعنى الذي لأجله منع العلماء من إقامتها في الغزو موجود في هذه الحالة.

 

والمعنى الذي لأجله منع العلماء من إقامة الحدود في الغزو هو خوف ارتداده ولحوقه بالكفار، وهذا المعنى منتف في المناطق المحررة التي تقع تحت سيطرة الدولة الإسلامية، وخاصة ولاية الرقة عاصمة الدولة الإسلامية، بل إن الناس في سائر الولايات الأخرى يلجئون إليها ويفدون عليها؛ لما يجدون فيها من نشر الأمن، وبسط العدل، وتوفير الاستقرار، وتقديم الخدمات، وحفظ الدين وما يتبعه من نشر الدعوة وإقامة المخيمات الدعوية وإنشاء المعاهد الشرعية وحلق تحفيظ القرآن، وصيانة الأرواح والحرمات، وحفظ الحقوق، وفض النزاع، وكف الرُّعَاع، ومنع الظلم، وحماية الثغور، وتنفيذ الأحكام، وإقامة الحدود، وإجراء الصلح، .. وغير ذلك من المصالح التي توفرها لهم الدولة الإسلامية في العراق والشام وفقها الله، فالناس إليها أسراب يدخلون في حماها أفواجًا، وهذا أمرٌ مشاهدٌ معروف، يعرفه كل أهل الشام.

 

على أنَّ هذا التعليل الذي منع لأجله بعض الفقهاء إقامة الحدود في الغزو تعليلٌ ضعيف، فوق أنه مخالف لعموم الأدلة الموجبة لإقامة الحدود على مستحقيها من غير تفريق بين دار الإسلام ودار الحرب، فإنه بابٌ لا يمكن سدُّه، فالقول بأن الحدود لا تطبق إلا عندما يُؤمن عدم التحاق أي أحد بالكفار قولٌ أثبتت الوقائع التاريخية خلافه ولم توقف الحدود لأجل ذلك، وقد حصل شيء من ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فقد ارتد بعضهم كابن خطل وابن أبي السرح ولحق بكفار قريش، وحصل مع عمر لما أراد أن يقتص للأعرابي من جبلة بن الأيهم لما لطمه فلحق جبلة بالروم وتنصر، ومع ذلك لم يوقف تطبيق الحدود ولم يخطر بباله هذا التعليل الغريب مع أن جبلة كان ملكًا وكان يُطمع في إسلامه.

 

عالعموم يجب أن لا تأخذ هذه الشبهة أكثر من حجمها، فهي ضعيفة أولًا من جهة أنها مسألةٌ خلافية بين الفقهاء وليست وفاقية، وضعيفة ثانيًا من جهة قوة دليل من رفض القول بها من الفقهاء، وضعيفة ثالثًا من جهة ضعف علة من قال بها، وضعيفة رابعًا من جهة انتفاء المعنى الذي لأجله منع من قال به في المناطق المحررة، والقياس مع الفارق قياسٌ فاسد لا اعتبار له كما هو معلوم.

 

ثالثًا: ما يلزم من القول بأن المناطق المحررة دار الحرب.

يلزم أصحاب هذا القول أن يطردوا أصلهم، فيلحقوا هذا الحكم – منع إقامة الحدود في دار الحرب-, بسائر الأحكام التي ذكرها الفقهاء في أثناء كلامهم عن شبيه هذا الحكم المختلف فيه، وإلا تناقضوا واضطربوا؛ كمثل مسألة: (السفر بالنساء إلى دار الحرب) [انظر على سبيل المثال: مشارع الأشواق 2/1068], و(السفر بالمصحف إلى دار الحرب) [انظر على سبيل المثال: الإنجاد في أبواب الجهاد 1/161], و(الرجل يتزوج في دار الحرب) و(العزل عن الزوجة في دار الحرب) [انظر على سبيل المثال: مشارع الأشواق 2/1065].. الخ

 

معلومٌ أن أصحاب هذا الاعتراض لايقولون بذلك؛ فظهر تناقضهم واضطرابهم، وبهذا الإلزام يتبين ضعف هذا المسلك وهزاله وهشاشته، وتناقض القول دليل ضعفه وفساده. والله أعلم

 

3. أن الشريعة تتشوَّفُ لدرء الحدود عن الناس قدر المستطاع، والأوضاع التي تمر بها البلاد من ضيق وضنك وشظف العيش وارتفاع الأسعار وقلة المواد وفشو البطالة وتعطيل المصالح مظنة لدرء بعض الحدود أو تأخيره، وقد منع عمر إقامة حد السرقة عام الرمادة لأجل المجاعة.

 

إن هذا الاعتراض إن كان عذرًا فهو لا ينسحب إلا على حدٍّ واحد هو حد السرقة، أما بقية الحدود فلا علاقة لها بالأوضاع التي تمر بها البلاد من ضيق وضنك وشظف العيش، فالعجز المادي ليس مبررًا لشرب الخمر ولا لارتكاب الزنى أو القذف أو الردة أو قتل النفس التي حرم الله .

 

والسارق لا يسقط عنه حد السرقة إلا إذا ثبت بالأدلة الظاهرة أنه قد اضطر إلى السرقة لدفع الجوع، فتلك شبهة تدرأ عنه الحد من جهة أن المسلمين يجب عليهم إطعامه، والفقهاء يذكرون أن من خاف على نفسه الهلاك حلَّ له دفع مسغبة الجوع بما وصلت إليه يده من أموال المسلمين، وإن منعوه حلت له مقاتلتهم .

 

وهذه الصورة حالة استثنائية قلَّ ما تتكرر إلا عند حدوث مجاعة عامة كما حدث عام الرمادة في زمن عمر .

 

أما اعتبار الضعف المادي وانتشار الفقر سببًا لإسقاط حد السرقة فلم يقل به أحد من المسلمين على مر الزمان، بل إن الفقر كان منتشرا زمن النبي عليه الصلاة والسلام ولم يُعلم أن النبي صلى الله عليه أوقف حد السرقة، ومن الأدلة على ذلك:

 

1- عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة :

(ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقلت: يا خالة ما كان يعيشكم، قالت: الأسودان التمر والماء إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كانت لهم منائح وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم فيسقينا) [متفق عليه]

 

2- وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء، إما بردة وإما كساء، قد ربطوها فى أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساق، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن تبدو عورته.) [رواه البخاري]

 

3- عن أبي هريرة قال:

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا الجوع يا رسول الله. قال وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما قوموا فقاموا معه فأتى رجلا من الأنصار ...الحديث . [رواه مسلم]

 

4- عن يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري أنه سمع أنس بن مالك يقول: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فوجدته جالسا مع أصحابه يحدثهم وقد عصب بطنه بعصابة، قال أسامة: وأنا أشك على حجر فقلت لبعض أصحابه: لم عصب رسول الله صلى الله عليه وسلم بطنه، فقالوا: من الجوع ...الحديث . [رواه مسلم]

 

5- عن أبي هريرة قال : (إن الناس كانوا يقولون أكثر أبو هريرة وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطني حين لا آكل الخمير ولا ألبس الحرير ولا يخدمني فلانٌ ولا فلانة، وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإني كنت أستقرئ الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني، وكان خير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب كان ينقلب معنا فيطعمنا ما كان في بيته حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيءٌ فيشقها فنلعق ما فيها) [رواه البخاري]

 

6- عن محمد بن سيرين قال: (كنا عند أبي هريرة وعليه ثوبان ممشقان من كتان فتمخط فقال بخ بخ أبو هريرة يتمخط في الكتان لقد رأتني وإني لأخر فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرة عائشة مغشياً علي فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون وما بي من جنون ما بي إلا الجوع) [رواه البخاري] .

 

7- عن عائشة أنها قالت: (جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهما تمرة ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما فأعجبني شأنها فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار) [رواه مسلم].

 

وهذه الروايات وغيرها كلها حوادث تدل على شدة الفاقة والفقر التي كانت عامة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يُعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط حد السرقة عن أحد.

 

ومعلوم أن حال أهل الشام وخاصة في المناطق المحررة التي تتوفر فيها نوع جيد من الخدمات المالية والرعاية وتوفير القوت للناس مهما بلغ من فقرٍ وشدةٍ = فهو لا يقارن بالفاقة والشدة التي كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكيف يكون حد السرقة واجبًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وساقطًا في زمننا ؟!

 

"أما عام الرمادة فقد كان عامًا شديدًا لا مثيل له وإنما سمي عام الرمادة لما فيه من الشدة،.

 

قال الأصمعي يقال أَرْمدَ الناس إذا جُهِدُوا

والرمدُ الهلاك ومنه حديث : (سألت ربي أن لا يسلط على أمتي سنة فترمدهم فأعطانيها ) قوله ترمدهم معناه تهلكهم

ومنه قول الشاعر :

صَبَبْتُ عليكم حاصبي فتركتُكم               كأصْرام عادٍ حين جَلَّلها الرَّمْدُ

 

وعام الرمادة كان عامًا شديدًا لا مثيل له في الجدب هلك فيه خلق كثير بسبب الجوع وضاقت الحال بالناس؛ مما اضطر عمر رضي الله عنه إلى أن يتخذ تدابير خاصة مثل تأخير الصدقة وإجبار الأغنياء على كفالة الفقراء وإسقاط حد السرقة .

 

والحال التي نحن فيها اليوم لم تصل قطعًا إلى هذه الدرجة من الضرورة فلا ينبغي استباحة ترك الحدود بلا موجب .

 

ثم إن العذر المبيح لإسقاط حد السرقة ينبغي النظر فيه إلى حالتين : حالة عامة وحالة خاصة ..

 

أما الحالة العامة فهي الحاجة الشديدة التي تعم الناس كلهم وينبغي أن تكون في الضرورة مثل حالة عام الرمادة؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسقط حد السرقة مع ما في زمنه من الفقر والحاجة .

 

وأما الحالة الخاصة فينبغي أن يكون ظاهرا من حال السارق أنه لجأ إلى السرقة بسبب الجوع والضرورة القاهرة، وهذا هو ما جعل عمر رضي الله عنه يسقط حد السرقة عن غلمان حطب ابن أبي بلتعة لما علم أنه يجيعهم .

 

فليس مطلق الفقر مبررا لإسقاط حد السرقة يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده) فمن يسرق البيضة هو قطعًا فقير محتاج ."اهـ [باختصار وتصرف من الردود لأبي المنذر]

 

4. حال الجهل عند عامة الناس لتغييبهم عن الدين عقودًا طويلة، فإن إقامة الحدود -والحال كذلك- مظنةٌ لنفور الناس عن الدِّين وتمكينٌ للطاعنين من تشكيك الناس في دينهم .وقد ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- إقامة بعض الحدود على بعض المنافقين مراعاة لمصلحة الدعوة .

 

لا يُعذر في العقوبات الشرعية على هو معلوم من الدين بالضرورة إلا من جهل حرمة الفعل وظنَّ الإباحة، وهذا لا يُتصور إلا من كان في باديةٍ بعيدة أو حديث عهد بالإسلام.

 

وحدُّ الجهل المعتبر شرعًا هو عدم التمكّن من العلم، بأن يكون عاجزًا عجزًا قدريًا يمنعه من بلوغ الحجة الرسالية كالمجنون والمعتوه ونحوهما، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

(حجة الله برسله قامت بالتمكّن من العلم فليس من شرط حجة الله تعالى علم المدعوين بها؛ولهذا لم يكن إعراض الكفار عن استماع القرآن وتدبره مانعًا من قيام حجة الله تعالى عليهم، وكذلك إعراضهم عن استماع المنقول عن الأنبياء وقراءة الآثار المأثورة عنهم لا يمنع الحجة إذ المكنة حاصلة).اهـ [الرد على المنطقيين: 99]

 

والجهل يُنظر إليه من جهتين:

- من جهة بلوغ الرسالة وعدمه.

- ومن جهة ظهور المسائل وخفائها .

وكلاهما غير موجودٍ فيما نحن فيه.

 

وقد سبق إعلان إقامة الحدود حملات توعية واسعة، وعُقدت مجالس علمية ومخيمات دعوية؛ ناهيك عن خطب الجميعة ونشر المطويات والكتيبات التي فيها الترغيب بتحكيم الشريعة وفضلها ووجوبها ومنزلتها من الدين، وغير ذلك مما تقوم به الحجة وتبرأ به الذمة ويُرفع الجهل.

 

والناس -ولله الحمد- فرحون مقبلون راضون غير جازعين ولاحرجين ولامتذمّرين، وهذا من فضل الله وبركة تحكيم الشريعة وصدق مشروع الدولة الإسلامية.

 

أما امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من إقامة الحد على المنافقين؛ فلأن الحقّ في الاستيفاء والترك كان موكولاً له صلى الله عليه وسلم؛ لأن أذية المنافقين كانت في شخصه وعرضه، وكان يختار العفو والصبر على أذاهم لمصالح أخروية ودنيوية، وكان هذا خاصا بحياته.

 

وكانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه عدم الانتقام لنفسه، قال الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله-: (وتلك شيمته صلى الله عليه وسلم ألا ينتقم لنفسه, وأن يعرض عن الجاهلين). اهـ [موسوعة شروح الموطأ:21/63].

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:

(فهذا الباب كله مما يوجب القتل، ويكون به الرجل كافرًا منافقًا حلال الدم،كان النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء عليهم السلام يعفون ويصفحون عمن قاله، امتثالًا لقوله تعالى:﴿خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين﴾ ولقوله تعالى:﴿ادفع بالتي هي أحسن السيئة﴾ وقوله:﴿ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم .وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم﴾ ولقوله:﴿ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر﴾ ولقوله تعالى:﴿ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم﴾.

 

وذلك؛ لأن درجة الحلم والصبر على الأذى والعفو عن الظلم أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة، يبلغ الرجل بها ما لا يبلغه بالصيام والقيام، قال تعالى:﴿والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين﴾وقال تعالى:﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله﴾ وقال تعالى:﴿إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان به عفوا قديرا﴾ وقال:﴿وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين﴾.

 

والأحاديث في هذا الباب كثيرة مشهورة.

 

ثم الأنبياء أحق الناس بهذه الدرجة لفضلهم، وأحوج الناس إليها لما ابتلوا به من دعوة الناس ومعالجتهم وتغيير ما كانوا عليه من العادات، وهو أمر لم يأت به أحد إلا عودي). اهـ [الصارم المسلول على شاتم الرسول: 2/434-436]

 

ويقول ابن القيم -رحمه الله-:

(ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قضى بإهدار دم أم ولد الأعمى لما قتلها مولاها على السبّ.

 

وقتل جماعة من اليهود على سبّه وأذاه، وأمّن الناس يوم الفتح إلا نفراً ممن كان يؤذيه ويهجوه، وهم أربعة رجال وامرأتان.

 

وقال: من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله، وأهدر دمه ودم أبي رافع.

 

وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأبي برزة الأسلمي وقد أراد قتل من سبّه: ليس هذا لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 

فهذا قضاؤه صلى الله عليه وسلم وقضاء خلفائه من بعده ، ولا مخالف لهم من الصحابة ، وقد أعاذهم الله من مخالفة هذا الحكم.

 

وقد روى أبو داود في سننه عن علي رضي الله عنه أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها .. وفي ذلك بضعة عشر حديثا ما بين صحاح وحسان ومشاهير وهو إجماع الصحابة ..)

 

إلى أن قال رحمه الله تعالى: (وأما تركه صلى الله عليه وسلم قتلَ من قدح في عدله، وفي حكمه، وفي قصده، أو في خلوته، وغير ذلك ، فلذلك أن الحق له، فله أن يستوفيه، وله أن يتركه، وليس لأمته ترك استيفاء حقه صلى الله عليه وسلم, وأيضا فإن هذا كان في أول الأمر حيث كان صلى الله عليه وسلم مأمورًا بالعفو والصفح .

 

وأيضا فإنه كان يعفو عن حقّه لمصلحة التأليف وجمع الكلمة, ولئلا ينفر الناس عنه، ولئلا يتحدثوا أنه يقتل أصحابه، وكل هذا يختص بحياته صلى الله عليه وسلم). اهـ [زاد المعاد في هدي خير العباد: 5/54-56].

 

  1. 5- أن إقامة الحدود وإن كان الأصل فيها التعجيل، لكن قد يطرأ ما يجيز تأجيل إقامتها إذا ترتب على تطبيقها مفسدة تربو على المصلحة المتحققة بذلك، ولا يُعدُّ ذلك من رفض التحاكم للشرع، بل هو من المصلحة المعتبرة شرعًا.

 

لاشك إن من مقاصد الإسلام التي دلت عليها نصوص الشريعة هي تحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل، وهذا ما أكده المحققون من علماء الأمة، قال العز بن عبد السلام –رحمه الله-: (إن الشريعة كلها مصالح، إما درء مفاسد أو جلب مصالح).اهـ [القواعد:1/9]

 

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: (إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها). [منهاج السنة النبوية: 1/147].

 

وقال ابن القيم -رحمه الله-: (الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلها، ورحمةٌ ومصالح كلها وحكمة). [إعلام الموقعين: 3/1].

 

إذا عرفت هذا، فاعلم أن العمل على تقدير الموازنة بين المصالح والمفاسد جهدٌ بشريٌّ يعتمد على الاجتهاد والنظر والقياس وإعمال الذهن، وذلك محكومٌ بالقواعد الشرعية والضوابط المرعيّة التي تضمن سلامة هذا الاجتهاد من الأخطاء والأهواء، وهو عملٌ دقيقٌ، تكتنفه عدة مخاطر؛ ولذا فهو يحتاج لفقيهٍ متمكّن من علوم الشرع، مستبصر بواقع الحال، مدرك لمآلات الأفعال وآثارها.

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: (معيار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة؛ فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلَّ أن تحوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها).اهـ [مجموع الفتاوى: 20/48]

 

وإطلاقُ القولِ بأنَّ في تطبيق العقوبات الشرعية في المناطق المحررة مفسدةٌ تربو المصلحة = جهلٌ من قائلهِ بقواعد المصلحة والمفسدة، وبواقع حال المناطق المحررة التي تُقام فيها الحدود.

 

ونسبةُ هذا القول إلى فقه المصالح والمفاسد من غير دراسةٍ دقيقةٍ وسبرٍ لأحوال وظروف وملابسات واقع المناطق المحررة التي تُقام فيها الحدود = جنايةٌ عظيمة وقصورٌ قبيح بحقِّ هذا الفقه العظيم.

 

ومن أعطى هذا الفقه حقّه، فلا يشكُّ بحصول المصالح العظيمة المترتبة على تطبيق العقوبات الشرعية في تلك المناطق: من نشر الأمن، وبسط العدل، ومنع الظلم، والأخذ على أيدي المفسدين والمحاربين.. إلى غير ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية التي جاءت بها الشريعة.

 

ومقارنة بسيطة بين المناطق التي تسيطر عليها الدولة الإسلامية وتُقام فيها الحدود بالقياس إلى المناطق الأخرى التي تقع تحت سيطرة الهيئات الشرعية التي تعتمد فقه منع الحدود = تجد البون شاسعًا، والفرق عظيمًا؛ حيث تكثر في هذه الأخيرة كتائب اللصوص وعصابات التشويل وقطاع الطرق، وينتشر فيها الفساد والفوضى، ولا يأمن فيها الناس على أرواحهم وأعراضهم؛ ناهيك عن الحالة الدينية المزرية التي وصلت إليها تلك المناطق؛ حتى إنك لتجد الواحد منهم يجهر بسبِّ الله ورسله ودينه من غير خوفٍ أو وجل، ولاحول ولاقوة إلا بالله.

 

ومعلومٌ أن تقدير المصالح والمفاسد المستكمل لأركانه والمنضبط بالعلم الشرعي وبواقع الحال ومآلاته جهدٌ بشري، وتقديرٌ قائمٌ على الاجتهاد الشخصي، وما كان كذلك فلا يسوغ فيه الإنكار؛ لأنه من الخلاف السائغ الذي تتسع له وجهات النظر، والمجتهد المصيب له أجران والمخطئ له أجرُ خطأه.

 

قال النووي –رحمه الله-: (وكذلك قالوا: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يَعترض على مَن خالفه اذا لم يخالف نصّاً أو إجماعاً أو قياساً جليّاً ).اهـ [شرح صحيح مسلم: 2 / 24].

 

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: (ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمَّة وإن كان ذلك في المسائل العلمية، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمَّة).اهـ [مجموع الفتاوى: 20 / 165] .

 

فإذا تحقق أن المسألة التي نحن فيها من مسائل الخلاف السائغ، فينبغي أن يُعلم أن ليس لأحد أن يُنكر أو يعيب على مخالفه؛ فضلاً أن يحكم عليه بالجهل أو الضلال أو البدعة.

 

قال ابن رجب الحنبلي –رحمه الله-: (قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي : سألت أحمد – أي : ابن حنبل - : هل ترى بأساً أن يصلي الرجل تطوعاً بعد العصر والشمس بيضاء مرتفعة؟ قال: لا نفعله، ولا نعيب فاعله .

 

قال: وبه قال أبو حنيفة .

 

وهذا لا يدل على أن أحمد رأى جوازه، بل رأى أن من فعله متأولاً، أو مقلداً لمن تأوله، لا يُنكر عليه، ولا يُعاب قوله؛ لأن ذلك من موارد الاجتهاد السائغ).اهـ [فتح الباري : 4 / 127] .

 

ومسائل الخلاف السائغ لا يجوز معها التناحر والافتراق والهجر .

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: (مسائل الاجتهاد مَن عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه).اهـ [مجموع الفتاوى: 20 / 207] .

 

وقال ابن القيم : (وهذا النوع من الاختلاف لا يوجب معاداةً ولا افتراقاً في الكلمة ولا تبديداً للشمل ؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائل كثيرة من مسائل الفروع كالجد مع الإخوة وعتق أم الولد بموت سيدها) اهـ [الصواعق المرسلة: 2 / 517] .

 

وأنت خبيرٌ أخي القارئ أن الصورة التي نحن فيها هي: صورة الإمام المسلم أو المسئول الذي يحكم بين الناس بشرع الله وبما أنزل الله ولا يستمد أحكامه إلا من كتاب الله، لكن يؤخر تطبيق بعض العقوبات الشرعية -الحدود على وجه الخصوص- لما يغلب على ظنه أن ذلك سيجلب مفسدة تربو وتزيد على المصلحة التي شرعت هذه الأحكام لتحصيلها.

 

هذه هي صورة المسألة، حتى لا تُقحم فيها صورة التدرج الأخوانية مطية تعطيل الشريعة، فهذا من الكفر المقطوع به عندنا، وليس من المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف. فلينتبه

 

6. أن حقوق الله مبناها على المسامحة، بخلاف حقوق العباد القائمة على المشاحة ، ولذلك كانت أولى بالاستيفاء.

 

وهذا اعتراضٌ ضعيفٌ جدًا؛ لأن قاعدة: حقوق الله مبناها على المسامحة ضعيفةٌ في نفسها من جهة، وخارجة عن محل النزاع من جهة أخرى.

 

فمحلُّها في المسائل المتعارضة بين حقوق الله وحقوق العبد إذا ازدحَم الحقَّان في محلٍّ واحد وتعذَّر استيفاؤهما، وهو محل خلاف بين الفقهاء.

 

قال الفقيه الشافعي الشيرازي –رحمه الله-: (فإن اجتمع مع الزكاة دين آدمي ولم يتسع المال للجميع ففيه ثلاثة أقوال: أحدها يقدم دين الآدمي لأن مبناه على التشديد والتأكيد وحق الله تعالى مبني على التخفيف؛ ولهذا لو وجب عليه قتل قصاص وقتل ردة قدم قتل القصاص .

 

والثاني: تقدم الزكاة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحج: فدين الله عز وجل أحق أن يقضى .

 

والثالث: أنه يقسم بينهما لانهما تساويا في الوجوب فتساويا في القضاء وبالله التوفيق) اهـ.[المهذب: 1/362]

 

وقال ابن دقيق العيد في الأحكام: (في قوله عليه السلام: (فدين الله أحق بالقضاء) دلالة على المسائل التي اختلف الفقهاء فيها عند تزاحم حق الله تعالى وحق العباد، كما إذا مات وعليه دين آدمي ودين الزكاة وضاقت التركة عن الوفاء بكل واحد منهما، وقد يستدل من يقول بتقديم دين الزكاة بقوله عليه السلام:(فدين الله أحق بالقضاء) اهـ.[إحكام الأحكام 410].

 

وعليه فلا علاقة لهذه القاعدة بما نحن فيه من وجوب إقامة الحدود وتطبيق العقوبات الشرعية على مستحقيها شرعًا. والله أعلم.

هذا ما تيسر لي جمعه ومناقشته. والحمد لله ربِّ العالمين.

 

أبو معاذ الشرعي: 14/5/1435